البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الظاهر والمؤول
مدخل
...
الظاهر والمؤول
قال ابن برهان: وهو أنفع كتب الأصول وأجلها، ولم يزل الزال إلا
بالتأويل الفاسد. وأما ابن السمعاني في "القواطع" فأنكر على
إمام الحرمين إدخاله هذا الباب في فن أصول الفقه. وقال: ليس
هذا من أصول الفقه في شيء إنما هو كلام يورد في الخلافيات،
لكنا نذكر طرفا منه، ولا نعدم الناظر فيه نوع فائدة وبالجملة
فلا ينبغي حمل الخاطر استخراج التأويلات المستنكرة للأخبار،
وينبغي للعالم الورع التباعد عنه.
فالظاهر: الواضح، وهو كما قال الأستاذ والقاضي لفظه يغني عن
تفسيره. وقال الغزالي1: هو المتردد بين أمرين، وهو في أحدهما
أظهر، وقيل: ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة
مرجوحة، فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح، ويطلق على اللفظ
الذي يفيد معنى، سواء أفاد معه غيره إفادة مرجوحة أو لم يفد.
ولهذا يخرج النص؟، فإن إرادته ظاهرة بنفسه.
ونقل الإمام: أن الإمام الشافعي كان يسمي الظاهر نصا. قال ابن
برهان: ولعله لمح فيه المعنى اللغوي، فإن النص لغة هو الظهور،
ومنه المنصة. والنص عنده ينقسم إلى ما يقبل التأويل. وهذا
مرادف للظاهر، وإلى ما لا يقبله، وهو النص الصحيح..
ـــــــ
1 انظر المنخول 1/284
(3/25)
مسألة :[الظاهر دليل شرعي]
الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به، بدليل إجماع الصحابة
على العمل بظواهر الألفاظ. وهو ضروري في الشرع، كالعمل بأخبار
الآحاد، وإلا لتعطلت غالب الأحكام، فإن النصوص معوزة جدا، كما
أن الأخبار المتواترة قليلة جدا.
(3/25)
مسألة : وهو قسمان
أحدهما : الألفاظ المستعارة وهي المقولة أولا على شيء، ثم
استعيرت لغيره لمناسبة بينهما، كاستعارتهم أعضاء الحيوان لغير
الحيوان. قالوا: رأس المال، ووجه النهار، وحاجب الشمس، وعين
الماء، وكبد السماء، فهذا القسم إذا ورد في الشرع حمل على
ظاهره، وهو الحقيقة، حتى يدل دليل على أنه لغيرها. وهو المجاز،
لأن المجاز فيها لم يغلب استعماله، فإن غلب استعماله حتى صار
اسما عرفيا بالمعنى الثاني كقولهم: الغائط للمطمئن من الأرض -
كان حمله على المجاز هو الظاهر، حتى يدل الدليل على الحقيقة.
وقد يتطرق إلى هذا القسم الإجمال، فإن تساوى الحقيقة والمجاز
في كثرة الاستعمال، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] فإن المراد هاهنا
العدل، وهو محتمل لذلك احتمالا يساوي الحقيقة - فيلحق بالمجمل.
والثاني: من أقسام الظاهر هي: ألفاظ العموم، فإنها ظاهرة في
الاستغراق، محتملة للتخصيص، على ما سبق هناك.
وأما التأويل: فهو لغة: المرجع من آل إليه الأمر، أي رجع. وقال
النضر بن شميل: مأخوذ من الإيالة وهي السياسة. يقال: فلان آيل
علينا، أي سائسنا، فكان المؤول بالتأويل، كالمتحكم السائس على
الكلام المتصرف فيه وقال ابن فارس في "فقه العربية": التأويل
آخر الأمر وعاقبته يقال: مآل هذا الأمر أي مصيره. قال تعالى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 7] أي
لا يعلم الآجال والمدد إلا الله، واشتقاق الكلمة من الآل، وهو
العاقبة والمصير.
واصطلاحا: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله، ثم إن حمل
لدليل فصحيح، وحينئذ فيصير المرجوح في نفسه راجحا للدليل، أو
لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب، لا تأويل. فإذن
التأويل: صرف اللفظ إلى غيره لا نفس الاحتمال.
وقال الغزالي والرازي: هو احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على
الظن من الظاهر. وهو غير جامع، لأنه لا يتناول الفاسد
واليقيني. ثم إنه جعله عبارة عن نفس الاحتمال وليس كذلك. ولا
يتطرق التأويل إلى النص والمجمل، ثم ليس كل احتمال يعضده دليل
فهو تأويل صحيح مقبول، بل يختلف ذلك باختلاف ظهور المؤول،
(3/26)
فإن كانت دلالة المؤول عليه من الخارجي
تزيد على دلالته على ما هو ظاهر فيه قبل، وإلا فلا. وقال
العبدري: هذا التعريف إنما يصح لو كان لا يتأول إلا العموم،
وليس كذلك، فهو غير منعكس، لأنه يخرج عنه ما هو منه، فإن من
التأويل ما هو صرف اللفظ عن حقيقة إلى حقيقة، كاللفظ العرفي
بالمعنى الأول تصرفه عن العرف وهو حقيقة منه إلى الوضع الأول،
وهو حقيقة فيه.
قال الشيخ في "شرح الإلمام": اعلم أن التأويل صرف اللفظ عن
ظاهره، وكان الأصل حمله على ظاهره، فالواجب أن يعضد التأويل
بدليل من خارج، لئلا يكون تركا للظاهر من غير معارض، وقد جعلوا
الضابط فيه مقابلة الظاهر بالتأويل وعاضده، وتقديم الأرجح في
الظن، فإن استويا فقد قيل بالوقف، وإن كان ما يدعي تأويلا لا
ينقدح احتماله فهو باطل.
واعلم أن تقديم أرجح الظنين عند التقابل هو الصواب، غير أنا
نراهم إذا انصرفوا إلى الظن، تمسك بعضهم بهذا القانون. ومن
أسبابه اشتباه الميل الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل
من الإلف والعادة والعصبية، فإن هذه الأمور تحدث للنفس هيئة
وملكة تقتضي الرجحان في النفس بجانبها، بحيث لا يشعر الناظر
بذلك، ويتوهم أنه رجحان الدليل، وهذا محل خوف شديد وخطر عظيم
يجب على المتقي الله أن يصرف نظره إليه ويقف فكره عليه.
وقال في "شرح العنوان": يجب إجراء اللفظ على ظاهره دون مآله
إلا بدليل يدل على الخلاف الظاهر، وشرطه أن يكون الظن المستفاد
من ذلك الدليل على التأويل المرجوح أقوى من الظاهر، وهو تصرف
حسن لو مشى عليه في آحاد المسائل حيث يقع المتصرف فيها، لأن
القاعدة أن العمل بأقوى الظنين واجب، وكلما كان أبعد احتاج إلى
دليل أقوى لما ذكرنا، واستثنى منه الظواهر المقتضية لخلاف ما
دل القواطع العقلية عليه. وقيل: لا فرق بين البعيد من التأويل
والقريب وهو راجع إلى ترجيح الأقوى، لأن القاطع لا يمكن صرفه
عن مدلوله، بخلاف الظاهر.
قلت: وكلام صاحب "المقترح" من الجدليين مصرح بأن دليل التأويل
يصح أن يكون مساويا، وهو مخالف لكلام الجمهور، وحمله بعض
شارحيه على أن دليل التأويل إن كان راجحا، تعين المصير إليه،
وإن كان مساويا كان ذلك معارضة. وكلاهما يزيف كلام المستدل،
ويمنعه من العمل بدليله. قال: وعلى هذا فيوافق كلام الأصوليين،
ورجع الخلاف إلى اللفظ.
(3/27)
فصل :فيما يدخله التأويل
وهو يجري في شيئين:
أحدهما : الفروع، وهو محل وفاق.
والثاني : الأصول، كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري
الموهمة،
وقد اختلفوا فيه على ثلاثه مذاهب: أحدها: أنه لا مدخل للتأويل
فيها، بل تجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهم المشبهة.
والثاني : أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن
التشبيه والتعطيل، لقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّه} [آل عمران: 7] قال ابن برهان: وهذا قول السلف.
والثالث : أنها مؤولة، وأولوها، قال: والأول باطل والآخران
منقولان عن الصحابة، فنقل الإمساك عن أم سلمة رضي الله عنها،
لأنها سئلت عن الاستواء، فقالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول،
والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك سئل عنه مالك،
فأجاب بما قالت أم سلمة إلا أنه زاد فيه أن من عاد إلى هذا
السؤال أضرب عنقه. وكذلك سئل عنه سفيان الثوري، فقال: أفهم من
قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ما أفهم
من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ونقل
التأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم. وقال: وهو
المختار عندنا.
ومنشأ الخلاف بين الفريقين: أنه هل يجوز أن يكون في القرآن شيء
لا يعلم معناه؟ فعندهم يجوز ولهذا منعوا التأويل، واعتقدوا فيه
التنزيه على ما يعلم الله، وعندنا لا يجوز ذلك، بل الراسخون
يعلمونه، وعليه انبنى الخلاف السابق في الوقف على:
{وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] ونقل في "الوجيز" قولا بتأويل
الوارد في القرآن دون السنة. قال: والأكثرون على أنه لا فرق.
قال: وذهب كثير من السلف إلى تنكب تأويل الآيات والأخبار مع
اعتقاد نفي التشبيه، وزعموا أن الإقدام على التأويل
(3/28)
خطأ من غير أن يكون هناك دليل قاطع يدل
عليه.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الناس في هذه الأشياء الموهمة
للجهة ونحوها فرق ثلاثة، ففرقة تؤول، وفرقة تشبه، وثالثة ترى
أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن،
فنقولها مطلقة كما قالوا مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبري
من التحديد والتشبيه. ولا نهم بشأنها ذكرا، ولا فكرا، بل نكل
علمها إلى من أحاط بها، وبكل شيء خبرا. وعلى هذه الطريقة مضى
صدر الأمة وسادتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها
دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها
ويأباها، وأفصح الغزالي عنهم في غير موضع بتهجير ما سواها، حتى
ألجم آخرا في إلجامه كل عالم وعامي عما عداها، قال: وهو كتاب
"إلجام العوام عن علم الكلام" وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقا أو
آخر تصانيفه في أصول الدين، حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم.
ا هـ.
وقال الشيخ عز الدين في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه
أقربهما إلى الحق، لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما
يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه، لأنه قال:
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] وقال لرسوله:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]
وهذا عام في جميع آيات القرآن، فمن وقف على الدليل فقد أفهمه
الله مراده من كتابه، وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك، إذ لا
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وقال صاحبه ابن دقيق العيد: ونقول في الألفاظ المشكلة: إنها حق
وصدق على الوجه الذي أراده، ومن أول شيئا منها فإن كان تأويله
قريبا على ما يقتضيه لسان العرب وتفهمه في مخاطباتها لم ننكر
عليه، ولم نبدعه، وإن كان تأويله بعيدا توقفنا عنه، استبعدناه،
ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه. قلت: وحيث
ساعد التأويل لغة العرب فلا يقطع بأنه هو المراد، فالله أعلم
بمراده، بل نقول: يجوز أن يكون المراد كذا، وقد يترجح ذلك
بالقرائن المحتفة باللفظ. نبه عليه بعض المشايخ.
وأما قولهم: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم، فقد يتبادر
الذهن إلى أن المراد أقوى في العلم، وإنما المراد أنه أحوج إلى
مزيد من العلم واتساع فيه لأجل أبواب التأويل، وإنما كانت
طريقة السلف أسلم لأنهم لم يخوضوا فيه.
والخلف خاضوا فيه، وأولوها على ما يليق بجلاله، مع جواز أن
يكون المراد غير ما أولوه مما يليق أيضا به هاهنا مثل طريقة
السلف أسلم. ويحتمل أن يقال: طريقة
(3/29)
الخلف لما كان فيها دفع إيهام من يتوهم
حملا لا يليق كانت أعلم من تلك. ورجح بعض مشايخنا طريقة الخلف
من جهة أن السلف خاضوا أيضا في بعض، وقالوا: إنا قاطعون بأن
الظاهر الذي لا يليق غير مراد، فترك الحمل على ما يجوز أن يكون
مرادا مسكوت عن التأويل مع الخوض في بعضه. ونبذ إيهام من لا
يرتقي إلى درجة الفهم عنهم إلى أنهم إنما تركوا ذلك لاعتقادهم
أنها لأمر زائد على ما قامت الدلالة القاطعة على إثباته له
تعالى من الصفات اللائقة وفي ذلك محذور، فطريقة الخلف أعلم
وأسلم.
قال الغزالي في كتاب "التفرقة بين الإسلام والزندقة"1: سمعت
الثقات من أئمة الحنابلة يقولون: أحمد بن حنبل صرح بتأويل
ثلاثة أحاديث:
أحدها : قوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" 2.
والثاني : قوله عليه السلام: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع
الرحمن" 3.
والثالث : قوله: "إني لأجد ريح نفس الرحمن من قبل اليمن"4.
ونقل الرازي عن الغزالي في كتاب: "تأسيس التقديس" بدل الحديث
الثاني: "أنا جليس من ذكرني" 5، والذي رأيته في كتاب الغزالي
ما ذكرناه.
قال الغزالي: فانظر كيف أول أحمد لقيام البرهان عنده على
استحالة ظاهره، مع أنه أبعد الناس عن التأويل. فيقول: اليمين
تقبل في العادة تقربا إلى صاحبها، والحجر الأسود يقبل تقربا
إلى الله تعالى، فهو مثل اليمين لا في ذاته، ولا في صفة من
صفاته، ولكن في عارض من عوارضه، فسمي يمينا ; وكذلك لما استحال
وجود الأصبعين فيه حسا إذ من فتش عن صدره لم يشاهد فيه أصبعين،
فأوله على ما به تيسر
ـــــــ
1 انظر فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص: 10.
2 انظر كشف الخفاء للعجلوني 1/1108.
3 جزء من حديث رواه الترمذي 4/448، كتاب القدر، باب ما جاء أن
القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم 2140 عن أنس قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي
على دينك" فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف
علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها
كيف يشاء". ورواه ابن ماجة 2/1260، كتاب الدعاء برقم 3834. وهو
حديث صحيح.
4 رواه أحمد في مسنده 2/541، حديث 10991 بلفظ "وأجد نفس ربكم
من قبل اليمن" وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/56، وقال:
رجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة، ورواه الطبراني في مسند
الشاميين 2/149 حديث 1038، وفي المعجم الكبير 7/52، وبرقم
6358.
5 رواه البخاري، حديث 7405 بلفظ "وأنا معه إذا ذكرني..."
الحديث.
(3/30)
تغليب الأشياء، وقلب الإنسان بين لمة الملك
ولمة الشيطان1، وبهما يقلب الله القلوب، فكنى بالأصبعين عنهما.
قال: وإنما اقتصر أحمد على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة، لأنه
لم يظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر، لأنه لم يستغرق
البحث عن حقائق غيرها، وغيره كالأشعري والمعتزلي بحثها،
وتجاوزا فأولا كثيرا لقيام ما استحال كثيرا. وأنكر ابن تيمية
هذا على الغزالي قال: إنه لا يصح عن أحمد. قلت: ونقل الثقة لا
يندفع، وقد نقل ابن الجوزي في كتاب "منهاج الوصول" عن أحمد أنه
قال في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أي أمر ربك.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه الترمذي في سننه 5/219 كتاب تفسير القرآن،
حديث 2988.
(3/31)
فصل : في شروط
التأويل
وشرطه أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال أو عادة
صاحب الشرع. وكل تأويل خرج عن هذه الثلاثة فباطل. وقد فتح
الشافعي الباب في التأويل فقال: الكلام قد يحمل في غير مقصوده.
ويفصل في مقصوده. وقد اختلفت الآراء في التأويل، ومدارهم على
هذا الأصل، فيضعف التأويل لقوة ظهور اللفظ، أو لضعف دليله أو
لهما.
ومن الثاني منع عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي
بنضح أو دالية نصفه" 1 حتى لا يتمسك به في وجوب الزكاة في
الخضراوات لأن المقصود منه الفصل بين واجب العشر ونصفه،
وكاستدلال بعض أصحابنا في قتل المسلم بالذمي بقوله تعالى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} [النساء: 141] والحنفية قالوا هذا مفصل في أحكام
الآخرة، مجمل في أحكام الدنيا، وفي زكاة الحلي بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:
34] والحنفية قالوا: هذا مفصل في تحريم الكنز، مجمل في غيره.
ومن الأول حمل بعضهم الاستجمار في قوله: "من استجمر فليوتر" 2
على استعماله البخور للتطيب. فإنه يقال فيه: تجمر واستجمر،
واللفظ قوي ظاهر في الاستنجاء، وعليه فهم الناس. ومنه حمل
بعضهم الجلوس في قوله: "نهى عن الجلوس على القبر" 3 على
الاستنجاء عليه، واللفظ ظاهر في المرادف للقعود.
ومنه حمل الظاهرية حديث: "لعن الله السارق يسرق البيضة" 4 على
بيضة
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
2 رواه البخاري كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء، الحديث
161. ومسلم كتاب الطهارة بابالإيتار في الاستنثار والاستجمار،
حديث 237.
3 ورد هذا الحديث في صحيح مسلم 2/668 كتاب الجنائز باب النهي
عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، بقرم 972 عن أبي مرثد
الغنوي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا
على القبور ولا تصلوا إليها" وهو عند أبي داود برقم 3229،
الترمذي 1050
4 جزء من حديث: رواه البخاري كتاب الحدود باب لعن السارق إذا
لم يسمّ، برقم (6783) وباب قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} برقم 6799. ورواه
مسلم 3/314، كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها، برقم 1687
ولفظه "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل
فتقطع يده" .
(3/32)
الحديد، وهو بعيد، لأن سياق الحديث يقتضي
خلافه.
ومنه حمل بعضهم حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" 1 أي دخلا بذلك
في فطرتي وسنتي، لأن الحجامة مما أمر به صلى الله عليه وسلم
واستعمله، حكاه البيهقي تلميذ البغوي، عن بعض مشايخ نيسابور.
وقسم شارح "اللمع" تأويل الظاهر إلى ثلاثه أقسام:
أحدها : تأويله على معنى يستعمل في ذلك كثيرا، فهذا يحتاج فيه
إلى إقامة الدليل في موضع واحد، وهو أن المراد باللفظ ما حمل
عليه، كحمل الأمر في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ} [النور: 33] على الوجوب، وحمله على الندب بدليل جائز.
لاستعمال الأمر مرادا به الندب كثيرا، فيحتاج إلى دليل في أن
المراد به الندب.
والثاني : تأويله على معنى لا يستعمل كثيرا، فهذا يحتاج فيه
إلى أمرين: أحدهما: بيان قبول اللفظ لهذا التأويل في اللغة.
والثاني : إقامة الدليل على أن اللفظ هنا يقتضيه.
والثالث : حمل اللفظ على معنى لا يستعمل أصلا، فلا يصح إلا أن
يكون دليل التأويل أقوى من دليل... كقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فإنه يقتضي الطلاق في حال وقت
العدة، وهو زمان الطهر، فلو قيل: المراد به عدد الطلاق.
قال: وهل يجوز التأويل بالقياس؟ فيه ثلاثة أوجه، ذكرها في
الإرشاد:
أحدها : المنع.
والثاني: وهو الصحيح: الجواز، لأن ما جاز التخصيص به جاز
التأويل
ـــــــ
1 رواه أبو داود 2/308، كتاب الصوم باب في الصائم يحتجم برقم
2367، 2369، 2370، 2371، وهو حديث صحيح. ورواه الترمذي ، كتاب
الصوم، باب: ما جاء في كراهية الحجامة للصاائم، برقم 774،
ورواه ابن ماجة، كتاب الصيام، باب ما جاء في الحجامة للصائم،
برقم 1679، 1680، 1681، وقد أورده البخاري تعليقا في كتاب
الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم، قال: ويروى عن الحسن عن غير
واحد مرفوعا فقال "أفطر الحاجم والمحجوم" .
(3/33)
به، كأخبار الآحاد.
والثالث: بالجلي دون الخفي، وقد جرت عادة الأصوليين بذكر ضروب
من التأويلات هاهنا كالرياضة للأفهام ليتميز الصحيح منها عن
الفاسد، حتى يقاس عليها ويتمرن الناظر فيها.
وقد أول الحنفية أشياء بعيدة حكم أصحابنا ببطلانها: فمنها:
تأويلهم قوله عليه السلام لغيلان بن سلمة الثقفي وقد أسلم على
عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" 1 بثلاث تأويلات:
أحدها : أي: ابتدئ العقد، إطلاقا لاسم المسبب. على السبب.
ثانيها : أمسك الأول. ولعل النكاح وقع بعد على التفريق.
ثالثها : لعله كان قبل حصر النساء، وقبل تحريم الجمع بين
الأختين، فيكون العقد على وفق الشرع.
أما الأول : فلأنه فوض الإمساك والفراق إلى الزواج، ولخلوه عن
القرينة المعينة له، والإحالة على القياس ممتنعة لعدم أهلية
السائل له بقرب عهده بالإسلام، ولعدم فهمهم ذلك منه، إذ لو
فهموا لجددوا العقد، ولنقل وإن ندر،
وأما الثاني : فلأنه إطلاق المنكر وإرادة المعين من غير قرينة،
ولأن حديث مروان مصرح بنفيه،
وكذلك الثالث لما فيه من التعديل الظاهر ثبوته قبل الإسلام،
ولأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه تزوج بأكثر من أربع. ولا
جمع بين أختين.
واعلم أن الحامل لأبي حنيفة على هذا التأويل اعتقاده أن أنكحة
الكفار صحيحة، لكن إذا وقع العقد على من يجوز ابتداء العقد
عليهن. وأما ما ليس كذلك كالعقد على أكثر من أربع، أو على من
يمنع الجمع بينهما فلا يصح، ولا يقره الإسلام، فلما جاء هذا
الحديث وظاهره مخالف لقاعدة مذهبه، توسع في تأويله وعضد تأويله
بالقياس من أنها أنكحة طرأ عليها سبب محرم، فينبغي أن يفسخ
أصله ما لو نكح امرأة، ثم تبين أنها رضيعته.
لكنه غفل عن الأمور الموجبة لفساده. وهي أربع:
أما الأول: فقوله: أمسك، ظاهر في استدامة ما شرع في تناوله حتى
لو قيل
ـــــــ
1 رواه مالك في الموطأ 2/586، كتاب الطلاق، باب: جامع الطلاق،
برقم 1218.
(3/34)
لمن في يده حبل: أمسك طرفك، فهم استدامة ما
بيده.
الثاني : أنه قابل لفظة الإمساك بلفظة المفارقة، وعلى ذلك
التأويل ترتقع المقابلة لأنه قد قيد الإمساك بابتداء عقد، وذلك
لا يكون إلا بعد مفارقة من يريد إمساكها منهن، وصار كأنه أمر
بمفارقة الجميع.
الثالث : أنه فوض له الخيرة فيمن يمسك منهن، وفيمن يفارق منهن،
وعندهم الفراق واقع، والنكاح لا يبتدئه ما لم توافقه المرأة
عليه، فصار تخيير التفويض لغوا لا فائدة له، فقد لا يرضين أو
بعضهن الرجوع إليه.
الرابع : أن قوله: "أمسك" ظاهره الوجوب. وكيف يجب عليه ابتداء
عقد النكاح، وليس بواجب في الأصل، ولما دل مجموع هذه الأدلة
على فساد هذا التأويل قال القاضي أبو زيد من الحنفية: هذا
الحديث لا تأويل فيه، ولو صح عندي لقلت به.
وقال العبدري: الخلاف بين الإمامين في هذه المسألة إنما هو
مبني على الخلاف في تعارض القياس، وظاهر الخبر، ورأى الأصوليين
فيها أنها موكولة إلى اجتهاد المجتهدين، فمن رأى الخبر أقوى
عمل به. ومن رأى القياس أقوى عمل به، وليس هذا الرأي صحيحا ;
بل الصحيح أن دلالة المنطوق به أقوى من دلالة المفهوم، ودلالة
المفهوم أقوى من دلالة المعقول، وهو القياس. فكما يتقدم الخبر
القياس في قوة الدلالة، فينبغي أن يتقدم في العمل به، ولهذا
كان المجتهد يطلب أولا الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره،
وإن لم يجده طلب النص، فإن لم يجده طلب الظاهر، فإن لم يجده
طلب المفهوم، فإن لم يجده فحينئذ يرجع إلى القياس. وقال
الهندي: ولو قيل بأن القياس يقتضي ذلك، لكنه ثبت جواز الاختيار
رخصة، وترغيبا في الإسلام.
ومنها : حملهم حديث: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها
فنكاحها باطل" 1 على الصغيرة، ورد بأنها ليست امرأة في حكم
اللسان، كما أنه ليس الصبي بعلا، وأيضا فهذا ساقط عندهم فإن
الصغيرة لو زوجت انعقد النكاح عندهم صحيحا موقوفا نفاذه على
إجازة الولي. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فنكاحها باطل" ،
وأكده ثلاثا. ومنهم من قال: باطل أي يؤول إلى البطلان غالبا
لاعتراض الولي إجازته لقصور نظرهن، وهو باطل لأن البطلان صرح
به مؤكدا بالتكرار مطلقا وتسمية الشيء بما
ـــــــ
1 حديث صحيح، تقدم تخريجه.
(3/35)
يؤول إليه إنما يجوز إذا كان ما يؤول إليه
كائنا لا محالة نحو: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] ففروا من
ذلك، وقالوا: ذلك محمول على الأمة، لأنه لا يمتنع تسمية السيد
وليا، فألزموا بطلانه بأن نكاحها كما ذكرنا في الصغيرة، وبأنه
عليه السلام جعل لها المهر بما أصاب منها، ومهر الأمة لمولاها،
ففروا من ذلك، وقالوا: هو محمول على المكاتبة، وأرادوا التخلص
من المهر، فإن المكاتبة مستحقة، فرد بندور المكاتبة وقلتها في
الوجود، والعموم ظاهر فيه، فإن "أيا" كلمة عامة، وأكدها "بما"،
هذا مع أنه ذكره ابتداء تمهيدا للقاعدة، لا في جواب سائل حتى
يظهر تخصيصه.
واعلم أن هذا الصنف من التأويل مقبول عند جماعة من الفقهاء إذا
عضده دليل وقال القاضي: إنه مردود قطعا. وعزاه إلى الشافعي
قائلا: إنه على جلالة قدره لم يكن لتخفى عليه هذه الجهات
للتأويلات، وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة "رضي الله عنها"
اعتصام النص1، وقدمه على الأقيسة الجلية، فكان ذلك شاهدا عدلا
على أنه لا يرى التعلق بمثل هذه المسائل.
وذكر القاضي ما حاصله أن النبي عليه السلام ذكر أعم الألفاظ،
إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ، وأعمها "ما" و "أي" فإذا فرض
الجمع بينهما كان مبالغا في محاولة التعميم، أي أن "ما" لو
تجردت، وكانت شرطية كانت من صيغ العموم، وقد أتي بها زائدة
للتأكيد، فكانت مقوية لما تدل عليه "أي" من التعميم، كذا فهمه
المازري، ولم يرد أن "ما" المتصلة "بأي" شرطية، كما فهم ابن
الأنباري.
ثم اعترض عليه، وقال: هذه غفلة عظيمة، ووافقه ابن المنير،
ونسباه إلى إمام الحرمين، وهو في كلام القاضي، ومعناه ما عرفت.
ومنها: حملهم قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}
[المجادلة: 4] على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه.
والمعنى فإطعام طعام ستين مسكينا، فجوزوا صرف جميع الطعام إلى
واحد، لأن المقصود دفع الحاجة، وحاجة الستين كحاجة الواحد في
ستين يوما، فاستويا في الحكم.
وهذا تعطيل للنص إذ جعلوا المعدوم وهو "طعام" مذكورا، ليصح
كونه مفعولا لإطعام، والمذكور وهو "ستين مسكينا" عدما مع
صلاحيته لكونه مفعولا "لإطعام" مع إمكان قصد العدد لفضل
الجماعة، وبركتهم، وتضافر قلوبهم على الدعاء
ـــــــ
1 لعلها اعتصاما بالنص. ويعني بحديث عائشة حديث "أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها" السابق الذكر.
(3/36)
للمحسن. وهذه معان لائحة لا توجد في
الواحد. وأيضا فلا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه
بالإبطال. قال إمام الحرمين1: ولأن "أطعم" يتعدى إلى مفعولين،
والمهم منهما ما ذكر، والمسكوت عنه غير مهم. وقد ذكر الله
تعالى عدد المساكين، وسكت عن ذكر الطعام، فاعتبروا المسكوت عنه
وهو الأمداد، وتركوا المذكور وهو الأعداد، وهو عكس الحق
أما المازري فانتصر للحنفية بوجهين: فقهي، ونحوي. أما الفقهي:
فلأنه لا يلزم من مذهبهم إبطال النص إلا لو جوزوا إعطاء
المسكين الواحد ستين مدا في يوم واحد، وهم لا يقولون ذلك، بل
يراعون صورة العدد، ويشترطون تكرير ذلك على المسكين الواحد
تكرير الأيام فرارا من أن الله تعالى أمر بإطعام ستين مسكينا،
ولم يعين مسكينا من مسكين، ولا خلاف في عدم تعينهم فإذا أطعم
مسكينا وتكرر إطعامه بالغداة، وهو بالغداة مسكين، فكأنه أطعم
مسكينا آخر، فإذا انتهى التكرار إلى ستين يوما صار مطعما ستين
مسكينا، لكون هذا المسكين كل يوم من جملة المساكين.
وأما النحوي فذكر أن سيبويه قال: إن المصدر يقدر "بما، وأن"
فإذا قدرنا المصدر هنا وهو "الإطعام" بمعنى "ما" اقتضى ذلك ما
قالته الحنفية، ويكون التقدير: فمن لم يستطع فما يطعم ستين
مسكينا. وهذا التقدير يخرج أبا حنيفة إلى المذهب الذي أراد،
وإن صدر "بأن" كان التقدير: فعليه أن يطعم ستين مسكينا، وهذا
التقدير الأخير يخرج إلى ما يريد. قال: وقد زاحمنا أبا المعالي
فيما يتعلق به من صناعة النحو، وذكرنا لأبي حنيفة تعلقا منها
من وجه آخر، ذكره الإمام الأول فيها، وهو سيبويه. ا هـ
ويقال له: أما الوجه الأول: فإن تعطيل النص حاصل بالاتحاد سواء
أعطى في ستين يوما أم لا. فقد عطلوا من النص لفظ الستين،
وللشارع غرض صحيح في العدد على ما سبق، ولأن في الكفارة نوع
تعبد، وهو العدد، فالتمسك باللفظ المحصل للمقصود من كل وجه
أولى. وأما الثاني: فما نقله عن سيبويه غير معروف في كلامه،
والمنقول عنه أن الذي يقدر به المصدر العامل "أن" المشددة
الناصبة لضمير الشأن، لا "أن" المصدرية و "ما" المقدرة حرف
مصدري بمنزلة "أن". وإنما يتجه ما قاله المازري إذا كانت
موصولة لا بمعنى الذي، فلا فرق بين الإطعام وما يطعم، ومن
الحنفية من أنكر نسبة هذا التأويل لجمهورهم، وقدره: إعطاء طعام
ستين مسكينا.
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/555
(3/37)
ومنها : حملهم حديث: "في أربعين شاة شاة"
على حذف المضاف، أي قيمة شاة، فجوزوا إخراج القيمة، لأن
المقصود دفع حاجة الفقير، لأن تخصيص الشاة فيها غير معقول
المعنى، فيصح الإبدال، لحصول المقصود. وهذا التأويل يؤدي إلى
رفع النص وبطلانه كالذي قبله. وقال الغزالي: إنما يلزم ذلك أن
لو قيل إن الشاة لا تجزئ، ولم يقله هو ولا غيره، وإنما قال: إن
القيمة نزلت منزلة الشاة إذا أخرجت وهو توسيع للمخرج، لا
إسقاط. وإنما النزاع مع أبي حنيفة في قوله: إن مقصود الشرع سد
الخلة، ونحن نقول: لا يبعد مع ذلك أن يكون المقصود إعطاء
الفقير من جنس مال الغني، لينقطع تشوف الفقير إلى ما في يد
الغني. وأيضا فالحديث ظاهر في إيجاب تعينها، وتجويز الإبدال
محوج إلى الإضمار وإيجاب شيء آخر غير المذكور خلاف الأصل.
ومنها : حملهم حديث: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 1
على صوم القضاء والنذر. وهو بعيد، لأن النكرة المنفية من أدل
ألفاظ العموم سيما ما ورد ابتداء للتأسيس. فحمله على النادر
مخرج للفظ عن الفصاحة، وتأويل نفي الكمال أقرب من هذا كما قاله
إمام الحرمين ; وحمله الطحاوي على نية صوم الغد قبل المغرب،
وكان يلهج به. وهو أبعد من الأول، لأن سياقه النهي عن تأخير
النية عن الليل، والحث على تقديمها على اليوم الذي يصوم فيه،
وهذا كالفحوى له. وهو مضاد لما ذكروه، ولأن حمل النهي على
المعتاد أولى، وتقديم النية غير معتاد، وحمله على نفي الكمال
أقرب مما سبق، لكنه ضعيف، لأنه لا يمكن في القضاء والنذر، فلو
استعمل في غيره لنفي الكمال، وفيه لنفي الصحة، لزم الاستعمال
لمفهومين مختلفين.
ومنها : حملهم قوله تعالى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [لأنفال: 41]
على أرباب الحاجات، ولم يشترطوا القرابة، فصرفوا اللفظ إلى شيء
آخر، والله تعالى علق الاستحقاق بالقرابة، ولم يتعرض لذكر
الحاجة، وهي مناسبة مع ذلك، فاشترطوا الحاجة، ولم يشترطوا
القرابة، وهذا خلاف ما تقتضيه لام التمليك وترتب الحكم على
الوصف المناسب، ولأن الحاجة زيادة على النص، وهي نسخ عندهم، لا
يثبت بخبر الواحد، فكيف بالقياس.
وكونه مذكورا مع اليتامى والمساكين مع قرينة إعطاء المال ليس
قرينة فيه، وإلا
ـــــــ
1 رواه النسائي 4/197، كتاب الصيام، برقم 2334، بلفظ عن حفصة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام من الليل
فلا صيام له"، وهو حديث صحيح.
(3/38)
لزم النقص في حق الرسول لوجودها فيه. قال
إمام الحرمين: ولو حتموا صرف شيء إلى القرابة بشرط الحاجة لكان
قريبا. ا هـ. لكن مذهبهم أن الخمس مقسوم على ثلاثة أسهم، ويعطي
ذوي القربى من سهم المساكين لفقرهم، فعلى هذا ذكر القرابة
كالمقحم الكياظم، وهو تعطيل للنص.
فإن قالوا: ذكر القرابة للتنبيه على أنه لا يجب منعهم كما في
الصدقات، لا في وجوب الصرف إليهم. قلنا: هذا بعيد، لما فيه من
إبطال دلالة اللام وواو العطف المقتضي للاستحقاق، وفيه عطف
العام على الخاص مع تخلل الفصل، وهو غير معهود في اللغة، وذكر
الغزالي أن هذا التأويل عنده من محل الاجتهاد، وليس من المقطوع
ببطلانه، وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ "القربى" بالمحتاجين
منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع
اليتم في سياق هذه الآية. ا هـ.
وما فعله الشافعي أقرب، لأن لفظ "اليتيم" مع قرينة إعطاء المال
يشعر بالحاجة فاعتبارها يكون اعتبارا لما دل عليه لفظ الآية،
فاليتم المجرد غير صالح للتعليل. بخلاف القرابة فإنها بمجردها
مناسبة للإكرام باستحقاق خمس الخمس.
وما ذكره الغزالي محمول على أنهم يعطون القريب بشرط الحاجة،
ولكن سبق عنهم خلافه. وقوله: ليس فيه إلا تخصيص عموم ذوي
القربى بالمحتاجين. قيل عليه: كيف يصح ذلك، وفي الآية ذكر
المساكين؟ فيلزم من هذا التخصيص التكرار في الآية، ولا يلزم
مثل ذلك في اليتامى، فإن اليتم يفيد الاحتياج للعجز، ويمكن أن
يقال: ذكر القرابة يخص فيه في المحتاجين منهم، وهو توكيد
أمرهم.
ومنها: حملهم حديث: " أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة"
. 1 على أن يؤذن بصوتين، ويقيم بصوت. قال ابن السمعاني في
"الاصطلام": وهذا ليس بشيء، لأن في الخبر إضافة الشفع والإيتار
إلى الأذان والإقامة، والأذان والإقامة هي الكلمات لا الصوت
المسموع فيهما، على أنه قال في الخبر: الإقامة، وعندهم كما
يقول سائر الكلمات في الإقامة بصوت واحد، كذلك يقول: قد قامت
الصلاة [قد قامت الصلاة] بصوت واحد، فبطل التأويل.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: شفع الأذان وإيتار الإقامة،
برقم 378.
(3/39)
مسألة
قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية، تمسك بها الشافعي في قسم
الصدقات على الثمانية الأصناف. فإن ظاهر الآية التمليك، والواو
العاطفة للجمع والتشريك. فيجب اشتراك الجميع في ملك هذا المال
الذي هو الصدقة. وخالف مالك، ورأى أن اللام فيها للاستحقاق،
وبيان المصرف، لا للملك والتشريك فيه، لأن المقصود دفع الحاجة،
بدليل سياق الآية، فإنه سبحانه ذكر أولا من ليس أهلها بقوله:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ
يَسْخَطُونَ} [التوبة:58] فإنها مصرحة بأن من لا يستحق الصدقة
طلبها، فأجيب بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60]
الآية، أي ليس الطالب لها مستحقا، وإنما المستحق لها هذه
الأصناف المذكورة. ولا يلزم من كونهم مستحقين أن يشتركوا، بل
اللازم من ذلك أن لا تخرج عنهم، وتوزيعها عليهم بحسب اجتهاد
الإمام، فإنه مأمور بأخذها ممن وجبت عليه، وتفريقها لمن يراه
من المستحقين، ودل عليه قوله عليه السلام: "خذ صدقة من
أغنيائهم وترد على فقرائهم" 1 ولم يذكر له غير صنف. قال
أصحابنا: المقتصر على الإعطاء لصنف واحد معطل لا مؤول.
وقال الشافعي ما حاصله: ثم إن الحاجة ليست مرعية في بعض
الأصناف المذكورين كالعاملين، فإنهم يأخذونها لا من جهة
حاجتهم، وكالغارمين بسبب حمالة يحملونها لإصلاح ذات البين، فقد
بطل التعويل على الحاجة.
وقد نقل الغزالي أن منع الشافعي الحكم لقصور الإبياري في "شرح
البرهان" وقال: اللام في "للفقراء" إما أن تكون للتمليك، أو
للأهلية والانتفاع، كالجل للفرس، فإن كان المراد الملك صح ما
قاله الشافعي، وإلا فلا، لاشتراك الكل في الأهلية وصحة التصرف.
قال: وهذا هو المختار، فيخرج الكلام بهذا التقرير عن مراتب
النصوص.
فإما أن نقول إنه مشترك بين الجهتين، مفتقر إلى البيان في
الحالين، فيكون كل واحد مفتقرا إلى الدليل، أو نسلم ظهور ما
قالوه، فتخرج المسألة عن تعطيل النصوص،
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة، برقم 1395.
ومسلم كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام
برقم 19.
(3/40)
ويكون من التأويلات المقبولة التي يحتاج من
صار إليها إلى دليل يعضده.
والجواب: أن أصل اللام للملك، والله تعالى كما راعى الحاجة
راعى من يصلح ذات البين، ومن يغرم، وكل من يعمل عملا يعود نفعه
على المسلمين غنيا كان أو فقيرا ترغيبا في ذلك الفعل ; ثم
تجويز الدفع إلى الغارم الغني ينافي كون المقصود الحاجة.
ومنها : تأويل مالك "الاستجمار" في قوله صلى الله عليه وسلم:
"ومن استجمر فليوتر" 1 على البخور، وهو خلاف الظاهر من سياق
الحديث، فإنه جمع كثيرا من أحكام الطهارة. ولهذا لما سمعه منه
الأعرابي استنكره. حكى ذلك المازري.
ومنها : تأويله النهي عن الجلوس على القبر بالتغوط والبول
عليه، ويعضده رواية مسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق
ثيابه فتخلص إلى جسده خير له من أن يجلس على قبر"2.
ومنها : تأويله قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"
3 أنه قصد به الذم، والجمهور على أنه قصد به المدح. وسياق
الحديث يقتضيه، وأطلق عليه اسم السحر لأن مبنى علم البيان
التخييل.
مسألة
تأولت الحنابلة قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" على
الضيق، أي ضيقوا عدة شعبان بصوم رمضان، بأن يجعل تسعا وعشرين.
وهذا يرده قوله في الحديث الآخر: "فأكملوا العدة ثلاثين" 4،
ولهذا أورد مالك في "الموطإ" هذا الحديث عقيب الأول لينبه على
أنه كالمفسر له، وقفا البخاري أثره في ذلك. وتأول ابن سريج:
"فاقدروا له" أي منازل القمر، خطابا للعارف بالنجوم، وقوله:
"العدة" خطابا لغيره. ولا يخفى بعده..
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب الاستثناء في الوضوء حديث
161، ومسلم حديث 237،
2 رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر
والصلاة عليه، حديث 971.
3 رواه البخاري، كتاب الطب، باب إن من البيان لسحرا، حديث
5767.
4 جزء من حديث: رواه البخاري، باب: قول النبي صلى الله عليه
وسلم: "إذا رأيتم الهلال". برقم 1907, بلفظ المصنف. ورواه مسلم
كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية
الهلال، برقم 10/10.
(3/41)
مسألة
تأول بعض أصحابنا حديث: "من ملك ذا رحم محرم عتق" 1 على الأصول
والفصول خاصة، لاختصاصهما بأحكام لا تعم جميع الرقاب، وفيه بعد
لتعطيل لفظ العموم، ولأنه ورد ابتداء لتأسيس قاعدة لا لبيان
جواب وسؤال، حتى يخصص به ; ولأنه سلك فيه مسلك الحدود حيث بدأ
بالأعم وختم بالأخص، فيجب أن يكون جامعا. فإن قيل: فهل يخصصه
الحديث الآخر: "لن يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا
فيشتريه فيعتقه" 2؟ قلنا: ذكر بعض الأفراد لا يقتضي التخصيص.
فإن قيل: فهلا قلتم بعمومه؟ قلنا: لأنه لم يصح إسناده، بل هو
موقوف على الحسن..
ـــــــ
1 رواه أبو داود 4/26، كتاب العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم،
برقم 3949. ورواه الترمذي، برقم 1365. ورواه ابن ماجة، برقم
2524، 2525. كلهم بلفظ "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وهو حديث
صحيح.
2 رواه مسلم 2/1148 كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، برقم 1510
وهو عند أبي داود 5137، والترمذي 1906، وابن ماجة 3659.
(3/42)
|