البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

مباحث الترادف
مسألة: في وقوعه مذاهب
...
مباحث الترادف
وهو مشتق من مرادفة البهيمة، وهي حملها اثنين أو أكثر على ظهرها وردفها. وفي الاصطلاح: هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. واحترز بالمفردة عن دلالة الاسم والحد، فإنهما يدلان على شيء واحد، وليسا مترادفين، لأن الحد مركب. وخرج باعتبار واحد المتزايلان كالسيف والصارم، فإن مدلولهما واحد، ولكن باعتبارين، وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى
في وقوعه مذاهب:
أحدها : أنه واقع مطلقا، وهو الصحيح من لغة واحدة ومن لغتين وبحسب الشرع، كالفرض والواجب عندنا، وبحسب العرف.
الثاني : المنع مطلقا، لأن وضع اللفظين لمعنى واحد عي يجل الواضع عنه، وكل ما ادعي فيه الترادف، فإن بين معنيهما تواصلا لأنهم يعتبرون الاشتقاق الأكبر، واختاره أبو الحسين بن فارس في كتابه فقه اللغة وحكاه عن شيخه ثعلب، وقال ابن سيده في المخصص: كان محمد بن السري يعني ابن السراج يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب منعه، ولا يخلو إما أن يكون منعه سماعا أو قياسا، لا يجوز أن يكون سماعا فإن كتب العلماء باللغة ونقلها طافحة به في تصنيفه كتاب "الألفاظ".
فإن قال: في كل لفظة معنى ليس في الأخرى كما في مضى وذهب، قيل: نحن نوجد له ما لا تجد بدا من أن تقول: إنه لا زيادة معنى في واحدة منها دون الأخرى وذلك نحو الكتابات.
ألا ترى أن قولك: ضربك وما ضرب إلا إياك، وجئتني وما جاءني إلا أنت. ونحوه يفهم من كل لفظة ما يفهم من الأخرى من الغيبة والخطاب والإضمار والموضع من الإعراب لا زيادة في ذلك، فإذا جاز في شيء وشيئين وثلاثة جاز فيما زاد على ذلك.
وصنف الزجاج كتابا ذكر فيه الترادف وكتابا ذكر فيه اشتقاق الأسماء، وصنف أبو هلال العسكري مصنفا آخر منع فيه الترادف وسماه "الفروق".
قال: وإليه ذهب المحققون من العلماء، وإليه أشار المبرد في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [سورة المائدة: 48] قال: فعطف منهاجا على شرعة

(1/474)


لأن الشرعة لأول الشيء والمنهاج لعظيمه ومتسعه، واستشهد بقولهم: شرع فلان في كذا إذا ابتدأه، وأنهج البلاء في الثوب إذا اتسع فيه. قال أبو هلال: وقال بعض النحويين: لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين حتى تضامه علامة لكل واحد منهما، وإلا أشكل، فالتبس على المخاطب، فكما لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين لا يجوز أن يكون اللفظان يدلان على معنى واحد، لأن فيه تكثيرا للغة بما لا فائدة فيه.
وقال المحققون من أهل العربية: لا يجوز أن تختلف الحركات في الكلمتين ومعناهما واحد. قالوا: فإذا كان الرجل عنده الشيء قيل فيه: مفعل كمرحم ومحرب، وإذا كان قويا على الفعل قيل: فعول كصبور وشكور، فإذا تكرر منه الفعل قيل: فعال كعلام وجبار، وإذا كان عادة له قيل: مفعال كمعوان ومعطاف، ومن لا يحقق المعاني يظن أنها مترادفة، ولهذا قال المحققون: إن حروف الجر لا تتعاقب، حتى قال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكم فيها، لأنها إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها، ووقع كل واحد منها بمعنى الآخر، فأوجب أن يكون لفظان مختلفان بمعنى واحد، والمحققون يأبونه. هذا كلامه.
وممن اختار ذلك من المتأخرين الجويني في الينابيع، وقال: أكثر ما يظن أنه من المترادف ليس كذلك، بل اللفظان موضوعان لمعنيين مختلفين، لكن وجه الخلاف خفي.
والثالث : يقع في اللغة لا في الأسماء الشرعية، وإليه ذهب في المحصول فقال في آخر مسألة الحقيقة الشرعية بعدما ذكر وقوع الأسماء المشتركة: وأما الترادف فالأظهر أنه لم يوجد، لأنه يثبت على خلاف الأصل فيقدر بقدر الحاجة. ا هـ.
هذا والإمام نفسه ممن يقول بأن الفرض والواجب مترادفان، والسنة والتطوع، ثم الخلاف في اللغة الواحدة. أما اللغتان فلا ينكرهما أحد، قاله الأصفهاني.
قلت: ونص عليه العسكري، وهو ممن ينكر أصل الترادف، فقال: لا يجوز أن يكون فعل و أفعل بمعنى واحد، كما لا يكونان على بناء واحد، إلا أن يجيء ذلك في لغتين، وأما في لغة فمحال، فقولك: سقيت الرجل يفيد أنك أعطيته ما يشربه أو صببته في حلقه، وأسقيته يفيد أنك جعلت له سقيا أو حظا من الماء وقولك: شرقت الشمس يفيد خلاف غربت، وأشرقت يفيد أنها صارت ذات إشراق. انتهى.

(1/475)


مسألة: [هل وقع في القرآن ترادف؟]
إذا قلنا بوقوعه في اللغة، فهل وقع في القرآن؟
نقل عن الأستاذ أبي إسحاق المنع، كذا رأيته في أول شرح الإرشاد لأبي إسحاق بن دهاق الشهير بابن المرآة. فقال: ذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى منع ترادف اسمين في كتاب الله تعالى على مسمى واحد، فقال في قوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [سورة: 24] إنه بمعنى المعدل من قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
فمعناه يمضي ويقطع ما قدرت من غير توقف، وصفه بحصافة العقل وجودة الرأي. ا هـ.
وهذا هو ظاهر كلام المبرد وغيره ممن أبدى لكل معنى، والصحيح: الوقوع، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [سورة النحل: 36] وفي موضع {أَرْسَلْنَا} [سورة الصافات: 72] وهو كثير.

(1/476)


مسألة: في سبب الترادف
وهو إما أن يكون من واضعين وهو السبب الأكثر كما قاله الإمام ويلتبس، وإما من واضع واحد وله فوائد منها: التوسعة، لتكثير الطرق على التعبير عن المعاني المطلوبة، ولهذا يجتنب واصل بن عطاء اللفظة التي فيها الراء للثغته حتى كأن الراء ليست عنده من حروف المعجم، ومنها: تيسير النظم للروي، والنثر للزنة والتجنيس والمطابقة.

(1/476)


مسألة: [الترادف خلاف الأصل]
الترادف خلاف الأصل فإذا دار اللفظ بين كونه مترادفا أو متباينا فحمله على المتباين أولى، لأن القصد الإفهام فمتى حصل بالواحد لم يحتج إلى الأكثر، لئلا يلزم تعريف المعرف، ولأنه يوجب المشقة في حفظ تلك الألفاظ. واعلم أنه في المحصول حكى خلافا في أن المترادف خلاف الأصل والأصل عدم الترادف، وذكر الحجة السابقة

(1/476)


مسألة: إطلاق كل واحد من المترادفين على الآخر
المترادفان يصح إطلاق كل واحد منهما مكان الآخر، لأنه لازم لمعنى المترادفين، ولا خلاف في هذا وإنما الخلاف في حال التركيب على ما يدل عليه كلام ابن الحاجب في المنتهى والبيضاوي أي: إذا صح النطق بأحدهما في تركيب يلزم أن يصح النطق فيه بالآخر، اختلفوا فيه، وهو معنى قول المحصول، يجب صحة إقامته مقامه وفيه ثلاث مذاهب:
أصحها : عند ابن الحاجب اللزوم، لأن المقصود من التركيب إنما هو المعنى دون اللفظ، فإذا صح النطق مع أحد اللفظين وجب بالضرورة أن يصح مع اللفظ الآخر.
قال الإمام الرازي: إنه الأظهر في أول النظر، وعلله بعضهم بأن التركيب من عوارض المعاني دون الألفاظ، فإذا صح تألف المعنى مع المعنى فلا نظر إلى التعبير عنه بأي لفظة كانت، ومقتضى ذلك: أنه إذا لم يصح التأليف لا يجوز، كما في صلى ودعا، فإن أئمة اللغة قالوا: إنهما مترادفان مع أنه لم يقم أحد المترادفين مقام الآخر، فإنه يجوز أن يقال: صلى عليه فتركب صلى مع لفظة على في طلب الخير للمدعو له، ولو ركبتها مع دعا فقلت: دعا عليه لم يصح، وانعكس المعنى للشر. قاله القرافي وغيره.
وفيه نظر، لأن كلا من صلى ودعا مشترك بين معان، والصلاة من الله ليست بالدعاء بل هي المغفرة، فمعنى صلى الله على زيد غفر له، غير أن التعدية مختلفة، فأتى في الصلاة بعلى مبالغة في استعلاء الفعل على المفعول.
والثاني : أنه غير لازم واختاره في الحاصل و التحصيل، وقال في المحصول: إنه الحق، لأن صحة الضم قد تكون من عوارض الألفاظ أيضا، لأنه

(1/477)


يصح قولك: خرجت من الدار، مع أنك لو أبدلت لفظة من وحدها بمرادفها بالفارسية لم يجز.
قال: وإذا قلنا ذلك في لغتين لم يمتنع وقوع مثله في اللغة الواحدة.
والثالث : التفصيل بين أن يكون من لغة واحدة فيصح وإلا فلا، واختاره البيضاوي والهندي، وقال: هذا القول وإن لم يلف صريحا لكن يلفى ضمنا في كلامهم.
وقال النقشواني: الصحيح أن اللغة الواحدة فيها تفصيل، فإنه إن لم يكن المقصود إلا مجرد الفهم قام أحد المترادفين مقام الآخر، وإن كان المقصود قافية القصيدة وروي الشعر وأنواع الجناس فلا يقوم أحدهما مقام الآخر، فإنه قد يكون ذلك موجودا في البر دون القمح.
واعلم أنه في المحصول نصب الخلاف في وجوب إقامة كل منهما مقام الآخر.
قال الأصفهاني: ومراده بالوجوب اللزوم، بمعنى أن من لوازم صحة انضمام المعاني صحة انضمام الألفاظ الدالة عليها، واختار أن جواز تبديل أحدهما بالآخر غير لازم، وعلى هذا فمن نقل عن الإمام اختيار المنع مطلقا ليس بجيد، وكلام ابن الحاجب في المنتهى يقتضي أن الخلاف في الجواز حيث لم يتغير المعنى، فإن تغير به فلا يجوز قطعا، ولا شك فيه، وكلامه في المختصر صريح في أن الخلاف إنما هو في تبديل بعض الألفاظ المركبة دون البعض، ولهذا مثل بـ"خداي أكبر".
قال: وأجيب، بالفرق باختلاط اللغتين، فأرشد إلى أن علة المنع قاصرة على ترجمة بعض المركب لا كله أما تبديل ألفاظ المتكلم كلها ألفاظا من غير لغته فلا شك في جوازه، وقد نقل ابن الحاجب فيه الإجماع في باب الأخبار فليتفطن له.
فإن قلت: كيف يتجه جواز تبديل الجميع بالإجماع والمنع على قول إذا بدل البعض؟.
قلت: لأن تبديل البعض جمع بين اللغتين في كلام واحد، فربما خلط على السامع، فيخل بالفهم بخلاف تبديل الجميع.
وأوضح بعض المتأخرين المسألة فقال: أحد المترادفين إما أن يستعمل مفردا أو مركبا. الحالة الأولى: الإفراد وقد نصوا على أنه لا خلاف في قيام أحد المترادفين منهما مقام الآخر؟.
قلت: منهم ابن الحاجب في المنتهى. ا هـ.

(1/478)


ولا شك أن المفرد ذو الترادف له أحوال:
الأول : أن يقصد المتكلم به عند تعداد المفردات حيث لا إعراب ولا بناء كقوله: أسد، عين، حنطة، فهو مخير في النطق بأي اللفظين شاء بلا إشكال من ليث أو مقلة أو بر.
الثاني : أن يتكلم زيد بالمفرد، فيريد أن يحكيه فيقول: قال زيد: أسد، ويكون إنما قال: ليث.
الثالث : أن يأمرك زيد بأن تقول: ليث، فتقول: أسد فهاتان الصورتان من قسم المفرد، وللنزاع فيها مجال عند تعين حكاية اللفظ لا. سيما إن منعنا النقل بالمعنى، ويحتمل الجواز بمرادفه، لأن ذلك لعله خاص بحكاية كلامه صلى الله عليه وسلم، وكذلك في صورة الأمر يحتمل الامتثال بالمرادف وإلا قلت: قد صرح الفقهاء فيما إذا قال القاضي له: قل: بالله، فقال: بالرحمن أنه لا يكون نكولا وفي المكره لو قال له: قل أنت طالق فقال: بائن، إنه يكون اختيارا، وحينئذ فإطلاق الإجماع على المفرد ممنوع.
[المركب]:
وأما المركب فله أحوال:
أحدها : أن يقصد المتكلم النطق فينطق كيف يشاء، وليس، ذلك موضوع المسألة.
الثاني : أن يكون حكاية ويبدل بألفاظ المتكلم كلها ألفاظا من غير لغته فهو جائز بالإجماع كما قاله ابن الحاجب في باب الأخبار.
الثالث : أن يبدل كلها بألفاظ مترادفة من لغتها مثل أن يقال: حضر الأسد. فيقال: قال زيد: جاء الليث، والظاهر أن هذا ليس محل النزاع، لأن صاحب المحصول ممن اختار أنه لا يقام أحد المترادفين مقام الآخر مع جزمه بجواز الرواية بالمعنى بغير المترادف فضلا عن المترادف.
الرابع : أن يكون في امتثال الأمر، كأن يقول زيد: قل: جاء الأسد، فيقول: حضر الليث، أو يعبر عنه بالعجمية، فيحتمل المنع، لاحتمال أن المقصود اللفظ، ويحتمل الجواز إلا حيث تعبدنا باللفظ، كتكبيرة الإحرام وغيرها.
الخامس : أن يبدل بعض ألفاظ المركب دون بعض كأن يقول حضر الأسد مكان حضر الليث وكذلك خداي أكبر في غير الصلاة، فهذا موضع النزاع. هذا

(1/479)


كلام الأصوليين. وأما الفقهاء فالصحيح عندهم جواز إقامة كل من المترادفين مختلفي اللغة مقام الآخر فيما يشترط فيه الألفاظ كعقود البياعات وغيرها، وأما ما وقع النظر في أن التعبد هل وقع بلفظة؟ فليس من هذا الباب، لأن المانع إذ ذاك من إقامة أحد المترادفين مختلفي اللغة مقام الآخر ليس لأنه لا يصح ذلك، بل لما وقع من التعبد بجوهر لفظه كالخلاف في أن لفظ النكاح هل ينعقد بالعجمية وأنظاره؟ وجعل إمام الحرمين في النهاية في باب النكاح للألفاظ ست مراتب:
الأول : قراءة القرآن فلفظه متعين.
الثاني : ما تعبدنا بلفظه وإن كان الغرض الأكبر معناه كالتكبير والتشهد.
الثالث : لفظ النكاح، ترددوا هل المرعي فيه التعبد وإنما تعينت ألفاظه لحاجة الإشهاد؟ ويلزم على الثاني أن أهل قطر لو تواطئوا على لفظ في إرادة النكاح ينعقد به.
الرابع : الطلاق.
الخامس : العقود سوى النكاح.
السادس : ما لا يحتاج إلى قبول كالإبراء والفسخ.

(1/480)


مسألة: [اللغات ما عدا العربية سواء]
اللغات ما عدا العربية سواء على الأصح، ومن فروعها أن من لم يطاوعه لسانه على التكبير في الصلاة ترجم. قال في الحاوي: إذا لم يحسن العربية وأحسن الفارسية والسريانية فثلاثة أوجه:
أحدها : يكبر بالفارسية، لأنها أقرب اللغات إلى العربية.
والثاني : بالسريانية لشرفها بإنزال كتاب لها.
والثالث : يتخير بينهما. فإن أحسن التركية والفارسية فهل تتعين الفارسية أو يتخير؟ وجهان. وإن أحسن التركية والهندية يتخير بلا خلاف.
قال الشاشي: وهذا التخريج فاسد، فإن اللغات بعد العربية سواء، وإنما اختصت العربية بذلك تعبدا.

(1/480)


مسألة: [ترادف الحد والمحدود]
قيل: الحد والمحدود مترادفان والصحيح: تغايرهما، لأن المحدود يدل على الماهية من حيث هي، والحد يدل عليها باعتبار دلالته على أجزائها، فالاعتباران مختلفان.
وقال القرافي: الحد غير المحدود إن أريد به اللفظ، ونفسه إن أريد به المعنى، فلفظ الحيوان الناطق الذي وقع الحد به هو الإنسان قطعا، ومدلول هذا اللفظ هو غير الإنسان.
والتحقيق: أن الحد والمحدود إن لم يتحدا في الذات كذب الحد ولم يكن حدا، وإن اتحدا صدق الحد، وليس هو المحدود، لاختلاف الجهة، ونظيره قول النحويين: يجب اتحاد الخبر بالمبتدأ وإلا لم يكن خبرا، ولا ينبغي أن يكون هو هو من كل وجه، وإلا لم يكن كلاما ألبتة، فإن قولك: زيد زيد إذا لم يقدر زيد الثاني بمعنى يزيد على الأول كان مهملا، والفائدة في الخبر مع الاتحاد تنزيل الكلي على الجزئي، فإن هذا اسم إشارة، فيطلق على كل مشار إليه، سواء زيد وغيره فلما حملناه على زيد جاءت الفائدة.

(1/481)


مسألة: [الإتباع]
من كلامهم الإتباع وهو أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها أو رويها إتباعا وتوكيدا. قال ابن فارس: وقد شارك العجم العرب في هذا، وهو يشبه أسماء المترادف من حيث إنهما اسمان وضعا لمسمى واحد، ويشبه أسماء التوكيد من حيث إنها تفيد تقوية الأول غير أن التابع وحده لا يفيد، بل شرط إفادته تقدم المتبوع عليه، وصنف فيه ابن خالويه كتابا سماه الإتباع والألباب وأبو الطيب عبد الواحد اللغوي أيضا، وأبو الحسين بن فارس وغيرهم.
قيل: إنهما مترادفان والصحيح: المنع، لأن التابع لا يدل على ما يدل عليه المتبوع إلا بتبعية الأول، وإذا قطع عنه لا يدل على شيء أصلا. بخلاف المترادف،

(1/481)


فإن كل واحد منهما يدل على ما يدل عليه الآخر وحده. قال ابن الأعرابي: قلت لأبي المكارم: ما قولكم في جامع تابع؟ قال: إنما هو شيء نتد به كلامنا أي: نؤكد به.
قال بعض اللغويين: ولم يسمع الإتباع في أكثر من خمسة، وهي قولهم: كثير بتير عمير برير بجير بدير، وقيل: مجير بالميم، فأما الاثنان والثلاثة فكثير. قالوا: حسن بسن مسن، وجار بار حار.
وسمى أبو الطيب كتابه "بالإتباع والتوكيد" قال: وإنما قرنا الإتباع بالتوكيد، وإن كان كل إتباع توكيدا، وكل توكيد إتباعا في المعنى، لأن أهل اللغة اختلفوا فيهما، فمنهم من جعلهما واحدا، وأجاز أكثرهم الفرق، فجعلوا الإتباع ما لا يدخل عليه الواو نحو قولهم: عطشان نطشان، وشيطان ليطان، والتوكيد ما دخل عليه الواو نحو قولهم: هو في حل وبل، وأخذ في كل حسن وسن.
قال: ونحن نذهب بتوفيق الله إلى أن إتباع ما لا يختص بمعنى يمكن إفراده، والتوكيد ما اختص بمعنى وجاز إفراده به، ويدل لهذا قولهم: هذا جائع فائع، فهو عندهم إتباع، ثم يقولون في الدعاء على الإنسان جوعا وبوعا، فيدخلون الواو وهو مع ذلك إتباع، إذ كان محالا أن تكون الكلمة مرة إتباعا ومرة غير إتباع، فقد وضح أن الاعتبار ليس بالواو. ا هـ.
ومنهم من فرق بينهما بأن التابع شرطه أن يكون على زنة المتبوع بخلاف التوكيد. قاله الآمدي وكأنه أخذه من الاستقراء، فإنه لم ينقل إلا كذلك.
قال الآمدي: التابع قد لا يفيد معنى أصلا، ولهذا قال ابن دريد: سألت أبا حاتم عن معنى قولهم: بسن في قولهم: حسن بسن، فقال: لا أدري ما هو، والتحقيق أن التابع يفيد التقوية، فإن العرب لم تضعه عبثا.
فإن قلت: فصار كالتأكيد، لأنه أيضا إنما يفيد التقوية.
قلت: التأكيد يفيد مع التقوية نفي احتمال المجاز.
وقال ابن الدهان النحوي في الغرة: اختلف في الإتباع فذهب الأكثرون إلى أنه في حكم التأكيد الأول، لأنه غير مبني لمعنى في نفسه بنفسه كأكتع وأبصع مع أجمع، فكما لا ينطق بأكتع بغير أجمع، فكذا هذه الألفاظ مع ما قبلها، ولهذا المعنى كررت بعض حروفها في مثل حسن بسن، كما قيل: في أكتع وأبصع مع أجمع.
وزعم قوم أن التأكيد غير الإتباع، واختلفوا في الفرق فقيل: الإتباع ما لم يحسن فيه واو العطف كقولك: حسن بسن، والتأكيد يحسن، فيه نحو حل وبل،

(1/482)


وقيل الإتباع يكون للكلمة، ولا معنى لها غير التبعية. فلا يجوز على هذا أن يسمى تابع تابعا.
قلت: وقيل: التأكيد يدل على معنى في الجملة، وهو تقوية مدلول اللفظ السابق كيف كان، والتابع إنما يذكر بعد الاسم الأول.
وقال الآمدي: إن التابع لم يوضع لمسمى في نفسه، ويشهد لما نقله ابن الدهان عن الأكثرين عن ابن الأعرابي من قولهم: هو شيء نتد به كلامنا، أي: نقويه، ولا معنى للتأكيد إلا هذا.
وقال أبو عمرو محمد بن عبد الواحد في كتاب فائت الجمهرة: سمعت المبرد وثعلبا يقولان: الإتباع لا يكون بحرف النسق، إنما الإتباع أن يقول: حل بل وشيطان ليطان فأما قول العباس: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل، أي حلال ومباح، لأنه ليس كل حلال مباحا لأن أكل الرطب حلال، وليس بمباح حتى يشتريه أو يستوهبه ا هـ وهذا فرق غريب.

(1/483)


مسألة: [التأكيد واقع في اللغة]
التأكيد واقع في اللغة، وحكى الطرطوشي في العمدة عن قوم إنكاره قال: ومن أنكره فهو مكابر، إذ لولا وجوده لم يكن لتسميته تأكيدا فائدة، فإن الاسم لا يوضع إلا لمسمى معلوم، وكذلك وقع في القرآن والسنة وأنكرت الملاحدة الثاني، وظاهر كلام المحصول وغيره أن خلافهم في الأول أيضا، وهو ممنوع، فإنهم حكموا بكونه في لسان العرب لنوع من القصور عن تأدية ما في النفس، فاحتيج إلى التأكيد، والله تعالى غني عن ذلك، وضلوا من حيث جهلوا، لأن القرآن نزل بلغة العرب ومنوال كلامهم، وهو من محاسن الكلام.
وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى: هل التأكيد حقيقة أم مجاز]
إذا ثبت وقوعه لغة فهو حقيقة وزعم قوم أنه مجاز لأنه لا يفيد إلا ما أفاده المذكور الأول حكاه الطرطوشي. ثم قال: ومن سمى التأكيد مجازا فيقال له: إذا كان

(1/483)


التأكيد بلفظ الأول نحو عجل عجل، ونحوه فإن جاز أن يكون الثاني مجازا كان الأول كذلك، لأنهما لفظ واحد على، معنى واحد، وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه، لأنه مثله.
[المسألة] الثانية: [التأكيد على خلاف الأصل]
أنه على خلاف الأصل فلا يحمل اللفظ عليه إلا عند تعذر حمله على فائدة مجددة، وهو معنى قولهم: إذا دار اللفظ بين حمله على التأسيس أو التأكيد فالتأسيس أولى، لأنه أكثر فائدة.
[المسألة] الثالثة
أنه يكتفي في تلك الفائدة بأي معنى كان، وشرط الطرطوشي كونها من مقتضى اللسان فحذا بها حذو اللفظ. قال: ولا يجوز حمله على فائدة يخرجها الفقهاء ليست من مقتضى لسان العرب، لأن ذلك وضع لغة عليهم، وما قاله ضعيف، لأن المفهوم من دلالة اللفظ ليس من باب اللفظ حتى يلتزم فيه أحكام اللفظ.
[المسألة] الرابعة: [أقسام التأكيد]
ينقسم إلى لفظي ومعنوي، فاللفظي يجيء لخوف النسيان أو لعدم الإصغاء، أو للاعتناء، وهو تارة بإعادة اللفظ وتارة يقوى بمرادفه، ويكون في المفردات والمركبات. وزعم الرافعي في الطلاق أنه أعلى درجات التأكيد قال إمام الحرمين: وينبغي فيه شيئان:
أحدهما : الاحتياط بإيصال الكلام إلى فهم السامع إن فرض ذهول أو غفلة.
والثاني : إيضاح القصد إلى الكلام والإشعار بأن لسانه لم يسبق إليه، ويمثله النحويون بقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة البقرة: 21، 22] وجعلهم صفا صفا تأكيدا لفظيا مردود، فإنه ليس بتأكيد قطعا بل هو تأسيس، والمراد صفا بعد صف، ودكا بعد دك، وكذلك ألفاظه إذا كررت فكل منها بناء على حدته، والعجب منهم كيف خفي عليهم.

(1/484)


والمعنوي، وهو إما أن يختص بالمفرد كالنفس والعين وجمعاء وكتعاء، أو بالاثنين ككلا وكلتا، أو بالجمع ككل وأجمعين، وجمع وكتع. وكل وما في معناه للتجزؤ، والنفس والعين للمتشخص غير المتجزئ، وإما أن يختص بالجمل ككأن وإن وما في معناهما، وفائدته: تمكين المعنى في نفس السامع ورفع التجاوزات المتوهمة، فإن التجوز يقع في اللغة كثيرا فيطلق الشيء على أسبابه ومقدماته، فإنه يقال: ورد البرد إذا وردت أسبابه، ويطلق اسم الكل على البعض نحو {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [سورة البقرة: 197] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: 233] قيد بالكمال ليخرج احتمال توهم بعض الحول الثاني، والتوكيد يحقق أن اللفظ حقيقة، فإن قيل: إذا كان رافعا لاحتمال التخصيص في نحو: قام القوم كلهم وللمجاز في نحو، جاء زيد نفسه، فهذه فائدة جديدة، فكيف أطبقوا على أن المقصود منه التقوية؟.
قلت: إن الاحتمال المرفوع تارة يكون اللفظ مترددا فيه وفي غيره على السواء وتارة يكون احتمالا مرجوحا، ورفع الاحتمال الأول فائدة زائدة، لأن تردد اللفظ بينه وبين غيره ليس فيه دلالة على أحدهما، كما أن الأعم لا يدل على الأخص، فدفع ذلك الاحتمال تأسيس. أما الاحتمال المرجوح فهو مرفوع بظاهر اللفظ، لأن اللفظ ينصرف إلى الحقيقة عند الإطلاق والتأكيد يقوي ذلك الظاهر.
وهاهنا أمور:
أحدها: أثبت ابن مالك قسما ثالثا، وهو ما له شبه بالمعنوي وشبه باللفظي، وإلحاقه به أولى، كقولك: أنت بالخير حقيق قمين. ونوزع في هذا المثال، ولا نزاع لإجماع النحويين على أن من التوكيد مررت بكم أنتم.
الثاني : هل أنه يوجب رفع احتمال المجاز أو يرجحه؟ يخرج من كلام النحويين فيه قولان، ففي التسهيل أنه رافع، وكلام ابن عصفور وغيره يخالفه وهو الحق، وكلام إمام الحرمين يقتضيه، فإنه قال في البرهان: ومما زال فيه الناقلون عن الأشعري ويقتضيه أن صيغة العموم مع القرائن تبقى مترددة، وهذا - وإن صح يحمل على توابع العموم كالصيغ المؤكدة. ا هـ.
فقد صرح بأن التأكيد لا يرفع احتمال الخصوص، ويؤيده ما في الحديث "فأحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم" فدخله التخصيص مع تأكيده، وكذا قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [سورة البقرة: 30] إن كان الاستثناء متصلا، وهل يجري ذلك في التوكيد اللفظي؟ ظاهر كلام "الإيضاح البياني" نعم والذي صرح به

(1/485)


النحاة أنه لا يقتضي ذلك، وأن القائل إذا قال: قام زيد زيد، فإنما يفيد تقرير الكلام في ذهن السامع، لا رفع التجوز.
وحكى الرماني في شرح أصول ابن السراج، الأمرين فقال في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [سورة هود: 108]: مخرجه مخرج التمكين، وقد يكون لرفع المجاز، إذ لا يمنع أن يقال: هم في الجنة خالدين في غيرها، فأزيل هذا بالتأكيد، ودل على أنهم في الجنة التي يدخلونها مخلدون فيها، ولا ينقلون عنها إلى جنة أخرى.
الثالث : أن التوكيد اللفظي أكثر ما يقع مرتين كقوله: ألا حبذا حبذا حبذا، وأما المعنوي فذكروا أن تلك الألفاظ كلها تجتمع، والفرق أن هذا أثقل لاتحاد اللفظ.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: اتفق الأدباء على أن التأكيد إذا وقع بالتكرار لا يزيد على ثلاث مرات يعني بالأصل، وإلا ففي الحقيقة التأكيد بمرتين، وأما قوله تعالى في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [سورة المرسلات: 15] أي بهذا، فلا يجتمعان على معنى واحد، فلا تأكيد، وكذلك {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [سورة الرحمن: 13] ونحوه، وكذلك قال السبكي في "شرح الكافية"، لم تتجاوز العرب في تأكيد الأفعال ثلاثا كما فعلوا في تأكيد الأسماء. قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [سورة الطارق: 17] فلم يزد على ثلاثة: مهل وأمهل ورويد، وكلها لمعنى واحد.
قال: ومما يدل على صحة هذا أن العرب لا تكاد يكررون الفعل مع تأكيده بالنون خفيفة ولا شديدة، لأن تكريره مع الخفيفة مرتين كالتلفظ به أربع مرات، ومع الشديدة كالتلفظ به ست مرات. ا هـ.
لكن فيما قاله نظر لما سبق في الإتباع أنه سمع خمسة مع أنه تأكيد في المعنى، وقال الزمخشري في تفسير سورة الرحمن: كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به، وينصح ثلاث مرات وسبعا، ليركزه في قلوبهم ويغرزه في صدورهم، وفي الحديث الصحيح: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت1. ثم لا يشك أن الثلاثة في عادته صلى الله عليه وسلم كالمرة في حق غيره، فعلم أنه
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأدب، باب "عقوق الوالدين من كبائر"، برقم "5976". ورواه مسلم "1/91"، برقم "87".

(1/486)


كان قد زاد على الثلاث، ثم مراد الشيخ التأكيد اللفظي، أما المعنوي فنص النحويون على أن ألفاظه الصناعية كلها تجمع، وفرقوا بما سبق.
الرابع : أن التأكيد نظير الاستثناء وحينئذ فيأتي فيه شروطه السابقة من اعتبار النية فيه ومحلها واتصاله بالمؤكد، لكن جوز النحويون الفصل بينهما، كقوله تعالى {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [سورة الأحزاب: 51].
الخامس : إن كون التوكيد يرفع التجوز إنما هو بالنسبة إلى الفاعل، فإذا قلت: جاء زيد احتمل مجيئه بنفسه ومجيء جيشه، فإذا قلت: نفسه، انتفى الثاني. أما التأكيد بالمصدر نحو ضربت ضربا، فنص ثعلب في أماليه وابن عصفور في شرح الجمل الصغير والأبذوي في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء: 164] أنه يدل على رفع المجاز، وأنه كلمه بنفسه، وهكذا احتج بها أصحابنا المتكلمون المعتزلة في إثبات كلام الله، وهو غلط، لأن التأكيد بالمصدر إنما يرفع التجوز عن الفعل نفسه لا عن الفاعل فإذا قلت: قام زيد قياما، فالأصل قام زيد قام زيد، فإن أردت تأكيد الفاعل أتيت بالنفس، وهاهنا إنما أكد الفعل، ولو قصد تأكيد الفاعل لقال: وكلم الله نفسه موسى، فلا حجة فيه إذن عليهم.
السادس : في الفرق بين الترادف والتأكيد: أن المؤكد يقوي المؤكد، وهو اللفظ الأول كقولنا: جاء زيد نفسه، بخلاف الترادف، فإن كل واحد منهما يدل على المعنى بمجرده، والتأكيد تقوية مدلول ما ذكر بلفظ آخر مستقل ليخرج التابع والفرق بينه وبين التابع قد سبق.

(1/487)