البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

البيان والمبين
مدخل
...
البيان والمبين
قال الغزالي: جرت عادة الأصوليين بعقد كتاب له. وليس النظر فيه مما يجب أن يسمى كتابا، فالخطب فيه يسير، والأمر فيه قريب، وأولى المواضع به أن يذكر عقب المجمل، فإنه المفتقر إلى البيان. ا هـ. وأمره ليس بالسهل، فإنه من جملة أساليب الخطاب، بل هو من أهمها، ولهذا صدر به الشافعي كتاب "الرسالة"1.
والبيان لغة : اسم مصدر بين إذا أظهر، يقال: بين بيانا وتبيانا، ك كلم يكلم كلاما، وتكليما، قال ابن فورك في كتابه: مشتق من البين، وهو الفراق، شبه البيان به، لأنه يوضح الشيء، ويزيل إشكاله.
وقال أبو بكر الرازي: سمي بيانا لانفصاله مما يلتبس به من المعاني، ويشكل من أجله.
وأما في الاصطلاح : فيطلق على الدال على المراد بخطاب ثم يستقل بإفادته، ويطلق ويراد به الدليل على المراد، ويطلق على فعل المبين.
ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها، فلاحظ الصيرفي فعل المبين، فقال: البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي.
وقال القاضي في "مختصر التقريب": وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب الطبري: إنه الصحيح عندنا، لأن كل ما كان إيضاحا لمعنى وإظهارا له، فهو بيان له.
واعترضه ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. وللصيرفي منع ذلك.
ونقض أيضا بالنصوص الواردة في الحكم المبتدأ من غير سبق إشكال، فإنه ربما ورد من الله تعالى بيان لم يخطر ببال أحد.
ويخرج منه بيان المعدوم، فإنه لا يقال عليه شيء، وبيان المعلم لمن لا يفهم عنه لقصوره. ولعله يمنع تسمية ما كان ظاهرا ابتداء بيانا. وقال الغزالي: هذا الحد لفرع من البيان، وهو بيان المجمل خاصة، والبيان يكون فيه وفي غيره. ا هـ.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 21.

(3/64)


ولاحظ القاضي، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والإمام الرازي، وأكثر المعتزلة كأبي هاشم، وأبي الحسين: أنه الدليل فحدوه بأنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب. ا هـ.
ولاحظ أبو عبد الله البصري أنه نفس العلم أو الظن الحاصل من الدليل، فحده بأنه تبيين الشيء، فهو والبيان عنده واحد. كذا قاله الهندي تبعا للغزالي.
وحكى أبو الحسين عنه أنه العلم الحادث، لأن البيان هو ما به يتبين الشيء، والذي به تبين هو العلم الحادث.
قال: ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين، لما كان علمه لذاته لا بعلم حادث. وقال العبدري بعد حكاية المذاهب: الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور الثلاثة، فعلى هذا يكون حده: أنه انتقال ما في نفس المعلم إلى نفس المتعلم بواسطة الدليل. لكن الاصطلاح إنما وقع على ما رسم به القاضي، وذلك أن الدليل هو أقوى الأمور الثلاثة، وأكثرها حظا من إفادة البيان والمبين.
وقال الماوردي: الذي عليه جمهور الفقهاء أن البيان إظهار المراد بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلا به. قال ابن السمعاني: وهذا الحد أحسن الحدود، ويرد عليه ما أورده هو على الصيرفي، أعني الوارد ابتداء من غير سبق إجمال.
وقال شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتابه: اختلف أصحابنا في معنى البيان، فقال أكثرهم: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب منفصلا عما يستر به. وقال بعضهم: هو ظهور المراد للمخاطب، والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب. قال: وهو اختيار أصحاب الشافعي، لأن الرجل يقول: "بان هذا المعنى" أي ظهر. والأصح الأول أي الإظهار. ا هـ.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: قال أصحابنا في البيان: إنه الإفهام بأي لفظ كان. وقال أبو بكر الدقاق: إنه العلم الذي يتبين به المعلوم، حكاه القاضي أبو الطيب.
وذكر الشافعي في "الرسالة": أن البيان اسم جامع لأمور متفقة الأصول متشعبة الفروع، وأقل ما فيه أنه بيان لمن نزل القرآن بلسانه، فاعترض عليه أبو بكر بن داود، وقال: البيان أبين من التفسير الذي فسره به.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا يصح، لأن الشافعي لم يقصد حد البيان وتفسير معناه، وإنما قصد به أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان، وهي

(3/65)


متفقة في أن اسم البيان يقع عليها، ومختلفة في مراتبها، فبعضها أجلى وأبين من بعض، لأن منه ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر، ومنه ما يحتاج إلى دليل، ولهذا قال عليه السلام: "إن من البيان لسحرا" 1 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض، وهذا كالخطاب بالنص والعموم والظاهر، ودليل الخطاب، ونحوه، فجميع ذلك بيان. وإن اختلفت مراتبها فيه. ا هـ.
وكذا قال الصيرفي، وابن فورك: مراد الشافعي أن اسم البيان يقع على الجنس، ويقع تحته أنواع مختلفة المراتب في الجلاء والخفاء. وقال أبو بكر القفال: أراد أنه وإن حصل من وجوه، فكل ذلك يجتمع في أنه يعود إلى الكتاب ويستفاد منه. حكاه سليم الرازي في "تقريبه".
وقال أبو الحسين في "المعتمد": هذا ليس بحد، وإنما هو وصف للبيان بأنه يجمعه أمر جامع، وهو أنه سنة أهل اللغة، أنه يتشعب إلى أقسام كثيرة، فإن حد بأنه بيان لمن نزل القرآن بلغته كان قد حد البيان بأنه بيان، وذلك حد الشيء بنفسه، وإن كان قد حد البيان العام، فإنه يخرج منه الأدلة العقلية، وإن حد البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء، فإنه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد كالعموم، والخصوص وغيرهما..
ـــــــ
1 صحيح، سبق تخريجه.

(3/66)


فصل في مراتب البيان للأحكام
وقد ذكره الشافعي في أول "الرسالة"1، ورتبها خمسة أقسام، بعضها أوضح بيانا من بعض.
فأولها : بيان التأكيد، وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل، كقوله في صوم التمتع: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وسماه بعضهم بيان التقرير. وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص فيكون البيان قاطعا للاحتمال، مقررا للحكم على ما اقتضاه الظاهر.
ثانيها : النص الذي ينفرد بدركه العلماء "كالواو، وإلى" في آية الوضوء، فإن هذين الحرفين يقتضيان معاني معلومة عند أهل اللسان.
ثالثها : نصوص السنة الواردة بيانا لمشكل في القرآن، كالنص على ما يخرج زمن الحصاد مع تقدم قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق.
ورابعها : نصوص السنة المبتدأة مما ليس في القرآن نص عليها بالإجمال، ولا بالتفسير ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
خامسها : بيان الإشارة، وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة، مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني، وقيس عليها غيرها، لأن الأصل إذا استنبطت منه معنى، وألحق به غيره، لا يقال: لم يتناوله النص، بل يتناوله، لأن النبي عليه السلام أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربا بالأربعة المنصوص عليها، إذ حقيقة القياس بيان المراد بالنص، وقد أمر الله أهل التكليف بالاعتبار، والاستنباط، والاجتهاد، فهذه مراتب البيان في الأدلة الشرعية عند الشافعي.
وقد اعترض عليه فيها قوم وتوهموا أنه أهمل قسمين: وهما: الإجماع، وقول المجتهد إذا انقرض عصره، وانتشر من غير نكير، وإنما لم يذكرهما الشافعي، لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي، لأن الإجماع
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 22.

(3/67)


لا يصدر إلا عن دليل، فإن كان نصا فهو من القسم الأول، وإن كان استنباطا فهو من الخامس. فإن قيل: فينبغي أن لا يذكر أيضا القياس، لأنه مستند إلى النص. قلنا: لأجل هذا قال إمام الحرمين، وابن القشيري: لا مدفع للسؤال، لكنه مدفوع بوجهين:
أحدهما : أن الإجماع على غير ما دل عليه النص، فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر بخلاف الآخر، فإنه إنما دل على وجوب العمل به، وليس دالا على مدلوله فلذلك أفرده بالذكر.
والثاني : يحتمل أن يكون الشافعي تعرض لمراتب البيان الموجودة في كل عصر، والإجماع لم يوجد في عصره عليه السلام، فلهذا أغفله.
واعترض آخرون فقالوا: لم يذكر دليل الخطاب، وهو حجة عنده، وأجيب بأنه إن كان مفهوم الموافقة فهو يدخل في قسم البيان من الكتاب والسنة، وإن كان مخالفة فهو من جملة ما استنبط بالاجتهاد، فدخل في القسم الخامس. وتعجب المازري من الغزالي كيف حكى الاتفاق على أن مراتب البيان خمسة، وإنما اختلفوا في أوضاعها. ثم قال أئمتنا، منهم ابن السمعاني: يقع بيان المجمل لستة أوجه:
أحدها : بالقول وهو الأكثر، كبيان نصب الزكوات، كقوله: "لا قطع في تمرة ولا كسرة، والقطع في ربع دينار" 1.
والثاني : بالفعل كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، "خذوا عني مناسككم" .
الثالث : بالكتاب كبيانه أسنان الديات، وديات أعضاء البدن، وكذا الزكوات.
الرابع : بالإشارة كقوله: "الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا" 2 يعني ثلاثين
ـــــــ
1 لم أجده بهذا السياق، وصدره أخرجه أبو داود 4/136، كتاب الحدود، بغاب: ما لا يقع فيه، برقم 4388بلفظ "لا قطع في ثمر ولا كثر" وهو كذلك عند الترمذي برقم 1449 والنسائي برقم 4960، 4961، 4962، وعند ابن ماجة برقم 2593، 2594، وكذلك عند الإمام أحمد، برقم 15842، 17299، 17320 كلهم بلفظ أبي داود، وعجزه أخرجه مالك في الموطأ، 2/382، كتاب الحدود، باب: ما لا قطع فيه برقم 1520 وهو حديث صحيح.
2 جزء من حديث، رواه البخاري، كتاب الطلاق، باب: اللعان، برقم 5302. ورواه مسلم، كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، برقم 1080.

(3/68)


يوما ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات، وخنس إبهامه في الثالثة، يعني يكون تسعا وعشرين. قلت: وكذلك حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه بيده أن ضع النصف1 ومثله في "المحصول" بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرير بيده. وقال: "هذا حرام على ذكور أمتي" 2.
الخامس : بالتنبيه: وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام، كقوله في بيع الرطب بالتمر: "أينقص إذا جف"؟ وقوله في قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت" 3.
السادس : ما خص العلماء ببيانه عن اجتهاد، وهو ما فيه الوجوه الخمس إذا كان الاجتهاد موصولا إليه من أحد وجهين: إما من أصل تغير هذا الفرع به، وإما من طريق أمارة تدل عليه. وزاد شارح "اللمع": سابعا: وهو البيان بالترك، كما روي أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسته النار. 4 وقد يرجع إلى البيان بالفعل، لأن الترك كف، والكف فعل.
وقال الأستاذ أبو منصور: قد رتب بعض أصحابنا ذلك، فقال: أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب، ثم بالفعل، ثم بالإشارة، ثم بالكتابة، ثم بالتنبيه على العلة. قال: ويقع البيان من الله سبحانه بها كلها خلا الإشارة. وقال الأستاذ: رتبها أصحابنا، فقالوا: آكدها تبيين الشيء بلفظ صريح مع إعادته، نحو: أعط زيدا أعط زيدا، وفي الحديث "فنكاحها باطل باطل باطل" . ثم المؤكد نحو: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [لأعراف: 142] وفي الحديث: "فابن لبون ذكر" 5 "فلأولى رجل ذكر" 6. ثم يليه الخطاب المستقل بنفسه كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث 2418،
2 رواه أبو داود 4/50 كتاب اللباس، باب: في الحرير للننساء، برقم 4057، والنسائي كتاب الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، برقم 5147، وابن ماجة كتاب اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، برقم 3595.
3 سبق تخريج هذه الأحاديث.
4 سبق تخريجه.
5 أخرجه أبو دجاود 2/96، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، برقم 1567، 1572، والنسائي برقم 2447، 2455، وابن ماجة برقم 1798، 1799، وهو صحيح.
6 جزء من حديث رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه، برقم 6732، ورواه مسلم كتاب الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، برقم 1615، ونصه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" .

(3/69)


23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، ثم يليه ما يرد على لسان النبي عليه السلام نحو: "البيعان بالخيار" 1، "الولاء لمن أعتق"، ثم الكتابة، ثم الإشارة بتحريك اليد والرأس، قال: ورأيت أصحابنا يقدمون ما ورد من الخطاب المجمل الذي لا يمكن الوقوف على معناه للعسر في اللسان على القياس، وهو أولى منه ومقدم عليه لاستقلاله بنفسه وإمكان الوصول إلى المراد بأصله وفرعه، وهما قسمان من البيان.
وأطلق جمع من أصحابنا أن البيان بالفعل أقوى من القول: قال ابن الرفعة: وشاهده حلقه صلى الله عليه وسلم بالحج في أن اتباع الصحابة له أقوى من أمره وإذنه فيه كما جاء في الخبر.
ـــــــ
1 جزء من حديث رواه البخاري كتاب البيوع، باب: إذا بين البيعان ولم يكتما، برقم 2079. ورواه مسلك كتاب البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، برقم 1532، ونصه قد ورد قبل ذلك.

(3/70)


مسألة : [البيان الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم]
يجب على الرسول بيان ما يتعلق بأحكام الشرع: واجبها. ومندوبها، وحرامها، ومكروهها، ومباحها، وقال بعض المتكلمين: ما كان واجبا فيجب عليه بيانه، أو مندوبا فمندوب، أو مباحا فمباح. قال ابن القشيري: وهذا خرق للإجماع، لإجماع الأمة على وجوب تبليغ جميع الشرعيات. وقال غيره: يلزمهم أن يكون بيان المحرم محرما، وهو إلزام عجيب.
وقال الماوردي، والروياني: ما يلزم الرسول بيانه من الأحكام التي ليست في كتاب الله كالقضاء بالشفعة، وبالدية على العاقلة، وإعطاء السلب للقاتل، وأن لا يرث القاتل، ونحوه، يلزم بيانه في حقوق العباد لأنه لا طريق لهم إلى العلم بها إلا منه، وفي لزوم بيانها في حق الله وجهان مبنيان على الخلاف في أنه هل هو بالاجتهاد؟ فإن قلنا: له ذلك لزمه، وإلا فلا.
وقال الشاشي في كتابه: الذي يجب عليه هو البيان، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وروي أن عمر سأله عن الكلالة: فقال: "يكفيك آية الصيف" ، فدل هذا على أن الواجب من البيان ما لم يتوصل إلى معرفته إلا ببيانه. فأما ما جعل في الكتاب بيانه، وكان يتوصل إليه بالتدبر، فليس عليه بيانه.

(3/70)


قال: ومعقول أنه عليه السلام لا يجب عليه إبانة كل الأحكام أصلا، وإنما عليه إبانة الأصول التي للدلالة على الفروع.
وقال الماوردي والروياني: من المجمل ما وكل العلماء إلى اجتهادهم في بيانه من غير سمع يفتقر إليه، كقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. فلم يرد سمع ببيان أقل الجزية حتى اجتهد العلماء في أقلها. وكقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] فأجهل ذكر العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، حتى اجتهد العلماء، فهذا ونحوه ساقط من الرسول عليه السلام، لأنه مأخوذ من أصول الأدلة المستقرة. وقد سأل عمر عن الكلالة فقال: "يكفيك آية الصيف" فوكله إلى الاجتهاد، ولم يصرح بالبيان.
واختلف أصحابنا في هذا النوع من البيان الصادر عن الاجتهاد، هل يؤخذ قياسا أو تنبيها؟ على وجهين:
أحدهما : يؤخذ تنبيها من لفظ المجمل، وشواهد أحواله، لأنه عليه السلام قال لعمر: "يكفيك آية الصيف" فرده إليها، ليستدل بما تضمنتها من تنبيه وشواهد حال.
والثاني : يجوز أن يؤخذ قياسا على ما استقر بناؤه من نص أو إجماع، لأن عمر سأل عن قبلة الصائم. فقال: "أرأيت لو تمضمضت"، فجعل القبلة من غير إرادة كالمضمضة من غير ازدراد. انتهى

(3/71)


فصل : في المبين
ويطلق على الخطاب المحتاج إلى البيان، وورد بيانه، وعلى الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان، وهو إما أن يدل بحسب الوضع، وهو النص والظاهر، أو بحسب المعنى كالمفهوم، وما دل عليه النص بطريق التعليل، نحو: "إنها من الطوافين"1 أو بواسطة العقل، نحو: الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به. ويسمى الدليل الذي حصل به البيان مثبتا "بكسر الباء". وفيه مسائل:.
ـــــــ
1 جزء من حديث: رواه أبو داود 1/19 كتاب الطهارة، باب: سؤر الهرة، برقم 75. ورواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الهرة، برقم 92، ورواه النسائي، كتاب الطهارة، باب: سؤر الهرة، برقم 68، ورواه ابن ماجة، كتاب الطهارة وسننها، باب: الوضوء بسؤر الهرة والرخصة فيه، برقم 367.

(3/72)


[المسألة] الأولى
لا خلاف أن البيان يجوز بالقول، واختلفوا في وقوعه بالفعل. والجمهور أنه يقع بيانا خلافا لأبي إسحاق المروزي منا، والكرخي من الحنفية. حكاه الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة"2 وكلام الغزالي يوهمه، فإنه قال: وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه، لأنه أراد به بيان الشرع، لأن الفعل لا صيغة له، لكن أوله الهندي. وقال: قول الغزالي وغيره إن البيان مخصوص بالدليل القولي، فالمراد منه التسمية اصطلاحا، كما في العموم بناء على الغالب من كون البيان قولا، لا في حقيقة ما يقع به البيان، ولا في جوازه. وشرط المازري الإشعار به من مقال أو قرينة حال، وإلا لم يحصل للمكلف البيان. قال: وعلى هذا فالخلاف لفظي.
قال: ومنهم من جعله معنويا، وهو أنه هل يتصور فعل ينبئ بمجرده عن المراد من غير إسناد ذلك إلى قرينة أم لا؟ قلت: وجعله السرخسي مبنيا على أصل، وهو أن بيان المجمل هل يكون المجمل متصلا به. فمن شرط الاتصال قال: لا يكون البيان إلا بالقول إذ الفعل لا يكون متصلا بالقول. وفي "المحصول": لا يعلم كون الفعل
ـــــــ
2 انظر التبصرة ص: 247

(3/72)


بيانا. إلا بأحد أمور ثلاثة، أو يعلم ذلك بالضرورة من قصده، أو بالدليل اللفظي، كقوله: هذا الفعل بيان لهذا المجمل، أو بالدليل العقلي، بأن يذكر المجمل وقت الحاجة، أي العمل به. ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا.

(3/73)


وذكر الغزالي سبع طرق.
وقال صاحب "الكبريت الأحمر": الصحيح عندي أن الفعل يصلح بيانا، لكن بشرط انضمام بيان قولي إليه، كما روي عنه عليه السلام أنه صلى ثم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فصار بيانا لقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 77] وكما روي أنه اشتغل بأفعال الحج، ثم قال: "خذوا عني مناسككم" . أما الفعل الساذج فلا، لأنه بذاته ساكت عن جميع الجهات. فلا تتعين واحدة إلا بدليل. قال: اللهم إلا إذا تكرر الفعل عنده، يحصل البيان. قرينة تدل على كون الفعل بيانا:
إحداها : وروده عند وقت إيجابه، لئلا يتأخر البيان عن وقت الحاجة.
الثاني : أن ينقل إلينا فعل غير متصل، كمسح الرأس والأذنين من غير تجديد الماء، ثم ينقل إلينا مع تجديده، فيكون ذلك بيانا للفضيلة.
الثالثة : أن يترك ما يلزم فيكون نسخا.
الرابعة : أن لا يقطع في شيء ليعلم نحو: تخصيص آية السرقة.
الخامسة : أن يفعل في الصلاة ما لم يكن واجبا. كالركوعين في صلاة الخسوف.
السادسة : أن يأخذ الجزية والزكاة متصلة بعد إجمالها في النصوص.
السابعة : أن يعاقب عقوبة باعتقاد ندبه أو إباحته.
تنبيهان :
الأول : هل يجري خلاف الفعل في الكتابة والإشارة؟ يحتمل أن يقال به، والظاهر المنع، ولهذا قطع ابن السمعاني فيما سبق بالبيان بالكتابة والإشارة مع حكاية الخلاف في الفعل، وبذلك صرح صاحب "الواضح" فقال بعد حكاية الخلاف في الفعل: ولا أعلم خلافا في أن الكتابة والإشارة يقع بهما البيان.
الثاني : إنما يقع الفعل بيانا إذا لم يكن هناك قول يصلح للبيان، وإلا لم يرجع إلى الفعل لأن القول هو الأصل في البيان، والفعل إنما يجعل بيانا بغيره، لا بنفسه. قاله ابن فورك، ويجيء فيه الخلاف الآتي.

(3/73)


[المسألة] الثانية : [البيان بالترك]
يقع البيان بالترك أيضا، كترك التشهد الأول بعد فعله إياه، فإنه بين كونه غير واجب، وكسكوته عن بيان حادثة وقعت بين يديه، فإنه يدل على كونه ليس فيها حكم شرعي، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأن يكون ظاهر الخطاب يتناوله، والأمة تتركه فيدل على أن الخطاب لم يتناوله.

(3/74)


[المسألة] الثالثة : [البيان بالتقرير]
يقع البيان بالتقرير، ذكره أبو بكر الرازي في أصوله، قال: كعلمنا بأن عقود الكفار كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه بها، ولم ينكرها على فاعلها، يدل على إباحتها، ويجيء فيه من الوجوه ما سبق في الفعل.

(3/74)


المسألة الرابغة : مالمبين القول ام الفعل
...
[المسألة] الرابعة : [ما المبين القول أم الفعل]
إذا ورد بعد المجمل قول وفعل، وكل واحد منهما صالح لبيانه فماذا يكون البيان؟ فإما أن يتفقا في الحكم، وإما أن يختلفا، فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو المبين قولا كان أو فعلا، والثاني تأكيد له. وقيل: إن كان الفعل أضعف دلالة منه لم يحمل على تأكيده، إذ يمتنع التأكيد بالأضعف، وإن لم يعلم، فلا يقضى على واحد منهما بأنه المبين بعينه، بل يقضى بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه، وهو الأول في نفس الأمر والثاني تأكيد. وقال صاحب "الكبريت الأحمر": [مكانا يتميز عنهما بيانها] وقيل: هذا إذا تساويا في القوة، فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا، وإلا لزم التأكيد بالأضعف، وإن اختلفا علما كأمره بعد نزول الحج القارن أن يكون طوافا واحدا. وروي أنه عليه السلام قرن، فطاف لهما طوافين.
فالمختار عند الجمهور منهم الإمام فخر الدين، وأتباعه، وابن الحاجب أن المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا، أو يحمل الفعل على الندب

(3/74)


[المسألة] الخامسة : [بيان القرآن بالقرآن]
يجوز بيان القرآن بالقرآن: كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] بينه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية. والسنة بالسنة، والمتواتر منهما بالآخر، والمجمل من آي القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد، سواء كان مما تعم به البلوى أم لا. وقالت الحنفية: إن كان مما تعم به البلوى لم يجز، حكاه الغزالي في "المستصفى"، والباجي في الأحكام.
قال ابن حزم: ومما أجمل في السنة وبينه القرآن قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه في سورة براءة بقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
قال أبو بكر الرازي: وقد يقع بيان المجمل بالإجماع، كإجماعهم على أن دية الخطإ على العاقلة، والذي في كتاب الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. ولم يذكر وجوبها على العاقلة، فبين الإجماع المراد بها، وقد يكون بيان الإجماع بحكم مبتدإ، كما يكون حكم الكتاب والسنة، كإجماع السلف على حد شرب الخمر ثمانين، وتأجيل امرأة العنين.

(3/75)


المسألة السادسة : لايجب أن يكون البيان كالمبين في القوة
...
[المسألة] السادسة : [لا يجب أن يكون البيان كالمبين في القوة]
وهي أصل التي قبلها: ذهب الجمهور كما قاله الهندي إلى أن البيان لا يجب أن يكون كالمبين في القوة، بل يجوز أن يكون أدنى منه، فيقبل المظنون في بيان المعلوم، خلافا للكرخي، فإنه شرط المساواة، ولهذا لم يقبل خبر الأوساق مع قوله: "فيما سقت السماء العشر" وما نقله عن الجمهور صححه أبو الحسين في "المعتمد". فقال: بعد حكاية قول الكرخي: الصحيح جواز كون البيان والمبين معلومين أو أمارتين، وأن يكون المبين معلوما، وبيانه مظنونا، كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد ا هـ.

(3/75)


المسألة السابعة : لايجب أن يكون البيان كالمبين في الحكم على الصحيح
...
[المسألة] السابعة : لا يجب أن يكون البيان كالمبين في الحكم على الصحيح
وقال قوم: إذا كان المبين واجبا كان بيانه كذلك. قال أبو الحسين: فإن أرادوا أنه بيان لصفة شيء واجب فصحيح، وإن أرادوا أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح، وإن أرادوا أنه إذا كان المبين واجبا، كان بيانه واجبا، فغير صحيح، لأن بيان المجمل واجب، سواء تضمن فعلا واجبا أم لا.
وقال الهندي تبعا "للمحصول": نقل عن قوم أن البيان يجب أن يكون كالمبين في الحكم، والظاهر أن مرادهم أن المبين إذا كان واجبا، كان بيانه واجبا وإلا فلا، لا أنه بيان لشيء واجب، فإن ذلك مما لا يحتمله اللفظ، بل ينبو عنه، ولا أنه يدل على ما دل عليه المبين من الحكم، حتى يرد بأنه لم يكن أحدهما بيانا للآخر، لأنه إنما يكون أحد الأمرين بيانا للآخر إذا كان دالا على صفة مدلول الآخر، لأن ذلك ظاهر الفساد، ولا أنه يدل على وجوب ما تضمنه من صفات مدلول المبين أو ندبيته كما دل المبين على أصل وجوبه أو ندبيته. وهذا وإن كان أقرب الاحتمالين المذكورين، واختاره القاضي عبد الجبار في تأويل ما نقل عنه، لكنه أيضا باطل، لأن البيان2.
ـــــــ
2 هنا بياض في المخطوط.

(3/76)


[المسألة] الثامنة : هل يجوز أن يتقدم المبين على المجمل؟
فيه قولان حكاهما ابن القطان في أصوله. أحدهما: المنع، وخطأه. وأصحهما: الجواز. قال: ويجوز أن يرد مقترنا ومرتبا، فإن قيل: فإن التفسير يحتاج إلى مفسر، فإذا لم يكن مفسر لم يكن تفسير. قيل: إن الله سبحانه إذا علم مصلحتنا في ذلك جاز أن يقدم التفسير، فيجتمعان جميعا، كما يرد بعده.

(3/77)


المسألة التاسعة : قد يكون البيان منفصلاً
...
[لمسألة] التاسعة : قد يكون البيان منفصلاً
قد يكون البيان منفصلاً، وهو كثير، وقد يكون متصلا كتبيينه تعالى المراد من الخيط الأبيض والأسود بقوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

(3/77)


[المسألة] العاشرة
إذا صدر من الرسول عليه السلام فعل واقع موقع البيان في مكان أو زمان، لم يتقيد موجب البيان بهما.
وقال بعض الأصوليين يتقيد بالمكان، ولا يتخصص بالزمان، وأبعد قوم فقالوا: يتخصص بالزمان. حكاه ابن القشيري، ثم قال: فنقول: لا خلاف أن القول الصادر من الرسول عليه السلام لبيان الحكم لا يتضمن تخصيص الامتثال بمكان ولا زمان، فكذا الفعل.
وأما السرخسي من الحنفية فنقل عن أصحابنا التقييد بالزمان والمكان، وعن أصحابهم خلافه. قال: ولهذا كان إحرام النبي عليه السلام بالحج في أشهر الحج لا يقتضي التقييد بتلك الأشهر عندنا، خلافا للشافعي، وكذلك فعله ركعتي الطواف خلف المقام، فتحصل في المسألة مذاهب. والتحقيق أنهما يدخلان حيث يليق دخولهما كما في الوقوف بعرفة، والصلوات في أوقاتها.

(3/77)


[المسألة] الحادية عشرة
كل ما يحتاج إلى [تأخير البيان] من عام، ومجمل، ومجاز، ومشترك، وفعل متردد، ومطلق لتأخير بيانه حالان:
الأول : أن يؤخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة بما تضمنه الخطاب، وذلك كل ما كان واجبا على الفور، كالإيمان، ورد المغصوب، والودائع، لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع بناء على منع تكليف ما لا يطاق، ومن جوزه أجازه، لكن لا يقع. ولهذا نقل إجماع أرباب الشرائع على امتناعه.
والتعبير بالحاجة لم يستحسنه الأستاذ أبو إسحاق. وقال: هي عبارة تليق بمذهب المعتزلة القائلين بأن بالمؤمنين حاجة إلى التكليف. قال: فالعبارة الصحيحة على مذهبنا أن يقال: تأخير البيان عن وقت وجوب الفعل بالخطاب. انتهى. وهي مشاحة لفظية، وقد عرف أن المعني بالحاجة كما قال إمام الحرمين: توجه الطلب.
وتردد بعضهم: هل معنى التأخير عن وقت الحاجة تأخيره عن زمن يمكن فيه الفعل إلى زمن آخر ممكن؟ أو معناه تأخيره إلى وقت لا يمكن فيه الفعل كالظهر مثلا، هل يجب بيانها بمجرد دخول الوقت أو لا يجب إلا إذا ضاق وقتها؟ ا هـ.
والمراد الثاني كما بيناه أولا، وبه صرح أبو الحسين في "المعتمد" وغيره. وقال ابن السمعاني: لا خلاف بين الأمة في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل، ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل، لأن المكلف قد يؤخر النظر، وقد يخطئ إذا نظر، فهذان الضربان لا خلاف فيهما.
الحال الثاني : أن يؤخر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، وهو كل ما لم يكن وجوبه على الفور كالحج وغيره، وهو إما أن يكون لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة، أو له ظاهر وقد استعمل في خلافه، كتأخير بيان التخصيص، وتأخير بيان النسخ، وتأخير بيان الأسماء الشرعية إذا استعملت في غير المسميات الشرعية، كالصلاة مرادا بها الدعاء ونحوه.
وتأخير بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين ففي جواز تأخير ذلك مذاهب:
أحدها : الجواز مطلقا . قال ابن برهان: وعليه عامة علمائنا من الفقهاء

(3/78)


والمتكلمين، ونقله ابن فورك، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وابن السمعاني، وغيرهم عن ابن سريج، والإصطخري، وابن أبي هريرة، وابن خيران، والقفال، وابن القطان، والطبري، والشيخ أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر، وجزم به الخفاف في "الخصال". ونقله القاضي في "مختصر التقريب" عن الشافعي، وابن سريج، والطبري، والقفال، وعمموا القول في المجمل والعام في الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، وسائر ضروب الأخبار.
ونقله ابن القطان عن ابن خيران، وابن أبي هريرة. قال: وكان يحكى عن أبي العباس أنه قال في مسائل المطرز: إن قلت لك: إن هذا يجوز فما تعمل؟ وإن قلت لك: لا يجوز فما تعمل؟ واختاره الرازي، وأتباعه، وابن الحاجب، وقال ابن السمعاني في "القواطع": هو الذي ننصره. قال: ونصره عبد الجبار البغدادي في "العمد" وحكاه عن... وأبي هاشم، وفيه نظر.
فالذي نقله أبو الحسين في "المعتمد"1 عن هؤلاء المنع مطلقا. ونقله سليم عن المزني ونقله المازري عن ابن مطين، وأبي الفرج، وابن خويز منداد منهم. وقال الباجي: عليه أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر وابن خويز منداد، وحكاه القاضي عن مالك وإليه ذهب المحققون من الشافعية، ومنهم شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري، وأبو إسحاق الشيرازي، ومن أدلتهم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18- 19] وثم للتعقيب مع التراخي، فقد ضمن البيان بعد إلزام الاتباع، وقال في قصة نوح: {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وعمومه يتناول ابنه، ولهذا سأل عن إهلاكه، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الانبياء: 98] ولهذا سأل ابن الزبعرى عن عيسى والملائكة.
والثاني : المنع مطلقا، ولم يجوزا أن يقع ذلك إلا والبيان معه. ونقله القاضي أبو بكر، وابن فورك، والشيخ أبو إسحاق، وسليم، وابن السمعاني وغيرهم، عن أبي إسحاق المروزي، وأبي بكر الصيرفي، والقاضي أبي حامد المروزي، ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق أيضا قال القاضي: وهو قول المعتزلة، وكثير من الحنفية، وإليه صار ابن داود الظاهري، ونقله ابن القشيري عن داود، ونقله المازري، والباجي عن الأبهري منهم، وقال القاضي عبد الوهاب: قالت المعتزلة والحنفية: لا بد أن
ـــــــ
1 انظر المعتمد 1/343.

(3/79)


يكون الخطاب متصلا بالبيان، أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه كعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض. قال: ووافقهم بعض المالكية والشافعية.
واعلم أن القاضي عبر عن هذا المذهب بقوله: وأوجبوا أن لا ترد لفظة إلا ويقترن بها بيانها، إذا لم تكن مستقلة بنفسها. ا هـ. وظاهر هذا التقييد أنهم يجوزون عند الاستقلال. وفيه نظر.
واعلم أن نقل هؤلاء الجماعة المنع عن أبي بكر الصيرفي هو المشهور، وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه: هذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما، فنزل به الشيخ أبو الحسن الأشعري ضيفا، فناظره في هذا، واستنزله عن هذه المقالة إلى مذهب الشافعي وسائر المتشيعة، ولهذا نقل إمام الحرمين مسألة اعتقاد العموم موافقة للجمهور.
قلت: وقد راجعت كتابه المسمى "بالدلائل والأعلام" وهو مجلد كبير، فرأيته فصل القول في ذلك بين تأخير بيان المجمل فيجوز، وتأخير تخصيص العموم ونحوه فيمتنع. وها أنا أسوق عبارته لتقف على صواب قوله. قال ما نصه: القول في الخطاب المجمل الذي لا يعقل من ظاهره مراده. قال أبو بكر: خطاب لا يعقل من نفس اللفظ بيانه فغير لازم، حتى يقع البيان، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] لا سبيل إلى معرفتها من ظاهر الاسم، وحينئذ فوقت التكليف وقت البيان، وهذا يجوز أن يتأخر بيانه عن وقت الخطاب إلى وقت الإلزام، ويكون فائدة الخطاب الإعلام بأنه أوجب الصلاة التي سيبينها يلزمهم عند البيان. قال: وليس هذا تأخير البيان، لأنهم لا يعرفون ما يلزمهم، لأنهم لا يقدرون حينئذ على اعتقاد خلاف المراد.
ثم قال: وأما الخطاب الذي تدرك حقيقته وحده من ظاهر الاسم، فلا يحتاج إلى بيان أكثر من لفظه إلا أن يقوم دليل على إرادة بعضه أو فعله في حال دون حال، فهذا لا يجوز أن يتأخر بيانه، لأنه إن أخره كان الكلام مطلقا، ومراده الشرط، فيوجب اعتقاده عموما أو اقتضاء أمره مبادرا، فيكون قد أمر بما يوجب ظاهره خلاف مراده، وهو لا يجوز، لما فيه من اللبس، ثم ذكر الدلائل على المنع.
ثم قال: وزعم قوم أنه يجوز تأخير بيان بعض المنزلات عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، كما لو أمر بقطع السارق، فيجوز تأخير بيان الحد المقطوع إلى أن يحضر سارق يحتاج إلى قطعه، وهذه الطائفة من الشافعيين وغيرهم. قال أبو بكر: لا يقدر

(3/80)


أحد منهم أن يحكي عن الشافعي نصا في شيء من كتبه، ولا يخبر عنه أنه قال: إن البيان يجوز تأخيره بل قد حكى عنه المزني أنه لا يجوز تأخيره في مسائل، ولا إذا بقي تأخير، وهذا أصل من أصول الشافعي، فيستدل على قوله: أنه غير قابل لما ينتقض من أصله، فإذا لم يكن متصلا لأصل له، ولا تصح حكايته عنه، فيضاف إليه، فكيف يجوز أن يجعل ذلك له.
ثم قال وجماعة من الألباء: أنه لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب عام، ليس في ظاهره ما يوجب التوقف ولا التراخي ولا البعض، ويريد التراخي من الوقت، أو بعض ما أظهر اسمه ويعريه من دليل يدل به على مراده. انتهى ملخصا.
واعلم أن الصيرفي إنما قال ذلك بناء على اعتقاده أن الصيغة العامة إذا وردت يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها، ويلزم من رجوعه عن منع التأخير فيما نقله الأستاذ عنه رجوعه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة، وما ادعاه من أن الشافعي ليس له نص في ذلك ينازعه فيه قول الشاشي في كتابه، وقد ذكرنا من قول الشافعي ما يدل على الجواب في غير هذا الكتاب.
وقال ابن القطان: وقد استدل الشافعي بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [لأنفال: 41] قال الشافعي: فلما أعطى السلب للقاتل علمنا أن المراد بالآية بعضهم دون بعض. وقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فلما أعطى النبي عليه السلام بني هاشم وبني المطلب ومنع غيرهم دل على أنه أريد بعضهم دون بعض. وكذلك أيضا قول الشافعي روي عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن المزابنة، ثم إن قوما من الأنصار شكوا إلى النبي عليه السلام، فرخص لهم في العرايا1. فأطلق النهي، ثم خصه في ثاني الحال، وهذا هو تأخير البيان.
قال: وبه كان أبو بكر يعني الصيرفي - يذكر أن المزني يذهب إلى أن البيان يتأخر، حتى أخرج لنا ابن أبي هريرة كلام المزني في "المنثور" أن البيان لا يجوز أن يتأخر عن وقت الحاجة، فدل على أن المزني كان يذهب إلى ما قلنا.
وقال ابن أبي هريرة: جرت هذه المسألة بين أبي بكر وابن خيران، فرأيت ابن خيران فيها ضعيفا. فقلت: لأبي بكر: مقصدنا من هذه المسألة المعنى لا الاسم فإذا
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب البيوع، باب: بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام. برقم 2173. ورواه مسلم، كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، برقم 1539.

(3/81)


حصل المعنى فسواء سميته تأخير البيان أو لم تسمه، وذلك أنا... 1
مثل أن يجوز أن يقول لنا: اقطعوا السارق، ويكون المراد منه البعض، ولا يبينه في الحال، ويبينه في ثانيه. ولا نسميه تأخير بيان.
ثم ذكر أنه عكس ذلك عليه في تأخير بيان المجمل، وما يقع من البيان بفعل النبي عليه السلام، والنسخ وهو أن النسخ سماه الناس بهذا الاسم. فخبرني أراد الله منا في الابتداء الصلاة إلى بيت المقدس أبدا ثم رفعه، أو أراد منا في الابتداء إلى زمان؟ فإن قلت: مؤبدا، أخلفت، وإن قلت: مقيدا قيل لك: فأي شيء نسخ عنا؟ فإن قلت: سمي هذا نسخا وهو في الحقيقة أمر ثان، لأنه انكشف عنا ما لم يكن ظهر لنا. قلنا: وهذا بعينه موجود في التخصيص.
وهنا تنبيه آخر يتعلق بمذهب المعتزلة، وهو أن الجماهير أطلقوا النقل عنهم بالمنع، وذكر بعضهم أنهم استثنوا النسخ، وجوزوا تأخير بيانه. وبذلك صرح أبو الحسين عنهم في "المعتمد". ولهذا ادعى الغزالي في "المستصفى"، وابن برهان في "الوجيز"، والسمرقندي من الحنفية في "الميزان" الاتفاق على جواز تأخير بيان النسخ. قال الغزالي: بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة، فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة، ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرار الأفعال على الدوام، ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام، لكن يشترط أن لا يرد نسخ. والغزالي أخذ ذلك من قول إمامه. وقد ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف، ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول. قال: وليس لهم عن هذا جواب.
والإمام أخذه من القاضي، فإنه قال: وما استدل به أصحابنا أن قالوا: النسخ تخصيص في الزمان، والتخصيص في الأعيان، ثم يجوز أن ترد اللفظة مطلقة في الأزمان والمراد بعضها، فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان. قال القاضي: ولا يستقيم منا الاستدلال بذلك، فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عندي وعند معظم المحققين من أصحابي، وإنما هو رفع.
والمذهب الثالث : يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره، وهو قول أبي بكر الصيرفي فيما سقناه، وكذا حكاه القاضيان: أبو الطيب وعبد الوهاب، وحكاه ابن
ـــــــ
1 بياض في المخطوط.

(3/82)


الصباغ في "العدة" عن الصيرفي وأبي حامد المروروذي، وكذا أبو الحسين بن القطان، فإنه قال: لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 77] وكذلك لا يختلفون في أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي عليه السلام، والفعل يتأخر عن القول، لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل، وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] فقد اختلفوا فيه، فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه إلى هذا كما في مذهب أبي بكر الصيرفي. ا هـ.
وكذلك ابن فورك، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فإنهما حكيا اتفاق أصحابنا على جواز تأخير بيان المجمل، ثم حكى خلافهم في تأخير اللفظ الذي يوجب تخصيص العموم أو تأويل الظاهر، ونسبه القاضي أبو الطيب لأبي حامد المروروذي.
وحكاه أبو بكر الرازي وصاحب "المعتمد" عن أبي الحسن الكرخي زاد صاحب "الميزان": والجصاص. قال أبو بكر الرازي: وهو عندي مذهب أصحابنا لأنهم يجعلون الزيادة على النص نسخا، إذا تراخت عنه، ولا يجيزونها إلا بمثل ما يجوز به النسخ. ولو جاز عندهم تأخير البيان في مثله لما كانت الزيادة نسخا، بل بيانا، وقد أجازوا هذه الزيادة في المجمل بالقياس وخبر الواحد، ولهذا أسقطوا النية في الصوم، ولم يوجب عندهم ذلك نسخه، لأنها على وجه البيان.
وقال السرخسي منهم: قال علماؤنا: دليل الخصوص إذا اقترن بالعموم كان بيانا وإذا تأخر لم يكن بيانا، بل نسخا. وقال الشافعي: بيان. وأصل الخلاف أن مطلق العام قطعي كالخاص، وعنده فيكون دليل الخصوص بيان التفسير لا بيان التغيير. ونسبه ابن برهان في "الوجيز" وابن السمعاني لأبي الحسين البصري، والذي في "المعتمد" تفصيل آخر، ونقله ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار، والذي في "المعتمد" عنه المنع فيهما.
والرابع : يجوز تأخير بيان العموم ، لأنه قبل البيان مفهوم، ولا يجوز تأخير بيان المجمل، لأنه قبل البيان غير مفهوم، وحكاه الماوردي، والروياني وجها لأصحابنا. وقال ابن السمعاني: وبه قال بعض أصحاب الشافعي. ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن عبد الجبار، وأما المازري فحكى هذا المذهب عن بعضهم، ثم قال: وكنت أصوبه. وقد قال القاضي عبد الوهاب في بعض مصنفاته: لم يقل به أحد، وهذا كله مردود بما ذكرنا.

(3/83)


والخامس : يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد. قال ابن السمعاني: هكذا حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة، وعندي أن مذهب الكرخي هو ما قدمنا قبل. قال الماوردي: ولم يقل بهذا المذهب أحد من أصحاب الشافعي. ا هـ.
وحكاه القاضي في "مختصر التقريب"، وابن القشيري، والشيخ أبو إسحاق، والغزالي، وأبو الحسين في "المعتمد" إلا أنه لم يتعرض للنهي.
والسادس : عكسه، حكاه الشيخ أبو إسحاق أيضا، ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله، فإن موضوع المسألة الخطاب التكليفي، فلا يذكر فيهما الأخبار، وفيه نظر.
والسابع : يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره، وحكاه أبو الحسين في "المعتمد"، وأبو علي، وابنه، وعبد الجبار.
والثامن: التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك . قال الإمام فخر الدين: والأسماء المتواطئة جاز تأخير البيان، لأنه لا محذور من تأخيره. وأما ما له ظاهر قد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه جاز تأخير بيان التفصيل دون الإجمال، فإنه يشترط وجوده عند الخطاب، حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ، فنقول مثلا: المراد من هذا العام هو الخاص أو المطلق أو المقيد أو النكرة المعين، أو هذا الحكم سينسخ، وأما البيان التفصيلي، وهو المشخص بكذا مثلا فليس بشرط.
وقد نقل الإمام فخر الدين وأتباعه هذا المذهب عن أبي الحسين البصري، والدقاق، والقفال، وأبي إسحاق ; فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح: وأما الدقاق فسبق النقل عنه بموافقة المعتزلة.
وأما القفال فالظاهر أنه الشاشي، وقد سبق النقل عنه بموافقة الجمهور، وقد رأيت في كتابه التصريح بذلك. قال ما لفظه: البيان للعام، والمجمل يجوز أن يتأخر عنه، وأن يقارنه، وأن يتقدم من الأمور ما يستدل به على المراد مما يحتاج إلى بيانه، وذلك كله على حسب ما يقع التعبد به. ا هـ.
وأما أبو إسحاق. فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام فقد سبق النقل عنه بموافقة المعتزلة على المنع، لكن حكى القاضي عبد الوهاب عنه المذهب الثالث. وقال الهندي عن أبي إسحاق المروزي روايتان، وإن كان الشيرازي فقد صحح في "شرح اللمع" الجواز مطلقا.
والتاسع : وحكاه ابن السمعاني عن أبي زيد أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا

(3/84)


ولا تغييرا جاز مقارنا وطارئا، وإن كان بيان تغيير جاز مقارنا، ولا يجوز طارئا بحال، ثم ذكر أن بيان الاستثناء بيان تغيير. قال: والخلاف الذي بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص، فعندنا هو من قبيل الاستثناء، فلا يجوز إلا مقارنا وعند الشافعي هو من قبيل بيان المجمل فيصح مقارنا وطارئا. قال: ولهذا قال علماؤنا فيمن أوصى له بخاتم، ولعمرو بفصه بكلام متصل: إن الفص كله لصاحب الفص، يكون تخصيصه بيانا كالاستثناء، ولو فصل فقال: أوصيت لهذا بفصه، كان الفصل بين الأول [والثاني]، ولا يصير بيانا عند الفصل. قال: وأما بيان المجمل منفصلا فجائز، ألا ترى أن أصحابنا قالوا فيمن أقر أن لفلان عليه شيئا، يكون البيان إليه متصلا أو منفصلا.
فائدة
ذكر المازري من فوائد الخلاف في هذه المسألة أن خبر الواحد إذا ورد متأخرا عن عموم الكتاب رافع لبعض مقتضاه، كما في قوله عليه السلام يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" 1 على أن السلب للقاتل.
التفريع
القائلون بجواز التأخير اختلفوا في جواز التدريج بالبيان، بأن يبين تخصيصا بعد تخصيص، على مذاهب.
أحدهما : يجوز ذلك في الثاني والثالث وما بعدهما كالأول، كما يجوز تأخير أصل البيان عن اللفظ، كما لو قال: اقتلوا المشركين عند انسلاخ الشهر، ثم قال بعد زمان: إذا كانوا حربيين، ثم قال: إذا كانوا رجالا، وهذا قول الأكثرين، ومنهم القاضي، لأن الدال على جواز التأخير دال على جواز التدريج، وعلى هذا فيجيء ما سبق في العام من أن المجتهد يحكم باللزوم إلى أي زمن.
والثاني : المنع من ذلك في الثاني وما بعده، وأن الاقتصار على الأول يشعر بانحصار التخصيص فيه، لأن المخاطب قصد بيان المشكل، فاقتضى الحال إكماله.
وأجيب بأن الإبهام في تأخير البيان أكثر، ولم يمتنع.
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب فرض الخمس، باب: من لم خمس الأسلاب، ومن قتل قتيلا فله سلبه، برقم 3142، وفي كتاب المغازي، باب: قول الله تعالى :{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} برقم 4322. ورواه مسلم 3/1370 كتاب الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، برقم 1751.

(3/85)


والثالث : يجوز ذلك في المجمل، ولا يجوز في العموم، كالخلاف في البيان الأول.
والرابع : يجوز إذا أعلم صاحب الشريعة المكلف أن فيه بيانا متوقعا، فأما إذا اتصل البيان بالمكلفين من غير إشعار وإعلام في موقع البيان، فلا يترتب بيان آخر.
وأما المانعون للتأخير فاختلفوا في مسألتين:
إحداهما : أنه هل يجوز للرسول عليه السلام تأخير تبليغ ما أوحي إليه من الأحكام إلى وقت الحاجة؟ فذهب أكثرهم إلى الجواز متمسكين بأن وجوب معرفتها إنما هو لوجوب العمل، ولهذا لا تجب معرفة الأحكام التي لا يجب العمل بها، ولا عمل قبل الوقت، فلا يجب تبليغها. ومنعه الأقلون متمسكين بقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ورد بأنه ليس للفور، وبأن المراد: القرآن، والظاهر أنه لا فرق.
وحكى صاحب المصادر عن عبد الجبار أنه إن كان المنزل قرآنا وجب تبليغه في الحال، لأن المقصود انتشاره وإبلاغه، وإن كان غير قرآن لم يجب تعجيل التبليغ، ورده لأن حال القرآن وغيره فيما أوحي إليه سواء.
الثانية : في جواز سماع المخصوص بدون مخصصه، فقال أكثرهم: يجوز، ومنعه أبو الهذيل والجبائي في المخصص السمعي دون العقلي، وقد سبقت المسألة في باب العموم. وليس المسألة السابقة فردا من أفراد هذه، لأنا إذا فرعنا على المنع، فنحن مانعون من ورود العام إلا ومعه الخاص، وتلك المسألة في تبليغ الحكم من حيث الجملة، سواء العام المقارن للخاص، والمطلق المقارن للمقيد، والمجمل المقارن للمميز، والمبين بنفسه.
مسألة
حيث وجب البيان والإسماع فإنما يجب لمن أريد إفهامه قطعا لئلا يلزم التكليف بما لا سبيل إلى معرفته، ولا يجب، إذ لا تعلق له بالخطاب، وكل منها قد لا يراد به العمل، وقد يراد. والأول والثاني كالعلماء بالنسبة إلى خطاب الصلاة وأحكام الحيض.
والثالث : كأمتنا بالنسبة إلى الملل الماضية.
والرابع : كالنساء بالنسبة إلى خطاب أحكام الحيض.

(3/86)


مسألة
إذا تعارض دليلان، وأحدهما بيان في شيء، مجمل في آخر، والآخر كذلك، مثاله حديث: "فيما سقت السماء العشر" بيان في الإخراج، مجمل في المقدار. وحديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 1 بيان في المقدار، مجمل في الإخراج فتمسك أبو حنيفة بالأول في عدم اعتبار النصاب وتمسك الشافعي بالثاني في اعتباره. قال الماوردي: ومذهبنا مترجح، فإن بيان المقدار من خبرنا قاض على إجمال المقدار من خبرهم، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خبرنا.
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.

(3/87)