البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: فيما يجوز تخصيصه
مدخل
...
فصل: فيما يجوز تخصيصه
من حق التخصيص أن لا يكون إلا فيما يتناوله اللفظ، فاللفظ الذي
لا يتناول إلا الواحد لا يجوز تخصيصه بمعنى إخراج بعض الجزئيات
منه، لأنه إخراج البعض مع بقاء البعض، والواحد لا بعض له،
فاستحال تخصيصه. ولهذا قال ابن الحاجب: لا يجوز تخصيص إلا في
ذي أجزاء يصح افتراقها، ليمكن صرفه إلى بعض يصح القصر عليه.
واعترض القرافي بأن الواحد يندرج فيه الواحد بالشخص، وهو يصح
إخراج بعض أجزائه، لصحة قولك: رأيت زيدا وتريد بعضه، وإن تعذر
إخراج بعض الجزئيات، فينبغي التفصيل.
وأما الذي يتناول أكثر من واحد، فإما أن يكون عمومه من جهة
اللفظ أو المعنى، أي الاستنباط. فالأول يتطرق إليه التخصيص
أمرا أو خبرا، نحو {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]،
ثم خص الذمي ومن في معناه. والثاني على ثلاثة أقسام.
أحدها: العلة: وقد اختلف في تخصيصها على مذاهب كثيرة، والمنقول
عن الشافعي والجمهور المنع وستأتي المسألة في باب القياس إن
شاء الله تعالى، وهي المسألة المسماة هناك بالنقص كالنهي عن
بيع الرطب بالتمر، لأجل النقصان عند الجفاف، ووجدنا هذه العلة
في العرايا مع أن الشارع جوزه فيها.
الثاني: مفهوم الموافقة: كدلالة التأفيف على حرمة الضرب،
فالتخصيص فيه جائز بشرط بقاء الملفوظ، وهو التأفيف في مثالنا
هذا. ومنع القاضي أبو بكر، والشيخ أبو إسحاق وسليم في
"التقريب" من جواز تخصيص مفهوم الموافقة لمعنيين:
أحدهما: أن التخصيص إنما يكون في العموم ولا عموم إلا في
الألفاظ.
الثاني: أنه لما قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
[الإسراء:23] وكان المنع من أجل الأذى، لم يجز أن يدل دليل على
إجازة الضرب مع أن فيه أذى، لأنه يناقض الأول، قالوا: وهكذا
القياس لا يدخله تخصيص.
ويحتمل أن هاتين العلتين تنبنيان على الوجهين في المعلوم من
جهة الفحوى: هل هو من جهة اللغة، أو من جهة القياس؟ وفيه
وجهان، وشرط الهندي في الجواز أن لا
(2/402)
يعود نقصا على الملفوظ كإباحة ضرب الأم إذا
فجرت. أما إذا عاد نقضا على الملفوظ كما إذا قال: {فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء:23] لكن أباح له نوعا من أنواع الأذى
مطلقا، فلا يجوز هذا كله مع بقاء مدلول اللفظ، أما لو ورد دليل
يدل على إخراج الملفوظ وهو التأفيف مثلا، فإنه لا يكون تخصيصا،
بل نسخا له، وللمفهوم أيضا، لأن رفع الأصل يستلزم رفع الفرع.
الثالث: مفهوم المخالفة: كسائمة الغنم، فإن مفهومه نفي الإيجاب
عن معلوفة الغنم، فيجوز أن يقوم الدليل على ثبوت مثل حكم
المذكور لبعض المسكوت عنه، الذي ثبت فيه المفهوم خلاف ما ثبت
للمنطوق، ويعمل بذلك جمعا بين الدليلين، فتخص المعلوفة المعدة
للتجارة من هذا العموم.
وشرط البيضاوي1 وصاحب "الحاصل" للجواز أن يكون المخصص راجحا،
ولم يذكره الإمام، والظاهر عدم اشتراطه، إذ لا يشترط في المخصص
الرجحان. ومنهم من منع من تخصيصه، كما حكاه ابن برهان في
"الوجيز" وهو احتمال للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وحكى ابن برهان
عن القاضي أبي بكر أنه منع تخصيص مفهوم الموافقة، لأنه يوجب
اللفظ، واختار تخصيص مفهوم المخالفة، لأنه لا يوجبه، والذي
رأيته في كتاب التقريب للقاضي المنع فيهما مطلقا. نعم هذا
اختيار سليم الرازي في كتاب "التقريب"، فإنه منع دخول التخصيص
لمفهوم الموافقة، ثم قال: وأما مفهوم المخالفة فحكمه حكم
اللفظ، إن تناول واحدا لم يدخله تخصيص، وإن تناول أشياء دخله
التخصيص.
قال "شارح اللمع" تخصيص دليل الخطاب قبل استقرار حكمه ينبني
على الوجهين فيه: هل هو كالنطق أو كالقياس؟ فإن قلنا: كالقياس
لم يجز تخصيصه، وإن قلنا: كالنطق ففي تخصيصه وجهان، ذكرهما
الشيخ أبو إسحاق، مبنيان على المعنى في فحوى الخطاب. قال: فأما
إذا استقر كان ما يرد مناقضا له من باب النسخ.
ـــــــ
1 انظر نهاية السول بحاشية الشيخ بخيت "4/382".
(2/403)
مسألة: العموم
المؤكد "بكل" ونحوها هل يدخله التخصيص؟
فيه قولان للعلماء، حكاهما الماوردي والروياني في باب القضاء.
أحدهما: لا،
(2/403)
ونقله أبو بكر الرازي عن بعضهم، وجزم به
المازري، ولهذا قالوا: إن التأكيد ينفي التجوز بأن يكون المراد
به البعض. ويشهد له قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
[آل عمران:154] في قراءة النصب، لأنه لو لم يعينه للعموم لما
قال: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران:154].
وهذا يدخل في المجاز لا في التخصيص.
وأصحهما: نعم، بدليل ما جاء في الحديث: "فأحرموا كلهم إلا أبا
قتادة لم يحرم1" ، فدخله التخصيص مع تأكيده. وكذلك قوله تعالى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة:34] إن جعلنا
الاستثناء متصلا، فإن قيل: التأكيد هنا مقدر حصوله بعد الإخراج
فالمؤكد هنا إنما هو غير المخرج. قلنا: كيف يفعل بقوله:
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه:56]،
والاستغراق فيه متعذر، لأن آيات الله لا تتناهى؟
قال الإمام في "البرهان": ومما زل فيه الناقلون عن الأشعري
ومتبعيه أن صيغة العموم مع القرائن تبقى مترددة، وهذا إن صح
يحمل على موانع العموم، كالصيغ المؤكدة. انتهى. وقد صرح بأن
التأكيد لا يرفع احتمال التخصيص، وممن صرح بذلك القفال الشاشي
أيضا، فقال في كتابه: يجوز التخصيص المؤكد، ومثله بالآية
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر:30] قال: والتأكيد لا يزيل
احتمال اللفظ، وإلا لم يدخله استثناء، وبالجواز أيضا صرح
الماوردي والروياني في باب القضاء من كتابهما. ثم قال: وذهب
بعض العلماء إلى أنه لا يجوز تخصيص المؤكد، وهذا غلط لوجود
الاحتمال بعد التأكيد كوجوده من قبل. ا هـ. وهذا نظير الوجهين
اللذين حكاها الماوردي والروياني أيضا في جواز نسخ الحكم
المقيد بالأبدية، وظاهر كلام الهندي في باب النسخ أنه إجماع.
وليس كذلك.
تنبيه
إذا عطف الخاص على العام المتناول له، وقلنا: إنه داخل تحت
العموم، وكأنه ذكر مرتين مرة بالخصوص، ومرة بالعموم - يجيء في
تخصيصه هذا الخلاف.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الحج، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي
يصطاده الحلال.، برقم "1824" واللفظ له، ورواه مسلم كتاب الحج،
باب تحريم الصيد للمحرم، برقم"1196"
(2/404)
مسألة: في الغاية
التي ينتهي إليها التخصيص
اختلف في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب:
أحدها: أنه لا بد من بقاء جمع كثير، ونقله الرازي والآمدي عن
أبي الحسين البصري وصححه الرازي. وقال في الآمدي: وبه قال أكثر
أصحابنا، وإليه مال إمام الحرمين، ونقله ابن برهان عن
المعتزلة.
قلت: وعبارة أبي الحسين في "المعتمد1": الأولى المنع من ذلك في
جميع أفراد العموم، وإيجاب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم
قدرها، إلا أن يستعمل في الواحد على سبيل التعظيم والإبانة،
فإن ذلك يجري مجرى الكثير، وأما غير ذلك فلا. انتهى.
وقال الأصفهاني: ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد، نعم
اختاره الغزالي والرازي. واختلف في ذلك الكثير. فقال أكثرهم:
لا بد أن يعرف من مدلول اللفظ العام قبل التخصيص.
وقال البيضاوي: لا بد أن يكون غير محصور. وقال ابن برهان في
"الأوسط": لم يحدوا الكثرة هنا، بل قالوا: تعرف بالقرائن،
وأغرب بعضهم، فادعى أنه ليس المراد بالكثير هنا الكثير عددا;
بل الكثير وقوعا، والغالب وجودا بحيث يقرب أنه مما خطر بالبال
عند ذكر اعتبار لفظ العام.
وقال آخرون: شرطه أن يكون الباقي معظم الأمر إما في الكثير
وإما في الاعتبار، أما في الكثرة فكما إذا قلت: كل إنسان مصاب،
وكل محسن مشكور، فإنه وإن كان في الناس من لم يصب بمصيبة إلا
أنه يحدث قائل ذلك، ويحسن أن لا يقدح في كلامه. وأما في
الاعتبار فكما إذا قلت: خرج الناس كلهم للقاء الملك، فإن
المراد من له اعتبار، وإن كان أكثر الناس لم يخرجوا.
والثاني: أن العام إن كان ظاهرا مفردا كمن و الألف واللام نحو:
اقتل من في الدار، واقفع السارق، جاز التخصيص إلى أهل المراتب:
وهو واحد، لأن الاسم يصلح لهما جميعا. وإن كان بلفظ الجمع
كالمسلمين. جاز إلى أقل الجمع، وذلك إما ثلاثة أو اثنان على
الخلاف. قاله القفال الشاشي كذا رأيته في كتابه في نسخة قديمة
ـــــــ
1 انظر المعتمد "1/254".
(2/405)
واعتمد ابن الصباغ في "العدة" أيضا فاضبط
ذلك فقد زال الناقلون عنه في هذه المسألة فنقل ابن برهان في
"الأوسط" عنه جواز الرد إلى الواحد مطلقا ونقل القاضي أبو
الطيب في "شرح الكفاية" وابن السمعاني في "القواطع" عنه جواز
الرد إلى ثلاثة ولا يجوز إلى ما دونها إلا بما يجوز به النسخ
لكن ظاهر كلام القاضي أن "من، وما" محل وفاق فإنه قال لنا إن
كل ما جاز تخصيصه إلى ثلاثة جاز تخصيصه إلى ما دونها "كمن وما"
انتهى وبذلك صرح الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني فقال لا خلاف في
جواز التخصيص إلى واحد فيما إذا لم تكن الصيغة جمعا "كمن، وما،
والمفرد المحلى بالألف واللام".
وحكى القاضي عبد الوهاب عنه أنه ألحق أسماء الأجناس كالسارق
والسارقة، بالجمع المعروف في امتناع رده إلى الواحد كذلك
والفرق بين الصيغتين أن ألفاظ الجموع موضوعة للجميع ففي
التخصيص إلى الواحد إخراج عن الموضع ولا كذلك "من وما" والمفرد
المحلى بالألف واللام لتناول الواحد والاثنين.
قال الأصفهاني وينبغي أن يلحق "أي" "بمن، وما" قلت وهو كذلك،
لوجود العلة وبه صرح إلكيا الطبري وقال بعض المتأخرين ما أظن
القفال يقول به في كل تخصيص فإنه لا يخالف في صحة استثناء
الأكثر إلى الواحد بل الظاهر قصر قوله على ما عدا الاستثناء من
المخصصات بدليل احتجاج بعض أصحابنا عليه بقول القائل علي عشرة
إلا تسعة ويحتمل أن يعم الخلاف إلا لأن الظاهر خلاف من المنقول
عنه
ثم قلت وحكى أبو الحسين بن القطان الخلاف في الاستثناء فقال
ذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجوز أن يستثنى إلا أن يبقى أقل
الجمع وهو ثلاثة، وأنه يمتنع إذا بقي منه واحد أو اثنان وذهب
بعضهم إلى جوازه وأنه يحل التخصيص محل الاستثناء، وقد اتفقنا
على جواز استثناء الأقل من الأكثر وعكسه انتهى.
قال صاحب "المصادر": والذي ذهب إليه القفال عجيب، لأنه إن كان
البلوغ في لفظ من إلى الواحد أو الاثنين يجعله مجازا عنده،
فهلا جاز مثل ذلك في ألفاظ الجمع.
والثالث: التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز
إلى الواحد، وإلا فلا. حكاه ابن المطهر.
والرابع: أنه لا يجوز رده إلى أقل الجمع مطلقا على حسب
اختلافهم في أقل الجمع. حكاه ابن برهان وغيره.
والخامس: أنه يجوز في جميع ألفاظ العموم ما بقي في قضية اللفظ
واحد،
(2/406)
وحكاه إمام الحرمين في "التلخيص" عن معظم
أصحاب الشافعي. قال: وهو الذي اختاره الشافعي، ونقله ابن
السمعاني في "القواطع" عن سائر أصحابنا ما عدا القفال وحكاه
الأستاذ أبو إسحاق في أصوله عن إجماع أئمتنا.
وحكاه ابن الصباغ في "العدة" عن أكثر أصحابنا، وصححه القاضي
أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وقال ابن برهان في "الأوسط": إنه
ظاهر المذهب. ونسبه القاضي عبد الوهاب في "الإفادة" إلى
الجمهور.
وقال صاحب "المصادر": إنه الصحيح. قال: إلا أن ألفاظ الجمع
كالرجال والناس، متى بلغ التخصيص منها إلى أقل من ثلاث صار
اللفظ مجازا، بخلاف لفظ "من، ما" فإنه لا يصير مجازا، وما أظن
أصحابنا يوافقون على صحة ذلك وقد قالوا في كتاب الطلاق: لو قال
نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة يقبل
وقال القاضي الحسين: يجب أن لا يقبل لأن النساء لفظ الجمع
فينبغي أن يبقى من عدد النساء ما يكون اللفظ مطابقا له لأن أقل
الجمع ثلاثة. انتهى. وكلام القاضي موافق لمذهب القفال
والسادس: الذي اختاره ابن الحاجب1 قال الأصفهاني في "شرح
المحصول": ولا نعرفه لغيره، أن التخصيص إن كان متصلا، فإن كان
بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد، نحو أكرم الناس إلا
الجهال، وأكرم الناس تميم، فيجوز وإن لم يكن العالم إلا واحدا
إن كان بالصفة والشرط فيجوز إلى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء،
أو إذا كانوا فضلاء. وإن كان التخصيص بمنفصل وكان في العام
المحصور القليل، كقولك: قتلت كل زنديق، وكانوا ثلاثة، ولم يبق
سوى اثنين جاز إلى اثنين. إن كان غير محصور أو محصورا جاز بشرط
كون الباقي قريبا من مدلول العام
وحاصل مذهبنا على ما ذكره الشيخ أبو حامد وسليم في "التقريب"
أن العام إن كان واحدا معرفا باللام، كالسارق ونحوه جاز تخصيصه
إلى أن يبقى واحد بلا خلاف وكذلك الألفاظ المبهمة "كمن، وما"
لا خلاف فيه، وفي معناه الطائفة، وإن كان كذلك جمعا كالمسلمين
أو ما في معناه كالرهط والقوم جاز تخصيصه إلى أن يبقى أقل
الجمع، وفي جواز تخصيصه إلى أن يبقى أقل من ذلك وجهان أحدهما:
يجوز وهو قول العراقيين والمعتزلة كما قاله سليم. الثاني: لا
يجوز وهو قول القفال انتهى
ـــــــ
1 انظر مختصر المنتهى مع شرحه للعضد "2/130".
(2/407)
وقال الشيخ أبو حامد: والصحيح عندي أنه
يجوز التخصيص إلى أقل من ثلاثة. وإن كان اللفظ موضوعا للثلاثة
في اللغة حقيقة، إلا أنه يجوز أن يعدل به إلى المجاز، واحتج له
بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وقال إلكيا الهراسي: هذه المسألة
تستدعي تقديم أصل، وهو القول في أقل الجمع، قلت: وعلى ما
اختاره الجمهور من الجواز إلى الواحد لا يبقى للبناء على ذلك
وجه. وقد سبق في مسألة: أقل الجمع كلام يتعلق بهذا.
(2/408)
مسألة: اختلفوا في
العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي على مذاهب:
أحدها: أنه مجاز مطلقا على أي وجه خص، سواء كان التخصيص متصلا
أو منفصلا أو غيره. ونقله الإمام الرازي عن جمهور أصحابنا
والمعتزلة. كأبي علي وابنه واختاره البيضاوي وابن الحاجب
والهندي.
قال ابن برهان في "الأوسط": وهو المذهب الصحيح، ونسبه إلكيا
الطبري إلى المحققين ونقله في "المنخول" عن القاضي أبي بكر،
وحكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه في "الأصول"،
وسليم في "التقريب" عن المعتزلة بأسرها وأكثر الحنفية منهم
عيسى بن أبان وغيره
قلت وبه جزم الدبوسي والسرخسي والبزدوي وحكوه عن اختيار
العراقيين من الحنفية. وقال الشيخ أبو حامد: وحكاه بعض أصحابنا
عن الأشعري أيضا، ووجهه أنه وضع للمجموع، فإذا أريد به غير ما
وضع له بالقرينة صار مجازا، ولأنه حقيقة في الاستغراق، فلو كان
حقيقة في البعض لزم الاشتراك والمجاز خير منه
والثاني: أنه حقيقة فيما بقي مطلقا سواء خص. بدليل متصل
كالاستثناء. أو منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك قال الشيخ
أبو حامد الإسفراييني: وهذا. مذهب الشافعي وأصحابه وهو قول
مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة. انتهى
وقد وافق أبا حامد على ذلك أئمة أصحابنا كالقاضي أبي الطيب
الطبري، والشيخ أبي إسحاق في "اللمع1"، وابن الصباغ في كتاب
"العدة"، وسليم في "التقريب" فجزموا على أنه حقيقة وحكوا
الخلاف فيه بالمجاز عن المعتزلة
ـــــــ
1 انظر اللمع مع شرحه نزهة المشتاق ص "164".
(2/408)
ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن أكثر
علمائنا وقال إمام الحرمين في "التلخيص" وابن القشيري: هو مذهب
جماهير الفقهاء ونقله الغزالي في "المنخول" عن الشافعي، وقال
القاضي عبد الوهاب في "الملخص": هو قول الكل والأكثر من أصحاب
الشافعي وبعض الحنفية، والمالكية، إذا كان الباقي أقل الجمع
فصاعدا وقال صاحب "المصادر": إنه قول أكثر أصحاب الشافعي
والثالث: إنه إن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة، أو بمنفصل
فمجاز. وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم وابن برهان وعبد الوهاب عن
الكرخي وغيره من الحنفية، زاد عبد الوهاب: إنه قول أكثرهم،
قاله ابن برهان، وإليه مال القاضي، ونقله عن الشيخ أبي إسحاق
في "اللمع" أيضا قلت: هو الذي صرح في "التقريب" فقال ما نصه:
ولو قررنا القول بالعموم، فالصحيح عندنا من هذه المذاهب أن
نقول: إذا قدر التخصيص باستثناء متصل فاللفظ حقيقة في بقية
المسميات، وإن قدر بدليل منفصل فاللفظ مجاز لا يستدل به في
بقية المسميات، وقال: كنا قد نصرنا القول بأنه مجاز مطلقا
انتهى.
قال المقترح: ذهب القاضي في أحد مصنفاته إلى أنه مجاز مطلقا،
ثم رجع عنه إلى الفرق بين التخصيص المقارن والمنفصل، فقال: إن
التخصيص المقارن لا يصير اللفظ مجازا، بل هو باق حقيقة، ونرى
أنه كلام واحد، والتخصيص المتأخر نقول فيه: إنه يبقى مجازا في
البقية، ويحتمل أن القاضي ما أراد بأنه مجاز إلا في الاقتصار،
وفيما عدا المبقى، أما في دلالة اللفظ وضعا فهو حقيقة، والقاضي
إنما قال: هذا تفريعا على رأي المعممين، لأن مذهبه في صيغ
العموم الوقف.
والرابع: عكسه، كذا حكاه ابن برهان في "الأوسط" عن عبد الجبار.
والخامس: إن خص بدليل لفظي لم يصر مجازا، متصلا كان الدليل أو
منفصلا، وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا، كذا حكاه الآمدي.
والسادس: إن خص بالشرط والتقيد بالصفة فهو حقيقة، وإلا فهو
مجاز معنى في الاستثناء، حكاه أبو الحسين في "المعتمد" عن عبد
الجبار.
والسابع: إن كان المخصص مستقلا فهو مجاز سواء كان عقليا أو
لفظيا، كقول المتكلم بالعام: أردت به البعض المعين. إن لم يكن
مستقلا فهو حقيقة كالاستثناء والشرط والصفة. قاله أبو الحسين
البصري، واختاره الإمام فخر الدين الرازي ولم يذكروا التقييد
بالغاية على هذا المذهب. قال الهندي: وحكمه حكم أخواته من
المتصلات ظاهرا إذ لا
(2/409)
يظهر فرق بينهما.
والثامن: أنه مجاز فيما أخرج عنه فأما استعماله في بقية
المسميات فحقيقة، لأنه إذا قال: تجب الصلاة على المسلمين ثم
أخرجنا من الوجوب: المجانين، والحيض وأصحاب الأعذار فإطلاق لفظ
المسلمين على البقية حقيقة، وهو اختيار إمام الحرمين وذكر
"المقترح" في تعليقه على "البرهان" أنه معنى كلام القاضي.
قلت: وكذا ذكره أبو نصر بن القشيري وهذا الذي قاله الإمام قد
أورد القاضي سؤالا على نفسه فقال: إن قال قائل إذا خص بعض
المسميات، فاستعمال اللفظ. في الباقي ليس بمجاز، بل التجوز في
نفي الشمول فلا مجاز إذن في بقية المسميات فالجواب: أن هذا
ساقط، لأن معنى المجاز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له لغة
فترك الاستعمال في المخصص عن المسميات لا يحقق التجوز فيه،
فإنه عند من استعمل اللفظ الذي وضع فيه فيجب أن يكون في
استعمال مجازا إلا فيما ترك استعماله فيه
ولفظ الحمار إذا أطلق على البليد لم يكن مجازا لعدم استعماله
في الهيئة المخصوصة وإن كان مجازا لاستعماله في غير ما وضع له
وكذا ما نحن فيه. وإذا بطل طرف وجه التجوز إلى العدم وجب أن
يكون مجازا في بقية الأسماء. ثم أوضح القاضي هذا فقال: لو لم
يبق من المسميات إلا واحد، فلفظ الجمع مجاز فيه وفاقا، ولم
يقدر خلافا وإن كان يتناوله اللفظ مع غيره إن قدر عاما، فصرف
الجمع إلى الواحد كصرف الجمع إلى غير الشمول.
قال ابن القشيري: وهذا الذي ذكره القاضي حق من وجه، وكذا الذي
ذكره إمام الحرمين حق من وجه، وذلك أن انطلاق لفظ المسلمين على
جميعهم حقيقة في وضع اللفظ، فإذا أخرج الحيض والمجانين تناول
لفظ المسلمين البقية بعد هذا الإخراج والتخصيص، كتناوله لهم
قبل التخصيص لم يتغير منه شيء، فمن حيث إن اللفظ يتناولهم،
فاللفظ حقيقة فيهم، ومن حيث إن اللفظ لم يجر على التعميم،
وإنما وضع التعميم للفظ مجازا. ولا بعد أن يكون اللفظ حقيقة من
وجه ومجازا من وجه، وإنما المحال كونه حقيقة ومجازا من وجه
واحد فتأمله. انتهى.
وحاصله أن كونه مجازا من حيث إنه لم يرد به المتكلم بعض مقتضاه
لا ينافي أن استعماله في الباقي بجهة الحقيقة، وقال الصفي
الهندي: إنه أجود المذاهب بعد الأول، وجزم به في "المنخول".
وفيه نظر، إذ ليس للفظ بقضية الوضع جهتان، وقال في "المستصفى":
هذا ضعيف، فإنه لو رد
(2/410)
إلى الواحد كان مجازا مطلقا. لأنه تغيير عن
موضوعه في الدلالة.
والتاسع: إن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة فيه، وإلا فهو
مجاز، وحكاه الآمدي عن أبي بكر الرازي1 واختاره الباجي من
المالكية، وجعل القاضي والغزالي محل الخلاف فيما إذا كان
الباقي أقل الجمع، فأما إذا بقي واحد أو اثنان كما لو قال: لا
تكلم الناس، ثم قال: أردت زيدا خاصة، فإنه يصير مجازا بلا
خلاف. وإن كان حاصلا فيه، لأنه اسم جمع، والواحد والاثنان ليسا
بجمع.
قلت: لكن القاضي حكى في أواخر كلامه عن بعض أصحابنا أنه حقيقة
فيما بقي. وإن وكان أقل الجمع، ثم استبعده، فكأنه لم يعبأ بهذا
الخلاف. لكن الخلاف فيه ثابت استدركه ابن القشيري في أصوله علي
القاضي فقال: وذكر القاضي أبو الطيب في أصوله عن بعض أصحابنا
أن اللفظ حقيقة فما بقي، وإن كان أقل الجمع ا هـ
وحكاه الماوردي عن أبي حامد الإسفراييني فقال: إذا لم يبق إلا
واحد، فالمشهور أن اللفظ يتناوله على المجاز فإن العام بصيغة
الجمع في أصل اللغة لا يعبر به عن الواحد
قال: وحكى القاضي أبو بكر فيه الاتفاق لكن أبا حامد
الإسفراييني خالف، وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على
الحقيقة احتجاجا منه بقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] فأخبر سبحانه عن نفسه بلفظ الجمع
وهو سبحانه واحد، فإذا ثبت حمل الجمع على الواحد، فلا يستنكر
حمل العموم المخصوص على الواحد حقيقة.
قال المازري: والمشهور أن موضع الخلاف إنما هو فيما إذا بقي
أقل الجمع. قلت: وحكى الباجي عن أبي تمام من شيوخهم أنه يبقى
حقيقة، وإن انتهى التخصيص إلى الواحد.
تنبيهات
الأول: حكى الشيخ أبو حامد عن بعض أصحابنا أنه حكى عن الأشعري
القول بأنه مجاز ثم قال: وهذا لا يجيء على قوله من وجهين:
أحدهما: أن اللفظ المشترك عنده بين العموم والخصوص إذا دل
الدليل على
ـــــــ
1 انظر الإحكام "2/227".
(2/411)
العموم كان حقيقة. فكيف يصح على قوله إنه
حقيقة فيما بقي بعد التخصيص؟
والثاني: أن نقول: إن اللفظ المستعمل فيما بقي يحتج به مجردا
من غير دلالة، وهذا معنى قولنا: إنه حقيقة في الباقي. فإذا سلم
هذا لم يبق تحت قولنا: إنه مجاز فيما بقي معنى.
وقال بعض المتأخرين: هذا القول أعني كونه مجازا ضعيف، أما على
قاعدة أصحابنا في إثبات كلام النفس فإن المتكلم بقوله: من دخل
داري من العلماء فله درهم، لم يبين أول كلامه على قصد غير
العلماء أصلا، فكلام النفس لم يتناول غير العلماء لا حقيقة ولا
مجازا، لا قبل التخصيص ولا بعده وهي في كلامه سبحانه بمعنى
الأول، لعلمه بمراده قطعا، بل تعبيره بصيغة العموم إنما كان
توطئة للإتيان بالخصوص، كالجنس مثلا في عموم معناه عندما تورده
في تحديد النوع، فإنك تأتي به عاما ثم تخصصه باقتران الفصل به،
فلا يكون العموم من أول القصد أصلا مرادا، فكذلك في تخصيص
اللفظ العام، إذ العموم حقيقة واحدة معقولة في عموم اللفظي
كالمعنوي.
وهذا الذي قاله هذا القائل خارج عن المذاهب السابقة. قال: وأما
على قاعدة المعتزلة في إنكارهم النفسي فهو الحد، إذا تصور
اللفظ في الذهن للتلفظ به، فيكون الخصوص إذن من أول اللفظ.
وأما علم السامع بالعموم فلا يعتبر إذ ليس له أمر في كلام
غيره.
الثاني: أن هذا الخلاف إنما هو في العام المخصوص، وهو الذي
أريد به معناه مخرجا منه بعض أفراده، فإرادة إخراج بعض
المدلول: هل تعين اللفظ مرادا به الباقي أم لا؟ فإن قلنا
بالمنع كان حقيقة، وإلا فلا.
أما العام الذي أريد به الخصوص، فالظاهر أنه مجاز قطعا، ولا
يطرقه هذا الخلاف لأنه مستعمل في بعض مدلوله، إلا إذا قلنا: إن
دلالة العام على كل فرد من أفراده دلالة مطابقة فيحتمل أن يكون
حقيقة في كل فرد فيطرقه الخلاف وهو بعيد
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان": القول بأنه مجاز صحيح
في العموم الذي أريد به بعض ما تناوله عند الإطلاق، أما ما وقع
التخصيص فيه بعد إرادة العموم به إن صح أنه تخصيص لا نسخ يقوى
هذا فيه.
الثالث: إطلاقهم. الكلام في هذه المسألة يشمل ما لو كان
التخصيص بدليل العقل، ونقل بعض الحنفية عن القائلين بأن من
المخصصات العقل، أنه لا يصير العام ظنيا مثل هذا التخصيص وإنما
يصير ذلك فيما يقبل التعليل والتفسير دون ما لا يقبله ألا
(2/412)
ترى أن الاستثناء وهو من أدلة التخصيص
عندهم كدليل العقل لا يخرج العام من القطع إلى الظن لأنه لا
يقبل التعليل. فكذا هنا
الرابع: قد يدعى في القولين الأولين أعني أنه حقيقة أو مجاز،
أنه لم يتوارد الخلاف فيهما على محل واحد فإن القائل مجاز أراد
بالنسبة إلى اللغة، والقائل بأنه حقيقة أراد أنها حقيقة شرعية
فإن الإجماع على العمل به بعد التخصيص بين أن وضع الشرع في
العام إذا خص يكون متناولا للباقي فهو إذن حقيقة شرعية أنبأ عن
وضعها الإجماع فصار حقيقة شرعية مجازا لغويا
الخامس: ذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه الأصولي،
وسليم في كتاب "التقريب" أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أن من
يقول إن ذلك حقيقة في الباقي، يحتج بلفظ العموم فيمالم يخص منه
مجردا من غير دليل يدل عليه ومن يقول إنه يكون مجازا لا يمكنه
الاحتجاج بالعموم المخصوص فيما بقي إلا بدليل يدل عليه أي على
أن حكمه ثابت في الباقي، وظهر بهذا أن الخلاف في كون العام
المخصوص حجة فرع الكلام في هذا فلهذا أخرنا ذكرها، وبه يتضح
تقرير مذهبنا في كونه حقيقة لكن إلكيا الطبري عكس ذلك فقرر
كونه حجة. ثم قال: وإذا تقرر أنه ليس بمجمل فاختلفوا هل هو
مجاز أم حقيقة؟ والطريقة الأولى أقعد وأحسن.
السادس: قال الشيخ أبو حامد: القائلون بأنه مجاز احتجوا بنكتة
واحدة، وهي أن لفظ العموم موضوع للاستغراق فإذا دل الدليل على
تخصيصه، فإنه يعدل به عن موضوعه بالقرينة، فيكون مجازا.
قال: ودليلنا أن لفظ العموم إذا ورد مطلقا فإنه يقتضي استغراق
الجنس. فإذا ورد التخصيص فإن ذلك يبين ما ليس بمراد باللفظ،
فيخرجه عنه، فلم يؤثر فيما بقي، بل يكون ما بقي ثابتا فيه
باللفظ فحسب، والذي يدل على هذا أن دليل التخصيص مناف لحكم ما
بقي من اللفظ ومضاد له. فلا يجوز أن يؤثر فيه ويثبت الحكم مع
مضادته ومنافاته. قال: ويصير لأهل الحرب عندنا اسمان، كل منهما
حقيقة:
أحدهما: حقيقة فيهم بمجرده وهو أن يقول: اقتلوا أهل الحرب،
والآخر: حقيقة فيهم بعد وجود قرينة وهو أن يقول: اقتلوا
المشركين إلا أهل الذمة، ولا يمتنع قبل هذا، ألا ترى أنه إذا
قال: أعطوا فلانا ثوبا أبيض أو أصفر. كان ذلك حقيقة في الثوب
الأصفر بهذا اللفظ. وإذا قال: أعطوا ثوبا ولا تعطوه غير
الأصفر، كان حقيقة فيه عند وجود القرينة، فكذلك هذا.
(2/413)
ويخالف هذا استعمال اسم الحمار في الرجل
البليد، واسم الأسد في الشجاع. لأن ذلك اللفظ يحمل عليه
بالقرينة الدالة عليه، لا بمجرد اللفظ، فإن القرينة تدل على
المراد باللفظ وهي مماثلة له في الحكم، فهي دالة على ما أريد
به. فكان اللفظ مستعملا فيه بالقرينة فكان مجازا. وليس كذلك
استعمال لفظ العموم في الخصوص فإن القرينة ما بينت المراد
باللفظ. وإنما بينت ما ليس بمراد فكان استعمال اللفظ في المراد
بنفسه لا بالقرينة، فإنه لا يجوز أن يكون مستعملا بالقرينة،
والقرينة مضادة له، فكان ذلك حقيقة فيما استعمل فيه لا مجازا.
قال: ودلالة ثانية على من سوى بين القرينة المتصلة والمنفصلة
يعني يجعل الجميع مجازا، لأنه لا فرق عند أهل اللغة بين أن
يقول القائل: لفلان علي خمسة دراهم، وبين قوله: عشر إلا خمسة
في أن كلا منهما إقرار بخمسة.
وأما من فرق بين الدليل المنفصل والمتصل، فإنه فصل بينهما بأن
الكلام إذا اتصل بعضه ببعض بني بعضه على بعض، فكان ذلك حقيقة
فيما بقي وإذا انفصل بعضه عن بعض لم يبين فكان مجازا فيه، وهذا
غلط، لأنه لا فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة في أن اللفظ
بني عليها ودالة على ما ليس بمراد منه وما بقي يكون ثابتا فيها
باللفظ لا بالقرينة فيختار أن لا يفترق حالهما بوجه انتهى.
مسألة
العام إذا خص فإما أن يخص بمبهم أو معين فإن خص بمبهم كما لو
قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم فلا يحتج به على شيء من
الأفراد، إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج لأن إخراج
المجهول من المعلوم يصيره مجهولا ولهذا لو قال بعتك هذه الصبرة
إلا صاعا منها لا يصح، ومثله في "المنخول" بما لو تمسك في
مسألة الوتر بقوله: افعلوا الخير لأن المستثنى من عموم هذا
الأمر غير معلوم فيكون مجملا.
وهذا قد ادعى، فيه جماعة الاتفاق منهم القاضي أبو بكر، وابن
السمعاني في "القواطع"، والأصفهاني في "شرح المحصول". وقال لم
يذهب أحد إلى أنه حجة إذا كان المخصص مجملا.
قال القاضي: ولا يجوز استعماله إلا في أمر واجب على التراخي
عند من أجاز تأخير بيان العام. ولا يجوز عند من منع ذلك في أمر
على الفور.
قلت: وما ذكروه من الاتفاق ليس بصحيح، فقد حكى ابن برهان في
"الوجيز"
(2/414)
الخلاف في هذه الحالة، وبالغ في تصحيح
العمل به مع الإبهام، واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه
هل هو من المخرج، والأصل عدمه، فيبقى على الأصل، ويعمل به إلى
أن يعلم بالقرينة أن الدليل المخصص معارض للفظ العام، وإنما
يكون معارضا عند العلم به. انتهى. وهو صريح في الإضراب عن
المخصص، والعمل بالعام في جميع أفراده، وهو بعيد. وقد رد
الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل
المخصوص وغيره، ولا قائل به انتهى.
وليس كما قال، فقد حكى الخلاف فيه صاحب "اللباب" من الحنفية
وعبارته: وقيل: إن كان المخصوص مجهولا لم يثبت به الخصوص أصلا،
بل يبقى النص عاما كما كان. كذا حكاه أبو زيد في التقويم.
وممن حكى الخلاف أبو الحسين بن القطان. فقال في كتابه: الخطاب
إذا علم خصوصه، ولم يعلم مما يخصه كيف يعمل به؟ ذهب بعض
أصحابنا إلى إحالة هذا. وقال: إن البيان لا يتأخر، وهذا يؤدي
إلى تأخيره إن أجزناه.
وقال بعضهم: يجوز ذلك، ويعتقد فيه العموم إلا موضعا خص منه غير
أنه إذا جاء ما يشتمل عليه العموم أمضاه، لأنه لو كان فيه خصوص
لخصه الله تعالى وبينه، لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة.
ومنهم من قال: أقف في هذا، لأني قد علمت أنه مخصوص. ولعل الحكم
الذي حكم من حيز الخصوص كما لو علم في الآية نسخا، فلا يجوز أن
يجريه على الأصل، لجواز النسخ. فكذلك التخصيص. انتهى.
وكذلك حكاه الحنفية في كتبهم، منهم أبو زيد الدبوسي، وشمس
الأئمة السرخسي1، وغيرهما، فقالوا: إذا خص وجب الوقف فيه إلى
البيان، سواء خص بمجهول أو معلوم، لأنه عند التخصيص يصير مجازا
في البعض، وذلك البعض مجهول فلم يبق حجة. ونقل عن بعضهم أنه إن
خص بمجهول لم يثبت التخصيص، ثم قال: والذي ثبت عندي من مذهب
المتقدمين أنه باق على عمومه بعد التخصيص، سواء خص بمجهول أو
معلوم، لكن دلالته على أفراده تبقى ظنية، وعليه جمهور العلماء.
وقال صاحب "اللباب": ذهب عامة أصحابنا، وأصحاب الشافعي إلى أن
يبقى
ـــــــ
1 انظر أصول السرخسي "1/144"
(2/415)
عاما فيما وراء التخصيص، ويصح التعلق به،
سواء كان المخصص معلوما أو مجهولا، ولكنه موجب للعمل لا للعلم،
بخلاف ما قبل التخصيص عندنا، فإنه قطعي.
وقيل: إن كان المخصص معلوما صح التعلق به، وإلا فلا. وقال
الكرخي، وأبو عبد الله الجرجاني: لا يبقى للباقي عموم، ولا يصح
التعلق به، ولكن إذا كان معلوما يبقى موجبا للعلم والعمل، أو
مجهولا لا يوجبهما; بل يوقف على دليل آخر. وقيل: إن كان المخصص
مجهولا لم يثبت به الخصوص أصلا، بل يبقى النص عاما كما كان.
انتهى.
وإن خص بمعين كما لو قيل: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة أو
المستأمن، فهل يجوز التعليق به بعد التخصيص؟ اختلفوا فيه على
مذاهب:
أحدها: أنه حجة في الباقي مطلقا، وهو قول معظم الفقهاء،
واختاره الآمدي، والرازي، وابن الحاجب1، وقال أبو الحسين بن
القطان: إنه الأصح. وقال ابن الصباغ في "العدة": إنه قول
أصحابنا.
وقال القفال: لا فرق بين الاستثناء وغيره، ولا بين المتصل
بالخطاب والمنفصل عنه. قال إلكيا الطبري: ولكنه دونه ما لم
يتطرق التخصيص إليه، فيكسبه ضربا من التجوز، ولو رجح "نهيه
عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير2" على
عموم قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً} [الأنعام:145]الآية بأن التخصيص يتطرق إليها لكان
الخمر والقاذورات المحرمة خارجة عنها.
وقال أبو زيد في "التقويم": إنه الذي صح عنده من مذهب السلف.
قال: لكنه غير موجب للعلم قطعا، بخلاف ما قبل التخصيص. وكذا
قال السرخسي3. قال أبو حنيفة: خص هذا العام بالقياس فعرفنا أنه
حجة للعمل، وإن لم يوجب العلم، ونقله عبد الوهاب في "الملخص"
عن أصحابهم والشافعي.
والثاني: أنه ليس بحجة، ونقل عن عيسى بن أبان، وأبي ثور، وحكاه
القفال الشاشي عن أهل العراق، والغزالي عن القدرية، قال: ثم
منهم من يقول: يبقى أقل الجمع، لأنه المتيقن. قال: وكلام
الواقفية في العموم المخصوص أظهر لا محالة، ومرادهم
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب مع العضد "2/108"، والإحكام للآمدي
"2/214".
2 رواه مسلم "3/1534""، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من
الحيوان، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل وكل ذي مخلب
من الطير، برقم "1934"
3 انظر أصول السرخسي "1/144".
(2/416)
أنه يصير مجملا، وينزل منزلة ما إذا كان
المخصص مجهولا، هكذا نقله الشيخ أبو إسحاق، وإلكيا، قال:
وحجتهم أن اللفظ موضع للاستغراق، وإنما يخرج عنه بقرينة،
ومقدار التأثير للقرينة في اللفظ مجهول، فلا يدل عليه فيصير
مجهولا.
قال: وهو متجه جدا، وغاية ما يرد عليه بأمرين:
أحدهما: أن الصحابة والتابعين علموا بما تطرق إليه التخصيص من
العموم. وله أن يجيب بأنهم نقلوه من القرائن التي شاهدوها
وألفوها، وكانوا بمرأى من الرسول، ومسمع من الوحي.
الثاني: أن صيغة العموم ليست نصا في الاستغراق لاحتمال إرادة
الخصوص، وإجراء اللفظ على غالب المسميات من غير قرينة تخطر
بالبال. نعم، إن كان مضمون التخصيص استثناء ما لا يشذ عن الذهن
عند إطلاق اللفظ، فيتجه ما قاله عيسى بن أبان، ثم قضيته أنه لا
يجوز التخصيص إلا بما يجوز النسخ به بأنه إسقاط أمر اللفظ
العام والممكن في الجواب عنه أن القدر الذي ظهر من القرينة
أمرنا باتباعه، ولا يقدر وراءه قرينة هي غائبة عنا فإن ذلك
يلزم مثله في العموم الذي لم يتناوله تخصيص إجماعا لإمكان أنه
بناه على سؤال، وقرينة حال. ا هـ.
وقال الصيرفي: القائل بهذا، إن كان ممن ينكر العموم، فقد
أثبتناه، وإن كان ممن يثبته فمن نفس قوله يسقط قوله هذا، لأنه
توقف عما بقي لأن البعض خص، وما لم يخص داخل، ولم يمتنع فيما
جاء عاما لإمكان خصوصه، فلا يحكم به، حتى يعلم أنه لم يخص.
وقال إمام الحرمين1، وابن القشيري: ذهب كثير من الفقهاء
الشافعية، والمالكية، والحنفية والجبائي وابنه إلى أن الصيغة
الموضوعة إذا خصت صارت مجملة، ولا يجوز الاستدلال بها في بقية
المسميات إلا بدليل كسائر المجازات، وإليه مال عيسى بن أبان.
وقال المقترح: هذا المذهب يعتبر على وجهين: أحدهما: أن اللفظ
موضوع للكل بما هو كل، ويندرج تحته كل واحد، فإذا تبين
بالتخصيص أن الكل ليس مرادا بقي اللفظ مجملا، لا أن يراد به
البعض دون البعض وليس بعضه أولى من بعض، فكان مجملا.
ـــــــ
1 انظر البرهان "1/410".
(2/417)
والثاني: أنه متناول لكل واحد بصفة الظهور،
فإذا ورد التخصيص، تبين أن الشمول ليس مرادا، فيبقى اللفظ
مجملا، فيكتسب الإجمال.
والثالث: إن خص بمتصل كالشرط والاستثناء والصفة فهو حجة فيما
بقي، وإن خص بمنفصل فلا; بل يصير مجملا. وحكاه الأستاذ أبو
منصور عن الكرخي، ومحمد بن شجاع البلخي، وكذا حكاه صاحب
"المعتمد" عن الكرخي.
وقال أبو بكر الرازي في أصوله: كان شيخنا أبو الحسن الكرخي
يقول في العام: إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ، وصار حكمه
موقوفا على دلالة أخرى من غيره، فيكون بمنزلة اللفظ، وكان يفرق
بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ،
فيقول: إن الاستثناء غير مانع من بقاء اللفظ فيما عدا
المستثنى، لأن الاستثناء لا يجعل اللفظ مجازا فكان يقول: هذا
بديهي، ولا أقدر أعزيه إلى أصحابنا، وإليه ذهب محمد بن شجاع.
والرابع: أن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعليقه
بظاهره، جاز التعليق به كما في قوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، لأن قيام الدلالة على المنع من
قتل أهل الذمة، لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم
المشركين، وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام، ويوجب
تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة:38] لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز، وكون
المسروق لا شبهة فيه للسارق يمنع من تعلق الحكم، وهو القطع
بعموم اسم السارق، ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ،
وهو قول أبي عبد الله تلميذ الكرخي.
والخامس: إن كان لا يتوقف على البيان كالمشركين فهو حجة، وإلا
فلا، كأقيموا الصلاة، فيتوقف العمل على بيان التخصيص، وهو
إخراج الحائض، وهذا قول عبد الجبار.
والسادس: أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع، لأنه المتعين، ولا
يجوز فيما زاد عليه. حكاه القاضي، والغزالي، وابن القشيري،
وقال: إنه تحكم وقال الصفي الهندي: لعله قول من لا يجوز
التخصيص إليه، وحكي في "المنخول" عن أبي هاشم أنه يتمسك به في
واحد، ولا يتمسك به جمعا. والسابع: الوقف، فلا نقول: خاص أو
عام إلا بدليل. حكاه أبو الحسين بن القطان، وجعله مغايرا لقول
عيسى بن أبان، ونقل عنه أن الباقي على الخصوص.
(2/418)
تنبيهات
الأول: محل قولنا يجوز التمسك به إنما هو في العام المخصوص،
أما الذي أريد به الخصوص فلا يصح الاحتجاج بظاهره. قاله الشيخ
أبو حامد الإسفراييني في كتاب البيع من "تعليقه" وفيه ما يدل
على أن أبا علي بن أبي هريرة قاله أيضا.
الثاني: حيث قلنا: إنه مجمل، قال الشيخ أبو حامد: واختلف
أصحابنا: هل هو مجمل من حيث اللفظ والمعنى، لأنه لا يعقل
المراد من ظاهره إلا بقرينة، أو مجمل من حيث المعنى دون اللفظ؟
وجهان: قال: والأكثرون على الثاني، لأن افتقار المجمل إلى
القرينة من جهة التعريف بما هو مراد به كقوله تعالى: {وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وافتقار العام الذي
أريد به الخصوص إلى القرينة من جهة أن يعرف بها ما ليس بمراد
به.
الثالث: أن الخلاف هنا مبني على التي قبلها، فمن قال: إنه مجاز
لا يجوز التعلق به. ومن قال: إنه حقيقة جوزه، وأما من قال: إنه
مجاز، ثم أجاز التعلق به يعني كالقاضي صار الخلاف معه لفظيا.
كذا أشار إليه الشيخ أبو حامد وغيره.
وذكر صاحب "الميزان" من الحنفية أن هذه المسألة مفرعة على أن
دلالة العام على أفراده قطعية أو ظنية؟ فمن قال: قطعية جعل
الذي خص كالذي لم يخص وإلا فلا. وفيه نظر. وقال غيره: ينبني
على أن اللفظ العام إذا ورد: هل يتناول الجنس أو لا، وتندرج
الآحاد تحته ضرورة اشتماله عليه، أو يتناول الآحاد واحدا
واحدا، حتى يستغرق الجنس؟ فالمعتزلة قالوا بالأول، وهو عند
الإطلاق يظهر عمومه. فإذا تخصص تبين أنه لم يرد العموم، وعند
إرادة عدم العموم ليس بعض أولى من بعض، فيكون مجملا.
(2/419)
|