البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية كتاب النسخ
مدخل
*
...
كتاب النسخ
والنظر فيه بحسب اللغة والاصطلاح. أما في اللغة: فيطلق ويراد
به الإبطال والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، والريح آثار
القدم. ومنه تناسخ القرون، وعليه اقتصر العسكري. ويطلق ويراد
به النقل والتحويل بعد الثبوت، ومنه: نسخت الكتاب أي نقلته.
وهو المعنى بقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. ومنه تناسخ الأرواح
والمواريث. وسمي قوم من المبتدعة المتناسخة. لأنهم زعموا أن
الأرواح تنتقل من هيكل إلى هيكل، ومن قالب إلى قالب.
ثم اختلفوا، فذهب الأكثرون كما قاله الهندي إلى أنه حقيقة في
الإزالة مجاز في النقل. وعليه أبو الحسن البصري، والرازي،
ونقله ابن برهان عن عبد الله البصري.
وذهب القفال الشاشي إلى أنه حقيقة في النقل، وذهب أبو بكر،
وعبد الوهاب، والغزالي إلى أنه مشترك بينهما لفظا لاستعماله
فيهما، وذهب ابن المنير في "شرح البرهان" إلى أنه بالاشتراك
المعنوي، وهو التواطؤ، لأن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب
قدرا مشتركا، وهو الرفع، وهو في نسخ الظل بين، لأنه زال بضده.
وفي نسخ الكتاب مقدر من حيث إن الكلام المنقول بالكتابة لم يكن
مستفادا إلا من الأصل، فكان للأصل بالإفادة خصوصية، فإذا نسخت
الأصل ارتفعت تلك الخصوصية، وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في
مسمى الرفع.
وقيل: القدر المشترك بينهما هو التغيير، وقد صرح به الجوهري،
ونبه صاحب "المعتمد" على أن نسخت الكتاب ليس من باب النقل
والتحويل، لأن المكتوب لم ينتقل على الحقيقة، بل يشبه المنقول.
ثم قيل: الخلاف لفظي. وقال ابن برهان: بل معنوي يبنى عليه جواز
النسخ بلا بدل، فمن قال: حقيقة في الإزالة مجاز في النقل جوزه،
ومن قال: حقيقة فيهما منعه.
وقال أبو الحسين في "المعتمد": فأما استعمال النسخ في الشرع
فقال أبو عبد الله البصري: هو منقول إلى معنى في الشرع، ولا
يجري عليه على سبيل التشبيه بالمعنى اللغوي، لأنه يفيد في
الشرع معنى مميزا يجري مجرى اسم الصلاة، وقال الشيخ أبو هاشم:
إنه يفيد معنى في الشرع على طريق التشبيه باللغة، وذلك أنه
يفيد إزالة مثل
(3/144)
الحكم المتقدم، كما يفيد في اللغة الإزالة،
إلا أن الشرع قصره على إزالة مثل الحكم الثابت بطريق شرعي على
وجه مخصوص، يجري مجرى قولنا: "دابة" في أنه غير منقول، لكنه
مخصوص ببعض ما يدب. ا هـ. قال ابن الصباغ: ذهب بعض المتكلمين
إلى أنه منقول من اللغة إلى الشرع، كما نقل اسم الصلاة،
والأظهر أنه مخصوص في الشرع برفع مثل الحكم، وإن كان الرفع
عاما كما خصصت الدابة بالاسم، وإن كان غيرها يدب عليها.
وأما في الاصطلاح، فقد اختلف في حده، والمختار أنه رفع الحكم
الشرعي بخطاب. والمراد بالحكم ما يحصل على المكلف بعد أن لم
يكن، فلا يرد أن القديم لا يرفع. وحاصله يرجع إلى التعلق، وهو
حادث، وفيه نظر إذ نفسه ليس بحكم، والمراد ارتفاع دوام الحكم
بمعنى تكرره، لا ارتفاع الحكم الذي هو الخطاب، لأن ما ثبت قدمه
استحال عدمه. وتقييده بالشرعي يخرج العقلي، كالمباح الثابت
بالبراءة الأصلية عند القائل به، فإنه لو حرم فردا من تلك
الأفراد لم يسم نسخا، وقلنا. بخطاب، ليعم وجوه الأدلة، وليخرج
الإجماع والقياس، إذ لا يتصور النسخ فيهما، ولا بهما، وليخرج
ارتفاعه بالموت ونحوه، فإنه لا يسمى نسخا، وكمن سقط رجلاه،
فإنه لا يقال: نسخ عنه غسل الرجلين. وما قاله الإمام فخر الدين
في "المحصول" من أنه نسخ ضعيف.
ومنهم من زاد قيد "التراخي" ليخرج المتصل بالحكم، كالاستثناء
والشرط، والصفة، لأنه بيان لغاية الحكم، ولا يسمى نسخا،
لاستحالة أن يكون آخر الكلام قد منع أوله. وقولنا: "رفع حكم"
يغني عن هذا القيد، إذ ليس من ذلك رفع الحكم، لأن الرفع إنما
يكون بعد الثبوت، وليس شيء منها ثبوت الحكم، لأنها تخصيصات.
وهو يبين أنه غير مراد. وقولنا: بخطاب أي بحيث لو لم يرد
الثاني، لكان حكم الأول باقيا.
وما ذكرناه من كون النسخ رفعا هو مختار الصيرفي، والقاضي أبي
بكر، والشيخ أبي إسحاق، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن
الإبياري، وهو المختار. وقد أنكره أكثر الفقهاء بناء على أن
الحكم راجع إلى كلام الله. وهو قديم، والقديم لا يرفع ولا
يزال. وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم النسبي لا ذاته ولا تعلقه
الذاتي.
وقال بعض شارحي "البرهان": الحق ما ذكره القاضي من أنه الرفع،
ولا يلزمه ما ألزمه الإمام من التناقض في التعلق. فإن القاضي
بنى على أصلين: أحدهما:
(3/145)
أن الأمر يفارق الإرادة.
وثانيهما : أن الكلام القديم يتعلق بمتعلقات مختلفة على
الاتحاد في نفسه، والاختلاف راجع إلى التعلق، فالأمر عبارة عن
الطلب القائم بذات الباري سبحانه، فقد يتعلق بالمطلوب على
الدوام قطعا، وتكون الإرادة غير ذلك، وقد يتعلق بالمطلوب نفسه
في بعض الأزمان، ويكون هذا التعلق بيانا للإرادة والعلم، أنه
لم يرد الدوام وإنما أريد بعض الأزمنة، ولم يتعلق العلم
بالدوام، ولا تناقض في تعلق الطلب بمتعلق واحد على صفتين في
وقتين، مطلوبا على التأبيد في الوقت، وفي بعض الأزمان في وقت
آخر لم يختلف. وإنما اختلف التعلق والزمان. وإنما يستحيل هذا
أن لو كان المخاطب يفهم في وقت واحد، ولا استحالة في وقتين،
فيرجع حاصل النسخ إلى بيان الإرادة والعلم.
وحده الفقهاء بأنه الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع
التأخير عن مورده، وألزموا عليه كون النسخ من باب التخصيص،
فيصح أن ينسخ بما به يخصص، فينسخ بدليل العقل، وبالإجماع، وهو
لا يجوز.
وإلى كونه بيانا ذهب الأستاذ أبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب،
وسليم، وإمام الحرمين، والإمام فخر الدين، وغيرهم. وحكاه في
"المعالم" عن أكثر العلماء. واختاره القرافي1. وهؤلاء يجعلون
النسخ تخصيصا وبيانا، أي أن الخطاب الثاني بين أن الأزمنة بعده
لم يكن ثبوت الحكم فيها مرادا من الخطاب الأول كما أن التخصيص.
في الأعيان كذلك.
وأوردوا على من حده بالرفع بأن الرافع الحادث إن وجد حال وجود
الأول لم ينافه، وإن وجد حال عدمه لم يعدمه، لامتناع إعدام
المعدوم. وأجيب بأن الرفع كالكسر والارتفاع كالانكسار، ولذلك
يجعلون الرفع كفسخ العقود.
وقالوا أيضا: إنما عدلنا إلى البيان احترازا عن تعارض الرافع
والدافع، والرفع ليس أولى من الدفع، وهذا منهم بناء على أن
الرفع والدفع من مقتضى اللفظ وليس كذلك، بل الألفاظ دلائل على
إرادة الشارع، والشارع له المحو والإثبات.
واحتج القائلون بالثاني أيضا بأن علم الله إما أن يتعلق بدوام
الحكم أبدا أو إلى وقت معين. وعلى كلا التقديرين فلا يمكن
الرفع. أما إذا تعلق بالدوام فلأنه يستحيل رفعه، لاستحالة وقوع
خلاف معلومه. وأما على التقدير الثاني وهو أن يعلم انتهاؤه إلى
ـــــــ
1 انظر شرح تنقيح الفصول ص: 302.
(3/146)
الوقت، وإذا كان الانتهاء واجبا في ذلك لم
يحصل الرفع الثاني لأنه قد وجب ارتفاعه. وأجيب بأنا لا نسلم
أنه إذا تعلق العلم بالانتهاء في ذلك الوقت يمتنع الرفع، لجواز
أن يكون العلم تعلق بالانتهاء في ذلك الوقت بالحادث، فإن العلم
يتعلق على ما هو به.
وتحرير هذا الخلاف أنهم اتفقوا على أن الحكم السابق له انعدام.
وتحقق انعدامه، لانعدام متعلقه، لا لانعدام ذات الحكم. واتفقوا
على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد وأن يكون منافيا للأول، وأن
عنده يتحقق عدم الأول. ثم اختلفوا في عدم الأول هل هو مضاف إلى
وجود الحكم المتأخر؟ فيقال: إنما ارتفع الأول لوجود المتأخر
اللاحق، أو لا يضاف إليه بل يقال: الحكم الأول انتهى، لأنه كان
في نفس الأمر مغيا إلى غاية معلومة لله، وقد علمناها بالحكم
اللاحق المتأخر، فإذن النزاع في استناد عدم السابق إلى وجود
اللاحق، فالأستاذ يقول: الحكم في نفس الأمر لم يكن له صلاحية
الدوام، لكونه مغيا إلى غاية معلومة معينة لا نعرفها إلا بعد
ورود الناسخ، فيكون النسخ بيانا، وبهذا يندفع وهم من قال: إن
النزاع لفظي.
وقدر ابن المنير كونه لفظا بأن الفقهاء يثبتون رفعا مع البيان،
والأصوليون يثبتون بيانا مع الرفع، وذلك لأن الفقهاء لا
ينازعون في أن الحكم المنسوخ كان قبل النسخ ثابتا وهو بعد
النسخ غير ثابت. وإنما أنكروا رفعا يناقض الإثبات ويجامعه.
والأصوليون لا ينازعون في أن المكلفين كانوا على ظن بأن الحكم
لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم النسخ، ثم
بالنسخ تبين لهم أن الله تعالى أراد من الأول نسخه في الزمان
المخصوص، لأن الإرادة قديمة لا بد منها اتفاقا فلا يبقى للخلاف
محط. وقول ابن الحاجب: إن انتهاء غاية الحكم ينافي بقاءه، ولا
نعني بالرفع إلا ذلك مردود، فإن هذا ليس برافع.
ومنهم من جعل الخلاف هنا مبنيا على اختلاف المتكلمين في أن
زوال الأعراض بالذات أو بالضد. فمن قال ببقائها قال: إنما
ينعدم الضد المتقدم لطريان الطارئ، ولولاه لبقي، ومن لم يقل
ببقائها قال: إنه ينعدم بنفسه ثم يحدث الضد الطارئ وليس له
تأثير في إعدام الضد الأول.
وقال إلكيا: زعم القاضي أن النسخ رفع، وإنما يستقيم إذا جعلنا
النص الأول موجبا حقيقة تاما، والموجب هو الله تعالى، والوجوب
باقتضائه، فقد تبين انتهاء الأول في علم الله بالنسخ بأمر
يخالف الأمر الأول، ويستحيل تقدير وضع أمرين متناقضين في زمان
واحد.
(3/147)
واختار الإمام أن النسخ ظهور ما ينافي
اشتراط استمرار الحكم بقوله: افعل من حيث اللفظ للطلب، ولكنه
مشروط بأن لا ينهى عنه. ويصح منه أن يقول: افعل إن لم أنهك
عنه. وقال: اخترت على هذا الرأي النسخ قبل مضي إمكان الفعل،
وعلى ما ذكره الأولون لا يجوز، فإنه لا ثبوت قبل الإمكان.
فقيل: للإمام، فهذا من قبيل الاستثناء؟ فقال: الاستثناء هو
المقرون باللفظ، والنسخ متراخ.
وهو على هذا القول يرى ظهور المنافي بالإضافة إلى اعتقادنا
التأبيد فيه، وعلى رأي الفقهاء: النسخ لا يصادف الأمر، بل
يصادف استمراره، وعلى رأي الآخرين لا يصادف لا البقاء ولا
الأمر، ولكن يبقى الحكم في الاستقبال. وهو إنما يصادف ما
اعتقدناه فيه، فيرفع اعتقادنا، والبقاء ظاهر في اعتقادنا، وهو
في حق الله انتهاء. فعلى هذا الناسخ لا يضاد الأمر الأول، ولا
تتصور المضادة في إمضاء حكم الله تعالى إلا بطريق البداء، وهو
غير جائز عليه.
وحدته المعتزلة بالخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص
المتقدم زائل، وذكروا مثلا ليحترزوا به عن الرفع، وجوزوا نسخ
العبادة قبل التمكن من فعلها.
وقال العبادي من أصحابنا في كتاب "الزيادات": اختلف في النسخ
فقيل: إزالة فرض العمل في المستقبل. وقيل: بيان انتهاء مدة
العبادة. وقيل: انتهاء مدة التكليف على ضرب من التراخي بدليل
لولاه لوجب استرساله على عدم العموم. وقيل: قطع حكم توهم
دوامه. قيل: وهذا أصل العبارات على أصل الشافعي، لأنه يتناول
ما قبل العمل وبعده. ا هـ.
والحد الثاني حكاه إمام الحرمين عن القاضي أبي الطيب، وضعفه
بأن النسخ يجري في غير العبادات. وقال الشافعي في "الأم":
الناسخ من القرآن الأمر نزله الله بعد الأمر بخلافه، كما حولت
القبلة. وقال في "الرسالة"1: وهكذا كل ما نسخه الله تعالى، وهي
نسخه ترك فرضه، وكان حقا في وقته، وتركه حق إذا نسخه، فيكون من
أدرك فرضه مطيعا باتباع الفرض الناسخ له.
قال ابن القطان: وجملة الكلام في النسخ عندنا هو أن يأمر بأمر
على الإطلاق
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 122
(3/148)
في جميع الأزمنة، ويريد منه بعضها ولا يكشف
ذلك. ثم يأمر بأمر ثان، فيعلم أنه أراد به بعض الأزمنة. قال:
ولا فرق بين النسخ والتخصيص على هذا، إلا في خصلة واحدة، وهي
أن التخصيص قد يجوز أن يكون مقترنا مع الأمر، ولا يجوز ذلك في
النسخ. انتهى. والحق أن النسخ للحكم كالفسخ للعقد، كالكسر
للصحيح، والخلاف في أن الفسخ رفع للعقد من أصله أو من حينه لا
يجيء هنا.
(3/149)
تنبيه
[الفرق بين التخصيص والنسخ]
سبق في باب التخصيص تفريق بعضهم بينهما، بأن التخصيص يرفع بعض
الحكم، والنسخ يرفع الكل. وهو ضعيف، بل قد يكون النسخ رافعا
للبعض، لأن الشارع إذا أثبت الحكم في جميع أفراد العام، ثم رفع
بعضه يكون نسخا لذلك البعض، كما ينسخ الكل. ومثله بعضهم
بالعرايا. وإن كان الأصحاب جعلوه من التخصيص، لأن نهيه عن بيع
الطعام بالطعام عام، ثم رفع بعضه بالعرايا، وقوله: "أينقص
الرطب إذا جف" دليل على أن قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام"
إيراد على عمومه تمرا أو غير تمر، فحينئذ تكون إباحة العرايا
نسخا لذلك البعض، لا تخصيصا، لأن التخصيص إخراج بعض ما تناوله
اللفظ، ولا يكون مندرجا تحت إرادة اللافظ ابتداء، وبه يحصل
الفرق بين النسخ والتخصيص.
(3/149)
|