البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث المشترك
المشترك
...
مباحث المشترك
وهذا هو الأصل، وقد يحذفون فيه إما لكثرة دورانه في كلامهم،
وإما لكونه جعل لقبا.
قال ابن الحاجب في شرح المفصل: وهو اللفظ الواحد الدال على
معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة،
سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة
الاستعمال، أو استفيدت إحداهما من الوضع والأخرى من كثرة
الاستعمال، وهو في اللغة على الأصح.
وقد اختلف فيه هل هو واجب أم لا؟ وبتقدير أن لا يكون واجبا،
فهل هو ممتنع أو ممكن؟ وبتقدير إمكانه، فهل هو واقع أو لا فهذه
احتمالات أربع بحسب الانقسام العقلي، وقد ذهب إلى كل منها
فريق، فأحاله ثعلب وأبو زيد البلخي والأبهري على ما حكاه ابن
العارض المعتزلي في كتاب النكت وصاحب الكبريت الأحمر، ومنعه
قوم في القرآن خاصة، ونسب لأبي داود الظاهري، ومنعه آخرون في
الحديث.
ونقل عبد الجبار عن جماعة من متأخري زمانه إنكار أن يكون اللفظ
موضوعا لضدين، فإن خصوه بهما دون غيرهما كما هو ظاهر كلامه فهو
قول آخر، وقد صار إليه الإمام فخر الدين، فقال: يمتنع بين
النقيضين فقط لخلوه عن الفائدة، ورد عليه صاحب التحصيل بأنه
إنما يلزم بالنسبة إلى واضع واحد، والظاهر أنه مراد الإمام،
لأن عدم العبث بالنسبة إلى فاعلين لا يلزم من فعل أحدهما علم
الآخر به. وقيل: يمتنع في اللغة الواحدة من واضع واحد، ويجوز
في لغتين من واضعين. حكاه الصفار في شرح سيبويه. وقال صاحب
الكبريت الأحمر: مذهب الأكثرين: أن المشترك أصل في الوضع
والمتعين كالمتباين والمترادف.
وذهب قوم إلى أنه ليس بأصل في ذلك، وإنما هو في المتباينة أو
المترادفة في حق الوضع، والتعين كالمجاز من الحقيقة، فتحصلنا
على تسعة مذاهب.
وقد منع بعض المتأخرين القول بالوجوب، وقال: ليس إلا قولان
الوقوع وعدمه، لأن الوجوب هاهنا هو الوجوب بالغير، إذ لا معنى
للوجوب بالذات، والممكن الواقع هو الوجوب بالغير. ا هـ.
ولا معنى لإنكار ذلك وهو قول ثالث منقول، وقول الوجوب كما قاله
شارح المحصول: إن الحاجة العامة اقتضت أن يكون في اللغات، وقول
الوقوع مع
(1/488)
الإمكان معناه أن المصلحة لم تقتض ذلك،
ولكنه وقع اتفاقا مع إمكانه كوقوع سائر الألفاظ.
والمختار: جوازه عقلا ووقوعه سمعا.
قال سيبويه: "ويل له" دعاء وخبر، والصحيح وقوعه في القرآن كما
في القرء و الصريم و {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [سورة
التكوير: 17] فلا وجه لمن أنكر ذلك.
ومنع قوم الاشتراك بين الشيء ونقيضه، ويرده عسعس فإنه موضوع
للإقبال والإدبار، إلا على رأي من يزعم أنها مشتركة بين إدخال
الغاية وعدمه.
واختلفوا في وقوع الأسماء المشتركة الشرعية:
قال الرازي: والحق: الوقوع لأن لفظ الصلاة مستعمل في معان
شرعية مختلفة بالحقيقة ليس فيها قدر مشترك بين الجميع، وقال
تلميذه الحوبي: في الينابيع: أما في لغتين فلا شك فيه، فإن
الشهر في العربية لزمان ما بين الاستهلالين، وفي الفارسية
للبلد، وهو مكان ما بين حدين، وأما في لغة واحدة فالظاهر أن
أحدهما أصل والآخر فرع كالعين في العضو أصل بدليل أنه اشتق منه
فعل، تقول: عانه أصابه بعينه، والذهب سمي به لعزته كعزة العين
وسمى الفوارة عينا لخروج الماء منها كما أن العين منبع النور،
والماء عزيز كنور العين، ومنه ما وضع لمعنى جامع لشيئين،
فاستعمل في كل منهما، فظن أنه مشترك، ويمكن أن يكون القرء من
ذلك.
مسألة
العلم بكون اللفظ مشتركا يحصل إما بالضرورة وهو ما يدرك بحاسة
السمع من أهل اللغة كونه مشتركا، وإما بالنظر بأن يوجد في كل
من المعنيين طريق من الطرق الدالة على كون اللفظ حقيقة، ومنهم
من قال: يستدل عليه بحسن الاستفهام عن مدلول اللفظ، لأن
الاستفهام هو طلب الفهم، وهو لا يكون عند تردد الذهن بين
المعنيين، ورده الإمام، فإن الاستفهام قد يكون لمعان شتى غير
الاشتراك، ومنهم من قال: يستدل عليه باستعمال اللفظ بين معنيين
ظاهرا وضعفه الإمام.
(1/489)
مسألة: [في حقيقة وقوع المشترك وذلك]
بأحد أمرين:
أحدهما : وهو الأكثر يقع من واضعين بأن يضع أحدهما لفظا لمعنى،
ثم يضعه الآخر لمعنى آخر، كالسدفة في لغة نجد الظلمة، وفي لغة
غيرهم الضوء. قاله الجوهري في الصحاح، ولا حاجة لقيد التباس
الواضعين كما قاله الأصفهاني في شرح المحصول زاعما أن اللفظ
بالنسبة إلى كل واحد منفرد، إذ ليس ذلك بشرط، لأنه صدق عليه
أنه موضوع لمعنيين، وإن كان واضعاه معروفين.
الثاني : واضع واحد وله فوائد. منها: غرض الإبهام على السامع
حيث يكون التصريح سببا لمفسدة، ومنها: استعداد المكلف للبيان،
هكذا قاله الإمام الرازي وغيره. وعن المبرد وغيره من أئمة
اللغة إنكار وقوعه من واضع واحد، وسبق كلام ابن الحوبي.
(1/490)
مسألة: [المشترك خلاف الغالب]
وهو خلاف الأصل والمراد بالأصل هنا الغالب، فإذا جهلنا كون
اللفظ مشتركا أو منفردا فالغالب عدم الاشتراك، فيحكم بأنه
منفرد للاستقراء أن أكثر الألفاظ مفردة، وإلا لما حصل التفاهم
في الخطاب دون الاستفسار وقبوله دونه معلوم. فإن قلت: إن
الاشتراك أغلب، لأن الحروف كلها مشتركة بشهادة النحاة، والماضي
مشترك بين الخبر والدعاء، والمضارع بين الحال والاستقبال،
والأسماء فيها الاشتراك كثير، فإذا ضممتها إلى القسمين كان
الاشتراك أكثر. أجيب بأن أغلب الألفاظ أسماء والاشتراك فيها
قليل.
(1/490)
مسألة: [اللفظ المشترك أصل]
قال صاحب الكبريت الأحمر: مذهب الأكثرين أن اللفظ المشترك أصل
في الوضع والتعيين كالمتباين والمترادف، وذهب قوم إلى أنه ليس
بأصل في تلك، وإنما هو من المتباينة أو المترادفة في حق الوضع
والتعيين كالمجاز من الحقيقة، لأن الكلام وضع للإفهام،
والمشترك إلى الإبهام أقرب منه إلى الإفهام، فكيف يكون أصلا في
وضع الإفهام؟.
ولنا أنه يستعمل على السوية في المعاني، والاستعمال دليل
الحقيقة، ولا إبهام مع القرينة المميزة.
(1/491)
مسألة: [المشترك له مفهومان فصاعدا]
المشترك لا بد له من مفهومين فصاعدا فمفهوماه إما أن يتباينا،
أي: لا يمكن الجمع بينهما في الصدق على شيء واحد كالقرء للطهر
والحيض وسواء تباينا بالتضاد أو غيره على الأصح خلافا لمن منع
وضعه للضدين، وإما أن يتواصلا، فإما أن يكون أحدهما جزءا للآخر
أو لازما له والأول كالإمكان العام والخاص، والثاني كالكلام،
فإنه مشترك بين النفساني واللساني مع أن اللساني دليل على
النفساني، والدليل يستلزم مدلوله.
(1/491)
مسألة: [تجرد المشترك من القرينة]
المشترك إما أن يتجرد عن القرينة فمجمل يتوقف على المرجح إن
منعنا حمل المشترك على معنييه، وكذا إن قرن به ما يوجب اعتبار
الكل وكانت معانيه متنافية فإن لم تكن متنافية، فقال بعضهم:
يقع التعارض بين القرينة وبين الدلالة المانعة من إعمال
المشترك في مفهوماته، فيصار إلى الترجيح وهو خطأ، لأن الدلالة
المانعة قاطعة لا تحتمل المعارضة، ولئن قلت: فلا معارضة هنا،
فيجب حمله عليهما. قاله الإمام في
(1/491)
مسألة: في حكمه
بالنسبة إلى معنييه أو معانيه
...
به في أحدهما أحد المعنيين، وفي الآخر الأخرى فلا خلاف في
الجواز.
المقام الثاني : إذا جوزنا الاستعمال فهل يجب على السامع حمله
على ذلك إذا تجرد عن قرينة صارفة؟ فيه مذاهب:
أحدهما :
أنه يحمل على جميع المعاني، قال ابن القشيري: وعليه يدل كلام
الشافعي، لأنه لما تمسك بقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ
النِّسَاءَ} [سورة النساء: 43] فقيل: أراد بالملامسة المواقعة،
فقال: أحمله على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا، يعني
وإذا قال ذلك في الحقيقة والمجاز ففي الحقيقتين أولى.
وقال الأستاذ أبو منصور إنه قول أكثر أصحابنا، ولهذا حملنا آية
اللمس على الجماع، وعلى الجس باليد، ونقله غيرهما عن الشافعي،
والقاضي صريحا. وقال القرطبي: الحق أن في النقل عنهما في هذا
خللا، ونقله الإمام الرازي في المناقب عن القاضي عبد الجبار
والبيضاوي في الكلام على الجمع المنكر عن الجبائي، لأنه لو لم
يجب، فإما أن يحمل على واحد منهما، ويلزم تعطيل النص، ولأن
العمل بالدليل واجب ما أمكن، وليس من عادة العرب تفهيم المراد
باللفظ المشترك من غير قرينة، فيصير انتفاء القرينة المخصصة
قرينة تعميم، ولما فيه من الاحتياط.
الثاني : المنع وهو قول ابن عقيل من الحنابلة.
وقال الرافعي في باب التدبير: إنه الأشبه فقال: والأشبه أن
اللفظ المشترك مراد به جميع معانيه، ولا يحمل عند الإطلاق على
جميعها، وليس كما قال، وإنما هذا مذهب الحنفية كما قاله أبو
زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة".
قال: ولهذا قال علماؤنا: من أوصى لمواليه، وله موال أعتقوه
وموال أعتقهم أن الوصية باطلة، لأن معنى الولاءين مختلف، فيراد
بالوصية للأعلى الجزاء، وللأسفل زيادة الإنعام، وإذا قال
لامرأة: إن نكحتك فأنت طالق، لم ينصرف إلى العقد والوطء جميعا،
لأنهما مختلفان. ا هـ.
وبه قال الإمام فخر الدين تفريعا على القول بجواز الاستعمال.
والثالث : التوقف لا يحمل على شيء إلا بدليل ويصير مجملا. وبه
قال القاضي كما سنذكره.
قال القاضي أبو منصور: وهو قول الواقفية في صيغ العموم. ا هـ.
واختاره ابن القشيري في أصوله و تفسيره: لأنه ليس موضوعا
للجميع، بل لآحاد مسميات
(1/467)
تنبيهات
[التنبيه] الأول
في تحرير النقل عن الشافعي والقاضي في هذه المسألة:
أما الشافعي فقد اشتهر عنه في كتب المتأخرين القول الأول، وقد
أنكر ذلك أبو العباس بن تيمية، وقال: ليس للشافعي نص صريح فيه،
وإنما استنبطوا هذا من نصه فيما إذا أوصى لمواليه، وله موال
أعلى وأسفل أو وقف على مواليه، فإنه يصرف للجميع، وهذا
الاستنباط لا يصح لاحتمال أنه يرى أن اسم الموالي من الأسماء
المتواطئة، وأن موضوعه للقدر المشترك بين الموليين، ولا يلزم
من هذا أن يحكى عنه قاعدة كلية في الأسماء التي لا شركة بين
معانيها، وإنما الاشتراك بينهما في مجرد اللفظ.
قلت: وهذا نقله ابن الرفعة في "الكفاية" عن شيخه الشريف عماد
الدين وأن تناول الاسم لهما معنى واحد على جهة التواطؤ وهي
الموالاة والمناصرة، ثم نازع فيه في باب الوصية من المطلب بأن
هذا يقتضي التصحيح وصرف الريع والوصية إليهما،
(1/498)
والسؤال إنما يتجه على القول بعدم الصحة. ا
هـ.
ويحتمل أن يقال: إن مواليه جمع مضاف، فالتعميم من هذه الحيثية
لا من جهة الاشتراك، لكن كلام الشافعي في مواضع يدل للقول
الأول، منها: أنه احتج في الأم على استحباب الكتابة فيما إذا
جمع العبد بين الأمانة والقوة على الكسب بقوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [سورة
النور: 33] ففسر الخير بالأمرين.
قال: وأظهر معاني الخير قوة العبد بدلالة الكتاب: الاكتساب مع
الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا. ا هـ.
ومنها: أنه نص في الأم في لفظة عند المشترك بين إفادة الحضور
والملك في حديث حكيم بن حزام "لا تبع ما ليس عندك"1. قال: وكان
نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده يحتمل
أن يبيع بحضرته، فيراه المشتري كما يراه البائع عند تبايعهما،
ويحتمل أن يبيع ما ليس عنده ما ليس يملك تعيينه فلا يكون
موضوعا مضمونا على البائع يؤخذ به، ولا في ملكه، فيلزمه أن
يسلمه إليه لأنه يعينه، وعنى هذين المعنيين.
ومنها: حمله اللمس في الآية كما سبق عن القشيري.
فإن قيل: فلم لم يحمل الشفق على معنييه، بل اعتبر في آخر وقت
المغرب غيبوبة الشفق الأحمر؟.
قلنا: لأنه ورد في حديث آخر تعيينه بالأحمر، فلهذا لم يقل
بالاشتراك.
وأما [النقل عن] القاضي فأنكره ابن تيمية أيضا: قال لأن من
أصله الوقف في صيغ العموم، وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق
إلا بدليل فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ
المشتركة بالاستغراق بغير دليل، وإنما الذي ذكره في كتبه إحالة
الاشتراك أصلا، وأن ما يظن من الأسماء المشتركة هي عنده من
الأسماء المتواطئة.
قلت: وممن استشكل ذلك الإبياري وتابعه القرافي، لكن القاضي
إنما ينكر وضعها للعموم ولا ينكر استعمالها وكلامنا في
الاستعمال، ويحتمل أنه فرعه على القول
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس
عنده، برقم "3503"، ورواه الترمذي، برقم "1232" كتاب البيوع،
باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، ورواه النسائي، برقم
"4613" كتاب البيوع، باب: بيع ما ليس عند البائع، ورواه ابن
ماجه، برقم "2187" كتاب التجارات، باب: النهي عن بيع ما ليس
عندك، وهو حديث صحيح.
(1/499)
بصيغ العموم، على أن الذي رأيته في التقريب
للقاضي بعد أن قرر صحة إرادة المعنيين من المتكلم.
قال: فإن قيل: هل يصح أن يراد المعنيان، أي يحمل عليهما
بالظاهر أم بدليل يقترن بهما؟ قيل: بل بدليل يقترن بهما لموضع
احتمالهما للقصد تارة إليهما وتارة إلى أحدهما، وكذلك سبيل كل
محتمل من القول، وليس بموضوع في الأصل لأحد محتمليه. ا هـ.
وزاد عند إمام الحرمين في تلخيص التقريب فإنا نقول: إذا احتمل
إرادة المعنيين واحتمل تخصيص اللفظ بأحدهما فيتوقف في معنى
اللفظ على قرينة تدل على الجمع والتخصيص، وكيف لا نقول ذلك
ونحن على نصرة نفي صيغة العموم؟ انتهى. فظهر أن الصواب في
النقل عن القاضي: المذهب الثالث وهو التوقف.
[التنبيه] الثاني
إن الخلاف في حمل المشترك على معانيه إنما هو في الكلي العددي
أي في كل فرد فرد، وذلك بأن يجعله يدل على كل منهما على حدته
بالمطابقة في الحالة التي تدل على المعنى الآخر بها، وليس
المراد الكلي المجموع أي بجعل مجموع المعنيين مدلولا مطابقا
كدلالة الخمسة على آحادها، ولا الكلي البدلي أي: بجعل كل واحد
مدلولا مطابقا على البدل. ذكره صاحب التحصيل.
وكذا قال عبد العزيز في شرح البزدوي: إن محل الخلاف فيما إذا
أريد بالمشترك كل واحد من معنييه، وأما إرادة المجموع من حيث
هو مجموع فلا نزاع فيه، لأنه يصير كل واحد من المعنيين جزءا
لمعنى بخلاف الأول، فإنه يصير كل واحد منهما هو المعنى بتمامه.
وقال الأصفهاني في شرح المحصول: إنه رآه في تصنيف آخر لصاحب
التحصيل أن الأظهر من كلام الأئمة أن الخلاف في الكلي المجموع،
فإن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشافعي كالعام.
(1/500)
[التنبيه] الثالث
جعل النقشواني في التلخيص محل الخلاف في المذكور بلفظ الجمع
المعرف.
قال: فأما المفرد المنكر إذا لم يكرر فلا يجوز استعماله فيهما
سواء كان مثبتا أو منفيا، لأن التنكير يقتضي التوحيد، فإن تكرر
بقوله: اعتدي قرءا وقرءا فقد جوز استعماله فيهما حقيقة، وإن
كان مفردا معرفا بأل مكررا فكذلك، وإن لم يتكرر وكانت هناك
قرينة تدل على أحدهما بخصوص وجب الحمل عليه، وإن لم توجد
القرينة إلى وقت الحاجة فهو موضع الخلاف، الشافعي يوجب الحمل
على المعنيين جميعا في هذا الوقت.
قال الأصفهاني: وجعله موضع الخلاف عند الحاجة إلى العمل ممنوع
بل نقول: جواز الخطاب باللفظ المشترك عند الحاجة إلى العمل
بمقتضاه ينبني على أن اللفظ المشترك هل يحمل عند الإطلاق على
جميع معانيه أم لا؟ فإن قلنا بالحمل فلا حاجة إلى البيان، وإن
قلنا بالمنع فلا يجوز وروده عند الحاجة من غير بيان.
التنبيه الرابع.
إذا قلنا بالحمل فهل هو من باب العموم أو الاحتياط؟ فيه
طريقتان:
إحداهما : وعليها إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي والآمدي
وابن الحاجب أنه كالعام، وأن نسبة المشترك إلى جميع معانيه
كنسبة العام إلى أفراده، والعام إذا تجرد عن القرائن وجب حمله
على الجميع بطريق الحقيقة فكذا المشترك، وضعفه النقشواني، لأنه
يصير اللفظ حينئذ متواطئا لا مشتركا.
قال: ولا يبعد أن الأئمة لم يريدوا العموم، وأن هذه الزيادة من
جهة الناقل عنهم لما رأى في كتبهم حمل المشترك على معنييه ظن
أنهم ألحقوه بالعام بالنسبة إلى أفراده، وليس كذلك.
ونازعه الأصفهاني لما فيه من توهيم الأئمة.
قال: وما استبعد النقل ضعيف، فإن مرادهم أن المشترك كالعام في
معنى استغراقه لمدلولاته ووجوب الحمل على جميع معانيه المختلفة
عند التجرد عن القرائن، فهو كالعام من هذا الوجه، لأن الأفراد
الداخلة تحت المشترك مثل الأفراد الداخلة تحت العام حتى يلزم
التواطؤ.
(1/501)
والطريقة الثانية : وعليها الإمام الرازي
أنه من باب الاحتياط. وتقديرها أن للسامع أحوالا ثلاثة:
إما أن يتوقف فيلزم التعطيل لا سيما عند وقت الحاجة، أو يحمل
أحدهما فيلزم الترجيح بلا مرجح، لم يبق إلا الحمل على المجموع،
وهو أحوط لاشتماله على مدلولات اللفظ بأسرها، ولأن تأخير
البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فإذا جاء وقت العمل بالخطاب
ولم يتبين أن المقصود أحدهما علم أن المراد المجموع، وعلى هذه
الطريقة جرى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فقال: إن لم يقم
دليل على تعيين أحد المعنيين للإرادة حملناه على كل منهما، لا
لأنه مقتضى اللفظ وضعا، بل لأن اللفظ دل على أحدهما ولم يتعين،
ولا يخرج عن عهدته إلا بالجميع.
قال: ولا فرق في ذلك بين أن يكون الحكم وجوبا أو كراهة، ولو لم
يقم دليل على تعيين القرء للطهر عند من يراه، ولا على تعيينه
للحيض عند من يراه لوجب أن تتربص المرأة منهما جميعا، لأنه
يتبين تعليق الوجوب بالقرء، وإنما المبهم تعين المراد منهما،
ولا يخرج عن عهدة وجوب التربص والحل للأزواج إلا بذلك، وكذلك
أقول: إن صح أن الشفق مشترك بين الحمرة والبياض، ولم يقم دليل
على تعيين أحدهما للإرادة وجب أن لا تصح صلاة العشاء إلا بعد
غيبوبة آخرهما وهو البياض، ومن رجح الحمل على أحدهما فلا بد له
من دليل يدل على تعينه للإرادة بخصوصه.
فإن قلت: قد ذكر أنه يعمل على تقدير الاشتراك بالأمرين مع أن
عدم تعين المراد يوجب الإجمال، والإجمال يوجب التوقف، وذلك
خلاف ما قلت.
قلت: هذا صحيح إذا لم يكن تعلق المبين من وجه كما لو قال:
ائتني بعين، وأما إذا كان مبينا من وجه كالنهي عن القزع مثلا،
وكان الامتثال ممكنا فإنه يتعين الخروج عن العهدة في التكليف
المبين، وذلك ممكن بالعمل في الأمرين، وصار هذا كقول بعض
الشافعية في الخنثى المشكل أنه يختن في فرجيه معا. والختان
إنما هو في فرج، فأحد الفرجين ختنه، والآخر ختنه ولما كان وجوب
الختان أمرا مبينا لا إجمال فيه والخروج عن العهدة ممكن
بالختان فيهما أوجبوه.
قلت: ولا ينبغي أن يفهم من الطريق الأولى أنه كالعام حقيقة،
كيف وأفراده محصورة؟ وقد حملوه على مفهومية حالة الإفراد من
غير تعريف ولا إضافة، بل أجروه في الأفعال حيث مثلوا بقوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} [سورة
الأحزاب: 65] وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [سورة
النساء: 43] ومعلوم الفعل لا عموم له.
(1/502)
الموطن الثاني:
في استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه مثل أن يطلق النكاح، ويريد
به العقد والوطء جميعا، وفيه الحالان السابقان من الاستعمال
والحمل. أما الاستعمال ففيه مذاهب:
أحدها : وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابنا كما قاله النووي في
باب الأيمان من الروضة جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد،
وكأن الرافعي لم يقف على النقل عندنا في ذلك، فقال: استعمال
اللفظ في الحقيقة والمجاز مستبعد عند أهل الأصول، وهو قول
القاضي صرح به في كتاب التقريب وغلط من نقل عنه المنع وإنما
منع الحمل لا الاستعمال كما سنحققه عنه.
وأما الشافعي فجرى على منوال واحد، فجوز استعمال اللفظ في
حقيقته ومجازه، وحمله عند الإطلاق عليهما.
وأخرج ابن الرفعة نصه على ذلك في الأم عند الكلام فيما إذا عقد
لرجلين على امرأة، ولم يعلم السابق منهما، ذكر ذلك في باب
الوصية من "المطلب".
وقال إمام الحرمين وابن القشيري: إنه ظاهر اختيار الشافعي،
فإنه قال في مفاوضة له في آية اللمس: هي محمولة على الجس باليد
حقيقة وعلى الوقاع مجازا.
قلت: وكذلك نصه في قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [سورة النساء: 43] فإنه احتج به على جواز
العبور في المسجد لقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [سورة
النساء: 43]، وقال: أراد مواضع الصلاة، وحمل اللفظ على الصلاة
وعلى مواضعها، ودل على الصلاة قوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا} ،
وعلى مواضعها قوله: إلا عابري
(1/503)
سبيل فحمل اللفظ على حقيقته ومجازه، وأما
نصه في البويطي على أنه لو أوصى لمواليه وله عتقاء ولهم عتقاء
أنها تختص بالأولين مع أنهم مواليه، والآخرون مجازا بالسببية،
وكذلك لو وقف على أولاده لم يدخل ولد الولد على الأصح، فليس
ذلك لأجل منع الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل لأن مسألتنا عند
الإطلاق والقرينة هنا عينت الحقيقة، أما الأولى فلأن ولاء
مواليهم لهم دونه. أما الثانية: قال الغزالي: والتعميم بين
الحقيقة والمجاز أقرب منه بين حقيقتين.
والمذهب الثاني : وهو قول الحنفية، واختاره من أصحابنا ابن
الصباغ في العدة وابن برهان في الوجيز، ونقله صاحب المعتمد عن
أبي عبد الله البصري وأبي هاشم والكرخي، لأن الحقيقة أصل
والمجاز مستعار، فلا يتصور اجتماعهما كما لا يتصور كون الثوب
على اللابس ملكا وعارية في وقت واحد.
ونقض ابن السمعاني عليهم بقولهم: لو حلف لا يضع قدمه في الدار،
فدخل راكبا وماشيا حنث. قال: تناول الحقيقة والمجاز. قال: لو
قال: اليوم الذي يدخل فلان الدار فعبده حر، فدخل ليلا ونهارا
حنث.
وقالوا في السير الكبير: لو أخذ الأمان لبنيه دخل بنوه وبنو
بنيه، والظاهر من مذهبنا في الأولى عدم الحنث، لأنه لا قرينة
على إرادة الأشهر فخالفنا القاعدة لهذا، وفي الثانية موافقتهم،
لأنه نقل الرافعي عن التتمة لو قال: أنت طالق اليوم طلقت في
الحال وإن كان بالليل. ويلغوا اليوم، لأنه لم يعلق، وإنما سمى
الوقت بغير اسمه، وفي الثالثة عدم الدخول كما في الوقف على
الأولاد، ولم يحكموا بقية المذاهب السابقة في الحقيقتين ولا
يبعد مجيئها.
وأما الحمل فالمنقول عن الشافعي الجواز طردا لأصله هناك وأما
القاضي أبو بكر فسبق عنه هناك الإجمال، وأنه لا يحمل إلا
بقرينة.
وأما هاهنا فقال إمام الحرمين في البرهان: وقد عظم نكير القاضي
على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز معا، وقال في تحقيق
إنكاره: اللفظة إنما تكون حقيقة إذا انطبقت على ما وضعت له في
أصل اللسان، وإنما تصير مجازا إذا تجوز بها عن مقتضى الوضع،
ويحيل الجمع بين الحقيقة والمجاز محال الجمع بين النقيضين.
قلت: من هنا نقل عن القاضي أنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد
حقيقته ومجازه معا كما يلزم منه في الجمع بين النقيضين، ولم
يرد القاضي ذلك، وقد صرح في التقريب بجواز الإرادة، وإنما الذي
منعه الحمل عليهما.
(1/504)
قال الإمام: وقول القاضي هو جمع بين
النقيضين يرجع إلى اشتقاق الحقيقة والمجاز، وقال المازري في
شرح التلقين: استدرك بعض المحققين على القاضي هذا، وقال: إنما
يمنع في حق من خطر بباله من المخلوقين في خطابه حقيقة الحقيقة
وحقيقة المجاز، وأما إذا كان القصد إرسال اللفظة على جميع ما
تطلق عليه دون القصد إلى حقائق أو مجاز، فإن هذا يصح دعوى
العموم فيه.
وحقق ابن القشيري مذهب القاضي، فقال: واعلم أنه يجوز أن يطلق
المطلق لفظ اللمس، ويريد به الحقيقة والمجاز، فيقول: اللمس
ينقض الوضوء وهو يعنيهما، وقد صرح بتجويزه في بعض كتبه.
قال القاضي: وفي هذا أصل يدق على الفهم، وهو أن مطلق اللفظ لو
خطر له أن يستعمل اللفظ حقيقة ويستعمله مجازا لم يتصور الجمع
بين المعنيين، لأن الحقيقة تقتضي قصرها، والتجوز يقتضي تعديتها
عن أصل وضعها، وأما من أراد باللفظ المسميين من غير تعرض
الاستعمال حقيقة وتجوزا، فهذا هو الجائز. قال ابن القشيري:
يعني بهذا أن اللفظ الواحد لا يكون حقيقة ومجازا في شيء واحد،
حتى يكون الأسد في البهيمية حقيقة ومجازا، وأيضا لا يجوز أن
يستعمل هذا اللفظ حقيقة من غير تعدية في حال ما تريد أن
تستعمله مجازا مع التعدية، فإنه متناقض.
قال: وما أوهمه كلام إمام الحرمين من أن للقاضي خلافا في
المسألة فهو وهم، لأنه صرح بهذا الذي ذكرناه، فقال: كل لفظة
تنبئ عن معنيين متناقضين لا يجتمعان، فلا تجوز إرادتهما
باللفظة الواحدة كلفظ افعل عند منكري الصيغة مترددا بين
الإيجاب والندب والإباحة والنهي، فلا يصح إرادة هذه المعاني
باللفظة الواحدة لتناقضها.
قلت: هذا إنما قاله القاضي شرطا للجوار، وهو أنه حيث يصح الجمع
كما اشترط ذلك في الحقيقتين لا منع الإرادة مطلقا.
وقال في التقريب ولخصه الإمام في التلخيص: اعلم أن إرادة الجمع
إنما تصح ممن لا يخطر له التعرض للحقيقة والمجاز، ولكن يقتصر
على إرادة المسلمين من غير تعرض لوجه الاستعمال حقيقة وتجوزا،
وفي المسألة مذهب ثالث صار إليه القاضي عبد الوهاب في الملخص
أنه يحمل على الحقيقة خاصة، لأنها الأصل ورابع حكاه القاضي
أيضا أنه يتوقف فيه حتى يبين المراد.
(1/505)
|