البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل: في المخصص
تعريفه:
قد اختلف فيه على قولين، حكاهما القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، وابن برهان في "الوجيز"
أحدهما: أنه إرادة المتكلم تعريف بعض ما يتناوله الخطاب، والدليل حظه أن يكشف عن أن العموم مخصوص، لأن التخصيص وقع به. وهذا ما صححه ابن برهان، وفخر الدين الرازي وغيرهما.
والثاني: أنه الدليل على الإرادة.
وقال في "المحصول": المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم، لأنها المؤثرة، وتطلق على الدال على الإرادة مجازا، وقال أبو الحسين في "المعتمد": العام يصير عندنا خاصا بالأدلة، ويصير خاصا في نفس الأمر بإرادة المتكلم
والحق أن المخصص حقيقة هو المتكلم، لكن لما كان المتكلم يخصص بالإرادة أسند التخصيص إلى إرادته، فجعلت الإرادة مخصصة، ثم جعل ما دل على إرادته وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصا في الاصطلاح، والمراد هنا إنما هو الدليل، فنقول: المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه فهو المنفصل، وإما ألا يستقل، بل يتعلق معناه باللفظ الذي قبله، فالمتصل.

(2/420)


أقسامه:
وقسمه الجمهور إلى أربعة: الاستثناء والشرط والصفة، والغاية. وزاد ابن الحاجب، والقرافي: بدل البعض من الكل، ونازع الأصفهاني فيه، لأنه في نية طرح ما قبله. وقال القرافي1 وقد وجدته بالاستقراء اثني عشر: هذه الخمسة، وسبعة أخرى، وهي: الحال، وظرف الزمان، وظرف المكان، والمجرور، والتمييز، والمفعول معه، والمفعول لأجله. فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه، ومتى اتصل بما يستقل
ـــــــ
1 انظر شرح تنقيح الفصول ص"202".

(2/420)


بنفسه عموما كان أو غيره صار غير مستقل بنفسه.
ويشهد لما قال في الحال حكاية سيبويه عن الخليل: أنك إذا قلت: مررت بالقوم خمستهم بالنصب كان المعنى حصر الممرور في خمسة منهم، فلا يجوز أن يكون الممرور به ستة، وإذا رفعت الخمسة، جاز أن يكون الممرور به أكثر.

(2/421)


الأول: الاستثناء
وهو لغة: بمعنى العطف والعود، كقولهم: ثنيت الحبل إذا عطفت بعضه على بعض. وقيل: بمعنى الصرف والصد من قولهم: ثنيت فلانا عن رأيه، وقال ابن فارس: لأنه قد ثنى ذكره مرة في الجملة، ومرة في التفصيل.
واصطلاحا: الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها من متكلم واحد، ليخرج ما لو قال الله سبحانه: {اقتلوا المشركين} ، فقال عليه السلام: إلا زيدا، فإنه لا يسمى استثناء كما قاله القاضي، وسيأتي.
والأولى أن يقال: الحكم بإخراج الثاني من الحكم الأول بواسطة موضوعة لذلك، فقولنا: الحكم جنس، لأن الاستثناء حكم من أحكام اللفظ، فيشمل المتصل والمنقطع، وخرج بالوسائط الموضوعة له نحو: قام القوم، وأستثني زيدا، وخرجوا ولم يخرج زيد.
تنبيه
الإخراج إنما يأتي على قول من يجعله عاملا بطريق المعارضة، إذ الإخراج لا يتحقق إلا بعد الدخول، وأما على قول من يجعله مبنيا فلا إخراج عنه، كما سنبينه.
وحده ابن عمرون من النحاة بأن ينفي عن الثاني ما يثبت لغيره بإلا أو كلمة تقوم مقامها، فيشمل أنواع الاستثناء: من متصل، ومنقطع، ومفرد، وجملة، وتام، ومفرغ، وخرج الوصف بإلا أو غيرها، وذكر ابن الحاجب أن المتصل والمنقطع يمكن تحديده بحد واحد على القول بالاشتراك والمجاز، لتغاير حقيقتهما، إذ الأول حقيقة، والثاني مجاز. وجمعهما ابن مالك في حد واحد، فقال: تحقيقا أو تقديرا، وقد يقال: هو في قوة حدين.
وذكر إمام الحرمين في باب الإقرار من "النهاية" أن الفقهاء يسمون تعليق الألفاظ بمشيئة الله استثناء في مثل قول القائل: أنت طالق، وأنت حر إن شاء الله.

(2/421)


وفي "المحيط" للحنفية يسمى الاستثناء بإلا وأخواتها استثناء التحصيل، وبمشيئة الله استثناء التعطيل.
قال الخفاف: الاستثناء ضد التوكيد، يثبت المجاز ويحققه، وصرح النحاة بأن اللفظ قبل الاستثناء يحتمل المجاز، فإذا جاء الاستثناء رفع المجاز وقرره، فاللفظ قبل الاستثناء ظني، وبعده قطعي، وهذا معاكس لقول الحنفية، فإنهم عدوا الاستثناء من المخصصات، وعندهم أن العام قبل التخصيص قطعي، وبعده ظني.
قيل:ولا منافاة بينهما، لأن احتمال التجوز قبل التخصيص ثابت، وبعد التخصيص كذلك، إلا أن الاستثناء يقرر المجاز في إخراج شيء، ويحقق أن المراد ما بقي تحقيقا ظاهرا لا يخالف ما لم تأت قرينة، كما قبل الاستثناء، إلا أن القرينة قبله يشترط فيها القوة
وهل الإخراج من الاسم أو الحكم أو منهما؟ أقوال، أصحها الثالث، وهو مذهب سيبويه، وهل هو إخراج من اللفظ ما لولاه لوجب دخوله أو لجاز؟ فيه قولان، رجح سليم في "التقريب" الأول. قال: وإلا لم يفترق الحال بين الاستثناء من الجنس وغيره، فلما فرق بينهما، وجعل من الجنس حقيقة ومن غيره مجازا، ثبت ما قلناه.
مسألة
الاستثناء لا يصح إلا من مستثنى منه عام أو من عدد شائع، فالأول نحو: قام القوم إلا زيدا قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:31] والثاني كقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14]، ولهذا صح: على عشرة إلا درهما، لشيوع الخمسين في مطلق الألف، والألف غير معينة بزمن مخصوص، وشيوع العشرة في مطلق العدد.
ومثله: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، فإن ثلاثا نكرة شائعة تقع على الطلاق المحرم، والمكروه، والمباح. قاله الموفق حمزة الحموي، وسنعيد الخلاف في العدد
مسألة
يجوز الاستثناء من الجنس بلا خلاف كقام القوم إلا زيدا، وهو المتصل، ومن غير الجنس على الأصح وهو المنقطع، ويعبر عنه بالمنفصل، نحو: إلا حمارا، وأفسد

(2/422)


تعريف المتصل بقولنا: ما جاءني أحد إلا زيد لمن يعلم أن زيدا لم يدخل تحت أحد، فهو منقطع، وإن كان من جنس الأول; فالأحسن أن يقال: المتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني، نحو: جاء القوم إلا زيدا، والمنقطع ما لا يتناول اللفظ الأول فيه الثاني، أو نقول: المتصل ما كان المستثنى جزءا من المستثنى منه، والمنقطع ما لا يكون. قال ابن سراج: ولا بد في المنقطع أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى مما قبله بأنه معرفة، وأوضحه ابن مالك، فقال: لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول، كقولك: قام القوم إلا حمارا، فإنه بذكر القوم يتبادر الذهن لأتباعهم المألوفات، فذكر إلا حمارا لذلك، فهو مستثنى تقديرا، وكذا قال أبو بكر الصيرفي: يجوز الاستثناء من غير الجنس، ولكن بشرط، وهو أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما، وإلا لم يجز، كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فاليعافير قد تؤانس، فكأنه قال: ليس بها من يؤنس به إلا هذا النوع. والحاصل: أن المنقطع يكون مستثنى من مقدار، أو من مفهوم لفظ لا من منطوقه. وإنما يجوز الاستثناء من غير الجنس غالبا إذا تشارك الجنسان في معنى أعم، كما في السلام واللغو المتشاركين في أصل القول في قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً} [الواقعة:26]، وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] لاشتراكهما في الرجحان.
ثم الكلام فيه في مواطن:
الأول: في أنه هل وقع في اللغة؟ فمنهم من أنكره، وتأوله تأولا رده به إلى الجنس، وحينئذ فلا خلاف في المعنى.
الثاني: أنكر بعضهم وقوعه في القرآن، والصواب وقوعه قال ابن عطية: لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي.
الثالث: اختلف في صحته في المخاطبات في العادات، وقد اختلفت طرق أصحابنا فيه. فقال القاضي أبو القاسم بن كج في كتابه في الأصول: الاستثناء من غير الجنس، ذهب بعض أصحابنا إلى جوازه وأبى ذلك عامة أصحابنا، فأما من جوزه فقد استدل بأن الشافعي قال: لو قال: له علي ألف إلا عبدا قبل منه، وأيضا فإنه ورد به القرآن: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:31] ودليلنا: أن

(2/423)


الاستثناء شرطه أن يخرج من دخل تحت الاسم، غير الجنس لم يدخل فيه. والجواب عن الآية بأن إبليس دخل تحت الأمر، فرجع الاستثناء إليه، لأنه قد كان أضمر فيه. وتأول قوم قول الشافعي فإنما قبل ثمة لأنه يرجع إلى بيانه، لأنه اقتضى الإطلاق، والمعنى إلا من ثمن عبد. انتهى.
وكذا قال أبو الحسين بن القطان في كتابه قال: وتمسك المجوز بقول الشافعي في كتاب "الإقرار": لو قال: له علي ألف درهم إلا عبدا، فقد استثنى العبد من الدراهم، وليس العبد من جنسها. قال: وهذا ليس بشيء، لأن معناه إلا قيمة العبد، وهو كذا وكذا درهما، فدل على أنه أجراه مجرى الاستثناء من الجنس.
قال: وأما قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:31]مع أنه ليس من الملائكة، فالمراد في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة:34] أي الملائكة وإبليس، فحذف، فالاستثناء راجع إلى المضمر، لأنه لا يجوز أن يدخل في الأمر من لم يذكر فيه.
قال: وذهب بعض أصحابنا على جواز الاستثناء من غير الجنس بدليل، فأما عند الإطلاق فلا. وممن اختار المنع من أصحابنا إلكيا الطبري، وابن برهان في "الأوسط"، ونقله الأستاذ أبو منصور، وابن القشيري عن الحنفية، والأستاذ ابن داود، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد.
الطريقة الثانية: القطع بصحته في الإقرار، والخلاف فيما عداه، وهي طريقة الماوردي قال: لا يختلف أصحابنا في صحته في الإقرار، واختلفوا في غير الإقرار على وجهين.
والثالثة: وهي طريقة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، نقل الاتفاق على صحة الاستثناء من غير الجنس. قال: ويعتبر فيه القيمة دون العدد في الصحة والفساد، فإذا قال: له علي عشرة دراهم إلا ألفا جوزه نظرا إلى قيمة المستثنى، فإن كانت عشرة فما زاد بطل الاستثناء، وإن كانت دونها صح، وألزم ما بقي، ولهذا أنكر إلكيا الطبري الخلاف فيه، وقال:لم يستعمل اللغويون، وإنما الخلاف في كونه حقيقة أو مجازا.
وكذا قال ابن القشيري، قال: وحقيقة المسألة أن الاستثناء إذا انطوى على التعرض بما ينبئ عنه المستثنى منه جنسا، فهو الاستثناء الحقيقي، كقولك: رأيت الناس إلا زيدا. قال: وقد ترد صيغة الاستثناء مع اختلاف الجنس بلا خلاف، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:31] والأصح أنه لم يكن من

(2/424)


الملائكة. وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء:92] والخطأ لا يندرج تحت التكليف، قال: وهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في أنه هل يسمى هذا الجنس استثناء على الحقيقة أو لا، والأظهر المنع.
وأما قول الشافعي يجوز أن يقول: له علي ألف درهم إلا ثوبا، فهو على التحقيق استثناء الشيء من جنسه، لأن المعنى إلا قيمة ثوب. وأبو حنيفة وإن أنكر هذا فقد جوز استثناء المكيل من المكيل مع اختلاف الجنس، واستثناء الموزون من الهيكل. ا هـ.
وهذا كله يدل على أنه جائز اتفاقا، وإنما الخلاف في أنه هل يسمى استثناء حقيقة أو مجازا، وعبارة بعضهم تقتضي أن الخلاف في الجواز، ومنهم الآمدي في "الإحكام" فقال: ذهبت الحنفية والمالكية وغيرهم إلى صحة الاستثناء من غير الجنس، ومنعه الأكثرون، واختار التوقف، وظاهره أن المانع لا يسمى ما ورد من ذلك استثناء، بل يجعل إلا بمعنى لكن، وسيأتي في كلام الماوردي ما يقتضيه.
وحكى المازري في التعليقة ثلاثة مذاهب:
أحدها: صحته، والاعتداد به مطلقا، وعزاه للشافعي ومالك.
والثاني: عدم الاعتداد به، وعزاه لمحمد بن الحسن.
والثالث: إن قدر بفرد نحو قوله: له علي مائة درهم إلا مائة معينة اعتد به، ويسقط مقداره من الجملة الأولى، وكذلك إذا قدر بوزن أو كيل، فإن من لا يقدر بشيء من ذلك لم يعتد به ولزمت الجملة الأولى. قال وهو قول أبي حنيفة حكاه عنه ابن الحكم. انتهى.
وقال ابن الحاج في تعليقه على "المستصفى": الاستثناء المنقطع منعه قوم من جهة الغرض بالاستثناء، وأجازه الأكثرون من جهة وجوده في كلام العرب، والمجوزون لم يقدروا أن يدفعوا وجوده في كلام العرب، والمانعون لم يقطعوا الجهة التي يصح بها المنقطع على وضع الاستثناء.
قال: وقد حل هذا الشك القاضي أبو الوليد بن رشد فقال: إن من عادة العرب إبدال الجزئي مكان الكلي، كما يبدل الكلي مكان الجزئي اتكالا على القرائن والعرف، مثلا إذا قال: ما في الدار رجل أمكن أن يكون هناك قرينة تفهم ما سواه،

(2/425)


فلذلك يستثنى، ويقول: إلا امرأة، وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء كله متصلا، إلا أن الاتصال منه في اللفظ والمعنى، ومنه في المعنى خاصة. قال: وإذا تصفح الاستثناء المنقطع وجد على ما قاله، وقد انفرد بحل هذا الشك.
قال ابن الخشاب النحوي في كتاب "العوني": أنكر بعضهم الاستثناء من غير الجنس، وتأولوا تأولا به إلى الذي من الجنس، وحينئذ فلا خلاف. قال: لكن النحاة قدروه بلكن، وهو غير مشابه لما اختلف فيه الفقهاء، بل الذي أجازه الفقهاء ينبغي القطع بامتناعه، فإنهم مثلوه بنحو: له عشرة إلا ثوبا، وهذا فاسد من جهة اللفظ والمعنى. أما اللفظ: فإن اللغة لا تستعمل هذا الضرب من الاستثناء في المثبت إنما تستعمله في المنفي، وأما المعنى فمستحيل، لأن الاستثناء في الأصل إنما جيء به مقابلا للتأكيد. فإنما قلت: جاء القوم كلهم إلا زيدا، حققت بالاستثناء الإشكال في عموم المجيء لهم، وأنه لم يتخلف منهم من لم يجئ، فإذا قلت: جاء القوم إلا زيدا حققت بالاستثناء البعض لهم. ولهذا لا يصح تصوره في: له علي عشرة إلا ثوبا، فإن قال: المعنى إلا ثوبا وأكثر لزمه العشرة، فأين الاستثناء من غير الجنس.
قلت: وقوله: في الأول: لا يجوز في الإثبات ممنوع، بل جمهور النحويين سوغوه فيه
الرابع: القائلون بالجواز اختلفوا في تسميته استثناء على مذاهب ثلاثة:
أحدها: أنه يسمى استثناء حقيقة، واختاره القاضي أبو بكر، ونقله ابن الخباز عن ابن جني، وقال الإمام: هو ظاهر من كلام النحويين، وعلى هذا فإطلاق الاستثناء على المتصل والمنقطع هل هو بالاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ قولان.
والثاني: أنه مجاز، وعليه الأكثرون، منهم القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في "العدة"، وابن الأنباري في "شرح البرهان"، وسليم في "التقريب"، وإمام الحرمين، والغزالي، وابن القشيري ; لأنه ليس فيه معنى الاستثناء، وليس في اللغة ما يدل على تسميته، واختاره الرماني من النحويين في "شرح الموجز". وقال ابن أبي الربيع في "شرح الإيضاح": ذهب أكثر الناس إلى أن الاستثناء المتصل هو الأصل، والمنقطع اتساع، ومنهم من قال: كلاهما أصل. انتهى.
والثالث: أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازا، حكاه القاضي في "التقريب" والمازري، وحكى القاضي قولا آخر أنه بمعنى كلام مبدأ مستأنف. وقال: قول من قال: منقطع حقيقة، ومن قال: كلام مبتدأ واحد في المعنى،

(2/426)


وإنما اختلفت العبارة، ثم قال القاضي والمازري: الخلاف لفظي قلت: بل هو معنوي، فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به، وإلا فلا، وأيضا هو مبني على أن الاستثناء ما لولاه لوجب دخوله، أو لجاز دخوله.
واحتج في "المحصول" على أنه ليس بحقيقة، بأنه لا يصح من اللفظ إذ لم يتناوله اللفظ، فلا حاجة به إلى صارف عنه، ولا من المعنى وإلا صح استثناء كل شيء من كل شيء; لوجوب اشتراك كل شيئين في معنى لو حمل اللفظ عليه جاز الاستثناء منه.
وحكى ابن السمعاني في "القواطع" الخلاف على نمط آخر، فقال: اختلفوا في الاستثناء من غير الجنس على ثلاثة مذاهب:
وأحدها: أنه ممنوع من طريق اللفظ والمعنى، وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، وجعلوه لغوا.
والثاني: يجوز لفظا ومعنى.
الثالث: يصح من طريق المعنى دون اللفظ. قال: وهو الأولى بمذهب الشافعي، وهو قول المحققين من الأصحاب، ولهذا لو قال: لفلان علي ألف درهم إلا دينارا، أو مائة دينار إلا ثوبا، يكون مثبتا للدينار والثوب بالتقدير.
قال: وأما إذا استثنى من زيد وجهه. أو من الدار بابها، فاختلف الأصحاب في أنه استثناء الشيء من جنسه، أو من غير جنسه، والصحيح أنه من جنسه، لأن وجه زيد جزء منه. انتهى.
قيل: وهذا الخلاف غريب، وقد جزم الأصحاب بدخول باب الدار في بيعها، ولم يحكوا خلافا.
قلت: يؤخذ من "المستصفى" الخلاف، فإنه جزم بأنه من غير الجنس، وشرط هو قبل ذلك كونه من الجنس.
قال: لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب، ولا اسم زيد على وجهه، بخلاف قوله: مائة ثوب إلا ثوبا. قال: وعلى هذا قال قوم: ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس، وشرط هو قبل ذلك كونه من الجنس، فجاء الخلاف المذكور، ويجيء على الثاني قوله: عشرة إلا درهما، فمنهم من ألحقه بقولك: رأيت زيدا إلا يده، ومنهم من ألحقه باسم الجملة، وهو قوله: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة، أو إلا زيدا، وهو الأشبه فيه.
وأما الخلاف الأول، فذكره الماوردي في "الحاوي" إذ قال: فإن عاد إلى غير

(2/427)


جنسه صح عند الشافعي في المعنى دون اللفظ، وأجازه قوم في اللفظ والمعنى، وأبطله قوم فيهما.
وقال الطبري في "العدة" في باب الإقرار: إذا جاز الاستثناء من غير الجنس فاختلف أصحابنا: هل هو استثناء من المعنى، أو من اللفظ على وجهين:
أحدهما: من المعنى، فإذا قال له علي مائة دينار إلا مائة درهم، فكأنه استثنى من قيمة الدنانير مائة درهم.
والثاني: من اللفظ، وظاهر القرآن يشهد لهذا. انتهى.
تنبيهات
الأول: قال ابن فورك في كتابه "في الأصول": ليس المراد بالجنس هنا ما اصطلح عليه المتكلمون، فإن الجواهر كلها عندهم متجانسة، بل المراد أن يكون اللفظ موضوعا لجنس يستثنى منه بلفظ لم يوضع لذلك الجنس، نحو: مالي ابن إلا بنت، فإن لفظ الابن غير جنس لفظ البنت.
وقال السهروردي: لا نعني بالجنس هنا المنطقي، فإن الثور مجانس للإنسان ومشارك له في الجنس الأقرب، بل نعني به غير المشارك في الدخول تحت المحكوم عليه. قال بعض الحنفية: الأصل كونه من جنسه، ومعنى المجانسة أن لا يقصر المستثنى منه في المستثنى في الفعل الذي ورد عليه الاستثناء سواء كان راجحا عليه أو لا، وكذلك قال محمد في "الجامع الكبير1": لو قال: إن كان في الدار إلا رجل فعبدي حر، فكان في الدار شاة لا يحنث، لقصور الشاة على الآدمي في الكينونة في الدار، لأن كينونة الآدمي، في الدار بطريق الأصالة والاختيار، وكينونة الشاة بطريق القصر والتبعية، ولو قال: إن كان في الدار إلا شاة فعبده حر، فكان فيها آدمي حنث، لقصور الشاة عن الآدمي في الكينونة.
الثاني: ما ذكرناه من كونه الاستثناء مخصصا يشمل المتصل والمنقطع. وقال بعضهم: الاستثناء من غير الجنس لا تخصيص فيه ولا بيان، لأنه لا يخرج من المستثنى شيئا، وإنما هو جملة مستأنفة، فإن زعم الخصم أنه يخصص به، وأنه مع المستثنى جملة واحدة، فذلك اعتراف منه بأنه من الجنس لا من غيره، وهو المطلوب.
ـــــــ
1 انظر الجامع الكبير ص "43".

(2/428)


وقال ابن عطية في تفسير الاستثناء المنقطع يخصص تخصيصا ما، وليس كالمتصل لأن المتصل يخصص من الجنس أو الجملة، والمنقطع يخصص أجنبيا من ذلك. قلت: والتحقيق أن المتصل يخصص المنطوق لأنه مستثنى منه، وأما المنقطع فيخصص المفهوم، لأنه مستثنى منه، فإذا قيل: قام القوم إلا حمارا، فقيل ورود الاستثناء كان يفهم أنه لم يقم غيرهم، فالاستثناء حينئذ من المفهوم المقدر، وحينئذ فإنما يصح جعله مخصصا إذا جعلنا للمفهوم عموما.

(2/429)


مسألة: يشترط لصحة الاستثناء شروط
أحدها: الاتصال بالمستثنى منه لفظا ، بأن يعد الكلام واحدا غير منقطع، نحو له علي عشرة إلا درهما، أو حكما بأن يكون انفصاله وتأخره على وجه لا يدل على أن المتكلم قد استوفى غرضه من الكلام كالسكوت، لانقطاع نفس أو بلع ريق، فإن انفصل لا على هذا الوجه لغا.
ونقل عن ابن عباس أنه جوز الاستثناء المنفصل على نحو ما جوزه من تأخير التخصيص عن العموم والبيان عن المجمل، ثم اختلف عنه، فقيل إلى شهر: وقيل إلى سنة، وقيل: أبدا. ثم منهم من رده، وقال: لم يصح عنه، كإمام الحرمين، والغزالي، بما يلزم منه من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق، لإمكان تراخي الاستثناء، ويلزم منه أن لا يصح يمين قط. ومنهم من أوله، كالقاضي أبي بكر بما إذا نوى الاستثناء متصلا بالكلام، ثم أظهر نيته بعده، فإنه يدين، ومن مذهبه أن ما يدين فيه العبد يقبل ظاهرا.
وقيل: يجوز بشرط أن يقول عند قوله إلا زيدا: أريد الاستثناء، حكاه الغزالي.
وقيل: أراد به استثناءات القرآن، فيجوز في كلام الله خاصة.
وقد قال بعض الفقهاء: إن التأخير فيه غير قادح، قال إمام الحرمين: وإنما حملهم خيال تخيلوه من قول المتكلمين الصائرين إلى أن الكلام الأزلي واحد، وإنما
ـــــــ
انظر البرهان "1/385".

(2/429)


التركيب في جهات الوصول للمخاطبين، لا في كلام رب العالمين
وقال المقترح: هو باطل لأنهم إن أرادوا المعنى القائم بالنفس، فلا يدخله الاستثناء، وكذلك المثبت في اللوح المحفوظ، لأنه إنما نزل بلغة العرب، والعرب لا تجوز الاستثناء المنفصل.
وقال القرافي: المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة، كمن حلف، وقال: إن شاء الله، وليس هو في الإخراج بإلا وأخواتها. قال: ونقل العلماء أن مدركه في ذلك {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قالوا: المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله، فقل بعد ذلك. ولم يخصص.
قلت: وفي "مستدرك الحاكم"، عن ابن عباس قال: إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة، وإنما نزلت هذه الآية {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قال: إذا ذكر استثنى، وقال: صحيح على شرط الشيخين، لكن قال الحافظ أبو موسى المديني: لو صح هذا عنده، لاحتمل رجوعه إذ علم أن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسند ذلك من جهة ابن عباس، وقد ذكرت طرقه عن ابن عباس في المعتبر في تخريج أحاديث "المنهاج" و"المختصر".
وحكى ابن النجار في "تاريخ بغداد" أن أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطرق، وإذا برجل على رأس سلة فيها بقل، وهو يحمل على ثيابه، وهو يقول لآخر معه: مذهب ابن عباس في الاستثناء غير صحيح، إذ لو كان صحيحا لما قال تعالى لأيوب عليه الصلاة والسلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ:44] بل كان يقول له: استثن، ولا حاجة إلى هذا التحيل في البر. قال: فقال أبو إسحاق: بلدة فيها رجل يحمل البقل، وهو يرد على ابن عباس، لا تستحق أن تخرج منها.
ومثله احتجاج بعضهم بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] فلو جاز الاستثناء من غير شرط الاتصال لم يكن لشرع الكفارة وإيجابها معنى، لأنه كان يستثنى.
وقد حكي أن الرشيد استدعى أبا يوسف القاضي وقال له: كيف مذهب ابن عباس في الاستثناء، فقال له أبو يوسف: إن الاستثناء المنفصل يلحق بالخطاب ويغير حكمه، ولو بعد زمان. فقال: عزمت عليك أن تفتي به، ولا تخالفه. وكان أبو يوسف

(2/430)


لطيفا فيما يورده، متأنيا فيما يريده، فقال له: رأي ابن عباس يفسد عليك بيعتك ; لأن من حلف لك، وبايعك رجع إلى منزله، واستثنى. فانتبه الرشيد، وقال: إياك أن تعرف الناس مذهب ابن عباس، فاكتمه.
وقال ابن ظفر في الينبوع: إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها.
وتحقيقها أنه لا يخلو الحالف التارك للاستثناء من أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون نوى الجزم، وترك الاستثناء، فما أظن الخلاف يقع في مثل هذا. أو يكون نوى أن يستثني، ولم ينطق بالاستثناء، ثم ذكر فتلفظ به، فلا يحسن أن يعد استثناؤه لغوا. وإما أن يكون ذاهلا عن الأمرين معا، فهذه الصورة صالحة للاختلاف، ولا يظهر فيها قول من صحح الاستثناء، لأن الآية لا تشهد له من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف، ولا تضمنت الآية ذكر يمين. انتهى.
واعلم أن سبب الخلاف في هذه المسألة: أن الاستثناء هل هو حال لليمين بعد انعقادها، أو مانع من الانعقاد لا حال؟ فمن قال: مانع شرط الاتصال. واختلف القائلون بأنه حال، فقيل: بالقرب، وقيل: مطلقا من غير تأقيت بالقرب. وفي الباب قوله عليه السلام: "إلا الإذخر1" . وحديث سليمان لما قال: "لأطوفن2" الحديث، "وقوله عليه السلام في صلح الحديبية: إلا سهل بن بيضاء3" .
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب العلم، باب: كتابة العلم، برقم "112". ورواه مسلم "2/986"، كتاب الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، برقم "1353"
2 بشير إلى الحديث الذي رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ} ، برقم "3424" بإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال:سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئا إلا واحدا" ساقطا أحد شقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قالها لجاهدوا في سبيل الله".
3 الحديث أورده المباركفوري في تحفة الأحوذي "5/305" في شرح حديث "1714"، وقال: أورده الترمذي مختصرا، وأورده البغوي مطولا عن عبد الله بن مسعود بلفظ "لما كان يوم بدر وجيء بالأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستعن بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ومكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ومكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هولاء أئمة الكفر.... وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: اليوم أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق، قال عبد الله بن مسعود:إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء..... الحديث.

(2/431)


الشرط الثاني: عدم الاستغراق، وإلا لتناقض، فالاستثناء المستغرق باطل، ويبقى أصل الكلام على حاله، حكوا فيه الإجماع، وفي هذا الإطلاق والنقل نزاع في المذاهب. أما المالكية فقد رأيت في كتاب "المدخل" لابن طلحة من المالكية حكاية قولين عندهم في: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، وقد حكاه القرافي أيضا عنه، ونقل اللخمي من المالكية عن بعضهم في أنت طالق واحدة إلا واحدة لا يلزمه طلاق، لأن الندم منتف بإمكان الرجعة، بخلاف أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، لظهور الندم.
وأما الحنفية فقيدوا البطلان بما إذا كان الاستثناء بعين ذلك اللفظ، نحو: نسائي طوالق إلا نسائي. أو أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي، فإن كان بغيره صح، وإن كان مستغرقا في الواقع نحو: نسائي طوالق إلا هؤلاء، وأشار إليهن، وأوصيت له بثلث مالي، إلا ألف درهم، وهو ثلث ماله. كذا ذكره صاحب "الهداية" في الباب الأول من الزيادات، ووجهوه بأن الاستثناء تصرف لفظي مبني على صحة اللفظ لا على صحة الحكم، ألا ترى أنه لو قال أنت طالق عشر طلقات إلا ثماني طلقات، تقع طلقتان، ويصح الاستثناء، وإن كانت العشرة لا صحة لها من حيث الحكم، ومع هذا لا يجعل كأنه قال: أنت طالق ثلاثا، ويلغى ما بعده من الاستثناء، لما ذكرنا أن صحة الاستثناء تتبع صحة اللفظ دون الحكم. وتحقيقه أن الاستثناء متى وقع بغير اللفظ الأول فهو يصلح لإخراج ما تناوله صدر الكلام، وإنما امتنع لعدم ملكه، لا لأمر يرجع إلى ذات اللفظ، ومتصور أن يدخل في ملكه أكثر من هذه النسوة بخلاف ما إذا وقع الاستثناء بعين ذلك اللفظ، فإنه لا يصلح لإخراج بعض ما تناوله، فلم يصح اللفظ، فلم يصح الاستثناء
وأما عندنا أي الشافعية فهذا مالم يعقبه باستثناء آخر، فلو عقبه باستثناء آخر، نحو: له علي عشرة إلا عشرة، إلا ثلاثة، فقيل: يلزمه عشرة، لأن الاستثناء الأول لم يصح، فلا يجوز الاستثناء منه، وقيل: يلزمه ثلاثة، وقيل: سبعة، والأول لا يصح، وسقط من البين. وأما إذا كان زائدا على المستثنى منه، فالمنع منه أولى. وعن الفراء جوازه في المنقطع، نحو: له علي ألف إلا ألفين، لأنه مستثنى من المفهوم
وفي كتب الحنفية إنما لا يصح استثناء الكل من الكل لفظا كما لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، أما حالا وحكما فيصح كقوله: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة، وليس له امرأة سواهن، فيصح الاستثناء ولا تطلق واحدة منهن، ولو قال: أنت طالق أربعا إلا ثلاثة صح الاستثناء، وتقع واحدة

(2/432)


ثم إما أن يستثنى الأقل أو الأكثر أو المساوي:
أما استثناء القليل من الكثير فجائز، وحكى بعضهم فيه الإجماع، وقال المازري في "شرح البرهان" إن كان ليس بواحد فلا خلاف في جوازه، نحو: له علي عشرة إلا حبة، أو إلا سدسا. وإن كان جزءا صحيحا كالواحد، والثلث فالمشهور جوازه. ومنهم من استهجنه، وقال: الأحسن في الخطاب أن يقول: له عندي تسعة، ولا يقول عشرة، إلا واحدا.
وقال في "شرح التلقين" عن قوم: إنهم شذوا، فقالوا: لا يجوز إلا لضرورة إليه، كاستثناء الكسور، كقوله: له عندي مائة درهم إلا ربع درهم، أو إلا نصف درهم، وقالوا: قولك: مائة درهم إلا عشرة، يعني له عندي تسعون، فنقض عليهم بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] وفي هذا استثناء الأقل من الأكثر من غير أن يكون كسرا في العدد، فأجابوا بأنه في معنى الكسر، لأن التجزئة المقترحة من النصف إلى العشر، وهذا كالكسر لأن الخمسين من الألف كنصف العشر، فصار في معنى استثناء الكسر وهذا مردود عند العلماء، وتكلف فيه لا حاجة إليه.

(2/433)


وأما استثناء الأكثر ففيه قولان للنحاة:
أحدهما: يمتنع، وعليه الزجاج، وقال: ولم ترد به اللغة، ولأن الشيء إذا نقص يسيرا لم يزل عنه اسم ذلك الشيء، فلو استثنى أكثر لزال الاسم.
وقال ابن جني: لو قال: له عندي مائة إلا سبعة وتسعين، ما كان متكلما بالعربية، وكان عبثا من القول.
وقال ابن قتيبة في كتاب "المسائل": لا يجري في اللغة، لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته، ثم تداركته بالاستثناء، ولأن الشيء قد ينقص نقصانا يسيرا، فلا يزول عنه اسم الشيء، وأما مع الكثرة فيزول.
وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب البصريين من النحاة، وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم، وأجازه أكثر الأصوليين، نحو: له عندي عشرة إلا تسعة. فيلزمه درهم. وهو قول السيرافي، وأبي عبيد من النحاة محتجين بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] والمتبعون له هم الأكثر، بدليل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].

(2/433)


وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن الاستثناء منقطع، والعباد المضافين إلى الله تعالى هم المؤمنون، لأن الإضافة لتشريف المضاف، لكنه يدخل الغاوون تحت المستثنى منه لولا الاستثناء.
والثاني: أنه متصل، وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] أقل من المستثنى منه. لأن قوله يتناول الملك، والإنس والجن، وكل الغاوين أقل من الملائكة. وفي الحديث:"الملائكة يطوفون بالمحشر سبعة أدوار" وذلك أعظم من في المحشر.
وقال الشيخ أبو إسحاق: القاطع في هذه المسألة أن الله تعالى استثنى الغاوين من المخلصين في هذه الآية، واستثنى المخلصين من الغاوين في قوله حكاية عن إبليس: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه، لزم أن يكون كل واحد من الغاوين والمخلصين أقل من الآخر. وفيه نظر لأن الضمير في قوله: منهم عائد لبني آدم، والمخلص منهم قليل، وانفصل بعضهم عنه، فقال: المخلصون هنا هم الأنبياء، والملائكة وسكان السموات، وهم أكثر من الغاوين فيكون من باب استثناء الأقل من الأكثر.
وذكر المازري وجها آخر: وهو أنه إذا لم يعلم السامع الأقل من الأكثر جاز ذلك، وإنما يقبح إذا استثنى ما يعلم السامع أنه أكثر مما أبقاه. ونقل ابن السمعاني عن بعض أهل اللغة منع استثناء الأكثر، ثم قال: واختاره الأشعرية، وهو قول أحمد بن حنبل، ونقله المازري في "شرح التلقين" عن ابن درستويه، قال: وذكر أنه ناظر في ذلك أبا علي بن أبي هريرة، وذكر في "شرح البرهان" أن للشافعي فيه قولين، وكذا قال عبد الوهاب في "الإفادة"، وهو غريب.
ومن شبه المجوزين القياس على المخصص، فإنه يجوز وإن كان ما خصص أكثر مما بقي في العموم، فكذلك الاستثناء، وهذا إنما يصح الاحتجاج به إذا قلنا إن اللغة تثبت قياسا، فإن منعناه لم يتم، وكثيرا ما يتحد المعنى، وتختلف أحكام إعرابه عند العرب، فلا يبعد أن يكون عندهم يحسن إخراج أكثر العموم بغير حرف الاستثناء، ويصح به، ثم المانعون للأكثر اختلفوا في حد القليل الذي يستثنى، فقال ابن مغيث من المالكية: هو الثلث فما دونه، هذا مذهب مالك وأصحابه.
وأما المساوي، فمن جوز الأكثر فهو هنا أجوز، ومن منعه اختلفوا على قولين. وطرد ابن درستويه فألحقه بأكثر في المنع، والجمهور على الجواز، واحتج على استثناء

(2/434)


النصف بقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ} [المزمل:3] فالضمير في "نصفه" عائد على الليل قطعا، {ونصفه} بدل، فإما من الليل بعد الاستثناء، فيكون إلا قليلا نصفا، وإما من قليل. فتبين أنه إنما أراد بالليل نصف الليل، وربما تمسك به القائلون بالأكثر من جهة قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4].
وأجيب بأن نصفه مفعول بفعل مضمر، أي: قم نصفه، لا بدل، لأن النصف لا يقال فيه: قليل: ورد بأنه يلزم على هذا أن يكون أمره أولا بقيام الليل إلا قليلا، فيكون أمرا بقيام الأكثر، فقوله بعده: نصفه مخالف له، فيلزم أن يكون ناسخا، وليس كذلك، لأنه متصل، وشرط الناسخ أن يكون متراخيا. وقال ابن عصفور: بل ضمير "نصفه" يعود على القليل، وهو بدل منه، بدل البعض من الكل، وجاز وإن كان القليل مبهما، لأنه قد تعين بالعادة، أي ما يسمى قليلا في العادة
ونقل الإمام في "المحصول" منع استثناء الأكثر. قال: وله في المساوي وجهان، ونقل المازري والباجي عن القاضي قولين في أكثر. ونقل القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق والمازري، والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح الأكثر والمساوي.
وشرطوا أن ينقص عن النصف، وحكاه الآمدي في "شرح الجزولية" عن البصريين.
والذي في "التقريب" للقاضي: يمتنع استثناء الأكثر في الأشبه عندنا، وإن كنا قد نصرنا في غير هذا الموضع جوازه، ولهذا قال المازري: آخر قولي القاضي المنع، ولم يتعرض القاضي للمساوي: وقال إلكيا الطبري: كان القاضي أولا يجوز استثناء الأكثر، ثم رجع عنه آخرا في "التقريب والإرشاد" وقال: لا يجوز ذلك، وهو مخالف لإجماع الفقهاء، فإنهم قالوا: لو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين صح، والذي في كتب الحنابلة تخصيص ذلك بالعقود، قالوا: ولا خلاف في جوازه إذا كانت الكثرة من دليل خارج لا من اللفظ، وعلى هذا فلا يحسن الاحتجاج عليهم بالآية السابقة، لأنه ليس فيها عدد محصور، وفرقوا بورود اللغة في هذا دون ذلك، ولأن حمل الجنس على العموم إنما هو من طريق الاحتمال لا من جهة القطع على جميع الجنس، بخلاف الأعداد فإن جميعها منطوق بها فصار صريحا. وقد صرحوا بحكاية هذا مذهبا آخر، وهو التفصيل بين أن يكون العدد صريحا، فلا يجوز استثناء الأكثر نحو: عشرة إلا تسعة، وبين غيره فيجوز نحو: خذ الدراهم إلا ما في الكيس الفلاني، وكان ما في الكيس أكثر من الباقي.

(2/435)


وحكى ابن الفارض المعتزلي في كتاب "النكت" له قولا رابعا عن بعض النحويين من أهل عصره، وهو التفصيل بين أن يكون المستثنى جملة فيمتنع، نحو جاء إخوتك العشرة إلا تسعة، وبين أن يكون مفصلا ومعددا فيجوز، نحو: إلا زيدا وبكرا وخالدا إلى أن يأتي إلى التسعة.
ويخرج من كلام المازري السابق خامس، وهو التفصيل بين أن يعلم السامع الأكثر من الأقل فيمتنع، وإلا جاز. ويخرج أيضا من كلام الحنابلة قول آخر هو جوازه في المنقطع دون المتصل، فحصل ستة مذاهب، ثم يضاف إليها القول الآتي: أنه يصح ولكن لم ترد به اللغة.
وقال ابن قتيبة: القليل الذي يجوز استثناؤه الثلث فما دونه.
وهاهنا فوائد:
إحداها: أشار المازري إلى أن الخلاف لفظي، وأن بعضهم اعتذر عن المانع في الأكثر بأنه لم يخالف في الحكم، وإنما خالف في استعمال العرب في ذلك، فرأى أنها لم تستعمل استثناء الأكثر من الأقل، وما تمسك به الخصوم قابل للتأويل، فلا يثبت به حكم لغة العرب، لكن العرب وإن لم تستعمله فلا يسقط حكم الاستثناء في الإقرار وغيره. وبذلك صرح إلكيا الهراسي: فقال: يصح ذلك، ولكن لم يقع في اللغة، وكذا قال ابن الخشاب من أئمة النحاة: أجاز قوم استثناء أكثر الجملة، ومنع آخرون فلم يجيزوا أن يستثنى إلا ما كان دون النصف منها، ولهذا القول يشهد قياس العربية، وبه جاء السماع، وقد وقع الاتفاق عليه، والأول ليس بمستحيل في المعقول، ولكن الآخر يمنعه، ومن ادعى فيه سماعا أو استنبط منه فقد أخطأ، وادعى ما لا أصل له.
الثانية: قال ابن فارس في كتاب "فقه العربية1": الصحيح في العبارة أن يقال: يستثنى القليل من الكثير، ويستثنى الكثير مما هو أكثر منه، فأما قول من قال يستثنى الكثير من القليل، فليس بجيد، فيقال: عشرة إلا خمسة حتى يبلغ تسعة.
الثالثة: أن الكلام في الاستثناء من العدد مبني على صحته، وللنحاة فيه مذاهب:
أحدها: وهو المشهور الجواز، وعليه بنى الفقهاء مذاهبهم في الأقارير وغيرها.
والثاني: المنع واختاره ابن عصفور محتجا بأنها نصوص، فالإخراج منها يخرجها
ـــــــ
1 انظر الصاحبي لابن فارس ص "189".

(2/436)


عن النصية، ألا ترى أنك إذا قلت: ثلاثة به إلا واحدا كنت قد أوقعت الثلاثة على الاثنين وذلك لا يجوز، بخلاف قولك: جاء القوم إلا عشرة. وأجاب عن قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ} [العنكبوت:14] بأن الألف لما كان يستعمل للتكثير. كقولك: اقعد ألف سنة، تريد بها زمنا طويلا، دخل الاحتمال فجاز أن يبين بالاستثناء أنه لم يستعمل للتكثير، قال أبو حيان: وهذا هو الصحيح.
والثالث: أنه يمنع استثناء العقد نحو: قصد عشرون إلا عشرة، ويجوز استثناء ما دونه نحو عشرة إلا ثلاثة.
الشرط الثالث: أن يقترن قصده بأول الكلام، فلو بدا له عقب الفراغ; فالأصح في كتاب الطلاق - وادعى أبو بكر الفارسي الإجماع عليه - المنع لإنشائه بعد الوقوع. وإن بدا له في الأثناء فوجهان: أصحهما - وهو نص البويطي - صحته.
الشرط الرابع: أن يلي الكلام بلا عاطف، فلو ولي الجملة بحرف العطف كان لغوا باتفاق، قاله الأستاذ أبو إسحاق. ومثله: بنحو: له عندي عشرة دراهم، وإلا درهما أو فإلا درهما. وشرط إمام الحرمين في "النهاية" أن يكون مسترسلا، فإن كان في معين لم يصح استثناؤه، كما لو أشار إلى عشرة دراهم، فقال: هذه الدراهم لفلان إلا هذا، فلا يصح استثناؤه على الأصح، لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها. فإذا أراد الاستثناء في البعض كان راجحا، لكن المرجح عند الأصحاب الصحة
وشرط الماوردي وغيره كون الاستثناء من جنس الأصل ليصح خروج بعضه، فإن عاد إلى غير جنسه صح عند الشافعي في المعنى دون اللفظ، وقد سبق الخلاف فيه.
وشرط أيضا أن يعلق على الاستثناء ضد حكم الأصل، فإن كان الأصل إثباتا جاء الاستثناء نفيا، وإن كان الأصل نفيا جاز الاستثناء إثباتا، وسيأتي.

(2/437)


مسألة: [وجود الاستثناء في لغة العرب]
قيل: الاستثناء في لغة العرب متعذر، لأنه إذا قيل: قام القوم إلا زيدا، فلا يخلو إما أن يكون داخلا في العموم أو غير داخل. والقسمان باطلان، أما الأول: فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة، وإلا لزم توارد الإثبات والنفي على موضوع واحد، وهو محال، ولهذا قال بعض الحنابلة: إن الاستثناء في الطلاق لا

(2/437)


يصح، لأن الطلاق إذا وقع لا يرتفع. وأما الثاني: فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه. وأجيب بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد الإخراج، وهو ممنوع، لأنه إذا قيل: قام القوم إلا زيدا فهم منه القيام بمفرده، والقوم بمفرده، وأن منهم زيدا، وفهم إخراج زيد من القوم بقوله: إلا زيدا، ثم حكم بنسبة القيام بعد إخراج زيد.
وعلى هذا يندفع الإشكال الذي يورد على قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] لأن العالم بلغة العرب لا يحكم على كلام المتكلم بالإسناد إلا بعد تمامه.

(2/438)


[المذاهب في تقدير دلالة الاستثناء]
ولقوة هذا الإشكال اختلف الأصوليون في تقدير الدلالة في الاستثناء، وهل هو إخراج قبل الحكم؟
على ثلاثة مذاهب:
أحدها: ونسبه ابن الحاجب للأكثرين، أن المراد بقوله: عشرة، في قوله: علي عشرة إلا ثلاثة: سبعة. وقوله: إلا ثلاثة قرينة مبينة، لأن الكل استعمل وأريد به الجزء مجازا، كالتخصيص بغير الاستثناء. ورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج، ولأن العشرة نص في مدلولها، والنص لا يتطرق إليه تخصيص. وإنما التخصيص في الظاهر. وما قاله من الإجماع مردود، فإن الكوفيين على أن الاستثناء لا يخرج شيئا. فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد، وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بقيام ولا بنفيه. وما قاله من أن العشرة نص فسيأتي في كلام الماوردي الخلاف فيه.
وقد قال بعض الأئمة لا يستقيم غير هذا المذهب لأن الله تعالى قال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته، فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من الألف، كما أن المتكلم بالعشرة مع استثناء الواحد لم يرد منها إلا التسعة.
والثاني: وهو قول القاضي أبي بكر، أن عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج، كاسمين وضعا لمسمى واحد، أحدهما: مفرد والآخر مركب، وجرى عليه في

(2/438)


"المحصول"، واختاره إمام الحرمين1، واستنكر قول الأولين، وقال: إنه محال، لا يعتقده لبيب. قال ابن الحاجب: وهذا المذهب خارج من قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد، ولأنا نقطع بدلالة الاستثناء بطريق الإخراج.
وقال في "شرح المقدمة": إنه غير مستقيم أيضا، لأنا قاطعون بأن المتكلم بالعشرة يعبر بها عن مدلولها، وهو خمستان، وبإلا عن معنى الإخراج، وبالواحد أنه مخرج، ولو كان كما قالوا،لم يستقم فهم هذه المعاني منها، كما لا يستقيم أن يفهم من بعض حروف التسعة عند إطلاقها على مدلولها معنى آخر.
وهذا الذي قاله مصادرة، ولا نسلم أنه يفهم من العشرة خمستان مع استثناء الدرهم منها، بل المفهوم من ذلك تسعة لا غير، ولا "بإلا" معنى الإخراج، لأن الاستثناء لغة: الصرف والرد. وقوله: كما لا يستقيم ليس بنظير ما نحن فيه، إذ عدم فهم ما ذكر لعدم الوضع والاستعمال في غيرها، والاستثناء مستعمل فيما ذكر لغة وعرفا.
واعلم أن قصد الباجي بهذا القول أن يفرق بين التخصيص بدليل متصل أو منفصل، فإن كان بدليل متصل فمن الباقي حقيقة، أو منفصل فإن الباقي مجاز، ولذلك قال في الاستثناء: إن الكلام بجملته يصير عبارة عن أمر آخر.
والثالث: وهو الصحيح عند ابن الحاجب، أن المستثنى منه مراد بتمامه، ثم أخرج المستثنى، ثم حكم بالإسناد بعده تقديرا، وإن كان قبله ذكرا، فالمراد بقولك: عشرة إلا ثلاثة، عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة، ثم أسند إلى الباقي تقديرا، فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج، ورجحه الهندي وغيره،
ولذلك لا يحكم عالم بلغة العرب بالإسناد قبل تمامه لتوقع التغيير قبله بالاستثناء أو غيره، وبه يندفع ما أورد على حقيقة الاستثناء من كونه إنكارا بعد الإقرار وتناقضا. والفرق بين هذا المذهب والأول، أن الأفراد بكمالها غير مرادة في المستثنى منه في الأول لدلالة الاستثناء عليه، وفي الثالث مرادة والاستثناء إنما هو لتغير النسبة لا للدلالة على عدم المراد. ويتفرع على المذاهب أنه هو تخصيص أم لا؟ فعلى قول القاضي ليس تخصيصا، وعلى الأول تخصيص قطعا، وعلى الثالث يحتمل. والظاهر أنه تخصيص
ـــــــ
1 انظر البرهان "1/401".

(2/439)


خاص لعدهم إياه من التخصيص المتصل وتطرقه إلى النصوص. قيل: ليس بتخصيص; لأن التخصيص شرطه الإرادة والمقارنة وهي منتفية إلا في قصد الاستثناء.
وقال الهندي في"الرسالة السيفية" الجمع بين احتمال كون الاستثناء تخصيصا على هذا الرأي مع أن الأفراد مرادة بكمالها فيه مشكل، فإنهم أطبقوا على أن المخصوص غير مراد من الذي خص عنه وجود التناول، فإن قلت: يخص قولهم ذلك بالاستثناء من غير النصوص.
قلت: الذي قال بالمذهب الثالث لا فرق عنده. أن يكون الاستثناء من ألفاظ العدد أو غيرها، فإن الكلام في تقدير دلالة الاستثناء مطلق، وحينئذ يلزم أن يكون هذا المذهب مخالفا لإجماعهم على أن الفرد المخصوص من العام ليس مرادا منه
وقال. المازري أصل هذا الخلاف في الاستثناء من العدد هل يكون الاستثناء كقرينة غيرت وضع الصيغة، أولم تغيره، وإنما كشفت عن المراد بها؟ فمن رأى أن أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها قال بالأول، وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما، ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع الدال على العدد المبقى.
ومن رأى أن أسماء العدد ليست نصا فإن العشرة ربما استعملت في عشرة ناقصة، رأى أن الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه، كما دل قوله: لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله: {اقتلوا المشركين} . قال: وهذا ظاهر على القول بأن دلالة العام على أفراده ظاهرة. فإن قلنا نص فلا يستقيم، ثم ذكر من الفرق بين التخصيص والاستثناء أن الاستثناء يدخل على النصوص، والتخصيص لا يدخل عليها.
والحاصل أن مذهب الأكثرين أنك إذا استعملت العشرة في سبعة مجازا دل عليه قولك: إلا ثلاثة، والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة، وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة، ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة، فكأنه قال: له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة، أو عشرة إلا ثلاثة له عندي. وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه، فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه، ثم أخرج الثلاثة، ثم حكم، كما أنك تخرج عشرة دراهم من الكيس، ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهو السبعة.
هذا تقرير مذهب ابن الحاجب، لكن تصريحه بأن الإسناد بعد الإخراج مخالف لمذهب سيبويه أن "إلا" أداة أخرجت من الاسم والحكم، وهذا إنما يأتي على القول

(2/440)


المرجوح أن الإخراج من الاسم فقط.
ويرد عليه أيضا أن المفرد لا يستثنى منه، ولو استثني منه لم ينتظم أن يقال: العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه، كما هو مذهب كثير من النحاة. والتحقيق أن المراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج، لأن الإسناد للجملة إنما يتبين معناه بآخر الكلام، فإن عطف عليها بأو كان ثابتا لأحد الأمرين، وإن عطف عليها بالواو كان ثابتا للمجموع وإن استثني منه كان ثابتا لبعض مدلولها وليس الاستثناء مبينا للمراد بالأول، بل يحصل الإخراج
والحاصل قبله قصد أن يستثنى لا بقصد المعنى، حتى لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، ووقع الاستثناء بعد موتها، طلقت ثلاثا، ولو كان مبينا لزمه وعلى هذا لا يسمى تخصيصا

(2/441)


مسألة: [هل يعمل الاستثناء بطريق المعارضة أو البيان]
تتفرع على ما سبق وتتأصل على الخلاف الآتي في الاستثناء من الإثبات نفي، وبالعكس، وهي أن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة أو بطريق البيان، فقال بالثاني، وهو عندهم بيان معنوي، أي أن المستثنى لم يكن مرادا للمتكلم من الأصل، لأنه منع دخوله تحت المستثنى منه، وإما بالنظر إلى صورة اللفظ فهو استخراج صوري. ونسبوا لأصحابنا الأول، وهو أنه يمنع الحكم بطريق المعارضة، مثل دليل الخصوص. والمراد بالمعارضة أن يثبت حكما مخالفا لحكم صدر الكلام، فإن صدر الكلام يدل على إرادة المجموع، وآخره يدل على إرادة إخراج البعض عن الإرادة، فتعارضا في ذلك البعض،
فتعين خروجه عن المراد دفعا للتعارض، كتخصيص العام، وعلى مذهب الآخرين هو متكلم بالباقي في صدر الكلام بعد المستثنى. قلت: هو نظير الخلاف في أن النسخ رفع أو بيان، وقال صاحب المحيط : الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، أي تكلم بالمستثنى منه بعد صرف الكلام عن المستثنى.
وقال شمس الأئمة: لو قال: عبيدي أحرار إلا سالما أو غانما، لا يعتق واحد منهما، وإن كان المستثنى أحدهما، لأنه فيه، فثبت حكم الشك فيهما، ويصير الكلام عبارة عما وراء المستثنى بطريق أنه لا بعض ويصح الاستثناء وإن كان المستثنى مجهولا،

(2/441)


لأن الكلام لم يتناول المستثنى أصلا، فلا أثر للجهالة فيه. وفي "المغني" ابن قدامة: الاستثناء إنما هو مبين أن المستثنى غير مراد بالكلام، وهو أن يمنع أن يدخل فيه ما لولاه لدخل، وقوله تعالى: {إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] عبارة عن تسعمائة وخمسين سنة، فخرج بالخمسين المستثنى، وقوله تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] فقد تبرأ من غير الله لا أنه تبرأ منه أولا ثم رجع عنه.
وفصل جماعة من الحنفية بين الاستثناء العددي وغيره، وقالوا في غير العددي: إنه إخراج قبل الحكم، ثم حكمه على الباقي، وقالوا في العددي: لا إخراج، حتى قالوا في إن كان لي إلا مائة وكذا، ولم يملك إلا خمسين لا يحنث
قلت: وما نسبوه لأصحابنا ممنوع، وقد قال النووي في "الروضة": المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد بأول الكلام، لا أنه إبطال ما ثبت، ولهذا لو قال: له علي عشرة إلا خمسة أو ستة، يلزمه أربعة، لأن الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كقوله: علي خمسة أو ستة، فإنه يلزمه خمسة. واحتمل الرافعي أنه يلزمه خمسة، لأنه أثبت العشرة، والشك في المنفي. قلت: ويؤيده قول أصحابنا أنه يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام، فكيف يكون مرادا بالكلام الأول وهو يريد أن لا يكون؟
وكذا قال صاحب الميزان من الحنفية: لولم يكن الاستثناء بيانا لأدى إلى النسخ في كلام واحد، فيؤدي إلى التناقض في كلام الله تعالى: قال: ومسائل الشافعي كلها تخرج على البيان، ولا يمكن حمله على التعارض، لأن التعارض إنما يكون بين المثلين، ولا مماثلة بين المستثنى منه والمستثنى، لأن المستثنى منه مستقل، والمستثنى ناقص، ولهذا لا يبتدأ به.
ويدل على بطلان دعوى الإخراج قوله تعالى في حق نوح: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] إذ لا يتصور أن يكون لبث فيهم ألف سنة، ثم يخرج الخمسين من الألف بعد الإخبار بلبثه الألف بكماله، فلم يبق إلا أنه لولا الاستثناء لكان صالحا لدخول الخمسين تحت الألف، وإنما أخرجه من صلاحية الاستثناء، ولا يجوز أن يقال: إنه مريد للألف، ثم أخرجه، لأن الله علم أنه ما لبث الخمسين، فكيف يريدها؟
ومثله قول القاضي عبد الوهاب: وضع الاستثناء أن يخرج ما لولاه لانتظمه، وذكر الإخراج باعتبار الصلاحية في اللفظ، وبهذا كله تبطل دعوى القرافي أن الاستثناء لا إخراج فيه أصلا، لأن الإخراج حقيقة فيمن اتصف بالدخول، ولا يقال: خرج زيد

(2/442)


من الدار إذا لم يكن دخلها إلا مجازا وقد بينا المراد بالإخراج من الصلاحية للدخول، لولا الاستثناء، وهو كالتخصيص بالمقارن يوجب الحكم فيما وراء الخصوص من الأصل، ولا يتناول المخصوص. وصار كما لو قال: اقتلوا المشركين المحاربين، فلم يكن غير المحاربين مرادا من المشركين من الابتداء.
ونظير هذا الخلاف في الاستثناء خلاف أصحابنا فيما لو قال: أنت طالق ثلاثا، هل يقع الثلاث عند الفراغ من قوله ثلاثة، أو نقول: إذا فرغ من قوله ثلاثا تبينا وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق؟ والمذهب الأول وفائدته: إذا قال: أنت طالق فماتت، ثم قال: ثلاثا، فعلى الأول لا يقع شيء.
تنبيه
جعل الاستثناء من المخصصات المتصلة واضح في الكلام الواحد، أما لو قال الله: اقتلوا المشركين، فقال عليه السلام على الاتصال: لا الحربيين، فاختلفوا فيه. فقال قوم: ينزل منزلة الاستثناء في كلام الله. وقال القاضي: الذي أرتضيه أنه إن أبدى من تلقاء نفسه كلاما، ولم يضفه إلى الله تعالى التحق بالتخصيص بالمنفصل، ولم يجعل استثناء حقيقيا ; بل هو تخصيص، سواء قدر متصلا أو منفصلا. كذا حكاه عنه ابن القشيري في أصوله، وأطلق الهندي ترجيح كونه منفصلا.
ومن فروعه لو قال: لي عليك ألف فقال المدعى عليه: إلا عشرة، فهل يكون مقرا بباقي الألف؟ قال في "التتمة": المذهب المنع، لأنه لا يوجد منه إلا نفي ما قاله خصمه، ونفي الشيء لا يدل على ثبوت غيره.
مسألة
الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات على الأصح وقال الحنفية: لا يقتضي ذلك، وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة، وهي عدم الحكم، ونقل في"المعالم" الاتفاق على الأول، والخلاف في الثاني. واختار مذهب الحنفية المعالم، وفي تفسيره الكبير في سورة النساء، ووافق الجمهور في "المحصول".
وليس كما ادعى من الوفاق، فإن الخلاف عندهم موجود كما ذكر القرافي. قال الهندي: وبه صرح بعضهم، وهو الحق، لأن المأخذ الذي ذكروه موجود فيهما، وهو أن

(2/443)


بين الحكم بالنفي وبين الحكم بالإثبات واسطة، وهو عدم الحكم، وتركه على ما كان عليه قبل الاستثناء بلا فرق بين الاستثناء من النفي والإثبات إذ الواسطة حاصلة.
نعم، يلزم النفي المستثنى من الإثبات عنده، بناء على أنه الأصل قبل الحكم بالإثبات أن الاستثناء اقتضى ذلك، فإن قيل: له علي عشرة إلا درهما كان معناه عنده أن الدرهم غير محكوم عليه باللزوم، لا أنه محكوم عليه بعدم اللزوم، وحينئذ فعدم اللزوم لازم له بناء على العدم الأصلي. ولعل الإمام لهذا السبب خصص الخلاف بالاستثناء من النفي إذ لا يظهر للخلاف في الإثبات فائدة، فإن النفي ثابت فيه بالاتفاق، لكن المأخذ مختلف، فعندنا بسبب الاستثناء، وعنده بسبب البقاء على الحكم الأصلي.
فمن هنا ظن عدم خلافه فيها، ولهذا قيل: إن أبا حنيفة لا يفرق بين النفي والإثبات من جهة الدلالة الوضعية، وإنما يفرق بينهما من جهة الحكم، وذلك أن السكوت عن إثبات الحكم، يستلزم نفي الحكم بالبراءة الأصلية بخلاف السكوت عن النفي إذ لا مقتضى معه للإثبات، فهو يحمل كلام أهل العربية على نفي الحكم النفسي، وكلمة التوحيد على عرف الشارع. قلت: والحنفية موافقون لنحاة الكوفة، إذ ذهبوا إلى أن قولك: قام القوم إلا زيدا، معناه الإخبار بالقيام عن القوم الذين فيهم زيد، وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بقيام ولا بنفي. وأبو حنيفة كوفي، فلهذا كان مذهبه كذلك، ومذهب سيبويه أن الأداة أخرجت الاسم الثاني من الأول، وحكمه من حكمه.
وهذا الخلاف في الاستثناء المتصل، وبه يظهر أن الخلاف في المتصل، لا في الأعم من المتصل والمنقطع; بل حكى القرافي في "العقد المنظوم" عن الحنفية أنهم أجروا ذلك في التام والمفرغ، نحو: ما قام إلا زيد، قالوا: زيد غير محكوم عليه بالإثبات، والمعنى ما قام أحد إلا زيد. قال: ويلزمهم أن يعربوه بدلا لا فاعلا، ويكون الفاعل مضمرا، وتقديره ما قام أحد، فلا يكون زيد فاعلا. والنحاة لا يجيزون حذف الفاعل، نحن نقول: زيد فاعل بالفعل المنفي السابق قبل إلا، وهو الذي نسب إليه عدم القيام، فهو غير قائم
واحتج الجمهور بالإجماع على الاكتفاء بلا إله إلا الله في كلمة التوحيد،كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله1"
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة بأطراف رجليه، برقم "393" ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، برقم "20".

(2/444)


ومما يحتج به على أن الاستثناء من النفي إثبات قوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30] واحتج الخصم بوجهين.
أحدهما: أن الاستثناء مأخوذ من قولك ثنيت الشيء عن جهته، إذا صرفته عنها فإذا قلت: لا عالم إلا زيد، فهنا أمران: أحدهما: هذا الحكم والثاني: نفس العدم فقولك إلا زيد يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول، وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت ; إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعدم، فيبقى المستثنى مسكوتا عنه غير محكوم عليه نفي ولا إثبات. ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثاني، وحينئذ يلزم تحقق الثبوت، لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة، لكن عود الاستثناء إلى الأول أولى، إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية، لا على الأعيان الخارجية، فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى
الثاني: ما جاء من وضع هذا الاستثناء من غير أن يكون للإثبات كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي1" ، "ولا صلاة إلا بطهور2" والمراد في الكل مجرد الاشتراط. قال: والصور التي دل فيها على الإثبات، يجوز أن لا يكون مستفادا من اللفظ، بل بدليل منفصل، وأجاب عن الدليل السابق بأن هذه الكلمة، وإن كانت لا تفيد الإثبات بالوضع اللغوي، لكنها تفيده بالوضع الشرعي، فإن المقصود نفي الشريك. وأما إثبات الإلهية فمتفق عليه
قال الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام" وكل هذا عندي تشغيب، ومراوغات جدلية، والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة، وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد، وحصل الفهم لذلك منهم، والقبول له منهم من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر، ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي التوحيد، لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه، لأنه المقصود الأعظم، والاكتفاء الذي ذكرناه عندنا في محل القطع بالظن، لكن هل هو لمدلول اللفظ، أو لقرائن اختصت به لا تبلغ إلى القطع؟ واعلم أن أكثر ما يستدل به الحنفية راجع إلى الشرط، وقد استعظم القرافي شبهتهم من "لا صلاة إلا بطهور" وليس
ـــــــ
1 حديث صحيح، سبق تخريجه.
2 رواه الترمذي "1/5" عن ابن عمر مرفوعا في الكتاب الطهارة، باب، ماجاء لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم "1"، والحديث رواه مسلم بإسناده عن أبي هريرة مرفوعا "1/204" ، برقم "225" بلفظ "لا تقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" عن أبي المليح مرفوعا.

(2/445)


كما زعم، وذلك لأن الخلاف في غير الشرط، فإن الاستثناء يقع في الأحكام، والموانع والشروط.

(2/446)


مسألة: الاستثناء من التحريم إباحة،
ولم يتعرض لها الأصوليون، وذكرها صاحب "الذخائر" من الفقهاء في باب العدد في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا1" واستشكل الاستدلال بالحديث على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. وقال القاضي الحسين في تعليقه: هذا الاستثناء للواجب من المحرم، لأن الإحداد على غير الزوج فوق الثلاث حرام، وعلى الزوج واجب، وإنما الصحيح أنه يستثنى الواجب من الجائز، والحرام من المباح، ويمكن الاحتجاج بالحديث على جواز الاستثناء من غير الجنس.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب: إحداد المرأة على غير زوجها، برقم "1280". ورواه مسلم "2/1123" كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، برقم ط1486".

(2/446)


مسألة: [الاستثناء من الاستثناء]
يصح الاستثناء من الاستثناء وحكى ابن العربي في "المحصول" عن بعضهم منعه، وقال صاحب الذخائر في باب الإقرار: حكى بعض الفقهاء عن بعض أهل العربية منعه لأن العامل في الاستثناء الفعل الأول بتقدير حرف الاستثناء، ولا يعمل عامل في أحد المعمولين.
ولنا قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر:60] قال أبو عبيد وغيره: استثنى الآل من القوم، ثم استثنى امرأته.
قال القاضي مجلي في "الذخائر" في كتاب الطلاق: وذهب الأكثرون إلى أن الأول استثناء منقطع، ولم يحك الزجاجي سواه، ووجهه أن الله تعالى قال: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر:58] أي لإهلاكهم، فلا يصح استثناء آل لوط; منهم لأنهم ليسوا من المجرمين بل هو كلام مستأنف معناه لكن آل لوط، فإنهم منجون. ثم قال: إلا امرأته استثناها من المنجين وجعلت من الهالكين، فتكون مستثناة. قال: وهذا

(2/446)


[الاستثناء المتوسط]
أما المتوسط فإن تخلل بين جملتين، إحداهما معطوفة على الأخرى فقل من تعرض له، وقد ذكره الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور نحو: أعط بني زيد إلا من عصاك وأعط بني عمرو. قالا: فاختلف فيه أصحابنا على وجهين:
أحدهما: أنه يرجع إليهما.
والثاني: أنه يرجع إلى ما قبله دون ما بعده. قالا: وسواء كان في الأمر أو الخبر. قال الأستاذ أبو منصور:فإن لم يكن لفظ [الأمر] أو الخبر مذكورا في الثانية رجع إليهما جميعا، كقوله: أعط بني زيد إلا من عصاك وبني عمرو الثمن. وقال الأستاذ أبو إسحاق: فإن كان معطوفا عليه يصير الأمر والخبر كالمتقدم عليه. نحو أعط أو أعطيت بني زيد إلا من أطاعني منهم، وبني عمرو، فإنها صارت في حكم الجملة الأولى بالعطف على موضع الفائدة.
وهاهنا تنبيهات:
الأول: أن قولنا يعود الاستثناء إلى الجميع هل معناه العود إلى كل واحد منها بمفردها أو العود إلى المجموع ويتوزع عليها؟ فيه خلاف، حكاه الماوردي في "كتاب الإقرار" فيما لو قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين، وأراد بالخمسين المستثناة جنسا غير الدراهم أو الدنانير قبل منه. وكذا إن أراد عوده إلى الجنسين معا أو إلى أحدهما، فإن مات قبل البيان فعند أبي حنيفة يعود إلى ما يليه، وعندنا يعود إلى المثالين المذكورين من الدراهم أو الدنانير ثم هو على وجهين: أحدهما: يعود إلى كل منهما جميع

(2/459)


الاستثناء فيستثنى من ألف درهم خمسون ومن مائة دينار خمسون، والثاني: يعود إليهما نصفين، فيستثنى من الدراهم خمسة وعشرون، ومن الدنانير خمسة وعشرون.
ولم يصحح الماوردي شيئا، وذكرها الروياني في "البحر" وصحح الأول، وقال في باب العتق: قال القاضي أبو حامد إذا قال: سالم وغانم وزياد أحرار - يعني وليس له مال سواهم - أقرع بينهم. وإن قال: أردت من حرية الأخير وحده قبل منه، وأعتق من غير إقراع. وإن قال: أردت حرية الأول أو الثاني لا يقبل، لأن الناس في الكناية عن الاستثناء على قولين، ومنهم من يرده إلى الجميع ومنهم من يرده إلى الأول، وهذا بخلاف القولين. انتهى.
وهذا يخرج منه خلاف آخر، وهو أن العود إلى واحد إنما هو الأخير. قلت: ويظهر أثر الخلاف الذي حكاه الماوردي فيما إذ قلت: أكرم بني تميم وبني بكر، أو أكرم بني تميم أو بني بكر إلا ثلاثة، هل معناه إلا ثلاثة من كل طائفة أو مجموعهما ينبني على الخلاف. ويشبه أيضا تخريجه على الخلاف فيما إذا عطف بعض المستثنيات أو المستثنى منه على بعض، هل يجمع بينهما حتى يكونا كالكلام الواحد، أم لا؟ فإن قلنا: إن الواو للجمع فالقياس جعل الاستثناء عائدا إلى المجموع، ويقع فيما لو قال: أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة تقع ثنتان لأن الاستثناء يعود إلى جميع ما سبق، وإن قلنا: لا يجمع فالاستثناء يرجع بجملته إلى كل واحدة، وحينئذ فيقع ثنتان أيضا، لأن الاستثناء يكون من واحدة وهو باطل لاستغراقه، فوقعت الواحدة المعطوفة، ويكون من ثنتين، وهو صحيح فيقع منهما واحدة، فحينئذ يقع طلقتان على التقديرين معا.
الثاني: أن الرافعي وجماعة من الأصحاب مثلوا المسألة في "كتاب الوقف" بما لو قال: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين إلا أن يفسق بعضهم، وهو من عطف المفردات لا الجمل، إلا أن يقال: العامل في المعطوف فعل محذوف مقدر بعد حرف العطف. والمطابق تمثيل الإمام في "البرهان" بقوله: وقفت على بني فلان داري، وحبست على أقاربي ضيعتي، وسبلت على خدمتي بيتي إلا أن يفسق منهم فاسق.
الثالث: أن هذه المسألة قل من تعرض لها من النحويين، وقد سبق أن ابن فارس ذكرها في كتاب "فقه العربية" واختار توقف الأمر على الدليل من خارج، وذكرها المهاباذي في "شرح اللمع" واختار رجوعه إلى ما يليه كالحنفية، قال: وحمله على أن يستثنى من جميع الكلام خطأ ظاهر; لأنه لا يجوز أن يكون معمولا لعاملين مختلفين، ويستحيل ذلك. انتهى.

(2/460)


وكذلك قال ابن عمرون في شرح المفصل في قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، الاستثناء من الثانية ولا يجوز أن يكون من الجملتين، لأنه يلزم أن يكون معمولا لعاملين، وحسنه هنا أن معنى الثانية قريب من معنى الأولى. فإذا استثني من أحدها فكأنه يستثنى منهما، يجوز أن يكون الاستثناء من الجملة الواحدة سادا مسد الاستثناء من جملة مختلفة معانيها، وإن ظنه بعض الفقهاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] الآية، وقاسوها على الشرط، لأنه متى تعقب عاد إلى الكل.
والفرق ظاهر لأنه لا يلزم الشرط اجتماع عاملين على معمول واحد بخلاف الاستثناء والذي يقتضيه اللفظ أنه مستثنى من لهم، وهو في موضع جر على البدل من الهاء والميم في لهم أو ينصب على أصل الاستثناء، وهو أولى من جعله مستثنى من {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] لأنه أكثر فائدة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه للمحدود في القذف: تب أقبل [أشهادتك1]. لأنه يلزم من قبول الشهادة عدم الفسق، بخلاف ما إذا استثني من الفاسقين، فلا يلزم من عدم الفسق قبول الشهادة، ولا يضمر الفصل لتعلقه به، وليس بأجنبي، لا يجوز أن يكون مستثنى من {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور:4] لأن حق الآدمي لا يسقط بالرجوع بعد التوبة. وهذا منهم بناء على أن العامل في المستثنى ما قبل إلا; فإن قلنا: إن العامل "إلا" كما صححه ابن مالك وغيره، لم يكن مستحيلا
والحاصل أن القائلين بعوده إلى الجميع، إن قالوا بأن العامل إلا فلا كلام، وإن قالوا: ما قبلها، فعليه هذا الإشكال. وقال إلكيا الطبري: قد نقل عن أبي علي الفارسي مقدم أئمة النحو ومتبوعهم عود الاستثناء إلى الأخيرة، كمذهب أبي حنيفة. وهذا بناه أبو علي على مذهبه أن العامل في الاستثناء - الفعل الذي قبل "إلا"، وقد قام الدليل اللغوي والقياس النحوي على أن يجوز أن يعمل عاملان في معمول واحد، وهذا مقطوع به في المعمول أيضا.
قال شيخنا أبو الحسن: لا يجوز أن يجتمع سوادان في محل واحد، لأنهما لو اجتمعا لجاز أن يرتفع أحدهما بضده، وإذا جاز ذلك عقلا فلو قدرنا رفع أحد السوادين ببياض لأدى إلى اجتماع السواد والبياض في محل واحد، وذلك ممتنع عقلا، فكذلك لا يجوز أن يعمل عاملان في معمول واحد، لأنه يجوز أن يرتفع أحد العاملين بضده،
ـــــــ
1 انظر مصنف عبد الرزاق "8/362"، وسنن البيهقي الكبرى "10/152".

(2/461)


فيكون أحدهما مثلا يوجب الرفع، والآخر يوجب النصب، فيؤدي إلى أن يكون اللفظ الواحد مرفوعا ومنصوبا، وذلك باطل
الرابع: أن الاستثناء في القرآن الكريم عقيب الجمل مختلف، فمنه ما يعود إلى الكل كقوله تعالى في آل عمران: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران:86] إلى قوله: {إلا الذين تابوا} وفي المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] قيل: الاستثناء متصل، وقيل منقطع، يعود على المنخنقة وما بعدها. أي ما أدركتم ذكاته من المذكورات. وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] الآية فإن الإجماع قائم كما حكاه ابن السمعاني على أن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة:160] عائد إلى الجميع.
ومنه ما يعود على جملة واحدة، كقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81] إلى قوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81] قرئ بالنصب على الاستثناء من الجملة الأولى، لأنها موجبة، وبالرفع على الاستثناء من الثانية لأنها منفية. وقد تكون خرجت معهم، ثم رجعت، فهلكت. قاله المفسرون1
ومنه ما يتضمن عوده إلى الأخيرة فقط، كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92]، فهذا راجع إلى أقرب مذكور، وهو الدية لا الكفارة.
وجعل منه بعضهم آية القذف، فإن الله تعالى ذكر ثلاث جمل، وعقبها بالاستثناء، فلا يمكن عوده إلى الأولى بالاتفاق; أما عند أبي حنيفة فلبعده عن آخر مذكور، وأما عندنا فلخروجه بدليل، وهو أنه حق آدمي، فلا يسقط بالتوبة ولا إلى الثانية لتقيدها بالتأبيد. وبه يقوم مذهب الحنفية على اختصاصه بالأخيرة.
وقال الروياني "في البحر": بل راجع إلى الشهادة فقط لأن التفسيق خرج مخرج الخبر، والتعليل لرد الشهادة، ورد الشهادة هو الحكم المذكور، فالاستثناء به أولى.
ومنه ما يتعين عوده إلى الأول كقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:28] إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] فهو عائد إلى النهي الأول دون الخبر الثاني: وقوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي
ـــــــ
1 انظر تفسير القرطبي "9/80".

(2/462)


إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، فهذا مختص بالأول، ولا يجوز عوده إلى الأخير، وإلا يلزم أن يكون من اغترف غرفة ليس منه، وليس المعنى عليه، فإن المقصود من لم يطعم مطلقا، ومن اغترف منه غرفة على حد سواء.
ونظيره قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] فإنه عائد إلى الأول، ولا يجوز عوده إلى الأخيرة، وإلا يلزم أن يكون قد استثنى الإماء من أزواج. وكقوله عليه السلام:"ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر1" فإنه عائد إلى الأول فقط.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] أنه استثناء من قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فهذا موضع الاستثناء بقوله إلا قليلا، وكقوله: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات:10] بعد الجمل المذكورة، وهو الأول.
وجعل ابن جني في الخاطريات منه قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء:227] فيكون استثناء من الضمير المرفوع في يفعلون، ولو كان ما يدعون أنهم يفعلون لا يفعله إلا الذين آمنوا لكان مدحا لهم وثناء عليهم، وهذا ضد المعنى هنا. فإن قيل:هلا كان الكلام محمولا على المعنى؟ أي أنهم يكذبون إلا الذين آمنوا. قيل: فيه شيئان: أحدهما: أنه ترك للظاهر. الثاني: أن المقصود ذم الشعراء على الإطلاق صدقوا أم كذبوا، فالمراد أن الشعراء هذه حالتهم إلا الذين آمنوا. قال: وحينئذ ففيه جواز الاستثناء من الأول الأبعد دون الآخر الأقرب، وهو حجة للشافعي. وهو في الظاهر إلى الآن على أصحابنا انتهى.
ومنه ما يلتبس كقوله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم:60] فقد يتخيل أنه من الجمل، وإنما هو من لفظ من وهو مفرد.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: ليس على المسلم في عبده صدقة، برقم "1464". ورواه مسلم "2/675" كتاب الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، برقم "982".

(2/463)


الخامس أنهم أطلقوا النقل عن الحنفية، والموجود في كتبهم تخصيص هذا الاستثناء بإلا فأما الاستثناء بالمشيئة نحو إن شاء الله، فلا خلاف عندهم في عوده إلى الجميع. ذكر ذلك أبو علي البخاري في كتاب "معاني الأدوات"، فقال: الاستثناء بلفظ المشيئة يسمى التعطيل، لأنه لا يبقى بعد الاستثناء شيء، والاستثناء بإلا يسمى التحصيل، لأنه يبقى بعده شيء، وكذا وقع في كلام القاضي، والإمام فخر الدين، والآمدي وأتباعهم أن الاستثناء بالمشيئة محل وفاق بيننا وبين الحنفية.
وفي "البرهان" لإمام الحرمين1: وادعى بعض أصحاب الشافعي أن بعض أصحاب أبي حنيفة يقولون: إن الرجل إذا قال:نسوتي طوالق، وعبيدي أحرار، ودوري محبسة إن شاء الله، فهذا استثناء راجع إلى ما تقدم، وما أراهم يسلمون ذلك إن عقلوا، فإن سلموه فطالب القطع لا يغني فيها التعلق بهفوات الخصوم ومناقضاتهم. فليبعد طالب التحقيق عن مثل هذا. انتهى.
فائدة
اختلف في إن شاء الله هل هو استثناء؟ فظاهر كلام طائفة دخوله في الاستثناء، ومنهم من منعه، واحتج بأنه لو قال: أنت طالق ثلاثا إن شاء الله،لم يقع خلافا لمالك. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، وقع الثلاث، فدل على أنه ليس باستثناء.
وقال الروياني في "البحر": اختلف أصحابنا في قوله: إن شاء الله هل هو استثناء يمنع من انعقاد اليمين، أو يكون شرطا يعلق به، فلم يثبت حكمه لعدمه؟ على وجهين، وظاهر المذهب أنه استثناء. قلت: وبه جزم الرافعي في كتاب الطلاق، ثم قال: وقال الإمام: لا يبعد عن اللغة تسمية كل تعليق استثناء. وإذا قلنا بأنه استثناء، فهل هو حقيقة أو مجاز؟ صرح الإمام بالثاني فقال: سماه أئمتنا استثناء تجوزا، لأنه ثنى بموجب اللفظ عن الوقوع، كقوله: طالق ثلاثا إلا اثنتين، فإنه ثنى اللفظ عن إيقاع الثلاث، لكن سماه النبي عليه السلام استثناء في قوله: "من أعتق أو طلق، ثم استثنى
ـــــــ
1 انظر البرهان "1/391".

(2/464)


فله ثنياه1" ، وهو عام في قوله: إن شاء الله وغيره.
مسألة
إذا تعددت الجمل، وجاء بعدها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء نحو: ادخل على بني هاشم، ثم بني المطلب، ثم سائر قريش، وجالسهم، والزمهم قال بعضهم: ولا يجيء فيه خلاف الاستثناء، لأن مأخذ المخالف أن الاستثناء يرفع بعض ما دخل في اللفظ.
وقال من قصره على الجملة الأخيرة: إن المقتضي للدخول في الجمل السابقة قائم، والمخرج مشكوك فيه، فلا يزال المقضي بالشك. وهذا المعنى غير موجود في الضمير، فإن الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره، وهو صالح للعموم على سبيل الجمع، ولا مقتضي للتخصيص، فيجب حمله على العموم. وهذا إذا كان الضمير جمعا; فإن كان مفردا اختص بالأخيرة، لأنه أقرب مذكور، فلو قلت: أتاني زيد وعمرو وخالد فقتلته، لرجع الضمير إلى خالد بالاتفاق، ولا يرجع إلى ما قبله إلا بدليل، كقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] فإن الضمير راجع إلى اللحم، لأنه المحدث عنه خلافا للماوردي وابن حزم حيث أعاداه إلى الخنزير لأن اللحم دخل في عموم الميتة هروبا من التكرار، وعملا برجوع الضمير إلى الأقرب، وهو مردود بما ذكرنا.
قال ابن حزم في "الإحكام2": والإشارة تخالف الضمير في عودها إلى أبعد مذكور. هذا حكمها في اللغة إذا كانت الإشارة، بذلك، أو تلك، أو أولئك أو هو، أو هم، أو هن، أو هما، فإن كانت بهذا أو هذه، فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة
قال:وهذا لا خلاف فيه بين اللغويين، ولذلك أوجبنا أن يكون القرء من حكم العدة، وهو الطهر خاصة دون الحيض، وإن كان القرء في اللغة واقعا عليهما سواء ولكن لما قال: "مره فليراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن
ـــــــ
1 قال الحافظ في التلخيص الحبير "3/213" : رواه أبو موسى المديني في ذيل الصحابة من حديث معدي كرب وروى البيهقي في السنن الكبرى "7/361" من حديث بن عباس: "من قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فلا شيء عليه" وفي إسناده إسحاق بن أبي يحيى الكعبي وفي ترجمته أورده بن عدي في الكامل"1/338" وضعه. قال البيهقي: وروي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والراوي عنه الجارود بن يزيد ضعيف.
2 انظر الإحكام "4/412".

(2/465)


يطلق لها النساء1" ، كأن قوله: تلك إشارة تقتضي بعيدا. وأبعد مذكور في الحديث قوله: تطهر فلما تصح بهذا الحديث أن الطهر هو العدة المأمور أن يطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لإكمال العدة.
مسألة
إذا وقع بعد المستثنى منه والمستثنى جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما، فظاهر مذهبنا رجوعها إلى المستثنى منه، وعند أبي حنيفة إلى المستثنى. ويتخرج على هذا ما لو قال: له علي ألف درهم إلا مائة قضيته إياه. قال الروياني في "البحر": يكون استثناء صحيحا يرجع إلى المقضي دون القضاء، ويصير مقرا بتسعمائة، قد ادعى قضاءها. وقال أبو حنيفة: يكون مقرا بألف مدعيا لقضاء مائة، فيلزمه الألف، ولا يقبل منه دعوى القضاء، فجعل الاستثناء متوجها إلى القضاء دون المقضي.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب: قول الله تعالى {يا ايهه النبي إذا طلقتم}، برقم "5252". ورواه مسلم "2/1093" كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، برقم "1471"
2 انظر الصحاح للجوهري "3/1136".

(2/466)


[المخصص] الثاني الشرط
قالوا: وهو لغة: العلامة، والذي في الصحاح وغيره من كتب اللغة ذلك في الشرط بالتحريك، وجمعه أشراط، ومنه أشراط الساعة، أي علاماتها: وأما الشرط بالتسكين، فجمعه شروط في الكثيرة، وأشرط في القلة كفلوس وأفلس2.
وأما في الاصطلاح فذكر فيه حدود أولاها: ما ذكره القرافي، وهو أن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته; فاحترز بالقيد الأول من المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء وبالثاني من السبب، فإنه يلزم من وجوده الوجود. وبالثالث مقارنة الشرط وجود السبب فيلزم الوجود، أو وجود المانع فيلزم العدم، لكن ليس ذلك لذاته، بل لوجود السبب والمانع قال ابن القشيري:والشرط لا يتخصص بالوجود; بل يجوز أن يكون عدما، لأنا كما نشترط في قيام السواد بمحله وجود محله،
ـــــــ
2 انظر الصحاح للجوهري "3/1136".

(2/466)


يشترط عدم ضده، ويشترط عدم القدر على استعمال الماء في صحة التيمم.

(2/467)


[هل للشرط دلالة في جانب الإثبات؟]
وقع في باب القياس من "البرهان1" أن للشرط دلالتين: إحداهما مصرح بها، وهي إثبات المشروط عند ثبوت الشرط، والأخرى ضمنية، وهي الانتفاء. والذي ذكره غيره من الأصوليين أن الشرط لا دلالة له في جانب الإثبات بحال، وإنما يدل في جانب الانتفاء خاصة، ولو صح ما قاله لم يظهر فرق بين العلة والشرط.
وأما تمسك الإمام بقول القائل: إن جئتني أكرمتك، فنحن لا ننكر أنه إذا جاء استحق الإكرام; لكن هل ذلك لوجود الشرط أو لأجل الإكرام الموقوف على الشرط؟ وكذلك لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنها إذا دخلت الدار تطلق، لا لاقتضاء الشرط ذلك بل للالتزام والإيقاع من جهة المطلق، وهذا بالنظر إلى وضع اللغة. وأما بالنظر إلى الفقه فدخول الدار ليس هو سبب الطلاق، إذ لا يناسب ذلك، وإنما السبب تطليق الزوج الموقوف على الدخول.
وقد طول الإبياري معه الكلام في ذلك، ورد عليه أبو العباس بن المنير، وقال: قال الإمام: إن الشرط يدل في جانب الإثبات صريحا، وفي جانب النفي ضمنا، وما حمله على ذلك إلا رؤيته العلل تستعمل بصيغة الشرط كثيرا، فاعتقد أن الشرط اللغوي علة. قال: وهو عندي أعذر ممن رد عليه، فإن الذي رد عليه زعم أن قول القائل: إن دخلت الدار فأنت طالق شرط حقيقة قال: والعلة الموجبة لوقوع الطلاق إنما هي إيقاع الزوج عند الشرط، وإلا فالدخول ليس علة للطلاق شرعا.
وهذا الرد وهم من جهة أن الدخول، وإن كان ليس علة للطلاق شرعا ابتداء; لكنه يجوز أن يكون علة له بوضع المطلق وغرضه لأنه قد فوض الشرع إليه في إيقاع الطلاق بلا سبب فيلزم أن يفوض إليه في وضع الأشياء أسبابا، ولهذا لا يعلق الطلاق غالبا إلا على وصف مشتمل على حكمة عنده، مثل أن تكون تلك الدار عورة، أو فيها ما ينافي غرضه فإذا ارتكبت الزوجة ذلك ناسب الفراق في غرضه وقصده، وكما أن الطلاق غير مشروط شرعا بدخول الدار، وقد صار عند هذا القائل مشروطا بوضع المعلق، فلا مانع من أن يكون غير معلل شرعا، ويصير معللا بوضع المطلق فعلا يقتضيه. ولهذا لو قال
ـــــــ
1 انظر البرهان"2/1851".

(2/467)


أنت طالق أن دخلت الدار بفتح الهمزة، وقصد ذلك وكان فصيحا طلقت في الحال. وكان الدخول علة للطلاق لا شرطا.
وفيه مسائل
الأولى أنه ينقسم إلى أربعة أقسام: شرعي كالطهارة للصلاة. فيلزم من وجود الصلاة وجود الطهارة. ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة. وعقلي كالحياة للعلم، فيلزم من وجود العلم وجود الحياة، ولا يلزم من وجود الحياة وجود العلم. وعادي كالسلم مع صعود السطح، فيلزم من صعود السطح وجود نصب السلم، ولا يلزم من نصب السلم صعود السطح. ولغوي مثل التعليقات نحو إن قمت، ونحو أنت طالق إن دخلت الدار، والمختص المتصل الذي الكلام فيه إنما هو اللغوي.
والشروط اللغوية أسباب وفاقا للغزالي والقرافي وابن الحاجب بخلاف غيرها من الشروط، ولهذا تقول النحاة في الشرط والجزاء بسببية الأول ومسببية الثاني، ويظهر الفرق بينها بتبين حقيقة السبب والشرط والمانع.

(2/468)


[الفرق بين الشرط والسبب والمانع]
فالسبب: هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته.
والمانع: هو الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، وحينئذ فالمعتبر في المانع وجوده، وفي الشرط عدمه، وفي السبب وجوده وعدمه ومثاله الزكاة، فالسبب النصاب، والحول شرط، والدين مانع عند من يراه مانعا.
وإذ وضحت الحقيقة ظهر أن الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط العقلية والشرعية والعادية; فإنه يلزم من عدمها العدم في المشروط، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم، فقد توجد الشروط عند وجودها كموجب الزكاة عند الحول الذي هو شرط، وقد يقارن الدين فيمتنع الوجوب.
وأما الشروط اللغوية التي هي التعاليق نحو إن دخلت الدار فأنت طالق يلزم من الدخول الطلاق، ومن عدمه عدمه إلا أن يخلفه سبب آخر. وحينئذ فإطلاق لفظ الشرط على الجميع إما بالاشتراك أو الحقيقة في واحد والمجاز في البواقي أو بالتواطؤ إذ بينهما قدر مشترك، وهو مجرد توقف الوجود على الوجود، ويفترقان فيما عدا ذلك.
ثم الشرط اللغوي يمتاز بثلاثة أشياء: إمكان التعويض عنه، والإخلاف،

(2/468)


والبدل، كما إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول لها: أنت طالق ثلاثا، فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا عن المعلقة. وكما إذا قال: إن رددت عبدي فلك هذا الدرهم، ثم يعطيه إياه قبل رد العبد هبة، فتخلف الهبة استحقاقه إياه بالرد. ويمكن إبطال شرطيته كما إذا نجز الطلاق، أو اتفقا على فسخ الجعالة.
والشروط الشرعية لا يقتضي وجودها وجودا، ولا تقبل البدل ولا الإخلاف، ويمكن قبولها الإبطال، فإن الشرع قد يبطل شرطية الطهارة للعذر.

(2/469)


[المسألة]الثانية: في صيغته
وهي "إن" وهي أم الأدوات، لأنها لا تخرج عن الشرط، بخلاف غيرها. وهي للتوقع كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار.
و "إذا" وهي للمحقق كقوله: أنت حر إذا احمر البسر، وقد يستعمل في التوقع كإن مجازا. يجيء شرطا من الأسماء "من، وما، وأي، ومهما" ومن الظروف "أين وأنى، ومتى، وحيثما، وأينما ومتى، وما، وكيف" يجازي بها معنى لا عملا خلافا للكوفيين

(2/469)


[المسألة] الثالثة:
من حق الشرط أن لا يدخل إلا على المنتظر، لأن ما انقضى لا يصح الشرط فيه; ولهذا كانت الأفعال الواقعة بعد أدوات الشرط مستقبلة أبدا، سواء كان لفظها ماضيا مضارعا إلا أن تدخل الفاء، فإن الفعل يكون على حسب لفظها ما هو، نحو إن يقم زيد فقد أكرمته. فإن لم يكن فاء، فالأمر على ما قلناه; إلا في "كان" وحدها، فإن المبرد نقل عنه أنها تبقى على مضيها، فتقول: إن كان زيد قائما قمت و "كان" ماضية، واحتج لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116] لأن قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] قد كان
ومن جهة المعنى أنها مستغرقة للزمان، ألا ترى أنها لا تخص زمانا دون غيره، وزعم ابن السراج أن المبرد احتج بالآية، قال: وفيها نظر، فلم يجزم، ولم يجعل الآية قطعية في المقصود. والصحيح عدم خروجها عن سائر الأفعال، ونزل الآية على أن إن دخلت على فعل محذوف مستقبل، إما على إضمار: يكن أي إن يكن قلته. وإما على إضمار القول، أي: إن أكن فيما استقبل كنت قلته، أي موصوفا بهذا، أو إن أقل كنت قلته. والصحيح عند ابن مالك وغيره أن الشرط لا يكون غير مستقبل المعنى

(2/469)


[المسألة] الرابعة:
من أحكامه إخراج ما لولاه علم إخراجه كأكرم زيدا إن استطعت، أولا كأكرمه إن قام. ثم قد يوجد دفعة كالتعليق على وقوع الطلاق، فالحكم عند أول وجوده. وقد يوجد على التعاقب كالحركة والكلام; فعند آخر جزء، إذ العرف بوجوده حينئذ، وقد يمكن أن يقع على الوجهين، كالطهارة لمن نوى وهو منغمس في الماء، ولمن توضأ ناويا، وقلنا بتفريق الارتفاع، فالحكم عند وجود دفعة إذ يمكن أن يعد وجوده حقيقة، ولا تحقق لوجوده إلا كذلك بخلاف القسم الثاني

(2/470)


[المسألة] الخامسة:
الشرط والمشروط قد يتحدان، نحو إن دخلت الدار فأنت طالق وقد يتعدد الشرط، ويتحد المشروط، بأن يكون للمشروط الواحد شرطان، فإن كانا على الجمع لم يحصل المشروط إلا بحصولهما معا، كقوله: إن دخلت الدار، وكلمت زيدا فأنت طالق. وإن كان على البدل حصل المشروط بحصول أحدهما، كقوله: إن دخلت الدار، أو كلمت [زيدا] فأنت طالق.
قال إلكيا الطبري ومتى زيد في شرطه زيد في تخصيصه لا محالة، فإنه يحطه في كل دفعة عن رتبة الإطلاق. قال: وينشأ من جواز مشروط لمشروط أن لا يشعر انتفاء الشرط

(2/470)


[المسألة] السادسة:
لا يشترط في الشرط أن يكون متأخرا عن المشروط في اللفظ، حتى يكون كالاستثناء; بل الأصل تقديمه، لأنه متقدم في الوجود، ولأنه قسم من الكلام، فكان له الصدر كالاستفهام والتمني. ويجوز تأخره لفظا، كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار.
قال في "المحصول": ولا نزاع في جواز تقديمه، وتأخيره، وإنما النزاع في الأولى، ويشبه أن يكون الأحرى هو التقديم، خلافا للفراء1
قلت: قوله لا نزاع في تقديمه وتأخيره مردود، فمذهب البصريين أن الشرط له صدر الكلام كالاستفهام، فلا يتقدم عليه الجواب. فإن تقدم عليه شبه بالجواب، وليس بجواب. وجوزه الكوفيون، فنحو أنت طالق إن دخلت الدار، تقديره عند البصريين: أنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق، ولا تقدير عند الكوفيين; بل هو جواب مقدم من تأخير، ورد بأنه لو كان كذلك لما افترق المعنيان، وهما مفترقان. ففي التقديم مبنى الكلام على الجزم، ثم طرأ التوقف، وفي التأخير مبنى الكلام من أوله على الشرط. وبهذا يظهر قول الإمام: إن الأولى تقديم الشرط. وما حكاه عن الفراء غريب. وقال الصفي: في صحة النقل نظر وإن صح النقل فضعفه بين
وقال "شارح اللمع": يجوز أن يتقدم الشرط في اللفظ، كما يجوز تأخيره، قياسا على الاستثناء على الأصح، لأنه لا فرق بين قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وبين قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق.
قال: ومن شرطه أن يقصد إلى الشرط. فإن جاء به على جهة العادة لم يصح على المشهور. وفي الوقت الذي يعتبر فيه القصد وجهان كالاستثناء. قلت: لو قال لزوجته: طلقي نفسك ثلاثا إن شئت، فطلقت واحدة يقع. ولو قال: إن شئت طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة. قال ابن القاص: لا يقع شيء. ووافقه الأصحاب; وكان ينبغي أن يقع واحدة لجواز تقدم الشرط وتأخره.
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب "2/146".

(2/471)


[المسألة] السابعة:
قد يرد الكلام عريا عن الشرط مع كونه مرادا فيه، ويبين في موضع آخر كقوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فإنه مقيد بقوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام:41].
[الشرط مخصص للأحوال لا للأعيان]

(2/472)


[المسألة] الثامنة:
نقل صاحب "المصادر" عن الشريف المرتضى منع كون الشرط يدل على التخصيص، وقال: الشرط لا يؤثر في زيادة ولا نقصان ولا يجري مجرى الاستثناء والصفة. وجزم به صاحب "المصادر" فقال: لا يجري مجرى الاستثناء في التخصيص، لأن الاستثناء تقليل في العدد قطعا بخلاف الشرط; لأن قولك: أعط القوم إن دخلوا الدار لا يقطع بأن بعضهم خارج من العطية; بل يجوز أن يدخل الكل فيستحقوا العطية، فإذن الشرط غير مخصص للأشخاص والأعيان كالاستثناء. وإنما هو مخصص لأحوال من حيث إن الأمر بالعطية لو كان مطلقا لا يستحقونها على كل حال. فإذا شرط بدخول الدار يخصص بتلك الحال التي هي دخول الدار.
قال: وذكر القاضي عبد الجبار أن الشرط ب "إن" يخصص ما دخله، إلا أن يدخل للتأكيد فلا، كقوله: إن تطهرت فصل، لأنه ليس بشرط في التحقيق. انتهى.
والمشهور أن الشرط من المخصصات مطلقا، لأن الجزاء والشرط جملتان صيرهما حرف الشرط كلاما واحدا، فيتقيد إحداهما بقيد الأخرى وتخصيصها بالاستثناء كذلك، وبذلك أشبه الشرط الاستثناء، فإذا قلت: أكرم بني فلان إن كانوا علماء، صار كقولك أكرم بني فلان إلا أن يكونوا جهالا. وكذا إذا قال: من جاءك من الناس فأكرمه، ومن دخل الكعبة فهو آمن. غير أن الاستثناء لا بد فيه من إخراج كما تقدم، والشرط يقيد فلا يشترط فيه الإخراج إلا على ما سبق ذكره.
وقال ابن الفارض في النكت: الاستثناء يخرج الأعيان، والشرط يخرج الأحوال. وقال إلكيا الطبري: من حق الشرط أن يخص المشروط، وليس من حقه أن يختص به. وقال الماوردي والروياني: إنما يكون الشرط للتخصيص إذا لم يقم دليل على خلافه، وإلا فلا اعتبار به، ويصرف بالدليل عما وضع له من الحقيقة إلى المجاز، كقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ} [الطلاق:4] وحكمها

(2/472)


في العدة مع وجود الريبة وعدمها سواء. وقال. ابن السمعاني: يكون تخصيصا إلا أن يقع موقع التأكيد، أو غالب الحال يصرف بالدليل عن حكم الشرط كقوله {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:101] فإن الخوف تأكيد لا شرط وقوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23].

(2/473)


[المسألة] التاسعة:
لا خلاف في وجوب اتصال الشرط في الكلام، وإن اختلف في الاستثناء، ولا خلاف في أنه يجوز تقيد الكلام بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي ولا يأتي فيه الخلاف في الاستثناء، قاله الإمام. قال الهندي: وهذا يجب تنزيله على ما علم أنه كذلك، وأما ما يجهل فيه الحال فيجوز أن يقيد، ولو بشرط لا يبقى من مدلولاته شيء، كقولك: أكرم من يدخل الدار إن أكرمك وإن اتفق أن أحدا منهم لم يكرمه.

(2/473)


[المسألة] العاشرة:
اختلفوا في الجمل المتعاطفة إذا تعقبها شرط، هل يرجع إلى الجميع أو يختص بالأخيرة؟ على طريقين.
أحدهما: على قولين، وممن حكاها الصيرفي في كتابه الدلائل، فقال: اختلف أهل اللغة في ذلك، فقال قوم: يرجع إلى ما يليه حتى يقوم دليل على إرادة الكل. وقال قوم: بل يرجع إلى الكل حتى يقوم دليل إرادة البعض ثم اختار الصيرفي رجوعه إلى الكل، لأن الشرط وقع في آخر الكلام، فلم يكن آخر المعطوفات أو به من غيره، فأمضي على عمومه.
وحكى الغزالي عن الأشعرية عدم عوده إلى الجميع. قال ابن الفارض المعتزلي في النكت : الذي في كتب علمائنا كثيرا رجوعه إلى الجميع. ويفرقون بينه وبين الاستثناء. ومنهم من سوى بينهما في رده إلى الجميع، قال: ووجدت بعض الأدباء يسوي بينهما في الرجوع إلى ما يليهما.
والطريقة الثانية: القطع بعوده إلى الجميع، والفرق أن الشرط منزلته التقدم على المشروط، فإذا أخر لفظا كان كالمصدر في الكلام، ولو صدر لتعلق بالجميع، فكذا المتأخر. وعلى هذا جرى ابن مالك في باب الاستثناء من شرح التسهيل، فقال: واتفق العلماء على تعلق الشرط بالجميع في نحو: لا تصحب زيدا ولا تزره ولا تكلمه إن ظلمني، واختلفوا في الاستثناء. انتهى. وهو ما أورده القفال والماوردي قالا: إلا أن

(2/473)


تنبيهات: [حكم الشرط إذا تقدم على المعطوف]
الأول: هذا إذا تأخر الشرط فإن تقدم قال الصفي الهندي: اختص بما يليه عند من خصه بجملة. قلت: وصرح الصيرفي بأن الحكم في تقدم الشرط على المعطوفات كحكمه إذا تأخر في العدد إلى الكل وبذلك جزم القاضي أبو الطيب فيما لو قال: إن شاء الله امرأتي طالق وعبدي حر، ومالي صدقة، وقصد الشرط أنه يرجع إلى الجميع. وصرح إلكيا الطبري بأنه إذا قدر للعموم شرط متقدم أو متأخر اقتضى تخصيص المشروط.
وقال أبو الحسن السهيلي من أصحابنا في كتاب أدب الجدل : مذهب الشافعي وكثير من أهل اللغة عود الشرط إلى الجميع، سواء تقدم الشرط الجمل أو تأخر عنها وقال أبو حنيفة وأصحابه وكثير من أهل اللغة إن كان في أول كلامه رجع إلى جميع ما يذكر عقبه، وإن كان في آخره رجع إلى أقرب مذكور إلا أن يقوم دليل على رجوعه إلى الجميع أو إلى أبعد مذكور. انتهى. وهذا التفصيل غريب.
وجعل شارح "اللمع" الخلاف فيما إذا لم يقم دليل على رجوعه إلى الجميع أو البعض، فإن قام دليل على الجميع تعين قطعا، كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] الآية فإن هذا الشرط يرجع إلى جميع الجمل بلا خلاف. وإن قام دليل على رجوعه إلى جملة منها رجع إليها كقوله: أنت طالق يا زانية إن شاء الله، فالاستثناء راجع إلى الطلاق لا إلى الزنا، لأنه صفة، فلا يصح تعليقه.

(2/475)


[إذا لم يكن الشرط منطوقا به فهل يعود إلى جميع الجمل]
الثاني: هذا إذا كان الشرط منطوقا به، فلو لم ينطق به; ولكن دل عليه دليل من خارج في بعض المذكورات، فهل يكون كالمنطوق حتى يرجع إلى جميع الجمل؟ فيه وجهان. وهذه المسألة غريبةلم أرها إلا في تعليق ابن أبي هريرة قال في باب قسم الفيء. إن سهم ذوي القربى يستحقونه مع الغنى، بخلاف اليتامى فإنه شرط فيهم الحاجة، فإن قيل: إن الشرط عندكم إذا نيط بآخر الكلام نصا أو دلالة رجع إلى أوله، وقد قام الدليل عندكم في اليتامى أنهم يعطون مع الحاجة، فوجب عود هذا الشرط إلى ذوي القربى. قيل له: هذا قول قاله بعض أصحابنا، وهو خطأ، ونحن نفرق بين المنطوق به والمدلول

(2/475)


عليه. هذا لفظه.

(2/476)


[الفرق بين الشرط والاستثناء]
[المسألة] الحادية عشرة:
فما يفارق فيه الشرط الاستثناء. قال الماوردي والروياني: الشرط يتعلق به إثبات ونفي، فيجري مجرى الاستثناء من جهة إثباتهما حكما ونفيهما آخر ويفترقان من وجوه:
منها: أن الاستثناء يخرج الأعيان، والشرط يخرج الأحوال. قاله ابن الفارض في "النكت". ومنها: أن الشرط يثبت الحكم في حال وجوده وينفيه في حال عدمه والاستثناء يجمع بين النفي والإثبات في حالة واحدة، وربما يتقدم الحكم شرط يقوم الدليل على ثبوت الحكم مع وجوده وعدمه، فلا يتعلق بالشرط إثبات ولا نفي، ويصرف بالدليل عما وضع له من الحقيقة كآية العدة.
ومنها: أن الشرط لا يجوز تأخير النطق به في الزمان عن المشروط قطعا، ويجوز ذلك في الاستثناء على قول. ومنها: أن الاستثناء لا يجوز أن يرفع جميع المنطوق به ويبطل حكمه بالإجماع، ويجوز أن يدخل الشرط كلام يبطل جميعه بالإجماع كقوله: أنتن طوالق إن دخلتن الدار، فلا تدخل واحدة منهن، ويبطل وقوع الطلاق انتهى.
ومنها: أنه يجوز في الشرط أن يكون الخارج به أكثر من الباقي بلا نزاع، بخلاف الاستثناء على قول.

(2/476)


[المسألة] الثانية عشرة:
يصح دخول الشرط على الشرط، فيكون الثاني شرطا في الأول ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط، كقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] ومعناه إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي، إن أردت أن أنصح لكم. وشرط ابن مالك في توالي الشرطين عدم العطف. قال: فلو عطفا فالجواب لهما معا، كقوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد:37] وقد يقال: هذا من توالي فعلي شرط لا من توالي شرطين، واختار الإمام في "النهاية" أن حكمه بالعطف كحكمه مع عدمه.

(2/476)


[المسألة] الثالثة عشرة:
المشروط هل يجب أن يحصل آخر جزء من الشرط أو عقبه؟ قال صاحب "النكت": ذكر أبو هاشم في "البغداديات" أنه يقع مع آخر جزء منه. قال: والمحكي عن فقهاء العراق وأكثر الشافعية أنه يقع بعد الشرط1.
قال: وكذلك الخلاف في الإيقاع. ومنهم من فرق بين الشرط والإيقاع. قال: وفائدة الخلاف تظهر في قولهم: إن تزوجتك فأنت طالق، ثم تزوجها، فإنه يصح العقد عند أبي هاشم، ويلغى الشرط، وذلك أنه إذا وجب حصول المشروط مع حصول الشرط والشرط هو العقد والمشروط حله، والعقد وحله لا يجتمعان في وقت واحد. وجب أن يلغو الشرط ويصح العقد، وعلى قول مخالفيه أن المشروط يقع بعد الشرط، فيصح العقد في الأول، وينحل في الثاني.
وقال الأصفهاني "شارح المحصول": العلة العقلية تتقدم على معلولها بالذات لا بالزمان على ما تقرر في علم المعقول. والشرط مع المشروط يجب أن يكون حكمه حكم العلة العقلية لأن الشرط ما يتوقف عليه تأثير المؤثر، فإذا وجد وجد المؤثر التام، والمؤثر التام يقارنه وجود الأثر من غير ترتيب، فإن المؤثر الشرعي حكمه حكم المؤثر العقلي، وذلك لمطابقة الشريعة الحقيقة، ومنهم من نقل الخلاف في أنهما معا، ولا بد من ترتبه. واعلم أن الخلاف وجهان لأصحابنا حكاهما الرافعي في باب تعليق الطلاق وأصحهما أنه عقبه، ولهذا لو قال لغير المدخول بها: إن طلقتك فأنت طالق، ثم طلقها لم يقع المعلق على الأصح.
ـــــــ
1 انظر الروضة "8/130".

(2/477)


[المسألة] الرابعة عشرة:
لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالعقل، بل تكفي الملازمة بالوضع، فإذا قلت: إن جاء زيد أكرمته، فهذا لازم بالوضع، أي وضع المتكلم، وليس بالضرورة الإكرام لازما للمجيء، وكلام ابن خروف من النحويين يقتضي اللزوم العقلي ; فإنه قدر في قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل:12] أن المعنى: وأخرجها، تخرج وإنما قدره كذلك، لأنه لا يلزم من إدخالها خروجها، و "تخرج" مجزوم على الجواب، فاحتاج أن يقدر جوابا لازما وشرطا ملزوما حذفا، لأنهما

(2/477)


نظيرا ما أثبت لكن وقع في تقدير ما لا يفيد، لأنه يلزم أنه إن أدخلها تدخل. والصواب - وبه قال ابن الصائغ من النحويين - أنه لا حاجة إلى ذلك، فإن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى:ألا ترى أنه لا يلزم أيضا من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد؟

(2/478)


[المسألة] الخامسة عشرة:
عند أهل العربية أن الحكم هو الجزاء وحده، والشرط قيد بمنزلة الظرف والحال، حتى إن الجزاء إن كان خبرا فالشرطية خبرية. وإن كان إنشاء فإنشائية، وعند أهل النظر أن مجموع الشرط والجزاء كلام واحد، دل على ربط شيء بشيء، وثبوته له على تقدير ثبوته من غير دلالة على الانتقاء عند الانتفاء، وكل من الشرط والجزاء بمنزلة المبتدأ والخبر. وعلى الأول يتفرع مذهبنا في مفهوم الشرط، وعلى الثاني يتفرع قول الحنفية في إنكاره، وسنبينه هناك إن شاء الله تعالى.

(2/478)


[الثالث] التخصيص بالصفة
والمراد بها المعنوية لا النعت بخصوصه، نحو أكرم العلماء الزهاد، فإن التقييد بالزهاد يخرج غيرهم. قال إمام الحرمين في باب القضاء من النهاية: الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص، فإذا قلت: رجل، شاع هذا في ذكر الرجال، فإذا قلت: طويل اقتضى ذاك تخصيصا، فلا تزال تزيد وصفا، فيزداد الموصوف اختصاصا، وكلما كثر الوصف قل الموصوف. ا هـ.
وهي كالاستثناء في وجوب الاتصال وعودها إلى الجمل. قال المازري1: ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت، والتوكيد، والعطف، والبدل; وإنما الخلاف في الاستثناء. وقال بعضهم: الخلاف في الصفة النحوية، وهي التابع لما قبله في إعرابه، أما الصفة الشرطية فلا خلاف فيها.
وقال أبو البركات بن تيمية: فأما الصفات وعطف البيان والتوكيد والبدل ونحوها من المخصصات فينبغي أن تكون بمنزلة الاستثناء. وقال الإمام فخر الدين إذا
ـــــــ
1 انظر المسودة ص "157"

(2/478)


مسألة: [توسط الوصف بين الجمل]
فأما إذا توسط الوصف بين الجمل. ففي عوده إلى الأخيرة خلاف حكاه ابن داود، من أصحابنا في شرح مختصر المزني. قال: وبني عليهما القولان في إيجاب المتعة للمطلقة بعد الدخول استنباطا من: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236].
قال: ووجه البناء أن الحكم المقصود إنما هو رفع الجناح عن المطلقين قبل المسيس والفرض، ثم إنه عطف عليه بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236] فإن أعدنا الصفة إليه أيضا لم تجب المتعة لغير هؤلاء، وكأنه قيل: ومتعوا المذكورات، فإن لم نعده وجبت، كأنه قيل: ومتعوا النساء. وقضيته عدم ترجيح عوده إليهما.

(2/479)


مسألة: [فائدة الصفة]
الوصف إما أن يكون لمعرفة أو نكرة، فإن كان لنكرة ففائدته التخصيص، نحو مررت برجل فاضل. ومنه {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران:7] وإن كان لمعرفة ففائدته التوضيح ليتميز به عن غيره، نحو زيد العالم، ومن الصلاة الوسطى ويسميه البيانيون المفارقة.
وخالفهم ابن الزملكاني تلميذ ابن الحاجب في "كتاب البرهان"، فقال: إذا دخلت الصفة على اسم الجنس المعرف بالألف واللام كانت للتخصيص لا للتوضيح، لأن الحقيقة الكلية لو أريدت باسم الجنس من حيث هي هي كان الوصف لها نسخا فتعين أن يكون بها الخاص ثم الصفة تأتي مبينة لمراد المتكلم.

(2/479)


[الرابع] [التخصيص بالغاية]
وهي نهاية الشيء ومنقطعه وهي حد لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها. ولها لفظان حتى، وإلى كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة:187] وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ونحو أكرم بني تميم، حتى يدخلوا أو إلى أن يدخلوا، فيقتضي تخصيصه بما قبل الدخول.

(2/480)


والمقصود بالغاية ثبوت الحكم لما قبلها، والمعنى يرتفع بهذه الغاية، لأنه لو بقي فيما وراء الغايةلم تكن الغاية منقطعا، فلم تكن الغاية غاية; لكن هل يرتفع الحكم من غير ثبوت ضد المحكوم عليه أم تدل على ثبوت المحكوم عليه فقط؟ هو موضوع الخلاف كما في الاستثناء، والمختار الأول.
وأما ما جعل غاية في نفسه فهل يندرج في حكم المعنى أم لا؟ فيه الخلاف الآتي في المفهوم. فإذا قلت: اشتريت من كذا إلى كذا، أو من كذا حتى كذا، فلا خلاف فيما قبل الغاية أنه. داخل وأن ما بين مبتدأ الغاية ومنتهاها داخل إنما الخلاف فيما بعد الغاية، منهم من فرق بين حتى فتدخل و إلى فلا تدخل.
قال الماوردي والروياني: ويتعلق بالغاية إثبات ونفي كالاستثناء والشرط، إذ الشرط موجب لثبوت الحكم بعده، ولا يبقى به قبله، والغاية موجبة لثبوت الحكم قبلها لا بعدها. فإن تعلق بالغاية شرط الإثبات بهما والنفي بأحدهما، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] وهذا غاية. ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222] وهذا شرط، فلا يستباح وطؤها إلا بالغسل بعد انقطاع الدم، وتنتفي الاستباحة بعدمهما، أو عدم أحدهما من غاية أو شرط. وكذا جعل ابن السمعاني الآية من تعليق الحكم بغاية وشرط، والغسل شرط، فكانا معتبرين في إباحة الإصابة.
وقال الأصوليون: يجوز أن يجعل للحكم غايتان كهذه الآية. وقال في "المحصول": الغاية هي الأخيرة، لأنها الذي يترتب عليها الحكم، وسميت الأولى غاية مجازا لقربها من الغاية واتصالها بها، ونوزع بأن هاتين غايتان لشيئين فما اجتمع غايتان، لأن التحريم الناشئ عن دم الحيض غايته انقطاع الدم، فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشئ عن عدم الغسل، فالغاية الثانية غاية هذا التحريم الثاني. وقال غيره: ليس هنا غايتان، لأنهم قالوا: لها حرفان حتى، وإلى وليس هنا غير حتى، فلو كان الحرفان هنا لأمكن ما قالوا، وإنما هو نظير قولك لا تكرم زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل فأكرمه وأيضا فإن كان على قراءة التشديد في {يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فالغاية واحدة وهي تأكيد للمعنى الأول على قراءة التخفيف، أي ينقطع حيضهن، فبعده {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي اغتسلن، وهو شرط، فيتعارض مفهوم الغاية ومفهوم الشرط، فأيهما يقدم؟ الظاهر تقديم مفهوم الشرط، وحمل القرآن على تكثير الفوائد من حمله على التأكيد.
وحكى التبريزي في اختصار "المحصول": فيما إذا كانت الغاية لها جزءان أو أجزا

(2/481)


خلافا في أن الغاية هي الأولى أم الأخيرة؟ قال القرافي: ولم أره إلا فيه، وغيره يحكي الاندراج مطلقا، ولم يتعرض للأجزاء.
قلت: وهو قريب من الخلاف الفقهي في أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بمجرد غسله أم يتوقف على تمام الأعضاء؟ الأصح الأول. فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ1" فالحدث مغيا بالوضوء، والوضوء ذو أجزاء فهل يرتفع عن العضو بمجرده، أم لا يرتفع شيء منه حتى توجد الغاية بتمامها؟ وكذلك قوله: "إذا تطهر فلبس خفيه2" هل المراد تطهر طهرا كاملا، أو طهرا ما حتى غسل رجلا. وأدخلها، ثم أخرى وأدخلها جاز؟ وفيه خلاف، هذا مأخذه.
وحكى غيره مذهبا ثالثا بالتفصيل، فقال: إن كانت منفصلة عن ذي الغاية كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فالغاية أول جزء منه، وإن لم تكن منفصلة كقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فالغاية آخر جزء من أجزائها. واعلم أن الأصوليين أطلقوا كون الغاية من المخصصات، قال بعض المتأخرين: وهذا الكلام مقيد بغاية تقدمها لفظ يشملها، لو لم يؤت بها، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين، أعطوا الجزية أولم يعطوها. ووراءه صورتان:
إحداهما: غاية لم يشملها العموم ولا صدق عليها اسمه، فلا يؤتى بها إلا لعكس ما يؤتى بالغاية في القسم قبله، فإن تلك يؤتى بها لتخصيص العموم أو تقييد المطلق; وهذه يؤتى بها لتحقيق العموم وتأكده وإعلام أنه لا خصوص فيه، وأن الغاية فيه ذاكرة بحال قصد منه أن يتعقب الحال الأولى بحيث لا يتخللها شيء.
ومثاله قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق3" . فحالة البلوغ والاستيقاظ
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور، برقم "135". ورواه مسلم كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة حديث "225"
2 رواه الدارقطني في سننه "1/204" عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن أن يمسح عليهما". ورواه ابن خزيمة في صحيحه "1/96" حديث "192"، وابن حبان في صحيحه "4/157" حديث "1328"، ورواه البيهقي في الكبرى "1/281" حديث "1251" وقال الخطابي صحيح الإسناد.
3 رواه أبو داود "4/140"، كتاب الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدا، برقم "4401".....=

(2/482)


والإفاقة تضاد حالات الصبا والنوم والجنون، وقصد بالغاية هنا استيعاب رفع القلم لتلك الأزمنة بحيث لم يدع ولا آخر الأزمنة الملاصقة للبلوغ والاستيقاظ والإفاقة، وهذا تحقيق للعموم.
ومنه قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] قصد به تحقيق أن الحالة الملاصقة لطلوع الفجر مما شمله سلام بما قبلها بطريق الأولى. وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] فإن حالة الطهر لا يشملها اسم الحيض.
والصورة الثانية: غاية شملها العموم، أتت أولم تأت، فهذه أيضا لا يؤتى بها إلا لتحقيق العموم، كقولك: قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته. المراد تحقيق قراءتك للقرآن كله، بحيث لم تدع منه شيئا، وكذلك قطعت أصابعه من الخنصر إلى البنصر، المراد تحقيق العموم واستغراقه لا تخصيصه. انتهى.
وحاصله أن ما يشمله العموم لولم يأت هو مراد الأصوليين، ووراءه صورتان: ما لم يشمله ألبتة، وما يشمله وإن أتت. وهاتان لا تكون الغاية فيهما للتخصيص
هذا كله في حكم ما بعد الغاية نفسها، هل يدخل في المغيا، كقولك: أكلت حتى قمت؟ هل يكون القيام محلا للأكل؟ فيه مذاهب:
أحدهما: أنه داخل فيما قبله.
والثاني: لا يدخل، وهو مذهب الشافعي والجمهور، كما قاله الإمام في "برهان".
والثالث: أنه لا يدل على شيء، واختاره الآمدي هو ظاهر كلام الرافعي في باب الوضوء. والرابع: إن كان من جنسه دخل وإلا فلا، نحو بعتك التفاح إلى هذه الشجرة، فينظر في تلك الشجرة أهي من التفاح فتدخل أم لا، فلا تدخل؟ قاله الروياني في "البحر" في باب الوضوء، وحكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد.
والخامس: قال في المحصول: وهو الأولى إن تميز عما قبله بالحس، نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإن حكم ما بعدها خلاف ما قبلها، وإن لم يميز حسا
ـــــــ
ورواه النسائي، كتاب الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج، برقم "3432" كلاهما عن علي مرفوعا ورواه ابن ماجه عن عائشة مرفوعا "1/658"، كتاب الطلاق، باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم، برقم "2041" كلهم بألفاظ متقاربة.

(2/483)


استمر ذلك الحكم على ما بعده، مثل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإن المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس قال القرافي: وقول الإمام: يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها مدخول من جهة أنا لا نعلم خلافا بعد الغاية. وهذا يقتضي ثبوت الخلاف فيه، والخلاف ليس إلا في الغاية نفسها.
والسادس: إن اقترن "بمن" لم يدخل، نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، فلا يدخل في البيع، وإن لم يقترن جاز أن يكون تحديدا وأن يكون بمعنى "مع". قال إمام الحرمين في "البرهان1": إنه مذهب سيبويه. وأنكره عليه ابن خروف وقال: لم يذكر سيبويه منه حرفا، ولا هو مذهبه; والذي قاله في كتابه: "إن" "إلى" منتهى الابتداء. تقول: من مكان كذا إلى كذا، وكذلك "حتى" قال: ولها في الفعل حال ليس "لإلى". تقول: قمت إليه، فتجعله منتهاك من مكانك، ولا تكون حتى هنا. فهذا أثر "إلى"، وأصلها، وإن اتسعت فهي أعم في الكلام من "حتى": تقول: قمت إليه، فتجعله منتهاك من مكانك. ولا تقول حتاه. هذا لفظ سيبويه. ولم يذكر في كتابه غير ذلك.
وهذا كله في غاية الانتهاء، أما غاية الابتداء ففيها قولان فقط. قاله القرافي.
وطرد الأصفهاني الخلاف فيها، فقال: وفيها مذاهب: يدخلان. لا يدخلان، ثالثها: تدخل غاية الابتداء دون الانتهاء. رابعها: إن قرب حسا خرجت، وإلا دخلت. خامسها: إن اختلف الجنس خرجت. ثم قال القرافي: وهذا الخلاف مخصوص "بإلى" ولا يجري في حتى لقول النحاة: إن المعطوف بحتى شرطه أن يكون من جنس ما قبلها، وداخلا في حكمه، وآخر جزء منه أو متصلا به، أو فيه معنى التعظيم أو التحقير، فقطعوا باندراج ما بعدها في الحكم، وخالفه الأصفهاني. قال: بل يجري فيها وهي إذا جاءت عاطفة ليست بمعنى إلى فلا منافاة بين قول النحويين والأصوليين.
وهاهنا أمور:
أحدها: أن هذا الخلاف محله في غاية يتقدمها لفظ يشملها على ما سبق تقريره.
الثاني: أن من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية، ويتكرر حتى يصل إليها،
ـــــــ
1 انظر البرهان "1/192".

(2/484)


كقولك:سرت من البصرة إلى الكوفة; فإن السير الذي هو المغيا ثابت قبل الكوفة، ويتكرر في طريقها. وعلى هذا يمنع أن يكون قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] غاية لغسل اليد، لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط. فليس ثابتا قبل المرفق الذي هو غاية، فلا ينتظم غاية له، وإنما ينتظم أن لو قيل: اغسلوا إلى المرافق لأن مطلوب الغسل ثابت إلى المرفقين ومتكرر.
قال بعض الحنفية: فتعين أن يكون المغيا غير الغسل، ويكون التقدير: اتركوا من آباطكم إلى المرافق فيكون مطلق الترك ثابتا قبل المرفق، ويتكرر إليه، ويكون الغسل نفسه لم يغي، في هذا يتعارض المجاز والإضمار، فإنه إما أن يتجوز بلفظ اليد إلى جزئها حتى يثبت قبل الغاية، ولا يضمر. وإما أن يضمر كما يقول: هذا الحنفي، ومن هذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] يقتضي ثبوت الصيام بوصف التمام قبل غروب الشمس، ويتكرر إلى غروبها، وليس كذلك. ويشكل كون الليل غاية للصوم التام، وإنما ينتظم، لو قيل صوموا إلى الليل.
قال القرافي: أورده الشيخ عز الدين وأجاب عنه بأن المراد أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله. وكرروا ذلك إلى الليل، والكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء الصوم دون جزء، من جهة اجتناب الكذب والغيبة والنميمة وغير ذلك مما يأباه الصوم، وكذلك آدابه الخاصة: كترك السواك، والتفكر في أمور النساء، وغير ذلك. فأمرنا بتكرير هذا إلى غروب الشمس.
الثالث: أن أصحابنا في الفروع صححوا عدم دخولها فيها إذا قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، لم يدخل الجداران في البيع وصححوا دخول غاية الابتداء دون الانتهاء فيما لو قال: له علي من درهم إلى عشرة، أو ضمنت مالك عليه من درهم إلى عشرة. فالصحيح لزوم تسعة، ولو شرط في البيع الخيار إلى الليل انقطع الخيار بغروب الشمس خلافا لأبي حنيفة، فإنه أثبته إلى طلوع الفجر، وكذا إذا باعه بثمن إلى شهر لم يدخل الشهر الثاني في الأجل. ولو وكله في بيع عين بعشرة مؤجلة إلى يوم الخميس، لم يدخل يوم الخميس في الأجل. قاله في "البحر" ولو حلف ليقضين حقه إلى رأس الشهر، لم يدخل رأس الشهر في اليمين; بل يجب تقديم القضاء عليه. ولو قال: أردت "بإلى" معنى عند ففي قبوله وجهان، حكاهما الغزالي في "البسيط" ورجح القبول.

(2/485)


التخصيص بالبدل
أعني بدل البعض من الكل، نحو أكلت الرغيف ثلثه، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة:71] ذكره ابن الحاجب في مختصره. وأنكره الصفي الهندي. قال: لأن المبدل كالمطروح، فلم يتحقق فيه معنى الإخراج، والتخصيص لا بد فيه من الإخراج، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، أن تقديره ولله حج البيت على من استطاع، وكذا أنكره الأصفهاني "شارح المحصول". وهذا أحد المذاهب فيه، والأكثرون على أنه ليس في نية الطرح.
قال السيرافي: زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول، وهو المبدل منه، ولا يريدون بذلك إلغاءه، وإنما مرادهم أن البدل قائم بنفسه، وليس تبيينا للأول كتبيين النعت الذي هو تمام المنعوت، وهو معه كالشيء الواحد، ومنهم من قال: لا يحسن عدل البدل، لأن الأول في قولنا: أكلت الرغيف ثلثه، يشبه العام المراد به الخصوص، لا العام المخصوص.
تنبيهان
الأول: إذا جعلناه من المخصصات فلا يجيء فيه خلاف الاستثناء في اشتراط بقاء الأكثر; بل سواء قل ذلك البعض أو ساواه أو زاد عليه، كأكلت الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
الثاني: يلتحق ببدل البعض ذلك بدل الاشتمال، لأن في كليهما بيانا وتخصيصا للمبدل منه.

(2/486)


التخصيص بالحال
هو في المعنى كالصفة، وظاهر كلام البيضاوي أنه إذا تعقب جملا عاد إلى الجميع بالاتفاق، ونحو أكرم ربيعة، وأعط مضر، نازلين بك. لكن صرح في "المحصول" بأنا نخصه بالأخيرة على قاعدة أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

(2/486)


التخصيص بالظرفين والجار والمجرور
نحو أكرم زيدا اليوم، أو في مكان كذا، ولو تعقب جملا، فظاهر كلام

(2/486)


التمييز
نحو له عندي ملء هذا ذهبا. وإن تعقب جملا، فظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق. وينبغي أن يأتي فيه ما سبق في الحال، ويشهد للخلاف عندنا ما لو قال: له عندي كذا وكذا درهما، فيلزمه درهمان على المذهب. وفي قول درهم وشيء والأول: ظاهر في العود إلى الجميع والثاني: ظاهر في اختصاصه بالأخيرة. وما لو قال: له علي خمسة وعشرون درهما، هل قوله: درهما، تفسير لما يليه من الجملتين، أو هو تفسير للجملتين؟ فيه وجهان، وحكاهما الشاشي في "الحلية" ونسب الأول للإصطخري وابن خيران. والثاني: للجمهور. وبنى عليهما ما لو قال: بعتك هذا بخمسة وعشرين درهما. فعلى الأول لا يصح، وعلى الثاني يصح.
مسألة
المميز إذا ورد على شيئين، وأمكن أن يكون مميزا لكل واحد منهما، وأن يكون مميزا للمجموع، فيه خلاف، يتخرج عليه مسألة: لو قال: إن حضتما حيضة، فأنتما طالقان، وجهان: أحدهما: أنه لكل منهما. والثاني للمجموع، وهو محال فيكون تعليقا بمستحيل، ومثله: إن دخلتما هاتين الدارين.

(2/487)


المفعول معه وله
كل منهما مقيد للفعل، ويفترقان من جهة أن المفعول له هو الغرض الحامل على الفعل، فهو لازم للفعل في المعنى، بخلاف المفعول معه قال بعض النحويين: وفي المفعول معه الفاعل مصاحب له، لا أنه مشترك مع صاحب الفعل في الفعل.
مسألة
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتابه: اختلفوا في الجملتين المتصلتين إذا أمكن إفراد كل واحد بلفظها وحكمها، وقام الدليل على تخصيص إحداهما من غير استثناء أو وصف متصل بهما، فقال الأكثرون: إنه لا يؤثر فيما اتصل به، ولا يحمل على حكمه إلا بمثل دليله. وقال آخرون: إنه يوجب التسوية بينهما، وإذا لم يمكن إفراد كل واحدة منهما بالحكم واللفظ كانتا كالجملة الواحدة، والاستثناء عامل فيها معا، وإن اختصت الدلالة بإحداهما.
مسألة
قال: وكذلك الحكم في الضمير، وإذا اتصل بأحد الأجناس مع العطف فإنه يعود إلى الجميع، كقولهم: أعطيت بني زيد، وأكرمت بني عمرو، وأكرموني وأعطوني. وكقولهم: جاءني بنو فلان، وهم أكلوا، فالهاء والميم والواو والألف في الجميع راجع إلى جميع ما تقدم، لا يخص منه شيء إلا بدليل. فإن جمع بين الذكور والإناث، فإن وصل الكلام بسمة الجمع الموضوعة للإناث كانت للجنس المختص بها في أصل الوضع، كقولك: جاءني مسلمون ومؤمنات، فأكلن. ويجوز حمله على الجميع بدليل نحو فأكلن، وأكلوا على الاختصار. وإن وصل بالسمة الموضوعة لجمع الذكور. فالظاهر رجوعها إلى الذكور، ولا يحمل على الجميع إلا بدليل.
قال: ولا فرق في ذلك بين تقديمهم ما تعود الكناية إليه على غير جنسه، أو تقديم جنسه عليه في أن الظاهر رد الضمير.

(2/488)


مسألة
إذا ذكر حكم، وعقب بشرط ثم ذكر بعده إشارة، هل تعود للشرط أو للأصل؟ فيه خلاف بيننا وبين الحنفية، أصله أنه لا يكره للمكي التمتع والقران، ولا يلزمه الدم عندنا وعنده يكره، ويلزمه الدم. ومنشأ الخلاف من قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [البقرة:196] إلى أن قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] فعندنا ذلك يرجع إلى الدم وعنده إلى أصل التمتع.

(2/489)


التخصيص بالأدلة المتصلة
والمراد منه ما يستقل بنفسه, ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه. وقد ذكروها ثلاثة: الحس, والعقل, والدليل السمعي. قال القرافي: والحصر غير ثابت فقد بقي التخصيص بالعوائد, كقولك: رأيت الناس أفضل من زيد, العادة تقتضي بأنك لم تر كل الناس. وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك: ائتني بمن يحدثني, فإن ذلك لن يصلح لحديثه في مثل حاله والتخصيص بالقياس إلا أن يدعي دخوله في السمعي
قلت: وقد ذكر الرافعي. في باب الوكالة أن القرائن قد تقوى فيترك لها إطلاق اللفظ. قال: ألا ترى أنه إذا أمره في الصيف بشراء شيء لا يشتريه في الشتاء. قال: وقد يتعادل اللفظ والقرينة وينشأ من تعادلهما خلاف في المسألة, ثم نقل بعد أوراق عن الإمام في الكلام على أن الوكيل هل يوكل؟ أن الخلاف ناظر إلى اللفظ والقرينة, وفي القرينة تردد في التعميم والتخصيص وفي هذا فائدة أخرى وهي أن القرائن "قد" يثبت فيها العموم.

(2/490)


الأول "التخصيص بدليل" العقل
يجوز التخصيص بدليل العقل ضروريا كان أو نظريا، فالأول: كتخصيص قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه. والثاني: كتخصيص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران:97] الآية فإنا نخصص الطفل والمجنون لعدم فهمهما الخطاب. قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
قال القاضي أبو بكر: وصورة المسألة أن الصيغة العامة إذا وردت واقتضى العقل امتناع تعميمها، فيعلم من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل، وليس المراد به أن العقل صلة للصيغة نازلة له منزلة الاستثناء المتصل بالكلام، ولكن المراد به ما قدمناه، أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها.
وقد منع بعضهم التخصيص بالعقل، وهو ظاهر نص الشافعي في "الرسالة1" فإنه قال في باب: ما نزل من كتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص، ثم قال
ـــــــ
1 الرسالة ص "53".

(2/490)


الشافعي: قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: من الآية62] وذكر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] فهذا عام لا خصوص فيه، فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك، فالله خالقه، وكل دابة فعلى الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها. انتهى.
وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الشافعي، لأن التخصيص من العموم لما يصح دخوله فيه، لولا دليل التخصيص، فأما الذي يستحيل دخوله في عموم الخطاب فليس خروجه عنه تخصيصا
وقال في كتاب "التحصيل": إن الشافعي نص عليه، قال في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: من الآية62]: إنه عام لا خصوص فيه. واعترض ابن داود عليه بتخصيص كلامه وصرفه عن ظاهره. وأجاب ابن سريج والصيرفي عنه بأن التخصيص معناه أن يخرج عن عموم اللفظ بالدليل ما كان يجوز دخول فيه من طريق العقل ; فأما الذي يستحيل دخوله في عموم اللفظ، فإن خروجه عن الخطاب لا يكون تخصيصا. انتهى.
وفصل الشيخ أبو إسحاق في "اللمع1" بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة، فيمتنع التخصيص به، لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع، فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه، فيجوز نحو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فإن المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك. انتهى. وهذا يحسن أن يكون تقييدا لكلام من أطلق، لا مذهبا آخر.
ثم قال القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري والغزالي وإلكيا الطبري وغيرهم: النزاع لفظي، إذ مقتضى العقل ثابت دون اللفظ إجماعا; لكن الخلاف في تسميته تخصيصا، فالخصم لا يسميه، لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص، وهو الإرادة لا العقل، ولأن دليل العقل سابق، فلا يعمل في اللفظ; بل يكون مرتبا عليه ومعنى قولنا: إنه مخصص أن الدليل دل على أن المراد به الخصوص، ولذلك العقل هذا الحظ، والدليل لا يخص; ولكنه يعلم أنه القصد فلا فرق إذن بين دليل العقل والسمع في ذلك.
ـــــــ
1 انظر اللمع للشيرازي ص "32"

(2/491)


وكذا قال الأستاذ أبو منصور: أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم، واختلفوا في تسميته تخصيصا، ومنهم من قال: إنه معنوي، ثم اختلفوا فقيل: وجهه عند من لا يقول به، أن اللفظ غير موضوع له، لأنه لا يوضع لغير المعقول، فيكون انتفاء الحكم لعدم المقتضي، وهو حجة، وحقيقة عنده قطعا. ومن قال: إنه مخصص كان مجازا على الخلاف في العام إذا خص، فيجري فيه الخلاف على هذا، ولا يجري على الأول.
وقيل: بل الخلاف راجع إلى التحسين والتقبيح العقليين، وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة. قال: المنع بناء على أن العقل لا يحسن ولا يقبح، وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل. وأنكره الأصفهاني.
وقال النقشواني: الكلام ليس في مطلق العموم; بل في العمومات الدالة على الأحكام الشرعية. فإن الفقيه لا ينظر في غير أدلة الشرع، وكذا الأصولي. وحينئذ فالعقل لا مجال له في تحصيل هذه العمومات إلا بالنظر في دليل آخر شرعي; فإذا فرضنا نصا يقتضي إباحة القتل، فالعقل إنما يخصصه لو أدرك المصلحة، وكيف يدركها؟ فلا يخصصها. انتهى. وهذا الذي قاله مردود بما سبق عن القاضي وغيره في تصوير المسألة.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: اختلفوا هل يدخل في العموم ما يمنع العقل إجراء الحكم فيه؟ على قولين:أحدهما: أنه لا يتناوله، فيخرجه به دليله. والثاني: أنه يتناوله كغيره إلا أن الدليل أوجب إخراجه عنه.
قال: وفائدة الخلاف هنا: أن اللفظ إذا ورد عنه - عليه الصلاة والسلام في إسقاط أو إيجاب أو حظر أو إباحة، فهل يستدل به على وجوب تلك الأحكام عليه أو لا؟ هذا كلامه، وهو أثبت معقول في هذه المسألة
تنبيهان
الأول: من أمثلتهم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] وينبغي أن يعلم أن الشيء مصدر شاء يشاء، فهو من أسماء الأفعال، فإطلاقه على الذوات من باب إطلاق المصدر على المفعول كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] أي مخلوق الله، ونحو درهم ضرب الأمير، أي مضروب الأمير. فقولنا: هذا شيء في الذوات، أي مشاء، فحقه أن يكون ما تتعلق به المشيئة، إما بالفعل كالموجودات أو بالقوة كالمعدوم الممكن. فقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ

(2/492)


شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75] وما شاكله على عمومه، لأن إلها ثابتا ونحوه من المحالات، فلا تتعلق به المشيئة لا بالفعل، ولا بالقوة، فلا يسمى شيئا، فلا يدخل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] فلا يقال: إنه عام مخصوص، فإنه لم يدخل فيه المحال لذاته.
والشيء عند أهل السنة يخص الموجود لا المعدوم، خلافا للمعتزلة، فإنهم يقولون في المعدوم الذي يصح وجوده شيء وأما المستحيل فلا خلاف عند المتكلمين في أنه لا شيء
وغلط الزمخشري على المعتزلة، فأدخل المستحيل في اسم الشيء، وإنما هذا مذهب النحاة، فإن سيبويه وقع له أن الشيء عام متناول. قال: هو كما تقول: معلوم، ولا خفاء في أن المعلوم يدخل فيه المستحيل، على أن أبا هاشم يقول: العلم بالمستحيل علم لا معلوم له ومما يحقق أن الشيء مختص بالموجودات أنه مصدر من شاء يشاء إذا قصد، فكأن الشيء هو المقصود إليه، وإنما يقصد الموجود، لا المعدوم والمستحيل. وأيضا فإطلاق الشيء على الذات الكريمة فيه خلاف، ولئن سلم فهو من باب المشكل; لأنه شيء قديم واجب الوجود لذاته، لا يشاكله شيء من المخلوقات. وقيل: بل يسمى شيئا بمعنى الشائي، والمخلوقات تسمى شيئا بمعنى المشاء، فالمعنى مختلف. فيكون مشتركا.
الثاني: من حكم الدليل العقلي أن لا يخصص إلا بالقضايا العقلية، ومن حكم الدليل السمعي أن لا يخصص إلا بالقضايا السمعية. والدليل العقلي لا يتصور فيه إخراج أمر خاص من خطاب عام، وإنما يتصور ذلك في الدليل السمعي، والدليل العقلي لا يكون إلا متقدما، بخلاف السمعي. ذكره العبدري في "شرح المستصفى".

(2/493)


الثاني [دليل] الحس
كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] مع أنها لم تؤت ما كان في يد سليمان وكذلك قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الاحقاف:25] وقوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] وفي عد هذا نظر، لأنه من العام الذي أريد به الخصوص، وهو خصوص ما أوتيته هذه، ودمرته الريح، لا من العام المخصوص. ولم يحكوا هنا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل، وينبغي طرده ونازع الغزالي في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل، لأن أصل العلوم كلها الحس كما ذكره في مقدمة "المستصفى"

(2/494)


الثالث: الدليل السمعي
وفيه مباحث: الأول في تخصيص المقطوع بالمقطوع
وفيه مسائل: الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب
في قول جمهور الأمة، خلافا لبعض الظاهرية المتمسكين بأن المخصص بيان للمراد باللفظ، فيمتنع أن يكون بيانه إلا من السنة، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ولنا أنه وقع، لأن الله تعالى قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] الآية وهي عامة في الحوامل وغيرهن، فخص أولات الحمل بقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وخص به أيضا المطلقة قبل الدخول بقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].
وما قالوه معارض بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] والجمع بين الآيتين أن البيان تحصل من الرسول عليه السلام، وذلك أعم أن يكون منه أو على لسانه.
وقال الشريف المرتضى في الذريعة: الخلاف يرجع إلى اللفظ، والمخالف يسمي التخصيص بيانا.
الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة بمثلها والخلاف فيه أيضا، وحكى الشيخ أبو حامد عن داود أنهما يتعارضان، لا ينبني أحدهما عن الآخر. وقال القاضي عبد الوهاب: منع قوم تخصيص السنة بالسنة. لأن الله تعالى جعله مبينا، فلو

(2/494)


احتاجت إلى بيان لم يكن للرد إليه معنى.
الثالثة: يجوز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة، قولا واحدا بالإجماع، كما حكاه الأستاذ أبو منصور. وقال الآمدي: لا أعرف فيه خلافا، لكن حكى بعضهم في الفعلية خلافا. وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: لا خلاف في ذلك، إلا ما يحكي داود في إحدى الروايتين. وقال ابن كج: لا شك في الجواز، لأن الخبر المتواتر يوجب العلم كما أن ظاهر الكتاب يوجبه.
وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها. كتخصيص آية المواريث بحديث: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم1" وهو مثال للقولية. ومثلوا للفعلية بأن قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] مخصوص بما تواتر عندهم من رجم المحصن
تنبيه
كلام الشافعي في "الرسالة2" يقتضي أن السنة لا تخص القرآن إلا إذا كان فيه احتمال التخصيص، فإن قال فيها: ويقال خاص حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أريد بها الخاص، فأما إن لم يكن محتملة له فلا يقال فيها بما لا تحتمل الآية، وهو الثابت في الحديث: "أنه يؤخذ من كل حالم دينار3" ، وهو نظير قوله في نسخ السنة القرآن.
الرابعة: يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب عند الجمهور، وعن بعض فقهاء أصحابنا المنع، وعن أحمد روايتان. قال ابن برهان: وهو قول بعض المتكلمين. وقال مكحول، ويحيى بن أبي كثير: السنة تقضي على الكتاب، والكتاب لا يقضي على السنة.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، برقم "6764" واللفظ له. ورواه مسلم "3/1233"، كتاب الفرائض، باب: باب، برقم "1614".
2 الرسالة ص "64 – 72".
3 جزء من حديث: رواه أبو داود "2/101"، كتاب الزكاة، باب : في زكاة السائمة، برقم "1576". ورواه الترمذي "3/20"، كتاب الزكاة، باب: ما جاء في زكاة البقر، برقم "623". ورواه النسائي "5/25"، كتاب الزكاة، باب: زكاة البقر، برقم "2450". وهو حديث صحيح.

(2/495)


تنبيه
سيأتي في باب النسخ من كلام الشافعي1 أن السنة لا ينسخها القرآن إلا إذا كان معها سنة تبين أنها منسوخة، وإلا خرجت السنن عن أيدينا، فيحتمل أن لنا هنا اشتراطه، ويحتمل خلافه، والفرق أن النسخ رفع فهو أقوى من التخصيص.
الخامسة: يجوز تخصيص عموم الكتاب، وكذا السنة المتواترة بالإجماع لأنه لا يمكن الخطأ فيه، والعام يتطرق إليه الاحتمال. قال الآمدي: لا أعرف فيه خلافا، وكذا حكى الإجماع عليه الأستاذ أبو منصور قال: ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره، وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع، لا بنفس الإجماع، لكن حكى الإمام بن القشيري الخلاف هاهنا، فقال: يجوز التخصيص بالإجماع على معنى أنه إذا ورد لفظ عام واتفقت الأمة على أنه لا يجري على عمومه، فالإجماع مخصص له كما قلنا في دليل العقل.
والمخالف في تلك المسألة يخالف في هذه، وقد بينا أن الخلاف لفظي.
وقال أبو الوليد الباجي: يجوز التخصيص بالإجماع فإذا أجمعوا على أن ما رفع عن العام خارج منه، وجب القطع بخروجه وجوزنا أن يكون تخصيصا وأن يكون نسخا انتهى.
فيما ذكره من احتمال النسخ نظر.
وقال القرافي2: الإجماع أقوى من النص لأن الخاص، لأن النص يحتمل نسخه، والإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا} [الجمعة:9] قال: وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة. ومثله ابن حزم بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] واتفقت الأمة على أنهم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم، كما قال: "الجزية" بالألف واللام علمنا أنه أراد جزية معلومة.
ـــــــ
1 الرسالة ص "108"
2 انظر شرح تنقيح الأصول ص "202".

(2/496)


البحث الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون
وفيه مسائل:
الأول: يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة، فإن الخبر يتسلط على فحواه، وفحواه غير مقطوع به. قال إمام الحرمين: ومن شك أن الصديق لو روى خبرا عن المصطفى في تخصيص عموم الكتاب لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول، فليس على دراية في قاعدة الأخبار.
واحتج ابن السمعاني في باب الأخبار على الجواز بإجماع الصحابة، فإنهم خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] بقوله عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء لا نورث1" فإن قالوا: إن فاطمة رضي الله عنها طلبت الميراث؟ قلنا: إنما طلبت النحلى لا الميراث وخص الميراث بالمسلمين عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرث المسلم الكافر" وخصوا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] [بما ورد] عن أبي سعيد في بيع الدرهم بالدرهمين. وخصوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب2" والمجوس مشركون.
وأما قول عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب الله ولا سنة نبينا لقول امرأة فيحتمل أن يكون معناه لا ندع كتاب نبينا نسخا، فإنه لا يقال لمن خص آية من القرآن. أنه ترك القرآن، وإنما يقال ذلك لمن ادعى النسخ انتهى.
ـــــــ
1رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، برقم "3093". ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نورث"، برقم "1758". وأحمد "2/463" حديث "9973" بلفظ المصنف.
2 رواه مالك في الموطأ كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس، برقم "617". ورواه ابن أبي شيبة في مصننفه "3/122"، وعبد الرزاق "6/69"، والبيهقي في السنن الكبرى"7/172"، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "6/13"، وقال: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منقطع وكذلك قال الحافظ ابن حجر، وقال ابن كثير: في تفسيره: لم يثبت بهذا اللفظ. انظر: نصب الراية"4/330، 331" وتفسير ابن كثير "2/21" والتلخيص الحبير "3/353".

(2/497)


والقول الثاني: المنع مطلقا، وبه قال بعض الحنابلة، كما حكاه أبو الخطاب ونقله الغزالي في "المنخول" عن المعتزلة، لأن الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء. ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق، وأنهم لأجله منعوا الحكم بالقرعة، وبالشاهد واليمين. ولنا أن الله تعالى: أمرنا باتباع نبيه، ولا فرق بين أن يكون مخصصا للظاهر أو مبتدئا، ولا معنى لإمكان التخصيص مع القول بحجية خبر الواحد
قال أهل العراق به في الجملة وخالفونا في التفصيل، فقالوا: وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] أنه مخصوص بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح المرأة على عمتها1" وهو خبر واحد، وكذا قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] الآية فقالوا: بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع.
الثالث: التفصيل بين ما دخله التخصيص، وما لم يدخله، فإن لم يدخله يبقى على حقيقته، وما دخله بقي مجازا، وضعفت دلالته، ونقلوه عن عيسى بن أبان. وهو مشكل بما سبق عنه من أن العام المخصوص ليس بحجة، لأنه إذا كان حجةلم يبق للقول بتخصيصه فائدة، إذ فائدة التخصيص بيان أن الصورة المخصوصة لا يتناولها حكم العموم، والتقدير: لم يبق له حكم، أو له حكم مجمل غير معلوم، فيحتاج إلى البيان، فكيف يجتمع القول بكونه لا يبقى حجة، مع قوله بجواز تخصيصه بخبر الواحد،.
وقد حكى إمام الحرمين في التلخيص من كتاب التقريب عنه أنه إن خص بقطعي جاز تخصيص باقيه بخبر الواحد، وإلا فلا يجوز افتتاح تخصيصه به. ثم قال: وهذا مبني على أصل له قدمناه، وهو أن العموم إذا خص بعضه صار مجملا في بقية المسميات لا يسوغ الاستدلال به فيها. فجعل الخبر على التحقيق مثبتا حكما ابتداء، وليس سبيله سبيل التخصيص إذا حققته، فإنه لا يجوز الاستدلال باللفظ المجمل في عموم ولا خصوص قبل ورود الخبر وبعده. انتهى.
ولم أر ذلك في "التقريب" للقاضي وإنما حكي عنه تجويز تخصيص العام الذي أجمع على تخصيصه، أو قام الدليل على تخصيصه بكل وجه، لأنه بالتخصيص حينئذ مجملا ومجازا، فيجوز لذلك إعمال خبر الواحد في تخصيص أشياء أخر منه.
ـــــــ
1 رواه مسلم "2/1029"، كتاب النكاح، باب، تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، برقم "1408" واللفظ له. ورواه البخاري، برقم "5108" ،"5111" "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها".

(2/498)


ونحوه قول الشيخ أبي حامد عن أبي حنيفة: إن كانت الآية العامة دخلها التخصيص جاز تخصيصها بخبر الواحد، لأنها تصير بالتخصيص كالمجملة، فيكون ذلك كالبيان وبيان المجمل بخبر الواحد يجوز.
وقال في "المحصول": فأما قول عيسى بن أبان والكرخي فيبنيان على حرف واحد، وهو أن العام المخصوص عند عيسى مجاز، والمخصوص بالدليل المنفصل عند الكرخي مجاز، وإذا صار مجازا صارت دلالته مظنونة، ومتنه مقطوعا، وخبر الواحد متنه مظنون ودلالته مقطوعة، فيحصل التعادل. فأما قبل ذلك فإنه حقيقة في العموم، فيكون قاطعا في متنه ودلالته، فلا يرجح عليه المظنون.
وهذا المأخذ الذي ذكروه تردد فيه أبو بكر الرازي في أصوله، فقال: إن لم يثبت خصوصه بالاتفاق،لم يجز تخصيصه، وإلا فإن ثبت واحتمل اللفظ معاني واختلف السلف فيها، وكان اللفظ يفتقر على البيان جاز تخصيصه، وتبيينه بخبر الواحد.
قال: وهذا عندي مذهب أصحابنا، وعليه تدل أصولهم ومسائلهم، واحتج بكلام عيسى بن أبان، وذكره. قال: فنص عيسى على أن ظاهر القرآن الذي لم يثبت خصوصه بالاتفاق لا يخص بخبر الواحد، ثم قال: ويحتمل أن يكون قال ذلك لأنه كان من مذهبه أن العام إذا خص سقط الاستدلال به فيما عدا المخصوص على ما كان يذهب إليه الكرخي; ويحتمل أن يكون مذهبه القول بعموم اللفظ فيما عدا المخصوص، لأنه أجاز تخصيص الباقي مع ذلك بخبر الواحد; لأن ما ثبت خصوصه بالاتفاق مما سوغ الاجتهاد في ترك حكم اللفظ لأنه صار مجازا، أما إذا كان اللفظ محتملا لمعان فيقبل خبر الواحد في إثبات المراد به. انتهى.
ونقل الأستاذ أبو منصور عن عيسى أنه لا يجوز أن يخص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أن يكون قد خص بالإجماع فيزاد في تخصيصه بخبر الواحد. قال: وقال: وإن كانت الآية مجملة، واختلف السلف في تأويلها، قبل خبر الواحد في تفسيرها وتخصيصها.
وقال بعض المحققين من الحنفية: لا خلاف بين أصحابنا في أن العام إذا خص منه شيء بدليل مقارن جاز تخصيصه بعد ذلك متراخيا، وأما العام الذي لم يخص منه شيء فلا يجوز تخصيصه ابتداء بدليل يتأخر عنه عند الشيخ أبي الحسن الكرخي، وعامة المتأخرين من أصحابنا، وعند بعض أصحابنا وأكثر الشافعية يجوز تخصيصه متراخيا ابتداء، كما يجوز متصلا

(2/499)


قال: والمراد بعدم جواز التخصيص بالمتأخر أن المتأخر لا يكون بيانا; فإن المراد من العام بعضه ابتداء كما هو شأن التخصيص; بل يكون ناسخا لبعض أفراد العام بإخراجه عن حكم العام; بل بعد ثبوت الحكم فيه مقتصرا على الحال.
الرابع: إن كان التخصيص بدليل منفصل جاز، وإن كان بمتصل فلا، قاله الكرخي، لأن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا على مذهبه، فتضعف دلالته، وهذا المذهب وما قاله مبني على أن دلالة العام على أفراده قطعية، فإن قلنا: ظنية جاز التخصيص به، ولهذا قال ابن السمعاني: ما قاله ابن أبان مبني على أصل لا نوافقه عليه
الخامس: يجوز التعبد بوروده، ويجوز أن يرد لكنه لم يقع، حكاه القاضي في "التقريب" وحكى قولا آخر أنه لم يرد; بل ورد المنع منه.
السادس: الوقف. ثم قيل: بمعنى لا أدري. وقيل: بمعنى أنه يقع التعارض في ذلك القدر الذي دل العموم على إثباته والخصوص على نفيه، ويجري اللفظ العام من الكتاب. في بقية مسمياته، لأن الكتاب أصله قطعي، وفحواه مظنون، وخبر الواحد عكسه، فيتعارضان، فلا رجحان، فيجب الوقف.
وهذا قول القاضي أبي بكر في "التقريب"، وحكاه عنه إمام الحرمين في "التلخيص" وإلكيا الطبري: وقال هو متجه جدا، ولكن الصحيح الجواز، لإجماع الصحابة عليه في مسائل، كنفي ميراث القاتل بقوله: "لا يرث القاتل" ، مع قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء:11] والنهي عن الجمع بين [المرأة وعمتها] مع قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] إلى غير ذلك. وغاية المخالف أن يقول: لعل الخبر كان متواترا عندهم، ثم استغنى عنه فصار آحادا، فقيل لهم: قد روى الصديق; "إنا معشر الأنبياء لا نورث" وطرحوا به ميراث فاطمة رضي الله عنها، فقالوا: كانوا علموا ذلك، وإنما ذكرهم الصديق. قلنا: لوكان متواترا لم يخف على فاطمة. ا هـ.

(2/500)


تنبيهان
الأول: يجب على أصل القاضي أن يجزم بالتخصيص، لأن القياس عنده مساو لعموم الكتاب لوقوفه في تخصيصه له كما سيأتي، فكيف يساوي هو ما دونه؟
الثاني: ذكر ابن السمعاني أن الخلاف في أخبار الآحاد التي [لا] تجمع الأمة على العمل بها، أما ما أجمعوا عليه، كقوله: "لا ميراث لقاتل، ولا وصية لوارث1"
وكنهيه عن الجمع، فيجوز تخصيص العموم به قطعا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها، ولا يضير عدم انعقاده على روايتها. وقد سبق في كلام الأستاذ أبي منصور ذلك أيضا، فإنه ألحق هذا القسم بالمتواتر. وقال ابن كج في "كتابه": خبر الواحد يخص به ظاهر الكتاب عندنا، إذا كان لم يجتمع على تخصيصه كآية الرضاع، فإن أجمع على تخصيصه جاز أن يقضى عليه بخبر الواحد فيما عدا ما أجمعوا عليه كآية السرقة وذهب قوم إلى أنه لا يجوز.
الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة بخبر الواحد، ويجري فيه الخلاف السابق، كما صرح به القاضي في "التقريب" وإمام الحرمين في "البرهان" وغيرهما، فإنكار من أنكر على البيضاوي ذلك، غلط.
ـــــــ
1 رواه الإمام أحمد في مسنده "1/49". ورواه الدارمي في سننه، كتاب الفرائض، باب: ميراث القاتل، برقم"3080" موقوفا على ابن عباس رضي الله عنه.

(2/501)


فرع:
هل يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقراءة الشاذة؟
لم أر فيه نصا، وينبغي تخريجه على الخلاف في حجيتها، فإن قلنا: ليست بحجة امتنع، أو حجة فكخبر الواحد. ثم رأيت في كتاب أبي بكر الرازي تجويزه إذا اشتهرت واستفاضت. قال: ولهذا أخذنا بقراءة ابن مسعود متتابعات، ومنعنا به إطلاق ما في باقي الآية. فإن لم يكن كذلك لم يجز كالخبر سواء.
الثالثة: يجوز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بالقياس عند الأئمة الأربعة. وقال ابن داود في "شرح المختصر": إن كلام الشافعي يصرح بالجواز. وحكى القاضي من الحنابلة عن أحمد روايتين. وبه قال أبو الحسين البصري، و أبو هاشم آخرا.

(2/501)


وحكاه الشيخ أبو حامد، وسليم عن ابن سريج أنه يجوز من طريق العموم لا القياس، وبناء على رأيه في جواز القياس في اللغة. وبهذا كله يعلم أن ما نقله المتأخرون عن ابن سريج ليس بصحيح.
وكذلك حكوا القول بالجواز مطلقا عن الأشعري وأنكره بعضهم، وليس كذلك. فإن إمام الحرمين في "مختصر التقريب" حكاه هكذا عن الأشعري، وحكى القاضي في "التقريب" عن الأشعري قولين في المسألة.
قال سليم الرازي:لا يتصور التخصيص على مذهب الأشعرية، لأن اللفظ غير موضوع للعموم، وإنما هو مشترك كما تقرر، فإذا دل الدليل على أنه أريد به أحد الأمرين لم يكن تخصيصا وإنما هو بيان ما أريد به اللفظ انتهى.
وكذا نقله القاضي في "التقريب" عن القائلين بإنكار الصيغ، واختاره الإمام فخر الدين في "المحصول"، ولذلك استدل على ترجيحه حيث قال: لنا أن العموم والقياس. إلخ، لكنه اختار في "المعالم" المنع، وأطنب في نصرته، وهذا الكتاب موضع لاختياراته، بخلاف "المحصول" فإنه موضوع لنقل المذاهب وتحرير الأدلة، ثم إنه صرح في المحصول في أثناء المسألة بأن الحق ما قاله الغزالي فيما سيأتي في السادس.
والثالث: المنع مطلقا قاله أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ثم رجع ابنه ووافق الجمهور. ونقله الشيخ أبو حامد وسليم عن أحمد بن حنبل، وإنما هي رواية عنه، قال بها طائفة من أصحابه; ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين، قال إمام الحرمين في "التلخيص": منهم ابن مجاهد من أصحابنا. ونقله القاضي في "التقريب" عن الشيخ أبي الحسن أيضا، ونقله الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" عن اختيار القاضي أبي بكر الأشعري، وليس كذلك لما سيأتي.
وقال بعض المتأخرين: إنه ظاهر نص الشافعي في "الأم" وقال الشيخ أبو حامد: زعموا أن الشافعي نص عليه في أحكام القرآن; فإنه قال: إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بحديث لازم، فأما أن يعمد إلى حديث عام فيحمل على القياس، فأين القياس في هذا الموضع؟ إن كان الحديث قياسا فأين المسمى؟
قال: فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يعمل في الحديث العام، وإنما يعمل في أنه يبتدأ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث، أو قياس على موضع فيه حديث. فدل على أن مذهبه منع التخصيص بالقياس.
ورده الشيخ أبو حامد، وقال: قد ذكر الشافعي في "الأم" قول الله تعالى:

(2/502)


{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] واحتمل أمره تعالى في الإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" واحتمل أن يكون على الندب، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] وقال الشافعي. لما جمع الله بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما، ثم كان الإشهاد على الطلاق غير واجب، كذلك الإشهاد على الرجعة1.
قال الشيخ أبو حامد: قد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق، وخص به ظاهر الأمر بالإشهاد إذ ظاهر الأمر الوجوب.
قال: وإما الكلام الذي تعلق به ذلك القائل، فلم يقصد الشافعي منع التخصيص بالقياس، وإنما قصد أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس. وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي، فروى حديث: "أيما امرأة نكحت2" ، ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة، ويضعها في كفء، فإذا تولت هي ذلك لم يحتج إلى الولي فقال الشافعي: هذا القياس غير جائز، لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث فيسقطه، فإن ما ذكره يفضي إلى سقوط اعتبار الولي وذلك يسقط نص الخبر، واستعمال القياس هنا لا يجوز، إنما يجوز حيث يخص العموم انتهى.
وحاصله أن استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال لا يجوز، وهو ما ذكره الشافعي، وليس مراده تخصيص العموم بالقياس، فإن ذلك لا يبطل العموم.
المذهب الثالث: إن تطرق إليه التخصيص بدليل قطعي خص به وإلا فلا. وحكاه القاضي في "التقريب" عن عيسى بن أبان، وكذا الشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، وحكى الإمام عنه إن تطرق إليه التخصيص بغير القياس جاز، وإلا فلا، وكذا حكاه الشيخ في "اللمع" عن بعض العراقيين3.
الرابع: إن تطرق إليه التخصيص بمنفصل جاز، وإلا فلا، قاله الكرخي. وقال: أبو بكر الرازي: كل ما لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، لا يجوز تخصيصه بالقياس لأن خبر الواحد مقدم على القياس، فما لا يخصه أولى أن لا يخص بالقياس. وقال: هذا
ـــــــ
1 انظر الأم "7/84".
2 حديث صحيح سبق تخريجه.
3 انظر شرح اللمع ص "210".

(2/503)


مذهب أصحابنا، ونقله عن محمد بن الحسن، لأن كل ما ثبت بوجه قطعي لا يرتفع إلا بمثله.
وقال أبو زيد في "التقويم": لا يجوز عندنا تخصيص العام ابتداء بالقياس، وإنما يجوز إذا ثبت خصوصه بدليل يجوز رفع الكل لها من خبر تأيد بالإجماع أو الاستفاضة، لم يقع الإشكال في صارفه إنما من جنس دخل تحت الخصوص، أو من جنس ما بقي تحت العموم، فيتعرف ذلك بالقياس.
الخامس: إن كان القياس جليا جاز التخصيص به، وإن كان قياس شبه أو علة فلا، نقله الشيخ أبو حامد وسليم في "التقريب" عن الإصطخري، زاد الشيخ أبو حامد: وإسماعيل بن مروان من أصحابنا، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي، ومبارك بن أبان وابن علي الطبري. وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني القياس إن كان جليا مثل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء:23] جاز التخصيص به بالإجماع. وإن كان واضحا، وهو المشتمل على جميع معنى الأصل، كقياس الربا، فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا، إلا طائفة شذت لا يعتد بقولهم. وإن كان خفيا وهو قياس علة الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به. ومنهم من شذ فجوزه.
وقال ابن كج: قياس الأصل وقياس العلة لا يختلف المذهب أن التخصيص بهما سائغ جائز، وعليه عامة الفقهاء، ومنعه داود; وأما قياس الشبه فاختلف فيه أصحابنا على وجهين، ثم نبه على المراد بالتخصيص بالقياس أن ما دخل تحت العموم في اللفظ بين القياس أن ذلك لم يكن داخلا في اللفظ، لا أنه دخل في المراد، ثم أخرجه القياس; لأن ذلك يكون نسخا ولا يجوز نسخ القرآن بالقياس.
وقال الأستاذ أبو إسحاق وأبو منصور: أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي، واختلفوا في الخفي على وجهين; والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضا. وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني في باب القضاء. وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع، ثم اختلفوا في الجلي وهو الذي قضى القاضي بخلافه. وقيل: هو قياس المعنى، والخفي قياس وقيل: ما تتبادر علته إلى الفهم مثل:"لا يقضي القاضي وهو غضبان1".
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه "2/776"، كتاب الأحكام، باب: لا يحكم الحاكم وهو غضبان، برقم "2316" بلفظ "لا يقضي القاضي بين اثين وهو غضبان وفي رواية لا ينبغي للحاكم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان"......=

(2/504)


السادس: إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى، فيرجع العام بظهور قصد التعميم فيه ويكون القياس العارض له قياس شبه، ويرجح القياس بالعكس من ذلك. فإن تعادلا فالوقف وهو مذهب الغزالي، واختاره المطرزي في "العنوان" واعترف الإمام الرازي في أثناء المسألة بأنه حق، وكذا قال الأصفهاني "شارح المحصول" وابن الأنباري وابن التلمساني، واستحسنه القرافي والقرطبي، وقال: لقد أحسن في هذا الاختيار أبو حامد، فكم له عليه من شاكر وحامد.
وقال الشيخ في "شرح العنوان":أنه مذهب جيد، فإن العموم قد تضعف دلالته لبعد قرينته، فيكون الظن المستفاد من القياس الجلي راجحا على الظن المستفاد من العموم الذي وصفناه، وقد يكون الأمر بالعكس، بأن يكون العموم قوي الرتبة، ويكون القياس قياس شبه، والقاعدة الشرعية: أن العمل بأرجح الظنين واجب.
واعلم أن هذا الذي قاله الغزالي ليس مذهبا، ولم يقله الرجل على أنه مذهب مستقل، فتأمل "المستصفى" تجد ذلك. ولا يقول أحد: إن الظن المستفاد من العموم أقوى، ثم يقول: القياس تخصيص أو بالعكس، ولا خلاف بين العقلاء أن أرجح الظنين عند التعارض معتبر، والوقوف عند المستوي ضروري، إنما الشأن في بيان الأرجح ما هو؟ ففريق قالوا: إن الأرجح العموم، فلا يخص بالقياس، وهو الإمام في "المعالم" وقوم قالوا: الأرجح القياس، فيخص العموم. والقولان عن الأشعري، كما حكاه القاضي في "التقريب".
السابع: الوقف في القدر الذي تعارضا فيه، والرجوع إلى دليل آخر سواها، وهو مذهب الغزالي، واختاره إمام الحرمين، والغزالي في "المنخول"، وإلكيا الطبري.
قال: ولا يظهر فيه دعوى القطع من الصحابة بخلافه في خبر الواحد. وهذا المذهب شارك القول بالتخصيص من وجه، وباينه من وجه، أما المشاركة فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس إسقاط الاحتجاج، والواقف يقول به، وأما المباينة، فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس، والواقف لا يحكم به.
الثامن: إن كانت العلة منصوصة مجزئة عليها جاز التخصيص به وإلا فلا، قاله الآمدي
ـــــــ
= ورواه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟، برقم "7158" بلفظ "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان".

(2/505)


التاسع: إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من عام جاز التخصيص به، وإلا فلا.
العاشر: إن كان الأصل المقيس عليه مخرجا من غير ذلك العموم جاز التخصيص به. وإلا فلا. وهذا يخرج من كلام إمام الحرمين، فإنه قال في "النهاية" في باب بيع اللحم بالحيوان: لا يمتنع التصرف في ظاهر القرآن بالأقيسة الجلية، إذا كان التأويل مساغا لا ينبو نظر المنتصب عنه، والشرط في ذلك التأويل أن يكون القياس صدر عن غير الأصل الذي فيه ورد الظاهر، فإن لم يتجه قياس من مورد الظاهر لم يجز إزالة الظاهر بمعنى يستنبط منه، يتضمن تخصيصه وقصره على بعض المسميات، كما في جواز الإبدال في الزكوات. قلت: وهو معنى قولهم لا يستنبط من النص معنى يخصصه، وهذا يصلح تقيدا للجواز، لا مذهبا آخر.
وعبارة الماوردي والروياني في المسألة أن القياس الجلي، وهو ما يعرف من ظاهر النص بغير استدلال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء:23] يدل على تحريم الضرب قياسا على الأصح، فيجوز تخصيص العموم به قطعا، والقياس الظاهر كالمعروف بالاستدلال كقياس الأمة على العبد في السراية وفي العتق، فيجوز التخصيص به عند أكثر أصحابنا، ومنعه بعضهم، لخروجه عن الخلاف بالإشكال
وقال "شارح اللمع": الجلي يجوز التخصيص به قطعا، وأما الخفي فإن كان مستنبطا من الأصل لم يجز تخصيصه به قطعا، كعلة الحنفية في الربا أنه الكيل، فإنهم استنبطوها من حديث عبادة، وهو عام في القليل والكثير، والعلة التي استنبطوها توجب التخصيص فيما لا يمكن كيله، فلا يجوز، لأنه يعترض الفرع على أصله، وهو لا يصح، وإن كان غير مستنبط من الأصل جاز.
تنبيهات
الأول: أطلق أكثر الأصوليين ترجمة المسألة، لكن محل الخلاف ليس القياس المعارض للنص العام مطلقا، فإن بعض أنواع القياس يجب تقديمه على عموم النص، وهو ما إذا كان حكم الأصل الذي يستند إليه حكم الفرع مقطوعا به، وعلته منصوصة أو مجمعا عليها مع تصادقهما في الشرع من غير صارف قطعا، فهذا النوع من القياس لا أوفق الخلاف فيه في أنه يخصص به عموم النص، فيجب استثناء هذه الصورة من ترجمة المسألة، وقد أشار إلى ذلك الإبياري شارح "البرهان" وغيره.

(2/506)


وجعل الغزالي محل الخلاف في قياس النص الخاص، وقضيته أنه لو كان قياس نص عام لم يخص به، بل يتعارضان، كالعمومين، ويشكل عليه المذهب الثاني.
وقال الصفي الهندي: هذا كله في القياس المستنبط من الكتاب، أو من السنة المتواترة بالنسبة إلى عموم الكتاب، أو عموم السنة المتواترة، أو عموم خبر الواحد فأما القياس المستنبط من خبر الواحد بالنسبة إلى عموم خبر الواحد فعلى الخلاف السابق أيضا وأما بالنسبة إلى عموم الكتاب، فيترتب على جواز تخصيصه بخبر الواحد، فمن لا يجوز ذلك لا يجوز بالقياس المستنبط منه بطريق الأولى; وأما من يجوز ذلك، فيحتمل أن لا يجوز ذلك لزيادة الضعف، ويحتمل أن يجوز ذلك أيضا كما في القياس المستنبط من الكتاب، إذ قد يكون قياسه أقوى من عموم الكتاب، بأن يكون قد تطرق إليه تخصيصات كثيرة، ويحتمل أن يتوقف فيه لتعادلهما إذ قد يظهر له ذلك
الثاني: مثل القفال الشاشي للتخصيص بالقياس بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وقوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فدلت هذه الآية على أن الأمةلم تدخل في عموم من أمر بجلدها مائة من النساء، ثم قيس العبد على الأمة، فجعل حده خمسين جلدة. فكانت الأمة مخصوصة، والعبد مخصوصا من جملة قوله: {وَالزَّانِي} [النور:2] بالقياس على الأمة قال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة:58] فاحتملت إباحة الأكل في جميع الهدي، واحتمل في البعض وأجمعوا على أن هدي جزاء الصيد لا يجوز الأكل منه; فكان هذا مخصوصا بالإجماع، واختلفوا في هدي المتعة، فذهب أصحابنا إلى تحريم الأكل. وخالفهم غيرهم، فكان الوجه عندنا في ذلك أنه واجب، كوجوب جزاء الصيد، ووجوب ما ينذر المرء إخراجه من ماله، فقيس المختلف فيه من ذلك على والمجمع عليه، لاجتماعهما في المعنى، وهو الوجوب وكان جزاء الصيد خارجا من العموم بالإجماع، وهدي المتعة والقران مخصوص بالقياس على ذلك، وتبعه ابن السمعاني في ذلك
ومثله القاضي أبو الطيب الطبري بأن الصبي الذي لا يجامع مثله إذا مات، والمرأة حامل لا تعتد منه، لأنه حمل لا يمكن أن يكون من زوجها، ومنفي عنه قطعا فلا تعتد منه، قياسا على الحمل الحادث بعد وفاته، فيخصص بهذا القياس عموم: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].

(2/507)


الثالث: أن الخلاف في أصل هذه المسألة اختلفوا فيه، هل هو من جنس الخلاف في القطعيات; أو من المجتهدات؟ قال الغزالي: يدل كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب، وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع فيه بخطأ المخالف، لأنه من مسائل الأصول. قال: وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى، فإن الأدلة فيه من الجوانب متفاوتة، غير بالغة مبلغ القطع انتهى.
وحينئذ فتوقف القاضي إنما هو عن القطع، ولا ينكر أن الأرجح التخصيص، ولكن عنده أن الأرجحية لا تكفي في هذه المسألة، لأن مسائل هذا الفن عنده قطعية لا ظنية، وحينئذ فنحن نوافقه على انتفاء القطع، وإنما ندعي أن الظن كاف في العمل، فلا نتوقف; وهو لا يكتفي بالظن، فيتوقف.
الرابع: أن هذه المسألة غير مسألة تخصيص العموم بالمعنى، فإن تلك للشافعي فيها قولان، ولهذا تردد في نقض الوضوء بالمحارم، لأجل عموم: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43]والتخصيص بالمعنى، وهو الشهوة منتفية فيهم، وكذا في القاتل بحق مع حديث: "القاتل لا يرث" . وقوله: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" استنبطوا منه ما خصص جلد الكلب والخنزير. وقد نقح إمام الحرمين في "النهاية" الفارق بين المسائل، فقال بعد تجويزه التخصيص بالقياس: هذا فيما يتطرق إليه المعنى، وأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمر جائز على السير، فالأصل فيه التعلق بالظاهر، وتنزيله منزلة النص، ولكن قد يلوح مع هذا مقصود الشارع بجهة من الجهات، فيتعين النظر إليه وهذا له أمثلة منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فجعلها الشافعي على الجس باليد، ثم تردد نصه في لمس المحارم من جهة أن التعليل لا جريان له في الأحداث الناقضة وما لا يجري القياس في إثباته، فلا يكاد يجري في نفيه. فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء، وأصح قوليه: أن الطهارة لا تنقض بمسهن، لأن ذكر الملامسة المضافة إلى أن يقع شيء من الأحداث يشعر بلمس اللاتي يقصدن باللمس
قال فإن لم يتجه معنى صحيح دلت القرينة على التخصيص، كقوله عليه السلام: "ليس للقاتل من الميراث شيء1" ، فالحرمان لا ينسد فيه تعليل، فإذا انسد مسلك التعليل اقتضى الحال التعلق بلفظ الشارع: تردد الشافعي في أن القتل قصاصا أو حدا إذا صدر من الوارث فهل يقتضي حرمانه؟ فوجه تعلق الحرمان بكل قتل، التعلق بالظاهر
ـــــــ
1 رواه أبو داود "4/189"، كتاب الديات، باب: ديات الأعضاع، برقم"4564"، وهو حديث حسن.

(2/508)


مع حسم التعليل، ووجه إثبات الإرث التطلع إلى مقصود الشارع، وليس بخفي أن قصده مضادة غرض المستعجل، وهذا لا يتحقق في القتل الحق; وكذلك النهي عن بيع اللحم بالحيوان فمن عمم تعلق بالظاهر، ومن فصل بين الربوي وغيره تشوف إلى درك مقصود. وهو أن في الحيوان كما نبيع الشاة به نبيع الشاة بلحمه. اعلم أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يعممه قطعا، كاستنباط ما يشوش الفكر من قوله عليه السلام:"لا يقضي القاضي وهو غضبان"، وكاستنباط الاستنجاء بالجامد الظاهر القالع من الأمر بالأحجار وهو غالب الأقيسة. ولا يجوز أن يستنبط منه معنى يعود عليه بالبطلان، ولهذا ضعف قول الحنفية في قوله:"في أربعين شاة شاة"، أي قيمة شاة، لأن القصد دفع الحاجة بالشاة أو القيمة، ويلزم منه أن لا تجب الشاة أصلا، لأنه إذ وجبت القيمة لم تجب الشاة، فلا تكون مجزئة، وهي مجزئة بالاتفاق، فقد عاد الاستنباط على أصله بالبطلان، واعتراض بعضهم بأن هذه كالذي قبله لأن الحنفي كما يجوز القيمة يجوز الشاة، مردود بما سأذكره في كتاب القياس. وهل يجوز أن يستنبط منه معنى يخصصه؟ فيه قولان. تردد فيهما الترجيح وقال إلكيا في "المدارك": المنقول عن الشافعي أنه لا يجوز تخصيص العموم بالمعنى، لأن العموم ينبغي أن يفهم، ثم يبحث عن دليله، فإن فهم معنى اللفظ سابق على فهم معناه المستنبط، وإذا فهم عمومه، فكيف يتجه بناء علة على خلاف ما فهم منه؟ قال: ويتجه للمخالف أن يقول: المعنى الذي يفهم من العموم في النظر الثاني ربما نراه أوفق لموضوع اللفظ ومنهاج الشرع، وذلك تنبيه إما بفحوى الخطاب ومخرج الكلام، وإما بأمارة أخرى تفصل بالكلام، وذلك راجح على ما ظهر من اللفظ، وهذا المعنى لا يقدر مخالفا للفظ، ولكن يقدر بيانا له، فالذي فهمناه أولا العموم، ثم النظر الثاني يبين أن المراد به الخصوص، فغلب معهود الشرع على معنى ظاهر اللفظ.

(2/509)


فرع ولدته:
هل يجوز أن يستنبط من المقيد معنى يعود عليه بالإطلاق؟ فيه نظر،
وقد جوز جمهور أصحابنا الاستنجاء بحجر واحد له ثلاث أحرف نظرا للمعنى، وهو الإزالة بطاهر، فيه رفع قيد العدد في قوله عليه السلام: "فليستنج بثلاثة أحجار1"
ـــــــ
1 رواه أبو داود "1/10" كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة، برقم "40" بإسناده. ورواه النسائي، كتاب الطهارة، باب: الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها، برقم "44". ونص الحديث "عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزء عنه" .

(2/509)


البحث الثالث: في تخصيص المظنون بالمقطوع
يجوز تخصيص خبر الواحد بالقرآن، وفي كلام بعضهم مجيء الخلاف فيما إذا كان الخبر متواترا هاهنا، وأمثلته عزيزة ومن أمثلته قوله عليه السلام: "ما أبين من حي فهو ميت1" فإنه خص منه الصوف والشعر والوبر بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل:80] قلت: هذه إن جعلنا العبرة بعموم اللفظ، فإن الحديث ورد على سبب، وهو: "حبب إليه الغنم والإبل" ، فإن اعتبرنا خصوص السبب فليس الحديث عاما، وكذا قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" فإنه خص منه أهل الذمة بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: من الآية29] وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" فإنه خص من الكلام سبق اللسان باليمين بقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام2" مخصص بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]
مسألة
يجوز تخصيص عموم خبر الواحد بالقياس، وفي هذا الخلاف أيضا، كما قال الإمام في "البرهان3" وابن القشيري: قالا: ولكن المختار هنا التوقف.
مسألة
منع بعض الحنابلة الإجماع بخبر الواحد، وهو يشبه الخلاف في تخصيص السنة بالكتاب، فإن جوزناه كما هو المشهور فكذا هنا.
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه ابن ماجه، كتاب الصيد، باب:ما قطع من البهيمة وهي حية، برقم "3217" بلفظ عن تميم الداري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر الزمان قوم يجبون أسنمة الإبل ويقطعون أذناب الغنم، ألا فما قطع من حي فهو ميت" ، ورواه أبو داود "2858" عن أبي واقد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة"، والترمذي "1480" بمعناه. وهو حديث صحيح.
2 رواه مسلم "3/1316" كتاب الحدود، باب:حد الزنا، برقم"1690"
3 البرهان "1/429".

(2/510)


مسألة
هل يترك العموم لأجل السياق؟ يخرج من كلام الشافعي في هذه المسألة قولان، فإنه تردد قوله في الأمة الحامل إذا طلقها بائنا: هل يجب لها النفقة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: نعم، لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} [الطلاق:6]
والثاني: لا، لأن سياق الآية يشعر بإرادة الحرائر، لقوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فضرب أجلا تعود المرأة بعد مضيه إلى الاستقلال بنفسها والأمة لا تستقل.
وأطلق الصيرفي في جواز التخصيص بالسياق، ومثله بقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه، بل بوب على ذلك بابا، فقال: باب الذي يبين سياقه معناه1، وذكر قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [لأعراف:163] فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها، وهو قوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163].
وقال الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام" نص بعض أكابر الأصوليين على أن العموم يخص بالقرائن. قال: ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضا، حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة، والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم.
ـــــــ
1 الرسالة ص "67".

(2/511)


[الفرق بين التخصيص بالقرائن والتخصيص بالسبب]
قال: ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب، كما اشتبه على كثير من الناس، فإن التخصيص بالسبب غير مختار، فإن السبب وإن كان خاصا فلا يمتنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره، كما في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا، بخلاف السياق فإن به يقع التبيين والتعيين، أما التبيين ففي المجملات، وأما التعيين ففي المحتملات. وعليك باعتبار هذه في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره قبل اعتباره. انتهى.

(2/511)


مسألة
يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، سواء مفهوم الموافقة والمخالفة. ونقله أبو الحسين بن القطان في كتابه عن نص الشافعي بالنسبة إلى مفهوم المخالفة، فقال: نص الشافعي - رحمه الله تعالى - على القول بمفهوم الصفة، وعلى أنه يخص به العموم. فإن قيل: لم قلت: إنه يخص به العموم، وقد يرد من التخصيص عليه ما يرد على العموم؟ قيل: لأن دليل الخلاف يجري مجرى القياس في باب القوة، فلهذا جاز التخصيص به. قال: وسواء كان الدليل مستخرجا من ذلك الخطاب أو من غيره. فإنه يخصه انتهى.
وقال بعض شراح "اللمع" يجوز تخصيص العموم بمفهوم الموافقة سواء قلنا: إنه من باب القياس أو من اللفظ، لأن كلا منهما يخص به العموم. فيخص عموم القرآن والسنة بفحوى أدلة الكتاب تواترا، كانت السنة أو آحادا، ويخص عموم القرآن وآحاد السنة بفحوى أدلة المتواتر من السنة، وأما تخصيص عموم القرآن ومتواتر السنة بفحوى آحاد السنة، فالقياس يقتضيه، وفيه احتمال. انتهى.
وقال الآمدي1: لا أعرف خلافا في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم، وحينئذ فلا يحسن الاعتراض عليه كما حكاه الشيخ أبو إسحاق عن ابن سريج والحنفية من منعهم ذلك، لأنهم بنوه على مذهبهم في إنكار المفهوم، لكن أطلق الإمام في "المنتخب" أنه لا يجوز. وقال: دلالته، إن قلنا بكونه أضعف من النطق، فلا تخصيص به، وتوقف في "المحصول" فلم يختر شيئا.
وقال الشيخ تقي الدين في "شرح الإلمام" قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم، وفي كلام صفي الدين الهندي أن الخلاف في مفهوم المخالفة، أما مفهوم الموافقة فاتفقوا على التخصيص به.
قلت: وبه صرح الماوردي في كتاب "القضاء من الحاوي"، فقال: ما عرف معناه من ظاهر النص كقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء:23] يدل على تحريم الضرب قياسا على الأصح، وهذا يجوز تخصيص العموم به بلا خلاف، وفي جواز النسخ وجهان. ا هـ.
وهذا فيه نظر، أعني قطعه بجواز التخصيص به مع ترجيحه كونه قياسا. وكان
ـــــــ
1 انظر الإحكام "2/153".

(2/512)


يتجه على الخلاف في التخصيص بالقياس، لكنه هنا أولى بالجواز لما فيه من أن دلالته لفظية، وربما أيد ذلك بدعوى الآمدي والإمام الاتفاق على جواز النسخ بمفهوم الموافقة. والحق أن الخلاف ثابت فيهما، أما مفهوم المخالفة كما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، كقوله: "في أربعين شاة شاة" ، ثم قال: "في سائمة الغنم الزكاة" . فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم، فيخصص به عموم الأول.
وذكر أبو الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به، ومثل بما ذكرنا، وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: إذا ورد العموم مجردا من صفة، ثم أعيد بصفة متأخرة عنه كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] مع قوله قبله أو بعده: اقتلوا أهل الأوثان من المشركين، كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق، ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب، ويخصص ما بعده من العموم. ا هـ.
وليس كما قالا، ففي "شرح اللمع" ، إن قلنا: إن المفهوم ليس بحجة، امتنع التخصيص به، وإن قلنا: حجة، ابتنى على أنه في أنه كالنطق أو كالقياس; فإن قلنا: كالنطق، جاز التخصيص به، وإن قلنا: قياس، احتمل أن يكون في التخصيص به الخلاف المذكور في جواز التخصيص بالقياس الخفي. ا هـ.
وقد صرح ابن كج بالخلاف، فقال: عندنا دليل الخطاب يخص العموم، مثل قوله "في أربعين شاة شاة" ثم قال:"في سائمة الغنم الزكاة"، فدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها، فخصصناه بدليل قوله: "في أربعين شاة شاة" وينقل الأوامر من الوجوب إلى الندب.
وقال مالك: إن دليل الخطاب لا يخص العموم، بل يكون العموم مقدما، واستدل بأن العموم نطق، ودليل الخطاب مفهوم من النطق، فكان النطق أولى، ولنا إجماعنا نحن وأصحاب مالك على القول بدليل الخطاب، فجاز التخصيص به كغيره من الأدلة انتهى. قالت: قضية كلام ابن السمعاني في "القواطع" أن للشافعي في التخصيص بمفهوم المخالفة قولين، وأظهرهما: الجواز، لأنه مستفاد من النص، فصار بمنزلة النص، ومثله بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] فكان عاما في كل مطلقة، ثم قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236] فكان مفهومه أن لا متعة لمدخول بها، فخص بها في - أظهر قوليه - عموم المطلقات، وامتنع من التخصيص [على القول] الآخر.

(2/513)


قلت: وذكر أبو الحسين بن القطان هذه الآية، وجعلها من قبيل مفهوم الموافقة، من باب ذكر بعض أفراد العام: قال: فاختلف فيه قول الشافعي، فكان مرة يذهب إلى أن لكل مطلقة متعة التي فرض لها أو طلقت قبل الدخول ويقول: إن قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة:241] عام، وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236] بعض ما اشتمل عليه العموم، لأنهما لا يتنافيان.
والقول الثاني: إنه يقضي بهذه الآية على قوله: {لِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة:241]لأنها أخص
قال: وقد قيل إن آية التخصيص لم ترد في تعريف حكم المتعة، وإنما وردت في الفرق بين الموسر والمعسر، وإنما يخص العام إذا كان في الأخص مراد التخصيص، فأما إذا لم يكن في التخصيص إرادة لم يجز أن يخص به، كقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] فليس هو حجة في إباحة كل ملك يمين، لأنه لم يقصد بها تعريف الإباحة وإنما قصد بها المدح. ا هـ. ثم قال بعد ذلك: ومن المخصص أن يأتي بدليل الخطاب، وهو ما كان له وصفان، فتعلق الحكم بأحد وصفيه دل على أن ما عداه بخلافه، فهذا يخص به العموم قولا واحدا. ا هـ.
وقال الصيرفي في "كتاب الدلائل": العام إن لم يمكن استعماله في جميع أفراده يتوقف على البيان، كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فإذا ذكر بعض الأفراد علم أنه المراد بالزكاة المذكورة، كقوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" . وإن احتمل أن يكون المذكور إنما هو بعض الجنس، فالحكم للعموم. كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة:241] فهذا عام، ثم قال بعده: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:236] الآية. فلما احتمل الأول أن يكون خاصا بمن لم يمس، واحتمل أن يكون إنما هو ذكر لبعض الجنس الذي أريد بالمتعة، ولم ينف - مع الجمع بينهما - أحدهما صاحبه في لفظ ولا دليل، اقتضى الحكم على كل مطلقة.
فإن قيل: فقل هذه في قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء لا ينجسه شيء" مع حديث القلتين. وقل: سائمة الغنم والعاملة كاملين هنا. قيل: لما كان مفهوم قوله في سائمة الغنم كذا. دليل على أن العاملة لا شيء فيها، وكما لو رفعنا دلالة ما ورد في القلتين بقوله: "الماء لا ينجسه شيء" أسقطنا أحد الخبرين بالآخر، صلح أن يكون مرتبا عليه.
ثم قال: والحاصل أنك تضم أحدهما إلى الآخر، فما أوجبه حكمهما فالحكم له،

(2/514)


وحق الكلام ما يقيد به، حتى يعلم التوكيد فإن كان إذا ثبت العموم سقط دلالة الشرط، فالحكم لما فيه الشرط، وإن كنت إذا أثبته لم تنف دلالة العموم أجريته عاما إلى أن تقوم دلالة تدل على الجمع بين السائمة والعاملة من غير جهة المفهوم المحتمل، لكن ثبت فيكون الحكم له.
قال: وقد يحتمل أيضا أن يكون على جواب الشافعي في المجمل والمفسر أن يكون قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236] مرتبا على قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:236] ما لم تقم دلالة، وقد قامت الدلالة بقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب:28] وقد علم أنهن مدخول بهن، فتثبيت المتعة للممسوسة وغيرها بهذا الدليل. ا هـ.
وقال إلكيا الطبري: دلالة المفهوم أقوى من دلالة العموم المنطوق، فإذا قال: أعط زيدا درهما، ثم قال: إن دخل الدار فأعطه درهما، كان الثاني أقوى. والدليلان إذا تعارضا قضي بأقواهما، وهذا عكس قول الرازي في دعواه ضعف دلالة المفهوم.
وقال سليم في "التقريب" يجوز التخصيص بدليل الخطاب، يعني بمفهوم المخالفة في قول من يثبته، لأنه دليل مستفاد من الآية فأشبه القياس.
تنبيهات
الأول: إذا قلنا: بجواز التخصيص بمفهوم المخالفة، فهل هو بمنزلة اللفظ أو القياس؟ فيه وجهان، حكاهما سليم
أحدهما: أنه بمنزلة اللفظ، لأنه مستفاد من تخصيص الوصف بالحكم قال: وهذا أصح.
والثاني: بمنزلة القياس لأن اللفظ لم يدل عليه، فثبت أنه مستفاد من معناه. وينبني عليهما ما إذا عارضه لفظ آية أو خبر. فعلى الأول هو بمنزلة آيتين أو خبرين متعارضين. وعلى الثاني يقدم النطق المحتمل عليه سواء كان أعم منه أو أخص.
الثاني: ذكر الشيخ أبو حامد وسليم أن هذا كله إذا عارضه غير النطق الذي هو أصله، فأما إذا عارض نطقه وأصله، فإما أن يسقطه ويبطله، أو يخصه فقط. فإن اعترض بالإسقاط والإبطال سقط المفهوم، وذلك مثل حديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" . نص على البطلان بغير إذن، ومفهومه يقتضي جوازه بالإذن، إلا أنه إذ أثبت النطق; لأن الأمة أجمعت على التسوية بين أن تنكح المرأة بغير

(2/515)


إذن وليها، وبين أن تنكح نفسها بإذنه، فعندنا يبطل النكاح فيهما، وعند الخصم يصح فيهما، فإذا ثبت بالدليل جواز ذلك بإذنه ثبت بالإجماع جوازه بغير إذنه، وإذا ثبت جوازه بغير إذنه سقط النطق، فيكون هذا المفهوم مسقطا لأصله، ويثبت، فيسقط النطق.
وإن كان المفهوم معترضا على أصله بالتخصيص كمفهوم قوله: "إن الله حرم الكلب، وحرم ثمنه1" فقوله: إن الله حرم الكلب، يقتضي تحريم جهات الانتقاع به من البيع والإجارة والهبة وغيرها. وقوله: حرم ثمنه يقتضي أن غير الثمن ليس بمحرم، فهذا يخص عموم ذلك النطق المحرم. فالمذهب أن المفهوم سقط، ولا يخصص عموم أصله، وحكي عن أبي الحسين بن القطان أنه جوز تخصيص أصله به، وليس بشيء. لأنه فرع الأصل فلا يجوز أن يعترض عليه، ويسقط شيئا من حكمه. وأصحاب أبي حنيفة يجيزون مثل هذا في القياس إذا خص أصله، ولا نجيزه نحن، وقد تكلمنا نحن في مسألة الربا، فأما دليل الخطاب فهم لا يقولون به حتى نتكلم معهم في التخصيص به. ا هـ. وقد سبقت المسألة في دليل التخصيص بالقياس
الثالث: قال القاضي أبو الطيب: تخصيص العام بدليل الخطاب واجب إلا أن يمنع منه دليل من المفهوم، فيسقط حينئذ المفهوم، ويبقى العام على عمومه مثاله: نهيه عن بيع ما لم يقبض، مع قوله: "من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه2" فإنا لم نقل بالمفهوم، وخصصنا به العام، كما فعل مالك حيث قصر العموم على الطعام، لأن معنا دليلا أقوى من المفهوم، وهو التنبيه، لأن الطعام إذا لم يجز بيعه قبل القبض مع حاجة الناس إليه، فلأن لا يجوز غيره أولى; ولأن القياس يقدم على المفهوم، والقياس يدل على أن غير الطعام بمنزلته; لأنه إنما لم يجز بيع الطعام لأنه لم يحصل فيه القبض المستحق بالعقد، هذا المعنى موجود في غير الطعام.
على أن بعضهم أجاب عن هذا بأنه من باب مفهوم اللقب; لأن الطعام اسم، وتعلق الحكم بالاسم لا يخصص ما عداه. قال القاضي وهذا غلط، لأن ذلك في الاسم اللقب أما الاسم المشتق، فإنه يجري مجرى الصفة، كالفاسق والنائم.
واعترض أصحاب أبي حنيفة على هذا. وقالوا: ترك الشافعي أصله في قوله صلى الله عليه وسلم:
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب البيوع، با:ثمن الكلب، برقم "2238".
2 رواه البخاري، كتاب البيوع، باب:الكيل على البائع والمعطى، برقم "2126". ورواه مسلم "3/1159" كتاب البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، برقم "1525".

(2/516)


"إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة، فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار1" وكان يجب أن يقضي بمفهومه على عموم قوله:"إذا اختلف المتبايعان، فالقول قول البائع". والجواب ما ذكرناه، وهو أن التنبيه مقدم على المفهوم، لأنه متفق عليه. ووجه التنبيه أنه إذا أمر بالتحالف، وهناك سلعة قائمة يمكن أن يستدل بها على صدق أحدهما، فإذا كانت تالفة لا يمكن أن يستدل بها، فهذه أولى بذلك، ولأن القياس يوجب ترك دليل الخطاب للأمر بالتحالف، وكل منهما مدع، ومدعى عليه. وهذا المعنى موجود مع التلف، والقياس يترك له المفهوم، لأنه يجري مجرى التخصيص. لأنه إسقاط بعض حكم اللفظ، فإن اللفظ يوجب إثباتا ونفيا، فإسقاط أحدهما بالقياس يمكن له التخصيص به.
ـــــــ
1 رواه البخاري "3/652" كتاب البيوع، باب:ما جاء إذا اختلف البيعان، برقم"1370".

(2/517)


مسألة: [التخصيص بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم على القول بأنه شرع لأمته]
إذا قلنا بأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم شرع لأمته، فذهب الأكثرون من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى التخصيص به. قال الشيخ أبو حامد هذه إذا قلنا: إنها على الوجوب أو الندب. فإن قلنا: بالتوقف، فلا يتصور التخصيص، لأنها غير دالة على شيء. انتهى.
ونفاه الأقلون منهم الكرخي، واختاره ابن برهان، وحكاه الشيخ في "اللمع" عن بعض أصحابنا. ونقل صاحب "الكبريت الأحمر" عن الكرخي وغيره من الحنفية المنع إذا فعله مرة، لاحتمال أنه من خصائصه. ثم قال: أما إذا تكرر الفعل، فإنه يخص به العام بالإجماع.
والثالث وحكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، التفصيل بين الفعل الظاهر فيخص به العموم، وبين الفعل المستتر فلا يخص به.
الرابع: التفصيل بين أن لا يظهر كون الفعل من خصائصه، فيخص به العموم، فإن اشتهر كونه من خصائصه فلا يخص به العموم، وجزم به سليم في "التقريب". وقال إلكيا الطبري: إنه الأصح. قال: ولهذا حمل الشافعي "تزويج ميمونة، وهو محرم" على أنه كان من خصائصه.

(2/517)


والخامس: الوقف ونقل عن عبد الجبار.
وشرط أبو الحسين بن القطان في كتابه لجواز التخصيص به كونه منافيا للظاهر. قال: فأما الفعل الموافق للظاهر فإنه لا يجوز التخصيص به، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] فلو أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق مجن أو رداء فقطعه،لم يدل على تخصيص القطع بذلك المسروق، لأنه بعض ما اشتملت عليه الآية. قلت: وينبغي لأبي ثور أن يخالف في هذا كما سبق.
وقال الغزالي: إنما يخص الفعل إذا عرف من قوله أنه قصد به بيان الأحكام، كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" و "خذوا عني مناسككم1" ، فإن لم يبين أنه أراد به البيان فلا يرتفع أصل الحكم بفعله المخالف، ولكنه قد يدل على التخصيص، "كنهيه عن الوصال، ثم واصل". وقال: "إني لست كأحدكم2" . فبين أنه لم يرد بفعله بيان الحكم. وكذلك "نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها ثم رآه ابن عمر مستدبرا للكعبة"، فيحتمل أنه تخصيص، لأنه كان بيانا للحكم والنهي. والنهي مطلقا، ويحمل أنه كان مخصوصا به.
وفصل الآمدي بين أن يكون العام شاملا له، كما لو قال: ترك الوصال واجب على كل مسلم ثم رأيناه قد واصل، فلا خلاف أن فعله يدل على إباحته في حقه، ويكون مخصصا له ; وأما بالنسبة إلى غيره، فإن قلنا: التأسي به واجب ارتفع العموم، وصار نسخا; وإن قلنا: ليس بواجب بقي العموم في حق الأمة، وإن كان عاما للأمة دونه ففعله لا يكون تخصيصا; لعدم دخوله فيه وإن قيل أيضا بوجوب المتابعة على الأمة كان نسخا في حق الأمة لا تخصيصا، ثم قال: وهذا [هو] التفصيل ولا أرى للخلاف في التخصيص بفعله وجها.
ـــــــ
1 رواه مسلم "2/943" كتاب الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، برقم "1297" عن أبي الزبير أنه سمع جابرا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر ويقول:"لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري، لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" والحديث عند البيهقي في السنن الكبرى "5/125"، برقم ط9307" بلفظ المصنف.
2 رواه البخاري، كتاب الصوم، باب: الوصال ومن قال:ليس في الليل صيام، برقم"1961" بلفظ"عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تواصلوا قالوا إنك تواصل قال لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى أو إني أبيت أطعم وأسقى" ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، برقم"1104" بلفظ "إنكم لستم مثلي _ أو قال _ إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني". والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الوصال للصائم، برقم "778" بلفظ المصنف.

(2/518)


قال: فإن كان المراد تخصيصه وحده فلا يتأتى فيه خلاف، أو تخصيص غيره فلا تخصيص; بل نسخ، مع أنهم فرضوا المسألة في التخصيص.
ثم قال: والأظهر عندي الوقف; لأن دليل التأسي عام، فليس مراعاة أحد العمومين أولى من مراعاة الآخر، وذكر الهندي في النهاية هذا التفصيل وحكى فيما إذا كان عاما للأمة دونه، فالفعل لا يكون مخصصا له، لعدم دخوله. وهل يكون تخصيصا أو نسخا في حق الأمة، فيه التفصيل.
وقد احتج أصحابنا بأن الصحابة خصت قوله عليه السلام في الجمع بين الجلد والرجم بفعله في رجم ماعز والغامدية قال ابن السمعاني: وعندي أن هذه بالنسخ أشبه، وهو كما قال. ومثله القفال الشاشي برجمه ثم قال: فهو يدل على تخصيص آية الجلد بالأبكار.
مسألة
تقرير النبي صلى الله عليه وسلم واحدا من المكلفين على خلاف مقتضى العام، هل يكون مخصصا إذا وجدت شرائط التقرير بعد الإنكار في حق ذلك الفاعل؟ قاطع في تخصيص العام في حقه إذ لا يقر على باطل، فإن كان بعد وقت العمل به كان نسخا في حقه.
وأما في حق غيره. فإن ثبتت مساواته له بقوله:"حكمي على الواحد" ونحوه ارتفع حكم العام عن الباقي أيضا، وعلى هذا يكون نسخا لا تخصيصا، إن خالف ذلك جميع ما دل عليه العام، ويكون تخصيصا إن خالف في فرد، كما لو قال: لا تقتلوا المسلمين، وقد رأينا أن شخصا قتل مسلما، وأقره عليه السلام على ذلك. فيعلم أن ذلك المقتول كان يجوز لكل أحد قتله.
ومثله الأستاذ أبو منصور بأن قوله:"فيما سقت السماء العشر" مخصوص "بتركه أخذ الزكاة من الخضراوات". قال ابن القطان: وكذا "تركه أخذ الزكاة في النواضح" وإقراره "ترك الوضوء من النوم قاعدا" وإذا قلنا بالتخصيص بالتقرير، فهل نقول وقع التخصيص بنفس التقرير، أم يستدل بذلك على أنه قد خص بقول سابق؟ فيه وجهان، حكاهما ابن القطان وابن فورك وإلكيا،
أحدهما: أنه يستدل بذلك على أنه عليه السلام قال لهم، إذ لا يجوز عليهم أن يتركوا ذلك إلا بأمر.
والثاني: أن التقرير وقع به التخصيص.

(2/519)


قال ابن فورك والطبري: وهو الظاهر من الحال، وظاهر كلام ابن القطان يقتضي ترجيحه قالا: وعلى هذا يكون ما قاله الشافعي: "في صلاة النبي عليه السلام قاعدا مع صلاة الصحابة خلفه قياما" دليل على أنه كان نسخ قوله: "إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا1" على أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك، وينتقلوا عن الحالة الأولى إلا لشيء متقدم، وليس ذلك نقلا عن الحال إنما هو بناء على ما كانوا عليه، ويتوصل بالحال إلى العلم به.
مسألة
الخطاب إذا علم خصوصه، ولم يدر ما خصه كيف يعمل به؟ قال ابن فورك من أصحابنا: من يقول: البيان لا يتأخر، فيحيل هذا، لأنه يؤدي إلى تأخير البيان. ومن أصحابنا من يقول: يجوز هذا، ويعتبر فيه العموم إلا موضعا خص، غير أنه إذا جاء بأمر يشتمل على العموم أمضيناه فيه، لأنه لو كان فيه خصوص لخصه، ومن أصحابنا من يقف في هذا.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب:إنما جعل الإمام ليؤتم به، برقم"689". ورواه مسلم، كتاب الصلاة، باب : ائتمام المأموم بالإمام، برقم"411".

(2/520)