البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث العام
تعريف العام لغة واصطلاحا
مدخل
...
مباحث العام
تعريف العام لغة واصطلاحا
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه:لم نكن نعرف الخصوص
والعموم حتى ورد علينا الشافعي رضي الله عنه
وهو في اللغة: شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظا أو غيره،
ومنه: عمهم الخبر إذا شملهم وأحاط بهم، ولذلك يقول المنطقيون:
العام ما لا يمنع تصور الشركة فيه كالإنسان. ويجعلون المطلق
عاما. واصطلاحا: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له من غير حصر،
أي يصلح له اللفظ العام ك "من" في العقلاء دون غيرهم، و"كل"
بحسب ما يدخل عليه، لا أن عمومه في جميع الأفراد مطلقا. وخرج
بقيد "الاستغراق" النكرة، وبقوله:"من غير حصر": أسماء العدد،
فإنها متناولة لكل ما يصلح له لكن مع حصر. ومنهم من زاد
عليه:"بوضع واحد"، ليحترز به عما يتناوله بوضعين فصاعدا
كالمشترك. وذكر ابن الحاجب أن العام يطلق أيضا على اللفظ بمجرد
مسمياته، مثل: العشرة، والمسلمين لمعهود، وضمائر الجمع، كما
يطلق التخصيص على قصر اللفظ على بعض مسمياته، وإن لم يكن عاما.
وقال أبو علي الطبري:"مساواة بعض ما تناوله لبعض"، ونوقض بلفظ
التثنية، فإن أحدهما مساو للآخر، وليس بعام
وقال القفال الشاشي: أقل العموم شيئان، كما أن أقل الخصوص
واحد. وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي: وهو الشمول، والشمول حاصل
في التثنية، وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عموما، لا
سيما إذا قلنا: أقل الجمع ثلاث، فإذا سلب عنها اسم الجمع
فالمعلوم أولى، ثم إن القفال يجوز تخصيص لفظ العموم إلى
الثلاثة، ولا يجوز تخصيص اللفظ فيما دون الثلاث، وفي الجمع بين
الكلامين تناف.
وقال المازري: العموم عند أئمة الأصول: هو القول المشتمل على
شيئين، فصاعدا. والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى
الجمع، والشمول الذي لا يتصور للواحد، وحصل من هذا خلاف في
التثنية: هل لها عموم؟ وهو غريب.
وقال الغزالي: اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين
فصاعدا.
(2/179)
واحترز بقوله:"فصاعدا" عن لفظ "التثنية"،
وأراد "بالواحد" مقابل المركب حتى يشمل الاثنين، واقتضى كلامه
في "المستصفى1" أن قوله:"واحد ومن جهة واحدة" فصل واحد،
واحتراز به عن قولهم: ضرب زيد عمرا، فإنه دل على شيئين، ولكن
بلفظين لا بلفظ واحد، ومن جهتين لا من جهة واحدة. وأراد
بالجهتين: الفاعل والمفعول.
وقال الصفي الهندي: اعترض عليه بأنه إن أراد دلالة:"ضرب"
عليهما فباطل، لأنها التزامية، ودلالة العام على معناه
بالمطابقة، وإن أراد به دلالتها على ذاتهما فكذلك، لخروجه عنه
باللفظ الواحد. وقال ابن الحاجب: يدخل فيه كل معهود ونكرة، وقد
نلتزمه فنقول: إنهما عامان لدلالتهما على شيئين فصاعدا، وليس
كما قال، أما أولا: فلا نسلم دخوله، لأنه ليس بجهة واحدة. وأما
ثانيا: فلأنه اختار في "المستصفى" أن الجمع المنكر ليس بعام.
وقال ابن فورك، وإلكيا الهراسي: اشتهر من كلام الفقهاء أن
العموم هو اللفظ المستغرق، وليس كذلك; لأن الاستغراق عموم، وما
دونه عموم، وأقل العموم اثنان، ولما لم يصح أن يعم الشيء نفسه
كان ما زاد عليه يستحق به اسم العموم، قل أم كثر، وكذلك قال
المتكلمون، من الواقفية: إنا نقول، بالعموم، لا نقول
بالاستيعاب، وهو الخصوص في عبارة أكثر الفقهاء، لأنهم يقولون
لمن يحمل الخطاب على ثلاثة: إنهم أهل الخصوص، ولا يمتنع أن
يكون الشيء عموما أو خصوصا من جهتين. وقد أخذ جماعة من
الأصوليين في حد العام "الاستغراق"، ولم يأخذه آخرون، وقد تظهر
فائدة ذلك في العام الذي خص به البعض، فمن اشترط في العموم
الاستغراق لا يجوز التمسك به أو يضعفه، لأنه لم يبق عاما. ومن
لم يشترطه وإنما اشترط الدلالة على جمع جوزه
ـــــــ
1 المستصفى ص "224".
(2/180)
[الفرق بين العموم والعام]
وهنا أمور:
أحدهما: في الفرق بين العموم
والعام, فالعام هو اللفظ المتناول, والعموم: تناول
اللفظ لما صلح له, فالعموم مصدر, والعام: اسم الفاعل مشتق من
هذا
(2/180)
المصدر, وهما متغايران, لأن المصدر الفعل,
والفعل غير الفاعل.
ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في
قولهم: "العموم اللفظ المستغرق" فإن قيل: أرادوا بالمصدر اسم
الفاعل, قلنا: استعماله فيه مجاز ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان
الحقيقة, وفرق القرافي بين الأعم والعام, بأن الأعم إنما
يستعمل في المعنى, والعام في اللفظ, فإذا قيل: هذا أعم تبادر
الذهن للمعنى, وإذا قيل: هذا عام تبادر الذهن للفظ.
(2/181)
[الفرق بين
عموم الشمول وعموم الصلاحية]
الثاني: العموم يقع على مسمى عموم الشمول، وهو المقصود هنا،
وعموم الصلاحية، وهو المطلق، وتسميته عاما باعتبار أن موارده
غير منحصرة لا أنه في نفسه عام. ويقال له: عموم البدل أيضا.
والفرق بينهما: أن عموم الشمول كلي، ويحكم فيه على كل فرد،
وعموم الصلاحية كلي، أي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة.
(2/181)
[تفاوت صيغ
الأعم]
الثالث: صيغ الأعم تتفاوت. قال سليم الرازي في "التقريب" أعم
الأسماء قولنا معلوم ومذكور، لتناوله الموجود والمعدوم، ثم شيء
وموجود لتناوله القديم والمحدث، ثم محدث لتناول الجسم والعرض،
ثم جسم ثم حيوان ثم إنسان ثم رجل ثم أنا وأنت.
(2/181)
[ما يدخله
العموم وما لا يدخله]
والكلام في العموم في مواضع:
أحدهما: هل يتصور في القول النفسي؟ المشهور من مذهب الأشعرية
تصوره،كما قالوا في الأمر والنهي.
قال القاضي أبو بكر: اعلم أن العموم والخصوص يرجعان إلى
الكلام، ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس، وهو الذي
يعم ويخص، والصيغ والعبارات دالة عليه، ولا تسمى بالعموم
والخصوص إلا تجوزا كما أن الأمر والنهي يرجعان إلى المعنى
القائم بالنفس دون الصيغ.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن العموم والخصوص وصفان راجعان إلى
العبارات والصيغ، كقولهم في الأمر والنهي. انتهى
(2/181)
تنبيهات
الأول: ظهر بما ذكرناه أن المراد بالمعاني هنا المعاني
المستقلة، ولهذا مثلوه بالمفهوم والمقتضى، لا المعاني التابعة
للألفاظ، فتلك لا خلاف في عمومها، لأن لفظها عام.
وقال القرافي: اعلم أنا كما نقول: لفظ عام، أي شامل لجميع
أفراده، كذلك نقول للمعنى: إنه عام أيضا، فنقول: الحيوان عام
في الناطق والبهيمة، والعدد عام في الزوج والفرد، واللون عام
في السواد والبياض، والمطر عام. وهذه كلها عمومات معنوية، لا
لفظية، فإنا نحكم بالعموم في هذه الصور على هذه المعاني عند
تصورنا لها، وإن جهلنا اللفظ الموضوع بإزائها: هل هو عربي أو
عجمي؟ شامل أو غير شامل؟
وأما عموم اللفظ فلا نقول: هذا اللفظ عام حتى نتصور اللفظ
نفسه، ونعلم من أي لغة هو، وهل وضعه أهل تلك اللغة عاما شاملا
أو غير شامل؟ فلو وجدناه شاملا سميناه عاما، وإن لم نجده شاملا
لم نسمه عاما عموم الشمول، وقد نسميه عاما عموم الصلاحية، فقد
ظهر حينئذ أن لفظ العموم يصلح للمعنى واللفظ، وهل ذلك بطريق
الاشتراك أو بطريق التواطؤ؟ فيه ما سبق.
الثاني: أن هذا الخلاف فرضوه في العام، ولم يجروه في الخصوص:
هل هو حقيقة في المعاني أم لا؟ ولا شك في طرده. قال المقترح:
القائلون بأن العام والخاص من عوارض الألفاظ اختلفوا على
مذهبين: أحدهما: أن العام راجع إلى وصف متعلق العلم كالخبر
فإنه متعلق بمخبرين والعلم بمعلومين.
والثاني: أنهما صفتان زائدتان على المعاني وهما من أقسام
الكلام.
الثالث: قال القرافي: اصطلحوا على أن المعنى يقال له: أعم
وأخص، واللفظ يقال: له عام وخاص، ووجه المناسبة أن "أعم" صيغة
أفعل للتفضيل والمعاني أفضل من الألفاظ، فخصت بصيغة أفعل
للتفضيل، وإطلاق ابن الحاجب وغيره يخالف هذا الاصطلاح.
الرابع: المعروف من إطلاقاتهم أن الأخص يندرج تحت الأعم، ووقع
في عبارة صاحب المقترح "الأعم مندرج تحت الأخص" قال بعض
شارحيه: وجه الجمع
(2/187)
أن العموم والخصوص إن كانا في الألفاظ
فالأخص منهما مندرج تحت الأعم. لأن لفظ "المشركين" مثلا يتناول
زيدا المشرك بخصوصه، وإن كانا في المعاني فالأعم منها مندرج
تحت الأخص، لأن زيدا إذا وجد بخصوصه اندرج فيه عموم الجوهرية
والجسمية والحيوانية والناطقية.
(2/188)
مسألة [في عموم المجاز]
وهل يتعلق العموم بالمجاز؟ فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما ابن
السمعاني.
أحدهما: المنع، فلا يدخل العموم إلا في الحقائق.
والثاني: يدخل فيه المجاز كالحقيقة، لأن العرب تخاطب به كما
تخاطب بالحقيقة.
قلت: والأول صار إليه بعض الحنفية قال: فإنه على خلاف الأصل
فيقصر على الضرورة كما قال أصحابنا:إن ما ثبت بالضرورة يقدر
بقدرها، وهي مسألة عموم المقتضي، وهذا ضعيف، وليس المجاز مختصا
بمحال الضرورات، بل هو عند قوم غالب على اللغات
وعزى صاحب "اللباب" من الحنفية القول بأنه لا عموم للمجاز
للشافعي.
وقال بعض متأخريهم. المجاز المقترن بشيء من أدلة العموم
كالمعرف باللام ونحوه لا خلاف في أنه لا يعم جميع ما يصلح له
اللفظ من أنواع المجاز، كالحلول والسببية والجزئية ونحوه. أما
إذا استعمل باعتبار أحد الأنواع كلفظ الصاع المستعمل فيما
يحله، فالصحيح أنه يعم جميع أفراد ذلك المعنى، لأن هذه الصيغ
للعموم من غير فرق بين كونها مستعملة في المعاني الحقيقية أو
المجازية.
ونقل عن بعض الشافعية أنه لا يعم، حتى إذا أريد المطعوم اتفاقا
لا يثبت غيره من المكيلات، لأن المجاز ضروري، والضرورة تندفع
بإيراد بعض الأفراد، فلا يثبت الكل كالمقتضى.
وأجيب بأنه إن أريد بالضرورة من جهة المتكلم في الاستعمال،
بمعنى أنه لم يجد طريقا لتأدية المعنى سواه فممنوع، لجواز أن
يعدل إلى المجاز لأغراض مع القدرة على الحقيقة، وإن أريد من
جهة الكلام والسامع بمعنى أنه لما تعذر العمل بالحقيقة وجب
الحمل على المجاز ضرورة، لئلا يلزم إلغاء الكلام، فلا نسلم.
(2/188)
قال: واعلم أن القول بعدم عموم المجاز مما
لم نجده منقولا في كتب الشافعية، ولا يتصور الخلاف في قولنا:
جاءني الأسود الرماة إلا زيدا، وتخصيصهم الصاع بالمطعوم مبني
على قولهم: إن العلة الطعم، لا على عدم عموم المجاز.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": لا يصح دخول المجاز في
الاسم العام، كقولنا: معلوم ومذكور، ومخبر عنه.
(2/189)
مسألة [القائلون ليس للعموم صيغة تخصه]
اختلفوا في أصل صيغته على مذاهب:
أحدها: وهم الملقبون بأرباب الخصوص أنه ليس للعموم صيغة تخصه،
وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع للخصوص، وهو أقل الجمع، إما اثنان
أو ثلاثة، ولا يقتضي العموم إلا بقرينة. وبه قال ابن المنتاب
من المالكية، ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفية، وغيرهما.
وقال القاضي في "التقريب"، والإمام في "البرهان": يزعمون أن
الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع، محتملات فيما عداه إذا لم
تثبت قرينة تقتضي تعديها عن أقل المراتب.
وقال أبو الحسين في "المعتمد": يشبه أن يكونوا جعلوا لفظة "من"
حقيقة في الواحد مجازا في الكل. وجعلوا بقية ألفاظ العموم
حقيقة في جمع غير مستغرق; لأنه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع
المعرف باللام كالمسلمين حقيقة في الواحد مجازا في الجمع، ولفظ
"كل وجميع" أبعد.
(2/189)
[الذين قالوا
للعموم صيغة حقيقية تخصه]
والثاني:أن له صيغة مخصوصة بالوضع حقيقة، وتستعمل مجازا في
الخصوص، لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذرجميع الآحاد
على المتكلم، فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة كألفاظ الآحاد
والخصوص; لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام كما عكسوا
في الترادف فوضعوا للشيء الواحد أسماء مختلفة للتوسع، وهو مذهب
الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم.
قال القاضي عبد الوهاب: مذهب مالك وكافة أصحابه أن للعموم
صيغة،
(2/189)
[تحقيق مذهب
الشافعي]
وقال الصيرفي في كتاب "الدلائل والأعلام": زعمت طائفة من
أصحابنا أن مذهب الشافعي أن الآية إذا وردت ظاهرة في العموم لا
يقضى عليها بعموم ولا خصوص إلا بدليل من خارج.
قال وهذا الذي قال ضده وقول الشافعي سواء، لأنه الذي قد اشتهر
به في كتبه، وعند خصومه أن الكلام على عمومه وظاهره، حتى تأتي
دلالة تقوم على أنه خاص دون عام، وعلى أنه باطن دون ظاهر. وقد
قال رضي الله عنه في "الرسالة": الكلام على عمومه وظاهره حتى
تأتي دلالة تدل على خصوصه1. وقال أيضا ما نصه: فكل خطاب في سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الناس فهو على عمومه
وظهوره إلا أن يأتي دلالة تدل على أنه خاص دون عام، وباطن دون
ظاهر2.
ثم قال: وإذا وجدت خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مجملا، فهو على عمومه وظاهره، إلا أن يأتي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خبر يدل على أنه خاص دون عام، وباطن دون ظاهر،
فيستدل بذلك. ثم قسم القرآن والأخبار على ذلك. قال: فثبت من
هذا أن مذهب الشافعي أن الكلام من كل مخاطب على ما اشتمل عليه
الاسم ما لم يمنع من إجراء الاسم عليه دليل. ومعنى قوله:"إلا
أن يأتي دلالة" يجوز على نفسه استتار الدليل من خبر أو غيره
فإذا علم صار إليه، وعلم أن الكلام كان عاما. ثم ذكر الصيرفي
نصوصا للشافعي كثيرة صريحة في ذلك، بل قطعية فيه، قال: والدليل
القطعي قائم عليه، وإنما يثبت هنا أن ذلك مذهب الشافعي، وأني
لم أقلده فيه، لقيام البرهان عليه، ثم بين وجه شبهة الناقلين
عن الشافعي الوقف، ثم ردها.
ثم قال:ولا يقال: إن له في المسألة قولين، لأن هذا غير معروف;
بل المعروف بينه وبين أصحابه ما وصفت لك، منهم: المزني، وأبو
ثور، والبويطي، والحسين الكرابيسي، والأشعري، وداود وسائر
الشافعيين. هذا كلام الصيرفي، وعجيب نقله القول بالصيغة عن
الأشعري.
ـــــــ
1 الرسالة ص "295"
2 الرسالة ص "322"
(2/190)
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: قال
الشافعي في "الرسالة": كل كلام كان عاما ظاهرا فهو على عمومه
وظهوره، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدل على أنه إنما أراد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة
دون بعض.
وقال في كتاب "أحكام القرآن": قال لي قائل: تقول الحديث على
عمومه وظهوره، وإن احتمل معنى غير العام والظاهر، حتى يأتي
دلالة على أنه خاص دون عام، وباطن دون ظاهر؟ قلت: فكذلك أقول.
وقال في كتاب "اختلاف الحديث": القرآن عربي كما وصفت، والأحكام
فيه على ظاهرها وعمومها، وليس لأحد أن يحيل منها ظاهرا إلى
باطن، ولا عاما إلى خاص إلا بدلالة1.
وقال الشيخ أبو حامد: وهذا صحيح، العموم عندنا له صيغة إذا
أوردت مجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس. هذا مذهبنا،
وبه قال مالك وأصحابه، وأبو حنيفة وأصحابه، وداود وأهل الظاهر،
وبه قال من المتكلمين الجبائي وطائفة.
وذهبت طائفة إلى أن هذه الألفاظ إذا وردت فإنها تحمل على أقل
الخصوص حتى يدل دليل على أن المراد بها زيادة على ذلك. ثم
اختلفوا في قدر ما يحمل عليه، فمنهم من قال: يحمل على اثنين،
ومنهم من قال على ثلاثة، ذهب إلى هذا جماعة من المعتزلة. منهم
أبو هاشم وغيره، وذهبت الأشعرية إلى الوقف.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "580"
(2/191)
[الذين لا
يثبتون للعموم صيغة لفظية]
والثالث: أن شيئا من الصيغ لا يقتضي العموم ولا مع القرائن، بل
إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم، وهو قول جمهور المرجئة،
ونسب إلى الأشعري.
قال في "البرهان": نقل مصنفون المقالات عن أبي الحسن الأشعري
والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية، وهذا النقل
على الإطلاق زلل، فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى
الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به، كقول القائل: رأيت القوم واحدا
واحدا لم يفتني منهم أحد، وإنما كرر هذه الألفاظ قطعا لتوهم
يحسبه خصوصا، إلى غير ذلك. وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة
مشعرة بمعنى الجمع. انتهى.
وما ادعى فيه الوفاق فهو محل الخلاف، صرح به في كتاب "التلخيص
من التقريب" للقاضي، وسيأتي. وليس مراده "بالجمع" القدر
المخصوص من ثلاثة أو اثنين، إنما مراده الشمول بدليل المثال
المذكور.
(2/191)
[القائلون
بالوقف]
والرابع: الوقف، ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الشيخ أبي
الحسن ومعظم المحققين، وذهب إليه.وحقيقة ذلك: أنا سبرنا اللغة
ووضعها، فلم نجد في وضع اللغة صيغة دالة على العموم، وسواء
وردت مطلقة أو مقيدة بضروب من التأكيد.
وقال الإمام في "البرهان": ومما زل فيه الناقلون عن أبي الحسن
ومتابعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع،
بل تبقى على التردد، وهذا إن صح النقل فيه مخصوص عندي بالتوابع
المؤكدة لمعنى الجمع، كقول القائلين: رأيت القوم أجمعين،
أكتعين، أبصعين، فأما ألفاظ صحيحة صريحة تفرض مقيدة، فلا يظن
بذي عقل أن يتوقف فيها. انتهى.
وقد أنكر عليه المازري في إمكان النقل عن الواقفية وإن تقيدت
بالقرائن.
قال. وهذا منصوص عليه في كتب أئمتهم، ولو سلم له ذلك فإنما.
يقتضي إنكار وجود لفظة تقتضي الاستيعاب على حسب ما ذكروه.
وأشار إلى أن تلك الصور إنما استفيد العموم منها بإضافة قرائن
استشعرت من المتكلم بهذه الألفاظ التابعة للصيغة.
وقال أبو الحسين بن القطان: شذت طائفة من أصحابنا، فنسبت هذا
القول للشافعي لأشياء يتعلق به كلامه; لأنه قال في مواضع من
الآي: يحتمل الخصوص ويحتمل العموم، ولم يرد الشافعي ما ذهبوا
إليه وإنما احتمل عنده أن ترد دلالة تنقله عن ظاهره من العموم
إلى الخصوص، لا أن حقه الاحتمال، وكذلك أبو بكر الصيرفي حكى
قول الوقف عن الشافعي. قال: ولا يقال له في المسألة قولان.
واختاره أبو الحسين البصري في بعض كتبه، ونقل الماوردي
والروياني في كتاب "الأقضية" عن الظاهرية، الذي نقله الصيرفي
عن داود القول بالصيغة.
(2/192)
[مذاهب
الواقفية في محل الوقف]
واختلفت الواقفية في محل الوقف على ستة أقوال، وفي صفته على
قولين.
فأما محله: فالمشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من
غير تفصيل.
والثاني: أن التوقف في أخبار الوعد والوعيد دون الأمر والنهي،
وحكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي. قال: وربما ظن أن ذلك مذهب
أبي حنيفة، لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين،
ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة، وليس ذلك مدركه، بل لأن
الأدلة الموجبة للوعيد بالتخليد في النار إنما انتهضت في حق
الكفار بدلائل من خارج.
والثالث: عكسه، وهم جمهور المرجئة، فقالوا: بصيغ العموم في
الوعد والوعيد، وتوقفوا فيما عدا ذلك.
والرابع: الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون
غيرها.
والخامس: الوقف في الوعيد دون الوعد. قال القاضي: وفرقوا
بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق.
والسادس: التفصيل بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيء من أدلة
السمع وكانت وعدا أو وعيدا، فيعلم أن المراد بها العموم وإن
كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى
العموم والخصوص، فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت
به، حكاه القاضي في "مختصر التقريب".
السابع: الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشارع منه صلى الله عليه
وسلم فأما من سمع منه، وعرف تصرفاته فيه ما بين عموم وخصوص،
فإنه لا يقف، كذا حكاه المازري، وهو عكس ما قبله.
الثامن: التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم،
دون ما إذا لم يتقيد، فلفظ "الناس" مثلا، إذا قلنا: إنه لا يعم
حالة الإطلاق سلم أنه عام في مثل قولك: الناس أجمعون عن آخرهم،
صغيرهم وكبيرهم، لا يشذ منهم أحد، إلى غير ذلك، حكاه القاضي.
قال: والمحققون من الواقفية يقولون: وإن قيدت بهذه القيود،
فليس موضوعة للاستغراق في اللغة، ولكن قد يعرف عمومها بقرائن
الأحوال المتقربة بالمقام،
(2/193)
وهي مما ينحصر بالعبارة، كما يعرف بالقرائن
وجل الوجل، وإن كانت القرائن لا توجب معرفتها، ولكن أجرى الله
العادة بخلق العلم الضروري عندنا.
والتاسع: أن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت
العموم دون غيرهما، حكاه المازري عن بعض المتأخرين. قال: ويمكن
أن يكون هذا من أحكام الشرع في الأحكام اللغوية كأحكامه في
الصلاة والحج والصوم.
(2/194)
[مذهب الواقفية
في صفة الوقف]
وأما صفة الوقف: فقد اختلف النقل فيه عن الشيخ وأصحابه، فنقل
عنهم مذهبان.
أحدهما: أن اللفظ مشترك بين الواحد اقتصارا عليه، وبين أقل
الجمع فما فوقه اشتراكا لفظيا، كالقرء والعين ونحوهما، أي أنه
موضوع لهما وضعا متساويا، حكاه المازري والأصفهاني، وهذا فيما
يحمل من الصيغ على الواحد "كمن، وما، وأي"، ونحوها، وأما ألفاظ
الجموع فهي مشتركة بين أقل الجمع وبين ما فوقه اشتراكا لفظيا.
والثاني: نفي العلم بكيفية الوضع من أصله، ويقولون: هي مستعملة
للعموم والخصوص، ولكن لا ندري هل ذلك على وجه الحقيقة أو
المجاز.
وحكى ابن الحاجب هذين القولين على وجه آخر.
أحدهما: أنا لا ندري هل وضعت هذه الصيغة للعموم أم لا؟
والثاني: أنا ندري أنها استعملت للعموم، ولكن لا ندري أذلك على
وجه الحقيقة أم لا. ونقل قول الاشتراك في أصل المسألة مباينا
لقول الوقف.
واعلم أن الواقفية وإن قالوا: بأن اللفظ لم يوضع لخصوص ولا
عموم، فقالوا: إنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه;
وجعل إمام الحرمين الخلاف في غير الصيغ المؤكدة، وأما هي فلا
خلاف في اقتضائها العموم.
وحكى القاضي في "التقريب"، وتبعه هو في "التلخيص" الخلاف مع
التأكيد أيضا. نعم قال بعضهم: ما يدل على العموم من الصيغ بحكم
القرائن المنفصلة إما عرفا أو عقلا أو غير ذلك لا خلاف فيه،
فإن المخالف في العموم لم ينكر أن في الكلام ما يدل على
العموم، فإن العموم وقصد إفادته ضروري.
وأما المنكرون فأنكروا أن يكون للعموم صيغة خاصة موضوعة
للدلالة عليه.
(2/194)
وجعل غيره منشأ الخلاف أمرين:
أحدهما: أن التأكيد بالجمع في لفظ الجمع هل إنما حسن لمكان
احتمال إرادة الخصوص، أو لكون اللفظ صالحا للاستيعاب؟
والثاني: هو أن الاستثناء هل هو استخراج ما تتناوله الصيغة؟ أو
ما يجب دخوله تحت الصيغة؟ أم هو استخراج ما اللفظ صالح
لتناوله؟
ومأخذ قول الوقف من أصله أن الأشعري لما تكلم مع المعتزلة في
عمومات الوعيد الواردة في الكتاب والسنة كقوله: {وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] وقوله: {وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن:23] ونحوه، ومع المرجئة في عموم
الوعد، نفى أن يكون هذه الصيغ موضوعة للعموم، وتوقف فيها،
وتبعه جمهور أصحابه.
وقال أبو نصر بن القشيري في كتابه في باب المفهوم: لم يصح
عندنا عن الشيخ إنكار الصيغ، بل الذي صح عنه أنه لا ينكرها،
ولكن قال في معارضاته في أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ. قال: سر
مذهبه إلى إنكار التعلق بالظواهر فيما يطلب فيه القطع، وهذا هو
الحق المبين، ولم يمنع من العمل بالظواهر في مظان الظنون، وقد
سبق أن الصيرفي حكى عن الشيخ القول بالصيغ كالشافعي.
تنبيه
زعم الشريف المرتضى في "الذريعة" أن الخلاف في هذه المسألة
بالنسبة إلى وضع اللغة أنه هل يقتضي الاستغراق؟ ولا خلاف في أن
الشرع يقتضيه.
مسألة
مدلول الصيغة العامة ليس أمرا كليا، وإلا لما دل على جزئياته،
لأن الدال على القدر المشترك لا يدل على شيء من جزئياته ألبتة،
وليس كلا مجموعا، وإلا لحصل الامتثال بترك قتل مسلم واحد، إذا
قيل: لا تقتلوا المسلمين، بل مدلولها كلية، أي محكوم فيه على
كل فرد فرد مطابقة سلبا أو إيجابا عند المحققين. منهم الشيخ
الأصفهاني، خلافا للسهروردي والقرافي حيث أخرجاه من أقسام
الدلالة.
ومنهم من قال: إنما هي كلية في غير جانب النهي والنفي عند تأخر
"كل" ونحوها عن أدوات النهي أو النفي، نحو ما جاء كل الرجال،
ولا يعرف كل الرجال،
(2/195)
فإنها لنفي المجموع لا الأفراد.
قال القرافي: دلالة العموم على الفرد الواحد كالمشركين على زيد
لا يمكن أن يكون بالمطابقة، لأنه ليس تمام مسمى المشركين، ولا
بالالتزام لأنه ليس خارجا، ولا بالتضمين، لأنه ليس جزء المسمى،
إذ الجزء مقابل الكل، والعموم كلي لا كل كما عرفت، فإذن لا يدل
لفظ "المشركين" على زيد، لانتفاء الدلالات الثلاث.
وإذا لم يدل بذلك بطل أن يدل لفظ العموم مطلقا، لانحصار
الدلالة في الأقسام الثلاثة.
وأجاب عنه الأصفهاني برجوعه إلى المطابقة، وقال: نحن حيث قلنا:
اللفظ إما أن يدل مطابقة أو تضمنا أو التزاما، فذلك في لفظ
متردد دال على معنى، ليس ذلك المعنى نسبة بين مفردين، وذلك لا
يتأتى هنا، فلا ينبغي أن يطلب.
وإذا عرف هذا، فاعلم أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] في قوة جمل من القضايا، وذلك لأن
مدلوله: اقتل هذا المشرك، وهذا، وهذا إلى آخر الأفراد، وهذه
الصيغ إذا اعتبرت بجملتها فهي لا تدل على زيد المشرك، ولكنها
تتضمن ما يدل على مثله لا بخصوص كونه زيدا بل بعموم كونه فردا،
ضرورة تضمنه: اقتل زيدا المشرك، فإنه من جملة هذه القضايا، وهي
جزء من مجموع تلك القضايا، فتكون دلالة هذه الصيغة على وجهين:
قتل زيد المشرك، لتضمنها ما يدل على ذلك الوجوب، والذي هو في
ضمن ذلك المجموع هو دال على ذلك مطابقة، قال: فافهم ذلك، فإنه
دقيق الكلام.
ثم استشكل نحو قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]
فإن فيه عمومات: أحدها: في المشركين. والثاني: في المأمور
بقتلهم، ودلالة العموم كلية، فيكون أمر كل فرد بقتل كل فرد فرد
من المشركين، فيكون تكليفا بالمستحيل، وهو غير واقع. وأجاب عنه
بأنه وإن كان ظاهر اللفظ إلا أن العقل دل على خلافه، فيحمل على
الممكن دون المستحيل; قال بعضهم: هذا السؤال لا يستحق جوابا;
لأن الفرد الواحد من المسلمين يستحيل أن يقتل جميع المشركين.
(2/196)
مسألة دلالة العموم
على الأفراد، هل هي قطعية؟
إذا ثبت دلالة العموم على الأفراد، فاختلفوا: هل هي قطعية أو
ظنية؟ والثاني هو المشهور عند أصحابنا. والأول قول جمهور
الحنفية.
قال صاحب "اللباب" منهم، وأبو زيد الدبوسي في "التقويم": دلالة
العام على أفراده قطعية توجب الحكم بعمومه قطعا وإحاطته كالخاص
إن كان النص مقطوعا به.
وقال الشافعي:"لا توجب العلم" ولهذا قلنا: إن الخاص ينسخ
العام، والعام الخاص، لاستوائهما رتبة، وعنده يجوز نسخ العام
بالخاص، ويمتنع نسخ الخاص بالعام، ولهذا قال أصحابنا فيمن أوصى
لزيد بخاتم، ثم لعمرو بفصه في كلام مفصول: بالحلقة للأول على
الخصوص، والفص بينهما، لأن الأول استحق الفص بوصية عامة للفص
والخاتم، والثاني استحق الفص بوصية خاصة، فزاحمه بالمشاركة
معه. انتهى.
وأطلق الأستاذ أبو منصور النقل عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة،
بأن دلالته على أفراده قطعية، وكذا نقله الغزالي في "المنحول"
عن الشافعي أيضا.
قال إمام الحرمين وابن القشيري: الذي صح عندنا من مذهب الشافعي
أن الصيغة إن تجردت عن القرائن فهي نص في الاستغراق، وإن لم
يقطع بانتفاء القرائن: فالتردد باق وجرى عليه الإبياري في "شرح
البرهان" وزاد حكايته عن المعتزلة.
قال: والمأخذ مختلف، فالمعتزلة تلقوه من استحالة تأخير البيان
عن الخطاب، فلو كان المراد به غير ما هو ظاهر; لكان تأخير
البيان، وهو محال. والشافعي كأنه يرى أن التخصيص إنما يكون
واردا على كلام المتكلم لاقتران اللفظة المختصة به عند
الإطلاق.
قال: وهذا بحث لغوي يفتقر إلى النقل، وقد رأيت من ينكر على
الإبياري هذا النقل عن الشافعي ظنا منه تفرده بهذا. نعم، قد
أنكره الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بإلكيا، فقال في كتابه
"التلويح": نقل عن الشافعي أن الألفاظ إذا تعرت عن القرائن
المخصصة كانت نصا في الاستغراق، لا يتطرق إليها احتمال، وهذا
لم يصح عنه، وإن صح عنه فالحق غيره، فإن المسميات النادرة يجوز
أن لا تراد بلفظ العام،
(2/197)
ويجب منه أن التخصيص إذا ورد في موضع آخر
كان نسخا، وذلك خلاف رأي الشافعي. انتهى. ولعل إمام الحرمين في
نقله عن الشافعي كونها قطعية أخذه من قوله: إنها نص، وفيه نظر،
فإن الشافعي يسمي الظواهر نصوصا كما نقله الإمام في "البرهان"
عنه في موضع آخر، وهذا هو الحق، وإليه يشير كلام ابن السمعاني
في "القواطع" فإنه قال: وعن بعض الحنفية أن العموم نص فيما
تناوله من المسميات، وقد سمى الشافعي الظواهر نصوصا في مجاري
كلامه، والأولى أن لا يسمي العموم نصا لأنه يحتمل الخصوص، ولأن
العموم فيما يدخل فيه من المسميات ليس بأرفع وجوه البيان، ولكن
العموم ظاهر في الاستيعاب، لأنه يبتدر إلى الفهم، ذلك مع أنه
يحتمل غيره، وهو الخصوص. انتهى.
وقال ابن برهان. في الكلام على أن السبب لا يخصص: يجوز أن يكون
العام نصا في بعض المسميات دون بعض، ولهذا المعنى قال أصحابنا:
يجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا في بعض المسميات، وهي الظاهرة
التي يقطع بكونها مقصودة صاحب الشرع، ولا يجوز تخصيصها
واستخرجها عن مقتضى العام، ويكون ظاهرا في البعض، فيحتمل أن
يكون مقصود الشرع، ويحتمل أن لا يقصده، فحينئذ تقول: شمله
العام ويدخله التخصيص.
وفرق إمام الحرمين بين أدوات الشرط وغيرها، فرأى أن أدوات
الشرط تدل دلالة قطعية وإنما نقل التخصيص بناء على القرائن،
ورأى أن جمع الكثرة يدل ظاهرا لا قطعيا.
واختار الغزالي في "المنخول" أنه نص في أقل الجمع ظاهر فيما
وراءه; وخص المازري الخلاف بما زاد على أقل الجمع، أما ما دونه
فدلالته عليه قطعية.
والمختار الذي عليه أكثر أصحابنا أن دلالته عليه بطريق الظهور،
وإلا لما جاز تأكيد الصيغ العامة إذ لا فائدة فيه، وقد قال
تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}
[الحجر:30].
ويبنى على هذا الأصل مسائل
منها: وجوب اعتقاد عمومه قبل البحث عن المخصص ومنها: تخصيص
العموم بالقياس وخبر الواحد الظنيين ابتداء، والعام بالخاص وأن
الخاص لا يصير منسوخا
(2/198)
بالعام، خلافا لأبي حنيفة، ومن ثم رجح
الشافعي خبر العرايا على خبر التمر كيلا بكيل.
تنبيه
قولهم العام ظني الدلالة، والخاص مقطوع الدلالة، لا يريدون به
أن دلالة اللفظ فيه قطعية، بل إن العام يحتمل التخصيص، والخاص
لا يحتمله.
فرع
لو قال في الإقرار: له عندي خاتم، ثم قال: ما أردت الفص، ففي
قوله وجهان: أصحهما لا; لأن الفص متناول لاسم الخاتم، فهو رجوع
عن بعض ما أقر به فلا يقبل. وهذا يقتضي أن دلالة العام على
أفراده قطعية عندنا، وقد قال اللغويون: الخاتم في اللغة: اسم
للحلقة مع الفص، وإلا فهو حلقة. وقيل فتخ.
مسألة
في أن العام في الأشخاص: هل هو عام في الأحوال والأزمنة؟ ويظن
كثير من الناس أن البحث في هذه المسألة مما أثاره المتأخرون،
وليس كذلك، بل وقع في كلام من قبلهم. والمشهور: نعم، وممن صرح
به الإمام أبو المظفر في "القواطع" في الكلام على استصحاب
الحال، فقال: لأن لفظ العموم دال على استغراق جميع ما يتناوله
اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفي الأزمان، وفي أي عين وجد
ثبت الحكم فيها بعموم اللفظ، هذا كلامه. وكذلك الإمام فخر
الدين في "المحصول" في كتاب القياس حيث قال جوابا عن سؤال:
قلنا: لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لا محالة لجميع
الأوقات، وإلا قدح ذلك في كونه متناولا لكل الأقيسة انتهى. وهو
ظاهر كلام الغزالي في "فتاويه" فإنه قال فيما إذا قال لأمته
الحامل: كل ولد تلدينه فهو حر، أنه كما يشمل الذكر والأنثى
يشمل اختلاف الوقت فينبغي أن يعم، ويتكرر. هذا لفظه.
وقد نص الشافعي فيما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت: إن دخلت
الدار، إنه لا يدين وإذا نوى إلى شهرين يدين، ففرق بين الزمان
والمكان.
وظاهر كلام مجلي في "الذخائر" والرافعي وغيرهما أنه لا فرق،
فإنهما حكيا وجهين في التديين في "إن دخلت الدار" وقال الإمام:
وللفقيه نظر في هذا، فإن قول القائل: إن كلمت زيدا يتعلق
بالأزمان ظاهرا على العموم، بخلاف إن دخلت الدار،
(2/199)
فإن اللفظ لا يدل على التقييد، وتبعه
الغزالي حيث قال: اللفظ عام في الأزمان، فإذا قال: أردت شهرا،
فكأنه خصص العام; قال الرافعي: وقد تقابل هذه المسألة، فيقال:
اللفظ عام في الأحوال، إلا أنه خصصه بحال دخول الدار. انتهى.
لكن الإمام قائل بأن اللفظ لا ينبئ عن الأحوال، وإنما يدل على
الأزمان على أن هذا اللفظ لا عموم له ألبتة، وإنما هو مطلق،
وزعم القرافي أن العام في الأشخاص مطلق في الأزمان والبقاع
والأحوال والتعلقات. فلا تعم الصيغة في شيء من هذه الأربع من
جهة ثبوت العموم في غيرها، حتى يوجد لفظ يقتضي فيها العموم;
لأن العام في الأشخاص لا دلالة له على خصوص يوم معين ولا مكان
معين ولا حالة مخصوصة، فإذا قال: اقتلوا المشركين، عم كل مشرك
بحيث لا يبقى فرد، ولا يعم الأحوال، حتى لا يقتل في حال الهدنة
والذمة، ولا خصوص المكان، حتى يدل على المشركين في أرض الهند
مثلا، ولا الأزمان حتى يدل على يوم السبت مثلا، ويستعمل كذلك
في دفع كثير من الاستدلالات بألفاظ من الكتاب والسنة، فيؤدي
إلى بعض الأحوال التي اتفق عليها الخصمان، فيقال: إن اللفظ
مطلق في الأحوال، وقد عملت به في الصورة الفلانية، والمطلق
يكفي في العمل به مرة واحدة، فلا يلزم العمل به في صورة
النزاع. وقد ارتضاه الأصفهاني "في شرح المحصول" وفي كلام
الآمدي في مسألة الاحتجاج بقول الصحابي ما يشير إلى القول بهذه
القاعدة.
وقد ردها جماعة، منهم الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة" فقال:
وهذا عندي باطل; بل الواجب أن ما دل عليه العموم في الذوات
مثلا يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ، ولا
يخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه، فمن أخرج شيئا من ذلك فقد خالف
مقتضى العموم، نعم يكفي في العمل بالمطلق مرة كما قالوا، ونحن
لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق، وإنما قلنا به
من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات، فإن كان
المطلق لا يقتضي العمل به مرة مخالفة لمقتضى صيغة العموم، قلنا
بالعموم، محافظة على مقتضى صيغته، لا من حيث إن المطلق يعم.
مثال ذلك إذا قال: من دخل داري فأعطه درهما، فمقتضى الصيغة
العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة، فإذا قال قائل: هو
مطلق في الأزمان، وقد عملت به مرة، فلا يلزم أن أعمل به أخرى
لعدم عموم المطلق. قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل
ذات دخلت الدار، ومن جملتها الذوات الداخلة في آخر
(2/200)
النهار، فإذا أخرجت تلك الذوات، فقد أخرجت
ما دلت الصيغة على دخوله، وهي كل ذات.
ثم استدل الشيخ على ذلك بحديث أبي أيوب، فإنه لما روى قوله
عليه الصلاة والسلام:"لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط"...
الحديث، أتبعه بأن قال: "فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بنيت
نحو الكعبة، فنحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل"، قال. فإن أبا
أيوب من أهل اللسان والشرع، وقد استعمل قوله:"ولا تستقبلوا
القبلة ولا تستدبروها"... عاما في الأماكن، وهو مطلق فيها،
وعلى ما قاله هؤلاء لا يلزم منه العموم، وعلى ما قلناه يعم
بمعنى، فيكون العام في الأشخاص عاما في الأمكنة. وقد رد بعضهم
هذا الاستدلال من جهة أن في اللفظ هنا ما يدل على العموم، وهو
وقوع الاستقبال نكرة في سياق النهي، فيعم جميع الأماكن في
الشام وغيره، والنزاع إنما هو فيما إذا لم يكن هناك قرينة تدل
على العموم، فالحديث حجة للقرافي، فإنه لو كان عموم الفعل في
سياق النهي يقتضي العموم في المكان لما كان لتعريف المكان
بالألف واللام فائدة.
وتمسك آخرون في رد هذه القاعدة بحديث أبي سعيد بن المعلى حيث
دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فلم يجبه، فقال
عليه السلام: "ألم يقل الله1" الحديث. فقد جعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم عاما في الأحوال، لأنه احتج عليه بالآية وهو في
الصلاة. ورد بأن ذلك جاء من صيغة "إذا" المقتضية للتكرار في
جميع الأزمان والأحوال.
وقد خالف الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة" في موضع آخر هذه
القاعدة، فقال في حديث بيع الخيار. إن الخيار عام، ومتعلقه وهو
ما يكون فيه الخيار مطلق، فيحمل على خيار الفسخ، وهذا اعتراف
بمقالة القرافي، وربما أيده بعضهم بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قال: فلو
كان العام في المشركين لكان {وَجَدْتُمُوهُمْ} تكرارا و
{حَيْثُ} من صيغ العموم في المكان، قاله
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب
ك وسميت أم الكتاب، برقم "4474" من حديث أبي سعيد بن المعلى
قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله
{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ} ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن
قبل أن تخرج من المسجد.... الحديث. وهو أيضا في كتاب فضائل
القرآن باب: فضل فاتحة الكتاب، برقم "5006".
(2/201)
القاضي عبد الوهاب.
وقد توسط الشيخ علاء الدين الباجي بين هذين القولين: فقال ما
معناه: إن معنى كون العام في الأشخاص مطلقا في الأحوال:
والأزمان والبقاع أنه إذا عمل به في الأشخاص في زمان ما ومكان
ما وحالة ما لا يعمل به في تلك الأشخاص مرة أخرى في زمان آخر
ونحوه، أما في أشخاص أخرى مما يتناوله ذلك اللفظ العام فيعمل
به; لأنه لو لم يعمل به لزم التخصيص في الأشخاص كما قاله الشيخ
تقي الدين، فالتوفية بعموم الأشخاص أن لا يبقى شخص ما في أي
زمان ومكان وحال إلا حكم عليه، والتوفية بالإطلاق أن لا يتكرر
ذلك الحكم، فكل زان مثلا يجلد بعموم الآية، وإذا جلد مرة ولم
يتكرر زناه بعد ذلك لا يجلد ثانية في زمان آخر. ومكان آخر، فإن
المحكوم عليه، وهو الزاني والمشرك وما أشبه ذلك، فيه أمران:
أحدهما الشخص، والثاني الصفة، كالزنى والشرك لما دخلت عليهما
أداة العموم أفادت عموم الشخص لا عموم الصفة، والصفة باقية على
إطلاقها، فهذا معنى قوله: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال
والأزمنة والبقاع، فبمطلق زنى حد، وكل شخص حصل منه مطلق شرك
قتل بشرطه، فرجع العموم والإطلاق إلى لفظة واحدة باعتبار
مدلولها.
واعترض على هذا بأن عدم التكرار جاء من أن مطلق الأمر لا يقتضي
التكرار، فلا حاجة إلى أخذ ذلك من الإطلاق. ورد بأن إطلاق
الأمر أحد المقتضيات للإطلاق في الأزمان وغيرها، فلا تنافي
بينهما. قلت: وهذا مستمد مما ذكره الشيخ في "شرح الإلمام" حيث
قال: إنا نقول: أما كون اللفظ العام في الأشخاص مطلقا في
الأحوال وغيرها مما ذكر فصحيح; وأما الطريقة المذكورة في
الاستدلال، فيلزم منها عود التخصيص إلى صيغة العموم، ويبقى
العموم في تلك الأحوال لا من حيث إن المطلق عام باعتبار
الاستغراق، بل من حيث إن المحافظة على صيغة العموم في الأشخاص
واجب، فالعموم من حيث وجوب الوفاء بمقتضى الصيغة العامة لا من
حيث إن المطلق عموم استغراق. وأما قولهم: إن المطلق يكفي في
العمل به مرة، فنقول: هل يكتفي فيه بالمرة فعلا أو حملا فإن
كان الأول، فمسلم، وإن كان الثاني فممنوع. وبيانه: أن المطلق
إذا فعل مقتضاه مرة ووجدت الصورة الجزئية الداخلة تحت الكل كفى
ذلك في العمل به، كما إذا قال: اعتق رقبة، ففعل ذلك مرة لا
يلزم إعتاقه رقبة أخرى، لحصول الوفاء بمقتضى الأمر من غير
اقتضاء اللفظ العموم، وكذلك إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق،
فدخلت مرة
(2/202)
وحنث، لا يحنث بدخولها ثانية، لوجود مقتضى
اللفظ فعلا من غير اقتضاء العموم. أما إذا عمل به مرة حملا، أي
في أي صورة من صور المطلق لا يلزم التقيد بها، ولا يكون وفاء
بالإطلاق، لأن مقتضى تقييد الإطلاق بالصورة المعينة حملا أن لا
يحصل الاكتفاء بغيرها، وذلك يناقض الإطلاق، ومثاله إذا قال:
اعتق رقبة، فإن مقتضى الإطلاق أن يحصل الإجزاء بكل ما يسمى
رقبة، لوجود المطلق في كل من يعتق من الرقاب، وذلك يقتضي
الإجزاء به، فإذا خصصنا الحكم بالرقبة المؤمنة منعنا إجزاء
الكافرة، ومقتضى الإطلاق إجزاؤها إن وقع العتق بها، فالذي
فعلناه خلاف مقتضاه. قال: فتنبه لهذه المواضع التي ترد عليك من
ألفاظ الكتاب والسنة إذا كان الإطلاق في الأحوال وغيرها مما
يقتضي الحمل على البعض فيه عود التخصيص إلى محل العموم، هي
الأشخاص أو مخالفة مقتضى الإطلاق عند الحمل، فالحكم بعدم
التقييد، لوجود الوفاء بمقتضى الإطلاق أو العموم إلا بدليل
منفصل، أما إذا كان الإطلاق في صورة لا تقتضي مخالفة صيغة
العموم ولا ينافي مقتضى الإطلاق فالكلام صحيح.
ويتعدى النظر بعد القول بالعموم بالنسبة إلى ما ذكرنا إلى أمر
آخر، وهو أن ينظر إلى المعنى المقصود بالعموم، فإن اقتضى إخراج
بعض الصور وعدم الجري على ظاهر العموم، وجب أن ينظر في قاعدة
أخرى، وهي أن اللفظ إذا قصد به معين، فهل يحتج به فيما لم يقصد
به أو لا؟ فإن قلنا بالأول، فلا حاجة بنا إلى هذا، وإلا احتجنا
إلى النظر فيها بعد الانتهاء بمقتضى صيغة العموم، وأن الوفاء
بمقتضاها واجب، فهذا ما عندي في هذا الموضع.
والذي يزيده وضوحا أن اللفظ إذا كان مطلقا في هذه الأحوال يلزم
منه أن يصح التمسك بشيء من العمومات أو أكثرها، إذ ما من عام
إلا وله أحوال متعددة بالنسبة إلى الذوات التي يتعلق بها
العموم، فإذا اكتفينا في العمل بحالة من الحالات تعذر
الاستدلال بغيره، وهذا خلاف ما درج عليه الناس.
(2/203)
مسألة [هل يجوز أن يبلغ المكلف اللفظ العام
ولا يبلغه المخصص؟]
إذا ثبت أن للعموم صيغة بالمعنى السابق، قال القاضي في
"التقريب": ذهب الجمهور سيما القائلين بجواز تأخير البيان إلى
أنه يجوز أن يسمع المكلف اللفظ العام، ولا يسمع المخصص إذا كان
له مخصص في أدلة الشرع، وعليه البحث في ذلك بقدر ما يعلم أنه
لو كان هناك مخصص لبلغه، فإن وجده وإلا اعتقد عمومه.
وذهب بعض أهل العراق إلى أنه لا يجوز أن يسمع الله واحدا من
المكلفين العام المخصوص، ولا يسمعه خصوصه; بل لا بد أن يسمعه
إياهما أو يصرفه عن سماع العموم إذا لم يسمع الخصوص. قلت:
ونقله صاحب "المعتمد"، و"المحصول" عن الجبائي وأبي الهذيل، قال
صاحب "الواضح": وهو قول أبي علي الجبائي، قال: وكذا كان يقول
في الناسخ والمنسوخ.
قال القاضي: واتفق الكل على أنه إذا كان العموم مخصوصا بدليل
العقل جاز أن يسمعه من لم يتقدم نظره في الدليل على تخصيصه،
وأن دليل العقل المخصص له مقدم عليه، لتقدم العقل على السمع،
وهو من أوضح ما يستدل به، فإنه إذا جاز ذلك في الأدلة العقلية
جاز في السمعية.
قال القاضي: ويجوز أن يبلغه المنسوخ، ولا يبلغه الناسخ، وحكى
صاحب "الواضح" المعتزلي في المسألة ثلاثة مذاهب، ثالثها:
التفصيل بين المخصص العقلي فيجوز، والسمعي فلا يجوز، وحكاه في
"المعتمد" عن الجبائي وأبي الهذيل.
وممن تبع القاضي في ذكر هذه المسألة الإمام في "التلخيص"،
والغزالي في "المستصفى1" قال: ونحن نقول: يجب على الشارع أن
يذكر دليل الخصوص، إما مقترنا أو متراخيا على ما ذكرنا من
تأخير البيان، وليس من ضرورة كل محتمل يبلغه العموم أن يبلغه
الخصوص; بل يجوز أن يغفل عنه، ويكون حكم الله في حقه العمل
بالعموم، وهو الذي بلغه، دون ما لم يبلغه. وقال في "البرهان"
لا يمتنع ورود اللفظ العام مع استئخار المخصص عنه إلى وقت
الحاجة، وذهب جماهير المعتزلة إلى منع ذلك، وهي من فروع تأخير
البيان إلى وقت الحاجة.
ـــــــ
1 المستصفى ص "255"
(2/204)
مسألة [هل يجب العمل بالعام قبل البحث عن
مخصص؟]
إذا جوزنا ورود العام مجردا عن مخصصه فهل يجب اعتقاد عمومه عند
سماعه والمبادرة إلى العمل بمقتضاه، أو يتوقف إلى أن ينظر دليل
المخصص؟ قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في كتابه: اختلف
أصحابنا فيه، فقال القاضي أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه
في الحال عند سماعه والعمل بموجبه. وقال عامة أصحابنا أبو
العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي وأبو سعيد الإصطخري وأبو
علي بن خيران وأبو بكر القفال: يجب التوقف فيه، حتى ينظر في
الأصول التي يتعرف فيها الأدلة، فإن دل الدليل على تخصيصه خص
به، وإن لم يجد دليلا يدل على التخصيص اعتقد عمومه، وعمل
بموجبه.
قال الشيخ أبو حامد: وحكى القفال أن الصيرفي سئل عن قوله
تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}
[الملك:15] هل تقول إن من سمع هذا يأكل جميع ما يجده من رزقه؟
فقال: أقول إنه يبلع الدنيا بلعا.
قال الشيخ أبو حامد: وزعم الصيرفي أنه مذهب الشافعي، لقوله في
"الرسالة": والكلام إذا كان عاما ظاهرا كان على ظاهره وعمومه،
حتى تأتي دلالة تدل على خلاف ذلك.
وزعم آخرون أن مذهب الشافعي خلافه، لأنه قال: وعلى أهل العلم
بالكتاب والسنة أن يتطلبوا دليلا يفرقون به بين الحتم وغيره في
الأمر والنهي. فأخبر أنه يجب طلب دليل يستدل به على موجب
اللفظ. قلت: ومن هذه الطريقة يؤخذ حكاية قولين للشافعي في هذه
المسألة. وهو غريب.
وما حكاه الشيخ أبو حامد من الخلاف في وجوب اعتقاد العموم جرى
عليه العراقيون من أصحابنا، منهم القاضي ابن كج في كتابه في
"الأصول"، والقاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية"، وصاحبه الشيخ
أبو إسحاق في "شرح اللمع"; وسليم الرازي في "التقريب"، وابن
الصباغ في "العدة"، ونصروا قول ابن سريج.
وممن حكاه من المراوزة إمام الحرمين وأبو النصر بن القشيري في
كتابه، والقاضي الحسين في تعليقه قبيل كتاب القاضي إلى القاضي،
والإمام أبو عمر بن عبد البر ونقل التمسك بالعموم إلى أن يظهر
المخصص عن أهل الحجاز، والمنع منه عن
(2/205)
أهل الكوفة. وكذلك صور المسألة والنقل،
القاضي أبو بكر في "التقريب" والإمام في "التلخيص" قال: وذهب
ابن سريج ومعظم العلماء إلى أنه لا يسوغ اعتقاد العموم إلا بعد
النظر في الأدلة ثم إذا نظر فيها جرى على قضيتها. قال: وارتضاه
القاضي أبو بكر، وهو الصحيح. وكذلك صورها إلكيا الهراسي في
"المدارك"، ونقل موافقة ابن سريج عن القفال وابن خيران
والإصطخري، وكذلك ابن برهان في "الأوسط" إلا أنه اختار قول
الصيرفي، وقال: إنه الصحيح.
وكذا اختاره ابن عقيل والمقدسي والقاضي أبو يعلى بن الفراء
وأبو بكر الخلال من الحنابلة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام
أحمد، واختاره أيضا الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه، وأبو
العباس القرطبي من المالكية.
لكن الراجح عند أصحابنا أنه لا يجوز قبل البحث عن المخصص، ونقل
فيه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني اتفاق أصحابنا، واختاره
الإمام في "البرهان" وزيف قول "الصيرفي"، وحكاه الماوردي عن
ظاهر نص الشافعي.
وقال في كتاب "الأقضية" وتبعه الروياني في "البحر": إنه مذهب
الشافعي. قلت: هو ظاهر نص الشافعي في "أحكام القرآن"، فإنه
قال: وعلى أهل العلم عند تلاوة القرآن والسنة طلب الدلائل
ليفرقوا بين الحتم وغيره في الأمر والنهي. هذا لفظه. فنص على
طلب الدلائل المميزة بين مواقع الكلام، ولم يكلهم إلى نفس
الكلام وظاهره، قبل البحث عن القرائن.
لكنه نص في موضع آخر على ما يخالفه. فيصير له في المسألة
قولان، فذكر في "الأم" حديث أبي أيوب بعموم النهي عن الاستقبال
بالغائط والبول، وقال: - يعني أبا أيوب - بالحديث جملة كما
سمعه جملة. قال الشافعي: وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول
به على عمومه وجملته، حتى يجدد دلالة يفرق منها فيه1، ثم مثل
الدلالة المفرقة بحديث ابن عمر، ثم ذكر حديث النهي عن الأوقاف
المكروهة، ثم قال الشافعي: وهكذا غير هذا من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو على الظاهر من العموم، حتى تأتي الدلالة
عنه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأئمة
الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة أنه باطن دون ظاهر، وخاص
دون عام2. انتهى. هذا لفظه، وذكر في "الرسالة" مثله، واحتج
بحديث أبي أيوب في قضاء الحاجة، وأنه سمعه جملة،
ـــــــ
1 الرسالة ص "295".
2 الرسالة ص "322"
(2/206)
فقال به جملة1. وقد سبق في مسألة صيغ
العموم نقل الصيرفي مثل ذلك عن نصوص الشافعي الكثيرة. وقال
الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه: اتفق أصحابنا على أن
العموم إذا ورد وسمعه المكلف وفهم ما يجب، وجب عليه عرضه إذا
أراد تنفيذه على ما يقدر من أدلة العقول وأصول الشرع، فإن كان
فيه ما أوجب تخصيصه خصه به، وإلا أجراه على ظاهره فيما اقتضاه
لفظه، وهذا وقف منه على مقدار الاجتهاد، وليس هو من جنس ما
تقوله الواقفية. انتهى.
وقال القفال الشاشي في "أصوله": إذا ورد الخطاب باللفظ العام
نظر، إن وجد دليل يخص اللفظ كان مقصودا عليه، وإلا أجري على
عمومه، لأن العام محتمل للتخصيص، فلا يجوز الهجوم على الحكم
دون النظر في المراد به، فإن قيل: فما الذي يعتقده السامع قبل
النظر؟ قلنا: قد يقترن بالخطاب من دلالة الحال ما يقف به
السامع على مراد الخطاب، وقد يتقدم الخطاب ما يتعقل لتخصيص
اللفظ وقرينته عليه، كما ورد أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على
الصحابة; فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" [لقمان:13] إذا ورد الخطاب مجردا من دلالة
تقترن به، فالواجب على المخاطب قبل النظر أن يعتقد ما حصل عنده
من ظاهر اللفظ، فإنه حق ولا يعتقد انصرافه إلى عموم ولا إلى
خصوص; لأنه إنما يجوز اعتقاد الشيء على ما هو به، وليس عنده
قبل النظر في هذا أكثر من اللفظ العام، فالعام يرد عليه
الحادثة وجهين فلا يعتقد في حكمها شيئا بعينه إلى أن ينظر
فيتبين له الحكم. انتهى.
وقد احتج بعضهم على العمل قبل البحث عن المخصص بما في الصحيحين
عن حديث أبي عبيدة في العنبر الذي ألقاه البحر، فإن أبا عبيدة
حكم بتنجيس ميتة البحر تمسكا بعموم القرآن، ثم إنه استباحها
بحكم الاضطرار مع أن عموم القرآن في الميتة مخصص بقوله:"هو
الطهور ماؤه، الحل ميتته" ولم يكن عنده ولا عند أحد من أصحابه
خبر من هذا المخصص. وحصل بما ذكرنا أن في هذه المسألة عندنا
طريقتين:
إحداهما: حكاية لقولين أو وجهين.
والثانية: القطع بوجوب البحث من غير خلاف على طريقة الأستاذ
أبي إسحاق، والقولان الأولان مشهوران من غير مذهبنا. ولهم فيها
أيضا ثلاثة أقوال
ـــــــ
1 الرسالة ص "294"
(2/207)
غريبة:
أحدها: إن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على طريق تعليم
الحكم وجب اعتقاد عمومه في الحال، وإن سمعه من غيره لزمه
التثبت، ونسب لأبي عبد الله الجرجاني من الحنفية.
والثاني: وحكاه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي في "التقريب" عن
أهل العراق أنه إن ورد بيانا بأن يكون جوابا لسؤال أو أمرا أو
نهيا وجب حمله على عمومه، وإن ورد ابتداء وجب التوقف فيه،
وحكاه أبو بكر الرازي في أصوله، واختاره، على غير هذا الوجه،
وهو التفصيل بين أن يرد جوابا عن سؤال أو أمرا أو نهيا، فيجب
حمله على عمومه، لأنه لو كان خاصا لما تركه عليه الصلاة
والسلام بلا بيان في الحال التي ألزم بتنفيذ الحكم مع جهل
السائل.
وإن ورد ابتداء من غير تعلق بسؤال أو سمع آية من القرآن مبتدأة
والسائل من أهل النظر والاجتهاد، قال الرازي: ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم بظاهره حتى يبحث عن المخصص، فإن لم يجده أمضاه
على عمومه.
والثاني: إن كان مخاطبا بحكم اللفظ فليس يخليه الله تعالى عند
سماع اللفظ من آية دلالة التخصيص عليه، حتى يكون كالاستثناء
المتعقب للجملة، وأما من لم يكن مخاطبا بالحكم، فليس عليه أن
يعتقد فيه عموما ولا خصوصا.
قال: وأما العامي فليس له أن يعتقد شيئا من ذلك، ولكنه إذا سأل
عن حكم حادثة ممن يلزمه قبول قوله، فأجابه بجواب مطلق أمضاه
على ما سمعه، ومنه من اقتصر على العموم من غير تفصيل، وهو خطأ;
لأن فيه إيجاب اعتقاد عموم ما لا يعلم صحة عمومه لا سيما إذا
كان مخصصا في نفس الأمر. ا هـ.
الثالث: وحكاه الماوردي والروياني في كتاب "الأقضية" التفصيل
بين أن يدخله تخصيص أو لا، فقيل التخصيص يستعمل على عمومه من
غير اجتهاد ولا نظر، وبعد التخصيص يحتمل. قال: وهو قول أهل
العراق، وكلام ابن كج يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا لم يكن هناك
ما يخصصه، فإن وجدنا ما يخصصه وجب العمل بالعام بلا خلاف من
غير توقف، وإن كان يجوز أن يكون هناك مخصص آخر، فإنه جعل هذا
أصلا قاس عليه موضع الخلاف.
وحكى ابن فورك مذهب الصيرفي ومقابله قولا بالتفصيل بين الأوامر
والأخبار، قال: ومنهم من جمع في الوقف بينهما، وهو الأفقه،
ومنهم من حمله على
(2/208)
ثلاثة، وتوقف في الزائد عليه. والمشهور
حكاية هذا في تأخير البيان عن وقت الحاجة. ونقل بعضهم عن
"الأصول" للأستاذ أبي إسحاق أن محل الخلاف في هذه المسألة فيما
إذا ورد الخطاب العام بعد وفاته عليه السلام فإن ورد في عهده،
وجب المبادرة إلى الفعل عمومه; لأن أصول الشريعة لم تكن مقررة.
(2/209)
[مذهب الصيرفي
في العمل بالعام قبل البحث عن مخصص]
وفي ذلك نظر لما سبق من كلام الصيرفي في كتاب "الدلائل" الخلاف
في ذلك، فقال: ذهب جماعة إلى أن ما سمع من النبي عليه السلام
من القرآن والسنة من العام مخاطبا به، فلا يجوز أن يتركه حتى
يبينه للمخاطبين، ليصلوا إلى علم ما أمروا به، وأما الساعة فقد
تكامل الدين، وثبوت الناسخ والمنسوخ، فليس على من سمع آية من
العام العمل بها حتى يسأل أهل العلم، فيعرف حكمها لما في ذلك
من النسخ والتخصيص، وإن كان ممن يبحث وله أن يبحث فقد أتى بما
يمكنه، فليس عليه إلا اعتقاد ما سمعه إذ قد بلغ ما يمكنه في
الجملة، وليس للعلم غاية ينتهي إليها، حتى لا يفوته منها شيء.
واختار قوم جواز تأخير البيان منه عليه السلام إلى وقت
التقييد; وقال قوم: على من سمع شيئا وحصل في يديه أمر من الله
أو نهي اعتقاد ما سمع حتى يعلم خلافه.
قال أبو بكر: والذي أقوله: إن كل آية أو سنة خاطب الله بها أو
رسوله مواجها بها من يخاطب آمرا أو ناهيا، فلا يجوز أن يخاطبه
به النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه في تلك مرفوع، لأنه يصير
آمرا بشيء، حكمه أن ينهى عنه في تلك الحال; وهو محال في صفته
عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز أيضا أن يواجه رجلا آمرا له
بشيء أو ناهيا عنه باسم عام ووقت بيانه: ممكن، ولا يتقدم ما
يوجب له البيان فيصير ما يريد منه أن يعلم من خطابه أو فعله
بخلاف ما أظهر; لأنه في الظواهر آمر له بخلاف ما يريد منه، ولا
سبيل له إلى علم من لفظه، لأن الله تعالى أمره أن يبين ما أنزل
إليه، وهذا خطاب من كتم لا من بين، والرسول عليه السلام أعلم
بالله من أن يفعل ذلك.
فإذا سمع المخاطبون ذلك منه عليه السلام، ثم فارقوه، واحتمل
ورود النسخ عليه فعليهم الإقامة عليه، حتى يعلموا أن الله
أزاله أو رسوله; لأنه قد حصل في أيديهم اليقين، فلا يزولون عنه
لإمكان ما يجوز أن يكون رافعا ولا يتوقفون عنه; لأن في ذلك
إسقاط ما علم صحته لما لا يعلم كونه.
(2/209)
وقد علم أن الناس لا يمكنهم مراعاة النبي
صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال لا يفارقونه; بل عليهم
استعمال ما علموه حتى يعلموا خلافه مع احتمال زوال ما علموا أو
وجب عليهم تبليغه، قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ
بَلَغَ} [الأنعام:19].
وعلى ذلك جرى أمر السلف كابن مسعود في الكلام في الصلاة، لم
ينزل عليه حتى قدم عليه السلام، فأخبره أنه لا يجوز. وكان معاذ
ومن بلغه معاذ سواء في الاعتقاد وفي الفعل، حتى يعلم خلافه،
وإلا فلا معنى لتوجيهه ليعلم الناس لإمكان نسخ ما بعث به.
ثم قال: باب الإبانة عما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم غير
مواجه في الصلاة وغيرها; قال قائلون: ليس على من سمع ذلك
اعتقاد ما سمع ولا فعله حتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم،
فيبين له، لأنه لم يواجهه بالخطاب، وإنما سمع درسا، وقد يدرس
المنسوخ.
وقيل: لا يكلف إلا ما سمع حتى يعلم خلافه، وقال أبو بكر: والذي
أقوله: إن كل آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو
نهي وكان الكلام قد تم ولم يتعقبه ويقارنه بما يقتضي تخصيصه،
فعلى السامع اعتقاد ما سمع حتى يعلم خلافه، ثم احتج على ذلك
بأمور منها قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ} [الاحقاف:29]، قال: فلما سمعوا عند انقضائه أثنى
عليهم عند التقضي بالانصراف، ولم يتوقفوا للسؤال ولا غيره،
فلما آمنوا به لزمهم حكم ما سمعوا حتى يعلموا أن الله أزال
حكمه وأبقى تلاوته.
وظاهر كلام الصيرفي أن الشافعي يقول ذلك، فإن من جملة ما احتج
به على هذا أن الشافعي احتج على خصوصه بقوله: ربما حضر الرجل
من الصحابة قد سمع الجواب، ولم يسمع السؤال والكلام يخرج على
السبب، فيحكي ما سمع، وعلى كل إنسان أن يحكي ما سمع حتى يعلم
خلافه، فإذا كان هذا من النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون
الجواز ممكنا من النبي عليه السلام، والصحابة يسمعون ذلك،
ويمكنهم سؤاله فيجيبهم، فهو في غيرهم أولى.
ثم قال: باب الإبانة عن العام يسمع من غير النبي صلى الله عليه
وسلم في عصر النبي عليه السلام وهلم جرا إلى وقتنا هذا. فنقول:
كل آية أو سنة وردت علينا، فالواجب علينا اعتقاد ما سمعنا حتى
نعلم خلافه من خصوص أو نسخ، وعلتنا فيه ما اعتللنا من أمر معاذ
وغيره من عمال النبي عليه السلام، ومن لم يلق النبي عليه
السلام، بل اعتقدوا ما سمعوا منه وعملوا به، لأنه لو جاز
التوقف لاحتمال الخصوص لجاز التوقف عما علمناه
(2/210)
ثانيا، واحتمل في منعه، وهذا يؤول إلى ترك
الفرائض.
فأما القائلون بأن علينا طلب ذلك بقدر الطاقة كطلب الماء بحسب
ما يمكن، فإن وجده وإلا صار إلى التراب، وإذا قد يدرك الجلي
منه ما لا يدرك الخفي فليس عليه إلا ما يقدر عليه، فإن وجده
فيها وإلا عاد إلى القضاء بالعموم، قلنا له: تطلب دليل الخصوص
في بعض القرآن والسنة أو في كل ذلك؟ فإن قال: أطلبه في البعض
دون البعض، فقد عمد إلى أهل الخصوص. وإن قال: أطلبه في كل ذلك،
قلنا: وقد علمت أنك لا تبلغ علم ذلك كله، فتوقفك خطأ من وجهين.
فأما تشبيههم بالماء والتراب فخطأ، لأنهم أمروا أن يلتمسوا
الماء إلى الطهور، كما يلتمسوا أهل الزقاق، ولم يكلفوا غير
ذلك. انتهى كلامه. وهذا الباب الأخير يعلم منه ثبوت الخلاف في
الصورة التي نقل عن الأستاذ الوفاق فيها، وقد استفدنا من جملة
كلامه أن للمسألة أحوالا:
أحدها: أن يخاطب النبي عليه السلام باللفظ العام فعلى المخاطب
العمل بمقتضاه حتى يعلم خلافه.
ثانيها: أن يقول ذلك لا على جهة الخطاب له فعلى السامع اعتقاد
عمومه.
ثالثها: أن يسمع العام من غير النبي عليه السلام في عصره أو
بعده، فالحكم فيه كذلك، والخلاف ثابت في الجميع، لكن الحالة
الأولى فرعها على مذهبه في منع تأخير البيان إلى وقت الحاجة،
ثم إنه ذكر بعد ذلك تقييد ما سبق بما إذا لم يعلم أن فيه
تخصيصا أو ناسخا، أما إذا علم فإنه يتوقف، فإنه قال بعد أوراق:
باب القول في الأسماء التي قد علم أنه قد خص أو نسخ بعض حكمه
ولا نعلم ناسخه أو البعض المنسوخ منه.
قال أبو بكر: كل خطاب خوطبت به، وعلمت أن فيه خصوصا أو نسخا
ولم تعلمه، فلا تقدم فيه على شيء منه، لأنك لا تتوجه إلى وجه
من وجوه الاستعمال إلا تعادل في نفسك بضده، فليس البعض أولى من
الآخر، فلا تقدم عليه حتى تعلم المرفوع من الثابت.
ثم قال: وليس هذا مثل القرآن كله إذا علم أن فيه منسوخا، لأني
لا أدري هل ذلك في القرآن من النسخ واقع لهذا أو لغيره، فلا
أترك ما ثبت أمره حتى أعلم خلافه انتهى.
(2/211)
[اختلاف
الأصوليين في تحديد مذهب الصيرفي]
وإنما حكيت كلام الصيرفي بنصه لعزة وجود هذا الكتاب، ولأنه قد
وقع أغلاط لجماعة من الأكابر في النقل عنه، فأردت الاستظهار في
ذلك، وبيانه بأمور:
أحدها: قالوا: إن قول الصيرفي: يجوز التمسك بالعام ابتداء من
غير طلب المخصص يحتمل معنيين; أحدهما: أنه يجب على المجتهد أن
يظن عمومه إذ ذاك، إذ ليس من شرطه حكما والتمسك بالدليل أن
يكون قاطعا بمقتضى الدليل الذي تمسك به.
والثاني: أنه يجب عليه أن يقطع بعمومه إذ ذاك، لكن صرح إمام
الحرمين وغيره بالاحتمال الثاني نقلا عنه، فأغلظ القول عليه.
قلت: وكذلك القاضي أبو الطيب الطبري نصب خلاف الصيرفي في وجوب
اعتقاد العموم، وكذلك ابن برهان في "الأوسط" وسليم الرازي في
"التقريب" وابن السمعاني في "القواطع" ولم يذكروا وجوب العمل،
وما سكتوا عنه، فقد صرح به غيرهم.
وقال المازري:لم يرد الرجل هذا، وإنما أراد اعتقاد وجوب العمل
به، قال المقترح في تعليقه على "البرهان": والظاهر أن الصيرفي
إنما أراد الاحتمال الأول ا هـ.
وقد علمت أن الصيرفي فرض للمسألة أحوالا ثلاثة، وجعل بعضها من
الاحتمال الأول، وبعضها من الأخير، ففي الحالة الأولى، وهي أن
يخاطبه عليه السلام، باللفظ العام يجب عليه العمل بمقتضى
العموم، ولم يختر اعتقاد العموم بخلافه في الحالتين الأخيرتين،
فتأمل كلامه.
وقال الأصفهاني استفدنا منه أن العمل به مقطوع، أما مطلق اللفظ
العام إن أراد به العموم فلا قطع فيه: وهذا الذي اشتبه على من
قال: إن الأحكام الثابتة بأخبار الآحاد ونحوها مما يفيد الظن
أحكام معلومة، ولم يعرف أن المقطوع به وجوب العمل لأن الحكم
المظنون معلوم.
الأمر الثاني: أن إمام الحرمين صور محل الخلاف في صورة خاصة،
فقال: إذا وردت الصيغة الظاهرة في اقتضاء العموم، ولم يدخل وقت
العمل بموجبها، فقد قال أبو بكر الصيرفي: يجب على المتعبدين
اعتقاد عمومها على جزم، ثم إن كان الأمر على ما اعتقدوه فذاك،
وإن تبين أن الخصوص تغير العقد انتهى. والصواب في النقل عنه
إطلاق العموم سواء قبل حضور وقت العمل به أو
(2/212)
بعده; بل هو مصرح بالعمل به قبل البحث عن
المخصص، ونقل ذلك أيضا في كتابه "البيان في أصول الفقه" وكذلك
نقله عنه الجمهور كما سبق التصريح به في كلامهم، ولم يقيد أحد
منهم النقل عنه بهذه الحالة.
(2/213)
[تفريع]
الأمر الثالث: أن مما يتفرع على هذا الخلاف تأخير البيان عن
وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فمن ذهب إلى إجرائه على العموم قبل
البحث عن المتخصص كالصيرفي، قال: لا يجوز أن يتأخر عنه بيان
الخصوص، إن كان ثم مراد كما يمتنع تأخير الاستثناء، ومن منع
اقتضاء عمومه، أجاز تأخير البيان عن وقت الورود.
وكذا ذكره ابن فورك في كتابه، فقال: من ذهب إلى الاقتضاء بنفس
السماع، قال: لا يجوز أن يتأخر عنه بيان الخصوص إن كان ثم
مراد، ومن أبى المبادرة إلى الإمضاء جوزه
وكذا قال إلكيا الهراسي، وهذا موافق لأصل الصيرفي، فإنه ممن
يمنع تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما سبق التصريح به في صدر
كلامه.
وهكذا نقله عنه الجمهور، ولكن إمام الحرمين نقل عنه هنا أنه
يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، واستدل عليه بأنه من الرادين
عليهم في كتبه، فألزمه التناقض، فقال: القول بالإجراء على
العموم إنما يليق بمذهب من يمنع تأخير البيان، أما من يجوزه
فلا، فالقول بجواز ورود المخصص مع القول بوجوب العموم تناقض.
وقد علمت أن الصيرفي صرح في صدر كلامه في هذه المسألة بمنع
تأخير البيان عن وقت الحاجة، فالذي ذكره مستقيم، وكذا نقله عنه
ابن الصباغ في العدة وغيره. وقول الإمام: إنه من الرادين على
مانعي تأخير البيان في تصانيفه صحيح، ولكن في غير مسألة تأخير
البيان، نعم، سيأتي عن الأستاذ أبي إسحاق رجوع الصيرفي عن هذا
المذهب، ولم يقف جماعة على تحرير النقل عن الصيرفي في مسألة
تأخير البيان، وظنوا صحة ما نقله عنه الإمام فأخذوا في تأويل
كلامه. قال المازري: قد أغلظ الإمام القول على الصيرفي، ونسبه
إلى الغباوة، وهو غير لائق، فإنه إمام جليل مع إمكان تأويل
كلامه. قال المقترح: لا تناقض، لعدم تواردهما على محل واحد،
فإن محل الاعتقاد إنما هو وجوب العمل بالعموم، والتجويز راجع
إلى تبين مراد اللفظ. انتهى.
وهذا بناء منه على أن الصيرفي كلامه في وجوب العمل لا
الاعتقاد، والإمام
(2/213)
بنى اعتراضه على أن كلام الصيرفي في
الاعتقاد، وقد سبق تحريره.
وقال الصفي الهندي:لا نسلم أن الجزم باعتقاد العموم إنما يليق
بمذهب المانع من تأخير البيان، بل التناقض المذكور لازم لهم
أيضا إلا من لم يجوز سماع المكلف العام دون الخاص، فإن التناقض
المذكور إنما يندفع عنهم لا غير، وهذا لأنهم وإن أوجبوا اتصال
المخصص بالعام في الورود، لكنهم لم يوجبوا وصوله إلى من يصل
إليه العام، فيحتمل أن يظهر المخصص للمكلف بعد سماع العام، وإن
كانا عند الورود مقترنين، ومع هذا الاحتمال والتجويز كيف يجب
عليه القطع بالعموم؟
(2/214)
عمومه، إذ لا يظهر لوجوب اعتقاد عمومه
فائدة إلا العمل به فعلا أو كفا، فلو قيل: قاتلوا الكفار، أو
اقتلوهم، واعتقدنا عمومه، وجب علينا العمل بموجبه في قتالهم،
حتى يأتي المخصص، وإن لم يكن الأمر هكذا لم يكن لوجوب اعتقاد
عمومه فائدة
والصواب أن الخلاف ثابت في الحالين، وممن نصب فيهما الشيخ أبو
إسحاق في "شرح اللمع" فقال: هل يجب اعتقاد عمومها والعمل
بموجبها؟ قال الصيرفي: يجب الأخير، وقد سبق توهم إمام الحرمين
تخصيص النقل عنه بذلك.
وقال بعض شراح "اللمع": يجب اعتقاد عمومها في الأزمان والأعيان
بلا خلاف، وهل يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها قبل البحث عن
المخصص؟ فيه الوجهان، وأيضا فالكل متفقون في النقل عن الصيرفي
أنه يجب اعتقاد عمومه، ومع الجزم بالعموم يستحيل أن لا يجوز
التمسك به، فكيف يستقيم نقل الإجماع في منع التمسك به، وكيف
تجعل مسألة اعتقاد العموم غير مسألة جواز التمسك به هو لازمه،،
وهذا مما لا يعقل، وأيضا القول بجواز التمسك به أولى وأظهر من
وجوب اعتقاد عمومه، ثم حين ظهور المخصص يتغير الاعتقاد، فإنه
مذهب ضعيف أغلظ إمام الحرمين القول فيه بسببه، بخلاف العمل
بالعام ابتداء فإن له وجها وجيها.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": هما مسألتان: إحداهما قبل
مجيء وقت العمل، والحق فيها ما اختاره إمام الحرمين أن العموم
ظاهر، والعمل مقطوع به. وثانيتهما: عند وقت العمل به، وهي
مسألة الغزالي، والحق فيها ما اختاره.
والذي يتحصل من كلامهم أنه لا يجوز الهجوم على العمل بمقتضى
العموم دون البحث عن المخصص. وأما الخلاف المحكي عن الصيرفي
وابن سريج فهو حكم مقتضى العموم ابتداء، ويعتمد على ظهور
التخصيص ابتداء، والخلاف في العام في إجرائه على عمومه، وفي
الخاص في إجرائه على حقيقة واحدة، فمن أوجب الاستقصاء عن
المخصص أوجب البحث عن المقتضى بحمل اللفظ على المجاز.
وهكذا جعل الهندي خلاف الصيرفي قبل حضور وقت العمل به. قال:
فإن حضر وقته وجب العمل به إجماعا لكن مع الجزم بعدم المخصص
عند جمع كالقاضي، ومع ظنه عند آخرين كإمام الحرمين وابن سريج
والغزالي وهو الأولى، انتهى.
وقد سبق أن الصيرفي والجمهور أطلقوا النقل عنه من غير فرق بين
حضور وقت العمل به أم لا، ونقله الإجماع في الحالة الثانية لا
يستقيم لما سيأتي من كلام ابن الصباغ.
(2/215)
قال إمام الحرمين: إذا حضر وقت العمل
بالعام، فقد يقطع المكلف بمقتضى العموم لقرائن تتوفر عنده،
فيصير العام كالنص، وقد لا يقطع بذلك لعدم القرائن المفيدة
للقطع، بل يغلب على ظنه العموم فيعمل بناء على غلبة الظن كما
في خبر الواحد والقياس.
(2/216)
[المذاهب في
المدة التي يجب فيها البحث عن مخصص]
الأمر الخامس: إذا أوجبنا البحث عن المخصص فاختلف في المدة
التي يجب فيها البحث على أربعة مذاهب حكاها في "المستصفى1".
أحدها: يكفيه أدنى نظر وبحث كالذي يبحث عن متاع في بيت ولا
يجده، فيغلب على ظنه عدمه.
والثاني: يكفيه غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث.
والثالث: لا بد من اعتقاد جازم بأنه لا دليل، ولا يكفي الظن.
ورابعها: لا بد من القطع بانتفاء الأدلة، وإليه ذهب القاضي،
والقطع به ممكن، ومنع غيره ذلك الإمكان، لأن غاية المجتهد بعد
الاستقصاء الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود، ولا يلزم
منه إلا الظن بعدم الوجود لا القطع بعدمه، لعدم انضباط الأدلة،
واحتمال الشذوذ.
وقال القاضي: ولا يكفي عدم وجدان المخصص لمجتهد سابق، ولا
قوله، ولو كان الحكم خاصا لنصب الله عليه دليلا للمكلفين
وليكفهم ذلك. واعلم أن هذا القول قريب من الذي قبله فإن
المعتقد أيضا لا يجوز النقيض وإلا لكان ظانا، لكن يفترقان في
أن المعتقد على الثالث يكون مصيبا في الحكم، وإن تبين له الغلط
بعد ذلك، والقاضي يرى أن الاعتقاد من غير علم لا يكون مطلوبا
في الشريعة، قاله الإبياري والمختار وفاقا لإمام الحرمين وابن
سريج والغزالي والمحققين الأول، فقال: عليه تحصيل علم أو ظن
باستقصاء البحث، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه، وأما القطع
فبانتفائه في حقه يتخير عن نفسه عن الوصول إليه بعد بذل وسعه،
وهذا الظن بالصحابة في مسألة المخابرة ونحوها، وكذلك الواجب في
القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر.
ـــــــ
1 المستصفى ص "256"
(2/216)
ويجتمع من كلام الأصحاب في المسألة أقوال
أخر، فقد قال: الماوردي والروياني كلاهما في الأقضية: ليس
لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر، وإنما هو معتبر بما يؤدي
الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس وقال القفال الشاشي في كتابه:
ليس لمدة البحث زمن محدد، ولكنها معقولة، وهذا كما أن المجتهد
إذا لم يجد نصا في الحادثة يجتهد حتى يجد ما يتعلق به، وليس له
في ذلك زمن محدد، ومعلوم أن من سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يتلو آية بلفظ عام، كان عليه أن يستوعبها سماعا فلعله استثنى
عقب الكلام. فإذا استوعبها، ولم يجد فيها استثناء ولا خصوصا
اعتقد عمومها، وعمل بما يوجبه لفظها.
وليس لمدة الاستماع وقت محدد، ولكن بانتهاء الكلام، فكذلك من
سمع آية عامة نظر، ولا مدة لنظره أكثر من زمان يخطر بباله ما
قد علمه من الأصول فيه، فإن لم يجد في ذلك ما يدل على خصوصها
واحتاج إلى التقييد أجراها على العموم، وإن لم يحتج سأل من
يعلم أن عنده علما أو ازداد في التأمل بما عنده من الأصول،
فلعله أن يتنبه به على خصوص إن كان فيها كما سأل الصحابة عن
قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
[الأنعام:82] وقالوا أينا لم يظلم؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وسألوا النبي عليه
السلام عن قوله:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره
لقاءه كره لقاءه" فقالوا أينا لا يكره الموت؟ فكشف لهم عن
المعنى. وليس كل ما قدر حصره بمقدار، تعلق الحكم به، كما تقول
في التواتر: أن يكون عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب، قال: وفي
ذلك إبطال قول من نظر إلى إبطال النظر في معنى العموم لجهل
المدة التي يقع فيها النظر.
وقال القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية": ولا يوجب التوقف
أبدا; بل هو كالحاكم يتوقف حتى يسأل عن عدالة الشهود، ويجوز أن
يكون النظر الأول هو الواجب دون التكرار، كالمجتهد تنزل به
الحادثة.
قال الشيخ في "شرح الإلمام": الموجبون للبحث عن المخصص، إن
أرادوا به أنه لا بد للمجتهد من نظره فيما تأخر من النصوص، أو
ما يتيسر له مراجعته مما ستعرفه باحتمال التخصيص فذلك صحيح،
وإن أرادوا به التوقف حتى يقع على ما لعله لم يبلغه من النصوص،
ولا يشعر به مع قرب المراجعة فلا يصح، والدليل عليه أن علماء
الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير توقف على البحث في
الأمصار والبلاد عما لعله أن يكون تخصيصا.
وبهذا يجاب عن قول القائل بالوجوب إنه لو كان كذلك لكانت رتبة
الاجتهاد
(2/217)
ممكنة لكل أحد حصلت له أدنى أهلية، لأنا
أولا شرطنا أن يكون أهلا للاجتهاد، وذلك يقتضي اطلاعه على جملة
من النصوص زائدة لا يصل إليها من له أدنى أهلية. انتهى.
(2/218)
[منشأ الخلاف
في المسألة]
الأمر السادس: أن مثار الخلاف في وجوب البحث أمران: أحدهما:
التعارض بين الأصل والظاهر. والثاني: عدم المخصص، هل هو شرط في
العموم أو التخصيص من باب المعارض؟ فيه قولان يؤخذان مما سبق،
وكما في تخصيص العلة. والصيرفي يقول: إن التخصيص مانع [ف]
يتمسك بالعموم ما لم ينتهض المانع، لأن الأصل عدمه. وابن سريج
يقول: عدمه شرط، فلا بد من تحققه.
وحاصله أن ابن سريج يقول: صيغ العموم لا تدل على الاستيعاب،
إلا عند انتفاء القرائن، وانتفاء القرائن شرط، فلا بد من
البحث، هكذا نقله ابن السمعاني وغيره. وقال القاضي أبو الطيب:
إنما يدل على العموم صيغة مجردة، والتجرد لم يثبت، قال: وهذا
كما تقول: إذ شهد عند الحاكم شاهدان لا يعرف حالهما، فإنه يجب
السؤال عن عدالتهما، ولا يجوز الحكم بها قبل السؤال، لأن
البينة الشاهدان مع العدالة، لا الشاهد فقط. انتهى.
(2/218)
[هل يؤول القول
بوجوب البحث في المخصص إلى القول بالوقوف في صيغ العموم؟]
الأمر السابع: يلزم على المصحح من قول ابن سريج والجمهور القول
بالوقف في صيغ العموم فإنا لم نعتقد أن اللفظ ظاهر في العموم،
ولا يجري عليه حتى يبحث عن المخصص، فقد ترك القول بالعموم،
وصار إلى مذهب الواقفية.
وعلى هذا جرى ابن فورك في كتابه، وهو من الواقفية، فقال: غلط
علينا بعض الفقهاء، وزعم أن المذهبين يفترقان، فإن أبا العباس
يمضي العموم إذا عدم دليل الخصوص، ونحن نقول: بدلالة غير نفس
الكلام، قال: وليس الأمر كذلك عندنا; بل نقول: اللفظ مشترك،
ولا نهجم على أحدهما إلا بتبين وبحث، فإن وجدنا ما يخصه عملنا
بعمومه، ورجعنا إلى نفس الكلام بالقرينة، ولهذا قال ابن برهان
في "الأوسط": بناء الخلاف في هذه المسألة على حرف، وهو أن
اعتقاد العموم عندنا
(2/218)
[تقسيم الصيرفي
العام إلى قسمين]
الأمر الثاني: أن الصيرفي في الكتاب المذكور في موضع منه قسم
العام إلى قسمين:
أحدهما: ما يمكن استعماله في جميع أفراده، فحكمه العموم حتى
يعلم ما يخصه الدليل، ولا يترك شيء يقع عليه الاسم إلا لزم
حكمه.
الثاني: ما لا يقدر المخاطب أن يأتي بعموم ما اشتمل عليه، فلا
يلزم من ذلك إلا ما وقف عليه، لأنه ليس بعضه أولى من بعض، إذ
الكل معجوز عنه كقولنا: لا تناموا، ولا تأكلوا، ولا تشربوا،
فهذا مما لا يقدر على الامتناع فيه دائما، فلا بد من التوقف
للعجز عن دوام ذلك، وفيها قول آخر، وهو أنظرها، أنه ممتنع من
الذي نهى عنه أبدا، حتى يغلب عليه. هذا كلامه.
(2/220)
[البحث عن مخصص
عند ضيق الوقت]
الأمر التاسع: أطلقوا الخلاف ليشمل ما إذا ضاق الوقت; وقال أبو
نصر بن الصباغ في كتاب "عدة العالم" له في أصول الفقه: إن
اللفظ العام إن اقتضى عملا مؤقتا وضاق الوقت: عن طلب الخصوص،
فهل يعمل به أو يتوقف؟ قال: فيه خلاف لأصحابنا. وهذا فيه رد
على من حكى الإجماع في مثل هذه الحالة كما سبق، ونظيره أن
المجتهد هل يقلد عند ضيق الوقت؟ جوزه ابن سريج، وقال: لا يجوز
أن يفتى به. وقال الرافعي: وقياسه أنه لا يجوز له القضاء
وأولى. ومنهم من طرد قول ابن سريج في القضاء. قال الرافعي: ومن
قال به فقياسه طرده في الفتوى.
الأمر العاشر: أن هذا الخلاف لا يختص بالعموم، بل يجري في لفظ
الأمر والنهي إذا وردا مطلقين، كما ذكره الشيخ أبو حامد
الإسفراييني، وسليم الرازي في "التقريب" وابن الصباغ في
"العدة"، وكذلك الحقيقة إذا وردت: هل يطلب لها مجاز أم لا؟
وعممه الغزالي وابن الحاجب في كل دليل مع معارضه. قال الغزالي:
وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل، فهو دليل بشرط السلامة عن
المعارض، وكذلك الجمع بين الأصل والفرع لعلة تحيله بشرط أن لا
ينقدح فرق، فعليه البحث عن
(2/220)
مسألة [الصورة النادرة، هل تدخل تحت
العموم؟]
اختلفوا في الصور النادرة هل تدخل تحت العموم لصدق اللفظ عليها
أو لا، لأنها لا تخطر بالبال غالبا؟ وبنى عليه أصحابنا في
المسابقة على الفيل، فمن منع ذلك ادعى أنه لم يدخل تحت
قوله:"لا سبق إلا في خف أو حافر1".
وظاهر كلام الغزالي يقتضي ترجيح الدخول، فإنه قال: في "البسيط"
في باب الوصية: لو أوصى بعبد أو رأس من رقيقه، جاز دفع الخنثى،
وفي وجه لا يجزئ، لأنه نادر لا يخطر بالبال، وهو بعيد لأن
العموم يتناوله. هذا لفظه. وظاهر كلام الشافعي عدم دخولها،
فإنه قال الشاذ يجيء بالنص عليه. ولا يراد على الخصوص بالصيغة
العامة انتهى.
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في السبق،
برقم "2574" عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " لا سبق إلا في خف أو في حافر أو نصل". ورواه الترمذي،
كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق، برقم "1700" ورواه
النسائي، كتاب الخيل، باب: السبق، برقم "3585" ورواه ابن ماجه،
كتاب الجهاد، باب السبق والرهان، برقم"2878" واللفظ له.
(2/221)
وقطع به إمام الحرمين في كتاب العموم،
فقال: إن العموم إذا ورد وقلنا باستعماله، فإنما يتناول الغالب
دون الشاذ النادر الذي لا يخطر ببال القائل، كذا حكاه عنه ابن
العربي في كتاب الزنى من كتابه "القبس"، لكن حكى الرافعي في
باب الوصية خلافا فيما إذا أوصى لعبد مبعض، وبينه وبين سيده
مهايأة، ينبني على أن الأكساب النادرة: هل تدخل في المهايأة؟
ثم قال: وتردد الإمام فيما إذا صرحا بإدراج الأكساب النادرة في
المهايأة أنها تدخل لا محالة أو تكون على الخلاف؟ وفيما إذا
عمت الهبات والوصايا في قطر أنها تدخل لا محالة كالأكساب
العامة، أو هي على الخلاف؟ لأن الغالب فيها الندور. انتهى.
ويجيء مثل هذا فيما لو عم بعض النادر في قطر، هل يدخل في
العموم؟ وقل من تعرض لذكر الخلاف في هذه المسألة. وقيل: إن
الشيخ أبا إسحاق حكاه، ولم أره في كتبه. وإنما حكوا في باب
التأويل الخلاف في تنزيل العام على الصورة النادرة بخصوصها،
فنقل ابن برهان في "الأوسط" في الكلام على أن السبب لا يخصص:
أن الصورة النادرة بعيدة عن البال عند إطلاق المقال، ولا
تتبادر إلى الفهم، فإن اللفظ العام لا يجوز تنزيله عليها، لأنا
نقطع بكونها غير مقصودة لصاحب الشرع لعدم خطورها بالبال. قال:
وبنى على هذا أصحابنا كثيرا من المسائل: منها: أنهم أبطلوا حمل
أبي حنيفة حديث: "لا نكاح إلا بولي1" على المكاتبة، وقالوا
المكاتبة نادرة من نادر، لأن الأصل في النساء الحرائر، والإماء
نادرة بالنسبة إليهن، والمكاتبات نادرة بالنسبة إلى الإماء،
فلا يجوز تنزيل العام عليها.
وذكر إلكيا الهراسي في هذه المسألة تفصيلا، فقال: تخصيص العام
بالصورة النادرة إن تقدم عهد يدل عليه لم يبعد، مثل أن يقول:
أيما رجل دخل الدار أكرمه، ثم يقول: عنيت به من تقدم ذكرهم من
خواصي وإن لم يظهر سبق عهد، فاختلفوا فيه، فقيل: يجوز تخصيص
اللفظ به اتكالا على احتمال اللفظ القرائن. وقيل: لا يجوز
إزالة الظاهر بناء على تقدير حكايات وقرائن، فإن ذلك لا يسلم
عنه
ـــــــ
1 رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب، برقم "2085" ورواه
الترمذي، كتاب النكاح، باب: ماجاء لا نكاح إلا بولي، برقم
"1101" ورواه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي،
برقم "1880".
(2/222)
حديث; وبالجملة فيمكن أخذ الخلاف من هذه
الصورة في مسألتنا، لأن جواز التخصيص فرع شمول اللفظ.
وقد استشكل بعض المتأخرين إطلاق الخلاف في هذه المسألة، وقال:
لا يتبين لي في كلام الله تعالى، فإنه لا يخفى عليه خافية،
فكيف يقال: لا يخطر بالبال؟ وأجيب بأن المراد عدم الخطور ببال
العرب في مخاطباتها، فإذا كانت عوائدهم إطلاق العام الذي يشمل
وضعا، صورة لا تخطر عند إطلاقهم غالبا ببالهم، فورد ذلك العام
في كلام الباري تعالى، قلنا: إنه تعالى لم يرد تلك الصورة،
لأنه أنزل كتابه على أسلوب [العرب] في محاوراتها وعاداتها في
الخطاب.
تنبيهات
الأول: قال ابن الرفعة في المطلب في باب المسابقة: كلام الإمام
والغزالي يدل على أنه إنما يدخل في العام ما خطر لا للافظ به
حين النطق به، وهذا إنما يعتبر في قوله عليه السلام إذا قلنا:
إن جميع ما يقوله عن وحي واجتهاد، أما إذا قلنا: إن جميع ما
يقوله عن وحي، فلا يظهر اعتباره، لأن موحيه عالم بجميع
الجزئيات. وجوابه ما تقدم.
الثاني: أطلقوا هذا الخلاف، وينبغي تقييده بأمرين:
أحدهما: أن لا يدوم، فإن دام دخل قطعا، لأن النادر الدائم يلحق
بالغالب. ثانيهما: أن يكون فيما ظهر اندراجه في اللفظ، ولم
يساعده المعنى، أما إذا ساعده فيحتمل القطع فيه بالدخول.
ويحتمل أن يجري فيه خلاف من الخلاف في بيع الأب مال ولده من
نفسه، وبالعكس، هل يثبت فيه خيار المجلس، على وجهين: أحدهما:
لا فإن المعول عليه الخبر، وهو إنما ورد في المتبايعين، والولي
قد تولى الطرفين، وأصحهما الثبوت، فإنه بيع محقق، وغرض الشارع
إثبات الخيار في البيع، وإنما خصص المتبايعين بالذكر إجراء
للكلام على الغالب المعتاد، كذا وجهه الإمام في "النهاية".
مسألة
وهل يدخل في العموم ما يمنع دليل العقل من دخوله ، كقوله
تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وكقول
القائل: اضرب كل من في الدار؟ فيه
(2/223)
خلاف حكاه ابن السمعاني في "القواطع" من
وجهين: أحدهما: أن مرجع اللفظ يتناوله، إلا أن الدليل يوجب
إخراجه منه. والثاني: أنه خارج منه لسقوطه في نفسه، واللفظ لم
يتناوله أصلا، وستأتي المسألة في التخصيص بالعقل إن شاء الله.
مسألة
وهل يدخل في العموم الصور غير المقصودة؟ فيه قولان حكاهما
القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وقال: ذهب متقدمو أصحابنا إلى
وجوب وقف العموم على ما قصد به، وأن لا يتعداه إلى غيره إلا
بدليل، وإن كانت الصيغة تقتضيه. وبه قال أبو بكر القفال وغيره
من الشافعية.
وذهب أكثر متأخري أصحابنا إلى منع الوقف فيه، ووجوب إجرائه على
موجبه لغة. قال: وصورة المسألة أن يستدل بقوله تعالى: {أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
[البقرة:187] إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]
على إباحة كل نوع مختلف في جواز أكله، أو شرب بعض ما يختلف في
شربه، وقد علم أن المقصود من الأكل والجماع في ليلة الصيام لا
يحرم بعد النوم نسخا لما تقدم. وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] الآية، على وجوب الزكاة في نذر
مختلف فيه أو نوع مختلف في تعلق الزكاة به، وكذلك التعلق
بالخطاب الخارج على المدح والذم، نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] على جواز الجمع
بين الأختين بملك اليمين ونحوه.
قلت: وستأتي ترجمة المسألة ب "العام" بمعنى المدح، والذم هل هو
عام أو لا؟ فهي فرد من أفراد هذه، فيعاب على من ذكرهما في
كتابه من غير تنبيه إلى ما أشرنا إليه، وظهر من هذا أن الشافعي
يرى وقفه على ما قصد به، وأنه غير عام، ولهذا منع الزكاة في
الحلي منع التمسك في الوجوب بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] لأن العموم
لم يقع مقصودا، وإنما وقع هنا قرينة الذم، وقرينة الذم أخرجته
عن العموم، والحنفية يميلون إليه، ويبنون عليه أصولا في باب
الوقف، واستنبط ابن الرفعة من كلام الغزالي في "الفتاوى" أن
المقاصد تعتبر، أعني مقاصد الواقفين فيتخصص بها العموم، ويعم
بها الخصوص.
(2/224)
تنبيه استشكل بعض المتأخرين هذه المسألة
بأنها لا تتصور في كلام الله المنزه عن الغفلة والقائل بعدم
الدخول، قال بعدم خطورها بالبال، وهو لا يتصور في حق الله،
وإنما يتصور بالنسبة إلينا.
وجوابه: أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب، ويتصور أن يأتي
العربي بلفظ عام على قصد التعميم مع ذهوله عن بعض المسميات،
فلما كان هذا معتادا في لغة العرب، كذلك الكتاب والسنة يكونان
على هذا الطريق، وإليه أشار سيبويه في كتابه حيث وقع في القرآن
الرجا "بلعل، وعسى"، ونحو ذلك مما يستحيل في حق الله تعالى، إذ
ذلك نزل مراعاة للغتهم.
(2/225)
قاعدة
ذكر إمام الحرمين في باب التأويل، وإلكيا الطبري تقسيما نافعا،
وزاده وضوحا الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، وهو أن اللفظ
العام بوضع اللغة على ثلاث مراتب.
إحداها: ما ظهر. منه قصد التعميم بقرينة زائدة على اللفظ
مقالية أو حالية بأن أورد مبتدأ لا على سبب، لقصد تأسيس
القواعد، فلا إشكال في العمل بمقتضى عمومه. قال إلكيا:
والقرائن إما أن تنشأ عن غير اللفظ كالنكرة في سياق النفي
والتعليل، فإنه أمارة الحكم على الإطلاق، وإما أن ينشأ من
اتساق الكلام ونظمه على وجه يظهر منه قصد العموم، كقوله: "لا
يقتل مؤمن بكافر1" بعد أن قسم البابين قسمين.
الثانية: ما يعلم أن مقصود الشرع فيه التعرض لحكم آخر، وأنه
بمعزل عن قصد العموم، فهل يتمسك بعمومه، إذ لا تنافي بينه وبين
إرادة اللفظ بغيره؟ أو يقال: لا، لأن الكلام فيه مجمل، فيتبين
من الجهة الأخرى فيه؟ قولان قال إلكيا: والصحيح أنه لا يتعلق
بعمومه، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ}
[التوبة:34]، لأن العرب ما وضعت للوعيد لفظا أحسن منه.
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فكاك
الأسير، برقم "3047" بلفظ "وأن لا يقتل مسلم بكافر". وفي كتاب
الديات، باب: لا يقتل مسلم بكافر، برقم "6915"
(2/225)
ومثله الشيخ تقي الدين بقوله عليه
السلام:"فيما سقت السماء العشر1"، فإن اللفظ عام في القليل
والكثير، لكن ظهر أن المقصود منه بيان قدر المخرج، لا قدر
المخرج منه، ويؤخذ ذلك من قوله:"ليس فيما دون خمس أوسق2"، فهذا
لا عموم له في قصده، والحنفي يحتج به في وجوب الزكاة في الحرث،
سواء القليل والكثير، والسياق لا يقتضيه.
قال الشيخ: والتحقيق عندي أن دلالته على ما لم يقصد به أضعف من
دلالته على ما قصد به، ومراتب الضعف متفاوتة، والدلالة على
تخصيص اللفظ وتعين المقصود مأخوذة من قرائن، وتضعف تلك القرينة
عن دلالة اللفظ على العموم، ومن فوائد هذا أن ما كان غير مقصود
يخرج عنه بذلك قرينة الحال، لا يكون في قرينة الذي يخرج به
العموم عن المقصود، وهذه هي مسألة القاضي عبد الوهاب التي حكى
فيها الخلاف في وقف العموم على المقصود وعدمه.
الثالثة: ما يحتمل الأمرين، ولم يظهر فيه قرينة زائدة تدل على
التعميم ولا على عدمه، كقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]
فيحتج به على إبطال شراء الكافر للعبد المسلم، فإن الملك نفي
السبيل قطعا ويجوز
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: العشر فيما
يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، برقم " 1483" ولفظه"فيما
سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف
العشر" ورواه مسلم بمعناه "2/675"، برقم "981".
قال الحافظ بن حجر في الفتح: قوله "عثريا" بفتح
المهملةوالمثلثة وكسر الراء وتشديد التحتانية، وحكي عن ابن
الأعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب وحكى ابن عديس في المثلث فيه
ضم أوله وإسكان ثانيه قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير
سقي، زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى:وهو المستنقع في بركة
ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له قال:واشتقاقه من
العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر
فيها.
قال ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤونة، أو يشرب بعروقه كأن
يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها فيصل إليه عروق الشجر
فيستغنى عن السقي، وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن
العثري ما سقته السماء، لأن سياق الحديث يحتاج إلى المغايرة،
وكذا قول من فسر العثري بأنه الذي لا حمل له لأنه لا زكاة فيه،
قال ابن قدامة: لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرناها خلافا
قوله:"بالنضح" بفتح النون وسكون المعجمة بعدها مهملة
أي:بالسانسية، وهي رواية مسلم والمراد بها الإبل التي يستقى
عليها،وذكر الإبل كالمثال وإلا فالبقر وغيرها كذلك في الحكم
.2 جزء من حديث: رواه البخاري،كتاب الزكاة، باب: زكاة الورق،
برقم "1447"، وفي الباب: ليس فيم دون خمسة أوسقه صدقة، برقم
"1484" ورواه مسلم "2/273" كتاب الزكاة، باب: باب، برقم "979"
(2/226)
أن لا يراد ذلك باللفظ. قال الطبري: وهو
محتمل والمنع منه ظاهر. وقال إمام الحرمين: الواجب في هذا
القسم أنه إذا أول وعضد بقياس اتباع الأرجح في الظن، فإن
استويا وقف القاضي.
وقال الغزالي: هي للإجمال أقرب من العموم، ومثله بقوله تعالى:
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77] في التمسك به على إيجاب
الوتر، وبالآية السابقة على قتل المسلم بالذمي، وكذلك بقوله:
{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}
[الحشر:20]، فإن إيجاب القصاص تسوية. قال: فلفظ الخير والسبيل
والاستواء إلى الإجمال أقرب. قال: وليس منه "فيما سقت السماء
العشر"، خلافا لقوم منعوا التمسك بعمومه، لأن المقصود ذكر
الفصل بين العشر ونصفه، وهو فاسد لأن صيغته عامة، لأنها من
أدوات الشرط بخلاف السبيل والخير والاستواء، نعم تردد الشافعي
في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]
أنه عام أو مجمل؟ وسنذكره ذيل الكلام في تعميم اسم الجنس
المفرد.
(2/227)
|