البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث الاشتقاق
الاشتقاق
...
مباحث الاشتقاق
هو افتعال من الشق بمعنى الاقتطاع من انشقت العصا إذا تفرقت
أجزاؤها، فإن معنى المادة الواحدة تتوزع على ألفاظ كثيرة
متقطعة منها، أو من شققت الثوب والخشبة، فيكون كل جزء منها
مناسبا لصاحبه في المادة والصورة، وهو يقع باعتبار حالين:
أحدهما : أن ترى لفظين اشتركا في الحروف الأصلية والمعنى،
وتريد أن تعلم أيهما أصل أو فرع.
والثانية : أن ترى لفظا قضت القواعد بأن مثله أصل، وتريد أن
تبني منه لفظا آخر، والأولى تقع باعتبار عام غالبا، والثانية
باعتبار خاص، إما بحسب الإحالة على الأولى أو بحسب ما يخصها،
فمن الأولى الكلام في المصدر والفعل أيهما أصل والآخر فرع؟ ومن
الثانية الكلام في كيفية بناء اسم فاعل من له الطلاق مثلا.
واعلم أن الأسماء المشتقة تفيد المعرفة بذات الشيء وصفته،
وأنشد ابن السمناني في ذلك للحسن بن هانئ:
وإن اسم حسنى لوجهها صفة ... ولا أرى ذا لغيرها اجتمعا
فهي إذا سميت فقد وصفت ... فيجمع اللفظ معنيين معا
وقال الأئمة: الاشتقاق من أشرف علوم العربية وأدقها وعليه مدار
علم التصريف في معرفة الأصلي والزائد والأسماء والأفعال لبنية
يحتاج إلى معرفتها في الاشتقاق، وتوقف عليه في النحو، والكلام
فيه في مواطن:
الأول: في ثبوته.
وحكى ابن الخشاب فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها : جوازه مطلقا فيشتق ما يمكن اشتقاقه وما يبعد أو
يستحيل. قاله ابن درستويه.
قلت: وكذلك أبو إسحاق الزجاج صنف كتابا، وذكر فيه اشتقاق جميع
الأشياء.
والثاني : منعه مطلقا، وليس في الكلام مشتق من آخر، بل الجميع
موضوع بلفظ جديد، وهو مذهب محمد بن إبراهيم المعروف بنفطويه.
(1/445)
قال: وكان ظاهريا في ذا، وفي مذهبه، وكان
من أجلة أصحاب داود، ووافقه أبو بكر بن مقسم المقري وهذان
المذهبان طرفان.
والثالث : وهو الصحيح المشهور، وعليه الحذاق من أهل علم اللسان
كالخليل وسيبويه والأصمعي. وأبي عبيد وقطرب وغيرهم أن في
الكلام مشتقا وغير مشتق، وهو المرتجل.
قال ابن السراج: لو جمدت المصادر وارتفع الاشتقاق من كل كلام
لم توجد صفة لموصوف، ولا فعل لفاعل، ولولا الاشتقاق لاحتيج في
موضع الجزء من الكلمة إلى كلام كثير، ألا ترى كيف تدل التاء في
تضرب على معنى المخاطبة والاستقبال، والياء في يضرب على معنى
الغيبة والاستقبال؟ وكذا باقي حروف المضارعة، ولو جعل لكل معنى
لفظ يتبين به من غير أصل يرجع إليه لانتشر الكلام وبعد الإفهام
ونقصت القوة.
الثاني في حده:
قال الرماني: هو اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريف الأصل.
قال ابن الخشاب. وهذا الحد صحيح وهو عام لكل اشتقاق صناعي وغير
صناعي.
وقال الرماني في موضع آخر: هو الإنشاء عن الأصل فرعا يدل عليه،
وهو أيضا ما يكون منه النحت والتغيير لإخراج الأصل بالتأمل
كأنك تشق الشيء ليخرج منه الأصل، وكأن الأصل مدفون فيه، فأنت
تشقه لتخرجه منه.
قال ابن الخشاب وظاهره: أنك استخرجت الأصل من الفرع، وإنما
الحق أنه رد الفرع إلى أصله بمعنى جمعهما، وهو خاص في أصل
الوضع بالأصل.
وقال الميداني: أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب،
فترد أحدهما إلى الآخر.
وقال صاحب الكشاف: أن ينتظم من الصفتين فصاعدا معنى واحد، وهو
غير مانع فإن الضارب والمضروب قد انتظما في معنى واحد وهو
الضرب مع أنه لا اشتقاق فيهما، وكذلك ينتظم الأفعال كلها في
معنى واحد، وهو معنى المصدر مع أن بعضها ليس مشتقا من بعض، لكن
الظاهر أن مراده أن الاشتقاق يكون من ذلك المعنى الذي ينتظمها،
وهو الضرب مثلا.
(1/446)
والتحقيق : أن الاشتقاق يحد تارة باعتبار
العلم، وتارة باعتبار العمل. ففي الأول إذا أردت تقرير أن
الكلمة مم اشتقت؟ فإنك تردها إلى آخر لتعرف أنها مشتقة،
والثاني إذا أردت أن تشتق الكلمة من شيء فإنك تأخذها منه، فقد
جعلتها مشتقة منه، فالتفاوت إنما يحصل من الرد والأخذ، فهذا
قبل الاشتقاق، والأول بعده.
والمختار على الأول: أنه رد لفظ إلى آخر أبسط معنى منه حقيقة
أو مجازا لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية كضارب وضرب
من ضرب، فحكمنا باشتقاق ضرب وضارب لأن ضربا أبسط منه، والبسيط
قبل المركب فشمل اللفظ الأسماء والأفعال على المذهبين والحروف.
قال ابن جني: الاشتقاق كما يقع في الأسماء يقع في الحروف، فإن
نعم حرف جواب. وأرى أن نعم، والنعم، والنعماء، والنعيم مشتقة
منه وكذلك أنعم صباحا، لأن الجواب به محبوب للقلوب، وكذلك سوفت
من سوف الذي هو حرف تنفيس، ولوليت إذا قلت له: لولا، وليليت
إذا قلت له: لا لا، ثم قد يكون المعنى المشتق حقيقة، كضارب من
الضرب، وقد يكون مجازا على جهة الاتساع نحو ضرب في الغنيمة
وغيرها بسهم أي أخذ، وضارب لفلان بماله، ومال فلان ضربت أي:
نيل، لأنهم كانوا إذا اقتسموا غنيمة أو غيرها ضربوا عليها
بسهام القرعة وهي الأقلام، ثم اضطرد ذلك في كل من أخذ نصيبا من
شيء قد ضرب فيه بسهم، والمضاربة بالمال مشتقة من الضرب في
الأرض وهو السفر، لأن المضارب يسافر عالما ليطلب الربح، ثم
اطرد ذلك في كل مسافر وإن لم يضارب.
وخرج باشتراط المناسبة ما لا يناسبه أصلا، وبالحروف عما لا
يوافقه في الحروف، بل في المعنى كمنع وحبس فلا يقال: إن أحدهما
مشتق من الآخر، وبالأصلية التناسب في الزيادة كدخل، فإنه مشتق
من الدخول مع أنه غير موافق مصدره في الواو، لأنها زائدة،
والمناسبة في المعنى ما يوافق في اللفظ دون المعنى، كضرب بمعنى
سافر، لا يكون مشتقا من الضرب بمعنى القتل. وشرط بعضهم الترتيب
في الحروف أي أن تبقى حروف الأصل في الفرع على ترتيبها في
الأصل، وترجع تفاريع المادة الواحدة منه إلى معنى مشترك في
الجملة، كضرب من الضرب، وكما دل قولنا إلى آخر على تغاير
اللفظين كذلك قولنا: لمناسبة بينهما في المعنى يدل على تغاير
المعنيين، إذ الشيء لا يناسب نفسه، وحينئذ فلا يرد المعدول
لأنه لا مناسبة بين المعدول والمعدول عنه في المعنى.
(1/447)
الثالث في فائدته:
وسبق صدر البحث، وقال ابن الحوبي: فائدته تسهيل السبيل على
الواضع والمتعلم جميعا، فإن المعنى الواحد في الحقيقة يختلف
بالعوارض، فإن وضع لكل واحد اسم على حدة من حروف متباينة احتاج
الواضع إلى صيغ كثيرة، والمتعلم إلى حفظ أفراد كثيرة، فإذا قال
الواضع: ما على وزن الفاعل من كل فعل هو لفاعل ذلك الفعل لم
يحتج إلى وضع الضارب والقاتل والشاتم، والمتعلم إذا علم ضرب
علم الضارب و المضروب والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث
والغيبة والحضور، وهذا هو عمدة العربية.
الرابع: في تقسيمه:
وهو أصغر وأكبر وأوسط، فالأصغر: ما كانت الحروف الأصلية فيه
مستوية في التركيب، نحو ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب.
والأكبر ما كانت الحروف فيه غير مرتبة كالتراكيب الستة في كل
من جهة دلالتها على القوة، فترد مادة اللفظين فصاعدا إلى معنى
واحد، ونحو ما ذهب إليه ابن جني من عقد التغاليب الستة في
القول على معنى السرعة والخفة نحو القول والقلو والولق والوقل
واللوق، وكذلك الكلام على الشدة كالملك والكمل واللكم.
قال الشيخ أبو حيان: ولم يقل بهذا الاشتقاق الأكبر أحد من
النحويين إلا أبا الفتح، وحكي عن أبي علي الفارسي أنه كان
يتأنس به في بعض المواضع.
قال أبو حيان: والصحيح أن هذا الاشتقاق غير معول عليه لعدم
اطراده.
قلت: قد ذهب إليه أبو الحسن بن فارس، وبنى عليه كتابه المقاييس
في اللغة، فيرد تراكيب المادة المختلفة إلى معنى واحد مشترك
بينهما، وقد يكون ظاهرا في بعضها خفيا في البعض، فيحتاج في رده
إلى ذلك المعنى إلى تلطف واتساع في اللغة، ومعرفة المناسبات.
مثاله: من مادة "ص ر ب" تصبر وتربص وتبصر، والتراكيب الثلاثة
راجعة إلى معنى التأني نحو: تصبر على فلان إنه معسر ثم طالبه و
[قول الشاعر]:
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها
ومن مادة "ع ب ر" عبر وربع وبعر وبرع ورعب، وهذه المادة ترجع
إلى معنى الانتقال والمجاوزة، ومن ذلك "ح س د" حسد، دحس وحدس
ترجع إلى معنى
(1/448)
التضييق، والحدس جودة الفراسة وإصابتها،
لأن الحادس يضيق مجال الحكم حتى يتعين له محكوم واحد.
وأما الأوسط: فهو أن تتفق أكثر حروف الكلمة كفلق وفلح وفلد يدل
على الشق، ووقع هذا في كلام الزمخشري في مواضع.
الخامس: في أركانه:
وهي أربعة: المشتق، والمشتق منه، والمشاركة بينهما في الحروف
الأصلية، والرابع التغيير اللاحق فلا بد من التغيير اللفظي،
ويحصل التغيير المعنوي بطريق التبع.
السادس: في أقسامه:
ولم يذكر الإمام فخر الدين من أقسام التغيير غير تسعة، وذكر
لها مثالين أو ثلاثة وأعرض عن الباقي ظنا منه سهولة استخراجها.
وذكر ابن الخباز الموصلي: أنها كلمة مشكلة التحصيل، وأنه ما
كان يتأتى له استخراجها إلا بعد إطالة الفكر وإدامة الذكر وأنه
مر عليه زمان وهو آيس من تحصيلها، وأنه بحث فيها مع شيخه فخر
الدين عمر النحوي الموصلي فلم يزده على صورة أو صورتين. قال:
ثم من الله تعالى بفتح رتاج الإشكال فذكر أمثلة التسعة، وذكرها
رضي الدين بن جعفر البغدادي والقاضي ناصر الدين البيضاوي وزاد
عليها ستة أقسام، فبلغت خمسة عشر، وقال ابن جعفر: لا يمكن
الزيادة عليها، ورأيت للشيخ جمال الدين بن مالك زيادة عليها
تسعة أخرى، فبلغت أربعة وعشرين وقال: والذي ينبغي أن يسأل عن
أمثلة تغيير المشتق بالنسبة إلى المشتق منه، ليدخل في الفعل
فإنه أصل في الاشتقاق، إذ لا فعل إلا وهو مشتق من مصدر مستعمل
أو مقدر، والاسم تبع له، ولذلك كثر منه الجمود، وبعد ذلك
فالاعتبار الصحيح يقتضي كون المشتق بالنسبة إلى مباينة المشتق
منه عشرين قسما أو أكثر من ذلك.
أولها: زيادة الحرف فقط:
نحو كاذب من الكذب، وضاحك من الضحك، وكريم من الكرم، وجزوع من
الجزع، زيدت فيها الحروف: الألف والياء والواو.
ومثله ابن السراج الأرموي: بطالب، وقال زيدت فيه الألف، ثم
أورد عليه سؤالا وهو فإن قلت: فيما ذكرتم زيادة حركة مع
نقصانها فإنكم نقصتم فتحة اللام التي هي
(1/449)
عين الفعل وزدتم كسرتها. وأجاب عنه فقال:
المعنى بزيادة الحركة تحريك الساكن، وبنقصانها تسكين المتحرك،
وإبدال حركة بحركة ليس من الزيادة والنقصان المذكورين في شيء،
ولو جعلنا إبدال حركة بحركة زيادة حركة ونقصان أخرى لكان كاذبا
من الكذب مثالا له.
قال الشيخ جمال الدين بن الشريشي: وهذا كلام صحيح إلا أن قوله:
ولو جعلنا إبدال حركة... إلخ لا يحتاج إليه، فإنه إبدال حركة
بحركة لا زيادة ولا نقصان، وإن كان قد ينزع به، وإنما المراد
بالزيادة والنقصان ما قاله أولا من تحريك الساكن وتسكين
المتحرك، وهو المراد بالزيادة والنقصان عند أرباب العربية على
ما هو مذكور في التصريف.
ثانيها: زيادة الحركة فقط:
نحو علم من العلم، وضرب من الضرب، وظرف من الظرف، زيدت حركة
اللام والراء فإنها سواكن في المصدر.
ومثله ابن جعفر بقوله: طلب من الطلب، وقال: زيد في الفعل حركة
البناء التي في آخره، وفيه نزاع سيأتي بيانه.
ثالثها: زيادتهما معا:
كضارب وعالم وفاضل زيدت الألف وحركة عين الكلمة.
ومثله ابن جعفر بـ"طالب" الفعل الماضي. قال: وهو مشتق من الطلب
زيدت فيه الألف وفتحة البناء، وهو فاسد، لأن طالب إنما هو مشتق
من المطالبة كذا قال ابن الشريشي.
قلت: الظاهر أن ابن جعفر إنما أراد طالب اسم فاعل، وبذلك مثله
ابن مالك.
رابعها : نقصان الحرف كخرج من الخروج، وصهل من الصهيل، وذهب من
الذهاب. نقص منه الواو والتاء والألف.
ومثله السراج الأرموي بشرس من الشراسة وقال: نقصت منه الألف
والتاء، ومثله البيضاوي وابن جعفر بخف فعل أمر من الخوف نقصت
الواو. واعترض عليه بعضهم بأن الفاء صارت في هذا ساكنة بعد أن
كانت متحركة، فاجتمع في هذا المثال نقصان الحرف والحركة معا.
(1/450)
وقال ابن الشريشي: هذا المثال غير جيد، لأن
عين الكلمة وهي الواو لم تحذف لأجل الاشتقاق، وإنما حذفت لأجل
التقاء الساكنين. ألا ترى أنها تعود عند تحريك الآخر فيما إذا
اتصل ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث في قولها خافا وخافوا
وخافي؟ وليس الكلام إلا فيما حذف لأجل الاشتقاق حتى يقع به
المغايرة بين المشتق والمشتق منه، وأما الحذف لالتقاء
الساكنين، فلعلة أخرى بعد حصول صورة المشتق. ألا ترى أن قولنا:
خافا قد عاد فيه المحذوف مع بقاء الكلمة مشتقة معبرة عن أصلها،
وحق الألف أن تكون واوا متحركة لتقع المغايرة بين الفعل
والمصدر بحركة هذه الواو، فإنها في المصدر ساكنة، وحقها أن
تكون في الفعل متحركة، ولكن طرأ عليها الاعتلال فانقلبت ألفا
ساكنة، ثم حذف بعد ذلك لالتقاء الساكنين لا للاشتقاق، وكلامنا
إنما هو فيما حذف للاشتقاق.
خامسها: نقصان الحركة:
كأبيض من البياض وأصبح من الصباح، ونحو اطلب واحذر واضرب، فإنه
نقص منها حركات أوائلها فإنها متحركة في المصدر ساكنة في
الفعل.
فإن قيل: هذه غير مطابقة، فإن فيها ألفا زائدة في أوائلها،
فينبغي أن يذكر فيما زيد فيه حرف ونقصت منه حركة، فالجواب أن
الألف التي في أوائلها غير معتد بها في الاشتقاق، فإن صورة
المشتق حاصلة بدونها في قولك: يا زيد اضرب، وما أشبهه، فالألف
ساقطة مع أن صورة الفعل المشتق حاصلة، وإنما يجاء بها في بعض
الأحوال، وهو الابتداء بها لسكون أوائلها وتعذر الابتداء
بالساكن، ومثله البيضاوي بـ"ضرب" المصدر من ضرب الماضي على
مذهب الكوفيين في اشتقاقهم المصدر من الفعل الماضي.
ومثله ابن مالك بـ"ثار" من الثار، مصدر ثير المكان إذا كثرت
حجارته، ومثله ابن جعفر "بحرر" "اسم فاعل من" حرر الفعل الماضي
فقد نقصت منه حركة البناء التي في الفعل وهو بناء على أصله من
اعتبار حركة البناء في صيغة الفعل الماضي.
سادسها: نقصانهما:
نحو "سر" من السير، و"بع" من البيع، نقصت الياء وحركة الراء من
الأول والياء وحركة العين من الثاني، ومثله ابن مالك بـ"حيي"
من الحياة، ومثله الأرموي بـ"عصى" من العصيان.
(1/451)
وقال: نقصت منه الألف والنون والفتحة التي
كانت على الياء في المصدر. ومثله ابن الخباز بـ"نزا" وغلا من
النزوان والغليان، ومثله ابن جعفر بـ"عد" من العد، فنقصت منه
ألف وحركة الدال.
وفي هذه الأمثلة كلها نظر، لأن سقوط الحركة فيها إنما هو بسكون
آخر الأفعال في عصى ونزا وغلا وعد، وسكون لام الكلمة وحركتها
لا يعتبران في صيغة الكلمة وبنيتها، وإنما الاعتبار بالحشو،
ألا ترى أن هذا السكون قد يزول مع بقاء صورة الكلمة على حالها
ولا يعد زواله مغيرا للكلمة؟ وذلك من قولنا: عصيا ونزوا وغليا
وعدا، وإنما الاعتبار في التغيير بما إذا تغير من صورة الكلمة
وبنيتها. ولقائل أن يقول: إنما تحرك آخر هذه الأفعال لاتصال
الضمائر بها، وكان الأصل سكونها، فيكون القول الأول صحيحا.
سابعا: زيادة حرف ونقصان حرف:
نحو تدحرج من الدحرجة، نقص هاء التأنيث وزادت التاء، وهذا
القسم أهمله السراج الأرموي.
ومثله ابن جعفر بـ"ديان" من الديانة، وقال نقصت منه التاء،
وزيدت فيه الياء المدغمة الساكنة، ثم قال: وفيه نظر:
ومثله ابن مالك بـ"رؤف" من الرأفة.
ثامنها: زيادة الحركة ونقصان حركة أخرى:
نحو اضرب واعلم واشرب، نقص منها حركات فاء الكلمات، وزيد فيها
حركات عينها، وألف الوصل لا اعتبار بها كما تقدم.
ومثله البيضاوي بـ"حذر" من الحذر زيدت فيه كسرة الذال ونقصت
فتحته.
ومثله ابن جعفر بـ"كرم" من الكرم و شرف من الشرف، وقال: نقصت
حركة الراء من المصدر وزيدت فيه ضمة الراء وفي "شرف" كسرتها.
والحق: أن هذه الأمثلة غير مطابقة، وليس في هذا نقصان ولا
زيادة، وإنما هو إبدال.
تاسعها: زيادة الحرف ونقصان الحركة:
نحو تحرر وتعرج زيد فيه حرف المضارعة ونقص منه فتحة الحاء
والياء. وذكر
(1/452)
البيضاوي وابن جعفر في مثاله: عاد من
العدد، زيدت فيه الألف بعد العين، ونقصت حركة الدال الأولى
وفيه نظر، لأن الدال المدغمة أصلها الحركة، وإنما سكنت وأدغمت
لمعنى آخر غير الاشتقاق، وهو توالي المثلين والنظائر.
ومثله السراج الأرموي بـ"أكرم" من الكرم زيد فيه الألف، ونقصت
حركة الكاف، وفيه نظر، لأن أكرم مشتق من الإكرام الذي هو مصدر
لدلالته عليه، ولو جعل الإكرام هو المشتق أولا لحصل به الغرض.
عاشر: زيادة، الحركة ونقصان الحرف:
نحو قدر وكتب ورحم من القدرة والكتابة والرحمة، وحرم من
الحرمان، ونقص من النقصان. نقص من الأول التاء ومن الأخيرين
الألف والنون، وزيد فيها كلها حركات العينات.
ومثله البيضاوي وابن جعفر بـ"بنيت" من البنيان، وقال: نقصت
الألف وزيد فيه فتحة البناء في الفعل وسيأتي أن حركة البناء لا
يعتد بها.
حادي عشرها: زيادة الحرف والحركة معا مع نقصان حركة أخرى:
نحو يضرب، زيد في حرف المضارعة، وحركة عين الكلمة ونقص منه
حركة فاء الكلمة، ومثله البيضاوي وابن جعفر وقال زيدت فيه
الهمزة المكسورة، ونقصت حركة الضاد فجعل الهمزة وحركتها
زائدتين وقد تقدم الكلام عليه.
وبينا أن الزيادة إنما تعتبر في الحركة بأن تكون على ما كان
ساكنا في الأصل وأن الألف المتحركة. زائدة واحدة.
ثاني عشرها: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه:
نحو قادر وعاصم وراحم وكاتب، زيد فيها الألف، وحركت العينات
ونقص منها التاء التي هي أواخرها.
ومثله البيضاوي وابن جعفر بـ"خاف" من الخوف، وقال: نقصت الواو
وحركة الدال، ولا يخفى بما تقدم فساده.
ثالث عشرها: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها:
نحو انصر من النصرة، وارحم من الرحمة، واقدر من القدرة، زيد
فيها حركات العينات، ونقص منها تاء التأنيث وحركات فاء الكلمة
وحركتها.
ومثله البيضاوي بـ"عد" من الوعد، زيدت فيه كسرة العين، ونقصت
الواو
(1/453)
وحركة الدال ولا يخفى ما فيه مما تقدم.
رابع عشرها: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه:
نحو يخرج، و يقصد زيد فيه حرف المضارعة، ونقص منه الواو التي
في المصدر، وفتحة فاء الكلمة، ومثله البيضاوي وابن جعفر
بـ"كال" من الكلال، وقال: زيد فيه الألف بعد الكاف، ونقص منه
الألف التي كانت بين اللامين، وفتحة اللام الأولى المدغمة
والكلام فيه كما في عاد، وقد تقدم.
خامس عاشرها: زيادة الحرف والحركة معا ونقصانهما معا:
كالاحمرار من الحمرة نقصت منه التاء وحركة الحاء وزيدت فيه
الراء الأولى والألف التي بعدها وحركة الميم، وكذلك ما أشبهه
من الاصفرار ونحوه.
ومثله ابن الخباز والسراج الأرموي بـ"استنوق" الجمل أي تحول
الجمل ناقة، وهو مشتق من الناقة، نقصت منه التاء وحركة النون
وزيدت فيه السين والتاء وحركة والواو التي كانت ألفا ساكنة في
الناقة، وفيه نظر، لأن استنوق إنما هو مشتق من مصدره الذي هو
الاستنواق، لدلالته عليه، فالأولى أن يجعل الاستنواق الذي هو
المصدر هو المشتق من الناقة والغرض يحصل به، لأن النقصان
والزيادة المطلوبين في المثال موجودان فيه، لأن المصدر زيدت
فيه السين والتاء والألف التي بعد الواو وحركة الواو ونقص منه
التاء وفتحة النون، وكان جعله هو المشتق أولا أولى.
ومثله البيضاوي وابن جعفر بـ"ارم" من الرمي وقال: زيدت فيه
الألف وكسرة الميم، ونقصت حركة الواو والياء، وفيه نظر. أما
ألف الوصل فقد تقدم الكلام عليها، وأما الياء فلم تحذف
للاشتقاق بل لمعنى آخر، وهو حمل المبني على المعرب لشبهه به في
الصحيح، فجعل المعتل كذلك. ألا ترى أن هذه الياء تحذف في
المعرب في قولنا: لم يرم ليجزم؟ فكذلك حذفت في قولنا: ارم
للبناء حملا للمبني على المعرب في الصورة. ألا ترى أن الياء
تعود عند اتصال الضمير بالفعل في قولك: ارميا. وعند اتصال
النونين الثقيلة والخفيفة في قولك: ارمين وارمين، وعند اتصال
ضمير جماعة الإناث في قولك: ارمين يا نسوة؟ فعلم أن الياء ما
حذفت للاشتقاق، وكلامنا فيما يحذف له أو يزداد له، فتحصل به
المغايرة بين صورة المشتق والمشتق منه لا فيما يحذف أو يزاد
لمعنى آخر.
وزاد الشيخ جمال الدين الشريشي قسمين آخرين: أحدهما: ما فيه
تغيير
(1/454)
ظاهر، نحو حذر من الحذر وفرح من الفرح،
وجزع من الجزع ونحوه، وقعت المغايرة بين الفعل والمصدر بحركة
العين، فإنها في المصدر مفتوحة وفي الفعل مكسورة. ثانيهما: ما
فيه تغيير مقدر نحو طلب من الطلب، وهرب من الهرب، وغلب من
الغلب ونحوه، وإنما قدرنا التغيير، لأنه يجب أن يكون صورة
المشتق وبنيته مخالفة لصورة المشتق منه، ورأينا هذه الأفعال لا
تخالف صورة المصادر المشتق منها، وليس لها مصادر غيرها فوجب أن
يكون فيها تغيير مقدر كما قالت النحاة في الفلك: إنه يقع على
الواحد والجمع بلفظ واحد، ولا بد من التغاير بينهما فتقدر
الضمة إذا كان جمعا غير الضمة التي فيه إذا كان مفردا.
تنبيهات
[التنبيه] الأول
قد تقرر من جعل التغيير من أركان الاشتقاق وجود التغيير في كل
مشتق بالنسبة إلى أصله، وقد نجد أفعالا من مصادر من غير تغير
ظاهر فيها، كطلب من الطلب، وغلب من الغلب، وجلب من الجلب،
فإنها مساوية لمصادرها في الحروف والصيغ بلا تفاوت مع اشتقاقها
منها، وذلك: يقدح في كون التغيير ركنا للاشتقاق، لامتناع تحقق
الشيء بدون ركنه، وحله: أن التغيير وإن لم يكن موجودا ظاهرا
لكنه مقدر، كما سبق تقريره.
وأجاب رضي الدين بن جعفر بأن حركة الإعراب ساقطة الاعتبار في
الاشتقاق غير معتد بها تغييرا، إذ الاشتقاق إنما هو من صيغة
المصدر بني عليها وحركة الإعراب طارئة على الصيغة بعد تمامها
منتقلة غير قادرة، وأما حركة البناء في آخر الفعل الماضي فإنها
لثباتها ولزومها وبناء الكلمة عليها من أول وهلة صارت داخلة في
صيغة الفعل جارية مجرى حركة أوله وحشوه فاعتد بها في الاشتقاق،
وجعل التغيير بها زيادة ونقصانا، وإنما نبهنا على هذا، لأنهم
لم يعتدوا بحركة الإعراب، واعتدوا بحركة البناء، وجعل التغيير
بها زيادة ونقصانا.
مثال الزيادة: طلب من الطلب، لأنهم مثلوه لزيادة الحركة، فإن
طلب اعتد بحركة الباء في آخره زيادة لكونها حركة بناء، ولم
يعتدوا بالحركة التي في آخر المصدر، وهو الطلب لكونها حركة
إعراب.
ومثال النقصان: حذر اسم فاعل من حذر، نقص من اسم الفاعل حركة
(1/455)
البناء التي كانت في الفعل فقد يظن ظان من
اعتبارهم التغيير اللاحق للمشتق استلزم حصول التغيير في كل
مشتق بالنسبة إلى أصله مع أنه نحن نجد أفعالا مأخوذة من
المصادر من غير تغيير ظاهر فيها، كطلب، من الطلب، وحذر من
الحذر فإن هذه الأفعال مساوية لهذه المصادر وأنه يقدح في كون
التغيير ركنا في الاشتقاق.
وجوابه: أن حركة الإعراب غير معتد بها، وحركة البناء معتد بها.
ونازعه الشيخ جمال الدين بن الشريشي، وقال: حركة الإعراب كما
لا يعتد بها في صيغة الكلمة وبنيتها فكذلك حركة البناء، لأن كل
واحدة منهما طارئة على الكلمة بعد حصول صيغتها وتقرير بنيتها
إن كانت لها بنية، وإنما يفترقان في أن حركة الإعراب تتغير عند
تغير العامل، ألا ترى أنك تقول: خرج زيد خرج عمرو فلا يتغير
آخر خرج، وإن دخل عليه العامل، وتقول: خرجت ودخلت بتغير آخره
لاتصال الضمير به مع أن أحدا من النحاة لا يقول: إن بنية الفعل
تغيرت؟ فعلم أن حركة لام الكلمة أو سكونها غير معتد بها في
بنية الكلمة، فلا يعد وجودها زيادة ولا زوالها نقصا.
وقوله: إن الفعل الماضي بني في أول وهلة على الحركة ممنوع، بل
كان يجب أن يكون ساكنا كما هو الأصل، ولكن بني على حركة لعلة
أخرى غير الاشتقاق، وهي جواز وقوعه موقع المعرب بخلاف فعل
الأمر، فعلم أن حركة البناء في الفعل طارئة عليه بعد حصول
بنيته، وإذا كانت حركة الإعراب غير معتد بها في بنية الكلمة
لكونها طارئة ومتغيرة فكذلك حركة البناء، ولا يكون ثبوتها في
الفعل زيادة في الصيغة، ولا زوالها نقصا فيها.
[التنبيه] الثاني
أن المراد بزيادة الحرف أو الحركة أو نقصانهما جنس الحرف وجنس
الحركة لا واحد فقط، فقد يكون المزيد من الحروف أكثر من واحد،
وكذلك في الحركة، وكذلك في النقصان، وعلى هذا فتكثر الأقسام
ولا يخفى حينئذ أمثلتها.
[التنبيه] الثالث
أنه لا اعتبار بتنوع الحركة بالرفع والنصب والجر إذ لو اعتبرت
لكثرت الأقسام.
(1/456)
[التنبيه] الرابع
أنهم جعلوا من أركان الاشتقاق المشاركة بين الأصل والفرع في
الحروف الأصلية والتغيير، ثم جعلوا من أقسام التغيير نقصان
الحروف، وذلك تناقض في الظاهر فإنه متى نقصنا أحد الحروف
المشتق من المشتق منه زالت المشاركة بينهما في الحروف.
وأجاب ابن جعفر بأمرين:
أحدهما: أن المشاركة بينهما في الحروف الأصلية قد تكون بحق
الأصل، ثم يطرأ النقصان العارض نقيضه كقولنا: خف من الخوف، ونم
من النوم، فإن الواو سقطت فيهما بعد انقلابهما ألفا لعارض
التقاء الساكنين، فالمشاركة فيهما حاصلة بالفعل، لحصولهما في
الأصل قبل طرو الحذف العارض.
الثاني: أن المصادر ذوات الزيادة كالإنبات والغشيان والنزوان
إذا اشتققنا منها أفعالا كنبت وغشي ونزا حصلت المشاركة بينها
وبين المصادر في الحروف الأصلية، ووفر التغير بنقصان الحرف
الزائد فقد صدق بمجموع الأمرين فيهما أعني المشاركة مع
النقصان، فإنا لم نشترط المشاركة في الحروف الأصلية مع نقصان
حرف أصلي.
[التنبيه] الخامس
[مذهب الكوفيين والبصريين]
[في اشتقاق الأفعال من المصادر]
مذهب الكوفيين أن المصادر مشتقة من الأفعال، وعكس البصريون ذلك
وهو الصحيح، لأن مفهومه واحد، ومفهوم الفعل متعدد لدلالته على
الحدث والزمان، والواحد قبل المتعدد، وإذا كان أصلا للأفعال
يكون أصلا لمتعلقاته، أو لأنه اسم، والاسم مستغن عن الفعل.
ويقال: مصدر، لأن هذه الأشياء تصدر عنه، وكذلك الصفات كأسماء
الفاعلين والمفعولين، وتوسط الفارسي فقال: الصفات مشتقة من
الأفعال لجريانها عليها، وعلى تقدير القول به فهي وإن كانت
مشتقة من الأفعال بهذا الاعتبار فالأفعال أصولها القريبة،
والمصادر أصولها البعيدة.
وذهب أبو بكر بن طلحة إلى أن كلا من المصدر والفعل أصل بنفسه،
ليس
(1/457)
أحدهما مشتقا من الآخر، فالحاصل أربعة
مذاهب.
وقد استشكل المازري في شرح البرهان حقيقة الخلاف في هذه
المسألة وقال: إن أريد بذلك أن أحدهما حقيقة والآخر مجاز،
فالحقيقة أصل للمجاز، فهذا لا يقوله أحد، فلا خلاف أنا إذا
قلنا: قام زيد قياما، فإن قولنا: قام لفظة من الحقائق لا تجوز
فيها، وقولنا قياما لفظة من الحقائق لا تجوز فيها أيضا، فقد
وضح بطلان صرف الأصلية والفرعية إلى هذا الوجه، وإن أرادوا
بقولهم هذا أصل وهذا فرع أن اللفظين حقيقتان، ولكن النطق بهذه
سبق، فهذا غيب لا يعلمه إلا الله والبحث عنه عي لا يجدي ولا
فائدة فيه، وأي فائدة في السؤال عن تسمية الحائط والجدار أي
اللفظين نطق به أولا؟ انتهى. وقال بعضهم: إذا قيل: هذا مشتق من
هذا فله معنيان:
أحدهما : أن بين القولين تناسبا في اللفظ والمعنى وسواء تكلم
أهل اللغة بأحدهما قبل الآخر أم لا وعلى هذا إذا قلنا: المصدر
مشتق من الفعل أو بالعكس كان كل منهما صحيحا، وهذا هو الاشتقاق
الذي يقوم عليه أساس التصريف.
والثاني : أن يكون أحدهما أصلا للآخر، فهذا إن عني به أن
أحدهما تكلم به بعد الآخر لم يقم على هذا دليل في أكثر
المواضع، وإن عني به أن أحدهما مقدم على الآخر في العقل لكون
هذا مفردا وهذا مركبا، فالفعل مشتق من المصدر.
[التنبيه] السادس
أنه لا بد في معرفة الاشتقاق من التصريف وهو معرفة اختلاف
أبنية الكلمة وما يعرض لها من زيادة ونقص وقلب وبدل وإدغام،
ليعرف الأصلي من الزيادة، ويرد المقلوب إلى أصله ويعرف البدل
من المبدل منه، والمدغم من المدغم فيه.
وحروف الزيادة عشرة يجمعها قولك: سألتمونيها، فإذا عرف الأصلي
والزائد قابل في ميزان التصريف الأصلي بفاء فعل وعينه ولامه،
والزائد بلفظه. تقول: وزن ضارب فاعل، فالألف زائد مذكور بلفظه،
والضاد والراء والباء أصول مقابلة بالفاء والعين واللام، وكذلك
مضروب مفعول من الضرب فالواو والميم زائدتان، وميعاد وميزان
مفعال من الوعد والوزن فالميم والألف زائدتان والياء هي منقلبة
عن واو، لظهورها فيما منه الاشتقاق.
فإن قيل: جعلتم معرفة الاشتقاق متوقفة على معرفة التصريف وأهل
التصريف يجعلون معرفته متوقفة على معرفة الاشتقاق لتعريف
الزائد فيحكم، بزيادته فإنا
(1/458)
لا نعلم أن كوثرا مشتق من الكثرة حتى يعلم
أن الواو زائدة، ولا نعرف أنها زائدة حتى نعلم أنه مشتق من
الكثرة، وذلك دور فيمتنع.
قلنا: إذا عرفنا الأصلي من الزائد حكمنا باشتقاقه من الأصلية،
فكل من التصريف والاشتقاق يفتقر إلى الآخر ولا يتوقف عليه.
[التنبيه] السابع
القياس يقتضي أن المعنى المشتق منه كالعلة في القياس والعلاقة
في المجاز حيث وجد الاشتقاق، كما أن العلة حيث وجدت وجد الحكم،
لكن لم يطرد ذلك في الاشتقاق فإنا رأيناهم سموا الأسد ضيغما من
الضغم، ولم يسموا الجمل به، وأن الضغم هو العض الشديد موجودا
فيه وسموا المنزل الذي بعد الثريا دبرانا لاستدباره إياها أو
القبلة، ولم يسموا كل مستدبر للثريا أو القبلة دبرانا، وسموا
الثريا باسمها لاشتقاقها من الثروة وهي الكثرة لاجتماع نجومها،
ولم يسموا كل أعداد مجتمعة ثريا، وسموا القارورة وهي الوعاء
الخاص لاستقرار الماء فيها ولم يسموا كل مستقر لمائع أو غيره
كالحوض ونحوه قارورة.
والضابط في ذلك: أنه إما أن يجعل وجود معنى الأصل في محل
التسمية من حيث إنه داخل فيها والمراد ذات مع اعتبار نسبته
إليها، فهذا يطرد في كل ذات، فهذا هو المطرد، وإن كان المراد
ذاتا مخصوصة على شخصه امتنع التعدية، لأن الاشتقاق من الثروة
والاستدبار والضيغم والاستقرار بمنزلة جزء العلة المركبة من
القياس، والجزء الآخر كون هذا المشتق علما لهذا الوضع أو خاصا
به.
[التنبيه] الثامن
قال ابن عصفور: لا يدخل الاشتقاق في سبعة أشياء وهي الأسماء
العجمية كإسماعيل والأصوات، ك غاق والحروف وما أشبهها من
المتوغلة في البناء نحو من و ما، والأسماء النادرة نحو طوبى له
اسم للنعمة، واللغات المتداخلة نحو الهون للأسود والأبيض،
والأسماء الخماسية كسفرجل، ويدخل فيما عدا ذلك. انتهى.
وأثبت ابن جني الاشتقاق في الحروف، ولعل مراده الأكبر.
(1/459)
مسألة
وقد يطرد بأن يطلق على كل صورة وجد فيها معنى المشتق منه كاسم
الفاعل والمفعول وغيرهما من الصفات، كضارب ومضروب وحسن، وقد
يختص كالقارورة لا يطلق على غير الزجاجة.
والضابط: أن المطرد ما كان لذات، قصد فيه المعنى، والمختص ما
قصد مجرد الذات، والمعنى تابع، وقد يقال: إن وجود معنى الأصل
في كل التسمية قد تعتبر من حيث إنه دخل في التسمية، والمراد
ذات ما باعتبار نسبة له إليها، فهذا يطرد في كل ذات فيه معنى
الأصل كالأحمر فإنه لذات باعتبار أن الحمرة داخلة فيه، وقد
يعتبر من حيث إنه مصحح للتسمية مرجح لها كتسمية الذات التي له
الحمرة بالأحمر، لكونها أحمر، لكن لا باعتبار دخول الحمرة في
مسماه، ولهذا لو زالت حمرته يصح إطلاق الأحمر عليه بخلاف
الاعتبار الأول.
وهذا مستمد من قول السكاكي: وإياك والتسوية بين تسمية إنسان له
حمرة بأحمر، وبين وصفه بأحمر أن تزل، فإن اعتبار المعنى في
التسمية لترجيح الاسم على غيره حال تخصيصه بالمسمى واعتبار
المعنى في الوصف لصحة إطلاقه عليه فأين أحدهما من الآخر؟
وحاصله: الفرق بين تسمية الغير لوجوده فيه أو بوجوده فيه، فهو
مع اللام إشارة إلى العلمية، ومع الباء إشارة إلى المصاحبة.
(1/460)
مسألة: [شرط صدق المشتق صدق المشتق منه]
شرط صدق المشتق اسما كان أو فعلا صدق المشتق منه، فلا يصدق
قائم على ذات إلا إذا صدق القيام على تلك الذات، وسواء كان
الصدق في الماضي أم في الحال أم في الاستقبال، وأما إن ذلك هو
بطريق الحقيقة أم لا، فسيأتي.
والكلام في هذه المسألة مع أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم،
وهما لم يصرحا بالمخالفة في ذلك، ولكن وقع ذلك منهما ضمنا حيث
ذهبا إلى القول بعالمية الله دون علمه. أي ذهبا إلى أن العالم
وغيره من الصفات أسماء مشتقة من العلم ونحوه، ثم إنهما يطلقان
على الله تعالى هذه الأسماء وينكران حصول العلم والحياة
والقدرة لله تعالى، لأن المسمى بهذه الأسماء هي المعاني التي
توجب العالمية والقادرية، وهذه المعاني غير
(1/460)
ثابتة لله تعالى، فلا يكون لله علم ولا
قدرة ولا حياة مع أنه عالم قادر حي، وفرارا من أن يكون الذات
قابلا وفاعلا.
وأما أصحابنا فاتفقوا على أنه تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة
حي بالحياة.
[هل العلم نفس العالمية]:
واختلفوا بعد ذلك هل العلم نفس العالمية أو القدرة نفس
القادرية أو هي زائدة عليها؟ والأول: قول الشيخ أبي الحسن
وأتباعه، والثاني: قول القاضي أبي بكر، وأما المعتزلة فقالوا:
عالم بالذات لا بالعلم، قادر بالذات لا بالقدرة وهكذا فقد
جوزوا صدق المشتق الذي هو العالم بدون صدق المشتق منه.
واعلم أنهما يعللان العالمية بالعلم مطلقا، كما صرحوا به في
كتبهم الأصولية، ويقولان: إن العلم في الله غير ذاته، فهما لا
يسلبان عنه إلا العلم الزائد على ذاته لا العلم مطلقا، وحينئذ
فتخصيص عالميتنا بالعلم، كما قاله البيضاوي، أو إثبات عالمية
الله تعالى مع سلب العلم عنه كما قاله في المحصول وغيره أيضا
باطل، لأنهما لا يقولان بسلب عليتها عنه بل يقولان: إن علية
العالمية هي العلم، وهي غير ذات الله تعالى.
هذا أصل الخلاف، ومنه أخذ هذه المسألة الأصولية، ولا ينبغي
لجواز أن يكون هذا القائل يقول: مقتضى اللغة ما ذكرتم، ولكن
الدليل العقلي منع هنا، فاستثني ذلك من المشتقات لوجود المانع
الخاص، وحينئذ فلا يصح تعميم المشتقات بذلك، ويخرج الكلام منها
عن أصول الفقه إلى علم الكلام، ويصير الخلاف معنويا لا لفظيا
لغويا.
وإن رجعنا بها إلى أصول الفقه فنقول: المشتق إما أن يغلب عليه
الاسمية أو لا، فالأول: لا يشترط في صدقه وجود المعنى وكذلك
الحارث والعباس، فإنهما يسمى بهما وليس بحارث، ولا كثير
العبوس، ومع ذلك فقد لاحظ ذلك المعنى المطلق أو الشائع في بعض
الأعيان، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أحسن
الأسماء ويكره قبيحها.
وأما الذي لا يغلب عليه الاسمية فهو الباقي على أصل الصفة
كالعالم والقائم، ويشترط في صدقه حقيقة وجود المعنى المشتق
منه، وإطلاقه مع عدمه مجاز محض، غير أنه قد كثر هذا المجاز في
بعض الأسماء واشتهر، وذلك كالمؤمن فإنه يطلق على الغافل
والنائم والميت مع قيام موانع الإيمان استصحابا للمعنى السابق
والحكم اللاحق، فدل على أنه مجاز هنا، وإن كثر استعماله حقيقة
في أصله وإن قل استعماله، وبهذا يرتفع خلاف
(1/461)
أبي هاشم في هذا فإنه يقول: إن وجود المعنى
المشتق منه ليس شرطا في صدق الاسم المشتق، فإن أراد أنه ليس
شرطا في أصل الوضع فليس بصحيح، لأنه يلزم منه عدم الفرق بين
المشتق وغيره، وإن أراد الاستعمال العرفي فهو صحيح على ما
بيناه.
(1/462)
مسألة: [بقاء معنى المشتق هل هو شرط؟]
في أن دوام ما منه الاشتقاق أعني بقاء معنى المشتق منه هل شرط
في إطلاق اسم المشتق بطريق الحقيقة أم لا؟ فمن لم يشترط وجوده
لم يشترط دوامه قطعا، وأما الذين يشترطون وجوده فاختلفوا فيه.
فنقول: إطلاق الاسم المشتق كاسم الفاعل والمفعول باعتبار الحال
حقيقة بلا خلاف كتسمية الخمر خمرا، وباعتبار المستقبل مجاز بلا
خلاف كتسمية العنب والعصير خمرا، وأما إطلاقه باعتبار الماضي
كإطلاق الضارب على من صدر منه الضرب. انتهى.
وهذا هو محل الخلاف، فقال الجمهور منهم الرازي والبيضاوي: إنه
مجاز. وقال ابن سينا والفلاسفة، وأبو هاشم من المعتزلة: إنه
حقيقة، ونقل الآمدي وابن الحاجب مذهبا ثالثا أن معنى المشتق
منه إن كان مما يمكن بقاؤه كالقيام والقعود اشترط بقاؤه في كون
المشتق حقيقة وإلا فلا، كما في المصادر السيالة مثل الكلام
وأنواعه، ونسبه الصفي الهندي في النهاية إلى الأكثرين ويحتاج
إلى تثبت، فإن الرازي ذكره في أثناء المسألة على سبيل البحث،
وقال: إنه لم يقل به أحد، فإن كان مستند نقلهم هذا فقد علمت،
لكن الإمام في جواب المعارضة صرح باختياره ومنع الإجماع فقال:
قلنا: المعتبر عندنا حصول بتمامه إن أمكن، أو حصوله آخر جزء من
أجزائه، ودعوى الإجماع على فساد هذا التفصيل ممنوعة، هذا لفظه
في المسودة الأصولية وقيل: إن ما يعدم عقب وجود مسماه كالبيع
والنكاح والاغتسال والتوضؤ فإن الاسم يقع عليه بعد حقيقة، وما
يدوم بعد وجود المسمى كالقيام والقعود، فإذا عدم المسمى جميعه
كان مجازا.
ونقل الأصفهاني عن بعضهم تفصيلا آخر، وقال: إنه الحق، وهو أنه
إذا وجد معنى في المحل، واشتق له منه اسما فبعد ذلك إن لم يطرأ
على المحل ما يناقضه ويضاده بقي صدق المشتق كالقاتل والزاني
والسارق، فأما إذا طرأ على المحل ما يضاده،
(1/462)
واشتق له منه اسم المشتق الأول، فحينئذ لا
يصدق المشتق الأول كاللون إذا قام به البياض يسمى أبيض، فإذا
اسود لا يقال في حالة السواد: إنه أبيض، والدليل على ذلك: أن
الله تعالى أمر بجلد الزاني وقطع السارق، ولو كان بقاء وجه
الاشتقاق شرطا لما أمكننا امتثال الأمر، لأن حالة الجلد والقطع
ليس بزان ولا سارق حقيقة، فلا يقع الامتثال بالأمر.
ويخرج من كلام القاضي أبي الطيب الطبري في مسألة خيار المجلس
قول خامس بالتفصيل بين إطلاقه عقب المعنى المشتق منه فيسوغ،
وبين أن يتطاول الزمان فلا، ومن كلام أبي الخطاب من الحنابلة
سادس، وهو التفصيل بين ما يطول زمنه كالأكل والشرب، وبين ما
يقصر كالبيع والشراء، وهو قريب من الخامس، وكلام ابن الحاجب
يقتضي التوقف في المسألة فإنه ذكر شبه الفرق، وأجاب عن الجميع،
فتحصلنا على سبع مذاهب، يشترط بقاؤه حقيقة ومجازا، التفصيل بين
الممكن وغيره. التفصيل بين طرو ما يناقض التفصيل بين الإطلاق
عقبه أو بعده. التفصيل بين طول الزمان وقصره، الوقف.
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن المخالف في الأول يقول
بصدق المشتق كالعالم والقادر، وإن لم يكن ما منه الاشتقاق
قائما بالمشتق منه ولا في وقت ما، وأما المخالف في هذه فإنه
يقول: إن قام ما منه الاشتقاق بالشيء فهو صادق حقيقة حينئذ،
وإذا انقضى ولم يقم به فهو يصدق عليه مجازا لا حقيقة، وعلى
المذهب الآخر عكسه.
(1/463)
تنبيهات
[التنبيه] الأول: [اسم الفاعل حقيقة في الحال]
معنى قولهم: حقيقة في الحال أي: حال التلبس بالفعل لا حال
النطق به، فإن حقيقة الضارب والمضروب لا يتقدم على الضرب، ولا
يتأخر عنه، لأنهما طرفا النسبة فهما معه في زمن واحد.
ومن هذا يعلم أن نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا
فله سلبه" أن قتيلا حقيقة وأن ما ذكروه من أنه سمي قتيلا
باعتبار مشارفته الفعل لا تحقيق له.
إذا علمت ذلك فما ذكروه من نقل الإجماع على أنه حقيقة في الحال
ينبغي أن يكون موضعه بعد وجود ما يتناوله الاسم المشتق منه
فأما حالة الشروع قبل وجود ذلك كالتساوم من التابعين قبل
الإيجاب والقبول، والأكل حين أخذ اللقمة قبل وجود مسمى الأكل،
فقال القاضي أبو الطيب: لا يسمى فاعلا إلا مجازا، وإنما يكون
حقيقة بعد وجود ما يسمى بيعا وأكلا، وينبغي أن لا يشترط في
الإطلاق تمام الفعل، ولهذا قال ابن مالك: المراد بالحال ما
قارن وجود لفظه لوجود جزء من معناه، كقولك: هذا زيد يكتب،
فيكتب مضارع بمعنى الحال ووجود لفظه مقارن لوجود بعض الكتابة
لا لجميعها، لا ما يعتقده كثير من الناس أن الحال هو المقارن
وجود معناه لوجود لفظه، لأن مدة وجود اللفظ لا تتسع لوجود معنى
الفعل، وإنما عبر بالحال عن اللفظ الدال على الجميع لاتصال
أجزاء الكلمة بعضها ببعض.
[التنبيه] الثاني
نقل الإجماع على أنه مجاز باعتبار المستقبل فيه نظر، فإن
الشافعي رد قول أبي حنيفة في خيار المجلس: سميا متبايعين
لشروعهما في تقرير الثمن والمبادلة.
فقال الشافعي: لا يسميان متبايعين بل متساومين، ولهذا لو قال:
امرأته طالق إن كنا متبايعين، وكانا متساومين لا يحنث، لأنه لم
يوجد التبايع.
والتحقيق : أن اسم الفاعل له مدلولان:
أحدهما : أن يسلب الدلالة على الزمان، فلا يشعر بتجدد ولا حدوث
نحوه
(1/464)
قولهم: سيفه قطوع، وزيد صارع مصر، أي: شأنه
ذلك، فهذا حقيقة، لأن المجاز يصح نفيه، ولا يصح أن يقال في
السيف: ليس بقطوع.
والثاني : أن يقصد الفعل في المستقبل. فإن لم يتغير الفاعل
كأفعال الله سبحانه من الخلق والرزق فإنه يوصف في الأزل
بالخالق والرازق حقيقة، وإن قلنا: إن صفات الفعل حادثة وإن كان
يتغير فهو موضع المسألة.
وكان بعض الفضلاء يقول: مقتضى قول ابن سينا وغيره من المنطقيين
أنه باعتبار المستقبل، حقيقة أيضا لقولهم: إذا قلنا: كل إنسان
حيوان، فمعناه كل ما هو إنسان في الحال أو قبله أو بعده فهو
حيوان.
وأجاب بعضهم بأنه لا تعارض بل معنى قولهم: إن الحكم على مسمى
الإنسان ومسمى الإنسان، أعم من أن يكون ماضيا أو حاضرا أو
مستقبلا، وهو حقيقة في الأحوال الثلاثة، لأنه مستعمل فيما وضع
له، لأنا لما أطلقنا اللفظ ما أردنا به إلا ذلك المعنى، وهذا
مرادنا بقولنا: إن إطلاق اللفظ باعتبار الحال حقيقة، أي: إذا
أريد منه الحال التي فيها كذلك وإن أطلق الإنسان مثلا على
النطفة أو الطين باعتبار ما سيصير إليه فهذا مجاز، لأنه أريد
به غير مسمى الإنسان لعلاقة بينه وبين مسماه، وكذلك إذا أطلق
عليه بعد خروجه عن الإنسانية، وأريد تلك الخارجة، وهو المنقول
فيه الخلاف عن ابن سينا.
[التنبيه] الثالث
أن في نقل الخلاف عن ابن سينا وأبي هاشم في هذه المسألة نظرا،
بينه الأصفهاني في شرح المحصول. أما ابن سينا فلا يوجد له
موضوع في أصول الفقه ولا في العربية حتى يؤخذ خلافه منهما ;.
نعم، قال: إن الاصطلاح في علم المنطق أن قولنا: كل ج ب أنا لا
نعني به ما هو ج دائما. أو في الحال أو في وقت معين، بل ما هو
أعم من ذلك، وهو أنه ما صدق عليه أنه ج سواء كان في ذلك الماضي
أو المستقبل أو الحال دائما أو غير دائم، فهذا ما اصطلح عليه،
فعلى هذا إذا قيل: الضارب متحرك، لا يلزم أن يكون ذلك حكما على
الضارب في الحال، بل على ما صدق عليه الضارب سواء كان ذلك
الصدق في الماضي أو المستقبل أو الحال، ومن المعلوم أن
الاصطلاحات لا مناقشة فيها. ولا يلزم من الاصطلاح المنطقي أن
يكون موافقا للأوضاع اللغوية العربية إلا إذا ادعى صاحب
الإصلاح الموافقة، وابن سينا وغيره
(1/465)
من المنطقيين يدعون ذلك، على أن الرازي في
كتبه المنطقية قد وافق ابن سينا في هذا الاصطلاح، وأما ما نقل
عن أبي هاشم ففيه بحث أيضا، لأنه نقل عنه في المسألة السالفة
أنه يجوز صدق المشتق بدون ما منه الاشتقاق، فكيف يستقيم منه أن
يشترط في صدق المشتق أن يقوم به ما منه الاشتقاق؟ وذلك تناقض
ظاهر لأن الإمام يقول: إن الضارب لا يصدق حقيقة إلا في حال
صدور الضرب من الضارب، وأبو هاشم يقول: يكفي في صدق الضارب
حقيقة أن يكون الضرب وجد في الوجود وانقضى، فإن لم يكن وجد
أصلا فلا يقول بصدق الضارب حقيقة، فيلزمه التناقض، إلا أن
يقال: إن ما نقل عنه أولا صورته في صفات الله تعالى خاصة بخلاف
غيرها من المشتقات فحينئذ ينتظم الكلام، لكن الإمام جعل
المسألتين من حيث اللغة.
[التنبيه] الرابع
أطلقوا الخلاف في المسألة، وقضية كلام الإمام وغيره أن الخلاف
لا يجري في الصفات القارة المحسوسة كالبياض والسواد، لأنا على
قطع بأن اللغوي لا يطلق على الأبيض بعد اسوداده أنه أبيض.
وقال الإمام في المسألة: لا يصح أن يقال: إنه نائم باعتبار
النوم السابق، وادعى الآمدي فيه الإجماع، وإنما الخلاف في
الضرب ونحوه من الأفعال المنقضية، فإطلاق المشتق على محلها من
باب الأحكام، فلا يبعد إطلاقه حال خلوه عن مفهومه، لأنه أمر
حكمي.
وقال القرافي أيضا: محله إذا كان المشتق محكوما به، كقولك: زيد
مشرك أو زان أو سارق، فإن كان محكوما عليه كقولك السارق تقطع
يده، فإنه حقيقة مطلقا فيمن اتصف به في الماضي والحال
والاستقبال قال: ولولا ذلك لأشكل القطع والجلد، لأن هذه
الأزمنة: الماضي، والحال، والاستقبال، إنما هي بحسب زمن إطلاق
اللفظ المشتق، فتكون الآيات المذكورة ونظائرها مجازات باعتبار
من اتصف بهذه الصفات في زماننا، لأنهم في المستقبل غير زمن
الخطاب عند النزول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
مخلص عن هذا الإشكال إلا بما سبق.
قال: فالله تعالى لم يحكم في تلك الآيات بشرك واحد ولا زناه،
وإنما حكم بالقتل والجلد وغيرهما، والموصوف بتلك الصفات يعم
متعلق هذه الأحكام. هذا ما ذكره القرافي، وكان يستشكل ذلك،
وكان من في زمانه من الفضلاء يتخبطون معه في
(1/466)
ذلك، ولم يوفقوا للصواب فيه.
وقال بعضهم: إنه مندفع بدون هذا فإن المجاز وإن كان الأصل عدمه
إلا أن الإجماع منعقد على أن المتصفين بهذه الصفات بعد ورود
هذه النصوص يتناولهم، وتثبت تلك الأحكام فيهم.
والحق : أن هاهنا شيئين: أحدهما : إطلاق اللفظ وإرادة المعنى
من غير تعرض لزمان، كقولنا: الخمر حرام، فهذا اللفظ صادق سواء
كانت الخمرة موجودة أم لا. وإطلاق الخمر في هذه القضية حقيقة،
لأنه لم يقصد غير معناه، والحكم عليه بالتحريم بالنسبة إلى
حالة اتصافه بالخمرية لا قبله ولا بعده، فلا مجاز في ذلك،
وكذلك قولنا: القاتل مقتول، ونحوه، ومنه قوله تعالى
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [سورة النور: 2]
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [سورة المائدة: 38]
وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: 5] وغير
ذلك من النصوص، والحكم في ذلك على من اتصف بالزنى والسرقة
والشرك ونحوها حاضرا كان أو مستقبلا، ولم يقصد بالزاني إلا من
اتصف بالزنى حين زناه، وكذلك باقيها.
الثاني : إطلاقه باعتبار ما كان عليه فهو مجاز، وهو موضع
الخلاف.
قال الشيخ الإمام أبو الحسن السبكي: وإنما الوهم سرى للقرافي
قوله: بأن الماضي والحال والاستقبال بحسب زمن إطلاق اللفظ،
فحصل بذلك ما قاله من الإشكال، ولا ينجيه ما أجاب به، والقاعدة
صحيحة في نفسها ولكن لم يفهموها حق فهمها.
قال: وهاهنا أمور:
أحدها : أن اسم الفاعل والمفعول ونحوهما إنما دل على شخص متصف
بالمصدر المشتق منه، فضارب مدلوله شخص متصف بضرب صادر منه، ولا
تعرض له لزمان كما هو شأن الأسماء كلها، وإذا لم يدل على
الزمان الأعم من الحال فلأن لا يدل على الحال الأخص منه أولى،
فكيف يكون حقيقة فيه؟ وأعني بالحال هنا زمن إطلاق اللفظ، فمن
ظن أن اسم الفاعل يدل على ذلك فقد أخطأ، وإنما التبس على بعض
المبتدئين ذلك من جهة أنهم يفهمون من قولنا: زيد ضارب أنه ضارب
في الحال، واعتقدوا أن هذا لدلالة اسم الفاعل عليه.
وهذا باطل لأنك تقول: هذا حجر، وتريد إنسانا فيفهم منه الحال
أيضا مع أن الحجر والإنسان لا دلالة لهما على الزمان.
(1/467)
مسألة: [الاشتقاق من المعنى القائم بالشيء]
في المعنى القائم بالشيء هل يجب أن يشتق لمحله منه اسم؟ قال
الرازي: إن لم يكن لذلك المعنى اسم كأنواع الروائح والآلام
استحال أن يشتق لمحله منه اسم بالضرورة، وإن كان له اسم ففيه
مقامان:
أحدها : هل يجب أن يشتق اسم لها منها؟.
الظاهر من مذهب أئمتنا المتكلمين وجوبه، فإن المعتزلة لما
قالوا: إن الله يخلق كلامه في جسم. قال أصحابنا لهم: لو كان
كذلك لوجب أن يشتق من ذلك اسم المتكلم من ذلك الكلام، وعند
المعتزلة غير واجب.
وثانيهما : أنه إذا لم يشتق لمحله منه اسم، فهل يجوز أن يشتق
لغير ذلك المحل منه اسم؟ فعند أصحابنا: لا، وعند المعتزلة نعم،
لأن الله تعالى يسمى متكلما بالاتفاق، وهو اسم مشتق من الكلام.
ثم إن الأشاعرة أطلقوا على الله ما منه الاشتقاق قائم بذاته
الكريمة، وهو الكلام النفسي، ولا يطلقون ذلك على من لم يقم به
الكلام النفسي، وأما المعتزلة فإنهم يطلقون اسم المتكلم على
الله باعتبار خلقه للكلام في اللوح أو في غيره، ولا يعترفون
بالكلام النفسي، فإذن اسم المتكلم صادق على الله، ولم يقم بذات
الله الكلام، ويسمى متكلما، وما قام به لا يسمى متكلما.
هذا حاصل ما قاله، ثم إنه مال إلى مذهب المعتزلة، وقال ليس من
شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق. إذ الكي والحداد
ونحوهما مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق.
ورد ما قاله بأن الأصحاب إنما ادعوا ذلك في المشتقات من
المصادر التي هي أسماء المعاني وما ذكره مشتق من الزوائد
وأسماء الأعيان فلا يرد عليهم.
وقال القرافي: هذه الأشياء أجسام، والكلام في المعاني لا في
الأجسام، وهذا يوجب تخصيص المسألة بالمصادر ذات المعاني.
وقال الجزري: إن النقص بهذه إنما ورد على قول الأصحاب: إن
المعنى إذا لم
(1/471)
يقم بالمحل لم يشتق له منه اسم، فقيل: هذه
الأشياء لم تقم بمحالها، وقد اشتق منها أسماء. وإنما كان كذلك،
لأن الأجسام لا لبس في عدم قيامها بمحال الأسماء، ولا كانت
المعاني يصح قيامها بالمحال التي أخذت لها منها الأسماء فإذا
أطلقت على غير محالها التبس الأمر فيه.
قال: ولو قيل: إن المراد بهذه الأشياء إنما هي النسب، وهي
موجودة بالمحال، فمن النسبة أخذت الأسماء لا من المنتسب إليه،
كان له وجه.
قلت: وكأن كلام الأصحاب على إطلاقه.
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: ظن من لم يحصل علم هذا
الباب أن المعتزلة وصفوا الرب تعالى بكونه متكلما، وزعموا أن
كلامه مخلوق وليس هذا مذهب القوم، بل حقيقة معتقدهم: أن الكلام
فعل من أفعال الله كخلقه الجواهر وأعراضها، فلا يرجع إلى
حقيقته وجود حكم من أحكام الكلام، فمحصول أصلهم: أنه ليس لله
كلام، وليس قائلا آمرا ناهيا، وإنما يخلق أصواتا في جسم من
الأجسام دال على إرادته. ا هـ.
وعلى هذا فتنسلخ هذه المسألة من هذا الطراز، ولننبه أن هذه
المسألة هكذا من بحث اللغات لم تنقل عن المعتزلة، ثم لا يمكنهم
اطراد ذلك في كل موضع وإلا لكان جهلا بالموضوعات اللغوية
وخروجا عن العقل، وإنما ألجأهم إلى القول به هنا أن الكلام
النفسي عندهم مستحيل، واللفظي كذلك، وإلا لزم أن يكون ذاته
محلا للحوادث، والاتفاق على أنه سبحانه وتعالى متكلم، فاحتاجوا
إلى أن قالوا: سمي متكلما، لكونه يخلق الكلام في جسم، أخذ من
اعتقادهم هذا جواز اشتقاق الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره،
والحق: أن ذلك غير لازم، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فلا ينبغي
أن تورد المسألة هكذا.
فائدة
قد يخرج على قولهم لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره:
ما لو حلف لا يفعل كذا، فوكل من يفعله لا يحنث، لأن الفعل لم
يقع منه فلا يسمى فاعلا، وكذا لو وكل بالبيع والطلاق ثم قال:
والله، لست ببائع ولا مطلق هل يحنث؟
(1/472)
مسألة: [دلالة الأسماء المشتقة]
الأسماء المشتقة لا تدل على خصوصيات الذوات التي قامت تلك
المعاني بها، بل على اتصافها بالمصدر، فإذن قولنا: أسود يدل
على شيء ما له السواد. أي: القدر المشترك بين الموجودات، وأما
أن ذلك الشيء جسم فلا يدل ذلك من اللفظ، بل بدلالة العقل أن
السواد لا يقوم إلا بجسم فدل على الجسمية بطريق الالتزام لا
بطريق المطابقة والتضمن، فنقول: ضارب يدل على قيام الضرب بذات،
وأما أنها إنسان أو حيوان أو غيرهما فلا، والله أعلم بالصواب.
مسألة
قال الصفار في شرح سيبويه: المشتقات بالاستقرار تدل على ما يدل
عليه المشتق منه وزيادة، وتلك الزيادة فائدة الاشتقاق نحو أحمر
يدل على الحمرة وعلى الشخص، وكذلك ضارب يدل على الضرب وعلى
الشخص، ولهذا قال البصريون: إن الفعل مشتق من المصدر، لأن
الفعل يدل على ما يدل عليه المصدر وزيادة وهو الزمان، وخلاف
الكوفيين يدل على مخالفتهم هذا الأصل.
(1/473)
|