البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث المجمل
مدخل
...
مباحث المجمل
المجمل لغة: المبهم، من أجمل الأمر أي أبهم، وقيل: المجموع: من
أجمل الحساب إذا جمع، وجعل جملة واحدة. وقيل التحصيل، من أجمل
الشيء إذا حصله.
واصطلاحا: قال الآمدي: ما له دلالة على أحد معنيين لا مزية
لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه، وقيل: ما لم تتضح دلالته.
وقال القفال الشاشي، وابن فورك: ما لا يستقل بنفسه في المراد
منه، حتى بيان تفسيره، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقوله عليه السلام: "إلا بحقها" .
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور:
56]. قال القفال الشاشي: ويجوز أن يسمى العام مجملا والخاص
مفسرا، على معنى أن العام جملة إذ ليس لفظه مقصورا على شيء
مخصوص بعينه، والخاص مفسر، أي فيه بيان ما قصد بتلك الجملة
التي هي العموم.
وقال أبو عبد الله الزبيري البصري من أصحابنا: اعلم أن الفقهاء
قد استجازوا العبارة عن العموم باسم "المجمل"، وإن كانت
حقيقته: المفتقر إلى ما يبينه. وقال الخوارزمي في "الكافي": هو
ما يحتمل معنيين فصاعدا بوضع اللغة أو بعرف الاستعمال من غير
ترجيح، ولا يجوز إضافة الحكم إلى شيء من احتمالاته من غير دليل
يدل على أن مراد الشرع منه هذا.
مسألة
وهو واقع في الكتاب والسنة على الأصح.
قال أبو بكر الصيرفي: النبي صلى الله عليه وسلم عربي يخاطب كما
يخاطب العرب، والعرب تجمل كلامها، ثم تفسره، فيكون كالكلمة
الواحدة: قال: ولا أعلم أحدا أبى هذا غير داود الظاهري، ثم
ناقض منه في صفة "الأيم أحق بنفسها"1، مع قوله: "لا نكاح
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه مسلم 2/1037، كتاب النكاح، باب: استئذان
الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، برقم 1421 ولفظه عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها
من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صماتها" وهو عند أبي داود برقم
2098، والترمذي 1108، والنسائي 3260، 3261.
(3/43)
إلا بولي" والذي ناقض أصح من الذي أعطاه
بينا. وقد ذهب بعض أصحابه إلى أن له في المسألة قولين وهذا
أصحهما. ا هـ.
وقيل: لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد وفاته صلى الله عليه
وسلم. وقال إمام الحرمين: المختار أن ما ثبت التكليف به يستحيل
استمرار الإجمال فيه، فإنه تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به
تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صلى الله عليه
وسلم، واستأثر الله تعالى بسره.
ولا يتصور الإجمال في القياس، وسبق مثله عن ابن القشيري.
وقال الماوردي، والروياني في كتاب القضاء: يجوز التعبد بالخطاب
بالمجمل قبل البيان، لأنه عليه السلام بعث معاذا إلى اليمن،
وقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله" 1 الحديث، وتعبدهم
بالتزام الزكاة قبل بيانها. وفي كيفية تعبدهم بالتزامها وجهان:
أحدهما : أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان.
والثاني : أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا، وبعد
البيان بالتزامه مفسرا.
وقال ابن السمعاني: قالوا: إن التزام المجمل قبل بيانه واجب.
واختلف أصحابنا في كيفية التزامه على وجهين، وذكرهما. قلت:
ولعل الثاني مراد الأول، وإنما اختلفت العبارة، وهو قريب من
الخلاف السابق في العام، هل يجب اعتقاد عمومه قبل ورود المخصص.
وقال الماوردي، والروياني: إنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا
لا يفهمونه لأحد أمرين:
الأول : ليكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من
البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة وبينها، لجاز أن تنفر
النفوس منها، ولا تنفر من إجمالها.
والثاني : أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا، وجعل منها خفيا،
ليتفاضل الناس في العلم بها، ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك
جعل منها مفسرا جليا، وجعل
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة،
برقم 1395 ورواه مسلم كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين
وشرائع الإسلام برقم 19.
(3/44)
منها مجملا خفيا. ثم قال الماوردي: ومن
المجمل ما لا يجب بيانه على الرسول، كقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فأجمل فيه
النفقة في أقلها وأوسطها وأكثرها، حتى اجتهد العلماء في
تقديرها، وسئل عن الكلالة، فقال: "آية الصيف" 1. فوكله إلى
الاجتهاد، ولم يصرح بالبيان.
قال: واختلف أصحابنا في هذا البيان الصادر من الاجتهاد، هل
يؤخذ قياسا أو تنبيها؟ وجهان:
أحدهما : يؤخذ تنبيها من لفظ المجمل، وشوهد أحواله، لأنه عليه
السلام قال لعمر: "يكفيك آية الصيف" . فرده إليها ليستدل بما
تضمنته من بينة وشواهد.
قال: والثاني : أن يؤخذ قياسا على ما استقر بيانه من نص أو
إجماع، لأن عمر سأل عن القبلة. فقال: "أرأيت لو تمضمضت"؟ فجعل
القبلة بغير إنزال، كالمضمضة بغير ازدراد. ا هـ.
وما ذكره في الأول من التمثيل بالنفقة يمكن المنازعة فيه، فإن
بيانها قد ورد في قضية هند حيث قال: "خذي ما يكفيك وولدك
بالمعروف" 2، فبين الإجمال في الآية بالكفاية..
ـــــــ
رواه أبو داود 3/120 كتاب الفرائض، باب: من كان ليس له ولد وله
أخوات، برقم 2889، وهو حديث صحيح. وهو عند مسلم، برقم 567
بمعناه. وعند الترمذي 3042 كذلك، وعند ابن ماجة 2726 كذلك.
2 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق
الرجل فللمرأة أ، تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف،
برقم 5364، وكتاب الأحكام، باب القضاء على الغائب برقم 7180
وهو عند النسائي، برقم 5420، ابن ماجة 2293.
(3/45)
مسألة : [حكم المجمل]
وحكمه : التوقف فيه إلى أن يرد تفسيره، ولا يصح الاحتجاج
بظاهره في شيء يقع فيه النزاع. قاله الأستاذ أبو إسحاق. وقال
المازري: إن كان الاحتمال من جهة الاشتراك واقترن به تنبيه،
أخذ به، وإن تجرد عن تنبيه واقترن به عرف عمل به، وإن تجرد عن
تنبيه وعرف وجب الاجتهاد في المراد منها، وكان من خفي الأحكام
التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلا في المجمل
لخفائه، وخارجا منه لإمكان
(3/45)
استنباطه.
تنبيه [حمل المجمل على جميع معانيه المتنافية]
وقد يحمل المجمل على جميع معانيه غير المتنافية نظير العام،
ولم يتعرضوا لذلك فيه، ومن أمثلته قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}
[الاسراء: 33] فإن السلطان مجمل، يحتمل الحجة والدية والقود،
ويحتمل الجميع، لا جرم أن الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن
الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء. قاله إلكيا الطبري في "أحكام
القرآن".
(3/46)
مسألة : الإجمال إما
أن يكون في حال الإفراد أو التركيب
والأول : إما أن يكون بتعريفه كلفظة: "قال" من القيلولة،
والقول. "وكالمختار" فإنه صالح للفاعل والمفعول. يقال: اخترت
فلانا فأما مختار، وهو مختار. قال العسكري: ويفترقان تقول: في
الفاعل، مختار لكذا، وفي المفعول مختار من كذا. ومنه قوله
تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282]
يحتمل أن يكون تقديره، يضارر - بفتح الراء أو بكسرها - وقد قرئ
بهما. ومثله {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة:
233] في احتمال الوجهين، قاله العبدري في "شرح المستصفى".
وإما أن يكون بأصل وضعه، فإما أن تكون معانيه متضادة، كـ
"القرء" للطهر والحيض. و "الناهل" للعطشان والريان، و "الشفق"
للحمرة والبياض ; وإما متشابهة: "كالفرس" للحيوان المعروف،
والصورة التي ترسم على مثاله. أو لا يكون كذلك: "كالعين" للعضو
الباصر، وينبوع الماء. وإن شئت: قلت: إما أن يتناول معاني
كثيرة بحسب خصوصياتها فهو المشترك، وإما بحسب معنى مشترك بينها
وهو المتواطئ، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
وقال أبو العز المقترح: الفرق بين المجمل والمشترك أن المجمل
يستدعي ثبوت احتمالين متساويين بالنسبة إلى الفهم، سواء وضع
اللفظ لهما على وجه الحقيقة أو في أحدهما مجاز وفي الآخر
حقيقة. فالإجمال إنما هو بالنسبة إلى الفهم، فإن المشترك قد
يتساوى بالنسبة إلى الوضع، ولا يتساوى بالنسبة إلى الفهم، فلا
يكون مجملا. وأيضا إما أن يكون في الأسماء كما سبق، أو في
الأفعال كـ "عسعس" بمعنى أقبل وأدبر، أو في الحروف، كتردد
الواو بين العطف والابتداء. في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ}
(3/46)
[آل عمران: 7].
وترددها بين العطف والحال في قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [لأنفال: 66] لأنها
إن كانت عاطفة أوهم أن علم الله بضعفهم حدث الآن، وبه احتج بعض
المعتزلة على حدوث العلم تعالى الله عن ذلك، وإنما المراد
إعلام عباده ; وإن جعلت غير عاطفة كان تقديره: الآن خفف الله
عنكم، عالما أن فيكم ضعفا، فلا يلزم منه محذور، ويجب إضمار
"قد" حينئذ. ونحو تردد "من" بين ابتداء الغاية والتبغيض،
كقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فقال أبو
حنيفة: هي للابتداء، أي: اجعلوا ابتداء المسح من الصعيد. وقال
الشافعي وأحمد: هي للتبعيض، أي: امسحوا وجوهكم ببعض الصعيد،
فلهذا اشترطنا أن يكون لما يتيمم به غبار، يعلق باليد، لتحقق
المسح ببعضه.
والثاني : أن يكون اللفظ مجملا في تركيبه، وهو أنواع:
منها : في المركب بجملته في نحو قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] لتردده
بين الزوج والولي، ولذلك اختلف فيه، فقال الشافعي بالأول،
ومالك بالثاني.
ومنها : في الاستثناء كقوله عليه السلام: "صلاة في مسجدي هذا
أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" 1 ولكن لا
كباقي المساجد ; بل إنما أزيد أو أنقص منها. والثاني أنه ليس
بأفضل منه ; بل إما مساو أو المسجد الحرام أفضل.
ومنها : في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران يصلح لكل واحد منهما،
كقوله عليه السلام: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"
2 فضمير الجدار يحتمل العود على نفسه أي في جدار نفسه، أو على
جاره، أي في جدار جاره، وقد ذكر أصحابنا هذا في كتاب الصلح.
والأصح امتناع الوضع إلا بإذن. وكقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] فإن
هذا يحتمل أن تكون البشارة بميلاده، فيكون المأمور بذبحه
إسماعيل، لأن هذا الكلام في قصة الذبيح
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة
والمدينة، برقم 1190، ورواه مسلم، كتاب الحج، باب فضل الصلاة
بمسجد مكة والمدينة، برقم 1394.
2 رواه البخاري، كتاب المظالم والمغاصب، باب: لا يمنع جار جاره
أن يغرز خشبة في جداره، برقم 2463.
(3/47)
ويحتمل أن تكون البشارة بنبوته، ويكون هو
المأمور بذبحه.
ومنها : في مرجع الصفة، نحو: زيد طبيب ماهر، لتردده بين
المهارة مطلقا، والمهارة في الطب، كذا قاله ابن الحاجب وغيره.
وقال صاحب "البسيط" من النحويين: إذا اجتمعت صفتان فصاعدا
لموصوف واحد، قال قوم: الصفة الثانية للأول وحده. وقال قوم: هي
لمجموع الموصوف والصفة. وقال ابن السمعاني: قال الأصحاب:
المجمل على أوجه:
منها: أن لا يرجع اللفظ للدلالة على شيء بعينه ، كقوله:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقوله عليه
السلام: "إلا بحقها" 1 فإن الحق يشتمل على أشياء كثيرة، وهو في
هذا الموضع مجهول كقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]
فإنه صار مجملا لما دخله الاستثناء.
ومنها: أن يفعل صلى الله عليه وسلم فعلا يحتمل وجهين احتمالا
واحدا كالجمع بين الصلاتين في السفر، فهو مجمل، لأنه يحتمل
السفر الطويل والقصير، فلا يجوز أن يحمل على أحدهما إلا بدليل.
قال: وهذه الوجوه لا يختلف المذهب في إجمالها وافتقارها إلى
البيان. انتهى.
ومنها: في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على
الحقيقة، فإن اللفظ يصير مجملا بالنسبة إلى تلك المجازات، إذ
ليس الحمل على أحدها أولى من حمله على البعض الآخر كما هو في
المشترك والمتواطئ. كذا ذكره الآمدي والهندي وابن الحاجب، وهو
ظاهر إن لم يحمل المشترك على معانيه، لكن قاعدة الشافعي حمله
على سائر المعاني احتياط، ولا يتوقف على بيان. أما إذا تكافأت
المجازات، وترجيح واحد، لأنه أقرب إلى الحقيقة كنفي الصحة،
كقوله: "لا صلاة".... ولا صيام" أو لأنه أظهر غرضا أو أعظم
مقصودا، كرفع الحرج، وتحريم الأكل في: "رفع عن أمتي" و
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] حمل عليه.
وقد اختلف في ألفاظ منها: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ} [البقرة: 275]
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب: فضل استقبال
القبلة يستقبل بأطراف رجليه. برقم 393، ورواه مسلم 1/52، كتاب
الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله،
برقم 21، وهو حديث "أمرت أ، أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا
الله..." إلخ.
(3/48)
وللشافعي فيه أربعة أقوال:
أحدها : أنها عامة خصصها الكتاب.
الثاني : أنها عامة خصصتها السنة،
الثالث : أنها مجملة بينها الكتاب.
الرابع : أنها مجملة بينتها السنة.
واختلف قوله في آية الزكاة، وهي قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[النور: 56] على قولين،
أحدهما : أنها عامة خصصتها السنة.
والثاني : أنها مجملة بينتها السنة، وهما من جهة اللفظ
والتعريف بالألف واللام واحد. وفيه سؤال وهو: أن كل واحد منهما
مفرد معرف، فإن عم من حيث اللفظ فليعم في الآيتين، أو المعنى
فليعم فيهما، وإن لم يعم من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى
فليستويا فيه، مع أن الصحيح في آية البيع العموم، وفي آية
الزكاة الإجمال. وسبق جوابه في باب العموم.
قال ابن السمعاني: الصحيح أنها ليست مجملة، لأن البيع معقول في
اللغة، فحمل اللفظ على العموم إلا ما خصه الدليل.
وقال أبو منصور: الصحيح أنها مجملة في البيوع التي فيها الربا،
فأما بيع لا ربا فيه فداخل في عموم التحليل، وكذا قال إمام
الحرمين: إنه مجمل فيما اشتمل على جهة من جهات الزيادة دون ما
ليس كذلك، ومأخذه محتمل، لأن لام التعريف في المفرد للعموم أو
الجنس الصادق على الكل أو البعض، أو أنه وإن كان للعموم، لكن
قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] جار مجرى الاستثناء
فيه، وهو مجهول، إذ الربا هو الزيادة، وليس كل زيادة حراما،
وبه يشعر تفصيل الإمام.
وكلام الغزالي يشعر بأنه لتردده بين العهد والعموم، وهو
بإطلاقه لا يعم إلا عند عدمه، ويلزمه ذلك في الجمع المعرف، ثم
هو جزم بالإجمال.
وقال ابن القشيري في تفسيره: قال العلماء: هذه الآية مجملة،
لأن قوله: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] يقتضي
تحليل كل بيع وقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] يقتضي
تحريم كل بيع، لأنه لا بيع إلا وتقصد منه الزيادة، فالرجوع إذن
إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: البيع الذي لا زيادة فيه هو بيع عشرة بعشرة مع التجانس،
فهو حلال ليس فيه إجمال، وإنما الإجمال فيما يتضمن زيادة، فبعض
ما يتضمن الزيادة حلال، والبعض حرام. وقال غيره: هذه الآية
مخصصة لا مجملة، فإن قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]
دل على أن المراد في قوله: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
[البقرة: 275] البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع.
وقيل: إن البيع مجمل، لأن الربا مجمل، وهو في حكم المستثنى من
البيع،
(3/49)
واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال
على أصل الكلام. والصحيح الأول، فإن الربا عام في الزيادات
كلها، وكون البعض غير مراد فرع تخصيص، فلا تتغير به دلالة
الأوضاع.
ومنها: الآيات التي ذكر فيها الأسماء الشرعية، كقوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56]
وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
[البقرة: 185] وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]
وفيها وجهان:
أحدهما : أنها عامة غير مجملة، فتحمل الصلاة على كل دعاء،
والصوم على كل إمساك، والحج على كل قصد، إلا ما قام الدليل
عليه.
والثاني : أنها مجملة، لأن المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها
في اللغة، وإنما تعرف من جهة الشرع، فافتقرت إلى البيان، هكذا
حكاه الشيخ في "اللمع"، وجعلهما مبنيين على أن هذه الأسماء
منقولة، أو حقائق شرعية. فمن قال: منقولة، قال: هي مجملة. قال:
وهو الأصح. ومن قال: حقائق شرعية. قال: هي عامة.
ونسب القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" القول بالإجمال في هذا
إلى مذهب الشافعي. قال: وحكى أبو علي الطبري أن الشافعي جعله
من المجمل، لأن مدلول الصلاة في اللغة والشرع مختلف. قال
الأستاذ أبو منصور: وأجاز الشافعي الاستدلال بعموم قوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور: 56] لأن الشرع وإن ضم إليه
أوصافا وشروطا، فقد ضم إلى السرقة في آية القطع بها نصابا
وحرزا، ومع ذلك يجوز الاستدلال بعموم قوله: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] إلا ما خصه الدليل، فكذلك الصوم
والصلاة. ومنها: الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان،
كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]
وفيها وجهان:
أحدهما : أنها مجملة لا يصح التعلق بظاهرها، لأن العين لا توصف
بالتحليل والتحريم، وإنما الموصوف بهما أفعالنا، وهي غير
مذكورة، فافتقر إلى بيان ما يحرم من الأفعال، وما لا يحرم، وبه
قال الكرخي، وتلميذه أبو عبد الله البصري. وإذا قلنا بهذا،
فاختلفوا لأي وجه.
الوجه الثاني : وهو الأصح، أنها ليست مجملة، لأن المعقول منه
التصرف،
(3/50)
فيعم جميع أنواع التصرفات من العقد على
الأم ووطئها، وأكل الميتة والتصرف فيها وهو حقيقة في ذلك،
وهو قول القاضي عبد الجبار، وأبي علي وابنه أبي هاشم، وأبي
الحسين من المعتزلة، لقوله: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم
الشحوم، فجملوها، وباعوها، فأكلوا ثمنها"1 فدل على أن
تحريمها أفاد جميع أنواع التصرف، وإلا لم يتجه اللعن في
البيع.
قال الشيخ أبو إسحاق، وسليم: هذا هو الصحيح. وقال ابن
برهان: إنه مذهب الشافعي، وإن الأول قول الحنفية.
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: مثل قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لا خلاف
أنه ما أريد به تحريم العين نفسها. وإنما أريد به تحريم
أفعالنا، وهو حقيقة فيه. وقال بعض الحنفية: هي حقيقة في
تحريم العين، مجاز في تحريم الفعل، فلا يحتج به إلا بدليل.
ولنا أن الصحابة احتجوا بظاهر هذه الآيات في إثبات
التحريم، ولم ينقل عنه أنهم رجعوا في ذلك إلى شيء آخر.
وجعل القاضي أبو الطيب من أمثلة المسألة قوله: "لا أحل
المسجد لجنب ولا حائض" 2. قال: فمن أصحابنا من قال: مجمل،
لأن الأعيان لا تدخل في التحريم، إنما تدخل الأفعال،
ويحتمل أن يكون المراد المرور أو المكث، فيتوقف فيه. وقيل:
ليس إضمار أحدهما بأولى من الآخر متعينا، وإليه ذهب بعض
الحنفية.
واعلم أن هذه المسألة هي عين مسألة المقتضى هل له عموم في
جميع مقدراته أم لا؟ وابن الحاجب ممن يمنع العموم في بابه،
ويقول به هاهنا، إلا أن يدعى أنه لا تلازم بين نفي الإجمال
والعموم3. قال القاضي أبو الطيب: اختلف أصحابنا في قوله:
"إنما الأعمال بالنيات" على وجهين:
أحدهما : أنه مجمل، لأن المجمل يوجد بغير النية، فيجب أن
تكون النية شرطا في الجواز أو الفضيلة، ولا ذكر لهما في
الخبر، فليس إضمار أحدهما بأولى من
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
2 جزء من حديث: رواه أبو داود 1/60 كتاب الطهارة باب: في
الجنب يدخل المسجد، برقم 232، وهو حديث ضعيف.
3 انظر شرح العضد وحاشية السعد عليه 2/159.
(3/51)
الآخر، ولا يجوز دعوى العموم فيهما، لأن
العموم للألفاظ، فيجب التوقف فيه.
والثاني : ليس بمجمل، لأنه قصد بيان الشرع دون اللغة،
وإضمار أحدهما خلاف الأصل، فيجب العموم. قال: وقلت: أما
إذا ثبت أنه قصد بيان الشرع، وجب أن تكون النية شرطا في
العمل دون صفته، فلا يصح العمل شرعا إلا بالنية، وهذا
الجواب يغني عن دعوى العموم فيه.
وقال أبو الحسين بن القطان: إذا قيل: "إنما الأعمال
بالنيات" ، "وإنما الولاء لمن أعتق" أفاد شيئين: أحدهما:
إذا وقع بهذا صح، وإذا لم يأت به لم يصح. وهذا معقول
الخطاب. وقيل: أراد الكمال لا الصحة. ولنا إذا بطل الصحة،
بطل الكمال أيضا. فهو أكثر عموما فهو أكثر فائدة. قال:
وكان ابن أبي هريرة يقول: قوله: "إنما الأعمال بالنيات" ،
ليس المراد إخراجه من العدم إلى الوجود، فتعين أن يكون
المراد به صحته أو كماله، لكن حمله على الصحة أولى، لأنه
إنما يكون عاملا بنيته.
ومنها : قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}
[المائدة: 6] ذهب بعض الحنفية إلى أنه مجمل. لتردده بين
الكل والبعض، والسنة بينت البعض. وحكاه في المعتمد عن أبي
عبد الله البصري، وقال آخرون: لا إجمال، ثم اختلفوا، فقالت
المالكية: يقتضي مسح الجميع، لأن الرأس حقيقة في جميعهما،
والباء إنما دخلت للإلصاق.
وقال الشريف المرتضى فيما حكاه "صاحب المصادر": إنه يقتضي
التبعيض. قال: لأن المسح فعل متعد بنفسه غير محتاج إلى حرف
التعدية، بدليل قوله: مسحته كله، فينبغي أن يفيد دخوله
الباء فائدة جديدة، فلو لم يفد التبعيض لبقي اللفظ عاريا
عن الفائدة.
وقالت طائفة: إنها حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم، وهو القدر
المشترك بين مسح الكل والبعض، فيصدق بمسح البعض. ونسبه في
"المحصول" للشافعي. قال البيضاوي هنا: وهو الحق وهو مخالف
لإثباته مجيء الباء للتبعيض.
ونقل ابن الحاجب عن الشافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت
التبعيض بالعرف، والذي في المعتمد لأبي الحسين عن عبد
الجبار أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع، لأنه متعلق
بما يسمى رأسا، وهو اسم للجملة لا للبعض، لكن العرف يقتضي
إلحاق المسح بالرأس إما جميعه، وإما بعضه، فيحمل الأمر
عليه ثم قال: إنه الأولى، ثم قال ابن الحاجب: وعلى قول
الشافعي ومن وافقه لا إجمال. ا هـ.
قلت: وعبارة الشافعي في كتاب "أحكام القرآن": فكان معقولا
في الآية أن
(3/52)
من مسح من رأسه شيئا، فقد مسح برأسه، ولم
تحتمل الآية إلا هذا، وهذا أظهر معانيها، أو مسح الرأس
كله. قال: فدلت السنة على أن ليس على المرء مسح رأسه كله،
وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية: أن من مسح شيئا من
رأسه أجزأه. ا هـ. فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن
الحاجب.
وقال صاحب "المصادر": ينبغي على قول الشافعية أن يكون
مجملا، لأنه إذا أفاد إلصاق المسح بالرأس من غير تعميم أو
تبعيض صار محتملا لهما، فيصير مجملا.
وقولهم: إنه صار مفيدا للتبعيض ممنوع. وقال الأصفهاني:
مذهب الأولين أقرب إلى النص، ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة
أقرب إلى الفعل.
ومنها قال بعض الحنفية: آية السرقة مجملة، إذ اليد للعضو
من المنكب والمرفق والكوع لاستعمالها فيها، والقطع للإبانة
والشق، لأنه استعمل فيهما ومنعه الجمهور، بل اليد حقيقة في
العضو إلى المنكب، ولما دونه مجاز، لصحة بعض اليد، ولفهم
الصحابة إذ مسحوا إلى الآباط لما نزلت آية التيمم، والمجاز
خير من الاشتراك.
وقال بعضهم : اليد في الشرع تستعمل مطلقة ومقيدة، فالمطلقة
تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم، وآية السرقة وآية
المحاربة. وقوله: "فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثا" وقوله:
"إذا أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ" 1 والمقيدة بحسب ما قيدت
به، كآية الوضوء، فلا إجمال، والقطع حقيقة في الإبانة،
وإطلاقه على الشق لوجودها فيه، والتواطؤ خير من الاشتراك.
ومنها : ما ورد من الأوامر بصيغة الخبر، كقوله تعالى:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقوله:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] قوله
عليه السلام: "الثيب تشاور"2 فذهب الجمهور إلى أنها تفيد
الإيجاب، وقال قوم من الأصوليين
ـــــــ
1 الحديث رواه البيهقي في سننه 1/133 حديث 631 عن أبي
هريرة موقوفا بلفظ "من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ" ورواه
الحاكم في المستدرك 1/231 حديث 473 عن بسرة بنت صفوان
مرفوعا بلفظ "من مس فرجه فليتوضأ" ورواه أبو داود 1/46،
كتاب الطهارة باب: الوضوء من مس الذكر، برقم 181، ولفظه
"من مس ذكحره فليتوضأ" والترمذي 1/126، برقم 82 بلفظ "من
مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ" وهو حديث صحيح.
2 ذكره ابن حجر في فتح الباري. قال: وقد وقع في رواية
الأوزاعي عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدارمي
والدارتقطني "لا تنكح الثيب". ووقع عند ابن المنذر في
رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه في هذا الحديث "الثيب
تشاور" ا. هـ انظر فتح الباري 9/98-99. قلت: ولم أجده في
سنن الدارمي ولا في سنن الدارقطني المطبوزعين، فلعلها في
نسخة أخرى لم تصلنا.
(3/53)
وأصحاب الشافعي: إنه موقوف فيه إلى دليل
يعين جهة من الجهات، لأنه يتعذر الحمل على ظاهره، وهو
الخبر لأنا نجد مطلقة لا تتربص، وجرحا لا يقتص، وثيبا لا
تشاور. واللفظ لا يتعرض لجهة أخرى بالنص فلا بد في تعيين
الجهة من دليل. وحجة الجمهور أنها خير من الله. فلو حمل
على حقيقة الخبر، لزم الخلف في خبر الله، فوجب حملها على
إرادة الأمر، كذا حكاه صاحب "الكبريت الأحمر" وأدخله في
باب الإجمال..
(3/54)
مسألة : حرف النفي
قد يدخل على الماهية
والمراد نفي الأصل، كقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً
وَلا تَأْثِيماً} [الواقعة:25] وقوله: {فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] وقد يراد به نفي
الكمال مع بقاء الأصل، كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ لا
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12]
ثم قال: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] فنفاها أولا، ثم أثبتها
ثانيا، فدل على أنه لم يرد نفي الأصل، بل نفي الكمال. وهذا
كله إنما أخذ من القرينة، فأما عند الإطلاق كقوله: "لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 1 و "لا صيام لمن لم يبيت الصيام
من الليل" 2 و "لا نكاح إلا بولي" 3، و "لا صلاة لجار
المسجد إلا في المسجد" 4 ونحوه، فاختلفوا هل هي مجملة أم
لا؟ فنقل الإجمال عن القاضيين أبي بكر، وعبد الجبار،
والجبائيين أبي علي وابنه، وأبي عبد الله البصري. قال ابن
برهان: إلا أن الجبائيين ادعيا الإجمال من وجه، والقاضي من
وجه آخر. وقال ابن الإبياري: إنما صار القاضي إلى الإجمال،
لأنه نفى الأسماء الشرعية، والذي دل اللفظ على نفيه موجود،
فافتقر إلى التقدير، وتعدد المقدر. ونقله الأستاذ أبو
منصور عن أهل الرأي. ونقل المازري عن القاضي أبي بكر
الوقف. قال: وهو غير مذهب الإجمال،
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام
والمأمةم في الصلاة، برقم 756 بلفظ: عن عبادة بن الصامت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ
بفاتحة الكتاب" ورواه مسلم 1/295 كتاب الصلاة، باب وجوب
قراءة الفاتحة في كل ركعة، برقم 394.
2 حديث صحيح، سبق تخريجه.
3 حديث صحيح، سبق تخريجه.
4 رواه الدارقطني في سننه من حديث جابر 1/419. وهو حديث
ضعيف.
(3/54)
فيقول: يحتمل عندي نفي الإجزاء ونفي الكمال
لا أكثر من ذلك، حتى يقوم دليل على أحد الأمرين: والقائل
بالإجمال يقول: إنه يستغرق جميع الأشياء الصالحة للنفي.
قلت: وهذا ظاهر كلام القاضي في "التقريب". بل صرح في صدر
كلامه بأنه بمجمل.
وذهب الجمهور إلى أنها عامة، منهم: القفال الشاشي،
والأستاذ أبو إسحاق، ونقله إمام الحرمين في "التلخيص"،
وابن القشيري عن معظم الفقهاء، وصححه ابن برهان، وابن
السمعاني، وحكاه عن الأصحاب، وقال ابن القطان: إنه الظاهر.
قال: وتجاهل قوم فقالوا: ليس فيه دلالة على دفعه.
قال شارح "اللمع": واختلفوا إلى ماذا يعود النفي على
وجهين: أحدهما: إلى نفي المذكور، وهو النكاح الشرعي،
والصلاة الشرعية، والصوم الشرعي، لأنه الذي ورده به الشرع،
وذلك لم يوجد مع شرطه المذكور، فاستغنى هذا عن دعوى العموم
في المضمر، وعن حمل الكلام على التناقض، وعلى معنيين
مختلفين، لأن النبي عليه السلام بعث لبيان الشرعيات.
وقيل: بل يرجع إلى الصفات التي يقع بها الاعتداد في
الكفاية، كما يرجع النفي عند أهل اللسان في قول القائل ليس
في البلد سلطان، على نفي الصفات التي يقع بما الكفاية،
وهذه الصفات وإن لم تكن مذكورة، فهي معقولة من ظاهر اللفظ
فنزلت منزلة الملفوظ به.
وقال بعض المتأخرين: اختلف الأصوليون في النفي إذا وقع في
الشرع على ماذا يحمل، فقال بعضهم يلحق بالمجملات، لأن نفيه
يقتضي نفي الذوات، ومعلوم ثبوتها حسا، فقد صار المراد
مجهولا. وهذا الذي قالوه خطأ، فإن المعلوم من عادة العرب
أنها لا تضع هذا النفي للذات في كل مكان، وإنما تورده
مبالغة، فتذكر الذات، ليحصل لها ما أرادت من المبالغة.
وقال آخرون: بل يحمل على نفي الذات، وسائر أحكامها، ويخص
الذات بالدليل على أن النبي عليه السلام لم يرده.
وقال قوم: لم تقصد العرب إلى نفي الذات، ولكن لنفي
أحكامها، ومن أحكامها الكمال والإجزاء، فيحمل اللفظ على
العموم فيها. وأنكر هذا بعض المحققين، لأن العموم لا يصح
دعواه فيما يتنافى، ولا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول
الإجزاء، فإذا قدر الإجزاء منفيا لتحقق العموم، قدر ثابتا
لتحقق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا يتناقض، وما يتناقض
لا يحتمل الكمال، وصار المحققون إلى التوقف بين نفي
الإجزاء
(3/55)
ونفي الكمال، وادعوا الاحتمال من هذه
الجهة، لا بما قال الأولون، فعلى هذه المذاهب يخرج "لا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" .
والقائلون اختلفوا في سببه على ثلاثة مذاهب:
أحدها : أنها ظاهرة في نفي الوجود، وهو لا يمكن، لأنه واقع
قطعا، فاقتضت إيهاما.
والثاني : أنها ظاهرة في نفي الوجود، ونفي الحكم، فصار
مجملا.
والثالث : أنها مترددة بين نفي الجواز ونفي الوجود. قال
المقترح: وهو الأليق بمذهب القاضي. قلت: قد سبق التصريح به
عنه في كتاب "التقريب". وصرح بنقله عنه ابن القشيري، ورده.
وقال القاضي أبو الطيب: الصحيح حمل اللفظ على نفي المنطوق
به، دون صفته لأنه ظاهر اللفظ، ويغني عن دعوى العموم فيه،
يعني أنه يلزم من نفي الأصل نفي صفته. وقال الأستاذ أبو
منصور: الصحيح عندنا أن لفظ النفي في الشرع يقتضي نفي
العين، كقوله: "لا نكاح إلا بولي" ، و "لا صلاة إلا بطهور"
فأما قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله" 1 فإنما أراد
ذكر القلب، ولا يصح بدونه. وقوله: "لا صلاة لجار المسجد
إلا في المسجد" أراد بالمسجد المكان الطاهر، بدليل قوله:
"جعلت لي الأرض كلها مسجدا" 2 انتهى.
وأجاز الشيخ أبو حامد تقدير نفي الصحة، وحكى عن أهل العراق
نفي الكمال، وعن بعض أصحابنا أنه يقتضي نفي الأمرين جميعا.
واختار إمام الحرمين والغزالي أن النفي ظاهر في الإجزاء3.
محتمل على الخفاء لنفي الكمال، فإن عضده دليل قوي يزيد على
قوة الظهور انصرف إلى الكمال وإلا فهو ظاهر في الإجزاء.
فعرف الشرع عندهم عرف مقصود، وله في الألفاظ اللغوية تصرف،
ومعنى الإجزاء عندهم أسماء الصورة الشرعية.
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه أبو داود 1/25، كتاب الطهارة، باب: في
التسمية على الوضوء، برقم 101، وابن ماجة 1/139، برقم 397،
وهو حديث حسن.
2 رواه الترمذي 2/131، كتاب الصلاة، باب: ما جاء أن الأرض
كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، برقم 317، بلفظ: "جعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا"" ورواه النسائي، كتاب المساجد، باب:
الرخصة في ذلك، برقم 736، بلفظ الترمذي. وابن ماجة، برقم
567 بلفظ الترمذي. وهو حديث صحيح.
3 انظر البرهان 1/304، 307.
(3/56)
وقال الماوردي: إذا كان الحكم مطلقا يحتمل
الجواز، ونفي الكمال. قال: ويجري على مذهب من قال: "يوقف
المحتمل" يجعل هذا موقوفا، لأنه محتمل، والقائلون بالعموم
اختلفوا: هل النفي انصب إلى الأعيان والأحكام فهو عام
فيهما، ثم خصت الأعيان بدليل الحس أو العقل، وبقيت الأحكام
على موجبها، ويجري ذلك مجرى تخصيص اللفظ العام، أو انصب
إلى الأحكام فقط، ولا يقدر دخول الأعيان ليحتاج إلى
تخصيصه، لأنه عليه السلام لم يتعرض للمحسوسات، فهو عام
بالنسبة إلى أفراد الأحكام على قولين حكاهما إمام الحرمين
وغيره.
قال ابن القشيري: والمختار أن اللفظ ظاهر في نفي الجواز،
مؤول في نفي الكمال، فيحمل عند الإطلاق على نفي الجواز،
ولا يحمل على نفي الكمال إلا بدليل، وهكذا اختاره الشيخ
أبو إسحاق الإسفراييني، والإمام في "البرهان"، والغزالي في
"المنخول"، والماوردي، والروياني في كتاب القضاء، ونقله
أبو بكر الرازي في كتابه عن عيسى بن أبان، ثم قال: إنه
الصحيح. وجزم به ابن القطان. قال: وللتعبير عنه طريقان:
إما أن يقول: هو باطل، أو يقول: لا كذا إلا بكذا، فظاهر
البطلان إلا أن يقوم دليل يصرفه عنه إلى الكمال والفضيلة.
قال: وهذا من آكد ما يخاطب به في إيجاب الشيء.
ثم قال إمام الحرمين في "التلخيص" تبعا للقاضي: الذي
نرتضيه إلحاق اللفظ بالمحتملات لتردد اللفظ بين الجواز
والكمال، ويستحيل الحمل عليهما جميعا، ولا طريق إلى التوقف
لتعين لفظ المحتملين.
فإن قيل: هذا هو المذهب الأول في ادعاء الإجمال. قلنا:
الفرق بينهما أن الذين ادعوا الإجمال أولا استندوا إلى
توقع نفي الأعيان، وهو مستحيل، ونحن أسندنا ادعاء الإبهام
إلى الأحكام. قال: ثم هذا كله إذا قلنا بإثبات صيغ العموم،
فإن منعناه لم نحتج إلى إيضاح وجه الإجمال.
قال الأستاذ أبو إسحاق: فقوله: "لا صلاة إلا بطهور" من
قال: إن النفي تعلق بالعين، منع من الاستدلال به على جواز
الصلاة وفسادها. وقال: إن النفي يتعلق بالصورة، وقد وجدت،
والمصير إلى الجواز والكمال لا بد له من دليل، ومن جعله
عاما في الجميع زعم أنه يوجب نفي الحكم، وثبوت العين
بالدليل لا يمنع من استعمال الظاهر فيما بعده. وقال: هذا
هو الصحيح. ا هـ.
والمختار، وعليه جماعة أنه إن دخل على مسمى شرعي، كالصلاة،
فالمراد نفي
(3/57)
الصحة لإمكان حمله عليه، فلا إجمال، وإن
دخل على مسمى حقيقي، نظر فيه فإن لم يكن إلا حكم واحد تعين
كقوله: لا شهادة لمجلود في قذف1، إذ لا يراد به نفي
الفضيلة، وإن كان حكمان: الفضيلة، والجواز فهو مجمل، لعدم
التعين، ونحو: {لا يَسْتَوِي} [النساء: 95] لا يسمى مجملا
عند من لا يقول بعمومه.
فائدة
المقدر في قوله [لا صلاة لجار المسجد]
منع ابن الدهان النحوي تقدير من قدر "لا صلاة لجار المسجد"
، بقوله: لا صلاة كاملة: من جهة الصناعة، لأن الصناعة لا
يجوز حذفها، فلا يجوز حذف بعضها. قال: وإنما التقدير لا
كمال صلاة، فحذف المضاف فأقام المضاف إليه مقامه، وكذا قال
العبدري في "شرح المستصفى": من قدر لا صيام صحيح أو مجمل،
فقد أبعد. لأن حذف الصفة وإبقاء الموصوف غير معروف في كلام
العرب، لم يأت إلا في قولهم: سيري سير، وألفاظ قليلة،
وإنما المعروف، وهو حذف الموصوف وإبقاء الصفة.
ـــــــ
1 لم أجده.
(3/58)
مسألة : [المقدر في مثل قوله صلى الله عليه
وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ"]
وهذا الخلاف يجري في الرفع أيضا، نحو: "رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان" ، "رفع القلم عن الصبي" قال الغزالي. قضية اللفظ
رفع نفس الخطأ والنسيان، وهو غير معقول، فالمراد به رفع
حكمه لا على الإطلاق، بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال
قبل الشرع إرادته بهذا اللفظ، وهو دفع الإثم فليس بعام في
جميع أحكامه من الضمان، ولزوم القضاء وغيره، ولا هو يحمل
بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا وإلى العقوبات
آجلا، وبين الغرم والقضاء لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في
كل حكم، كما لم يجعل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء: 23] عاما في كل فعل مع أنه لا
بد من إضمار الفعل. ثم قال: فأما إذا ورد في موضع لا عين
فيه فهو مجمل يحتمل نفي الأثر مطلقا، أو نفي البعض.
(3/58)
وحكى شارح "اللمع" في هذا وجهين: أحدهما:
أنه مجمل، لأنه يقتضي رفع الأفعال المذكورة، وهو محال
لأنها موجودة، فوجب الرجوع إلى ما ليس بمذكور، وهو إما
الإثم أو الحكم، ولا يحمل على شيء إلا بدليل. ومن أصحابنا
من قال: نحمله على موضع الخلاف، ومنهم من يحمله على الأعم
فائدة. قال: والصحيح أنه ليس بمجمل، لأنه معقول لغة، فإن
السيد لو قال لعبده: رفعت عنك جنايتك، عقل منه رفع المؤاخذ
عن كل ما يتعلق بالجناية، فعلى هذا [هل] يرجع الرفع إلى
الإثم والحرج، أو إلى جميع الأحكام إلا ما أخرجه دليل فيه
وجهان، حكاهما في "الإرشاد".
وجمع الأصفهاني شارح "المحصول" ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه
مجمل. والثاني: الحمل على رفع العقاب آجلا والإثم ناجزا،
وهو مذهب الغزالي لأنه المفهوم منه في العرف، وليس بعام في
نفي الضمان. الثالث: واختاره الرازي في "المحصول" حمله على
رفع جميع الأحكام الشرعية.
قلت: وممن حكى الثلاثة القاضي عبد الوهاب في "الملخص "،
ونسب الثالث لأكثر الفقهاء من أصحابنا وأصحابهم، واختار هو
الثاني أعني أنه محمول على نفي الإثم والحرج خاصة.
(3/59)
مسألة : في أن لفظ
الشارع إذا دار بين مدلولين
إن حمل على أحدهما أفاد معنى واحدا، وإن حمل على الآخر
أفاد معنيين، وليس هو أظهر بالنسبة إلى أحدهما، فهل هو
مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما أم هو ظاهر بالنسبة إلى
إفادة المعنيين؟ قال الهندي: ذهب الأكثرون إلى الثاني،
وذهب الأقلون منهم الغزالي إلى أنه مجمل بالنسبة إلى كل
واحد منهما.
قلت: واختاره ابن الحاجب، والأول اختيار الآمدي تكثيرا
للفائدة، ولما فيه من رفع الإجمال الذي هو خلاف الأصل، فمن
لم. يجعله مجملا يجعله حقيقة في المعنيين مجازا في الواحد.
واللفظ الدائر بين الحقيقة والمجاز ليس بمجمل بالنسبة إلى
كل منهما، بل هو ظاهر بالنسبة إلى الحقيقة، ومن جعله مجملا
لا يجعله حقيقة في أحدهما عينا، بل يحتمل غيره احتمالا
سواء، أو يكون حقيقة في المعنى الواحد، مجازا في المعنيين
وبالعكس، وأن يكون حقيقة فيهما، ولا يرجع لسبب إفادة
المعنيين، ثم قال الآمدي والهندي: محل الخلاف إنما هو فيما
إذا لم يكن حقيقة في المعنيين، فإنه يكون
(3/59)
مسألة : [الذي له مسمى شرعي هل هو مجمل؟]
ما له مسمى شرعي كالصوم والصلاة ليس بمجمل عند الأكثرين،
بل اللفظ محمول على الشرعي، لأنه عليه السلام بعث لبيان
الشريعة لا اللغة، ولأن الشرع طارئ على اللغة وناسخ لها،
فالحمل الناسخ المتأخر أولى، ولهذا ضعفوا قول من حمل
الوضوء من أكل لحم الجزور على النظافة بغسل اليد.
وثانيها : أنه مجمل، ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر
أصحابنا، وبه قال القاضي. وقال الغزالي: ولعله فرعه على
مذهب من يثبت الأسامي الشرعية، وإلا فهو منكر لها.
وثالثها : وهو المختار عند الغزالي، التفصيل بين أن يرد
مثبتا فيحمل على الشرعي، كقوله: "إني إذن صائم" 1 فيستفاد
منه صحة نية النهار، وإن ورد منفيا فمجمل لتردده بينهما
كالنهي عن صيام يوم النحر، وأيام التشريق، فلا يستفاد منه
صحة صومهما من جهة أن النهي عن الممتنع ممتنع. وهذا منه
بناء على أصله أن النهي لا يقتضي الفساد، ثم هو مع ذلك لا
يقول بأنه يقتضي الصحة.
ورابعها : لا إجمال أيضا، والمراد في الإثبات الشرعي، وفي
النهي اللغوي، واختاره الآمدي لتعذر حمله على الشرعي، لأن
الشرعي يستلزم الصحة، والنهي غير صحيح، والصحيح الأول،
ولهذا اتفقوا على حمل قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 2
على المعنى الشرعي، مع أنه في معنى النهي.
تفريع: [إذا تعذر الحمل على الشرعي] :
إن قلنا بالأصح أنه يحمل على الشرعي، فلو تعذر ولم يمكن
الرد إليه إلا بضرب
ـــــــ
1 رواه الترمذي حديث 734 بلفظ "إني صائم" والحديث رواه
مسلم 2/808، برقم 1154.
2 رواه البخاري، كتاب الحيض، باب إذا حاضت في شهر ثلاث
حيض، برقم 325 بلفظ عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني استحاض فلا أطهر أفأدع
الصلاة؟ فقال: "لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر
الأيام التي كنت زتحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" وهو عند
أحمد بلفظ "دعي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئي عند كل
صلاة وإن قطر على الحصير" 6/42، حديث 24191.
(3/61)
من التجوز، فهل يحمل على اللغوي. أو يكون
مجملا، أو يرد إلى الشرعي؟ فيه ثلاثة مذاهب، واختار
الغزالي الإجمال. قال: ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم ينطق بالحكم العقلي، ولا بالاسم اللغوي، ولا
بالحكم الأصلي، فترجيح الشرعي تحكم.
وتمثل المسألة بـ "الطواف بالبيت صلاة" 1 وبـ "الاثنين فما
فوقهما جماعة" 2 قال: فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه يسمى
جماعة، وانعقاد الجماعة وحصول فضيلتها، والأكثرون منهم ابن
الحاجب أنه يحمل على الشرعي، لأن الشارع بعث لبيان
الشرعيات، وهو الأغلب.
وقال الشيخ عز الدين في كتاب "المجاز": أما قوله صلى الله
عليه وسلم. "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها" فمحمول على
صيغة إيجاب النكاح اللغوية دون الشرعية، وذلك حقيقة
بالنسبة إلى اللغة دون الشرع، كالصلاة المحمولة على الدعاء
في قوله: "وإن كان صائما فليصل" 3 أي فليدع، وكذلك نهيه عن
بيع الحر، فإنه محمول على اللغوي دون الشرعي، وأما نهي
الحائض عن الصلاة فليست الصلاة فيه محمولة على العرف
الشرعي لتعذره، ولا على اللغوي الذي هو الدعاء، لأنه خلاف
الإجماع، وإنما هو مجاز تشبيه، لأن صورة صلاتها شبيهة
بصورة الصلاة الشرعية فهو مجاز عن حقيقة شرعية. والمختار:
أن صلاتها مجاز عن مجاز شرعي بالنسبة إلى اللغة، لأن
الأظهر أن تسمية الصلاة الشرعية بهذا اللفظ من مجاز تسمية
الكل باسم جزئه، لأن الدعاء جزء من أجزاء الصلاة، فتجوز به
عنها، كما تجوز عنها بالقيام والركوع والسجود.
مسألة
ما له مسمى عرفي وشرعي علام يحمل عند الإطلاق؟ وجهان
خرجهما بعض المتأخرين من الخلاف فيمن نذر عتق رقبة، هل
يجزئ ما يقع عليه الاسم في العرف، أو لا يجزئ إلا ما يجزئ
في الكفارة؟ فيه وجهان مشهوران.
قلت: الراجح الحمل على الحقيقة الشرعية أولا، ثم العرفية،
ويشهد له ما لو
ـــــــ
1 الترمذي 3/281، كتاب الحج، باب ما جاء في الكلام في
الطواف، 960. وهو حديث صحيح.
2 رواه ابن ماجة 1/312 كتاب إقامة الصلاة، حديث 972 وهو
حديث ضعيف.
3 جزء من حديث: رواه مسلم 2/1054 كتاب النكاح، باب: الأمر
بإجابة الداعي... ، برقم 1431 بلفظ عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن
كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم" . وهو عند الترمذي
برقم 780 وأبو داود 2460.
(3/62)
وقف أو أوصى للفقراء والمساكين ولسبيل
الله، فإنه يعتبر من اعتبره الشرع في الزكاة، وكذا لو حلف
لا يبيع الخمر فإنه لا يحنث ببيعه. وكذا لو قال: إن رأيت
الهلال فأنت طالق؟ فهو محمول على العلم.
(3/63)
مسألة : [إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي
واللغوي أيهما يقدم؟]
إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي واللغوي، قدم العرفي
المطرد، ثم اللغوي. كذا قاله الأصوليون. ويخالفه قول
الفقهاء: ما ليس له حد في الشرع، ولا في اللغة، يرجع فيه
إلى العرف. فإنه صريح في تأخير العرف عن اللغة. وجمع
بينهما بوجوه: منها: عدم ورودهما على محل واحد، فكلام
الفقهاء في الضوابط، وهي في اللغة أضبط، فتقدم اللغة
بالنسبة إليها، وكلام الأصوليين في أصل المعنى، وهو في
العرف أظهر، فيقدم بالنسبة إليه.
ومنها : أن كلام الأصوليين في اللفظ الصادر من الشارع ينظر
فيه إلى عرفه، وهو الشرعي، ثم عرف الناس، لأن الظاهر أنه
يخاطبهم بما يتعارفونه، ثم اللغوي، وكلام الفقهاء في
الصادر من غيره، ولهذا قال الرافعي في باب الطلاق: إذا
تعارض المدلول اللغوي والعرفي فكلام الأصحاب يميل إلى
اعتبار الوضع، والإمام، والغزالي يريان اتباع العرف، وصحح
الأول لأن العرف لا يكاد ينضبط.
ومنها: قال الشيخ علاء الدين الباجي: مراد الأصوليين العرف
الكائن في زمنه عليه السلام. ومراد الفقهاء غيره. قلت:
ويظهر أن مراد الأصوليين ما إذا تعارض معناه في اللغة
والعرف يقدم العرف. ومراد الفقهاء ما إذا لم يعرف حده في
اللغة، فإنا نرجع فيه إلى العرف، ألا ترى إلى قولهم ليس له
حد في اللغة، ولم يقولوا: ليس له معنى.
(3/63)
|