البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية المجلد الثالث
تابع الخاص والخصوص والتخصيص
المطلق والمقيد
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
المطلق والمقيد
المطلق: ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي، وقال: في
"المحصول": ما دل على الماهية من غير أن يكون له دلالة على شيء
من قيودها. والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود
العيني في الذهن، أما إذا اعتبر مع الماهية عارض من عوارضها
وهي الكثرة، فإن كانت محصورة فهي العدد، وإلا فالعام قال:
وبهذا التحقيق ظهر فساد قول من قال: المطلق الدال على واحد لا
بعينه، فإن قوله: واحد لا بعينه أمران مغايران للماهية، من حيث
هي هي، زائدان عليها، ضرورة أن الوحدة وعدم التعين لا يدخلان
في مفهوم الحقيقة، على ما ذكرنا.
وقال صاحب "الحاصل": الدال على الماهية من حيث هي هي هو
المطلق، والدال عليها مع وحدة معينة هو المعرفة، وغير معينة هو
النكرة. وقال صاحب "التنقيح": الدال على الحقيقة هو المطلق،
ويسمى مفهومه كليا، وحاصل كلام الإمام وأتباعه أن المطلق الدال
على معنى كلي، ونحوه قول الغزالي في "المستصفى": اللفظ بالنسبة
إلى اشتراك المعنى وخصوصيته، ينقسم إلى لفظ لا يدل على غير
واحد كزيد وعمرو وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى
واحد، ونسميه مطلقا، فالمطلق: هو اللفظ الدال على معنى لا يكون
تصوره مانعا من وقوع الشركة فيه.
وقال ابن الزملكاني في "البرهان": جعل صاحب "المحصول" المطلق
والنكرة سواء، وخطأ القدماء في حدهم له بما سبق، محتجا بأن
الوحدة والتعين قيدان زائدان على الماهية. قال: ويرد عليه
أعلام الأجناس كأسامة وثعالة، فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي
هي، فكان ينبغي أن تكون نكرة. ورد عليه الأصفهاني في "شرح
المحصول"، وقال: لم يجعل الإمام المطلق والنكرة سواء، بل غاير
بينهما، فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي، والنكرة
الدال عليها بقيد الوحدة الشائعة، وأما إلزامه علم الجنس
فمردود بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخيص الذهني بخلاف
اسم الجنس.
وأما الآمدي وابن الحاجب1 فقالا: إنه الدال على الماهية بقيد
الوحدة
ـــــــ
1 انظر: الإحكام للآمدي 2/111، 162. مختصر ابن الحاجب وشرح
للعضد 2/100، 284.
(3/3)
الشائعة كالنكرة. قال في "الإحكام": المطلق
النكرة في سياق الإثبات.
وقال ابن الحاجب: المطلق ما دل على شائع في جنسه، وبنحو ذلك
عرف النكرة في كتب النحو، إلا أن الذي دعا الآمدي إلى ذلك هو
أصله في إنكار الكلي الطبيعي. وأما ابن الحاجب فإنه لا ينكره،
بل هو مع الجمهور في إثباته ; لكن الداعي له إلى ذلك موافقة
النحاة في عدم التفرقة بين المطلق والنكرة.
قال ابن الخشاب النحوي: النكرة: كل اسم دل على مسماه على جهة
البدل، أي فإنه صالح لهذا ولهذا. ا هـ. ولا ينبغي ذلك يعني
موافقة ابن الحاجب للنحاة، فإن النحاة إنما دعاهم إلى ذلك أنه
لا غرض لهم في الفرق، لاشتراك المطلق والنكرة في صياغة الألفاظ
من حيث قبول "أل" وغير ذلك من الأحكام، فلم يحتاجوا إلى الفرق،
أما الأصوليون والفقهاء فإنهما عندهم حقيقتان مختلفتان.
أما الأصولي فعليه أن يذكر وجه المميز فيهما، فإنا قطعا نفرق
بين الدال على الماهية من حيث هي هي، والدال عليها بقيد الوحدة
غير معينة، كما نفرق بين الدال عليها بوحدة غير معينة، وهو
النكرة، ومعينة وهي المعرفة، فهي حقائق ثلاث لا بد من بيانها.
وأما الفقيه، فلأن الأحكام تختلف عنده بالنسبة إليها، ألا ترى
أنه لما استشعر بعضهم التنكير في بعض الألفاظ اشترط الوحدة،
فقال الغزالي فيمن قال: إن كان حملها غلاما فأعطوه كذا، فكان
غلامين، لا شيء لهما، لأن التنكير يشعر بالتوحيد، ويصدق أنهما
غلامان لا غلام. وكذا لو قال لامرأته: إن كان حملك ذكرا فأنت
طالق طلقتين، فكانا ذكرين، فقيل: لا تطلق، لهذا المعنى، وقيل
تطلق، حملا على الجنس من حيث هو، فانظر كيف فرق الفقهاء بين
المطلق والنكرة.
وأقول: التحقيق أن المطلق قسمان:
أحدهما : أن يقع في الإنشاء، فهذا يدل على نفس الحقيقة من غير
تعرض لأمر زائد، وهو معنى قولهم: المطلق هو التعرض للذات دون
الصفات، لا بالنفي ولا بالإثبات، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
والثاني : أن يقع في الأخبار، مثل رأيت رجلا، فهو لإثبات واحد
مبهم من ذلك الجنس غير معلوم التعيين عند السامع، وجعل مقابلا
للمطلق باعتبار اشتماله على قيد الوحدة. وعلى القسم الأول ينزل
كلام "المحصول"، وعلى الثاني ينزل كلام ابن
(3/4)
الحاجب، وهو قطعي في الماهية، هذا عند
الحنفية، وظاهر عند الشافعية كنظير الخلاف في العموم،
ولاسترساله على جميع الأفراد يشبه العموم، ولهذا قيل: إنه عام
عموم بدل، والإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ باعتبار معانيها
اصطلاحا، وإن أطلق على المعاني فلا مشاحة في الاصطلاح، وهما
أمران نسبيان باعتبار الطرفين، ويرتقي إلى مطلق لا إطلاق بعده
كالمعلوم وإلى مقيد لا تقييد بعده كزيد، وبينهما وسائط. وقال
الهندي: المطلق الحقيقي: ما دل على الماهية فقط، والإضافي:
يختلف نحو: رجل، ورقبة، فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عالم،
ورقبة مؤمنة، ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي، لأنه يدل على واحد
شائع، وهما قيدان زائدان على الماهية والمقيد مقابلهما. قال
صاحب "خلاصة المأخذ": اختيار مشايخ خراسان وما وراء النهر أن
المطلق ثابت في الأذهان دون الأعيان، وحكمه حكم العام إلى قيام
دليل التعيين.
فائدة
العمل بالمطلق قبل البحث عن المقيد ينبغي أن يكون على الخلاف
السابق في العموم. ولم يذكروه.
(3/5)
مسألة: [ورود الخطاب مطلقا في موضع ومقيدا
في موضع]
اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا مقيد له، حمل على إطلاقه، أو
مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده، وإن ورد مطلقا في موضع،
ومقيدا في آخر، فالكلام في مقامين:
أحدهما : في المقيد هل يجب أن يكون حاله مقصورا على الشرط
المقيد به أم لا؟
والثاني : في المطلق، هل يجب حمله على حكم المقيد من جنسه أم
لا؟ أما الأول: فهو البحث في أن مفهوم الشرط والصفة حجة أم لا
كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: ليس بحجة، لم يحمل
المطلق عليه، وإن قلنا: حجة حمل. ولا بد في الحمل من تقديم كون
القيد شرطا فيما قيد به. والأصوليون قد أهملوا ذكره هنا
لوضوحه، وإنما تعرض له الماوردي والروياني، واعتبرا معنى
المقيد، فإن كان خاصا
(3/5)
ثبت حكم التقييد، وإن كان عاما يسقط حكمه،
فالأول كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ} [النساء: 43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}
[النساء: 43] فتقييد التيمم بالمرض والسفر شرط في إباحته.
والثاني: كقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء:
101] إلى قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فليس الخوف شرطا
في القصر.
وأما الثاني: فهو المقصود بعد ثبوت كون التقييد شرطا في
المقيد،
فينقسم المطلق والمقيد إلى أقسام:
أحدها : أن يختلفا في السبب والحكم، فلا يحمل أحدهما على الآخر
بالاتفاق، كتقييد الشهادة بالعدالة، وإطلاق الرقبة في الكفارة.
وشرط الآمدي أن يكونا ثبوتيين، فإن لم يكن، كما إذا قال في
كفارة الظهار: أعتق رقبة، وقال: لا تملك رقبة كافرة، فلا خلاف
أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالمسلمة في هذه الصورة.
واعلم أن الاتفاق في هذا القسم نقله القاضي أبو بكر، وإمام
الحرمين، وإلكيا، وابن برهان، والآمدي وغيرهم، وذكر الباجي عن
القاضي محمد من المالكية أن مذهب مالك في هذا حمل المطلق على
المقيد، وأخذ ذلك من رواية رويت عنه أنه قال: عجبت من رجل عظيم
من أهل العلم يقول: إن التيمم إلى الكوعين، فقيل له: إنه حمل
ذلك على آية القطع، فقال: وأين هو من آية الوضوء؟ قال الباجي:
وهذا التأويل غير مسلم، لأنه يحتمل حمله عليه بقياس أو علة،
وإنما الخلاف في الحمل بمقتضى اللفظ. وسيأتي حكاية قول الشافعي
في كفارة القتل أنه يجزئ فيها الإطعام كما في الظهار. قلت: ومن
هذا كله يخرج خلاف في حمل المطلق على المقيد في هذا القسم،
وينبغي التفاته إلى أنه من باب القياس، أو اللفظ. فإن قلنا من
باب القياس امتنع، لأن من شرط القياس اتحاد الحكم، والحكم هنا
مختلف، حيث أطلق الإطعام وقيد الصيام.
القسم الثاني : أن يتفقا في السبب والحكم، فيحمل أحدهما على
الآخر كما لو قال: إن ظاهرت فاعتق رقبة. وقال في موضع آخر: إن
ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة، وأبو حنيفة يوافق في هذا القسم، كما
قاله أبو زيد في "الأسرار" ، وأبو منصور الماتريدي في تفسيره،
وغيرهما. ولهذا حمل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}
[البقرة: 196] على قراءة ابن مسعود: متتابعات. وكذا لو قيل له:
تغد عندي اليوم، فقال: والله لا
(3/6)
أتغدى، حمل على ذلك اليوم، حتى لا يحنث
بغيره.
وممن نقل الاتفاق في هذا القسم: القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب،
وابن فورك وإلكيا الطبري، وغيرهم ; وكإطلاق تحريم الدم في
موضع، وتقييده في آخر بالمسفوح، وكقوله: {فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] وقال في موضع آخر
{مِنْهُ} [المائدة: 6].
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فإنه لو قيل: نحن نرى من يطلب
الدنيا طلبا حثيثا، ولا يحصل له شيء قلنا: قال تعالى: {مَنْ
كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الاسراء: 18] فعلق ما يؤتيه بالمشيئة
والإرادة فحمل المطلق على المقيد، وكإطلاق المسح في قوله:
"يمسح المسافر ثلاثة أيام"1 والتقييد بقوله: "إذا تطهر فلبس
خفيه"، وقوله: "عمن تمونون"2 مع قوله: "على كل صغير وكبير، ذكر
وأنثى، حر وعبد من المسلمين"3. وقوله: "لا نكاح إلا بولي" مع
قوله: "إلا بولي مرشد"4.
وقال ابن العربي في "المحصول": هذه المسألة مسألة المفهوم،
كقوله: "في أربعين شاة شاة" وهذا مطلق. وقوله: "في الغنم
السائمة الزكاة" فهذا مقيد بالسوم، فإن قلنا بالمفهوم، حملنا
المطلق على المقيد على الخلاف، والسبب واحد، وهو الملك للمال
الباقي، والحكم واحد، وهو وجوب الزكاة. ا هـ. وظاهره جريان
خلاف الحنفية في هذا القسم منكري المفهوم، وبه صرح ابن برهان
في الأوسط، فقال: اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب
بعضهم إلى أنه لا يحمل، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل. قلت: إلا
أنهم لم يحملوا صدقة الفطر كذلك، بل عملوا بالنصين.
ـــــــ
1 رواه الإمام أحمد في مسنده 5/213 من حديث خزيمة بن ثابت رضي
الله عنه، برقم 900 بلفظ "ثلاث ليال" وهو في صحيح مسلم 1/232،
برقم 276.
2 الحديث رواه الشافعي في مسنده 93، عن جعفر بن محمد عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الحر
والعبد والذكر والأنثى ممن تمونون. والبيهقي في السنن الكبرى
4/161 حديث 7471.
3 جزء من حديث: رواه البخاري كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر،
برقم 1503. ورواه مسلم، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على
المسلمين من التمر والشعير، برقم 984 ولفظ البخاري: فرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من
شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من
المسلمين.
4 رواه البيهقي في الكبرى 7/112، برقم 13428، عن ابن عباس
موقوفا.
(3/7)
وقال أبو الوليد الباجي: حمل المطلق على
المقيد في هذا القسم من باب دليل الخطاب، وقد ذكرنا أنه ليس
بدليل، فيجوز التخصيص به. قال: وقد اختلف كلام القاضي أبي بكر
في ذلك في "التقريب"، وحكى الطرسوسي - بالسينين المهملتين -
الخلاف فيه عن المالكية أيضا. واستثنى بعض الحنابلة من هذا
القسم ما إذا كان المقيد آحادا، والمطلق متواترا. قال: فيبنى
على مسألة الزيادة، هل هي نسخ؟ وعلى نسخ المتواتر بالآحاد.
والمنع قول الحنفية. وهذا كله في المقيد مطلقا.
فإن كانت دلالة المقيد من حيث المفهوم، فكذلك عند من قال به،
فيقدم خاصه على العموم، ومن لا يقول بالمفهوم فيعمل بمقتضى
الإطلاق. قلت: وهكذا فعلت الحنفية في صدقة الفطر، ولم يفعلوا
ذلك في كفارة اليمين، قالوا: لأنهما في الصوم وردا في حكم
يستحيل وجوده بموضعين متضادين مقدما التقييد، وفي صدقة الفطر
في السبب ولا مزاحمة، وإذا قلنا بالحمل، فاختلفوا، فصحح ابن
الحاجب وغيره أن الحمل بيان للمطلوب، أي دال على أنه كان
المراد بالمطلق هو المقيد، وقيل يكون نسخا أي دالا على نسخ حكم
المطلق السابق بحكم المقيد الطارئ.
واعلم أن ظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم في الحمل بين
أن يكون المطلق متقدما أو متأخرا أو جهل السابق منهما، ولهذا
قال الغزالي في "المستصفى" بعد تعرضه لهذا: وهذا صحيح على مذهب
من لا يرى بين العام والخاص تقابل الناسخ والمنسوخ، والقاضي مع
مصيره إلى التعارض نقل الاتفاق على تنزيل المطلق على المقيد
عند اتحاد الحكم. ا هـ. وفيما ذكره إشارة إلى أن من صار إلى أن
العام المتأخر لا يخصص بالخاص المتقدم عند التعارض بل يحمل على
النسخ، ينبغي أن لا يحمل المطلق على المقيد، ويلزمه أن يقول
هاهنا: إن المطلق المتأخر ناسخ للمقيد المتقدم، لأن المطلق
بمثابة العام، والمقيد بمثابة الخاص، وعلى هذا يلزم الوقف عند
جهل التاريخ، كما توقف هناك. كذا قال الهندي والأردبيلي، ويشهد
له حكاية ابن الحاجب1 عن بعضهم أنه إذا كان المقيد متأخرا عن
المطلق، يكون المقيد ناسخا للمطلق، وزيفه.
والحق أنه يتجه فيما إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق،
وإلا فالحمل على النسخ مع إمكان حمله على البيان بعيد، ثم
يلزمه عكسه إن رأى نسخ الخاص بالعام. وقد يقال: لا يلزم القائل
في العام بالنسخ أن يقول به هنا في المطلق، والفرق أن
ـــــــ
1 انظر المنتهى لابن الحاجب ص: 99.
(3/8)
لخاص يناقض العام في جهة مدلوله، فإن العام
يدل على إثبات الحكم في جميع أفراده ظاهرا، والخاص ينفي الحكم
في بعضها. فوقع التعارض بينهما من هذا الوجه. وأما المطلق فلا
دلالة له على حكم المقيد. لا بنفي ولا إثبات، فإن الإيمان مثلا
في قوله: "أعتق رقبة" مسكوت عنه، فلا يكون إثباته بقوله: أعتق
رقبة مؤمنة منافيا لحكم الإطلاق من جهة المدلول، فيحمل المطلق
على المقيد بكل حال، فصح نقل الإجماع على ذلك. ولا يخرج على
الخلاف في تقابل العام المتأخر والخاص المتقدم لما فيه من
الجمع بين الدليلين.
القسم الثالث: أن يختلفا في السبب دون الحكم، كإطلاق الرقبة في
كفارة الظهار، وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل، فالحكم واحد،
وهو وجوب الإعتاق. لكن الظهار والقتل سببان مختلفان، فهذا هو
موضع الخلاف بين الحنفية والشافعية.
أما عكسه وهو اتحاد السبب واختلاف الحكم. فظاهر إطلاقهم أنه.
لا خلاف فيه. لكن ابن العربي في "المحصول" جعله من موضع
الخلاف. وبه تصير الأقسام أربعة، ومثله بآية الوضوء فإنه قيد
فيها غسل اليدين بالمرافق، وأطلق في آية التيمم، كقوله:
{وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فإن السبب واحد، وهو
الحدث.
وحكى أبو الخطاب من الحنابلة الخلاف في اتحاد السبب واختلاف
الحكم. ونقل فيه روايتين عن أحمد، ومثله بآية الوضوء والتيمم
أيضا. وكذا مثل بها القاضي في "التقريب".
(3/9)
[مذاهب العلماء في حمل المطلق على المقيد]
[إذا اختلفا في السبب دون الحكم]
إذا علمت ذلك فاختلفوا في هذه المسألة على مذاهب:
أحدها : أن المطلق يحمل على المقيد بموجب اللفظ ومقتضى اللغة
من غير دليل، ما لم يقم دليل على حمله على الإطلاق، فإن تقيد
أحدهما يوجب تقييد الآخر لفظا، كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ
اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وكما في
العدالة والشهود في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يحمل على قوله: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وحمل إطلاق العتق في
كفارة الظهار واليمين على العتق المقيد بالإيمان في كفارة
القتل.
قال الماوردي والروياني في باب القضاء: إنه ظاهر مذهب الشافعي.
وقال
(3/9)
الماوردي في باب الظهار: إن عليه جمهور
أصحابنا. وقال سليم: إنه ظاهر كلام الشافعي. وحكاه القاضي عبد
الوهاب عن جمهور أصحابهم.
ونقله إمام الحرمين عن بعض أصحابنا. قال: وأقرب طريق هؤلاء أن
كلام الله في حكم الخطاب الواحد، وحق الخطاب الواحد أن يترتب
فيه المطلق على المقيد قال: وهذا من فنون الهذيان، فإن قضايا
الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة، لبعضها حكم التعلق
والاختصاص، ولبعضها حكم الاستدلال والانقطاع، فمن ادعى تنزيل
جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله
النفي والإثبات، والأمر والزجر، والأحكام المتغايرة فقد ادعى
أمرا عظيما، ولا تغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام
الأزلي، ومضطرب المتكلمين في الألفاظ وقضايا الصيغ، وهي مختلفة
لا مراء في اختلافها، فسقط هذا الظن.
والمذهب الثاني : أنه لا يحمل عليه بنفس اللفظ، بل لا بد من
دليل من قياس أو غيره، كما يجوز تخصيص العموم بالقياس وغيره،
وإن حصل قياس صحيح أو غيره من الأدلة يقتضي تقييده به قيد،
وإلا أقر المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده. قال الآمدي:
هذا هو الأظهر من مذهب الشافعي، وصححه هو والإمام فخر الدين
وأتباعهما. وقد علمت أن أصحاب الشافعي إنما نقلوا عنه الأول،
وهم أعرف من الآمدي بذلك. وفي مناقب الشافعي لابن أبي حاتم
الرازي1 عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يعيب على من
يقول: لا يقاس المطلق من الكتاب على المنصوص. وقال: يلزم من
قال هذا أن يجيز شهادة العبد والسفهاء، لأن الله عز وجل قال:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال في
موضع آخر: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]
مطلقا ولكن المطلق يقاس على المنصوص في مثل هذا، فلا يجوز إلا
العدل.
نعم، هذا القول عليه جماعة كثيرون من أصحابنا، منهم القفال
الشاشي كما رأيته في كتابه، ونقلوه عن ابن فورك، وصححه الأستاذ
أبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق،
وإمام الحرمين، وابن القشيري، والغزالي، وابن برهان، وابن
السمعاني. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": إنه الأقرب.
واختاره القاضي أبو بكر، ونسبه إلى المحققين. قال: لو جاز
تقييد المطلق لتقييد المقيد
ـــــــ
1 انظر مناقب الشافعي للرازي ص: 137
(3/10)
لجاز إطلاق المقيد لإطلاق المطلق، وهو لا
يجوز إجماعا.
ونقله الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة، ثم قال: وهو قلة
معرفة بلسانهم، لأنهم تارة يكررون الكلمة للتأكيد، وتارة
يحذفونها للإيجاز، وتارة يسقطون بعضها للترخيم. ونقله القاضي
عبد الوهاب عن الجمهور من المالكية وغيرهم، ونقله الأستاذ أبو
منصور عن ابن سريج. وحكاه الماوردي والروياني في باب القضاء عن
بعض أصحابنا، فقالا: وذهب بعض أصحابنا إلى أن حكم المطلق بعد
المقيد من جنسه موقوف على الدليل. فإن قام الدليل على تقييده
قيد، وإن لم يقم على واحد منهما دليل صار كالذي لم يرد فيه نص،
فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة. قالا: وهذا قول من ذهب إلى وقف
العموم حتى يقوم دليل على تخصيص أو عموم. وهذا أفسد المذاهب،
لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائدا إليها ولا يعدل
بالاحتمال إلى غيرها ليكون النص ثابتا بما يؤدي إليه الاجتهاد
من نفي الاحتمال عنه، وتعين المراد به.
قال الأصفهاني: وحيث قلنا: يقيد قياسا أردنا به سالما عن
الفروق، وبه يندفع قولهم: إن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف
الأحكام. وقال ابن برهان: كل دليل يجوز تخصيص العموم به، يجوز
تقييد المطلق به، وما لا فلا، لأن المطلق عام من حيث المعنى.
فيجوز التقييد بفعله عليه السلام، خلافا للقاضي، وتقريره خلافا
لبعضهم، وبمفهوم الخطاب.
وقال ابن فورك وإلكيا الطبري والقاضي عبد الوهاب: القائلون
بأنه يحمل عليه من جهة القياس اختلفوا، هل القياس مخصص للمطلق
أو زائد فيه، فمنهم من قال: إنه يقتضي تخصيص المطلق لا الزيادة
فيه. قال القاضي عبد الوهاب: وهو الصحيح. ومنهم من قال: يقتضي
الزيادة فيه، وجوز الزيادة بالقياس، ولم يقدره نسخا.
وقال صاحب الواضح: اختلف أبو عبد الله البصري وعبد الجبار في
أن تقييد الرقبة المطلقة بالإيمان، هل يقتضي زيادة أو تخصيصا؟
فقال البصري: هو زيادة، لأن إطلاق الرقبة يقتضي إجزاء كل ما
تقع عليه الرقبة، فإذا اعتبر في إجزائها الإيمان كان ذلك زيادة
لا محالة. وقال قاضي القضاة: هو تخصيص، لأن إطلاق الرقبة يقتضي
إجزاء المؤمنة، والكافرة، والتقييد بالإيمان يخرج الكافرة،
فكان تخصيصا لا محالة. قال: وفائدة هذا الخلاف أن من قال:
زيادة، يمنع الحمل بالقياس، لأن هذه الزيادة نسخ، والنسخ
بالقياس لا يجوز، ومن قال: تخصيص جواز الحمل بالقياس وخبر
الواحد. ليس هذا بخلاف في الحقيقة، فالقاضي أراد أن التقيد
بالصفة
(3/11)
نقصان في المعنى، وأبو عبد الله أراد زيادة
في اللفظ. ا هـ.
وقال الغزالي في "المنخول": القائلون بالقياس اختلفوا، فقيل:
لا يجوز الاستنباط من محل التقييد، فليكن من محل آخر، وهو عدم
إجزاء المرتد بالإجماع. قال: وهذا باطل، فإن المستنبط من محل
التقييد إن كان محلا صالحا قبل، وإلا فهو باطل، لعدم الإحالة.
والمذهب الثالث : قال الماوردي: وهو أولى المذاهب، أنه يعتبر
أغلظ حكمي المطلق والمقيد، فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على
إطلاقه، ولم يقيد إلا بدليل، وإن كان حكم المقيد أغلظ، حمل
المطلق على المقيد، ولم يحمل على إطلاقه إلا بدليل، لأن
التغليظ إلزام، وما تضمنه الإلزام لم يسقط التزامه بالاحتمال.
المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون صفة، فيحمل كالإيمان في
الرقبة، أو ذاتا فلا يحمل، كالتقييد بالمرافق في الوضوء دون
التيمم وهو حاصل كلام الأبهري وسيأتي ما فيه.
المذهب الخامس : أنه لا يحمل عليه أصلا، لا من جهة القياس، ولا
من جهة اللفظ، وهو مذهب الحنفية، وحكاه القاضي عبد الوهاب في
الملخص عن أكثر المالكية بعد أن قال: الأصح عندي الثاني. قال
ابن السمعاني في "الاصطلام": وعلله الحنفية بأن تقييد الخطاب
بشيء في موضع، لا يوجب تقييد مثله في موضع آخر، كما أن تخصيص
العموم في موضع لا يوجب تقييد العموم في موضع آخر، ولو وجب حمل
المطلق على المقيد بظاهر الخطاب لم يكن ذلك بأولى من حمل
المقيد على المطلق بظاهر الورود، وهذا لأن التقييد له حكم،
والإطلاق له حكم، وحمل أحدهما على صاحبه مثل حمل صاحبه عليه.
لأن كل واحد منهما ترك الخطاب من تقييد أو إطلاق. ا هـ.
قال في "المعتمد"1: واختلفوا في سبب المنع، فقيل: لأن تقييده
بالإيمان زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ، والنسخ لا
يجوز تقييده بالقياس. وقيل: لأن تقييده بالإيمان زيادة على حكم
قصد استيفاؤه. وقيل: تخصيصه بالإيمان هو تخصيصه بحكم قد قصد
استيفاؤه.
وقال في "المنخول"2: اختلفوا في وجه النسخ، فقيل: لأن فيه شرط
الإيمان والنص لا يقتضيه. وقال المحققون: اقتضى النهي إجزاء ما
يسمى رقبة، فشرط
ـــــــ
1 انظر المعتمد 1/313.
2 انظر المنخول ص: 176.
(3/12)
الإيمان بغير مقتضى النص. قال: وهذا يقوى
لهم في مسألة النية في الوضوء، فإن الله تعالى تولى بيان أفعال
الوضوء وأركانه، فاقتضى ذلك وقوع الإجزاء بتحصيل ما تعرض له،
وشرط النية زيادة عليه. وقال الشافعي: الزيادة على النص تخصيص،
وإنما قال ذلك، لأنه يسمي الظاهر نصا. وقال القاضي أبو بكر:
وقد بينا أن التقييد بالقياس وغيره نقصان لا زيادة. فإن
الزيادة على النص فيها ما هو نسخ، وما ليس بنسخ.
(3/13)
[أسباب
الاختلاف في المسألة السابقة]
واعلم أن الخلاف في أصل هذه المسألة يلتفت إلى أمور:
أحدها : أن المطلق هل هو ظاهر في الاستغراق أو نص فيه؟ فإن
قلنا: ظاهر، جاز حمل المطلق على المقيد بالقياس على الخلاف
السابق في التخصيص به، وإن قلنا: نص، فلا يسوغ، لأنه يكون
نسخا، والنسخ بالقياس لا يجوز. قال ابن رحال: ورأيت لبعض
المتأخرين. مذهبا ثالثا، وهو أن المطلق ليس بنص في الإطلاق،
ولا ظاهر فيه، بل هو متناول للذات غير متعرض للقيد بنفي ولا
إثبات، وعلى هذا فلا يكون تقييد المطلق من باب التأويل، بل
يكون آتيا بما لم يشعر به اللفظ
الأول وهو بمثابة إيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة.
الثاني : أن الزيادة على النص نسخ عندهم، تخصيص عند الشافعي،
كما نقله عنه في "المنخول"1 هنا، والنسخ لا يجوز بالقياس،
ويجوز التخصيص به.
الثالث : القول بالمفهوم، فهو يدعي أنه ليس بحجة، وعندنا أنه
حجة، فلذا حملناه عليه. وقال: إمام الحرمين: قد تناقض الحنفية
في تقييدهم رقبة الظهار باشتراط نطقها، فلا يجزئ عندهم إعتاق
الأخرس، وفي تقييدهم القربى بالفقراء في قوله تعالى: {وَلِذِي
الْقُرْبَى} [الحشر: 7] ثم قال: والحق أن المطلق كالعام،
فيتقيد كالتخصيص، والتخصيص تارة يكون بقصر اللفظ على بعض غير
مميز بصفة كحمل الفقراء على ثلاثة، وتارة على مميز بصفة، كحمل
المشركين على الحربيين.
وقال في المقترح: مطلق النظر في هذه المسألة يبنى على أن
الاجتزاء بالمطلق يؤخذ من مجرد اللفظ، أو من عدم دليل يدل على
اعتبار زائد، فإن قلنا: بالثاني: فالمطلق لا يشعر بالمقيد، فلا
يحمل عليه، لأن حمله عليه من باب التأويل بأن يكون
ـــــــ
1 انظر المنخول ص: 177.
(3/13)
اللفظ يحتمل معنيين، فيحمل على أحدهما
بالدليل، وحينئذ فاللفظ لا إشعار فيه بالمطلق، فضلا عن المقيد،
فلا يحمل، وإن قلنا: مأخوذ من إشعار اللفظ، فهل هو ظاهر في
الاستغراق أو نص فيه؟ فإن قلنا: ظاهر جاز حمل المطلق على
المقيد بقياس على الخلاف، وإن قلنا نص فلا يسوغ الحمل بالقياس،
لأنه يكون نسخا، والنسخ بالقياس لا يجوز به.
تنبيهان
الأول : قال الإبياري: بقي قسم رابع، وهو أن يتحد الموجب،
ويختلف صنف الموجب، كما إذا قيد الرقبة في كفارة الظهار
بالإسلام، ثم أطلق في جانب الإطعام ذكر المساكين، فهل يتقيد به
المسكين بأن يكون مسلما كالرقبة المعتقة؟ وقد أغفل الأصوليون
الكلام على هذه الصورة، والذي أقوله في ذلك: أنه يصح، ويمكن أن
يسلك به مسلك القياس كما سلكناه في مسألة تقييد الرقبة في
الظهار على الرقبة في القتل على ذلك الطريق.
(3/14)
[شروط حمل
المطلق على المقيد عند الشافعية]
إذا علمت ذلك فلحمل المطلق على المقيد عندنا على الوجه المشروح
شروط:
الأول : أن يكون القيد من باب الصفات كالإيمان مع ثبوت الذوات
في الموضعين، فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة خارجة أو عدد
فلا يحمل أحدهما على الآخر، وهذا كالإطعام في كفارة القتل، فإن
أظهر القولين أنه لا يجب، وإن ذكره الله في كفارة الظهار، لأن
هذا إنما هو إثبات الحكم، لا صفة. وكذلك إيجاب غسل الأعضاء
الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم.
فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد
الوضوء ليستحق تيمم الأربعة لما فيه من إثبات حكم لم يذكر،
وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفة. قال الماوردي: ولهذا
حملنا إطلاق اليدين في التيمم على المرافق، لتقييد ذلك في
الوضوء لأن ذكر المرفق صفة، وذكر الرأس والرجلين أصل.
وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي، والشيخ أبو حامد، وتبعه
الماوردي، والروياني، ونقله المازري عن الأبهري من المالكية
أيضا. لكن في تمثيل القفال والماوردي بالتيمم إلى المرافق نظر،
لأنه إثبات أصل، إذ هو عضو زائد، لا وصف. ولذلك لم
(3/14)
يرد المطلق إلى تقييدها بعدد، وقد منع
أصحابنا دعوى الحنفية كون التقييد زيادة على النص، ولا يتجه
منع كونه زيادة إلا عند كون الزيادة وصفا، أما إذا كانت ذاتا
مستقلة، فهي زيادة قطعا. ونقل الماوردي في باب القضاء خلافا في
هذه المسألة، فجزم بما ذكرناه، ثم نقل عن ابن خيران من أصحابنا
أن المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضا، فإنه تعالى ذكر
الإطعام في كفارة الظهار، ولم يذكره في كفارة القتل، فيحمل
عليها. قال: وفي هذا إثبات أصل بغير أصل. ا هـ.
ومن صور المسألة أن الأصح في مذهبنا أن المحرم إذا قتل صيدا،
واختار من الخصال إخراج الطعام، أنه يفرقه على ثلاثة مساكين
فصاعدا، لأنه أمر بإعطائه إلى جمع في قوله تعالى: {أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] وأقله ثلاثة، مع
أنه ورد في كفارة الإتلاف في الحج إعطاؤها لجمع مقيدا بكونهم
ستة لكل مسكين نصف صاع، ولم يحملوا ذلك المطلق في الجمع على
هذا المقيد، وما ذاك إلا لأن في حمله زيادة أجرام وهي ثلاثة
مساكين وإلا فلم لا يحمل؟
الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط
العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في
البيوع وغيرها، فهي شرط في الجميع، وكذا تقييده ميراث الزوجين
بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
[النساء: 12] وإطلاقه الميراث فيما أطلق فيه، وكان ما أطلق من
المواريث كلها بعد الوصية والدين.
فأما إذا كان المطلق دائرا بين قيدين متضادين نظر، فإن كان
السبب مختلفا لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل، فيحمل على
ما كان القياس عليه أولى، أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى، ذكر
هذا الشرط الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق في "اللمع"
وإلكيا. وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الاتفاق، وليس كذلك. فقد
حكى القفال الشاشي فيه خلافا لأصحابنا، ولم يرجح شيئا.
وممن ذكره الماوردي في باب الكفارات، ومثله بالصيام في كفارة
اليمين، فإن في وجوب تتابعه قولين، أصحهما المنع، لأنه دائر
بين قيدين: أحدهما يوجب التتابع، وهو صوم الظهار كما في قوله
تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]
والآخر، يوجب التفرقة، وهو صوم التمتع في قوله: {فَصِيَامُ
ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
[البقرة: 196] وليس حمله على أحدهما أولى من حمله على الآخر.
فترك على إطلاقه، فيكون مخيرا بين التتابع فيه والتفريق، كقضاء
رمضان، لما أطلق، وهو بين هذين القيدين حمل على إطلاقه. ا هـ.
وتبعه الروياني في مواضع منها: كفارة
(3/15)
اليمين، قال: هذا مما سبق إليه الشافعي،
ولم يسبق فيه.
ومثله بعضهم بغسل اليدين في الوضوء، فإنه ورد مقيدا بالمرافق،
وقطعها في السرقة مقيد بالكوع بالإجماع، ومسحهما في التيمم ورد
مطلقا، فهل يلحق بالقطع أو بالغسل؟ هذا مأخذ الخلاف. قال:
والأصح حمله على ما هو أشبه به من المقيدين، فيلحق بالغسل، لأن
التيمم بدله. وقال إلكيا: يجب الوقف، إذ لا قياس. فإن غلب أحد
الشيئين تحقق القياس.
وقال صاحب "المعتمد"1 وتبعه في "المحصول": إن من لا يرى تقييد
المطلق بالمقيد أصلا، لا يقيده هنا بأحدهما، ومن يرى التقييد
من اللفظ لا يراه أيضا، لأنه ليس بأن يقيد بأحدهما أولى من
الآخر ; وأما من يراه بالقياس فألحقه بأحدهما إذا كان القياس
عليه أولى من القياس على الآخر. ا هـ.
وعلى هذا فقيل يحمل على الكفارة في الظهار والقتل، لأنها أقرب
إليه في القياس لاشتراكهما في الكفارة، بخلاف واجب التتابع،
ولذلك كان للشافعي في كفارة اليمين في المسألة قولان: الجديد
عدم وجوب التتابع وهذا البناء فيه نظر، والأقرب أن القولين
إنما جاء في وجوب التتابع من أجل أن القراءة الشاذة حيث لم تجر
مجرى التفسير، ولم يعارضها خبر، هل يجب العمل بها أم لا؟ وما
ذكروا من وجوب التفريق في التمتع ليس بين الأيام كلها، بل بين
الثلاثة والسبعة، وإن كان السبب واحدا كما في حديث الولوغ،
فإنه روي: إحداهن، وأولاهن، وأخراهن، فالمطلق على إطلاقه ; إذ
ليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر، والقياس هنا متعذر،
فيتعارضان، وبقي المطلق على إطلاقه، ونقول بجواز التعفير في كل
واحدة من المرات عملا برواية إحداهن المطلقة. هكذا ذكره
الأصوليون. ومنهم صاحب "المحصول" وبه أجاب القرافي عن اعتراض
أورده بعض قضاة الحنفية على الشافعية. فإن قاعدتهم حمل المطلق
على المقيد، فكان ينبغي: أولاهن، لورود إحداهن وأولاهن، فأجابه
القرافي، بأنه قد عارض رواية أولاهن رواية أخراهن، يريد بذلك،
"وعفروه الثامنة بالتراب". ويرجع إلى أصل الإطلاق.
وما ذكره القرافي ممنوع، لأنا لا نسلم البقاء على الإطلاق، بل
يحمل عليهما على معنى التخيير، ومنع إجزاء المتوسط، فلا يجوز
أن يكون التراب إلا في الأولى أو
ـــــــ
1 انظر المعتمد لأبي الحسين 1/314.
(3/16)
في الأخيرة دون ما سواهما، حملا للمطلق على
المقيدين المذكورين على طريق البدل، وعلى ذلك نص الشافعي في
"البويطي" وذكره المرعشي من أصحابنا وغيره. والعجب من قول
الشيخ في "شرح الإلمام" في رواية: أولاهن أو أخراهن: الأقرب
أنه شك من الراوي، فإنا لا نعلم أحدا يقول بتعين الأولى أو
الأخيرة فقط، بل إما بتعين الأولى أو التخيير بين الجميع. ا
هـ. وقيل: بل على هذا ينبغي إيجاب كل منهما: الأولى والأخيرة
لورود الحديث فيهما، ولا تنافي في الجمع بينهما، اللهم إلا أن
يراد بالثامنة التعدد لا الأخيرة، فإنه حينئذ يكون مطلقا
كإحداهن، وتكون رواية إحداهن، والثامنة واحدة. ومعنى رواية
أولاهن يعود أصل السؤال، ومنهم من رده بأن رواية: أخراهن
مساوية لإحداهن، فيبقى قيد وهو أولاهن فيحمل المطلق حينئذ
عليه. وهذا مردود، لأن أخراهن مؤنث آخر - بكسر الخاء -، لا
مؤنث آخر - بفتحها -، وذاك لا يضاف، وهاهنا قد وقع مضافا، فعلم
أنه مؤنث آخر، فجاء القيدان.
ومنهم من رده بأن شرط التعارض تساوي الروايات وعدم وجود
الترجيح في أحدها، فأما إذا وجد ذلك وجب العمل بالراجح وإطراح
المرجوح، لامتناع إسقاط الراجح بمعارضة المرجوح. ذكره الشيخ في
"شرح الإلمام".
واعلم أن هذا السؤال لازم للحنفية، فإنهم يحملون المطلق على
المقيد إذا اتفق السبب والحكم، وهو هاهنا كذلك. ويناظر هذا
السؤال سؤالان آخران:
أحدهما: أن أبا حنيفة قال: لا يجري التحالف بين المتبايعين،
إلا إذا كانت السلعة قائمة، أما إذا كانت تالفة فالقول قول
المشتري، وعندنا يتحالفان مطلقا، مع أنه روي عنه عليه السلام
أنه قال: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا" 1. وروي زيادة:
"والسلعة قائمة" فلم لا حمل المطلق على المقيد مع اتحاد
القاعدة؟ وجوابه: أنه ورد التقييد بقيد آخر مضاد للقيد السابق،
وهو قوله: "إذا اختلف المتبايعان والمبيع مستهلك فالقول قول
البائع " 2 رواه الدارقطني. فرجعنا إلى أصل الإطلاق. وأيضا
ـــــــ
1 لم أجده بهذا اللفظ وزيادة "والسلعة قائمة" رواها الطبراني
في المعجم الكبير 10/174 ولفظه "إذا اختلف المتبايعان –
والسلعة قائمة – فالقول قول البالئسع أو يترادان" ورواه أحمد
في مسنده 1/466، برقم 4446، بلفظ "إذا اختملف البيعان والسلعة
كما هي فالقول ما قال البائع أو يترادان" وأورده الطحاوي بلا
إسناد في شرح معاني الآثار 4/156.
2 رواه الدار قطني في سننه 3/20، مرفوعا بلفظ "إذا اختلف
المتابعان في البيع – والسلعة كما هي لم تستهلك – فالقول قول
البائع أو يترادان البيع".
(3/17)
فالقيدان ضعيفا الإسناد. وقول الغزالي في
المأخذ ما يرويه أصحابنا من التقييد بالهلاك أجمع أهل الحديث
على صحته: باطل.
الثاني: أن في كتاب فريضة الصدقة في فريضة الإبل: "فإن زادت
على العشرين ومائة" 1 وهو مطلق في الزيادة، وجاء مقيدا في حديث
ابن عمر: "فإن زادت واحدة" فلا ينبغي أن يجب في مائة وعشرين
وبعض واحدة إلا ما يجب في مائة وعشرين فقط. وهذا السؤال إنما
يرد على الإصطخري القائل بوجوب ثلاث بنات لبون فيما إذا زادت
بعض واحدة. والصحيح أنه إنما يجب حقتان، وفاء بحمل المطلق على
المقيد، فاندفع السؤال.
تنبيه
حيث قلنا بأصل الإطلاق في الصورة المذكورة فيجب حمل [كل] واحد
من المقيدين على تقييده. قاله الماوردي والروياني في باب
القضاء. قالا: فأما حمله على مقيد نظيره، فينظر في صفتي
التقييد فيهما، فإن تنافى الجمع بينهما لم يحمل أحدهما على
الآخر، واختص كل واحد بصفته التي قيد بها، وذلك مثل تقييد
كفارة الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق، فلا يمكن الجمع
بين التتابع والتفريق، فيخص كل واحد منهما بصفة، وإن أمكن
اجتماع الصفتين ولم يتنافيا ففي حمل كل واحد منهما على تقييد
نظيره وجهان:
أحدهما : لا يحمل إلا على ما قيد به، إذا قلنا المطلق لا يحمل
على المقيد إلا بدليل.
والثاني : يحمل على تقييده وتقييد نظيره بنظير كل واحد منهما
مقيدا بالصفتين، إذا قلنا: يجوز حمل المطلق على المقيد، فعلى
هذا يجوز أن يحمل ما أطلق من جنسهما على تقيدهما معا، ويصير كل
واحد منهما من النصوص الثلاثة المتجانسة مقيدا بشرطين. ا هـ.
الشرط الثالث : أن يكون في باب الأوامر والإثبات، وأما في جانب
النفي
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: زكاة الغنم،
برقم 1454 وقوله: "فإن زادت واحدة" هذه الزيادة في أبي داود
2/98 كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، برقم 1568 والنسائي
كتاب الزكاة باب: زكاة الإبل، برقم 2447 وباب: زكاة الغنم برقم
2445، وابن ماجة، كتاب الزكاة، باب: صدقة الغنم، برقم 1805،
1807.
(3/18)
والنهي فلا، فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ
المطلق مع تناول النهي. وهو غير سائغ.
ذكره الآمدي وابن الحاجب. قال: لا خلاف في العمل بمدلولهما
والجمع بينهما، لعدم التعذر فإذا قال: لا تعتق مكاتبا، لا تعتق
مكاتبا كافرا، لم يعتق مكاتبا كافرا ولا مؤمنا أيضا إذ لو
أعتقه لم يعمل فيهما، لكن صاحب "المحصول" سوى بين الأمر والنهي
في الحمل، ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي.
وأما الأصفهاني فتبع صاحب "المحصول" وقال: حمل المطلق على
المقيد لا يختص بالأمر والنهي، بل يجري في جميع أقسام الكلام،
نقول في الخبر: جاءني رجل من آل علي، ثم تقول: جاءني بقية
العلويين. ومثال التمني: ليت لي مالا ثم تقول: ليت لي جملا
فإنه يحمل عليه.
قال: وإنما خص الأئمة الكلام بالأمر والنهي للحاجة إليهما في
معرفة الأحكام الشرعية، ولأنه إذا تحقق الأمر والنهي سهل
تعديته إلى بقية أقسام الكلام. ا هـ. وخالف في ذلك الأستاذ أبو
إسحاق الإسفراييني في كتابه في الأصول، فقال: فما كان في حكم
واحد، كان أحدهما مبنيا على الآخر، كقوله عليه السلام: "لا
نكاح إلا بولي وشاهدين" ، مع قوله: "لا نكاح إلا بولي مرشد
وشاهدي عدل" .
ثم قال: وتحقيقه أن الجمع بين الألفاظ الواردة في الشريعة واجب
على الثاني فما كان مكررا منه كان للتأكيد، وما كان مفردا كان
مستعملا على الترتيب. فإذا روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله:
"لا نكاح إلا بولي وشاهدين" ، وروي عنه: "لا نكاح إلا بولي
مرشد وشاهدي عدل" جمع بين الروايتين، فكان قوله الأول المطلق
داخلا في الثاني، وحمل على التكرار، واستعمل أحدهما مع الوصف.
ا هـ.
وقد يقال: لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي ولا
النهي، وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول
العام بحكم، وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور، فلا وجه لذكره
هاهنا. وقد خرجه الهندي على أن مفهوم الصفة حجة أم لا؟ فمن
أنكره لم يخصص، ومن قال به، خصص النهي العام به.
وممن ذكر هذا الشرط ابن دقيق العيد وشرطه أيضا في حمل العام
على الخاص، ومثله بحديث: "لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه" ، وجاء
في رواية: "وهو يبول"1
ـــــــ
1 رواه مسلم 1/225، كتاب الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء
باليمين، برقم 267 بلفظ "لا يمسكن" وهو في البخاري 153 بمعناه.
(3/19)
فالأولى مطلقة، والثانية مقيدة، لكن في
تقييده بحالة البول تنبيه على رواية الإطلاق، وأولى لأنه إذا
كان النهي عن المس باليمين حالة الاستنجاء مع مظنة الحاجة
إليها فغيره من الحالات أولى. ومن العلماء من خصص النهي بمس
الذكر بحالة البول أخذا بظاهر الحديث. ومنهم من أخذ بالنهي عن
مسه مطلقا أخذا بالإطلاق.
ثم قال: وينظر إن كانا حديثين فالمعنى على ما ذكرناه، ويقدم
أحدهما على الآخر، وإن كان حديثا واحدا، ومخرجه واحد، واختلف
عليه الرواة، فينبغي حمل المطلق على المقيد، ويكون زيادة من
عدل، وهي مقبولة عند الأصوليين والمحدثين. وهذا أيضا يكون بعد
النظر في دلالة المفهوم، وما يعمل به منه، وما لا يعمل به،
وبعد أن ينظر في تقديم المفهوم على ظاهر العموم.
ثم قال الشيخ في موضع آخر: وهذا كله مبني على ما يقوله بعضهم
من أن العام في الذوات مطلق في الأحوال والأزمنة، وأما على ما
نختار نحن من العموم في الأحوال تبعا للعموم في الذوات، فهو من
باب العام والخاص. انتهى. وبهذا يسهل جعل هذه الصورة من باب
المطلق والمقيد.
تنبيه
سبق في باب العموم خلاف في أن التخصيص هل يدخل في الخبر كما في
الأمر والنهي أو لا؟ وينبغي جريان هذا الخلاف هنا حتى يشترط
على قول كونهما من باب التكليف لا من باب الخبر. ا هـ.
الشرط الرابع: [لا] أن يكون في جانب الإباحة، ذكره ابن دقيق
العيد أيضا في الكلام على لبس المحرم الخف. وقال: إن المطلق لا
يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما، وفي
المطلق زيادة. انتهى. وفيه نظر.
الشرط الخامس: أن لا يمكن الجمع بينهما، فإن أمكن تعين
إعمالهما، فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما: ذكره ابن
الرفعة في "المطلب" في الأصول والثمار. ومثاله حديث ابن عمر:
"من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع" 1،
وجاء في رواية: "من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه أبو داود 3/268 كتاب البيوع، باب في العبد
يباع وله مال، برقم 3433، 3435، ورواه الترمذي، كتاب البيوع،
باب: ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير والعبد وله مال، برقم
1244 وهو حديث صحيح.
(3/20)
المبتاع" 1.
فإن الرواية الأولى تقتضي أن بعض العبيد لا يكون له مال، فيكون
الإضافة فيه للتمليك، والمال فيه محمول على ما يملكه السيد
إياه، وليس كل عبد يملكه السيد مالا. والثانية تشمل كل عبد،
فكانت الإضافة فيها إضافة تخصيص لا تمليك، فيحمل على ثيابه
التي عليه، لأن كل عبد لا بد له من ثياب يختص بها. قال: فهذه
الرواية مطلقة، تنزل على ما ذكرناه. وهو أولى من تقييدها بحالة
تمليك السيد المال له. قال: ولا يحمل المطلق على المقيد هنا
لأن الجمع ممكن.
الشرط السادس: أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن
يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد. فلا يحمل المطلق على المقيد
هنا قطعا، مثاله: إن قتلت، فأعتق رقبة، مع: إن قتلت مؤمنا
فأعتق رقبة مؤمنة، فلا يحمل المطلق هناك على المقيد هنا في
المؤمنة، لأن التقييد هنا إنما جاء للقدر الزائد، وهو كون
المقتول مؤمنا. واعلم أن مذهبنا أن الردة لا تحبط العمل إلا
بشرط الوفاة على الكفر، وعند أبي حنيفة تحبط بمجرد الردة،
واحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 217]
وأما قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ
عَمَلُهُ} [المائدة] فمطلق، قيدت به الآية السابقة. هكذا
قالوا، وفيه نظر لما في القيد من القدر الزائد، وهو الخلود في
النار. وأيضا فليست الآيتان من باب المطلق والمقيد، بل من باب
العام والخاص، فنعمل الخاص، على أن الآية التي تمسك بها
الحنفية مقيدة، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] فبين أن المراد من مات على الكفر،
لأن من مات مؤمنا لا يكون في الآخرة خاسرا، فالمراد في الآيتين
التقييد، وليس فيهما مطلق ومقيد، على أن الشافعي نص في "الأم"
على أن الردة بمجردها تحبط العمل، وإن لم تتصل بالموت، على
معنى ذهاب الأجر.
الشرط السابع: أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، مثاله قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] الآية. فلم يقيد بالدخول، وقيد به
في عدة الطلاق بقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب
في حائط، برقم 2379. ورواه مسلم 3/1173، كتاب البيوع، باب من
باع نخلا عليها ثمر، برقم 1543.
(3/21)
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49] ولم يحملوا المطلق هناك على
المقيد لقيام المانع، وهو أن تقييد المطلق أو تخصيص العام إنما
يكون بقياس أو مرجح، وهو هنا منتف لأن المتوفى عنها زوجها
أحكام الزوجية باقية في حقها بدليل أنها تغسله، وترث منه
اتفاقا. ولو كانت في حكم المطلقات البوائن لم ترث، فلما ظهر في
الفرع ما يقتضي عدم إلحاقه بالأصل امتنع التقييد بالقياس أو
التخصيص به..
مسألة
اللفظ المطلق إذا تطرق إليه التقييد، ففي كونه حجة في الباقي
قولان، حكاهما ابن السمعاني في "الكفاية" كالخلاف في العام
يتطرق إليه التخصيص.
قال: وتمهيد هذا الخلاف يستدعي بيان عموم المطلق، ويعني به
الاسم المفرد، كالعام، فإن الواحد ينقسم إلى واحد بالجنس،
وواحد بالذات، فإن أريد الأول تناول جميع الذوات، لاشتمال
الجنس على الأعيان والذوات، بخلاف العام، فإنه يدل عليهما
بالوضع. وأما الواحد بالجنس: فمعناه حقيقة توجد في جميع
الأعيان، فيقع عموم الأعيان ضرورة اشتمالها على تلك الحقيقة،
لا أنها مدلول اللفظ، ولهذا قلنا: إن المطلق يفارق العام من
وجه، ويساويه من وجه.
قال: فالصائرون إلى أنه إذا تطرق إليه تقييد لا يبقى حجة،
قالوا، لأن اللفظ كان عاما، لأنه تعرض لحقيقة يستوي نسبتها إلى
الأعيان، فإذا لم يثبت الحكم في بعض الأعيان تبين أن الحقيقة
المطلقة ما كانت مرادة. فيكون المراد الواحد بالذات، وهو ضعيف،
لأن اللفظ دال على حقيقة مطلقة، تستوي نسبتها. ويدل على أن
الحكم يتعلق بها. ولكن يجوز أن لا يثبت الحكم في بعض الأعيان
لا لخلل في الدليل، ولا لمعنى في المتعلق، وهو الحقيقة، بل
لمعنى يقع من عوارض التعيين، فينتفي الحكم مع وجود الدليل
بالنسبة إلى تلك الحقيقة، لوجود معارض دافع للحكم وهو لا يبطل
دلالة الدليل إلا بالنسبة إليه، كما قلنا في العام يخص.
(3/22)
خاتمتان
الأولى: المعروف أن المقيد لا يحمل على المطلق.
ووقع في "الوسيط"1 في باب قطاع الطريق حيث احتج للقول الصائر
إلى أنه لو تاب بعد القدرة عليه يسقط عنه الحد. قال: لأنه
تعالى خصص هذا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، وأطلق في آية السرقة، قوله:
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة:
39]. انتهى. وفي هذا حمل المقيد على المطلق، فإنه حمل آية
المحاربة، وقد ورد فيها التقييد، على ما ورد فيه الأمر مطلقا،
وهو السرقة وهو غريب. ثم رأيت الأصحاب قد حملوا ذلك أيضا في
مسح الخف، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المقيم يوما
وليلة والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن" من باب حمل المقيد على
المطلق على مقتضى كلامهم، لأن لياليهن مقيد بالإضافة، فيقتضي
أنه لو أحدث المسافر عند طلوع الفجر لا يمسح الليلة الرابعة.
وقد قالوا: إنه يمسح ليلته حملا على المطلق، كما لو تأخرت ليلة
اليوم عنه.
الثانية: كثر في كلام كثير من المتأخرين أن يقولوا: هذا مطلق،
والمطلق يكفي في العمل بمقتضاه إعماله في صورة، وقد اتفقنا على
العمل به في كذا، فلا يبقى حجة في غيره.
وقد استعظم جمع هذا السؤال: وقد أجاب عنه ابن دقيق العيد فيما
كتبه على "فروع ابن الحاجب" بأنه إنما يكتفى بالعمل به في صورة
حيث لا يلزم ترك ما دل اللفظ على العموم فيه، بل يجب العمل به
في كل صورة يلزم من ترك العموم فيها في الحالة المطلقة ترك
العموم فيما دخلت عليه صيغة العموم، مثاله قول الحنفي في جواب
الشافعي في أن الوضوء تجب فيه النية لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما منكم من أحد يقرب وضوءه" 2 فيقول الحنفي: هو عام في
التوضؤ، مطلق في الوضوء، وقد اتفقنا على العمل به في الوضوء
المنوي، فلا يبقى حجة في غيره. وجوابه أن العموم في التوضؤ
يلزم منه العموم في الوضوء، لأنه ما من نوع من أنواع الوضوء
إلا وفاعله متوضئ، فيندرج تحت العموم،
ـــــــ
1 انظر الوسيط في المذهب للغزالي بتحقيقي 6/498، 499.
2 جزء من حديث: رواه مسلم 1/569، كتاب صلاة المسافرين وقصرها،
باب إسلام عمرو بن عنبسة، برقم 832 وفيه فقلت: يا بني الله،
فالوضوء حدثني عنه؟ قال: "ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض
ويستنثق فينتنثر إلا خرت خطايا وجهه" وفيه "وخياشيمه..."
(3/23)
فيلزم أن يكون مثابا عليه نظرا إلى عموم
اللفظ.
وقال في "شرح الإلمام": أما قولهم: إن المطلق يكفي في العمل به
مرة، فنقول: يكتفى فيه بالمرة فعلا أو حكما؟ الأول: مسلم،
الثاني: ممنوع، وبيانه أن المطلق إذا فعل مقتضاه مرة، ووجدت
الصورة الجزئية التي يدخل تحتها الكلي المطلق، وفي ذلك في
العمل به، كما إذا قال: أعتق رقبة، ففعل ذلك مرة، لا يلزم
إعتاق رقبة أخرى، لحصول الوفاء بمطلق الأمر من غير اقتضاء
الأمر العموم، وكذا إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت
مرة وحنث، لا يحنث بدخولها ثانيا، لوجود مقتضى اللفظ فعلا من
غير اقتضاء العموم ; أما إذا عمل به مرة حكما، أي في صورة من
صور المطلق، لا يلزم التقييد بها، ولا يكون وفاء بالإطلاق، لأن
مقتضى الإطلاق بالصورة المعينة حكما أن لا يحصل الاكتفاء
بغيرها وذلك فيما خص الإطلاق.
مثاله إذا قال: أعتق رقبة فإن مقتضى الإطلاق أن يحصل الإجزاء
بكل ما يسمى رقبة، لوجود المطلق في كل معتق من الرقاب وذلك
يقتضي الإجزاء به، فإذا خصصنا الحكم بالرقبة المؤمنة منعنا
إجزاء الكافرة، ومقتضى الإطلاق إجزاؤها إن وقع العتق لها.
فالذي فعلناه خلاف مقتضاه.
(3/24)
|