البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث الخاص والخصوص والتخصيص
فصل: تعريف الخاص والخصوص والفرق
بينهما
مدخل
...
مباحث الخاص والخصوص والتخصيص
[تعريف الخاص والخصوص والفرق بينهما]
الخاص: اللفظ الدال على مسمى واحد وما دل على كثرة مخصوصة،
ولهذا قدمه بعض الحنفية على البحث في العام تقديما للمفرد على
المركب.
والخصوص: كون اللفظ متناولا لبعض ما يصلح له لا لجميعه، وقد
يقال: خصوص في كون اللفظ متناولا للواحد المعين الذي لا يصلح
إلا له، كتناول كل اسم من أسماء الله تعالى المختصة به له
تبارك وتعالى. وذكر القسم الثاني الزجاج في كتاب له في أصول
الفقه، نقله عنه ابن الصلاح في فوائد رحلته، أن الشافعي رضي
الله عنه عبر عن المخرج مرة بالخاص، وعن المبقى مرة بالخاص،
والخصوص من عوارض الألفاظ حقيقة، وفي المعاني الخلاف السابق في
العموم، ولم يتعرضوا لذلك.
وفرق العسكري بين الخاص والخصوص، فقال1: الخاص يكون فيما يراد
به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع، والخصوص ما اختص بالوضع لا
بإرادة. وقيل: الخاص ما يتناول أمرا واحدا بنفس الوضع، والخصوص
أن يتناول شيئا دون غيره، وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير.
ـــــــ
1 انظر الفروق لأبي هلال العسكري ص "44".
(2/392)
[تعريف المخصص]
وأما المخصص فيطلق على معان مختلفة، يوصف المتكلم بكونه مخصصا
للعام بمعنى أنه أراد به بعض ما يتناوله، ويوصف الناصب لدلالة
التخصيص بأنه مخصص، يوصف الدليل بأنه مخصص، يقال السنة تخصيص
الكتاب. ويوصف المعتقد لذلك بأنه مخصص، كما قال الشافعي: يخص
الكتاب بالخبر، وغيره لا يخص.
(2/392)
[تعريف التخصيص]
وأما التخصيص: وهو المقصود بالذكر، فهو لغة: الإفراد ومنه
الخاصة. واصطلاحا قال ابن السمعاني: تمييز بعض الجملة بالحكم،
وتخصيص العام بيان ما لم يرد بلفظ العام.
(2/392)
[الفرق بين
التخصيص والنسخ]
واعلم أن التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص
الحكم بنقض ما يتناوله اللفظ، وقد فرقوا بينهما من وجوه.
أحدها: أن التخصيص ترك بعض الأعيان، والنسخ ترك بعض الأزمان،
قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني.
الثاني: أن التخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال بخلاف
النسخ، فإنه لا يتناول إلا الأزمان. قال الغزالي: وهذا ليس
بصحيح، فإن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين، والنسخ
يرد على الفعل في بعض الأزمان، والتخصيص يرد على الفعل في بعض
الأحوال.
ـــــــ
انظر إرشاد الفحول ص "142"
(2/394)
الثالث: التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد
بخلاف النسخ، فإنه يكون لكل الأفراد. وعلى هذا فالنسخ أعم،
قاله البيضاوي. لكن اختار إمامه خلافه، فإنه قال: النسخ لا
معنى به إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص، فيكون الفرق
بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص. وقد سبقه إلى ذلك
الأستاذ فيما نقله عن إمام الحرمين في كتاب النسخ فقال: صرح
الأستاذ بأن النسخ تخصيص في الزمان، واعترض عليه1.
الرابع: وحكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا أن التخصيص
تقليل، والنسخ تبديل. وقال: هذا لفظ جميل، ولكن ريعه قليل،
ومعناه مستحيل، لأن الردة تبديل، وليست بنسخ، قال تعالى:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:181]
الخامس: أن النسخ يتطرق إلى كل حكم، سواء كان ثابتا في حق شخص
واحد، أو أشخاص كثيرة، والتخصيص لا يتطرق إلى الأول، ومنهم من
عبر عنه بأن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد، والنسخ
يدخل فيه.
السادس: أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة
كان أو مجازا على الخلاف، والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في
مستقبل الزمن بالكلية.
السابع: أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ، وأما
التخصيص فلا يجوز تأخيره عن وقت العمل بالمخصوص وفاقا.
الثامن: أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى، ولا يجوز التخصيص.
قال القرافي: وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا، والمراد
أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة، أما
كلها فلا، لأن قواعد العقائد لم تنسخ، وكذلك حفظ الكليات
الخمس، فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام الفرعية، وإن جاز
نسخ شريعة بشريعة أخرى عقلا.
التاسع: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، بخلاف التخصيص فإنه
بيان المراد باللفظ العام، ذكره القفال الشاشي والعبادي في
زياداته، وهذا على رأي القاضي، وأما على رأي غيره، فينبغي أن
نقول: انتهاء حكم بخلاف التخصيص.
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/1314"
(2/395)
العاشر: أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم،
والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ، ذكره الماوردي.
الحادي عشر: أن التخصيص يجوز أن يكون مقترنا بالعام، ومقدما
عليه، ومتأخرا عنه، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدما على
المنسوخ، ولا مقترنا به، بل يجب أن يتأخر عنه.
الثاني عشر: أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد
يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع، ويقع التخصيص
بالإجماع، والنسخ لا يقع به.
الثالث عشر: يجوز التخصيص في الأخبار والأحكام، والنسخ يختص
بأحكام الشرع.
الرابع عشر: التخصيص على الفور، والنسخ على التراخي، ذكره
الماوردي، وفي هذا نظر.
الخامس عشر: أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع، ونسخه لا يقع به.
السادس عشر: أن التخصيص لا يدخل في غير العام، بخلاف النسخ;
فإنه يرفع حكم العام والخاص.
السابع عشر: أنه يجوز نسخ الأمر بخلاف التخصيص على خلاف فيه.
الثامن عشر: أن التخصيص يؤذن بأن المراد بالعموم عند الخطاب ما
عداه، والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في حال الحال،
وإن كان غير مراد فيما بعده، وكان اللفظ المطلق لا يدل على
الزمان أصلا، وإنما يدل على الفعل، ثم الزمان ظرف1. واعلم أن
هذه الفروق أكثرها أحكام أو لوازم ثابتة لأحدهما دون الآخر.
مسألة
الحكم إذا علق بعده هل يكون تعليقه بما دونه نسخا أو تخصيصا،
فيه وجهان لأصحابنا، حكاهما الروياني في كتاب الطلاق من البحر،
وفرع عليهما ما لو قال: أنت طالق ثلاثا، ونوى بقلبه إلا واحدة.
قال في "الإفصاح": ففيه جوابان:
أحدهما: لا يصح الاستثناء في الظاهر والباطن.
ـــــــ
1 انظر المعتمد "1/251"، إرشاد الفحول ص "143".
(2/396)
والثاني: يصح في الباطن دون الظاهر.
وإن قلنا: تخصيص صحت نيته في الباطن دون الظاهر، وكأنه يشير
بهذا إلى الفرق الحادي عشر.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله: الخطاب في العموم والخصوص على أربعة
أوجه:
أحدها: خطاب عام اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] قال الشافعي رحمه الله في "الرسالة"
فهذا عام لا خاص1. واعترض ابن داود عليه فقال: كيف عد هذه
الآية في العمومات التي لم يدخلها التخصيص، والله تعالى شيء
بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ
اللَّهُ} [الأنعام:19].
ورد ابن سريج عليه، وقال: أما علمت أن المخاطب لا يدخل تحت
الخطاب؟ وقال في كتاب "الإعذار والإنذار" لابن داود: وأما ما
عرض به من قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً}
[الأنعام:19] وأي ضرورة دعته إلى هذا؟ وكيف يحتمل العموم ما
أومأ إليه؟ وقد بدأ الله بنفسه، فأخبر بقوله: {اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وهل تحتمل الأوهام في المخاطبة ما
أومأ إليه؟ ولولا أن القلوب لا تطيق الكلام، لكان عليه فيه
كلام كثير. ويقول: إن الآية تخرج عامة في مذاهب جميع الناس،
لأنه لما كان ما عرض به في الله محالا خارجا عن الوهم علم أن
الخطاب إنما يخرج على ما يعقل ويتوهم دون ما لا يعقل ولا
يتوهم، فإذا لم يخرج على ما لا يتوهم لم يدخل في ذلك عموم ولا
خصوص.
ثم قال بعد شيء مما ذكره في دفع ما أورده ابن داود مما يستحيل
اندراجه في الصفات: قد أومأنا إلى جمل وكرهنا التفسير، لأن
الشافعي وأصحابه بعده يكرهون الخوض في هذا، انتهى.
وقال الصيرفي في "شرح الرسالة": اعترض ابن داود ويحيى بن أكثم
على الشافعي في قوله في قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] إنه عام، وجهلوا الصواب، وذهبوا عن
اللغة، وذلك لو أن رجلا من كبار أهل بغداد قال: أطعمت أهل
بغداد جميعا لم يكن داخلا فيهم، ولم تقل له: خرجت أنت بخصوص،
وإنما العموم
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "53،54".
(2/397)
في المطعمين سواه لأنه هو المطعم لهم.
قال: وفي الآية دليلان:
أحدهما: أنه لا خالق سواه.
وثانيهما: أن ما سواه مخلوق، وينبغي أن يعلم أن الخطاب عام
فيما سواه.
قال: ولا شك أن لفظة شيء لا تطلق على الله، وإن شملت الموجودات
لغة واصطلاحا، وسند المنع كون الأسماء توقيفية، ولأن لفظة شيء
مأخوذة من شاء.
والشاء من المحدث الذي ليس بقديم، والله تعالى قديم فلا يصدق
فيه ذلك.
الثاني: خطاب خاص اللفظ والمعنى كقوله: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28] الآية فهذا مختص
به عليه السلام، لأنه لا يجب على أحد التخيير.
الثالث: خطاب خاص اللفظ عام المعنى، كقوله تعالى: {وَإِذَا
رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ} [الأنعام:68] الآية الخطاب معه، والمراد به الأمة،
بدليل قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ}
[النساء:140] ولم ينزل في الكتاب إلا هذه الآية وقوله تعالى:
{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] وقوله:
{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105] قال
الأستاذ أبو إسحاق: ولا يصار إلى ذلك إلا بدليل غير الخطاب،
وأنكر ابن حزم في الإحكام وجود هذا القسم، وقال ليس موجودا في
اللغة1، وهو محجوب بما ذكرنا.
الرابع: خطاب عام اللفظ، والمراد به الخصوص، وهذا اختلف فيه،
والأكثرون على جوازه، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173]
فإن المراد بالناس الأول: نعيم بن مسعود أو أربعة نفر كما قال
الشافعي في "الرسالة2". قال الكرخي: وهو مجاز لا حقيقة وإذا
خاطب بذلك فلا بد أن يدلنا على مراده به. وهل يجب مقارنة
الدليل الخطاب، أو يجوز تأخيره عنه؟ فيه القولان.
وذهب بعض الأصوليين إلى إنكار هذا القسم، لأن الموجب للخصوص
بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة، ولا يجوز في قوله تعالى:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}
[العنكبوت:14] أن هذه الصيغة مراد بها ألف سنة كاملة.
ـــــــ
1 انظر الإحكام "3/365".
2 انظر الرسالة ص "59".
(2/398)
واعلم أن جماعة أطلقوا الخلاف في هذه
المسألة: منهم صاحب "المحصول1"، وخصه الشيخ أبو حامد، والشيخ
أبو إسحاق، وسليم الرازي في "التقريب"، وابن السمعاني في
"القواطع"، والقاضي عبد الوهاب، وصاحب "المعتمد" في "الأحكام"
وغيرهم بالخبر ولم ينقلوا الخلاف في الأمر والنهي، بل جعلوه
محل وفاق، كالنسخ، وهو الظاهر، فإن المانع هنا في الخبر قياس
التخصيص على النسخ، كما قاله القاضي عبد الوهاب، والظاهر أن
المخالف يمنع تسميته عاما مخصوصا، ويقول: إنه عام أريد به
الخصوص، وحينئذ فلا ينتهض الاستدلال عليه بما ذكروه من الآيات
المخصصة، وهو قوي. ومن هنا قال بعضهم: يشترط في التخصيص وروده
في الإنشاءات لا في الأخبار، فإنه لا يكون فيها عام مخصوص، بل
عام أريد به الخصوص.
فائدة
عمومات القرآن مخصوصة في الأكثر، حتى قال الشيخ علم الدين
العراقي: ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع.
أحدها: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
[النساء:23] فكل من سميت أما من نسب أو رضاع، أو أم أم وإن
علت، فهي حرام.
ثانيها: قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]
ثالثها: قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
[البقرة:282]
رابعها: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]
خامسها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى
اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] وغلط من جعل منه قوله تعالى:
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] إذ
القدرة لا تتعلق بالمستحيلات، لأن الممكن المعدوم لا يطلق عليه
شيء عندنا حقيقة فما بالمستحيل. وأما قول ابن جني في الخصائص
في قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ} [البقرة:255] عموم أريد به الخصوص، لأن الأفعال
الصادرة من مخلوقاته ليست له، فبناه على مذهبه الفاسد في
الاعتزال.
ـــــــ
1 انظر المحصول "2/14".
(2/399)
|