البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية النهي
مدخل
...
النهي
هو اقتضاء كف عن فعل فالاقتضاء جنس، و "كف" مخرج للأمر
لاقتضائه غير الكف. وشرط ابن الحاجب هنا على جهة الاستعلاء كما
شرطه في الأمر، وقال القرافي: لم يذكروا الخلاف السابق في
الأمر في اشتراط العلو أو الاستعلاء هنا، ويلزمهم التسوية بين
البابين.
قلت: قد أجراها ابن السمعاني في "القواطع" وليس من شرط النهي
كراهة المنهي عنه كما ليس من شرط الأمر إرادة المأمور به خلافا
للمعتزلة حيث اعتبروا إرادة الترك كما في الأمر وللنهي صيغة
مبينة له تدل بتجريدها عليه، وهي قول القائل لا تفعل، وفيه
الخلاف السابق في الأمر.
وقال الأشعري: ومن تبعه: ليس له صيغة، والصحيح: الأول
وإذا قلنا له صيغة ففيه مذاهب:
أحدها: ونسب للأشعري أنه موقوف لا يقتضي التحريم، وغيره إلا
بدليل.
والثاني: أنه للتنزيه حقيقة لا للتحريم; لأنها يقين فحمل عليه
ولم يحمل على التحريم إلا بدليل، وحكاه بعض أصحابنا وجها،
وعزاه أبو الخطاب الحنبلي لقوم.
والثالث: أنه للتحريم حقيقة كما أن مطلق الأمر للوجوب; لأن
الصحابة رجعوا في التحريم إلى مجرد النهي، ولقوله تعالى
:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وهذا هو الذي
عليه الجمهور، وتظاهرت نصوص الشافعي عليه، فقال في "الرسالة1":
في باب العلل في الأحاديث: وما نهى عنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم فهو على التحريم حتى يأتي دلالة على أنها إنما أراد
به غير التحريم، وقال في "الأم" في كتاب صفة الأمر والنهي:
النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ما نهى عنه فهو
محرم حتى تأتي دلالة أنه بمعنى غير التحريم، ونص عليه في
"أحكام القرآن" أيضا.
قال الشيخ أبو حامد: قطع الشافعي قوله: إن النهي للتحريم بخلاف
الأمر، فإنه في بعض المواضع لين القول فيه، وهذا الذي قاله
الشيخ أبو حامد هو الذي دل عليه كلام الشافعي كما سبق.
فنقول: إن النهي للتحريم قولا واحدا حتى يرد ما يصرفه، وله في
الأمر
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "211"
(2/153)
قولان، وعلى هذا فهل يقتضي التحريم من جهة
اللغة أم من جهة الشرع؟ فيه وجهان. كالوجهين في الأمر، ثم
المراد صيغة "لا تفعل" فأما لفظ "ن هـ ى" فإنه للقول الطالب
للترك أعم من أن يكون حراما أو مكروها.
وقال ابن فورك: صيغته عندنا "لا تفعل" و "انته" و "اكفف"
ونحوه.
(2/154)
[ورود صيغة النهي
لمعان]
وترد صيغه النهي لمعان:
أحدها: للتحريم، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}
[الاسراء:ة32]
الثاني: الكراهة، كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ومثله الهندي
بقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة:235] أي
على عقدة النكاح، وقد يدل عليه السياق كقوله: {وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من
الآية267] قال الصيرفي: لأنه حثهم على إنفاق أطيب أموالهم، لا
أنه يحرم عليهم إنفاق الخبيث من التمر أو الشعير من القوت، وإن
كانوا يقتاتون ما فوقه، وهذا إنما نزل في الأقناء التي كانت
تعلق في المسجد فكانوا يعلقون، الحشف.
قال:فالمراد بالخبيث هنا الأردأ، وقد يقع على الحرام،كقوله:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وقد يعلل
بالتوهم، لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه
فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها فإنه لا يدري أين باتت
يده1" وكذلك حديث عدي في العبد:"إني أخشى أن يكون قد أمسك على
نفسه" فنبهه على مظنة الشبهة احتياطا.
الثالث: الأدب، كقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
[البقرة:237].
الرابع: التحقير لشأن المنهي عنه، كقوله تعالى: {وَلا
تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [طه:131].
الخامس: التحذير، كقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
السادس: بيان العاقبة، كقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل
عمران:169].
السابع: اليأس، كقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:66].
الثامن: للإرشاد إلى الأحوط بالترك، كقوله تعالى: {لا
تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ}
ـــــــ
رواه مسلم في صحيحه ""1/233" كتاب الطهارة، باب كراهة غمس
المتوضء وغيره يده المشكوك في نجاستها، برقم "278". 1
(2/155)
[المائدة:101]ومنه قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا" قال الرافعي في باب الهبة: قال
الأئمة: هذا إرشاد معناه: لا تعمروا طمعا في أن يعود إليكم،
واعلموا أن سبيله سبيل الميراث.
التاسع: اتباع الأمر من الخوف كقوله: {وَلا تَخَفْ إِنَّكَ
مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص:31].
العاشر: الدعاء، كقوله:"لا تكلنا إلى أنفسنا".
الحادي عشر: الالتماس، كقولك لنظيرك: لا تفعل هذا.
الثاني عشر: التهديد، كقولك لمن لا يمتثل أمرك: لا تمتثل أمري.
الثالث عشر: الإباحة وذلك في النهي بعد الإيجاب فإنه إباحة
للترك.
الرابع عشر: الخبر، ومثله الصيرفي بقوله تعالى: {لا
تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] فالنون في
"تنفذون" جعل خبرا لا نهيا يدل على عجزهم عن قدرتهم ولولا
النون لكان نهيا، وأن لهم قدرة كفهم عنها النهي، وعكسه قوله:
{لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] أي: لا ترتابوا فيه على أحد
القولين، كقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]لم ينههم عن الموت في وقت; لأن ذلك
ليس إليهم وقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا
زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] لفظه الخبر، ومعناه
النهي أي: لا تنكحوا. وليست حقيقة في الكل اتفاقا بل في البعض،
وهو إما تحريم فقط، وإما الكراهة فقط، وإما هو مشترك بينهما أو
هي مشتركة بينهما أقوال: والأول معنوي، والثاني لفظي، أو لا
يدرى حال هذه الأقسام مع أنه غير خارج عنها، أو الوقف على ما
سبق في الأمر.
وحكى الغزالي القول بالإباحة هنا، ورأيت من ينكره عليه، وإنما
قال الغزالي في "المنخول": إن من حمل الأمر على الإباحة ورفع
الحرج حمل هذا على رفع الحرج في ترك الفعل. وقال أبو زيد في
"التقويم":لم أقف على الخلاف في حكم النهي كما في الأمر،
فيحتمل أن تكون أقوالهم في النهي حسب اختلافهم في الأمر، فمن
قال بالوقف ثم يقول به هنا، ومن قال بالإباحة ثم يقول بالإباحة
هنا، وهو إباحة الانتهاء، ومن قال بالندب هناك يندب الانتهاء
هنا، ومن قال بالوجوب ثم يقول به هاهنا.
وقال البزدوي: إن المعتزلة قالوا بالندب في باب الأمر، وفي
النهي قالوا بالوجوب; لأن الأمر يقتضي حسن المأمور به،
والمندوب والواجب في اقتضاء الحسن سواء بخلاف النهي، فإنه
يقتضي قبح المنهي عنه، والانتهاء عن القبيح واجب، فأما
(2/156)
إتيان الحسن فليس بواجب، ولهذا فرقوا.
[يجيء النفي في معنى النهي]
وقد يجيء النفي في معنى النهي، ويختلف حاله بحسب المعاني:
منها أن يكون نهيا وزجرا، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا} [التوبة:120] ومنها: أن يكون تعجيزا، كقوله
تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}
[النمل:60].
ومنها أن يكون تنزيها، كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم:35] ذكره ابن عطية في سورة مريم.
(2/157)
مسألة: [مفارقة
الأمر للنهي في الدوام والتكرار]
النهي يفارق الأمر في الدوام والتكرار فإن في اقتضاء الأمر
التكرار خلافا مشهورا، وها هنا قطع جماعة منهم الصيرفي والشيخ
أبو إسحاق بأن النهي المطلق يقتضي التكرار والدوام، ونقل
الإجماع فيه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وابن برهان، وكذا قاله
أبو زيد في "التقويم".
وأما الخلاف في أن الأمر هل يقتضي التكرار أم لا؟ فلا يتصور
مجيئه في النهي; لأن الانتهاء عن النهي مما يستغرق العمر إن
كان مطلقا; لأنه لا انتهاء إلا بعدم المنهي عنه من قبله، ولا
يتم الانعدام من قبله إلا بالثبوت عليه قبل الفعل فلا يتصور
تكراره بخلاف الأمر بالفعل; لأن الفعل المستمر له حد يعرف
وجوده بحده ثم يتصور التكرار بعده. وقال المازري: حكى غير واحد
الاتفاق على أن النهي يقتضي الاستيعاب للأزمنة بخلاف الأمر،
لكن القاضي عبد الوهاب حكى قولا أنه كالأمر في اقتضائه المرة
الواحدة، ولم يسم من ذهب إليه، والقاضي وغيره أجروه مجرى الأمر
في أنه لا يقتضي الاستيعاب. وقال أبو الحسين السهيلي في كتاب
أدب "الجدل": النهي المطلق يقتضي التكرار في قول الجمهور،
وسمعت فيه وجها آخر أنه يقتضي الاجتناب عن الفعل في الزمن
الأول وحده، وهذا مما لا يجوز حكايته لضعفه وسقوطه. انتهى.
وقال ابن عقيل في "الواضح": النهي يقتضي التكرار، وقال القاضي
أبو بكر الباقلاني: لا يقتضيه، وهذا النقل عن القاضي يخالفه
نقل المازري، وهو الصواب.
(2/157)
وممن نقل الخلاف في المسألة الآمدي وابن
الحاجب، واختار الإمام في "المحصول" أنه لا يقتضي التكرار كما
لا يقتضيه في الأمر. وقال سليم الرازي: النهي يقتضي التكرار،
وعن بعض الأشعرية أنه يقتضي الكف عقب لفظ النهي.
فتحصلنا فيه على مذاهب: يقتضيه مطلقا. يقتضيه مرة واحدة. لا
يقتضيه بل يوقف إلى الدليل من خارج، وهو المنقول عن القاضي أبي
بكر، واختاره في "المحصول"، ويجيء مما سبق في الأمر مذهب آخر
بالتفصيل من أن يرجع إلى قطع الواقع فللمرة، كقولك للمتحرك: لا
تتحرك، وإن رجع إلى اتصال الواقع واستدامته فللدوام، كقولك
للمتحرك: لا تسكن.
أما النهي المقيد بشرط أو صفة فالخلاف السابق في الأمر في
اقتضائه التكرار يأتي هنا، فمن قال: النهي لا يقتضي بمجرده
التكرار والدوام قال به هاهنا.
قال القاضي عبد الوهاب والشيخ أبو إسحاق: والصحيح أنه يتكرر
وهو آكد من مطلقه بخلاف الأمر; لأن مطلق النهي التكرار فالمعلق
على الشرط أولى.
وقال إلكيا الهراسي: النهي المقيد بشرط أو صفة لا يقتضي
التكرار بخلاف النهي المطلق; لأنه إذا قيده بوصف صار مغلوبا
على الاعتماد مختصا به، فلو اقتضى التكرار مع فهم تعدده كان
كالأمر.
وحكى صاحب "الواضح" عن أبي عبد الله البصري أنه فرق بين النهي
المعلق بشرط، وبين النهي المطلق، فحمل المطلق على التأبيد،
وفصل بينه وبين الأمر، وحمل النهي المعلق بشرط على أنه لا
يقتضي التكرار سوى بينه وبين الأمر، ومثله بالسيد إذا قال
لعبده: لا تسقني الماء إذا دخل زيد الدار، فدخل زيد دفعة واحدة
كفى، ولا يجب أن يمنع من سقيه كل دفعة يدخل زيد الدار.
مسألة
إذا قلنا: النهي للتحريم فتقدم صيغة الأمر هل يغيره؟ فيه
طريقان:
أحدهما: القطع بأنها لا تغيره، وإن جرى الخلاف في الأمر، وبه
قال الأستاذ أبو إسحاق والغزالي في "المنخول" وحكيا الإجماع
على ذلك.
والثاني: طرد خلاف الأمر، وقد حكى الطريقين ابن فورك، وقال:
الأشبه التسوية، ومنع إمام الحرمين الإجماع، وطرد الوقف هنا
بناء على اعتقاده أن لا فرق بينهما، ويمكن الفرق بأن الإباحة
أحد محامل "افعل" بخلاف "لا تفعل".
(2/158)
مسألة
النهي يقتضي الكف على الفور على المشهور، قالوا: ولا يتصور
مجيء خلاف الأمر هنا. قال الشيخ أبو حامد: إنه يقتضي الفور بلا
خلاف على المذهب. وحكى ابن عقيل الحنبلي عن القاضي أبي بكر أنه
يقتضيه، وقال ابن فورك: يجيء الخلاف إن قلنا: الأمر يقتضي
التكرار بظاهره، وإن قلنا: لا يتكرر بظاهره إلا بدليل فالقول
فيه كالقول في الأمر وقال الإمام الرازي: إن قلنا: النهي يقتضي
التكرار فهو يقتضي الفور وإلا فلا، ونازعه النقشواني
والأصفهاني، وقالا: بناء الفور على وجوب التكرار ظاهر، وأما
بناء عدم وجوب الفور على عدم اقتضاء التكرار فمشكل، لجواز أن
لا يقتضي التكرار ويقتضي الفور.
(2/159)
مسألة: [النهي عن
واحد لا بعينه]
سبق أن الأمر بالشيء نهي عن ضده على الأصح، وأن النهي عن الشيء
أمر بضده إن كان له ضد واحد كالصوم في العيدين والفطر، وإن كان
له أضداد فهو أمر بواحد منها، وسبق في الواجب المخير أن الواجب
أحدها لا بعينه، وأما في النهي عن واحد لا بعينه نحو لا تكلم
زيدا أو عمرا، فإن النهي متعلق بواحد منهما لا بعينه فيحرم
الجمع بينهما، ويجوز له فعل كل منهما منفردا.
وقالت المعتزلة: يقتضي النهي عنهما ولا يجوز به فعل أحدهما
بناء على أن "أو" في النهي تقتضي الجمع دون التخيير، فإذا قال:
لا تكلم زيدا أو عمرا، فعلى مذهبنا يجوز أن يكلم أيهما شاء على
الانفراد، وعلى قول المعتزلة لا يجوز.
(2/159)
مسألة: [الاختلاف في
معنى لا تقم]
اختلفوا في معنى قولك:"لا تقم" فذهب كثير من المعتزلة إلى أن
المعنى لا يوجد منك قيام ف "لا" حرف نهي، والمراد نفي المصدر
بواسطة إشعار الفعل به، واختاره القاضي.
(2/159)
مسألة: [المكلف به
في النهي]
لا خلاف في أن المكلف به في الأمر الفعل.
واختلف في المكلف به في النهي هل المكلف به ضد المنهي عنه، أو
عدم الفعل؟ والأول قول أصحابنا، ومعنى "لا تزن" عندهم تلبس ضد
من أضداد الزنى أي: افعل فعلا غيره مباحا أي فعل كان.
وقال أبو هاشم: معناه لا تفعل الزنى من غير تعرض للضد حتى لو
خلا عن المأمور وعن كل ترك له استحق الذم على أنه لم يفعل.
قال القاضي: ولما باح بهذا خالفه أصحابنا من المعتزلة وقالوا:
ما زلت منكرا على الجبرية إثبات الثواب والعقاب على ما ليس
بخلق لهم وليس بفعل لهم على التحقيق، ثم صرت إلى ثبوت الذم من
غير إقدام على فعل. وسمي بهذه المسألة أبو هاشم الذمي حيث إنه
علق بالذم المعدوم، وهذا يهدم جملة قواعده في التعديل
والتجويز.
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة أن النظر هل هو إلى صورة اللفظ
فليس فيه إلا العدم؟ فإذا قال: لا تتحرك، فعدم الحركة هو متعلق
النهي، أو يلاحظ أن الطلب إنما وضع لما هو مقدور مما ليس
بمقدور، ولا يطلب عدمه، والعدم نفي صرف، فلا يكون مقدورا، فلا
يتعلق به طلب، فتعين تعلق الطلب بالضد. فالجمهور لحظوا المعنى
وأبو هاشم لحظ اللفظ، والمعنى أتم في الاعتبار من صورة اللفظ.
ونقل التبريزي عن الغزالي موافقة أبي هاشم، وهو معذور في ذلك،
فإنه قال في "المنخول" قبيل باب العموم: وأما التروك فعبارة عن
أضداد الواجبات، كالقعود عند الأمر بالقيام، ثم بعض ترك القيام
لا بالقعود، ووافقنا عليه أبو هاشم الذمي من حيث إنه علق الذم
بالمعدوم. انتهى.
وهذا النقل عن أبي هاشم مردود، فإن من أمر بالقيام فلم يمتثل،
عصى عنده لكونه لم يفعل القيام لا لكونه فعل الترك، وكونه لم
يفعل نفي لا حقيقة له، وعليه
(2/160)
يذم، ولهذا سمي الذمي.
وظاهر كلامه في "المستصفى" في هذه المسألة التفصيل بين الترك
المجرد المقصود لنفسه من غير أن يقصد معه ضده بالمكلف فيه
بالفعل كالصوم، فالكف منه مقصود، ولهذا وجب فيه النية وبين
الترك المقصود من جهة إيقاع ضده كالزنا والشرب فالمكلف فيه
بالضد.وتبعه العبدري في شرحه. قال: ومنشأ الخلاف هل الترك
مقدور للعبد فيصح التكليف كالفعل أم لا؟ قال: وهي حينئذ كلامية
فكان ينبغي تقديم البحث في أنه مقدور أم لا على هذه، لكنهم لم
ينظروا إلا لكيفية وقوعه في الشرع.
وقال بعض المحققين: التحرير في هذه المسألة أن يقال: المطلوب
في النهي الانتهاء ويلزم من الانتهاء فعل ضد المنهي عنه ولا
يعكس، فقال: المطلوب ضد المنهي عنه، ويلزم منه الانتهاء; لأن
الانتهاء متقدم في الرتبة في الفعل على فعل الضد فكان معه
كالسبب مع المسبب، فالانتهاء وفعل الضد في زمان واحد، لكن
الانتهاء متقدم بالرتبة تقدم العلة على المعلول حتى لو فرض أن
الانتهاء يحصل بدون فعل الضد حصل المطلوب به، ولم يكن حاجة إلى
فعل الضد لكن ذلك فرض غير ممكن، فالمقصود بالذات إنما هو
الانتهاء، وأما فعل الضد فلا يقصد إلا بالالتزام بل قد لا يقصد
أصلا، ولا يستحضر المتكلم، ومتى قصد فعل الضد وطلبه من حيث هو
كان أمرا; لا نهيا عن ضده.
وعلى هذا ينبغي حمل قول الجمهور.
وأما قول أبي هاشم: إن المطلوب نفس "لا تفعل" فهو وإن تبادر
إلى الذهن من جهة أن حرف النهي ورد على الفعل، فقد طلب منه
عدمه لكن نفس أن "لا تفعل" عدم محض فلا يكلف به ولا يطلب،
وإنما يطلب، من المكلف ما له قدرة على تحصيله، فلعل مراد أبي
هاشم الذي هو من الانتهاء، والانتهاء فعل، فإن أراد ذلك تقارب
المذهبان، ويكون الجمهور نظروا إلى حقيقة ما هو مكلف به، وأبو
هاشم نظر إلى المقصود به، وهو إعدام دخول المنهي عنه في
الوجود، وإن لم يرد أبو هاشم ذلك وأراد أن العدم الصرف الذي لا
صنع للمكلف في تحصيله فهو باطل.
(2/161)
تنبيهان
الأول:
[الفرق بين المسألتين]:
سألوا الفرق بين هذه المسألة وبين المتقدمة أن النهي عن الشيء
أمر بضده، ولا شك أن قولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده هو معنى
أن المطلوب فعل الضد، ومعنى أنه ليس أمرا بضده هو أن المطلوب
انتفاء المنهي عنه، فالمسألتان واحدة.
وأجاب الأصفهاني بأن الكلام في تلك المسألة بحث لفظي، وفي هذه
معنوي، ورد بأن الأمر لفظا أن المطلوب المعنوي مأمور به على ما
قاله فيحصل الاشتباه.
وقال القرافي: فيه وجهان:
أحدهما: أن قولنا: النهي عن الشيء أمر بضده بحث في المتعلقات -
بكسر اللام - فإن النهي متعلق بالمنهي عنه، والأمر متعلق
بالمأمور، وقولنا: المطلوب في النهي فعل الضد بحث في المتعلقات
- بفتح اللام -.
ورد بأنهما وإن تغايرا لكنه تغاير صوري، ولا يلزم منه عدم
تداخل إحدى المسألتين في الأخرى.
الثاني: أن البحث في تلك من جهة دلالة الالتزام أي: أنه من نهى
عن الشيء مطابقة دل على طلب ضده التزاما، والبحث في هذه من جهة
دلالة المطابقة فما مدلولهما المطابق هل هو العدم أو ضده؟.
قيل: والمختار أن الكلام في المسألتين في الالتزام لا المطابقة
على ما سبق تقريره.
ووجه الجمع أن قولهم: المطلوب بالنهي فعل الضد مرادهم به الضد
العام، وهو الانتهاء الحاصل بواحد من الأضداد المنهي عنه.
وقوله: النهي عن الشيء أمر بضده قد بينوا أنه بطريق الالتزام
مراد به الضد الخاص، وهو أحد الأضداد الذي يحصل به الانتهاء أو
بغيره، فإن أرادوا الضد العام لزم من كل من المسألتين إلى
الأخرى لكن لا يكون تكرارا بل هما مسألتان، وإن لزم من معرفة
إحداهما حكم الأخرى فلا يضر، وإنما يحسن السؤال لو كانوا وضعوا
مسألة "النهي عن الشيء أمر بضده" أو لا، وليس ذلك في "المحصول"
بل الأمر بالشيء نهي عن ضده، وتكلم غيره في أن النهي عن
(2/162)
الشيء هل هو أمر بضده؟
التنبيه الثاني:
علم من كلامهم فرض الخلاف فيما إذا كان للمنهي عنه ضد وجودي
يفهم، فإن لم يكن كذلك مثل أن ينهى عن شيء لا يفهم غير ترك ذلك
الشيء نحو "لا تفعل" فلا يجوز التكليف به إلا على القول
بالتكليف بالمحال.
(2/163)
مسألة: [النهي عن
متعدد]
النهي عن متعدد إما أن يكون نهيا عن الجمع أعني الهيئة
الاجتماعية دون المفردات، كالنهي عن نكاح الأختين، وكالحرام
المخير عندنا، وإما أن يكون نهيا على الجميع أي: عن كل سواء
كان مع صاحبه، أو منفردا، كالزنى والسرقة فالنهي على الجميع
معناه على الجمع في النهي أي: كل واحد منهما منهي عنه، لا تفعل
هذا ولا ذاك، والنهي عن الجمع لا يجمع بينهما، وعلى البدل لا
تفعل هذا إن فعلت ذلك فيحرم الجمع بينهما، وعن البدل النهي عن
أن يجعل الشيء بدلا ويفهم منه النهي عن أن يفعل أحدهما بدون
الآخر.
وفرق الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في "شرح الإلمام" بين
النهي عن الجمع والنهي على الجمع بأن النهي على الجمع يقتضي
المنع من كل واحد منهما، وأما النهي عن الجمع من فعلهما معا
بقيد الجمعية، ولا يلزم منه المنع من أحدهما إلا مع الجمعية
فيمكن فعل أحدهما دون الآخر، فالنهي عن الجمع مشروط بإمكان
الانفكاك عن الشيئين، والنهي على الجمع مشروط بإمكان الخلو عن
الشيئين، فالنهي على الجمع منشؤه أن يكون في كل واحد منهما
مفسدة تستقل بالمنع، والنهي عن الجمع حين تكون المفسدة ناشئة
عن اجتماعهما.
(2/163)
مسألة: [اقتضاء
النهي للفساد]
إذا ثبت أن النهي للتحريم فهل يقتضي الفساد؟
اعلم أن النهي عن الشيء على قسمين:
أحدهما: أن يكون لغيره وهو ضربان: أحدهما: ما نهي عنه لمعنى
جاوزه
(2/163)
[إطلاق النهي هل
يقتضي الفساد]
أحدها: إذا اختصرت ما سبق قلت: المنهي عنه إما تمام الماهية أو
جزؤها أو لازم لها أو خارج مقارن فهذه أربعة أقسام، فالأولان
يفيدان الفساد عندنا، وعند أبي حنيفة: لتمكن المفسدة من جوهر
الماهية، ثم الشافعي ومالك يقولان: إطلاق النهي يقتضي الفساد
بظاهره فيما أضيف إليه ولا ينصرف عنه إلا بدليل منفصل يصرف
النهي إلى خارج مقارن، وأبو حنيفة يقول: يحمل على المفارق ولا
ينصرف إلى ما أضيف إليه إلا بدليل.
والحاصل: أن الأصل عندنا انسحاب الفساد على المنهيات ما لم
يصرف صارف، وعنده بالعكس. قال صاحب "التقويم": قال علماؤنا:
مطلق النهي عن الأفعال التي تتحقق حسا ينصرف إلى ما قبح لعينه،
وعن التصرفات والأفعال التي تتحقق شرعا، كالعقود والعبادات لا
ينصرف إلى ما قبح لغيره إلا بدليل. وقال الشافعي في الموضعين:
يدل على قبحه في عينه، وقال بعض محققيهم: النهي بلا قرينة
يقتضي القبح لعينه عند الشافعي، وفائدته بطلان التصرف، وعندنا
يقتضي القبح لغيره والصحة لأصله.
قال: وينبني على الخلاف أنه إذا وجدت القرينة على أن النهي سبب
القبح لغيره، وكان ذلك وصفا فإنه باطل عند الشافعي وعندنا يكون
صحيحا بأصله لا بوصفه.
وقد اعتاصت هذه المسألة على قوم من المحققين منهم الغزالي
فذهبوا إلى آراء معضلة تداني مذهب أبي حنيفة.
والثالث: اللازم، كالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، وعن
بيع وشرط، وعن التفرقة بين الأم وولدها، فعندنا يدل على الفساد
خلافا لأبي حنيفة حتى إنه قال: من نذر صوما فصام يوم العيد
يجزئه وينعقد مع وصف الفساد.
والرابع: الخارج المقارن، فلا يمنع الصحة عند الأكثرين. وللفرق
بين هذه المقامات تأثير، وقد ضرب له المازري مثلا حسنا، وهو أن
الرجل إذا غص بلقمة أو
(2/170)
عطش فأمر غلامه أن يأتيه بماء حلو في كوز
وأن يرفق في مجيئه، ولا يكون منه عجلة ولا لعب فله أحوال.
أحدها: أن يقعد فلا يأتيه بشيء، فالمخالفة فيه ظاهرة.
والثاني: أن يأتيه بالكوز ليس فيه ماء فهذا ارتكاب المنهي عنه
لعينه; لأن وجود هذا الكوز كالعدم. والثالث: أن يأتيه بالكوز
وفيه ماء مالح زعاق فهو كالذي قبله في المخالفة، وارتكابه
المنهي عنه اللازم له.
الرابع: أن يأتيه بكوز ماء عذب بارد ولكنه جرى في مجيئه، وخالف
ما نهي عنه من ذلك فلا ريب في أن امتثال المقصود قد حصل، وإن
كان قد خالف في أمر خارج عن ذلك، فهذا هو المنهي عنه لغيره.
وحاصله أنه لم يتوارد فيه النفي والإثبات بالنسبة إلى معنى
واحد وأقوى ما يرد من قال بأن النهي عن الشيء لغيره يقتضي
الفساد أن من تعين عليه قضاء دين وهو متمكن من أدائه فاشتغل
عنه بالتحرم بصلاة مفروضة، أو إنشاء عقد بيع أو نكاح فإن صلاته
لا تصح، وكذلك بيعه ونكاحه، ولا قائل به.
(2/171)
[النهي في المعاملات
يدل على الفساد]
الأمر الثاني: أن أصحابنا ذكروا أن النهي في المعاملات يدل على
الفساد إن رجع إلى أمر داخل فيها أو لازم لها، فإن رجع إلى أمر
خارج لم يقتضه، فصرحوا بالراجع إلى أمر داخل أو خارج أو لازم،
وسكتوا عما شككنا فيه، هل هو راجع إلى الداخل أو الخارج؟ وهي
مسألة مهمة نبه عليها الشيخ عز الدين في "قواعده"، قال: كل
تصرف منهي عنه لأمر يجاوزه أو يقارنه مع توفر شرائطه وأركانه
فهو صحيح، وكل تصرف منهي عنه ولم يعلم لما نهي عنه فهو باطل
حملا للفظ النهي على الحقيقة. انتهى.
ذكره بعد أن ذكر أن المنهي عنه لعينه، والذي لم يعلم لماذا نهى
عنه لأمر داخل أو خارج؟ هو المحتمل لأن يرجع إلى داخل.
الأمر الثالث: أن القائلين بأنه يدل على الفساد اختلفوا هل يدل
عليه من جهة اللفظ أو المعنى أو خارج عن اللفظ؟ والثاني: قول
ابن السمعاني، والثالث: قول الغزالي فإنه قال في "المستصفى"
فإن قيل: فلو قال قائل: النهي يدل على الفساد إن رجع إلى عين
الشيء دون أن يرجع إلى غيره.
(2/171)
قلنا: لا يصح; لأنه لا فرق بين الطلاق في
حال الحيض والصلاة في الدار المغصوبة فإنه إن أمكن أن يقال:
ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل لوقوعه في
حال الحيض ولوقوعها في الدار المغصوبة أمكن تقدير مثله في
الصلاة في حال الحيض فلا اعتماد إلا على فوات الشرط، ويعرف
الشرط بدليل دل عليه وعلى ارتباط الصحة به، ولا يعرف بمجرد
النهي فإنه لا يدل عليه لا وضعا ولا شرعا. قال: وكل نهي تضمن
ارتكابه الإخلال بالشرط دل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط
لا من حيث النهي. انتهى.
وإذا قلنا بالأول فهل دل عليه شرعا لا لغة، أو إنما دل عليه
باللغة فقط؟ قولان. حكاهما ابن السمعاني وغيره، والأول: قول
الشريف المرتضى فيما حكاه صاحب "المصادر" عنه وصححه، وكذلك
صححه الآمدي وابن الحاجب، وجرى عليه البيضاوي، وهذا نظير
الخلاف السابق في الأمر هل اقتضى الوجوب بصيغته أو بالشرع؟
وفائدة الخلاف ثم تأتي هنا مثله.
وأما القائلون بأنه لا يدل على الفساد فاختلفوا هل يقتضي الصحة
والإجزاء؟ فالجمهور على أنه لا يدل عليها، وإلا يلزم ثبوت
الصحة الشرعية في جميع المنهيات، ونقل ابن القشيري فيه
الإجماع، وقيل: يدل عليها; لأن التعبير به يقتضي انصرافه إلى
الصحيح; إذ يستحيل النهي عن المستحيل، واختاره الغزالي في
مواضع من "المستصفى" مع تصريحه هنا ببطلانه، وأطلق، وتابعه
الآمدي عن الحنفية أن النهي يدل على الصحة، وليس ذلك في كل
منهي، فقد قالوا في النهي عن صوم العيد: إنه يدل على صحته; لأن
النهي عنه لوصف لا لعينه، فإذا نذره انعقد، فإن صامه صح، وإن
كان محرما.
اتفقوا على أن صلاة الحائض باطلة مع أن النهي عنها لوصفها بل
قالوا ذلك في مخالفة الأوامر بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن
ضده، فأبطلوا صلاة من يحاذي المرأة في إتمامها جميعا، فأقام
واحد، لما ذكروا من قوله:"أخروهن من حيث أخرهن الله"1.
ـــــــ
1 هو قول لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ذكره الحافظ ابن
حجر في فتح الباري "2/213" في شرحه لحديث، برقم "727" عن أنس
بن مالك قال: صليت أن ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه
وسلم وأمي أم سليم خلفنا.
(2/172)
واتفقوا على بطلان نكاح المتعة وصحة نكاح
الشغار مع أن النهي لكل منهما لوصفهما، ونقل الدبوسي عن أبي
حنيفة ومحمد بن الحسن أنه يدل على الصحة وأنه استدل بالنهي عن
صوم يوم العيد على انعقاده محتجين بأن النهي عن غير المقدور
عليه عبث; إذ يمتنع أن يقال للأعمى: لا تبصر، وللأبكم:لا
تتكلم.
وأجاب أصحابنا بأن ذلك في الممتنع حسا لا شرعا، وإلا لانتقض
بجميع المناهي الفاسدة. هكذا أطلق الخلاف ابن السمعاني والآمدي
وغيرهما.
والصواب: أنهما إنما قالا ذلك في المنهي عنه لوصفه كما سبق،
وقد صرح أبو زيد وشمس الأئمة وغيرهما من الحنفية بأن المنهي
عنه لعينه غير مشروع أصلا. قال الأصفهاني: والقائل بهذا المذهب
لا يمكنه دعوى أنه يدل على الصحة دلالة مطابقة فلم يبق إلا
دلالة الالتزام، وشرطها اللزوم وهو مفقود هاهنا، وقيل: إن
أرادوا بالصحة العقلية، وهي الإمكان، أي: كون المنهي عنه ممكن
الوجود لا ممتنع فصحيح، وإن أرادوا الصحة الشرعية بالمستفادة
من الشرع وهي ترتب آثار الشيء شرعا عليه فذلك تناقض; إذ يصير
معناه: النهي شرعا يقتضي صحة المنهي عنه شرعا، وهو محال; إذ
يلزم منه صحة كل ما نهى الشرع عنه، وقد أبطلوا هم منه أشياء
كبيع الحمل في البطن ونحوه، ولأن النهي لغة وشرعا يقتضي إعدام
المنهي عنه فكيف ترتب آثاره مع إعدامه؟ وكذلك إن الصحة إما
عقلية، وهي إمكان الشيء وقبوله للعدم والوجود في نظر العقل
كإمكان العالم والأجسام والأعراض، أو عادية كالمشي في الجهات
أماما ويمينا وشمالا، أو شرعية وهي الإذن في الشيء فيتناول
الأحكام الشرعية إلا التحريم; إذ لا إذن فيه، وحينئذ دليل
الحنفية إنما يدل على اقتضاء النهي الصحة العقلية أو العادية،
وذلك متفق عليه. أما الشرعية فلا خلاف أنه ليس فيها منهي عنه
وحينئذ دليلهم لا يمس محل النزاع ويرجع الخلاف لفظيا.
(2/173)
[النهي الذي للتنزيه
لا يقتضي الفساد]
الأمر الرابع: أن محل الخلاف في أن النهي يقتضي الفساد أو لا؟.
إنما هو النهي الذي للتحريم لما بين الصحة والتحريم من التضاد،
أما النهي الذي للتنزيه، فقال الهندي في "النهاية": لا خلاف
على ما يشعر به كلامهم، وقد صرح بذلك بعض المصنفين انتهى.
(2/173)
أي: لا خلاف في عدم اقتضائه الفساد; إذ لا
تضاد بين الاعتداد بالشيء مع كونه مكروها، وعلى ذلك بنى
أصحابنا صحة الصلاة في الحمام وأعطان الإبل والمقبرة ونحوه مع
القول بكراهتها، لكن صرح الغزالي في "المستصفى" بجريانه في نهي
الكراهة. قال: كما يتضاد الحرام والواجب يتضاد المكروه والواجب
حتى لا يكون الشيء واجبا مكروها، وهذا هو الظاهر; لأن المكروه
مطلوب الترك، والصحة أمر شرعي فلا يمكن كونه صحيحا; لأن طلب
تركه يوجب عدم الإتيان به إذا وقع، وذلك هو الفساد، ولهذا
قلنا: إن مطلق الأمر لا يتناول المكروه خلافا للحنفية، ولا تصح
الصلاة في الأوقات المكروهة وإن قلنا: إنها كراهة تنزيه، وقد
قال ابن الصلاح والنووي: إن الكراهة مانعة من الصحة سواء كانت
تحريما أو تنزيها; لأنها تضاد الأمر كيف كانت; لأنها للترك،
والأمر طلب الفعل، وقد استشكل ذلك عليهما، ولا إشكال لما
قررناه.
قالا: ومأخذ الوجهين أن النهي هل يعود إلى نفس الصلاة أم إلى
خارج عنها؟ ومن هنا حكى بعضهم قولين في أن نهي التنزيه إذا كان
لعين الشيء هل يقتضي الفساد أم لا؟ وقد يتوقف في نهي التنزيه;
لأن التناقض إنما يجيء إذا كان النهي للتحريم.
وعلى تقدير ما قاله الغزالي وابن الصلاح فذلك التضاد إنما يجيء
فيما هو واجب خاصة لما بين الوجوب والكراهة من التباين، فأما
الصحة مع الإباحة كما في العقود المنهي عنها تنزيها فلا تضاد
حينئذ، والفساد مختص بما كان النهي فيه للتحريم.
الأمر الخامس: أن الخلاف في أنه هل يقتضي الفساد أم لا؟ إنما
هو في الفساد بمعنى البطلان على رأينا أنهما مترادفان، لا
بالمعنى الذي ذهب إليه أبو حنيفة: نبه عليه الهندي وأشار إليه
ابن فورك.
السادس: قد تقدم أن الفساد إذا أطلق في العبادات أريد به عدم
الإجزاء، وإذا أطلق في المعاملات أريد به عدم ترتب آثار
المعقود عليها من اللزوم وانتقال الملك وصحة التصرف وغير ذلك
من الأحكام. وعلى هذا فإذا قيل: النهي يقتضي الفساد ويدل عليه
معناه أن المنهي عنه إذا قدر وقوعه لا يجزئ في نفسه إن كان
عبادة، ولا يترتب عليه حكمه إن كان معاملة وإذا قيل: لا يدل
على الفساد فإن أريد به أن النهي يقتضي صحة المنهي عنه وترتب
عليه أحكامه كالمنقول عن الحنفية ففاسد; وإن أريد به أن صيغة
النهي لا تنصرف لشيء من ذينك الأمرين،وهو الظاهر كان أقرب، فإن
الفساد حينئذ إنما يأخذونه من القرائن. والدليل عليه: أن
الصيغة لو دلت عليه،
(2/174)
فأما من جهة اللغة فباطل; لأن الحكم الشرعي
لا يتلقى من اللغة، وأما من جهة الشرع فلا بد من دليل شرعي يدل
عليه.
السابع: قد سبق الخلاف في تفسير الفساد في العبادات.
قال الهندي: والأظهر أن كل من ذهب من الفقهاء والمتكلمين إلى
أنه يقتضي الفساد في العبادات أو لا يقتضيه، فإنما ذهب إليه
بالمعنى المصطلح عليه عنده لا بالمعنى الآخر، وإن كان الأمر في
الأمر على خلاف هذا.
الثامن: أطلق المفصلون بأن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون
العقود، ولم يتعرضوا لغيرهما، وزاد ابن الصباغ في "العدة"
الإيقاعات وألحقها بالعقود، ومراده بها الطلاق المحرم كطلاق
الحائض، وكإرسال الثلاث جميعا على قاعدة الحنفية في أنه محرم،
وكذلك العتق المنهي عنه إذا قلنا بنفوذه، وكذلك الوطء المحرم
كالوطء في الحيض، فإنه يحصل به الدخول، ويكمل به المهر. ولهذا
أشار ابن الحاجب بقوله في الإجزاء دون السببية فأتى بالسببية
ليشمل العقود والإيقاعات، وهي زيادة حسنة، لكن يرد عليها أنه
جعل هذا قولا ثالثا مفصلا بين طرفين فاقتضى أن يكون القول
الأول الذي اختاره شمل هذه الصور، ويكون النهي عنهما يدل على
فسادها، وأنه اختاره، وليس كذلك فقد تقدم الإجماع على وقوع
الطلاق في الحيض، وإرسال الثلاث، وخلاف الظاهرية والشيعة غير
معتد به.
التاسع: أن محل الخلاف في مطلق النهي ليخرج المقترن بقرينة تدل
على الفساد لجواز أن يكون دالا على المنع لخلل في أركانه أو
شرائطه، أو يقترن بقرينة تدل على أنه ليس للفساد نحو النهي عن
الشيء لأمر خارج عنه كما في المنهيين ولا خلاف فيه، وإن أشعر
كلام بعضهم بجريان خلاف فيه فهو غير معتد به; إذ يمتنع أن يكون
له دلالة على الفساد مع دلالته على اختلال أركانه وشرائطه.
قلت: كلام ابن برهان يقتضي جريان الخلاف فيه، ومثال ما فيه
قرينة الفساد قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج المرأة
المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تنكح
نفسها1" رواه ابن ماجه والدارقطني من عدة طرق، فإن الجملة
الأخيرة منه تقتضي أن ذلك إذا وقع يكون فاسدا فلا يتوجه فيه
خلاف ألبتة، وكذلك نهيه عن بيع
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
(2/175)
الكلب، وقال فيه:"إن جاء وطلب ثمنه فاملأ
كفه ترابا1" رواه أبو داود بإسناد صحيح، وكذلك نهيه عن
الاستنجاء بالعظم أو الروث، وقال:"إنهما لا يطهران2" رواه
الدارقطني وصححه، وكذلك النهي عن نكاح الشغار فإنه للفساد.
وقد نقل النهي عن الشافعي. توجيهه أن النساء محرمات إلا بما
أحل الله من نكاح أو ملك يمين، فلا يحل المحرم من النساء
بالمحرم من النكاح. ومثال ما فيه قرينة الصحة حديث:"لا تصروا
الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها3"
فإن إثبات الخيار فيه قرينة تقتضي أن البيع قد انعقد ولم يقتض
فسادا، وكذلك نهيه عن بيع الركبان، وإثبات الخيار لصاحبه إذا
ورد السوق، وكذلك النهي عن الطلاق في الحيض لما فيه أمر
بالمراجعة دليل على أنه واقع.
العاشر: لم يتعرضوا لضبط الفرق بين المنهي عنه لنفسه أو غيره،
وقال ابن السمعاني في "الاصطلام" في مسألة صوم يوم العيد: يمكن
أن يقال: إن النهي عن الشيء إذا كان لطلب ضده فيكون النهي عن
نفس الشيء، وإذا لم يكن لطلب فلا يكون في نفسه منهيا عنه.
قال: وعلى هذا تخرج المسائل بالنهي عن الصلاة في الأرض
المغصوبة ليس لطلب ضدها، وهو ترك الصلاة، وكذلك البيع في وقت
النداء حتى لو اشتغل بشيء غير البيع كان منهيا عنه، ولو باع
وهو يسعى لم يكن منهيا عنه، وكذا النهي عن الطلاق في الحيض لم
يكن لطلب ضده، وهو بقاء النكاح حالة الحيض. ألا ترى أنه لو طلق
وهي طاهر، ثم حاضت فلا نكاح، والحيض موجود؟ وكذلك النهي عن
الإحرام مجامعا، وغير ذلك، بخلاف النهي عن صوم يوم العيد ونكاح
المحارم وغيره.
قلت: وبذلك صرح القاضي الحسين في باب النذر من "تعليقه" فقال:
كل
ـــــــ
1 رواه أبو داود "3/279" كتاب البيوع، باب:في أثمان الكلاب،
برقم"3482" عن عبد الله بن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه
ترابا" وهو حديث صحيح الإسناد.
2 ذكره ابن حجر في فتح الباري. وقال: رواه الدار قطني وصححه من
حديث أبي هريرة. قال: وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما
يجزء وإن كان منهيا عنه. انظر فتح الباري "1/308". والحديث
رواه الدار قطني في سننه"1/56". وقال إسناده صحيح.
3 رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب: النهي للبائع أن
لا يحفل الإبل والبقر، برقم"2148". ورواه مسلم.
(2/176)
نهي يطلب لضد المنهي عنه فهو لعينه، كصوم
يوم العيد، وكل نهي لم يكن لطلب ضد المنهي عنه لم يكن لعينه
كالصلاة في الدار المغصوبة.
والحق: أن الأصل في النهي رجوعه لمعنى في نفسه ولا يحكم فيه
بتعدد الجهة إلا بدليل خاص فيه; لأن حقيقة قول الشارع: حرمة
صوم يوم النحر يحرم إمساكه مع النية لا يفهم منه عند إطلاقه
سواه، فمن أراد صرف التحريم عن الحقيقة إلى أمر خارج احتاج إلى
الدليل، ولهذا قطع الشافعي ببطلانه; إذ لم يظهر صرف التحريم
إلى أمر خاص بدليل خاص وقطع بصحة الطلاق في زمن الحيض [لانصراف
التحريم عن الحقيقة] إلى أمر خارج وهو تطويل العدة، أو لحوق
الندم عن الشك في وجود الولد لدليل دل عليه وكذا قطع ببطلان
نكاح المحرم ولم يلحظ المعنى الخارج من كونه مقدمة الإفساد.
الحادي عشر: ضايق ابن السمعاني في بعض خلافياته في قولهم: نهى
عنه لعينه، وقال: النهي أبدا إنما يراد لغيره لا لعينه; لأنه
قد عرف من أصلنا أن الأحكام ليست بأوصاف ذاتية للأفعال بل
عبارة عن تعليق خطاب الشرع بأفعال المكلفين بالمنع تارة،
وبالبحث أخرى قال: وهكذا نقول في بيع الحر: لا يكون منهيا عنه
لعينه، وإنما ينهى عنه لغيره، والصلاة في الدار المغصوبة،
والبيع وقت النداء ونحوه، والنهي فيه لم يكن متناولا للصلاة
والبيع بدليل أنه لا يتصور أن يكون مرتكبا للنهي بدون البيع
فدل على أن البيع منهي عنه، والنهي يوجب فساد المنهي عنه إذا
صادف عين الشيء بالاتفاق.
الثاني عشر: إذا جعلنا الخلاف في هذه المسألة إنما هو في نهي
التحريم فقط، فإنما هو في صيغة "لا تفعل" فإنه الحقيقي في
التحريم كعكسه في الأمر، أما لفظ "نهى" فهو مشترك بين الكراهة
والتحريم كما سبق، فلا ينتهض الاستدلال به على التحريم
كاستدلال أصحابنا على بطلان بيع الغائب ونحوه بحديث أبي
هريرة:"نهى عن بيع الغرر1" فيقال: هذه الصيغة مشتركة بين
التحريم والكراهة، والنهي المقتضي للفساد إنما هو في نهي
التحريم، وهو قوله: "لا تفعل".
ـــــــ
.1 رواه مسلم في صحيحه "3/1153" كتاب البيوع، باب: بطلان بيع
الحصاة والبيع الذي فيه غرر، برقم"1513" بلفظ "نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر". وبهذا اللفظ
أخرجه النسائي في سننه، كتاب البيوع، باب: بيع الحصاة، برقم
"4518"
(2/177)
الثالث عشر: إذا قام الدليل على أن النهي
ليس للفساد، فقال ابن عقيل في "الواضح": لا يكون مجازا; لأنه
لم ينتقل عن موجبه، وإنما انتقل عن بعضه فصار كالعموم الذي خرج
بعضه يبقى حقيقة فيما بقي، وهذا منه بناء على أن دلالته على
الفساد من جهة اللفظ، فإن قلنا بالصحيح أنه من جهة الشرع لم
يكن انتفاؤه مجازا. قال: وكذا قامت الدلالة على نقله عن
التحريم فإنه يبقى نهيا حقيقة على التنزيه، كما إذا قامت دلالة
على أن الأمر ليس للوجوب، وهذا منه بناء على قول الاشتراك
والصحيح خلافه.
الثالث عشر: إذا قام الدليل على أن النهي ليس للفساد، فقال ابن
عقيل في "الواضح": لا يكون مجازا; لأنه لم ينتقل عن موجبه،
وإنما انتقل عن بعضه فصار كالعموم الذي خرج بعضه يبقى حقيقة
فيما بقي، وهذا منه بناء على أن دلالته على الفساد من جهة
اللفظ، فإن قلنا بالصحيح أنه من جهة الشرع لم يكن انتفاؤه
مجازا. قال: وكذا قامت الدلالة على نقله عن التحريم فإنه يبقى
نهيا حقيقة على التنزيه، كما إذا قامت دلالة على أن الأمر ليس
للوجوب، وهذا منه بناء على قول الاشتراك والصحيح خلافه.
(2/178)
خاتمة [ما يمتاز به
الأمر عن النهي]
فيما يمتاز به الأمر والنهي هو أن الأمر المطلق يقتضي فعل مرة
على الأصح، والنهي يقتضي التكرار على الدوام
والنهي لا يتصف بالفور والتراخي مع الإطلاق، والأمر يتصف بذلك
على الأصح.
والنهي لا يقضى إذا فات وقته المعين بخلاف الأمر.
والنهي بعد الأمر بمنزلة النهي ابتداء قطعا على الطريقة
المشهورة، وفي الأمر خلاف.
وفي تكرار النهي يقتضي التأكيد للأمر على أحد الوجهين.
والأمر يقتضي الصحة بالإجماع، والنهي يدل على فساد المنهي عنه
على أحد الوجهين. والنهي المعلق على شرط يقتضي التكرار بخلاف
الأمر المعلق على شرط على شرط على الأصح.
قال ابن فورك: ويفترقان في أن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده،
والأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان على طريق الإيجاب، وفي أنه
إذا نهى عن أشياء بلفظ التخيير لم يجز له فعل واحد منها، كقوله
تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}
[الانسان:24] والله أعلم.
(2/178)
|