البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: فيما ظن أنه من
مخصصات العموم
[التخصيص بالعادة]
وفيه مسائل:
الأولى: أطلق جمع من أئمتنا كالشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن
السمعاني وغيرهما بأن العادة لا تخصص ونقله في "القواطع" عن
الأصحاب، وحكوا الخلاف فيه عن الحنفية. وقال الصفي الهندي: هذا
يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون النبي عليه السلام أوجب شيئا أو أخبر به بلفظ
عام، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها، فهل
تؤثر تلك العادة في تخصيص العام، حتى يقال: المراد من ذلك
العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله أم لا
تؤثر في ذلك، بل هو باق على عمومه متناول لذلك الفعل ولغيره؟
انتهى.
وهذه الحالة هي التي تكلم فيها صاحب "المحصول" وأتباعه، واختار
فيها التفصيل، وهو أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي عليه
السلام، مع عدم منعه عنها فيخص، والمخصص في الحقيقة تقريره
عليه السلام. وإن علم عدم جريانها لم يخص إلا أن يجمع على
فعلها، فيكون تخصيصا بالإجماع الفعلي، وإن جهل فاحتمالات.
الثاني: أن تكون العادة جارية بفعل معين، كأكل طعام معين مثلا،
ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره،
كما لو قال: نهيتكم عن أكل الطعام، فهل يكون النهي مقتصرا على
ذلك الطعام بخصوصه أم لا، بل يجري على عمومه، ولا تؤثر
عاداتهم؟ قال الصفي: والحق أنها لا تخصص، لأن الحجة في لفظ
الشارع، وهو عام، والعادة ليست بحجة، حتى تكون معارضة له.
انتهى.
وهذه الحالة هي التي تكلم فيها الآمدي وابن الحاجب، وهما
مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى، فتفطن لذلك، فإن بعض من لا
خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام والآمدي ظنا منه أنهما
تواردا على محل واحد، وليس كذلك.
وممن ذكر أنهما حالتان القرافي في "شرح التنقيح" وفرق بأن
العادة السابقة على العموم يجعلها مخصصة، والطارئة بعد العموم
لا يقضى بها على العموم، قال: ونظيره أن
(2/521)
العقد إذا وقع في البيع فإن الثمن يحمل على
العادة الحاضرة في النقد، لا على ما يطرأ بعد ذلك من العوائد
في النقود، وإنما يعتبر من العوائد ما كان مقارنا لها، وكذا
نصوص الشارع لا يؤثر في تخصيصها إلا المقارن1.
وممن اقتصر على إيراد هذه الحالة من كبار أصحابنا الشيخ أبو
حامد في تعليقه في الأصول، وسليم في "التقريب" وأبو بكر
الصيرفي وابن القشيري، وقال: العادة لا تخص العام من الشارع،
فلو عم في الناس طعام وشراب وكانوا لا يعتادون تناول غيرهما،
فإذا ورد نهي مطلق عن الطعام لم يختص بالمعتاد دون غيره. وقال
أبو حنيفة: العرف من المخصصات، وحمل الطعام على البر، لأنه في
عرف أهل الحجاز كذلك.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يجوز التخصيص به. قال: وذلك مثل أن
يرد عن النبي عليه السلام خبر في بيع أو غيره، وعادة الناس
تخالفه، فيجب الأخذ بالخبر، وإطراح تلك العادة. قال:وليس في
هذا خلاف.
قال: فإن قيل:أليس قد خصصتم عموم لفظ اليمين بالعادة، فقلتم:
إذا حلف لا يأكل بيضا، أو لا يأكل الرءوس فلا يحنث إلا بما
يعتاد أكله من الرءوس والبيض؟ فهلا قلتم في ألفاظ الشارع مثل
ذلك؟
قيل: نحن لا نخص اليمين بعرف العادة، وإنما نخصه بعرف الشرع،
مثل: لا يصلي أو لا يصوم، فيحنث بالشرعي، أو بعرف قائم بالاسم
مثل:لا يأكل البيض أو الرءوس الذي يقصد بالأكل فيخص اليمين
بعرف قائم في الاسم، فأما بعرف العادة فلا يخص، فإنه لو حلف لا
يأكل خبزا ببلد لا يؤكل فيه إلا خبز الأرز، حنث به، وإن كان لا
يعتاد أكله. وقال أبو بكر الصيرفي: الاعتبار بعموم اللسان، ولا
اعتبار بعموم ذلك الاسم على ما اعتادوه، لأن الخطاب إنما يقع
بلسان العرب على حقيقة لغتها، فلو خصصناه بالعادة للزم تناوله
بعض ما وضع له؟ وحق الكلام العموم، ولسنا ندري: هل أراد الله
ذلك أم لا؟ فالحكم للاسم، حتى يأتي دليل يدل على التخصيص. قال:
وهذا كله بالنسبة إلى خطاب الله وخطاب رسوله، فأما خطاب الناس
فيما بينهم في المعاملات وغيرها، فينزل على موضوعاتهم كنقد
البلد في الشراء والبيع، وغيره، إذا أرادوه، وإلا عمل بالعام.
ولا يحال اللفظ عن حقه إلا بدليل انتهى.
ـــــــ
1 انظر شرح تنقيح الفصول ص "211" ومختصر الحاجب "2/252"
(2/522)
وقال سليم: لا يجوز التخصيص بالعادة، مثل
أن يرد خبر عن النبي عليه السلام في بيع أو غيره، وعادة الناس
تخالفه، فيجب الأخذ بالخبر، وإطراح تلك العادة، لأن الخبر إنما
يرد لنقل الناس عن عادتهم، فلا يترك بها. انتهى.
وقال إمام الحرمين في باب الزكاة من "النهاية": يجب في خمس
شاة، أنه يتخير بين غنم غالب البلد وغيره. لأنه صلى الله عليه
وسلم قال: "في خمس شاة1" ، واسم الشاة يقع عليهما جميعا، ولفظ
الشارع لا يتخصص بالعرف عند المحققين من أهل الأصول.
ثم هنا أمران:
أحدهما: أن العادة التي تخصص إنما هي السابقة لوقت اللفظ
المستقر، وقارنته حتى تجعل كالملفوظ بها، فإن العادة الطارئة
بعد العام لا أثر لها، ولا ينزل اللفظ السابق عليها قطعا;
وأغرب بعض المتأخرين فحكى خلافا في أن العرف الطارئ، هل يخصص
الألفاظ المتقدمة؟
الثاني: أطلق كثيرون التخصيص بالعادة، وخصها المحققون بالقولية
دون الفعلية.
قال أبو الحسين في "المعتمد2" العادة التي تخالف العموم ضربان:
أحدهما: عادة في الفعل والآخر عادة في استعمال العموم، أما
الأول فبأن يعتاد الناس شرب بعض الدماء، فيحرم الله سبحانه
وتعالى الدماء بكلام يعمها، فلا يجوز تخصيص هذه العموم. بل يجب
تحريم ما جرت به العادة وغيره.
وأما الثاني: فيجوز أن يكون العموم مستغرقا في اللغة، ويتعارف
الناس الاستعمال في بعض تلك الأشياء فقط. كاسم الدابة، فإنه في
اللغة لكل ما دب وقد تعورف استعماله في الخيل فقط، فمتى أمرنا
الله بالدابة لشيء حمل على العرف، لأنه به أحق وليس ذلك بتخصيص
على الحقيقة، وإنما هو تخصيص بالنسبة إلى اللغة، وفرق بين
ـــــــ
1 رواه أبو داود "2/98" ، كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة،
برقم "1568" بلفظ" عن سالم عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى
الله عليع وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه
بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان
فيه "في خمس من الإبل شاة..... الحديث". ورواه الترمذي "3/17"
كتاب الزكاة، باب: ماجاء في زكاة الإبل والغنم، برقم "621".
ورواه النسائي "5/27" كتاب الزكاة باب: زكاة الغنم، برقم
"2455". رواه ابن ماجاه "1/573"، كتاب الزكاة، باب: صدقة
الإبل، برقم "1798" وهو حديث صحيح.
2 انظر المعتمد لأبي الحسن البصري "1/301".
(2/523)
أن لا يعتاد الفعل أو لا يعتاد إطلاق الاسم
على المسمى. وذكر الغزالي مثله.
قال المازري: إن كانت العادة فعلية لم تخص العموم، كغسل الإناء
من ولوغ الكلب، هل يحمل على إناء فيه ماء، لأنه لم تجر عادتهم
إلا به، أو يعم الماء والطعام وغيره؟ وفيه خلاف في مذهب مالك.
وإن كانت قولية، كأن يعتاد المخاطبون إطلاق بهيمة الأنعام على
الضأن دون ما سواه، فهذا موضع الخلاف. فالشافعي لا يخصص بهذه
العادة، وأبو حنيفة: يخصص بها.
قال: وهذا فيها إذا كان التعارف بين غير أهل اللغة، فأما تعارف
أهل اللغة على تسمية، فإنه يرجع إليه إذا وجب التمسك بلغتهم،
وإنما الخلاف في تعارف من سواهم على قصر مسمياتهم على بعض ما
وضعت له، هل يقدم العرفي أو اللغوي؟
وقال القاضي عبد الوهاب: العادة إن كانت فعلية لم يخص بها، مثل
أن يقول: حرمت عليكم أكل اللحوم، وعادتهم أكل لحوم الغنم،
فيجري العام على عمومه، وإن كانت عادة في التخاطب خص بها
العموم، مثل أن يقول: لا تركبوا دابة، فيخص بها الخيل دون
غيرها من الإبل والحمير، لأن ذلك هو المفهوم في عادة التخاطب.
وقال القرطبي: اختلف أصحابنا في تخصيص العموم بالعادة الغالبة،
كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
[النساء:43] فإنه كناية عن الخارج من المخرجين، وهو عام غير أن
أكثر أصحابنا خصوه بالأحداث المعتادة، فلو خرج ما لا يعتاد
كالحصى والدود لم يكن ناقضا وإنما صار إلى ذلك لأن اللفظ إذا
أطلق لم يتبادر الذهن إلى غير المعتاد نصا، وكان غيره غير
مراد.
قال: وعلى هذا الخلاف في الأصل ابتنى الخلاف في مسائل الأيمان،
فإذا حلف بلفظ له عرف فعلي، ووضع لغوي، فهل يحمل على الوضعي أو
اللغوي؟ قولان. وقال القرافي: شذ الآمدي بحكاية الخلاف في
العادة الفعلية، ووقع في كلام المازري حكاية خلاف في ذلك عن
المالكية. لعله مما التبس عليه القولية بالفعلية. وأظن أني
سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي الإجماع على أنها لا
تخصص، أعني الفعلية.
وقال العالمي من الحنفية: العادة الفعلية لا تكون مخصصة إلا أن
تجمع الأمة على استحسانها، ثم قال: ولقائل أن يقول: هذا تخصيص
بالإجماع لا بالعادة. انتهى.
وقال إلكيا: الخلاف في تخصيص العموم بالعادة لا يعني بها
الفعلية، فإن الواجب على المخاطبين أن يتحولوا عن تلك العادة
وإنما المعني بها استعمال العرف في
(2/524)
بعض ما يتناوله، وذلك على وجهين:
أحدهما: أن يعلم موافقة الرسول عليه السلام لهم في محاوراتهم،
فيبتني عليها،
والثاني: أن لا يظهر ذلك، ويحتمل، فيتبع موضوع اللغة.
وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العنوان": هذه المسألة تحتاج إلى
تحرير، لأنه قد أطلق القول بالخلاف فيها، وترجيح القول بالعموم
فيها. والصواب أن يفصل بين عادة ترجع إلى الفعل، وعادة ترجع
إلى القول; فما يرجع إلى الفعل يمكن أن يرجح فيه العموم على
العادة، مثل أن يحرم بيع الطعام بالطعام، ويكون العادة بيع
البر منه، فلا يخصص عموم اللفظ بهذه العادة الفعلية.
وأما ما يرجع إلى القول مثل أن يكون أهل العرف اعتادوا تخصيص
اللفظ ببعض موارده اعتبارا بما سبق الذهن بسببه إلى ذلك الخاص،
فإذا أطلق اللفظ العام فيقوى تنزيله على الخاص المعتاد، لأن
الظاهر أنه إنما يدل باللفظ على ما شاع استعماله فيه، لأنه
المتبادر إلى الذهن. ا هـ.
وقال صاحب "الواضح" المعتزلي: أطلق المصنفون في الأصول أن
العموم يخص بالعادات، والصحيح أن اللفظ العام يخص بالعرف في
الأقوال، ولا يخص به في الأفعال فإذا قال لغيره: اشتر دابة،
فاشترى كلبا، كان مخالفا، لأن اللفظ وإن كان عاما في كل ما دب
إلا أن العرف قد قيده بالخيل، ولو قال اشتر لحما، فاشترى لحم
كلب لم يكن مخالفا، لأن الاسم عام في كل لحم، والعرف في الفعل
خاص في بعض اللحمان فلم يخص العام بالعرف في الفعل.
وقال الإبياري: للمسألة أحوال:
أحدهما: أن يكون العرف عرف أهل اللسان كالدابة والغائط، فهذا
لا يخص به العموم قطعا، إن قلنا: إن الشرع لم يتصرف في اللغة.
وإن قلنا: إنه يتصرف ينزل منزلة عرفه، ووجب التخصيص به.
الثاني: أن يكون العرف لغير أهل اللغة، ولم يكن الشرع يعرف غير
عرفهم في الاختصاص، فهذا يجب أن تنزل ألفاظ الشارع على
مقتضاها، إما في اللغة أو في عرف السامع، وهذا لا يتجه فيه
خلاف، إذ كيف يتصور أن يكون قصد خطابهم على حسب عرفهم، وهو لا
يعرفه؟
الثالث: أن يكون المخاطبون ليسوا أهل لغة، والشارع يعرف عرفهم،
ولكن لم
(2/525)
يظهر منه خطابهم على مقتضى عرفهم، ولا يظهر
الإضراب عن ذلك، فهذا موضع الخلاف في أنه ينزل على مقتضى عرفهم
أم لا؟
الرابع: أن المخاطبين اعتادوا بعض ما يدل عليه العموم، كما لو
نهي عن أكل اللحم مثلا، وكانت عادتهم أكل لحم مخصوص، فهل يكون
النهي مقصورا على ما اعتادوا أكله أم لا؟ هذا موضع الخلاف عند
الأصوليين والفقهاء، وعليه يخرج تخصيص الأيمان بالعرف الفعلي.
تنبيهان
الأول: ادعى بعضهم أن مذهب الشافعي تخصيص العموم بالعادة
الفعلية خلافا لما سبق عن الأصوليين، فإنه لما حمل الأمر في
قوله صلى الله عليه وسلم في الرقيق: "وأطعموهم مما تأكلون،
وألبسوهم مما تلبسون1" الحديث، على الاستحباب، دون الوجوب، حمل
الحديث على أن الخطاب للعرب الذين كانت مطاعمهم وملابسهم
متفاوتة، وكان عيشهم ضيقا، فأما من لم يكن حاله كذلك، وخالف
معاشه معاش السلف والعرب في أكل رقيق الطعام، ولبس جيد الثياب،
فلو واسى رقيقه كان أكرم وأحسن، وإن لم يفعل، فله ما قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "نفقته وكسوته بالمعروف2" ، وهو عندنا ما
عرف لمثله في بلده الذي يكون فيه، هذا لفظ الشافعي رحمه الله3.
قال: فأنت تراه كيف خصص عموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم بما
كانت عادتهم فعله في تلك الأزمان. قلت: إنما خصصه بقوله:
"نفقته وكسوته بالمعروف" ، وفسر المعروف بالعرف، وجمع بين
الحديثين بذلك، وساعده في حمل الأول عادة المخاطبين، وكلامنا
في التخصيص بمجرد العادة لا بدليل خارجي، فليس في نص الشافعي
ما ذكر.
الثاني: التحقيق أن المخصص هو تقرير الرسول صلى الله عليه
وسلم، والعادة كاشفة عنه، وكذلك لو لم تكن العادة موجودة في
عهده أو كانت، ولم يعلمها، أو علم بها ولكن لم يخص بها
بالإجماع، لأن المثال السائر لا يكون دليلا من الشرع إلا مع
الإجماع وحينئذ
ـــــــ
1 رواه مسلم "1/9"، كتاب لبزهد والرقائق، باب: حديث جابر
الطويل وقصة أبي اليسر، برقم "3014".
2 رواه مسلم "3/1284
، برقم "1662" بلفظ ""عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله
علييه وسلم أنه قال للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل
إلا ما يطيق". وفي الموطأ "2/980/، برقم "1769" بلاغا عن أبي
هريرة مرفوعا بلفظ"للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من
العمل إلا ما يطيق".
3 انظر الأم :"5/90 – 91".
(2/526)
يكون الإجماع هو المخصص لا العادة، ولا
يعكر على هذا إفرادها بمسألة التخصيص بتقريره صلى الله عليه
وسلم عنها.
(2/527)
[التخصيص بقول
الصحابي]
المسألة الثانية: أن يكون الخبر عاما فيخصه الصحابي بأحد
أفراده، فإما أن يكون هو الراوي له أو لا
الضرب الأول: أن لا يكون هو راويه، كحديث أبي هريرة: "ليس على
المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" . وحديث علي: "قد عفوت لكم عن
صدقة الخيل، والرقيق1" وقد روي عن ابن عباس تخصيص الخيل بما
يغزى عليها في سبيل الله، فأما غيرها ففيها الزكاة، وعن عثمان
تخصيصه بالسائمة، وأخذ من المعلوفة الزكاة، وعن عمر نحوه2.
فقال الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، وسليم،
والشيخ في "اللمع3": يجوز التخصيص به إذا انتشر، ولم يعرف له
مخالف، وانقرض العصر عليه، لأن ذلك إما إجماع أو حجة مقطوع به
على الخلاف.
وأما إذا لم ينتشر في الباقين، فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعا،
وإن لم يعرف له مخالف فعلى قوله في الجديد، ليس بحجة، فلا يخص
به، وعلى قوله القديم: هو حجة، تقدم على القياس، وهل يخص به
العموم؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يخص به، لأنه على هذا القول أقوى من القياس، وقد
ثبت جواز التخصيص بالقياس فكان بما هو أقوى منه أولى.
والثاني: لا يخص لأن الصحابة كانت تترك أقوالها لظاهر السنة.
قال الشيخ أبو إسحاق: والمذهب أنه لا يجوز التخصيص به.
وما ذكروه من حكاية الوجهين تفريعا على القول بحجيته، حكاه
القفال الشاشي في كتابه أيضا، والقاضي أبو الطيب في "شرح
الكفاية"، ونقلهما عن أبي علي الطبري في الإيضاح. وما ذكروه من
تخريج القول بكونه تخصيصا على القديم فهو مبني على المشهور من
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه الترمذي "3/16"، كتاب الزكاة، باب: ماجا
في زكاة الذهب والورق، برقم "620". رواه ابن ما جه "1/570"
كتاب الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، برقم "1790"، وهو حديث
صحيح.
2 انظر مصنف مصنف ابن شيبة "3/152"
3 انظر اللمع من نزهة المشتاق ص "208".
(2/528)
مذهب الشافعي في الجديد: أن قول الصحابي
ليس بحجة، لكن سيأتي - إن شاء الله تعالى - أنه منصوص للشافعي
في الجديد أيضا، ولذلك اعتقد مذهب معمر بن نضلة في تخصيصه
الاحتكار بالطعام حالة الضيق على الناس1، ولم يعتقد قول ابن
عباس في تخصيص المرتد بالرجل دون المرأة، ولا قول من خص نفي
الزكاة عن الخيل ببعض أصنافها. أما على القول المشهور في
الجديد من أن قول الصحابي ليس بحجة أو لأن غيرهم من الصحابة قد
خالفوهم، فقد روي عن علي أنه قتل المرتدة، وعن عمر أنه امتنع
من أخذ الزكاة عن الخيل، لما سأله أربابها ذلك، وإذا اختلفت
الصحابة تعارضت أقوالهم فبقي العام على عمومه وما جزموا به من
التخصيص إذا لم يعلم مخالف فليس كذلك، فقد ذكر القفال الشاشي
في هذه الحالة خلافا مبنيا على الخلاف في تقليده، وفيه نظر،
لأن هذه محل وفاق كما سيأتي.
وقال أبو الحسين بن القطان: ذهب عامة أصحابنا إلى أن تخصيص
الظاهر بقول الصحابي لا يقع. وقال بعضهم: يجب أن يخص الظاهر به
إذا قلنا بوجوب قبول قوله إذا انتشر، وإن لم يصادمه قياس، لأنا
نقدمه على القياس، فإذا خص بالقياس كان بأن يخص بقوله الذي هو
مقدم على القياس أولى، ثم قال الشيخ أبو حامد: فأما إذا كان
الخبر غير محتمل أو عارضه قول صحابي فإنه يعمل بالخبر، ويترك
قول الصحابي.
وقال أبو حنيفة: إن كان الصحابي ممن يخفى عليه الخبر عمل
بالخبر، وإن كان ممن لا يخفى عليه فالعمل بقول الصحابي، ولهذا
يقولون: من شرط صحة خبر الواحد أن لا يعترض عليه بعض السلف.
ـــــــ
1 انظر سنن ما جه "2/728".
2 حديث صحيح، سبق تخريجه.
(2/529)
[تخصيص الحديث
بمذهب راويه من الصحابة]
الضرب الثاني: أن يكون هو الراوي، كحديث ابن عباس:"من بدل دينه
فاقتلوه2" فإن لفظة:من عامة في المذكر والمؤنث وقد روي عن ابن
عباس أن المرأة إذا ارتدت تحبس ولا تقتل، فخص الحديث بالرجال،
فإن قلنا: قول الصحابي حجة، خص على المختار. وقال القاضي في
"مختصر التقريب": وقد نسب ذلك إلى الشافعي في قوله الذي يقلد
الصحابي فيه، ونقل عنه أنه لا يخصص به، إلا إذا انتشر في هذا
العصر، ولم
(2/529)
ينكره، وجعل ذلك نازلا منزلة الإجماع1.
وإن قلنا: قوله: غير حجة فهو موضع الخلاف.
والصحيح: أنه لا يخص به، خلافا للحنفية والحنابلة2. وشبهتهم أن
الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم،
ويعمل بخلافه إلا لنسخ ثبت عنده، ولنا أن الحجة في اللفظ وهو
عام، وتخصيص الراوي لا يصلح أن يكون معارضا، لأنه
قال ابن دقيق العيد: وقد يخالف في هذا ويقول: إن القرائن تخصص
العموم، والراوي يشاهد من القرائن ما لا يشاهده غيره، وعدالته
وتيقظه مع علمه بأن العموم مما لا يخص إلا بموجب مما يمنعه أن
يحكم بالتخصيص إلا بمستند، وجهالته دلالة ما ظنه مخصصا على
التخصيص يمنع منه معرفته باللسان، وتيقظه. ا هـ.
وجزم الأستاذ أبو منصور، والشيخ في "شرح اللمع" في هذا الضرب
بأن مذهبه لا يخصص عموم الحديث. وقال سليم:لا يخصه على القول
الجديد، وكلام من جزم محمول على التفريع على هذا القول، فإن
تخريج المسألة على أن قول الصحابي حجة أم لا، لا فرق فيه بين
أن يكون هو الراوي له أم لا، لأن تخصيصه يدل على أنه اطلع من
النبي عليه السلام على قرائن حالية تقتضي التخصيص، فهو أقوى من
التخصيص بمذهب صحابي آخر لم يرو الخبر، ولعله لم يبلغه، ولو
بلغه لم يخالفه بإخراج بعضه.
وإلى هذه الأولوية يرشد كلام ابن الحاجب في "المختصر" بقوله:
مذهب الصحابي لا يخصص، ولو كان الراوي، خلافا للحنفية
والحنابلة. واختار الآمدي والرازي وفصل بعضهم، فقال إن وجد ما
يقتضي تخصيصه به، لم يخص بمذهب الراوي بل به، إن اقتضى نظر
الناظر فيه ذلك وإلا خص بمذهب الراوي وهو مذهب القاضي عبد
الجبار.
ومثل الشيخ في "شرح اللمع" هذا القسم بحديث "ليس على المسلم في
عبده ولا فرسه صدقة" . قال: وحمله الحنفية على فرس الغازي لقول
زيد بن ثابت، وهذا فيه نظر. فإن الحديث لا يعرف من طريق زيد.
وقال ابن القشيري: إذا روى الصحابي
ـــــــ
1 انظر الأم"7/209".
2 انظر المسود لآل تيمية ص "127"، وتيسير التحريير لأمير
بادهشا "3/17".
(2/530)
خبرا، وعمل بخلافه، فالذي نقله إمام
الحرمين أن الاعتبار بروايته لا بفعله. ونقل القاضي أن مجرد
مذهب الراوي لا يبطل الحديث ولا يدفعه، لكن إن صدر ذلك المذهب
منه مصدر التأويل والتخصيص فيقبل، وتخصيصه أولى. وعند الحنفية
لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا كان عمله مخالفا.
وحكى القاضي عن عيسى بن أبان أن الصحابي إذا كان من الأئمة
وعمل بخلاف ما روي كان دليلا على نسخ الخبر. قال والاختيار ما
ذكره إمام الحرمين، وهو إنا إن تحققنا نسيانه للخبر الذي رواه،
أو فرضنا مخالفته لخبرلم يروه وجوزنا أنه لم يبلغه فالعمل
بالخبر وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحرج فيما سبق فيه
تحريم وحظر، ثم رأيناه يتحرج فالاستمساك بالخبر، وعمله محمول
على الورع. وإن ناقض عمله روايته، ولم نجد محملا في الجميع
امتنع التعلق بروايته، فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن
يعمد إلى مخالفة ما رواه إلا عن سبب يوجب المخالفة.
والحاصل: أنه إن فعل ما له فعله فلا احتجاج بما رواه، وإن فعل
ما ليس له فعله أخرجه ذلك عن رتبة الفقه.
قال ابن القشيري: وعلى هذا فلا يقطع بأن الحديث منسوخ، كما صار
إليه ابن أبان، ولعله علم شيئا يقتضي ترك العمل بذلك الخبر.
ويتجه هاهنا أن يقال: لو كان ثم سبب يوجب رد الخبر لوجب على
هذا الراوي أن يثبته، إذ لا يجوز ترك ذكر ما عليه مدار الأمر،
والمحل محل التباس،
ثم قال الإمام: إذا روى الراوي خبرا، وكان الظاهر أنه لم يحط
بمعناه فمخالفته للخبر لا تقدح في الخبر وإن لم يدر أنه ناس
للخبر أو ذاكر لما عمل بخلافه فالتعلق بالخبر، لأنه من أصول
الشريعة، ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به، فلا يدفع الأصل
بهذا التردد، بل إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم
نحققه، فهذا يعضد التأويل ويؤيده، ويحط مرتبة الظاهر، ويخص
الأمر في الدليل الذي عضده التأويل.
وقال إلكيا وابن فورك: المختار أنا إن علمنا من حال الراوي أنه
إنما حمل على ذلك بما علم من قصد النبي صلى الله عليه وسلم،
وجب اتباعه لئلا يفضي إلى مخالفة النبي عليه السلام، وإن حمله
على وجه استدلال أو تخصيصا بخبر آخر فلا يجب اتباعه.
قلت: وسكتا عن حالة ثالثة، وهي إذا لم يعلم الحال. وكأنها موضع
الخلاف، وإليه يشير كلام القاضي عبد الوهاب في "الإفادة"
(2/531)
فالأحوال إذن ثلاثة:
أحدهما: أن يعلم من قصد النبي عليه السلام ومخرج كلامه أن
المراد الخصوص فيجب اتباع الراوي فيه.
الثاني: أن يعلم أنه خص الخبر بدليل آخر، أو ضرب من الاستدلال
فيجب استعمال الخبر قطعا.
الثالث: أن لا يعلم ما لأجله خص الخبر، وأمكن أن يكون بدليل،
فهذا موضع الخلاف والراجح تقديم الخبر. وقال الشيخ أبو حامد:
إنما يقبل قول الراوي للخبر إذا كان الخبر محتملا لمعنيين قال:
وأجمع المسلمون أنه إذا أريد به أحدهما فإذا فسره بأحد محتمليه
أخذنا به كما في حديث: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا1" حيث
فسره بالتفرق بالأبدان. فأما ما في غير ذلك فلا يقبل، وهذا
مذهبنا، وبه قال الكرخي
وذهب أبو حنيفة وأصحابه خلافا للكرخي إلى أنه يخص عموم الخبر،
وترك ظاهره بقول الراوي وبمذهبه ولا يقبل قوله في تفسير الخبر
بأحد محتمليه، فالمكان الذي نقبل قوله فيه لا يقبلونه، والمكان
الذي يقبلونه لا نقبله
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
(2/532)
تنبيهات: [هل يخص الحديث بقول راويه من غير
الصحابة]
الأول: زعم القرافي أن صورة المسألة فيما إذا كان الراوي
صحابيا، لأنه يحتمل أنه شاهد من النبي عليه السلام خلاف ما
رواه، فحمله على ذلك. أما غير الصحابي فلا يتأتى فيه خلاف في
أن فعله لا يكون حجة على روايته. ا هـ. وغره في ذلك بناؤهم هذه
المسألة على الخلاف في أن قوله حجة أم لا؟ وهذا إنما يكون في
الصحابي، لكن الخلاف في التخصيص بقول الراوي لا يختص بالصحابي،
بل ولا بصورة التخصيص; بل الراوي مطلقا من الصحابي ومن بعده،
إذا خالف الخبر بتخصيص أو بغيره، حتى إذا تركه بالكلية كان
مذهبه عند الحنفية مقدما على الخبر، ولذلك لم يقيد الإمام في
"المحصول" بالراوي الصحابي، بل أطلق. ولكن قيد المخالفة بحالة
التخصيص، ولا تتقيد بذلك عندهم.
(2/532)
وصرح إمام الحرمين في البرهان بما ذكرناه،
فقال: وكل ما ذكرناه يعني في هذه المسألة غير مختص بالصحابي
فلو روى بعض الأئمة حديثا، وعمل بخلافه فالأمر على ما فصلناه،
ولكن قد اعترض الأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة
لروايتهم، وهذا كرواية أبي حنيفة خيار المجلس مع مصيره إلى
مخالفته، فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية، لأنه ثبت من
أصله تقديم الرأي على الخبر، فمخالفته محمولة على بنائه على
هذا الأصل الفاسد، ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة؟ وكرواية
مالك لهذا الحديث مع مصيره إلى نفي خيار المجلس، وهذه المخالفة
أيضا لا تقدح في الرواية، لأن الذي حمله على هذا فيما أظن
تقديمه عمل أهل المدينة على الأخبار الصحيحة، وقد حكاه عنه ابن
القشيري في كتابه هكذا1.
ثم قال: ولا ينبغي تخصيص المسألة بالراوي يروي، ثم يخالف، بل
يجري فيمن بلغه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخالفه،
وإن لم يكن هو الراوي لذلك الخبر، حتى إذا وجدنا محملا، وقلنا:
إنما خالف لأنه اتهم الراوي، فلا يقدح هذا في الخبر، وإن لم
يتجه وجه لمخالفته هذا الحديث إلا المصير إلى استخفافه بالخبر
فحينئذ يتعين أن يقال: هذا قدح في الخبر، وعلم بضعفه. ا هـ.
واعلم أن عبارات الحنفية في تقديم قول الراوي مطلقة، فلم
يفرقوا بين الصحابي وغيره من التابعين، وتعقب بعض المتأخرين
منهم، فقال: ينبغي أن يعلم أولا أن مذهب الصحابي هل تقدم على
سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان قوله قبل
سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتأتى هذا الحديث،
والحق مع الشافعية. وإن كان رأيه بعد روايته اتجه قاله
الحنفية. ا هـ. والخلاف إنما هو في القسم الأخير، وما ذكروه من
الدليل ممنوع، لأنه يتوقف على معرفة التاريخ، وهي مفقودة. وهذا
البحث يقتضي تخصيص المسألة بالصحابي
ومثال تخصيص الراوي غير الصحابي حديث سعيد بن المسيب، عن معمر
بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا
خاطئ2" أخرجه مسلم. وفيه: وكان سعيد بن المسيب يحتكر، فقيل له
فقال: كان معمر يحتكر. قال ابن عبد البر:كانا
ـــــــ
1 انظر البرهان لإمام الحرمين "1/443".
2 رواه مسلم "3/1227" كتاب المساقاة، باب: تحريم الاحتكار في
الأقوات، برقم "1605" وهو في الترمذي "1267"، وأبو داود
"3447"، ابن ماجه "2145".
(2/533)
يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار
القوت عند الحاجة إليه، والغلاء، وعليه جرى الشافعي، لكنه خصص
بقول الصحابي، لا بقول سعيد. نعم، قال الرافعي في الشهادات:
إنما اختص القضاء بالشاهد واليمين بالأموال، لأن عمرو بن دينار
روى الخبر عن ابن عباس ولما رواه قال: وذلك في الأموال. وقول
الراوي متبع في تفسير ما يرويه وتخصيصه. انتهى.
الثاني: ما ذكرنا من التفصيل بين أن يكون هو الراوي أو غيره،
وأنه إذا كان غيره وانتشر، ولم يخالف، خص به هو الصواب. وهذه
الصورة واردة على من أطلق الكلام في هذه المسألة كالآمدي
وغيره، فإنه صرح بأنه لا تخصيص، سواء كان هو الراوي أو غيره
خلافا للحنفية والحنابلة، وتبعه ابن الحاجب1.
الثالث: إن عمل الراوي بخلاف الحديث، ينقسم إلى أقسام أخرى
سيأتي في باب الأخبار بيانها إن شاء الله تعالى.
مسألة
في تخصيص العموم بالسبب أقوال: ثالثها: الفرق بين المستقل
فيخص، وغيره فلا، حكاه ابن العربي في "المحصول" وقد سبقت.
ـــــــ
1 انظر شرح مختصر ابن الحاجب "2/150".
(2/534)
مسألة: يجوز تخصيص
العموم بقضايا الأعيان
كإذنه في الحرير للحكة، وفيه قولان عند الحنابلة. وذكر أبو
الخطاب منهم أنه لا يجوز تخصيص العموم بالبقاء على حكم الأصل
الذي هو الاستصحاب بلا خلاف.
قال القاضي عبد الوهاب في "الإفادة": ذهب بعض ضعفاء المتأخرين
إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال. قال: لأنه دليل يلزم المصير
إليه ما لم ينقل عنه ناقل. فجاز التخصيص به كسائر الأدلة. وهذا
في غاية التناقض، لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم، فكيف
يصح تخصيصه به. إذ معناه التمسك بالحكم لعدم دليل ينقل عنه،
والعموم دليل ناقل.
(2/534)
مسألة
منع بعضهم من تخصيص بعض الأفراد إذا كان هو الأعظم الأشرف وبنى
عليه منع إطلاق الشيء على الله تعالى إذ لو جاز للزم دخول
التخصيص في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
[الرعد:16] بالنسبة إلى الله تعالى، وهو ممتنع لما ذكرنا. حكاه
الإمام الرازي في المطالب العالية في مسألة خلق الأفعال
خاتمة
ليس من المخصصات عطف العام على الخاص، خلافا للحنفية، ولا رجوع
الضمير إلى البعض خلافا لقوم، ولا ذكر بعض أفراد العام خلافا
لأبي ثور، ولا وروده على سبب خاص خلافا للمزني وأبي ثور. وقد
سبقت هذه المسائل في العموم1.
ـــــــ
1 انظر المنتهى لابن الحاجب، ومنتهى السول ص "53".
(2/535)
القول في بناء العام
على الخاص
والمراد بالبناء: تخصيصه وتفسيره له. إذا وجد نصان: أحدهما
عام، والآخر خاص، وهما متنافيان في النفي والإثبات، فإما أن
يكونا من الكتاب، أو أحدهما منه، والآخر من السنة إما متواترا
وغيره، وإما أن يكونا من السنة; إما متواترين أو غير متواترين،
أو أحدهما متواتر والآخر غير متواتر. والحكم في الكل واحد، إلا
فيما يتعلق بالنسخ عندما يكون المتأخر ظنيا، والمقدم قطعيا،
عند من منعه. وحيث أمكن استعمالهما صرنا إليه، ونقل سليم
الرازي عن داود أنه يستعمل النصان من الكتاب، ويسقط الخبران،
وعنه في الآية والخبر روايتان: هل يستعملان أو يتساقطان.
ثم فيه أقسام:
أحدهما: أن يرادا معا، كأن تنزل آية عامة، ثم قبل أن يستقر
حكمها بين النبي صلى الله عليه وسلم دليل التخصيص، كقوله:
"زكوا البقر ولا تزكوا العوامل" 1، فالخاص هنا مقدم على العام
بالإجماع، كما نقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي عبد
الوهاب في "الملخص"، وأبو بكر الرازي في أصوله، لأن الخاص مبين
للعام ومخصص له; لكن في "المحصول" أن بعضهم ذهب إلى أن ذلك
القدر من العام يصير معارضا للخاص.
وقال أبو بكر الرازي: المخصص مع العام بمنزلة الاستثناء مع
الجملة بلا خلاف، كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] ثم قال في سياق
الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] فخص حال
الاضطرار قبل استقرار حكمها. فصار عموم اللفظ مبنيا على الخصوص
المعطوف عليه. انتهى.
ولا فرق بين أن يكون الخاص مقارنا للعام، كما مثلنا، أو يكون
العام مقارنا للخاص، كأن يقول: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق"
2، ثم يقول عقبه: "فيما سقت السماء العشر" 3، وإن جوزنا نسخ
الخاص بالعام، فلا يمكن هنا، لأن الناسخ شرطه التراخي، وهو
هاهنا مقارن، فتعين بناء العام على الخاص.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في سننه كتاب الزكاة, حديث "1472" مرفوعا بلفظ
"وليس على العوامل شيء".
2 حديث صحيح وسبق تخريجه.
3 حديث صحيح وسبق تخريجه
(2/536)
الثاني: أن يعلم تاريخهما، فالمتأخر إما
الخاص وإما العام، وعلى التقديرين، فإما أن يتأخر عن وقت العمل
أو عن وقت الخطاب، فهذه أربعة أقسام:
أحدها: أن يتأخر الخاص عن وقت العمل بالعام، فهاهنا يكون الخاص
ناسخا لذلك القدر الذي تناوله العام وفاقا، ولا يكون تخصيصا،
لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعا، فيعمل بالعام في
بقية الأفراد في المستقبل.
وثانيها: أن يتأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به،
فهذه مبنية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فمن جوزه جعل
الخاص بيانا للعام، وقضى به عليه، ومن منعه، حكم بنسخ العام في
القدر الذي عارضه الآخر. هكذا قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني،
وسليم، قال: ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها، وإنما
يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان. ا هـ. وذكر الشيخ في
"اللمع" نحوه1.
وقال ابن الصباغ في "العدة" إذا تأخر الخاص، فإن ورد قبل وقت
الفعل الذي تناوله العام كان تخصيصا، أو بعد دخول وقته كان
نسخا لأنه لا يجوز تأخير بيان العموم عن وقت الحاجة
وقال الصفي الهندي من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت
الخطاب ولم يجوز نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به، كالمعتزلة
أحال المسألة. ومن جوزهما، فاختلفوا فيه، فالذي عليه الأكثرون
من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام، لأنه وإن جاز أن يكون
ناسخا لذلك القدر من العام لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ وقد
أمكن حمله عليه فيتعين. ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا
تأخر عن العام، وتخلل بينهما ما يمكن المكلف فيه من العمل أو
الاعتقاد بمقتضى العام كان الخاص ناسخا لذلك القدر الذي تناوله
من العام لأنهما دليلان وبين حكميهما تناف فيجعل المتأخر ناسخا
للمتقدم عن الإمكان دفعا للتناقص وهو ضعيف لما تقدم.
وثالثها: أن يتأخر العام عن وقت العمل بالخاص فهاهنا يبنى
العام على الخاص عندنا، لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله
العام ظاهر مظنون، والمتيقن أولى. قال إلكيا: وهذا أحسن ما علل
به. ا هـ.
وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه، والقاضي عبد الجبار إلى أن العام
المتأخر ناسخ للخاص المتقدم. وتوقف فيه ابن الفارض من
المعتزلة.
ـــــــ
1 انظر اللمع بحاشية الشيخ محمد يس ص"89".
(2/537)
وقال أبو بكر الرازي: إذا تأخر العام كان
نسخا لما تضمنه الخاص، ما لم تقم دلالة من غيره على أن العموم
مرتب على الخصوص. قال: وكان يحكي شيخنا أن مذهب أصحابنا
ومسائلهم تدل عليه، وقد جعل أبو حنيفة قوله تعالى: {فَإِمَّا
مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] منسوخا بقوله:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
[التوبة:5] لأنه نزل بعد.
ثم قال: وقد ناقض الشافعي أصله في هذه المسألة في مسائل:
منها: أنه جعل قوله عليه الصلاة والسلام لأنيس: "واغد يا أنيس
إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها1" قاضيا على قضية ماعز في
اعتبار تكرار الإقرار أربع مرات، مع أن قضية ماعز خاصة مفسرة،
وقضية أنيس عامة.
ومنها: أنه قال: "الوضوء مما مست النار منسوخ بأكل النبي صلى
الله عليه وسلم لحما وخبزا، ولم يتوضأ2" ، فنسخ العام بالخاص،
لأن الوضوء مما مست النار عام في الخبز واللحم وغيرهما، وتركه
الوضوء منها خاص بهما، ثم ينسخ العام بالخاص مع امتناع وقوع
النسخ في مثله بغير اللفظ، كيف منع من إيجاب نسخ الخاص بالعام
المشتمل عليه وعلى غيره؟ قال:وإنما تركنا الوضوء مما مست النار
للقاعدة الأخرى، وهي أن خبر الواحد لا يقبل فيما تعم به
البلوى، وحملنا الحديث على غسل اليد.
ومنها: "أنه زعم أن قتل شارب الخمر في الرابعة منسوخ بقوله
عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث3" فجعل
العام ناسخا للخاص. وزاد بعض المتأخرين من الحنفية أنه في حديث
عائشة "في غسل الجنابة: توضأ وضوءه للصلاة4"
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الوكالة، باب: الوكالة في
الحدود، برقم "2315". ورواه مسلم "3/1324" كتاب الحدود، باب:
من اعترف على نفسه بالزنا، برقم "1697".
2 الحديث رواه الإمام الأحمد في مسنده"4/30" حديث "16412" عن
أنس بن مالك قال: كنت أنا وأبي وأبو طلحة جلوسا، فأكلنا لحما
وخبزا، ثم دعوت بوضوء فقالا: لما تتوضأ؟ فقلت؟ لهذا الطعام
الذي أكلنا فقالا: أتتوضأ من الطيبات، لم يتوضأ منه من هو خير
منك؟
3 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله
تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
[المائدة:45]، برقم"6878". ورواه مسلم"3/1302" كتاب القسامة
والمحاربين والقصاص والديات، باب:ما يباح به دم المسلم، برقم
"176".
4 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الغسل، باب: مسح اليد
بالتراب لتكون أنقى، برقم"260". ورواه مسلم كتاب الحيض، باب
صفة غسل الجنابة، برقم "317".
(2/538)
وفي حديث ميمونة النص على تأخير غسل
الرجلين، والحديثان ثابتان، ولم يحمل الشافعي رحمه الله المطلق
على المقيد في تأخير غسل الرجلين، مع أن الحادثة واحدة، ومن
مذهبه حمل المطلق على المقيد في حادثتين فكيف في واحدة؟
والجواب1.
ورابعها: أن يتأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص، لكنه قبل وقت
العمل به، فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ، إلا على رأي
من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالقاضي عبد
الجبار، فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ، فتعين عليه البناء أو
التعارض فيما تنافيا فيه، وجعل إلكيا الطبري الخلاف في هذه
الحالة مبنيا على تأخير البيان. قال: فمن لم يجوز تأخيره عن
مورد اللفظ، جعله نسخا للخاص.
القسم الثالث: أن لا يعلم تاريخهما، فعند الشافعي وأصحابه أن
الخاص منهما يخص العام، وهو قول الحنابلة، ونقله القاضي عبد
الوهاب والباجي عن عامة أصحابهم، وبه قال القاضي عبد الجبار،
وبعض الحنفية
وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ،
وإلى ما يرجح أحدهما على الآخر أو يرجع إلى غيرهما. وحكي عن
القاضي أبي بكر والدقاق أيضا.
وكل من الإمامين ذهب إلى ما يقتضيه أصله، أما الشافعي فلأنه
بنى العام على الخاص مطلقا متقدما ومتأخرا ومقارنا إذا علم
التاريخ، لكن في بعض الصور يكون البناء على وجه النسخ، وفي
بعضها على وجه التخصيص، وحالة الجهل لا تخلو عن هذه الأحوال
الثلاثة، فوجب أن يبنى العام على الخاص، والجهل بكون البناء
على وجه النسخ أو التخصيص لا محذور فيه، لا في حق العمل، ولا
في حق الاعتقاد.
وأما أبو حنيفة فلأنه ينسخ الخاص بالعام إذا كان متقدما عليه،
ويخصص العام أو ينسخه به إذا كان متأخرا عنه، وعند الجهل
بالتاريخ دار الأمر في الخاص بين أن يكون منسوخا أو مخصصا أو
ناسخا، فعند التردد في هذه الأقسام يجب التوقف.
واعلم أن أبا حنيفة وأصحابه لما اعتقدوا في هذه الحالة التوقف
إلى ظهور المرجح ذكروا في الترجيح في استعمالهما أو استعمال
أحدها وجوها، فنقل أبو بكر الرازي والقاضي عبد الوهاب عن عيسى
بن أبان أنه قسمه إلى أربعة أقسام، لأنه إما أن يعمل الناس
بهما جميعا، فيستعملان، ويرتب العام على الخاص "كالنهي عن بيع
ما ليس عندك" وترخيصه في السلم وإما أن يتفقوا على العمل بموجب
أحدهما ويسقطوا الآخر
ـــــــ
1 هنا بياد في المخطوط بمقدرا أربع أسطر.
(2/539)
فيجب حمل ما أسقطوا على أنه منسوخ بما
عملوا به. ويختلفون في ذلك، فيعمل بعضهم بأحدهما، وعامة أهل
العلم يخالفه، فالعمل على قول العامة
قال أبو بكر: وحاصله أن الخاص والعام إذا وردا، وتجردا عن
دلالة النسخ، يستعملان جميعا على الترتيب، وإنه إن اختلف السلف
فيهما دل على أن أحدهما ناسخ لآخر.
قال وكان أبو الحسن الكرخي يحكى عن أبي حنيفة في الخاص والعام
متى اتفق العلماء على استعمال أحدهما، واختلفوا في الآخر، كان
المتفق عليه قاضيا على المختلف فيه، كقوله: "فيما سقت السماء
العشر1" فإنه متفق على استعماله في خمسة الأوسق، وحديث "ليس
فيما دون خمسة أوسق صدقة2" مختلف في استعماله، فكان خبر إيجاب
العشرة مطلقا قاضيا عليه بإيجابه. قال أبو بكر: وهذا أصل صحيح،
تستمر عليه المسائل. ونقل غيره عن الكرخي وغيره من وجوه
الترجيح: ترجيح الخاص فيهما على النسخ، والمفيد للحكم الشرعي
على الحكم العقلي، وزاد أبو عبد الله البصري: كون أحد الجزأين
بيانا للآخر بالاتفاق، كاتفاقهم على نصاب السرقة، وعدم العمل
بعموم الآية، وغير ذلك من طرق الترجيحات.
تنبيهان
الأول: قال إلكيا الطبري: خلاف الحنفية في هذه المسألة مبني
على أن العام الذي لم يدخله التخصيص نص في الاستغراق حتى لا
يجوز تخصيصه بالقياس، وحينئذ فإذا قضى الخاص على العام في جزء
تناوله الخاص، والعام يقضي على الخاص في خبر تناوله العموم،
فيتعارضان من هذه الجهة.
الثاني: قال ابن دقيق العيد: إن شرط البناء في هذه المسألة
التنافي في الكل أو في موضع الخاص، أما إذا لم يحصل التنافي
فلا. وكذا القول في حمل المطلق على المقيد. وعلى هذه فإذا ورد
عام وخاص في طرفي النهي والنفي فلا يبنى العام على الخاص ولا
يقيد
ـــــــ
1حديث صحيح سبق تخريجه.
2 حدبث صحيح سبق تخريجه.
(2/540)
المطلق: كما في نهيه عن مس الذكر باليمين
في الاستنجاء. والنهي عن مسه باليمين مطلقا1، فبقي دالا على
عمومه لدلالته على النهي في محل لا يدل ذلك الآخر عليه، هذا
إذا ثبت لنا أن الحديثين متعددان، ليسا بحديث واحد اختلف في
لفظه.
مسألة
تعارض المفسر والمجمل; كالخاص والعام; فيقدم المفسر على المجمل
مطلقا; قاله الأستاذ أبو منصور.
ـــــــ
1 هاتان الروايتان رواهما صحابي واحد وهو أبو قتادة رضي الله
تعالى عنه، والرواية التي فيها النهي عن مس الذكر باليمين
مطلقا رواها مسلم في صحيحه "1/225" كتاب الطهارة، باب النهي عن
الاستنجاء باليمين، حديث "267" عن أبي قتادة "أن النبي صلى
الله عليه نهى أن يتنفس في الإناء وأن يمس ذكره بيمينه، وأن
يستطيب بيمينه" . ورواية النهي عن المس مقيدا رواها البخاري عن
أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بال أحدكم
فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه، ولا يتنفس في
الإناء" .
(2/541)
|