البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في تقسيم صيغ العموم
[القسم الأول: صيغ العموم التي تفيد العموم لغة]:
الذي يفيد العموم إما أن يفيده من جهة اللغة أو العرف أو العقل.
والأولى: على ضربين، لأنه إما أن يفيده بنفسه لكونه موضوعا له أو بواسطة اقتران قرينة به. والأول: أعني الذي يدل بنفسه نوعان: لأنه إما أن يكون شاملا لجمع المفهومات كلفظ "كل، وجميع، وأي" في حال الاستفهام والشرط; وإما أن لا يكون شاملا للكل، فإما أن يخصص بأولي العلم كلفظ "من" شرطا أو استفهاما، فإنها تختص بالعقلاء، وقد تستعمل في غيرهم للتغلب أو غيره; وإما أن يختص بغير العالمين، فإما أن يعمهم أو يختص ببعضهم; والأول "ما" الاسمية، فإنها تفيد العموم إذا كانت معرفة، نحو هات ما رأيت، فتفيد العموم فيما عدا العالمين من الزمان والمكان والجماد والإنسان، وقيل: إنها تتناول العالمين أيضا، كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] ونحوه. والثاني: أن يختص عموم بعضهم، فإما أن يختص بالأمكنة. نحو: أين تجلس أجلس، ومنه "حيث"، أو بالأزمنة نحو: متى تقم أقم.
الثاني: ما يفيد العموم لغة لا بالوضع، بل بواسطة قرينة، فهو إما في جانب الثبوت ك "لام" التعريف التي ليست للعهد، ولام التعريف إنما تفيد الجنس إذا دخلت على الجموع أو على اسم الجنس المفرد، والجمع المضاف لهذين، نحو عبيدي أحرار وعبدي حر، وإما في جانب العدم، وهي النكرة في سياق النفي.
القسم الثاني: الذي يفيد العموم عرفا كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فإنه يفيد في العرف تحريم وجوه الاستمتاعات التي تفعل بالزوجة والأمة، وليس ذلك مأخوذا من مجرد اللغة.
القسم الثالث: الذي يفيده بطريق العقل وهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ولعلته. إما بصراحته وإما بوجه من وجوه الإيماءات، فيقتضي ثبوت الحكم أينما ثبت العلة.
وثانيهما: ما يذكر جوابا عن سؤال السائل، كما إذا سئل عمن أفطر، فقيل:

(2/228)


من أفطر فعليه الكفارة، فيعلم منه أن كل مفطر عليه مثلها.
ثالثها: مفهوم المخالفة عند القائلين به، كقوله عليه السلام: "مطل الغني ظلم1"، فإنه يدل بمفهوم على أن مطل غير الغني ليس بظلم.
وهذا التقسيم ذكره الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه، ولا يخلو بعضه عن نزاع وليس شاملا لجميع الصيغ كما سيأتي سردها إن شاء الله تعالى.
واعترض عليه القرافي بأن "من وما" لا يفيدان أيضا العموم إلا باستضافة شيء آخر إليهما، إما الصلة إن كانتا موصولين، أو المستفهم عنهما إن كانت استفهاميتين، أو الشرط والجزاء إن كانا للشرط، ولو نطق واحد "بمن، وما" وحدها، لم يفد كلامه شيئا، وكذلك "كل، وجميع" فلا بد من إضافة لفظ إليهما حتى يحصل العموم.
وهو اعتراض عجيب، لأنه لا يتوقف إفادة العموم عليهما، إنما يتوقف مطلق الإفادة في الجملة، وهذا لا يختص بصيغ العموم بل بجميع التراكيب.
وذكر النقشواني في "ملخصه" أن المفيد للعموم لا يخرج عن ثلاثة أقسام: إما أن يكون بصيغة "كجميع، وكل، ومتى، وما" وإما بزيادة متصلة به كالمعرف ب "لام" الجنس من الجموع وأسماء الأجناس، أو بزيادة منفصلة يعني عن الكلمة أو ب "لا" النافية وغيرها من أدوات النفي.
وقال بعضهم: هو قسمان: لأنه إما أن يفيد العموم بصيغته ومعناه بأن يكون اللفظ مجموعا والمعنى مستوعبا، سواء كان له مفرد من لفظه أو لا كالنساء، وإما عام بمعناه فقط، بأن يكون اللفظ مفردا مستوعبا لكل ما يتناوله، ولا يتصور عام بصيغة فقط، إذ لا بد من تعدد المعنى، وهذا العام معناه: إما أن يتناول مجموع الأفراد "كالقول والرهط"، وإما أن يتناول كل واحد نحو "من، وما".
الصيغة الأولى: "كل" ومدلولها الإحاطة بكل فرد من الجزئيات إن أضيفت إلى النكرة، أو الأجزاء إن أضيفت إلى معرفة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، والكلالة لإحاطتها بالوالد والولد، ومعناها التأكيد لمعنى العموم، ولهذا قال القاضي
ـــــــ
.1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الحوالات، باب: الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟، برقم "2287" ونصه "مطل الغني ظلم فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" ورواه مسلم "3/1197"، كتاب المساقاة، باب: تحريم مطل الغني و صحة الحوالة، برقم "1564"

(2/229)


عبد الوهاب: ليس بعدها في كلام العرب كلمة أعم منها، ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة، تقول: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام.
وهي تشمل العاقل وغيره، والمذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والمجموع، فلذلك كانت أقوى صيغ العموم، وتكون في الجميع بلفظ واحد. تقول: كل الناس، وكل القوم، وكل رجل، وكل امرأة. قال سيبويه: معنى قولهم: كل رجل: كل رجال، فأقاموا رجلا مقام رجال، لأن رجلا شائع في الجنس. والرجال الجنس، ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه "بكلا، وكلتا" ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء، فلا يقال: جاء زيد كله، قال ابن السراج: والضابط أنها إما أن تضاف لفظا، أو تجرد عن الإضافة، وإذا أضيفت فإما إلى معرفة أو إلى نكرة، فهذه أقسام.
الأول: أن تضاف إلى النكرة، فيتعين اعتبار المعنى فيما أضيفت إليه، فيما لها من ضمير وخبر وغيره وإن كان المضاف إليها مفردا فمفردا ومثنى فمثنى، وكذلك الجمع والتذكير والتأنيث، قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] {كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الاسراء:13] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4].
ومعنى العموم في هذا القسم كل فرد لا المجموع، فإذا قيل: كل رجل، فمعناه كل فرد فرد من الرجال، وقد يكون الاستغراق للجزئيات بمعنى أن الحكم ثابت لكل فرد من جزئيات النكرة، قد يكون مع ذلك الحكم على المجموع لازما، كقوله:"كل مشرك مقتول" ، "وكل مسكر خمر" ، وقد لا يلزم، كقولنا: كل رجل يشبعه رغيف.
وما ذكرنا من وجوب مراعاة ما أضيفت إليه مشروط بما إذا كان في جملتها، فإن كان في جملة أخرى جاز عود الضمير على لفظها أو على معناها، كقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:7-9] ، فراعى المعنى في الجميع لكونه في جملة أخرى، وعلى هذا فلا يرد اعتراض الشيخ أبي حيان على القاعدة ببيت عنترة:
جادت عليه كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم

(2/230)


حيث قال: فتركن، وقياس ما قالوا: تركت، وجوابه ما سبق، ولأن الضمير يعود على العيون التي دل عليها كل عين، ولا يعود على كل عين ليفيد أن ترك كل حديقة كالدرهم ناشئ عن مجموع العيون، لا عن كل واحدة.
الثاني: أن يضاف إلى المعرفة ، والأكثر مجيء خبرها مفردا كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95]. وقوله عليه السلام حكاية عن ربه:"يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته1"، وقوله: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته2" ويجوز الجمع حملا على المعنى. وكلام الأصوليين يقتضي أن الحكم في هذه الحالة كما في التي قبلها من دلالتها على كل فرد، وأن دلالتها فيه كلية، واقتضى كلام بعض الأصوليين وابن مالك أن مدلولها في هذه الحالة المجموع فإنه جوز فيها اعتبار اللفظ والمعنى; ولهذا جعل صاحب "البديع" من الحنفية "كل الرجال" كلا مجموعيا.
وقال ابن فورك: القائل: كل حبة من البر غير متقومة، صحيح، لأنه كلي عددي، بخلاف ما إذا قال: كل الحبات منه غير متقوم، فإنه غير صحيح; لأن المراد المجموع، وقد استضعف هذا منه، فإن "كل" إذا أضيف إلى معرفة جمع كانت ظاهرة في كل فرد كما دل عليه الأمثلة السابقة.
وقد نقل ابن السراج عن المبرد في قول القائل: أخذت العشرة كلها، أن إضافة "كل" إلى العشرة كإضافة بعضها إليها، وأن الكل ليس المعنى الجزئي، وإنما الكل اسم لأجزائه جميعا المضافة إليه، واستحسن ابن السراج هذا الكلام من المبرد، وكأن مراد ابن الساعاتي إذا أريد بها المجموع، بدليل قوله أولا: قولنا كل شيء ليس معناه كل الشيء فإن الأول كلي عددي، والثاني كلي مجموعي، فالخلل إنما جاء من تمثيله بعد ذلك بكل حبة من البر غير متقومة، وكل الحبات غير متقوم، وهذا جمع معرف بخلاف كل شيء فإنه مفرد معرف، والفرق بينهما ظاهر.
وقال بعض المتأخرين: الظاهر التفصيل بين أن يكون المعرفة مفردا أو جمعا، فإن كان مفردا كانت لاستغراق أجزائه، ويلزم منه المجموع، ولذلك يصدق قولنا: كل
ـــــــ
.1 جزء من حديث طويل: رواه مسلم في صحيحه "4/1994" كتاب البر والصلة والآداب، باب:تحريم الظلم، برقم "2577"
.2 سيأتي تخريجه

(2/231)


رمان مأكول. ولا يصدق: كل الرمان مأكول لدخول قشره، وإن كان جمعا احتمل أن يراد المجموع، كما في قولنا: كلكم يكفيكم درهم، وأن يراد كل فرد كقوله عليه الصلاة والسلام:"كلكم راع" ، ولذلك فصله بعد، فقال:"السلطان راع، والرجل راع، والمرأة راعية1" والاحتمال الثاني أكثر، فيحمل عليه عند الإمكان، ولا يعدل إلى الأول إلا بقرينة.
وإذا دخلت "كل" على ما فيه الألف واللام وأريد كل فرد، لأن ذلك جمع أو اسم جمع كالقوم والرهط، فهل نقول الألف واللام هنا تفيد العموم على بابها، و "كل" تأكيد لها، أو أنها لبيان الحقيقة، حتى تكون "كل" تأسيسا للعموم؟ فيه نظر.
والثاني أقرب من جهة أن "كل" إنما تكون تأكيدا إذا كانت تابعة، دونها إذا كانت مضافة.
وقد يقال: بأن الألف واللام تفيد العموم في مراتب ما دخلت عليه، و"كل" تفيد العموم في أجزاء "كل" من المراتب. فإذا قلت: كل الرجال، أفادت الألف واللام استغراق كل مرتبة من مراتب جمع الرجل، وأفادت "كل" استغراق الآحاد، فيصير لكل منهما معنى وهو أولى من التأكيد.
ومن هنا يظهر أنها لا تدخل في المفرد، والمعرف بالألف واللام إذا أريد بكل منهما العموم. وقد نص عليه ابن السراج في الأصول. قلت: ولهذا منع دخول الألف واللام على "كل"، واعترض قول النحويين: بدل الكل من الكل، ولك أن تقول: لما لا يجوز الدخول على أن "كل" مؤكدة، كما هو أحد الاحتمالين عنده في المجموع المعرف.
قيل: ومن دخولها على المفرد المعرفة قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ} [آل عمران:93]، وقوله عليه السلام:"كل الطلاق واقع إلا طلاق
ـــــــ
. 1 يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب: قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} برقم "7138" ومسلم كتاب الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، برقم"1829". ولفظ البخاري "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ولفظ مسلم "فالأمير...."إلخ.

(2/232)


المعتوه1" والظاهر أن هذا من قسم المعرف المجموع، لأن المقصود به الجنس، فهو جمع في المعنى، ومثله قوله عليه السلام:"كل الناس يغدو فبائع نفسه2". نعم، إن أريد بالناس واحد صح تمثيله.
الثالث: أن تقطع عن الإضافة لفظا فيجوز فيها الوجهان: الإفراد والجمع، قال الله تعالى: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [صّ:19] {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:285] {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
وهذا كله إذا لم يكن في حيز النفي، فإن كانت في حيزه كان الكلام منفيا، واختلف حكمها بين أن يتقدم النفي عليها وبين أن تتقدم هي على النفي، فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم، أفادت التنصيص على انتفاء كل فرد فرد كما تقدم، وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم يدل إلا على نفي المجموع، وذلك يصدق بانتفاء القيام عن بعضهم، ويسمى الأول عموم السلب، والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد، والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد، بل إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم، قال القرافي: وهذا شيء اختصت به "كل" من بين سائر صيغ العموم.
وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان، وأصلها قوله عليه السلام: "كل ذلك لم يكن"، لما قال له ذو اليدين "أقصرت الصلاة أم نسيت"؟ وقول ذي اليدين له:"قد كان بعض ذلك3"، ووجهه أن السؤال ب "أم" عن أحد الأمرين لطلب التعيين عند ثبوت أحدهما عند المتكلم على وجه الإبهام، وإذا كان السؤال عن أحدهما
ـــــــ
.1 ذكره البخاري تعليقا عن علي رضي الله عنه، كتال الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون بلفظ "وكل
الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه".
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري "وصله البغوي في "الجعديات" عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة أن عليا قال: فذكره" أ . هـ والحديث رواه الترمذي مرفوع عن أبي هريرة رضي الله عنه "3/496" كتاب: الطلاق، باب: ماجاء في طلاق المعتوه، برقم "1191" وقال الشيخ الألباني: ضعيف جدا، والصحيح موقوف
.2 جزء من حديث: رواه مسلم، كتاب الطهارة، باب: فضل الوضوء، برقم "223" بلفظ "كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها"
.3 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب "هل يأخذ الإمام – إذا شك – بقول الناس"، برقم "714" وليس فيه جملة "كل ذلك لم يكن". ورواه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، برقم "573" واللفظ له، وهو عند النسائي أيضا ،برقم "1226"

(2/233)


فالجواب إما بتعيين أحدهما أو بنفي كل منهما، فكان قوله:"كل ذلك لم يكن"، لنفي كل واحد منهما، ولكن بالنسبة إلى ظنه صلى الله عليه وسلم، فلو كان يفيد نفي المجموع، لا نفي كل واحد منهما، لكان قوله:"كل ذلك لم يكن" غير مطابق للسؤال، ولم يكن في قول ذي اليدين قد كان بعض ذلك جواب له، فإن السلب الكلي يناقضه الإيجاب الجزئي. وقد ذكروا في سبب ذلك طرقا منه: أن النفي مع تأخر "كل" متوجه إلى الشمول دون أصل الفعل، بخلاف ما إذا تقدمت فإن النفي حينئذ يتوجه إلى أصل الفعل. قال الجرجاني: من حكم النفي إذا دخل على كلام، وكان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه، أن يتوجه النفي إلى ذلك التقييد دون أصل الفعل، فإذا قيل:لم يأت القوم مجتمعين، كان النفي متوجها إلى الاجتماع الذي هو قيد في الإتيان دون أصل الإتيان، ولو قال قائل: لم يأت القوم مجتمعين، وكان لم يأته أحد منهم، لقيل له: لم يأتوك أصلا، فما معنى قولك: مجتمعين، فهذا مما لا يشك فيه عاقل، والتأكيد ضرب من التقييد.
وهاهنا تنبيهات
الأول: أورد على قولهم: إن تقدم النفي على "كل" لسلب العموم، ولا يفيد الاستغراق قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] فينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم ينتقض النفي، فإن انتقض فالاستغراق باق كالآية، ويكون لعموم السلب.
ومنه: ما كل رجل إلا قائم، وسببه أن النفي للمجهول، وما بعد "إلا" لا تسلط للنفي عليه، لأنه مثبت، وهو في المفرغ مستند لما قبلها، وهو كل فرد كما كان قبل دخول النفي والاستثناء.
الثاني: أن حكم النهي فيما سبق حكم النفي، فإذا قلت: لا تضرب كل رجل أو كل الرجال، كان النهي عن المجموع لا عن كل واحد. ولو قلت: كل الرجال لا تضرب، كان عموما في السلب بالنسبة إلى كل فرد، ولذلك قال الفقهاء: لو قال: والله لا كلمت كل رجل، إنما يحنث بكلامهم كلهم، فلو كلم واحدا لم يحنث، وهذا وإن لم يكن نهيا فهو في حكمه.
وقد رد بعضهم هذه القاعدة بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام:151] ونظائره، فإنه لم يزل العلماء يستدلون به

(2/234)


على ثبوت الحكم لكل فرد، وكذلك قال الفقهاء فيما لو قال: والله لا أطأ كل واحدة منكن، يكون موليا من كل واحدة، ويتعلق بوطء كل واحدة الحنث، ولزوم الكفارة.
وهذا يدل على أنه لا فرق بين تقدم النفي وتأخره.
وهذا الاعتراض مبني على أن الحكم السابق لا يختص ب "كل"، بل يتعدى إلى سائر صيغ العموم، كقولك: لا تضرب الرجال، وبه صرح بعضهم. قال: إلا أن يكون هناك قرينة تقتضي ثبوت النهي لكل فرد، وجعل هذا واردا على قول الأصوليين: إن دلالة العموم كلية، ولم يفصلوا في النفي والنهي بين تقديمها وتأخيرها، وجعل مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الأنعام:151] إنما ثبت العموم فيه لكل فرد بقرينة، أو بجعل الألف واللام والإضافة في مثل ذلك لمجرد الجنس لا العموم للقرينة ونحوه.
ذكره صاحب "التبيان في علم البيان" في صيغة التثنية والجمع مع "كل" فقال: إذا قلت: لا تضرب الرجلين كليهما كان النهي ليس بشامل، ومن ثم قالوا: ولكن اضرب أحدهما، وكذلك لا تأخذهما جميعا، ولكن خذ واحدا منهما.
لكن تقدم عن القرافي التصريح بأن هذا الفرق بين تقدم النفي وعدمه من خصائص "كل" والظاهر أنه لا يختص، بل ما دل على متعدد أو مفرد ذي أجزاء كذلك، فإذا قلت: ما رأيت رجالا، أو ما رأيت رجلين، أو ما أكلت رغيفا أو ما رأيت رجلا وعمرا، كل ذلك سلب المجموع، لا لكل واحد بخلاف ما لو تقدم السلب
الثالث: قولهم: إن السالبة الكلية تقتضي نفي الحكم عن كل فرد وقد منعه بعضهم مدعيا أنها اقتضت نفي الحقيقة من حيث هي هي، والمستلزم ذلك نفي الحكم عن كل واحد، وعن الجملة، وقد صرح بذلك جماعة من الأصوليين، وحينئذ فلا يكون "كل" تأكيدا، بل دل على معنى آخر، وهو نفي الحقيقة المستلزم لنفي الإفراد، وهو مردود، لأن "كلا، وكلما، ولا شيئا، ولا واحدا"، وسائر كلمات السور، إنما يستعمل باعتبار الأفراد لا باعتبار الحقيقة، لأن اعتبار الحقيقة إنما يتأتى في الطبيعية لا في المسورة.
الرابع: هذا حكمها في النفي، وسكتوا عن حكمها في الشرط، والظاهر أن تقدمها عليه كتقدمها على النهي، فيكون الشرط عاما لكل فرد، فإذا قلت: كل رجل إن قام فاضربه، وكل عبد لي إن حج فهو حر، فمن حج منهم عتق، فلو قدمت الشرط،

(2/235)


فقلت: إن حج كل عبد من عبيدي فهم أحرار، لا يعتق أحد منهم حتى يحج جميعهم، ومن هذا قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25].
الخامس: جميع ما تقدم في "كل" من إفادتها استيعاب جزئيات ما دخلت عليه إن كان نكرة أو جمعا معرفا، وأجزائه إن كان مفردا معرفة، لا فرق فيه بينه وبين أن تكون مستقلة أو تابعة مؤكدة، مثل أخذت العشرة كلها، وجاء القوم كلهم ونحوه مما يدخل فيه التأكيد، لكن العموم فيها مستفاد من الصيغة المؤكدة، و "كل" جاءت للتنصيص على الأفراد، وعدم احتمال التخصيص، وهل يفترق الحال إذا وقعت مؤكدة بين تقديمها على نفي أو تقديم النفي عليها، نحو لم أر القوم كلهم، والقوم كلهم لم أرهم، فيكون الأول لسلب العموم، والثاني لعموم السلب كما إذ تقدم في المضافة؟
قال القرافي: لم أر فيه نقلا، ويحتمل طرد الحكم في البابين، ويحتمل أن التفرقة من حقائق المستقلة دون التابعة، ورجح هذا لأن وضع التأكيد تقرير السابق، فلو تقدم النفي عليه لا يعم، فيبطل حكم العموم. قلت: لكن صرح ابن الزملكاني في "البرهان" بالاحتمال الأول، وهو التسوية.

(2/236)


اللفظ الثاني: "جميع":
وما يتصرف منها كأجمع وأجمعون، وهي مثل "كل" إذا أضيفت، ولا تضاف إلا إلى معرفة، وتكون لإحاطة الأجزاء; لكن يفترقان من جهة أن دلالة "كل" على كل فرد بطريق النصوصية، بخلاف "جميع".
وفرق الحنفية بينهما بأن "كلا" تعم الأشياء على سبيل الانفراد، و "جميعا" تعمها على سبيل الاجتماع، وذكر ابن الفارض المعتزلي في كتابه "النكت" أن الزجاج حكاه عن المبرد. قلت: وإنما نقل عنه بالنسبة إلى أجمعين في نحو قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] وكذا حكاه ابن الخشاب، وابن إياز، ونقل ابن بابشاذ عنه خلافه.
والصحيح أن "أجمعين" لا يقتضي الاتحاد في الزمان، بدليل قوله تعالى: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [صّ:82] ولذلك اختلفوا في أنه إذا جمع في التأكيد بين "كل" و "أجمع" في أن التأكيد حاصل بهما معا، أو بكل واحد منهما على حدته، وحينئذ فما الذي أفاده الثاني ورفع توهم المجاز حصل بالأول؟ وإن حصل بهما جميعا، فكيف ذلك من الواحد إذا اقتصر عليه؟ والظاهر أن المقصود زيادة التأكيد وتقويته كما في

(2/236)


التوابع الآتية بعد "أجمع" إنما تفيد تمكينه في النفس.
ومنع ابن مالك والسهيلي جواز تثنية "أجمع"، زاد السهيلي: وجمعه، لأنه في معنى "كل" وهي لا تثنى، ولا تجمع، لكن صرح ابن سيده والجوهري بأن "أجمعين" جمع "أجمع"، ومنع ذلك الزوزني في شرح "المفصل" وقال: أجمعون ليس جمعا لأجمع، وإلا لتنكر بالجمع، كما يتنكر الزيدون; بل هو مرتجل، كذلك علم معناه.
واستشكل بعضهم إفادة العموم من "جميع" لأنها لا تضاف إلا إلى معرفة، تقول: جميع القوم قومك، ولا تقول: جميع قوم، ومع التعريف بالألف واللام أو الإضافة يكون العموم مستفادا منها لا من لفظة جميع، وقد يقال: إن العموم مستفاد من "جميع" والألف اللام لبيان الحقيقة، أو هو مستفاد من الألف واللام و "جميع" للتأكيد.
فائدة
يقال جاء القوم بأجمعهم بضم الميم، لأن أجمع جمع جمع كعبد وأعبد، ولا يقال بفتح الميم; لئلا يوهم أنه "أجمع" الذي يؤكد لإضافته إلى الضمير وإدخال حرف الجر عليه، و"أجمع" الموضوع للتأكيد لا يضاف، ولا يدخل حرف الجر عليه. قاله الحريري في "الدرة" لكن حكى ابن السكيت الضم والفتح، والأول أقيس.

(2/237)


اللفظ الثالث: سائر:
إن كانت من سور المدينة وهو المحيط بها كما جزم به الجوهري, وقد عدها القاضيان: أبو بكر في "مختصر التقريب" وعبد الوهاب في "الإفادة" كما نقله الأصفهاني في "شرح المحصول". قلت: والذي رأيته فيها حكاية ذلك, ثم تغليطه بأنها من "أسأر" أي أبقى, فإن كانت مأخوذة من "السؤر" بالهمزة وهو البقية, فلا تعم, وذلك هو المشهور.
وحكى الأزهري فيه الاتفاق, وغلطوا الجوهري, وليس كذلك, فقد ذكره السيرافي في "شرح سيبويه" وأبو منصور الجواليقي في "شرح أدب الكاتب ", وابن بري وغيرهم، وأوردوا فيه شواهد كثيرة, فيكون فيها اللغتان.
وقد منع ابن ولاد والفارسي من النحاة كونه من السؤر, لأن البقية تقال لما فضل من الشيء سواء قل أو كثر, والسؤر لا يقال [إلا] للتقليل الفاضل, وسائر لا يقال إلا للأكثر, تقول: أخذت من الكتاب ورقة, وتركت سائره, ولا تقول:

(2/237)


بقيته.
قال: ولا يوجد شاهد يدل على أن سائر بمعنى الباقي, قل أو كثر; بل إنما يستعمل في الأكثر. والظاهر أنها للعموم وإن كانت بمعنى الباقي خلافا للقاضي عبد الوهاب والقرافي, لأن بها شمول ما دلت عليه, سواء كان بمعنى الجميع والباقي, تقول: اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين, تريد تعميمهم.

(2/238)


الرابع والخامس والسادس والسابع: "معشر، ومعاشر وعامة، وكافة وقاطبة"
قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الرحمن:33] {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] وفي الحديث:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث1"، وقالت عائشة:"لما مات عليه السلام ارتدت العرب قاطبة2". قال ابن الأثير: "أي جميعهم"، ولكن "معشر" لا يستعمل إلا مضافا، و"قاطبة" لا يضاف، و "عامة" و "كافة" يستعملان مضافين وخاليين.
ـــــــ
.1 الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، برقم"9973" بلفظ: "إنا معشر الأنبياء لا نورث" وقد أخرجه البخاري:، "3093" ومسلم "3/1379" ، برقم "1758" بلفظ: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" بدون زيادة "نحن معاشر الأنبياء"
.2 جزء من حديث: رواه النسائي في سننه"6/6" كتاب الجهاد، باب: وجوب الجهاد، برقم "3094" بلفظ: "عن أنس بن مالك قال لما توفي رسول الله ارتدت العرب ... الحديث" والحديث حسن صحيح

(2/238)


الثامن والتاسع:"من،وما"
الشرطيتين أو الاستفهاميتين.كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقوله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2] {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] وهما من صيغ العموم، بل هما عند الإمام في أعلى صيغة.
قال صاحب المحكم:"من" اسم يغني عن الكلام الكثير المتناهي في التضاد والطول، فإذا قلت: من يقم أقم معه، كان كافيا عن ذكر جميع الناس، ولولا "من" لاحتجت إلى ذكر الأفراد، ثم لا تجد إلى ذلك سبيلا.
أما الشرطيتان فبالاتفاق، وأما الاستفهاميتان فكذلك عند الجمهور، منهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي في "التقريب" وابن السمعاني وابن الصباغ

(2/238)


العاشر: "أي"
بشرط أن تكون شرطية أو استفهامية، كقوله تعالى: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الاسراء:110] وقوله: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ولهذا أجابه الكل عن نفسه بأنه يأتيه، وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي، والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين في باب التأويلات من "البرهان" في قوله: "أيما امرأة أنكحت نفسها1" ، وابن الصباغ وسليم الرازي والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والإمام الرازي والآمدي والهندي وغيرهم، قالوا: ويصلح للعاقل وغيره.
قال القاضي عبد الوهاب في "التلخيص" إلا أنها تتناول على وجه الإفراد دون الاستغراق، ولهذا إذا قلت: أي الرجلين عندك؟ لم يجب إلا بذكر واحد.
وقال ابن السمعاني في "القواطع" وأما كلمة "أي" فقيل: كالنكرة، لأنها تصحبها لفظا ومعنى، تقول: أي رجل فعل هذا، وأي دار؟ قال تعالى: {أَيُّكُمْ
ـــــــ
.1 جزء من حديث: رواه أبو داود "2/229" كتاب النكاح باب: "في الولي"، برقم "2083" ولفظه "عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ثلاث مرات ... الحديث"، ورواه الترمذي كتاب النكاح، باب ماجاء لا نكاح إلا بولي، ولفظه: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" برقم "1102". وابن ماجاه كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلا إلا بولي، بلفظ "أيما امرأة لم ينكحها الولي" برقم "1879". وذكره ابن حجر في تلخيص الحبير"3/156"، باللفظ المذكور.

(2/242)


يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] وهي في المعنى نكرة، لأن المراد بها واحد منهم. انتهى.
وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي لا الشمولي; لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم الشمولي، فإنه قال فيما إذا قال لأربع نسوة: أيتكن حاضت فصواحباتها طوالق، فقلن حضن، وصدقهن، أنه تطلق كل واحدة منهن ثلاثا وذكر غيره من العراقيين.
وخرج لنا من هذا أنا إذا قلنا: إنها للعموم، فهل هو عموم شمول أم بدل؟ وجهان، وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء
ومنهم من لم يعدها في الصيغ كالغزالي وابن القشيري، لأجل قول النحاة: إنها بمعنى "بعض" إن أضيفت إلى معرفة، وقول الفقهاء: أي وقت دخلت الدار فأنت طالق، لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول كما في "كلما". والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم، وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينها وبين بقية الصيغ في الاستفهام، وقد سبق أن "من، وما" الاستفهاميتين للعموم فلتكن "أي" كذلك. وقال صاحب "اللباب" من الحنفية وأبو زيد في "التقويم" كلمة "أي" نكرة، لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] ولم يقل يأتوني، ولو قال لغيره: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضربهم لا يعتق إلا واحد، فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم، كقوله: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه جميعا عتقوا، لعموم فعل الضرب.
وصرح إلكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم، فقال: وأما "أي" فهو اسم فرد يتناول جزءا من الجملة المضافة، قال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38] وإنما جاء به واحد، وقال: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7]. والعرب تقول: أي الرجل أتاك؟ ولا تقول: أي الرجال أتاك؟ إذ لا عموم في الصيغة. انتهى.
وكذلك قال الغزالي في "فتاويه": لو قال: أي عبيدي حج فهو حر، فحجوا كلهم لا يعتق إلا واحد، وكذلك قال: أي رجل دخل المسجد فله درهم، فإنه يقصر على الواحد، وهذا بناه على أنها ليست للعموم.
وقال محمد بن الحسن: إذا قال أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه كلهم عتقوا جميعا، وإن قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضرب جماعة لا يعتق إلا واحد. وصرح به القاضي الحسين في "فتاويه"، وفي فتاوى الشاشي أنه لا فرق عندنا بين

(2/243)


الصورتين، وأنهم يعتقون جميعا عملا بعموم "أي" وبذلك صرح الأستاذ أبو منصور فقال: "أي" أعم المبهمات، وزعم أصحاب الرأي أنه على الواحد غالبا، ولذلك قال أبو حنيفة: وأي عبيدي ضربت فهو حر، أن ذلك يحمل على الواحد وأي عبيدي ضربك فهو حر أنه يحمل على الجميع، لأنه أضاف الفعل الذي علق به الحرية إلى الجماعة. قال الأستاذ: وقلنا بعموم هذا اللفظ في الموضعين. انتهى.
ووجه ابن يعيش وغيره من النحاة مسألتي محمد بن الحسن بأن الفعل في المسألة الأولى عام وفي الثانية خاص، فإنه في الأولى مسند إلى ضمير عبيدي، وهي كلمة عموم، وفي الثانية مسند إلى ضمير المخاطب وهو خاص، ثم قرروا أن الفعل يعم بعموم فاعله لا بعموم مفعوله من جهة أن الفاعل كالجزء من الفعل، وهو لا يستغنى عنه، ولا كذلك الفعل والمفعول، لأن المفعول قد يستغني عنه الفعل، فيلزم أن يسري عموم الفاعل ولا يلزم أن يسري عموم المفعول إلى الفعل.
وهذا هو الذي وجه به القاضي الحسين الفرق بينهما، فإنه قال: فرع إذا قال: طلق من نسائي من شئت، لا يطلق الكل في أصح الوجهين، وإذا قال: طلق من نسائي من شاءت، فله أن يطلق كل من اختارت الطلاق، والفرق أن التخصيص والمشيئة مضاف بمعنى في الأولى إلى واحد، فإذا اختار واحدة سقط اختياره، وفي الثانية الاختيار مضاف إلى جماعة، فكل من اختارت طلقت.
نظيره ما إذا قال: أي عبد من عبيدي ضربته فهو حر، فضرب عبدا ثم عبدا، لا يعتق الثاني، لأن حرف "أي" وإن كان حرف تعميم فالمضاف إليه الضرب واحد، وإذا قال: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربه عبد ثم عبد عتقوا; لأن الضرب مضاف إلى جماعة. انتهى.
وقد اعترض الإمام جمال الدين بن عمرون النحوي الحلبي وقال: لا فرق بين الصورتين والفعل عام فيهما، وضمير الفاعل والمفعول في ذلك على حد سواء، واستدل بقول العباس بن مرداس يخاطب النبي عليه السلام:
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
فإن "من" الشرطية عامة باتفاق، والمراد عموم الفعل مطلقا، مع أن الاسم العام هنا إنما هو ضمير المفعول المحذوف، إذ التقدير: ومن تخفضه اليوم وهو عائد على "من" وهو الاسم العام، وأما ضمير الفاعل فخاص، وهو ضمير النبي عليه السلام، وهذا وزان قوله: أي عبيدي ضربته، التي ادعى فيها عدم عموم الفعل.

(2/244)


واختار ابن الحاجب أيضا التعميم فيهما، وقال: نسبة فعل الشرط إلى الفاعل وإلى المفعول في اقتضاء التعميم في المشروط عند حصول الشرط وعدمه سواء، وأن التعميم فيما وقع النزاع فيه ليس من قبيل إثبات المشروط بتكرير الشرط، وأنه لا فرق بين: أي عبيدي ضربته فهو حر، وأي عبيدي ضربك فهو حر، في أنه يعتق المضروبون للمخاطب كلهم، كما يعتق الضاربون للمخاطب كلهم واستشهد على ذلك "بمن"، فإنه قد تساوى فيها الأمران، قال الله تعالى :{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [لأعراف:178] فإنه مساو في الدلالة على التعميم لنحو قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] والأول: منسوب في شرطه إلى عموم المفعول وهو المصدر منازعا فيه.
الثاني: منسوب إلى عموم الفاعل وهو المتفق عليه، إذا ثبت في "من" فكذلك في "أي" بل هي من أقوى من "من" في الدلالة على التفصيل.
تنبيه
عدى الحنفية هذا إلى: أي عبيدي ضرب مبنيا للمفعول، هكذا قاله ابن جني; لأن الفاعل وإن لم يذكر فهو في حكم المذكور، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما إهاب دبغ فقد طهر1"، وقد قالوا هم فيه بالعموم أكثر منا، لأنهم أدرجوا فيه جلد الكلب.
تنبيه
إذا اتصلت "أي" "بما" كانت تأكيدا لأداة الشرط، وزعم إمام الحرمين في "البرهان" في باب التأويل أن "ما" المتصلة بها للعموم في نحو:"أيما امرأة أنكحت نفسها"، فاعتقد أنها "ما" الشرطية، وهو وهم، وقد قارب الغزالي في "المستصفى" هناك فجعلها مؤكدة للعموم، هو أقرب مما قاله الإمام إلى الصواب، لكن الصواب أنها توكيد لأداة الشرط، وهو عند النحويين من التوكيد اللفظي كأنه كرر اللفظ.
ـــــــ
.1 رواه مسلم "1/277" كتاب الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ، برقم "366" عن عبد الله بن ‘باس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر". ورواه الترمذي كتاب اللباس، باب، ماجاء في جلود الميتة إذا دبغت، برقم "1728" واللفظ له

(2/245)


الحادي عشر إلى آخر الخامس عشر:"متى، وأين، وحيث، وكيف، وإذا الشرطية".
أما "متى" فهي عامة في الأزمان المبهمة كلها كما قيده ابن الحاجب وغيره، ولم

(2/245)


يقيده بعضهم بالمبهمة والأول أقوى لأنها لا تستعمل إلا فيما لا يتحقق وقوعه، فلا يقولون: متى طلعت الشمس فائتني، بل إذا طلعت الشمس، فهي عكس إذا.
وقيل: "متى" تقتضي عموم الأزمنة، ولا تقتضي تكرار الفعل، بدليل استعمالها فيما لا تكرار فيه، كما إذا قيل: متى قتلت زيدا؟ والسابق إلى الفهم منها تكرار الفعل، ولا تقتضي تكرارا على التحقيق.
فإذا قال: متى دخلت الدار فأنت طالق، فالطلاق لا يتكرر بتكرر الدخول، وإنما يقع بالدخول الأول، وهذا بخلاف "كلما" فإنها تقتضي التكرار لاقتضائها عموم الأفعال فإذا قال: كلما دخلت، فمعناه كل دخول يقع منك، لأن "كلا" إنما يضاف للأسماء. وينضم إليها "ما ". لتصلح للدخول على الأفعال، فهي ك "رب ".
وأما "أين، وحيث" فيعمان الأمكنة، وقد ذكرهما ابن السمعاني وغيره. وأما "كيف، وإذا" فقد ذكرهما القرافي من الصيغ إذا كانت "كيف" استفهامية، أو اتصلت بها "ما" إذا جوزي بها، وهما داخلان في إطلاقهم عموم أسماء الشرط والاستفهام وذكر إمام الحرمين في "البرهان" حيثما، ومتى ما" من صيغ العموم وقال الأستاذ أبو منصور: "متى" أعم من "إذا ".

(2/246)


السادس عشر وما بعده إلى آخر العشرين: "مهما، وأنى، وأيان، وإذ ما" على أحد القولين و "أي حين، وكم"
أما "مهما" فهي اسم بدليل عود الضمير إليها، ولا يعاد إلا إلى الأسماء، وهي من أدوات الجزم باتفاق وتجيء، للاستفهام قليلا
وأما "أنى" فأصلها الاستفهام إما بمعنى من أين، كقوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران:37] وإما بمعنى كيف، كقوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]. وأما "أيان" فهي في الأزمان بمنزلة "متى" لكن "متى" أشهر منها، ولذلك تفسر "أيان" بمتى.
وأما "إذ ما" فهي من أدوات الشرط عند سيبويه، وكلها تدخل في إطلاقهم أن أسماء الشروط من صيغ العموم، ولما فيها من الإبهام وعدم الاختصاص بوقت دون غيره.
وأما "أي حين" على طريقة من يصلها من أي المقدمة.
وأما "كم" الاستفهامية لا الخبرية، فإنما عدت من صيغ العموم; لأن الاستفهام بها سائغ في جميع مراتب الأعداد، لا يختص بعدد معين، كما أن "متى"

(2/246)


سائغة في جميع الأزمان، و "أين" في جميع الأماكن، و "من" في جميع الأجناس فإذا قيل: كم مالك؟ حسن الجواب بأي عدد شئت.
الحادي والعشرون: الأسماء الموصولة سوى ما تقدم من "ما، ومن، وأي"،
وهي "الذي، والتي" وجموعهما من "الذين، واللاتي، وذو الطائية" وجمعها، وقد بلغ بذلك القرافي نيفا وثلاثين صيغة، وقد صرح بأن "الذي" من صيغ العموم القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" وقال ابن السمعاني: جميع الأسماء المبهمة تقتضي العموم، وقال إلكيا الطبري: "من، وما وأي، ومتى" ونحوها من الأسماء المبهمة لا تستوعب بظاهرها، وإنما تستوعب بمعناها عند قوم من حيث إن الإبهام يقتضي ذلك وقال أصحاب الأشعري إنه يجري في بابه مجرى اسم منكور، كقولنا: رجل، ويمكن أن يكون زيدا أو عمرا، فلا يصار إلى أحدهما إلا بدليل. والإبهام لا يقتضي الاستغراق، بل يحتاج إلى قرينة. انتهى. واعلم أن القائل: بأن "من، وما" إذا كانتا موصولتين لا تعمان، يقول بأن "الذي والتي" وفروعهما ليست للعموم.
أما الحروف الموصلة فليست للعموم اتفاقا.
وإنما يكون "الذي" إذا كانت جنسية، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4 ]{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الانبياء:101] {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء:10] ولا شك أن العموم في ذلك كله مستفاد من الصيغة. أما العهدية فلا، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ} [غافر:30] {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} أو نحوه.
وعد الحنفية من الصيغ الألف واللام الموصولة الداخلة على اسم الفاعل والمفعول، فلو قال لعبيده: الضارب منكم زيدا حر، ولنسائه: الداخلة منكن الدار طالق، عتق الجميع وطلق الكل; لأن الألف واللام بمعنى الذي، وهو ظاهر على القول الصحيح إنها اسم، ويحتمل أن يجعل لما في الصفة من الجنسية وتكون مشعرة بذلك
ومنع بعض مشايخنا عموم الألف واللام الموصولة، قال: لأنها حينئذ داخلة في الموصلات، فله حكم العموم لجميع أحواله، وخرج من هذا أن استدلال الأصوليين

(2/247)


في إثبات العموم من المشتقات المعرفة بالألف واللام، مثل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، ليس من محل النزاع، وهذا الذي ذكره فيه نظر، لما قدمنا.
تنبيه
جعل الموصولات من صيغ العموم مشكل; لأن النحاة صرحوا بأن شرط الصلة أن يكون معهودة معلومة للمخاطب، ولهذا كانت معرفة للموصول، والمعهود لا عموم فيه، كما صرح به ابن الحاجب وغيره.

(2/248)


الثاني والعشرون: "الألف واللام":
فإن كانت اسما فلا عموم فيها على ما سبق، وإنما الكلام في الحرفية، والذي تدخل عليه أقسام:
أحدها: الجمع سواء كان سالما أو مكسرا للقلة أو الكثرة، وسواء كان له واحد من لفظه أم لا، كالزيدين، والعالمين والأرجل والرجال والأبابيل ومدلول كل منهما الآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد. قاله بدر الدين بن مالك في أول "شرح الخلاصة"، ودلالة الجمع على كل واحد من أفراده مطابقة، ولهذا منعوا أن يقال: جاء رجل ورجل ورجل في القياس إذ لا فائدة في التكرار، لإغناء لفظ الجمع عنه فلو كانت دلالته على رجل بالتضمن، لكان قولنا: رجل ورجل ورجل مشتملا على فائدة جديدة
الثاني: اسم الجمع سواء كان له واحد من لفظه أم لا، كركب وصحب وقوم ورهط. وما قيل: إن قوما جمع قائم، كصوم وصائم وهم، قال ابن عصفور: هذا النوع لا يدرك بالقياس; بل هو محفوظ وقال ابن مالك: هو موضع لمجموع الآحاد، أي لا لكل واحد على الانفراد، وكذا قال بعض الحنفية. قال: وحيث تثبت الآحاد فلدخولها في المجموع، حتى لو قال: الرهط أو القوم الذي يدخل الحصن فله كذا، فدخله جماعة كان النفل لمجموعهم، ولو دخله واحد لم يستحق شيئا. فإن قلت: إذا لم يتناول كل واحد، فكيف يصح استثناء الواحد منه في مثل جاءني القوم إلا زيدا، والاستثناء يخرج ما يجب اندراجه لولاه؟ قلت: من حيث إن مجيء المجموع لا يتصور بدون كل واحد، حتى لو كان الحكم متعلقا بالمجموع من حيث هو مجموع من غير أن يثبت لكل فرد لم يصح الاستثناء

(2/248)


مثل: يطيق رفع هذا الحجر القوم إلا زيدا، وهذا كما يصح: عندي عشرة إلا واحدا، ولا يصح العشرة زوج إلا واحدا، إذ ليس الحكم على الآحاد، بل على المجموع.
الثالث: اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بالتاء، وليس مصدرا ولا مشتقا منه، كتمر وشجرة، وهذا هو المشهور أعني كونه اسم جنس، والغزالي يسميه جمعا، وابن مالك يسميه اسم جمع، فإنه عده في أسماء الجموع لكن سماه في شرح الكافية اسم جنس، واختلف في مدلوله على أقوال:
أصحها: أنه يصلح للواحد والتثنية والجمع لأنه اسم جنس، والجنس موجود مع كل من الثلاثة، وحكى الكسائي عن العرب إطلاقه على الواحد، وقال به الكوفيون، سواء كان الواحد مذكرا أو مؤنثا.
قال الراغب في مفرداته: "النحل يطلق على الواحد والجمع".
والثاني: أنه لا يطلق على أقل من ثلاثة، قاله ابن جني، وتبعه ابن مالك.
والثالث: أنه لا يطلق إلا على جمع الكثرة: ونقل ذلك عن الشلوبين وابن عصفور، وهو مقتضى كلام ابن مالك في باب أمثلة الجمع. ولأجل ذلك أورده شراح سيبويه على قوله: باب علم ما الكلم من العربية، وقالوا: إنما هي اسم وفعل وحرف، ثم أجابوا بأن تحت كل نوع منها أنواعا.
والرابع: المثنى، نحو الزيدان والرجلان وما ألحق به، ودلالته على كل منهما كدلالة الجمع على أفراده. الخامس: الدال على الحقيقة وأفراده متميزة، وليس له مؤنث بالتاء، كرجل وفرس. والقصد به الجنس مع الوحدة ما لم تقترن بما يزيلها من تثنية أو جمع أو عموم، وبه جزم الغزالي في "المستصفى"، والسكاكي والقرافي، ويشهد له تثنيته وجمعه، وصحة قولك: ما عندي رجل بل رجلان.
السادس: الاسم الدال على الحقيقة، وأفراده متميزة وهو مؤنث، لإطباقهم على أن اسم الجنس ما يفرق بينه وبين واحده بالتاء.
السابع: الاسم الدال على الحقيقة من حيث هي هي ولا يتميز بعضها عن بعض، وليس لها مؤنث، فلا إشكال أنه لا دلالة فيه على وحدة ولا تعدد، كالماء والعسل في الأعيان، والضرب والنوم في المصادر. الثامن: ما كان كذلك إلا أن فيه التاء لا من أصل الوضع، كضربة،

(2/249)


فمدلوله الواحدة.
التاسع: ما كان عددا كالثلاثة، فهو نص في مدلوله، وهو موضوع لمجموعها، ودلالته على أحدها بالتضمن.

(2/250)


[الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام]
إذا علمت هذا، فإن دخلت الألف واللام على الجمع أفادت الاستغراق. فإن تقدم عهد ودلت قرينة على قصده حمل عليه بلا خلاف، وكان ذلك قرينة التخصيص، ومنه ما إذا سبقه تنكير، وظهر ترتب التعريف عليه، لكن القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" قال: اختلف في الألف واللام على ثلاثة مذاهب .
أحدها: أنه يحمل على معهود إن كان، فإن لم يكن حمل على الجنس، وهو قول أكثر الفقهاء.
والثاني: عكسه: أنها تحمل على الجنس إلا أن يقوم دليل على العهد.
الثالث: أنه يحمل عند فقد العهد على الجنس من غير تعميم. وفيه خلاف آخر، وهو أنه لا بد من، عهد، وإلا لم يصح دخولها. انتهى.
وإن لم يسبقه عهد، فهي للعموم عند معظم العلماء، قاله ابن برهان، وقاله ابن الصباغ: إنه إجماع أصحابنا، وحكي عن الجبائي أنها لا تقتضي الاستغراق، قال ابن السمعاني: سواء جمع السلامة والتكسير،، كاقتلوا المشركين، واعمروا مساجد الله، وقال سليم الرازي في "التقريب": سواء المشتق وغيره، كالمسلمين والرجال. وقال غيره: سواء كان للقلة كالمسلمين والمسلمات، أو للكثرة كالعباد والرجال، وحكاه أبو الحسين البصري في "المعتمد" عن أبي علي الجبائي وجماعة الفقهاء، وحكي عن أبي هاشم أنه يفيد الجنس لا الاستغراق، وحكاه صاحب "الميزان" عن أبي علي الفارسي وأبي هاشم. قال: وحكي عنه أنه فرق بين المفرد والجمع، فقال: وفي المفرد يصرف إلى مطلق الجنس من غير استغراق إلا بدليل.
وحكاه المازري عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني من أصحابنا، وهو غريب، قال: وقالوا في قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] إنه يستوعب من حيث دخول الألف واللام.
ثم أنكر إلكيا هذا وقال: الألف واللام معناها في لسان العرب تعريف العهد لا

(2/250)


غير، هكذا قال سيبويه، وأن الألف الأصل لما كانت ساكنة، ولم يتوصل إلى النطق بها، وأن حرف التعريف هو اللام، فثبت أنه لا يصير عاما ومستوعبا بدخول الألف واللام، وقد كان ولم يكن مستوعبا قبل دخولها، ولو كان اللام مفيدا للاستيعاب لما صح دخوله عن الأسماء المفردة، لأن معناه لا يتغير بكون الاسم مفردا أو مجموعا، كما لا يتغير معنى سائر الحروف.
قال:ولذلك زعم المحققون أن عموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] في معناه، وهو ترتب الحكم على الوصف بفاء التعليل، وهو أقرب من ادعاء العموم من لفظه. ولعل إلكيا بنى هذا على قول أرباب الخصوص، فإنه قال بعد ذلك: الصحيح أن هذه الألفاظ للعموم.
ونبه أبو الحسين على فائدة ترفع الخلاف، وهي أن أبا هاشم وإن لم يجعله مستغرقا من جهة اللفظ، فهو عنده عام من جهة المعنى إن صلح له، كقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14]، فإنه يفيد أنهم في الجحيم لأجل فجورهم، فوجب أن يكون كل فاجر كذلك، لأنه خرج مخرج الزجر انتهى. هذا كله إذا قام الدليل على أنه لم يرد العهد، فإن أشكل الحال واحتمل كونها للعهد أو الاستغراق أو الجنس، فلم يصرحوا فيها بنقل صريح.
ويخرج من كلامهم فيها ثلاثة مذاهب، وظاهر كلام بعضهم أنها تحمل على العهد، وبه صرح ابن مالك من النحويين، وظاهر كلام أكثر الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق، لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه، ونقله ابن القشيري عن المعظم، وصاحب "الميزان" عن أبي بكر بن السراج النحوي، فقال: إذا تعارضت جهتا العهد والجنس يصرف إلى الجنس، وهو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع. قالا: لأن الجنس يدخل تحته العهد، والعهد لا يدخل تحته الجنس.
والثالث: أنه مجمل، لأن عمومه ليس من صيغته، بل من قرينة نفي المعهود; فيتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها، وهو قول إمام الحرمين، وتبعه ابن القشيري في كتابه، وقال صاحبه إلكيا الهراسي: إنه الصحيح، لأن الألف واللام للتعريف، وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية، فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليها. قلت: وما ذكره إمام الحرمين قد حكاه الأستاذ أبو إسحاق في كتابه عن بعض أصحابنا، وقال قبله: إن المذهب أنه عام، ولا يصار إلى غير العموم إلا بدليل.

(2/251)


ويخرج من كلام ابن دقيق العيد مذهب رابع، فإنه قال في "شرح العنوان" وعندنا أن هذا مختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام، ويعرف ذلك بقرائن ودلائل منه.
وأصل الخلاف أن الألف واللام للعموم عند عدم العهد، وليست للعموم عند قرينة العهد، لكن هل الأصل فيها العموم حتى يقوم دليل على خلافه، أو الأصل أنها موضوعة للعهد، حتى يقوم دليل على عدم إرادته فيه؟
وكلام الأصوليين فيه مضطرب، ومن أخذ بظواهر عباراتهم حكى في ذلك قولين، وقد صرح بها بعض متأخري الحنفية، فقال: الأصل هو للعهد الخارجي لأنه حقيقة التعيين، وكمال التمييز، ثم الاستغراق لأن الحكم على نفس الحقيقة بدون اعتبار الأفراد قليل الاستعمال جدا، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية، فالاستغراق هو المفهوم من الإطلاق حيث لا عهد في الخارج خصوصا في الجمعية، هذا ما عليه المحققون.
وقيل: العهد الذهني مقدم على الاستغراق بناء على أن البعض متيقن، وهذا معارض، فإن الاستغراق أعم فائدة وأكثر استعمالا في الشرع، وأحوط في أكثر الأحكام، أعني الإيجاب والندب والتحريم والكراهة، وأن البعض أحوط في الإباحة ومنقوض بثبوت الماهية، فإنه لا يوجد بدون الماهية، وقد جعلوه متأخرا عن الاستغراق بها على أنه لا يفيد فائدة جديدة زائدة على ما يفيد الاسم بدون اللام.
ويظهر أثر هذا الخلاف فيما إذا لم تقم قرينة على إرادة عهد، في أن العهد مراد أم لا، هل يحمل على العموم أم لا؟
وذكر الماوردي في كتاب "الأيمان" من "الحاوي" عند الكلام فيما "إذا حلف لا يشرب ماء النهر" أن الألف واللام يستعملان تارة للجنس، وللعهد أخرى، وأنه حقيقة فيهما، فإن قيل: إذا كانت القرينة تصرف إلى العهد، وتمنع من الحمل على العموم، فهلا جعلتم العام بالألف واللام مصروفا إلى العهد بقرينة السبب الخاص، وقلتم: إن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؟ أجيب بأن تقدم السبب الخاص قرينة في أنه لا يراد لا أن غيره ليس بمراد، فنحن نعلمه بهذه القرينة ونقول: دلالة هذا العام على محل السبب قطعية، وعلى غيره ظنية، إذ ليس في السبب ما يثبتها ولا ما ينفيها.

(2/252)


[ما يفيده جمع السلامة وجمع التكسير]
واعلم أن الأصوليين مصرحون بأن جمع السلامة للتكثير، كالمؤمنين والكافرين، وقسم سيبويه وغيره من النحويين الجمع إلى قسمين: جمع سلامة وهو للتقليل للعشرة فما دونها، وجمع تكسير، وهو نوعان: ما هو للقلة، وهي أربع صيغ: أفعال وأفعل وأفعلة وفعلة، والباقي للتكثير. إذا عرف هذا فقد استشكل كيف يجتمع العموم مع جمع القلة، والأول يستغرق الأفراد والثاني لا يستغرق العشرة وجمع بينهما بوجوه:
أحدهما: أن العموم يجمع ما لا يتجاوز الواحد، فاجتماع العموم مع ما لا يتجاوز العشرة أولى، فإذا قلت: أكرم الزيدين، فمعناه أكرم كل واحد مجتمع مع تسعة، أو دونها إلى اثنين بخلاف أكرم الرجال، فمعناه أكرم كل واحد منهم منضم إلى عشرة فأكثر.
الثاني: أن العموم في نحو المؤمنين والمشركين من المنقولات الشرعية التي تصرف الشارع فيها بالنقل، كما في الصلاة والحج والصوم ونحوها، فحيث جاء ذكر المؤمنين والكافرين ونحوه في الكتاب والسنة، كان المراد به العموم تصرفا من الشارع فيه، وإن لم يكن ذلك مقتضى العموم لغة، ذكره الغزالي في "المنخول"، وحكاه المازري عن بعض من عاصره، ثم ضعفه بأنه لا دليل يدل على هذا التصرف، ولا ضرورة تدعو إليه.
الثالث: ذكره الغزالي أيضا أن يكون كما قال سيبويه من أن كل اسم لا تستمر العرب فيه بصيغة الكثير، فصيغة التقليل فيه محمولة على التكثير أيضا، لكثرة الفائدة، كقولهم: في جمع رجل أرجل، فهو للتكثير.
الرابع: قال إمام الحرمين: يحمل كلام سيبويه على ما إذا كان منكرا وكلام الأصوليين على ما إذا كان معرفا بأل، ووجهه بأن اسم العلم إذا ثني أو جمع ولم يعرف باللام، كان نكرة بالاتفاق، وزالت عنه العلمية، وإنما يفيد مفاد العلم إذا عرف بالألف واللام كالزيدين والزيود، فموضوع الجمع إذا لم يعرف أنه لا يفيد الاستيعاب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ} [صّ:62]، بخلاف حالة التعريف، ويشهد له قول الفارسي وابن مالك بأن جمعي التصحيح للقلة ما لم يقترن بأل

(2/253)


التي للاستغراق، أو يضاف إلى ما يدل على الكثرة، فإن اقترن صرف إلى الكثرة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35]، وقوله {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]، وقد جمع بين الألف واللام والإضافة حسان "رضي الله عنه" في قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
واعترض المازري والإبياري على إمام الحرمين في اتفاق الأصوليين على أن الجمع المعرف تعريف الجنس يفيد العموم، ونقلا الخلاف فيه عن الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو غريب، والظاهر أنه لم يثبت عنه، وإنما نقل فيه عن أبي هاشم، وقد سبق في كلام أبي الحسين ما يقتضي رفع الخلاف، فكلام الإمام إذن مستقيم.
وقال بعض الجدليين: قد قيل إن جمع القلة لا يدل على الاستغراق، وهو ما يكون على وزان الأفعال كالأبواب. أو الفعلة كالصبية، قال: ولا يبعد أن يدل هذا على الاستغراق، ولكن دلالته دون جمع الكثرة، واعترض الأصفهاني شارح "المحصول" عليه بأنه يوهم أن المنكر لا خلاف فيه، وليس كذلك.
الخامس: قال الإمام أيضا: إن جمع السلامة موضوع في العربية للقلة، وقد يستعمل في الكثرة، وكثر استعماله، فنظر الأصوليين إلى غلبة الاستعمال، ونظر النحويين إلى أصل الوضع، فلا خلاف بينهم. وهذا الذي قاله الإمام نقله ابن الصائغ في "شرح الجمل" عن سيبويه، فقال: مذهب سيبويه أن جمعي السلامة للتقليل، غير أن كثيرا من الأسماء لا سيما الصفات يقتصر منها على جمع السلامة، ولذلك تستعمل في الكثرة أكثر من غيره، كالمسلمات والمؤمنات.
وزعم ابن خروف أنهما موضوعان للقليل والكثير، فإنه مشترك بينهما لأنه يستعمل فيهما، والأصل الحقيقة، وقال صاحب "البسيط" من النحويين: إنه الحق، وهذا أبلغ في تقوية مقالة الإمام، وقد حكاه ابن القشيري في أصوله عن الزجاج أيضا، فإنه قال في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] وإن كان جمع السلامة فلا يدل على القلة: لقوله تعالى: { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37] قال ابن إياز: واستضعف، لأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك فالمجاز أولى. قال: بل جمع السلامة مذكره ومؤنثه للقلة، فإن استعمل في الكثرة فذلك اتساع.
وهاهنا أمران: أحدهما: أن الجمع ينقسم إلى سالم وهو ما سلمت فيه بنية

(2/254)


الواحد كالزيدين والهندات، وقد سبق الكلام فيه، وإلى ما لا يسلم كرجال، وهو ضربان: جمع قلة، وهو أربعة: أفعلة كأرغفة، وأفعل كأبحر، وفعلة كفتية، وأفعال كأحمال، ومدلوله من الثلاثة إلى العشرة، ووقع في "البرهان" لما دون العشرة، وتبعه ابن القشيري، فقال: والذي أراه أنه يحمل على ما دون العشرة وهو تسعة، لتصريحهم بأنه وضع لما دون العشرة، ولم يخصوه بثلاثة أو اثنين. والصواب الأول. وقال صاحب "البسيط" من النحويين: قولهم: جمع القلة من الثلاثة إلى العشرة، اختلف في العشرة، فمنهم من جعلها من جمع القلة، وهو قوله من أدخل ما بعد "إلى" فيما قبلها، ولذلك يقال: عشرة أفلس، ومنهم من جعلها أول جمع الكثرة، والتسعة منتهى جمع القلة، وهو قول من لم يدخل، وأما تمييزها بجمع القلة فلقربها من جمع القلة. قال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] فجمع في هذين العددين أكثر القليل وأقل الكثير وما بعد العشرة كثير بالاتفاق. انتهى. وهذه فائدة.

(2/255)


[ما يدل عليه جمع الجمع]
ونبه بعد ذلك على فائدة أخرى، وهي أنه جاء الجمع في ألفاظ مسموعة نحو: نعم وأنعام وأناعيم، وهذا جمع الجمع. قال: وأقله سبعة وعشرون، لأن النعم اسم. للجمع وأقله ثلاثة، وأنعام جمعه وأقله تسعة، وأناعيم جمعه وأقله ذلك، ولو قلت: في هذه المسألة أقاويل لكان أقلها تسعة، لأنها جمع أقوال، وأقلها ثلاثة،
قال إمام الحرمين: ولم يوضع للاستغراق باتفاق، قال الإبياري: إن أراد ظاهرا فنعم، وإن أراد أنه لا يحتمله قطعا فباطل، وقد قال أئمة العربية: إن الجمع القليل يوضع موضع الكثير وعكسه.
واعلم أن الإمام مثل بعد ذلك بقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] وظاهره إلحاق أبنية القلة من جمع التكسير بجمع السلامة في إفادة العموم، وبه صرح ابن قدامة في "الروضة"، فقال: إنها تفيد العموم إذا عرفت ويكون العموم مستفادا من الألف واللام المقتضية للجنس كما كان قبله في أسماء الأجناس المفردة. وهو اختيار الأصفهاني والقرافي. وقضية كلام الرازي في "المحصول" وابن الحاجب: تخصيص ذلك بالجمع السالم، وأن جمع التكسير لما كان للقلة لا يفيد الاستغراق، وإن عرف تعريف جنس، وصرح به الإمام أبو نصر بن القشيري في كتابه في الأصول، وجعل الاستغراق خاصا بجمع السلامة إذا عرف قال: وإنما حمل قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ

(2/255)