البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في نسبة الأسماء إلى المسميات
الاسم والمسمى إما أن يتحدا أو يتكثرا، أو يتكثر الاسم ويتحد المسمى أو عكسه. أربعة أقسام:
الأول : أن يتحدا فإن كان نفس تصور ذلك العين يمنع من وقوع الشركة فيه فهو الجزئي، وإن لم يمنع وكان الاشتراك واقعا فيه بالفعل وعلى السوية، فمتواطئ وإلا فمشكك.
فالمتواطئة: هي الألفاظ الدالة على الأعيان المتغايرة بالعدد المتفقة في المعنى الذي وضع اللفظ له، كدلالة لفظ الإنسان على زيد وعمرو وبكر، ودلالة لفظ الحيوان على الإنسان والفرس والحمار، ومنه دلالة اللمس على القبلة، وعلى الجماع وعلى غيرها من أنواعه، ودلالة اللون على السواد والبياض وعلى غيرها من أنواعه.
الثاني : أن يتكثرا فهي الألفاظ المتباينة كالإنسان والفرس وغير ذلك من الألفاظ المختلفة الموضوع لمعان متعددة، وذلك إما أن تتباين بذاتها أي يمتنع اجتماعها كالسواد والبياض والإنسان والحجر أو تتباين بصفاتها مع إمكان اجتماعها بأن يكون بعضها اسما للذات، وبعضها اسما لها، إذا اتصفت بصفة خاصة كالسيف والصارم ويسمى المزايلة، وقد يكون بعضها اسما للصفة وبعضها اسما لصفة الصفة كالناطق بالفعل والفصيح.
وسميت متباينة من البين الذي هو التباعد، لأن مسمى هذا غير مسمى ذاك، أو من البين الذي هو الفراق، لمفارقة كل واحد من الآخر لفظا ومعنى.
الثالث : أن يتعدد اللفظ ويتحد المعنى، فهي المترادفة كالإنسان والبشر.
قال ابن خروف النحوي: وإنما يكون في الأجناس لا الأعلام. انتهى.
واشتقاقه من ردف الدابة، يشبه اجتماع الراكبين على معنى واحد باجتماع الراكبين على دابة واحدة، ثم إن اتحد مسماها ظهر الترادف، وإن اختلف بوجه من الوجوه فلا ترادف، وقد يخفى وجه الاختلاف فيقع الغلط، ومما اعتبره بعضهم في هذا النظر في الاشتقاق اللفظي، ويجعل التباين واقعا فيه، ومن ثم أنكره بعضهم كما سيأتي.

(1/436)


الرابع : عكسه، فإما أن يكون قد وضع للكل أي: لكل واحد من تلك المعاني أو لا.
والأول : المشترك كالعين لمدلولاتها المتعددة.
والثاني : أن لا يوضع لكل واحد بل لمعنى، ثم ينتقل إلى غيره، فإما أن ينتقل لعلاقة أو لا، فإن لم ينتقل لعلاقة فهو المرتجل، قاله الإمام، وهو مخالف لاصطلاح النحاة، فإن المرتجل عندهم هو الذي لم يسبق بوضع، كغطفان مأخوذ من قولهم: شعر مرتجل أي لم يسبق بفكر مأخوذ من الرجل، لأنه إذا لم يسبق بفكر متأمله كالواقف على رجل، فإنه لا يتمكن من النظر، وإن نقل لعلاقة فإما أن تقوى في الثاني أو لا.
والأول : المنقول، ثم إن كان الناقل الشرع كالصلاة سمي بالألفاظ الشرعية، أو العرف العام فالعرفية، أو الخاص كاصطلاح النحاة على المبتدأ والخبر سمي بالاصطلاحية، وإنما أطلق على هذا نقلا، لأن الألفاظ لا تبقى زمنين، وما لا يقبل البقاء لا يقبل التحويل، ولكن لما وضع لشيء ثم استعمل في غيره حتى غلب عليه، فكأنه قد حول من موضع إلى موضع.
والثاني : وهو أن لا يكون دلالة اللفظ على المنقول إليه أقوى من دلالته على المنقول عنه، فإن الأول يسمى بالنسبة إلى استعماله في الأول حقيقة، والثاني مجازا.
وقال بعضهم: المجاز ثلاثه أقسام، لأن استعمال اللفظ في غير موضوعه إن لم يكن لمناسبة بينه وبين ما وضع له فهو المرتجل، وإن كان فإن لم يحسن فيه أداة التشبيه فهو الاستعارة، وإن حسن ذلك فهو مجاز التشبيه، وفائدة المرتجل التوسع في الكلام.
واعلم أن الأقسام الأول المتحدة المعنى نصوص، لأن لكل لفظ منها فردا معينا لا يحتمل غيره، وقولنا: المتحدة المعنى يخرج العين والقرء، فإنها متباينة مع أنها ليست بنصوص لأجل الاشتراك، وأما القسم الرابع فإما أن تكون دلالته على كل واحد من المعاني على السواء أي: متساويان في الفهم، فليس اللفظ بالنسبة إليهما معا مشتركا وبالنسبة إلى كل واحد بعينه مجملا، وإلا فإن كانت دلالته على بعضها أرجح فالطرف الراجح ظاهر لما فيه من الظهور بالنسبة إلى أحد معنييه، وقد سماه الشافعي أيضا نصا لملاحظة المعنى اللغوي، والمرجوح مؤول، لأنه يئول إلى الظهور عند مساعدة الدليل، فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ظاهر في نفي الإجزاء راجح، وهو مرجوح في نفي الكمال والقدر المشترك بين النص والظاهر من الرجحان يسمى المحكم لإحكام عبارته

(1/437)


وإثباته، فالمحكم جنس لنوعي النص والظاهر، ومقابلهما المجمل والمؤول، والقدر المشترك بينهما من عدم الرجحان يسمى المتشابه، فهو جنس لنوعي المجمل والمؤول.
وأصل هذا الاصطلاح مأخوذ من قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران: 7].

(1/438)


[تقسيم اللفظ المركب]
وهو إما تام أو غير تام، فأما التام فهو الذي يحسن السكوت عليه، ويسمى كلاما. قال الزمخشري: وجملة، والصواب: أن الجملة أعم من الكلام، لأن شرط الكلام الإفادة بخلاف الجملة، ولهذا يقولون: جملة الشرط جملة الجواب، وهو ليس بمفيد، فليس كلاما.
وقال: ابن دقيق العيد: شرط قوم من النحاة أن يكون مفيدا للسامع فائدة غير معلومة له.
والصواب: حصول حقيقة الكلام بمجرد الإسناد الذي يصح السكوت عليه، وإلا لزم أن تكون القضايا البديهية كلها ليست كلاما، وهو باطل، لوجوب انتهاء جميع الدلائل إليها.
وحكى ابن فارس عن بعضهم: أن المهمل يطلق عليه كلام، وخطأه. قال: وأهل اللغة لم يذكروه في أقسام الكلام.
وحكى بعض شراح اللمع أن أبا إسحاق حكى في كتابه الإرشاد وجهين لأصحابنا في أن المهمل كلام أو لا؟ قال: والأشبه أن يسمى كلاما مجازا، ولا يتألف الكلام إلا من اسمين، أو اسم وفعل، إما ملفوظ به كقام زيد أو مقدر ك يا زيد، فإن حرف النداء في تقدير الفعل، وهو أدعو زيدا.
واعترض على هذا بأنه لو كان كذلك لاحتمل التكذيب والتصديق، وسنذكر جوابه.
وزاد بعضهم تركيب الحروف مع ما هو في تقدير الاسم نحو، أما أنك ذاهب بفتح أن، وزعم ابن خروف أن هذا من باب يا زيد على مذهب أبي علي، وهو مردود بأن أن وإن كان في تقدير مفرد، فإن في الكلام مسندا ومسندا إليه، وجوز القاضي أبو بكر وإمام الحرمين ائتلافه من فعل وحرف نحو قد قام، وهو مردود بأن هذا

(1/438)


إنما يفيد لتصور ضمير في الفعل الذي هو في قام، فيكون المعنى قد قام فلان.
واشترط القاضي أبو بكر فيه أن يكون من ناطق واحد، فلو اصطلح اثنان على أن يذكر أحدهما فعلا أو مبتدأ، والآخر فاعل ذلك الفعل أو خبر ذلك المبتدأ، فليس بكلام، وتبعه الغزالي في المستصفى في الكلام على تخصيص العام هل يغير صفته؟ ورد ابن مالك ذلك، وقال: المجموع كلام، لاشتماله على حده، ولا يشترط اتحاد الناطق كما لا يشترط اتحاد الكاتب في كون الخط خطا.
ثم اختلف المتكلمون فيه في مواضع:
أحدها : أنه هل يحد؟ فمنعه بعضهم، وقال إنما يبين بالتفصيل، لأنه مركب من الأمر والنهي والخبر والاستخبار، ولا عبارة تحيط بذلك إلا بتطويل يصان الحد عنه، والجمهور على أنه يحد، وللقاضي فيه قولان، واستقر رأيه على أنه يحد كالعلم.
ثم اختلفوا فقال الأشعري: ما أوجب لمحل كونه متكلما، وقال الأستاذ أبو إسحاق: القول القائم بالنفس التي تدل عليه العبارات، وزيف بأن الكلام هو القول فكيف يحد الشيء بنفسه؟ وقوله: القائم بالنفس مجاز، فإن القائم من صفات العقلاء، ثم إن الدلالة لا تستقل بها الألفاظ، بل لا بد معها من قرينة.
الثاني : اختلفوا وهل هو حقيقة في اللساني أو النفساني؟ فيه ثلاثة أقوال تقدمت محكية عن الأشعري، والأول قول المعتزلة، والمختار الثاني.
ويتخرج على ذلك مسألتان:
إحداهما : أن الكلام في الصلاة مطلقا مبطل، فلو نظر المصلي في مكتوب غير قرآن وردد ما فيه في نفسه لم تبطل، وقيل: تبطل إن طال، حكاه ابن كج عن النص.
الثاني : إذا حلف لا يتكلم فتكلم في نفسه من غير أن يخاطب أحدا أو صلى وسلم في صلاته هل يحنث؟.
قال الخوارزمي في الكافي: يحتمل وجهين:
أحدهما : لا يحنث ويحمل على الكلام المتعارف بين الناس. قال: والأصح أنه يحنث، لأنه كلام حقيقة.
واعلم أنه لم يفرع أئمتنا على الكلام النفسي ولا اعتبروه بمجرده في إثبات العقود ولا في فسخها، ولم يوقعوا الطلاق والعتاق بالنية، وإن صمم عليها بقلبه لأن النية غير المنوي، فلا يستلزم أحدهما الآخر، ويمكن أن يستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز

(1/439)


لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل" ووجه اختلاف قول الأصحاب فيما لو حرك لسانه بالطلاق، ولم يرفع صوته بحيث يسمع السميع بنفسه، أن تحريك اللسان نطق، وإنما لم يثبتوا له حكم الكلام على أحد الوجهين كما لم يجعلوه قراءة إذا لم يسمع نفسه ولأن العقود المفتقرة إلى الإشهاد تفتقر إلى سماع الشاهد وطريق الصوت، والله أعلم.
[أقسام الكلام باعتبار ما يترتب عليه من المعنى]:
وينقسم الكلام باعتبار ما يترتب عليه من المعنى إلى أقسام ثلاثة: لأنه إما أن يفيد طلبا بالوضع أو، لا، والأول إن كان الطلب لذكر ماهية الشيء فهو الاستفهام كقولك ما هذا؟ ومن هذا؟ وإن كان لتحصيل أمر من الأمور فإن كان مع الاستعلاء فأمر، أو مع التساوي فالتماس، أو مع التسفل فدعاء.
والثاني : إما أن يحتمل الصدق والكذب أو لا، والأول الخبر والثاني التنبيه، ويندرج فيه التمني والترجي والقسم والنداء، ويسمى الخبر قضية، لأنك قضيت فيها بأحدهما على الآخر، ويسمى الأول من جزئيها محكوما عليه، والآخر محكوما به، والمنطقيون يسمون الأول موضوعا والثاني محمولا.
ثم القضية إما كلية أو جزئية أو صالحة لهما، وتسمى المهملة، وصدقها على الجزئي ضروري، فأما صدقها على الكلي فمنعه المنطقيون.
وأما لغة العرب فتقتضي الحكم عليه بالاستغراق، وعليه جرى الأصوليون، وما ذكرناه من كون النداء من جملة أقسام الإنشاء لا شك فيه، وزعم ابن بابشاذ النحوي أن قولهم في القذف: يا فاسق يا زاني مما يدخله الصدق والكذب، وغلطوه بأن التكذيب لا يرد على النداء، إذ لا فرق بين نداء الاسم والصفة فيما يرجع إلى حقيقة التذكير، وإنما يرد على أنه ليس فيه تلك الصفة نفسها، وذلك غير النداء، ونحوه قول ابن برهان: في الغرة إذا ناديت وصفا فالجملة خبرية، وإذا ناديت اسما فالجملة ليست بخبرية، ولهذا لو قال: يا زانية وجب الحد. نعم اختلفوا في ناصب المنادى، فقيل: فعل مضمر أي أدعو زيدا، وفيه نظر لأنه إخراج النداء إلى باب الإخبار الذي يدخله الصدق والكذب، وقيل: الحرف، وهو يا لأنه صار بدلا من الفعل المحذوف بدليل أنها أميلت.
وقال العبدري: يا اسم فعل فنصبت كنصبه، لأن يا اسم لقولك أنادي

(1/440)


كما أن أف اسم لقولك: أتضجر، ورد بأن أنادي خبر وليس يا بخبر، ومن شرط اسم الفعل أن يوافقه في قبول الصدق والكذب وعدمه.
وقد خطأ الإمام فخر الدين في تفسيره في أوائل البقرة من فسر قولنا: يا زيد بأنادي من وجوه، حاصلها يرجع إلى أن يا زيد إنشاء، وقولنا أنادي خبر، ولأنه لو كان كذلك لصلح قولنا: يا زيد أن يكون خطابا لعمرو كما صلح قولنا: أنادي زيدا لذلك.
ورد عليه بعضهم بأنا لا نسلم أن أنادي الذي هو بمعنى يا زيد خبر، وإنما هو إنشاء، نعم: الخبر الذي هو أنادي زيدا ليس هو بهذا المعنى.
وأجاب الشيخ شرف الدين المرسي بأن الخبر قد ينقل من الخبرية إلى الإنشائية كألفاظ العقود التي يقصد بها استحداث الأحكام بأنها بعد نقلها إلى الإنشاء لم تبق تحتمل الصدق والكذب، فكذلك هذا.
وكل هذا غفلة عن تحقيق المحذوف في المنادى، وسيبويه لم يقدر يا زيد بأنادي زيدا، بل قدره يا أنادي زيدا كأن يا أولا تنبيه غير خاص يمكن أن يتنبه به من سمعه، فبين المنبه بعد هذا التنبيه غير الخاص أنه خاص، فتقدير الفعل في النداء على مذهب سيبويه لا يحيل المعنى، ولا يغيره من باب الإنشاء إلى الخبر، كما قالوا: بل هو كتقدير المتعلق في قولك: زيد عندك الذي هو مستقر إذا قدرت فقلت: زيد مستقر عندك. في أنه لا يحيل المعنى ولا يغيره، وهذه فائدة جليلة تصيدتها من كلام الأستاذ النحوي أبي علي الشلوبيني رضي الله عنه.

(1/441)


خاتمة: في أمرين يتعين الاهتمام بهما
[مبحث الاسم عين المسمى أو غيره]:
أحدهما : الكلام في أن الاسم هل هو المسمى أو غيره؟.
وقد كثر خبط الناس فيها، وقولهم: إن الخلاف غير محقق، وأنه لو كان الاسم هو المسمى لاحترق من نطق باسم النار، ولو كان غيره للزم كذا وكذا، وكل ذلك ناشئ عن عدم فهم المسألة.
فنقول: إذا سميت شيئا باسم، فالنظر في ثلاثة أشياء: ذلك الاسم وهو اللفظ ومعناه قبل التسمية، ومعناه بعدها، وهو الذات التي أطلق عليها اللفظ، والذات واللفظ متغايران قطعا، والنحاة إنما يطلقون الاسم على اللفظ، لأنهم إنما يتكلمون في الألفاظ، وهو غير المسمى قطعا عند الفريقين، والذات هو المسمى عند الفريقين، وليس هو الاسم قطعا.
والخلاف في الأمر الثالث، وهو معنى اللفظ قبل التلقيب، فعلى قواعد المتكلمين يطلقون الاسم عليه ويختلفون في أنه الثالث أو لا فالخلاف عندهم حينئذ في الاسم المعنوي هل هو المسمى أم لا؟ لا في الاسم اللفظي، وأما النحاة فلا يطلقون الاسم على غير اللفظ، لأنهم إنما يبحثون في الألفاظ، والمتكلم لا ينازع في ذلك، ولا يمنع هذا الإطلاق، لأنه إطلاق اسم المدلول على الدال، ويريد شيئا دعاه علم الكلام إلى تحقيقه في مسألة الأسماء والصفات، وإطلاقهما على الباري تعالى.
مثاله: إذا قلت: عبد الله أنف الناقة، فالنحاة يريدون باللقب لفظ: أنف الناقة، والمتكلمون يريدون معناه، وهو ما يفهم منه من مدح أو ذم.
وقول النحاة: إن اللقب - ويعنون به اللفظ يشعر بضعة أو رفعة - لا ينافيه، لأن اللفظ مشعر لدلالته على المعنى، والمعنى في الحقيقة هو المقتضي للضعة أو الرفعة، وذات عبد الله يعني اللقب عند الفريقين، فهذا تنقيح محل الخلاف، وبه يظهر أن الخلاف خاص بأسماء الأعلام المشتقة لا في كل اسم، والمقصود إنما هو المسألة المتعلقة بأصول الدين في الأسماء والصفات.
وقال بعض الأئمة: التحقيق أن الاسم هو المسمى من حيث المدلول، وهو

(1/442)


غير المسمى من حيث الدلالة، فإن الدلالة تتغير وتتبدل وتتعدد، والمدلول يتعدد ولا يتبدل.
وقال الشيخ بهاء الدين بن النحاس: قال شيخنا ابن عمرون: هذا الخلاف لفظي، ثم قال: ولا حاجة لي إلى الخوض في ذلك، بل أقول: بدل الاسم العبارة، وبدل المسمى المعبر عنه، وهذا لا نزاع فيه.
وقال الشيخ بهاء الدين: والذي يظهر أن هذا الخلاف الصحيح أن يحمل على اختلاف حالات فإنا إذا قلنا: ضربت زيدا أو أكرمت، زيدا لا شك أن المراد هنا بزيد ليس هذه الحروف بل المسمى، وإذا قلنا: كتبت زيدا، أو محوت زيدا ليس المراد به إلا هذه الحروف لا المسمى، فعرفنا أن الخلاف يرجع إلى اختلاف عبارات.
الثاني : أن إثبات الفعل هل يستدعي إثبات مطاوعه أم لا؟ مثاله: إذا قلت أخرجته، فهل يستدعي ذلك حصول الخروج أو لا يستدعيه؟ حتى يصح أن تقول: أخرجته فما خرج وعلمته فما تعلم، وبهذا صرح في المحصول في الكلام على أن اللغة توقيفية، وينسب إلى النهاية لإمام الحرمين حكاية فيه.
ولا شك أن الموارد مختلفة والاستعمالان واقعان في العرف بحسب اختلاف الموارد.
ونقل عن الشيخ علاء الدين الباجي: أنه كان يذهب إلى أن الفعل لا يستدعي مطاوعه ويقول: لو لم يصح علمته فما تعلم لما صح علمته فتعلم. يعني بذلك أن التعليم لو كان علة لحصول العلم لما عطف عليه بالفاء، لأن العلة مع معلولها لا تعقيب بينهما، وإن قلنا: إن المعلول يتأخر لم يكن فائدة في قولنا: فتعلم لأن التعلم فهم من قولنا: علمته، وهذا كلام ضعيف ; لأنا إن سلمنا أن العلة غير سابقة للمعلول زمنا فهي سابقة بالذات إجماعا، وذلك كاف في تعقيب معلولها، فإن قلت: أليس يقال: كسرته فما انكسر؟ فما وجه صحة قولنا مع ذلك علمته فما تعلم؟.
قلت: فرق بينهما الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى بأن العلم في القلب من الله تعالى يتوقف على أمور من المعلم والمتعلم فكان علمته موضوعا للجزء الذي من العلم فقط لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم بخلاف الكسر، فإنه أثر لا واسطة بينه وبين الانكسار.
ورجح بعض أذكياء المتأخرين أن الفعل يستدعي حصول مطاوعه محتجا بقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [سورة الأعراف: 178] فأخبر عن كل من هداه

(1/443)


بأنه اهتدى، واهتدى مطاوع هدى، وأنه حيث وجدناه في الاستعمال بغير ذلك فهو مجاز، لكن يشهد لوجود الفعل دون مطاوعه قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [سورة الإسراء: 59] وقوله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [سورة الإسراء: 60] فإن كلا منهما يتضمن حصول التخويف، ولم يحصل للكفار خوف أعني الخوف النافع الذي يصرفهم إلى الإيمان، فإنه هو المطاوع للتخويف المراد في الآية، وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [سورة فصلت: 17] فليس من ذلك لأن الهدى هنا بمعنى الدعوة لا بمعنى الرشاد، لقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [سورة فصلت: 17].

(1/444)