البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل : في أركان
النسخ
مدخل
...
فصل [في أركان النسخ]
أركان النسخ ثلاثة: الناسخ، والمنسوخ، والمنسوخ عنه. أما
الناسخ فهو الله تعالى على الحقيقة، وتسمية خطابه الدال على
النسخ ناسخا توسع، إذ به يقع النسخ، كما يقال: صوم رمضان ناسخ
لصوم عاشوراء، والمنسوخ هو المزال، وهو الحكم المرتفع أو
المبين على الخلاف والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة.
(3/150)
مسألة : [النسخ لا يستلزم البداء]
ولا يستلزم النسخ البداء إذ النسخ بأمر، والبداء الظهور بعد أن
لم يكن، خلافا للرافضة واليهود، فإنهم ادعوا استلزامه. فلزمهم
التسوية بينهما في الجواز وعدمه، فقالت اليهود: لا يجوز النسخ
عليه لامتناع البداء عليه. وقالت الرافضة: يجوز البداء عليه
لجواز النسخ منه. والكل كفر. والثاني أغلظ إذ يمكن حمل الأول
على وجه لا يكفر بأن يجعل التعبد بكل شرع مغيا إلى ظهور آخر.
وبهذا المعنى أنكره بعض المسلمين. وقال سليم في "التقريب":
مذهب الأشعرية في النسخ يؤدي إلى جواز البداء، لأن اللفظ
بصيغته عندهم لا يدل على استغراق الأعيان والأزمان، حتى يقترن
به دليل عليه يخصه، ولفظ العموم في الأزمان لا يقترن به ما
ينسخ بعضه، لأن النسخ لا يكون إلا بدليل منفصل عن المنسوخ،
متأخر عنه، فلا بد في قوله: أن يدل دليل أنه قصد إيجاب
العبادات في عموم الأوقات، ثم يدل دليل آخر بعده على النسخ. ا
هـ.
وقال إلكيا: لا يستلزم البداء، لأن النسخ هو النص الدال على أن
مثل الثابت زائل في الاستقبال، وذلك يقتضي أن الفعل المأمور به
غير المنهي عنه، وأن وقت النهي عنه غير وقت المأمور به. وبنوا
على هذا الأصل أن نسخ الفعل قبل وقت إمكانه غير جائز. وأما
الأشعرية فجوزوه بناء على أن الذي أمر به لمصلحة، والذي نهى
عنه لمفسدة، لا أنه أمر به ونهى عنه عبثا، وتقدير النهي بعد
الأمر قبل إمكان الأول ضرب من البداء، وغاية ما تمسكوا به أن
الأمر بالفعل مشروط ببقائه أو مشروط
(3/150)
بانتفاء النهي. فإذا نهي عنه فقد زال الشرط
بعد نهيه عن الفعل غير الوجه الذي أمر به. وليس كما إذا قال:
أمرتكم بكذا وكذا. ونهيتكم عنه متصلا به، لأنه نهى عن الفعل
على وجه الأمر. وهاهنا النهي على غير وجه الأمر، فهو كقولك:
أمرتكم بشرط أن لا يظهر لكم ما ينافيه.
فائدة [تحقيق لغوي في لفظ البداء]
حكى ابن الفارض المعتزلي في كتاب "النكت" عن بعضهم: أن لفظ
البداء غير صحيح في اللغة، وإنما هو البدو من بدا الشيء يبدو
بدوا وبدوا، إذا ظهر. قال ابن الصلاح في "فوائد رحلته": وهذا
ليس بصحيح، فقد أورد هذا اللفظ ابن دريد في قصيدته في "الممدود
والمقصور" فقال:
توصى وعقلك في بدا ... فكذاك رأيك ذو بداء
قال التبريزي: البدا المقصور موضع، وقيل: إنه بغير ألف ولام،
والبداء الممدود من قولهم: بدا لي في الأمر، تريد: تغير رأيي
فيه عما كان. قلت: وحكاه صاحب "المحكم" عن سيبويه، فقال: بدا
الشيء يبدو بدوا وبدوا وبداء، الأخيرة عن سيبويه. وفي "صحاح"
الجوهري: بدا له في هذا الأمر بداء ممدود. وقد نبه عليه أبو
محمد بن بري، فقال: صوابه بداء بالرفع لأنه الفاعل.
وقال السهيلي في "الروض": المصدر البدو والبدو، والاسم البداء.
ولا يقال في المصدر بدا له بدو، كما لا يقال: ظهر له ظهور
بالرفع، لأن الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم، نحو البداء. قال:
ومن أجل أن البدو الظهور كان البداء في وصف البارئ سبحانه
محالا، لأنه لا يبدو له شيء كان غائبا عنه، وقد يجيء بدا بمعنى
أراد مجازا كحديث البخاري في الثلاثة: الأقرع والأعمى والأبرص،
وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "بدا لله أن يبتليهم" 1.
تنبيه: منع بعض الحنفية إطلاق لفظ التبديل على النسخ، فإنه رفع
الحكم
ـــــــ
1 الحديث رواه البخهاري، كتاب أحاديث الأنبيااء، باب حديث أبرص
وأعمى وأقرع في بني إسرائيل، حديث 3464 عن أبي هريرة رضي الله
عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة في
بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا الله عز وجل أن يبتليهم فبعث
إليهم ملكا..." الحديث، ورواه مسلم حديث 2964 بلفظ "فأراد الله
أن يبتليهم" .
(3/151)
لمنسوخ وإقامة الناسخ مقامه، وذلك يوهم
البداء، وهو محجوج بقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101].
(3/152)
مسألة : [النسخ جائز عقلا وواقع شرعا]
النسخ جائز عقلا وواقع سمعا، خلافا لليهود غير العيسوية، وبعض
غلاة الروافض. ومنهم من منعه عقلا. ومنهم من جوزه عقلا ومنعه
شرعا، حكاه أبو زيد. قال: ولذلك ذهب إليه بعض المسلمين ممن لا
يعتد بخلافه، وسماه أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة تخصيصا.
فقيل: هو إنكار للوقوع، وهو منقول الآمدي، وابن الحاجب عنه1.
وقيل: إنما أنكر الجواز، وهو منقول الشيخ أبي إسحاق، وسليم،
والإمام فخر الدين الرازيان، وصرح بأن خلافه في القرآن خاصة.
قال ابن دقيق العيد: نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى
أن الحكم الثابت لا يرتفع، بل بمعنى أنه ينتهي بنص دل على
انتهائه، فلا يكون نسخا. ا هـ. وحاصله صيرورة الخلاف لفظيا،
وبه صرح ابن السمعاني. قال الهندي: وليس من ضرورة القول بصحة
نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القول بصحة النسخ، حتى
يلزم من إنكاره إنكار النبوة، وذلك لاحتمال أن يقال: إن شرع
الماضين كان مغيا إلى ظهوره صلى الله عليه وسلم في اللفظ.
وهنا مباحثة مع اليهود لعنوا بما قالوا، وهي أنهم زعموا أن
التعبد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أن يتغير قياسا على
التوحيد، فإن التعبد بالتوحيد لا يجوز تغييره إلى الكفر. فيقال
لهم: أيجوز أن يتعبد بالصلاة مثلا في وقت دون وقت مع القدرة
على الفعل؟ فإن قالوا: نعم، وهو قولهم، لأنهم لا يقولون
باستغراق الزمان بالصلاة والصوم، فيقال لهم: أيجوز أن يتعبد
بالتوحيد في وقت دون وقت مع كمال العقل والقدرة؟ فإن قالوا:
نعم، فقد جوزوا ترك التوحيد. وإن قالوا: لا، وهو قولهم فقد
فرقوا بين التوحيد والشرائع وحينئذ فلا امتناع في اختلاف
التعبد بالشرائع في الكيفية، والعدد، والوقت، والزيادة،
والنقص.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 3/106، مختصر ابن الحاجب 2/188.
(3/152)
مسألة
يجوز نسخ الحكم عندنا وإن لم يقترن به إعلام بأنه سينسخ. قال
ابن برهان: وعن أبي الحسين البصري وغيره من المعتزلة أنه لا
يجوز إلا إذا اقترن به ما يدل على النسخ في الجملة، كقوله
تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}
[البقرة: 144] الآية. قالوا: فهذه قرينة أن الله تعالى سينسخ
القبلة من بيت المقدس.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: رأيت بعض من كان يظهر التوحيد، ويتهم
بالإلحاد يزعم أن النسخ لا يجوز إلا بدليل مقرون باللفظ يعلم
أنه كائن بعد، وإن لم يبين وقته. قال الأستاذ: فهذا قول
اليهود، وقد أجمعت الأمة على خلافه. ا هـ.
ونقل عن أبي الحسين البصري أنه يجب أن يذكر مع المنسوخ ما يدل
على أنه منسوخ من حيث الجملة، وإلا لكان تلبيسا. وخالفه جمهور
المعتزلة. وأصحابنا قالوا: لا يجب ذلك، بل يجوز تأخير بيان
النسخ من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
وقال الماوردي: سمعت بعض أهل العلم يقول: إن كل آية منسوخة ففي
ضمن تلاوتها ما يدل على أن حكمها ليس بثابت على الإطلاق، مثل
قوله في سورة النساء: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} [النساء: 15] نبه على أن حكمها لا يدوم، فنسختها آية
النور بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "قد جعل الله لهن سبيلا" 1. قال:
وهذا الذي ادعاه يبعد أن يوجد في كل آية منسوخة، لكنه معتضد
لمذهب أبي حنيفة في أن الزيادة على النص تكون نسخا، فجعل ذلك
من شواهد المنسوخ.
مسألة
لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض، فأما مع إمكان الجمع فلا. وقول
من قال: نسخ صوم عاشوراء برمضان، ونسخت الزكاة كل صدقة سواها
فلا يصح، لأن الجمع بينهما لا منافاة فيه. وإنما وافق نسخ
عاشوراء فرض رمضان ونسخ سائر الصدقات فرض الزكاة، فحصل النسخ
معه لا به.
ـــــــ
1 رواه مسلم 3/1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى، حديث 1690 عن
عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا
عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة،
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" .
(3/153)
قال أبو الحسين بن القطان في كتابه: حكى
بعض مشايخنا خلافا في أن النسخ في الأمر أو المأمور. فقيل: وقع
في الأمر. وقيل: في المأمور نفسه. والأمر هو القول. والمأمور
هو المخاطب. قال: والذي عندنا أن النسخ وقع في الأمر بدليل
قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [لبقرة: 106] فأخبر أن النسخ
يقع في الآية.
وممن تعرض لهذا الخلاف ابن حزم في "الإحكام". وقال: الصحيح أنه
إنما يقع على الأمر، ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا، لأن
المأمور به هو فعلنا. وفعلنا إن كان قد وقع منا فقد فنى ولا
ينهى عما مضى، وإن لم يكن قد وقع بعد، فكيف ينسخ شيء لم يكن
بعد ويدل له قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [لبقرة: 106]
الآية فدل على أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها
والمنهي عنها.
مسألة المنسوخ عند أئمتنا الحكم الثابت نفسه. وقالت المعتزلة:
مثل الحكم الثابت فيما يستقبل. والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في
أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نسبية للحسن. ومراد الله
تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة،
على أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة
نسبية. قاله ابن عطية في تفسيره.
مسألة
يجب اعتقاد الأمر بالشيء قبل ورود الناسخ إن بقي الأمر به، ولم
يرتفع عنه بضده، وإن جوزنا النسخ قبل الفعل. ولا يجيء الخلاف
السابق في البحث عن المخصص. وقال بعض الحنفية: أما في حياة
الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقطع بالحكم قبل ظهور ناسخه،
لأن دوامه باستصحاب الحال لجواز نزول الوحي بما ينسخه. وأما
بعد وفاته فقد انتفى احتمال النسخ وصار البقاء ثابتا بدليل
مقطوع..
مسألة
يجوز نسخ النسخ، لأن المعنى المقتضي لجوازه أولا قد يتفق في
الثاني. وقد وقع ذلك. قال الشافعي فيما حكاه العبادي عنه: لا
أعلم شيئا أحل، ثم حرم، ثم أحل، ثم حرم، إلا المتعة. وذكر غيره
أنها نسخت خمس مرات.
وممن ذكر هذه المسألة ابن حزم في "الإحكام". وقال: لا فرق بين
أن ينسخ
(3/154)
الله حكما بغيره، وبين أن ينسخ ذلك الثاني
[بثالث]، وذلك الثالث برابع، وهكذا كلما زاد. وقد جاء في بعض
الآثار أحيلت الصلاة والصوم ثلاثة أحوال، وصح التكرير في نكاح
المتعة.
وقال القاضي ابن العربي: نسخت القبلة مرتين، وكذا نكاح المتعة،
ولحوم الحمر الأهلية، ولا أحفظ رابعا. قلت: وادعى بعضهم تكرر
النسخ في الكلام في الصلاة.
مسألة
شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع
بالإجماع، واختلف في أن عيسى بعث مقررا لشريعة موسى عليهما
السلام، أو بشريعة مبتدأة حكاه ابن الرفعة في "المطلب" ثم قال:
والحق أنه لم ينسخ كل شريعة موسى، ولهذا قال تعالى:
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل
عمران: 50] لأنه لم يحلل لهم كل ما حرم عليهم، لأن منه الزنى
والقتل والسرقة، وإنما أحل لهم السبت، ولحم الإبل، وأشياء من
الحيتان والطير تخفيفا عنهم. ولم يوجب عليهم شيئا لم توجبه
شريعة موسى.
وقال الإمام في تفسيره: روي أن الرسل بعد موسى عليه السلام
كانت شريعتهم واحدة موافقة لشريعة موسى، إلى أن جاء عيسى عليه
السلام بشريعة مجددة. قال: ومنع القاضي كون الرسول الثاني يأتي
بشريعة الرسول الأول سواء، أي من غير زيادة ولا نقص إذا كانت
شريعة الأول محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر، لأن الرسول إذا كان
كذلك لم يعلم من جهته إلا ما قد علم من قبل، فكما لا يجوز أن
يبعث رسولا لا شريعة معه أصلا لما بين في العقليات، كذلك ما
نحن فيه. وأجاب الإمام عن ذلك بما يوقف عليه من كلامه.
(3/155)
فصل : في بيان
الحكمة في نسخ الشرائع
ذكره الإمام فخر الدين في "المطالب العالية" وهو أن الشرائع
قسمان: منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد. ومنها
سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع.
فالأول : يمتنع طرو النسخ عليها كمعرفة الله وطاعته أبدا،
ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران: التعظيم لأمر الله، والشفقة
على خلق الله. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً} [البقرة: 83]
والثاني : ما يمكن طريان النسخ والتبديل عليه أمور تحصل في
كيفية إقامة الطاعات العقلية والعبادات الحقيقية.
وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا واظبوا عليها خلفا عن سلف
صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها.
ومنعهم ذلك من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده،
فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من
هذه الأعمال رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة
انقطعت الأوهام عن الاشتغال عن تلك الصور والظواهر إلى علام
السرائر.
وذكر غيره في ذلك وجوها: منها: أن الخلق طبعوا على الملالة من
الشيء، فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها. ومنها:
بيان شرف نبينا عليه السلام، فإنه نسخ بشريعته شرائعهم،
وشريعته لا ناسخ لها. ومنها: ما فيه من حفظ مصالح العباد كطبيب
يأمر بدواء في كل يوم وفي اليوم الثاني بخلافه للمصلحة.
ومنها : ما فيه من البشارة للمؤمنين برفع الخدمة ومؤنتها عنهم
في الجنة، فجريان النسخ عليها في الدنيا يؤذن برفعها في الجنة
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. وذكر
الشافعي في "الرسالة" أن فائدة النسخ رحمة الله بعباده
والتخفيف عنهم1، وأورد عليه أنه قد يكون بأثقل. وجوابه: أنه
رحمة في الحقيقة بالوجوه التي ذكرنا.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 106.
(3/156)
فصل : في شروط النسخ
الأول : أن يكون الحكم المنسوخ شرعيا لا عقليا، أي قد ثبت
بالشرع، ثم رفع، فإن كان شيئا يفعله الناس بعادة لهم أقروا
عليها، ثم رفع كاستباحتهم الخمر في أول الإسلام على عادة كانت
لهم إلى أن حرم لم يكن نسخا. وإنما هو ابتداء شرع.
الثاني : أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ متأخرا عنه، فإن
المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخا، وإنما هو
تخصيص، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
[البقرة: 187] فليس ذلك ناسخا للصوم نهارا، وكذا قوله: {وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
قال إلكيا: هذا إذا كانت الغاية معلومة، فإن كانت مجملة وهي
التي رمز الشرع إليها، ولو لم ترد أمكن إجراء حكم النص كقوله:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:
15] فهل يجعل بيان الحكم على خلاف الحكم السابق بعدها نسخا
للحكم المتقدم أم لا؟ قال: فيه قولان لأصحاب الشافعي، والأقرب
أنه نسخ بحق شرعية الجلد بعد قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وبه جزم الأستاذ أبو منصور كما
لو قال: افعلوه إلى أن أنسخه.
الثالث : أن يكون النسخ بخطاب شرعي، فارتفاع الحكم بموت المكلف
أو جنونه ليس بنسخ، وإنما هو سقوط التكليف جملة.
الرابع : أن لا يكون المرفوع مقيدا بوقت يقتضي دخوله زوال
المغيا بغاية، فلا يكون نسخا عند وجودها.
الخامس : أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، فإن كان
أضعف منه لم ينسخه، لأن الضعيف لا يزيل القوي. قال إلكيا: وهذا
مما قضى به العقل، بل دل الإجماع عليه، فإن الصحابة لم ينسخوا
نص القرآن بخبر الواحد.
السادس : وذكره إلكيا أن يكون المقتضى بالمنسوخ غير المقتضى
بالناسخ، حتى لا يلزم البداء. قال: ولا يشترط بالاتفاق أن يكون
اللفظ الناسخ متناولا لما تناوله المنسوخ، أعني التكرار
والبقاء، إذ لا يمنع فهم البقاء بدليل آخر سوى اللفظ، ومن هنا
يفارق التخصيص.
السابع : أن يكون مما يجوز أن يكون مشروعا، وأن لا يكون مما لا
يحتمل
(3/157)
التوقيت نسخا، مع كونه مشروعا. فلا يدخل
النسخ أصل التوحيد بحال، لأن الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل
ولا يزال، وكذا ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت فلا يدخله
نسخ، كشريعتنا هذه. قال سليم: وكل ما لا يكون إلا على صفة
واحدة كمعرفة الله تعالى ووحدانيته ونحوه فلا يدخله النسخ. ومن
هنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار، إذ لا يتصور وقوعها على خلاف
ما أخبر به الصادق. وكذا قال إلكيا الطبري. وقال: الضابط فيما
ينسخ ما يتغير حاله من حسن لقبح.
واعلم أن في جواز نسخ الحكم المعلق بالتأبيد وجهين، حكاهما
الماوردي، والروياني وغيرهما: أحدهما: المنع، لأن صريح التأبيد
مانع من احتمال النسخ. قال: وأشبههما الجواز. قلت: ونسبه ابن
برهان إلى معظم العلماء، وأبو الحسين في "المعتمد" إلى
المحققين. قال: لأن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في لفظ
الأمر المبالغة لا الدوام. وقال الماوردي: لأن المطلق يقتضي
التأبيد كالمؤكد. ولأنه لما جاز انقطاع المؤبد بالاستثناء في
قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4]
الآية جاز انقطاعه بالنسخ كالمطلق.
ونظير المسألة تخصيص الحكم المؤكد. وقال صاحب "الكبريت
الأحمر": ظاهر كلام الجمهور جواز نسخ الحكم المصرح فيه بكلمة
التأبيد، ومنعه جماعة.
وقال الجصاص: الصحيح عند أصحابنا امتناع نسخه، لأن الله تعالى
ألزمنا اعتقاد الحكم باقيا على سبيل التأبيد بالتنصيص عليه،
فلا يجوز أن يكون بقاؤه مؤقتا إلى وقت، وعلى ذلك جرى أبو منصور
الماتريدي، والدبوسي، والبزدويان الأخوان، وادعى شارح البزدوي
في "الكشف" الاتفاق على أن التنصيص في وقت من أوقات الزمان
بخصوصه يمنع النسخ1، وليس كما قال.
ثم ظاهر كلام ابن الحاجب تخصيص الجواز بما إذا كان إنشاء، نحو:
صوموا أبدا، بخلاف ما إذا كان خبرا مثل: الصوم واجب مستمر
أبدا، فلا يجوز نسخه. وفي كلام الآمدي إشارة إليه. والفرق واضح
إذ يلزم من نسخ الخبر الخلاف. وكذلك إمام الحرمين حيث قال في
أول النسخ: فإن قيل: لو قال: هذا الحكم مؤبد لا ينسخه شيء، فهل
يجوز تقدير نسخه؟ قلنا: لا، لأن في تقدير وروده تجويز الخلف. ا
هـ.
ولكن هذه العلة لا خصوصية لها بالمؤبد، فإن الخبر من حيث هو
يمتنع فيه
ـــــــ
1 انظر كشف الأسرار للبزدوي 3/164.
(3/158)
النسخ، لا من حيث التأبيد. وصواب العبارة
أن يقال: التقييد بالتأبيد لا يزيد حكما متجددا، بل هو تأكيد،
سواء كان في الخبر أم الإنشاء. أما في الخبر فلا خلاف، وأما في
الإنشاء فعلى المختار. وقال بعضهم: إنما منع ابن الحاجب بعض
الإنشاءات فكأنه فصل بين أن يكون التأبيد قيدا في فعل المكلف،
نحو: صوموا أبدا، فيجوز، وبين أن يكون قيدا للوجوب وبيانا لمدة
بقائه واستمراره فلا يجوز. قلت: وهذا هو الصواب كما صرح به في
المنتهى.
(3/159)
مسألة : في وقت
النسخ
يجوز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به بالإجماع. قال
الماوردي وسواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس، أو بعضهم
كفرض الصدقة1 عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، نسخت بعد
أن عمل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
وأما النسخ قبل الفعل فهو على أقسام:
القسم الأول : أن يكون قبل علم المكلف بوجوبه، كما إذا أمر
الله سبحانه جبريل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب شيء
على الأمة، ثم ينسخه قبل وصوله إليه، فجزم الماوردي، والروياني
في باب القضاء بأنه لا يجوز ورود النسخ عليه، لأن من شرط النسخ
أن يكون بعد استمرار الفرض، ليخرج عن البداء إلى الإعلام
بالمدة. قالا: وأما ما روي في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة،
ثم استقرت بخمس2، فكان على وجه التقدير دون الفرض، لأن الفرض
يستقر بنفوذ الأمر، ولم يكن من الله تعالى فيه أمر إلا عند
استقرار الخمس. انتهى.
وقد حكى ابن السمعاني في ذلك الاتفاق، وليس كذلك، بل في
المسألة وجهان لأصحابنا، حكاهما الأستاذ أبو منصور، وإلكيا.
وقال: لا يتحقق الخلاف، لأن
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه الترمذي في سننه 5/406 كتاب تفسير القرآن،
باب ومن سورة المجادلة، حديث 3300، بإسناده عن علي بن أبي طالب
قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَةً} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينارا؟"
قلت: لا يطيقونه، قال: "فننصف دينار؟" قلت: لا يطيقونه. قال:
"فكم"؟ قلت: شعيرة. قال: "إنك لزهيد" قال: فنزلت
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ} الآية قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. وهو حديث
ضعيف الإسناد.
2 رواه البخاري كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء،
برقم 349.
(3/159)
النسخ نوع تكليف أو حط تكليف، فإن كان إلى
بدل كان تكليفا وإلا حط تكليف، وقد شرع لمثل ما شرع له أصل
التكليف. والعلم شرط لحصول أصل التكليف إلا حيث لا يتوقف
الإمكان عليه، فالنسخ مثله بلا فرق. قال: وإنما يظهر الخلاف في
أن القضاء هل يلزمهم بعد العلم والتدارك أو لا يتحتم عليهم؟
وينبغي التغاير، على أن القضاء هل يجب بالأمر الأول أو بأمر
جديد؟ فإن قلنا بالأول وجب، وإلا فلا. ولا مزيد على حسن هذا. ا
هـ.
وقال ابن برهان في "الوجيز" في آخر باب النسخ: نسخ الحكم قبل
علم المكلف بوجوبه جائز عندنا ومنعته المعتزلة، وأصحاب أبي
حنيفة، وبنوا على ذلك أن عزل الوكيل لا يثبت قبل العلم. وزعموا
أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال. قال: وهذه المسألة فرع
تكليف ما لا يطاق، فإذا قضينا بصحته صح النسخ حينئذ. قال:
واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعراج، فإن الله تعالى
أوجب على الأمة خمسين صلاة، ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها، وهذا
لا حجة فيه، لأن النسخ إنما كان بعد العلم، فإن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحد المكلفين، وقد علم، ولكنه قبل علم جميع
الأمة. وعلم الجميع لا يشترط، فإن التكليف استقر بعلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فلا اعتماد على هذا الحديث. ا هـ.
وظهر أن ما قاله الماوردي، وابن السمعاني مذهب المعتزلة، وقد
قال ابن حاتم الأزدي تلميذ القاضي في كتاب "اللامع" له: من لم
يبلغه الأمر، ولم يعلم أنه مأمور هل يجوز أن يقال: إنه قد ينسخ
عنه الأمر أم لا؟ ثم قال: عندنا يصح أن يقال: إنه قد ينسخ عنه
الأمر إذا بلغه، وتأدى إليه لزمه المصير إلى موجب الناسخ. قال
عبد الجليل الربعي في شرحه: وهذا صحيح، وإن تجوز في قوله: يصح،
وحقه أن يقول: يجب، إذ ليس من شرط كون الأمر نسخا أن يبلغ
المأمور، وإنما البلاغ شرط الامتثال، لأنه يجوز عندنا أن يكون
مأمورا حين عدمه.
وقال القاضي أبو بكر، وابن حاتم واللفظ له: يجوز عندنا أن
يقال: قد نسخ عنه الأمر، وإذا بلغه لزمه المصير إلى موجب
الناسخ لا بالأمر المتقدم، بل باعتقاد له آخر، ولو كان على شيء
آخر فبلغه أنه أمر، ثم نسخ عنه وجب أن يصير إلى موجب الناسخ.
وقال جمهور الفقهاء، والمتكلمين: مثل هذا لا يكون نسخا، أما
إذا لم يبلغه المنسوخ، فلا يلزمه حكم الناسخ، كما لم يبلغه حكم
المنسوخ. ا هـ.
وقال بعض المتأخرين: نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ،
اتفقت
(3/160)
الأشاعرة على جوازه، والمعتزلة على منعه.
وحكى الفقهاء في المسألة طريقين: أحدهما: أن للشافعي في
المسألة قولين. والثاني: الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام
التعريفية، فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني، كتكليف الغافل.
وهو مذهب الحنفية. ا هـ. واعلم أن الناسخ إذا كان مع جبريل
عليه السلام، فلا يثبت حكمه قبل أن يصل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم بالاتفاق، كما قاله القاضي أبو الطيب، وسليم، وغيره
واختلفوا بعد وصوله إلى النبي عليه السلام وقبل تبليغه إلينا،
هل يثبت حكمه بالنسبة إلينا قبل العلم به؟ على وجهين لأصحابنا،
حكاهما القاضي أبو الطيب، وسليم، وابن الصباغ في "العدة"
وغيرهم وهما قولان للأصوليين، واختار الثبوت. وقال سليم: إنه
الصحيح، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة"1. وقال ابن برهان
في "الأوسط": إنه مذهب أصحابنا، ونصره. ونقل عن أصحاب أبي
حنيفة أنه لا يثبت ما لم يصل إلينا، واختاره ابن الحاجب، وجزم
به الروياني في باب القضاء، ونسبه القاضي في "التقريب"
للجمهور. وقال: والقائلون بأنه يثبت النسخ شرطوا فيه البلاغ،
فوجب كون الخلاف لفظيا. ا هـ.
ولا شك أن من لم يبلغه قسمان:
أحدهما : المتمكن وهو [الثابت] في حقه.
والثاني : غير المتمكن وهو محل الخلاف، فالجمهور على أنه لا
يثبت في حقه لا بمعنى الامتثال، ولا بمعنى ثبوته في الذمة.
وقال بعضهم: ويثبت بالمعنى الثاني كالنائم، ولم يصر أحد إلى
ثبوته بالمعنى الأول. وقال القاضي في "مختصر التقريب": إن
هؤلاء يقولون: لو قدر أن من لم يبلغه الناسخ أقدم على الحكم
الأول يكون ذلك خطأ منه، بيد أنه لا يؤاخذ به، ويعذر لجهله. ا
هـ. وليس كما قال. فإن الأستاذ أبا منصور البغدادي قال: إن من
أصحابنا من قال: يصح عمله بالمنسوخ إلى وقت علمه بالنسخ. ومنهم
من قال: لا يحسن العمل به قبل علمه بالنسخ، لكنه يعذر. قال:
ولأجل هذا الخلاف خرجوا عمل الوكيل قبل علمه بالعزل على وجهين
وقال ابن دقيق العيد: لا شك أنه لا يثبت في التأثيم، وهل يثبت
في حكم القضاء إذ هو من الأحكام الوضعية؟ هذا فيه تردد، لأنه
ممكن بخلاف الأول، لأنه يلزم فيه تكليف ما
ـــــــ
1 انظر التبصرة للشيرازي ص: 282.
(3/161)
لا يطاق. قال ابن برهان: وهكذا القول في
الأحكام الواردة من جهة الله تعالى، ولم تتصل بنا، لأن العادة
تخصيص جانب النسخ بالذكر دون الحكم المبتدأ. ا هـ. وهي مسألة
غريبة.
والقائلون بأن النسخ لا يثبت في حق من لم يبلغه اتفقوا على أنه
يخاطب بحكم الأول إلى أن يبلغه النسخ، ثم اختلفوا: هل يتصف
بكونه ناسخا قبل البلوغ كما أن الأمر أمر للمعدوم على شرط
الوجود، أو لا يتصف إلا بعد البلوغ؟ قال القاضي: وهو خلاف
لفظي، وإنما الخلاف الحقيقي مع الذين قدمنا ذكرهم يعني
القائلين بأن الحكم يرتفع عمن لم يبلغه الناسخ. وقد تبع إمام
الحرمين القاضي في جعل الخلاف لفظيا. قال: لأنه إن كان المراد
أن عليهم الأخذ بالناسخ قبل بلوغه، فتكليف ما لا يطاق. وإن
أريد إلزام التدارك فلا منع قطعا. وقد قال: بل تظهر فائدته في
أنه هل يحتاج في التدارك إلى خطاب جديد، أو يكفي الناسخ؟ وقد
سبق عن إلكيا ما ينبغي استحضاره هنا.
قال إمام الحرمين في "التلخيص": وهذه المسألة قطعية، وذهب
بعضهم إلى إلحاقها بالمجتهدات، حتى نقلوا فيها قولين من الوكيل
إذا عزل، ولم يبلغه العزل.
هذا كله إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض، فإن
بلغه وهو في السماء كقضية الصلاة، فهل يسمى نسخا أم لا؟ ظاهر
كلام ابن السمعاني تسميته به، ومنع أبو إسحاق المروزي في كتابه
ذلك ; لأن الأمر لم يقع قط إلا في الوقت الثاني. قال: ولو جاز
أن يكون نسخا للتخلص من تأخير البيان لجاز ذلك في قصة أصحاب
البقرة حين أمروا بذبحها حتى راجعوا، وعين لهم فردوا، فينبغي
تسميته نسخا ; لأنه سبب حادث بعد الأمر المتقدم، بل أولى ; لأن
الخطاب قد وجه به، فهو أولى من الذي لم يواجه به المفروض عليه،
ولا نزل من السماء. قال: ولا يسمي أحد هذا نسخا.
وقال ابن عقيل من الحنابلة: يجوز النسخ في السماء إذا كان هناك
تكليف، مثل أن يكون قد أسري ببعض الأنبياء، كنبينا صلى الله
عليه وسلم، ولا يكون ذلك بداء، خلافا للمعتزلة، ومنعوا كون
الإسراء يقظة.
وقال الإمام أبو إسحاق المروزي في كتاب "الناسخ والمنسوخ"
تأليفه: لا نعلم أحدا من أهل العلم استجاز أن يطلق اللفظ بنسخ
الشيء قبل أن ينزل من السماء إلى الأرض. قيل: القاشاني يسمي
الرجوع من خمسين صلاة إلى خمس نسخا، فخرج بذلك من قولك الأمة.
انتهى.
(3/162)
القسم الثاني: أن يكون بعد علم بعض
المكلفين بوجوبه، وهذه هي مسألة المعراج، وقد سبق حكمها، وقد
ذكرها الماوردي، والروياني في "البحر"، فقالا: إن أبلغه النبي
صلى الله عليه وسلم إلى البعض هل يثبت حكمه بالنسبة إلى
الغائبين؟ فيه وجهان: أشبههما أنه لا يثبت، لأن أهل قباء لما
بلغهم نسخ القبلة وهم في الصلاة استداروا وبنوا، ولم
يستأنفوا1.
وقال الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة": إذا نزل النسخ على الرسول
ثبت النسخ في حقه وفي حقهم في قول بعض أصحابنا. ومن قائل: لا
يثبت في حق الأمة قبل أن يتصل ذلك بهم، وهو قول الحنفية. ثم
نصر الشيخ الأول، وأجاب عن قصة أهل قباء، بأن القبلة يجوز
تركها بالأعذار، ولهذا تترك مع العلم بها في نوافل السفر،
فلهذا لم يؤمروا بالإعادة.
وحكى بعض المتأخرين مذهبا ثالثا بالتفصيل بين الأحكام
التكليفية وخطاب الوضع. فمنعه في الأول وجوزه في الثاني ; لأنه
يلتحق بالغافل ونحوه..
القسم الثالث : أن يعلم المكلف بوجوبه عليه لكن لم يدخل وقته
إما أن يكون موسعا كما لو قال: اقتلوا المشركين غدا، ثم نسخ
عنهم في ذلك اليوم، أو يكون على الفور، ثم ينسخ قبل التمكن من
الفعل، أو يؤمر بالعبادة مطلقا، ثم ينسخ قبل مضي وقت التمكن من
فعلها.
فهاهنا اختلفوا، فذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى الجواز،
ونقله القاضي أبو الطيب، وسليم عن أكثر أصحابنا، ونقله ابن
برهان عن الأشعرية وجماعة من الحنفية. ونقله غيرهم عن معتزلة
البصرة، قال القاضي في "التقريب": وهو قول جميع أهل الحق.
وذهب أكثر الحنفية كما قاله ابن السمعاني، والحنابلة،
والمعتزلة، ومنهم من قيده بمعتزلة بغداد، إلى المنع. وقال
إلكيا الطبري: إنه قول الفقهاء، ولهذا حد النسخ باللفظ الدال
على زوال مثل الحكم الثابت في المستقبل. قال وإنما منعه
الأشاعرة. وقال القاضي عبد الوهاب: وهو قول شيوخنا المتكلمين.
قال ابن برهان: وإليه ذهب الصيرفي وكثير من أصحابنا، وعامة
المعتزلة
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، حديث 41
ومسلم، حديث 525.
(3/163)
وقال صاحب "المصادر": إنه الصحيح، وهكذا
حكى القاضي أبو الطيب، وابن السمعاني المنع عن الصيرفي. ونقل
صاحب "الكبريت الأحمر" عن الصيرفي الجواز، وهو الذي رأيته في
كتابه. قال: وهو مذهب أبي بكر الدقاق، وعليه مشايخ ما وراء
النهر.
وذكر البزدوي أن التمكن من أداء العبادة ليس بشرط في نسخها،
وإنما المشروط هو التمكن من العزم. وقال صاحب "اللباب":
اختلفوا في التمكن من الفعل، هل هو شرط لجواز النسخ؟ قال بعض
المحققين من أصحابنا مثل: أبي بكر الجصاص، والقاضي أبي زيد،
وغيرهما، وعامة المعتزلة: إنه شرط. وقال بعض مشايخنا، وعامة
أصحاب الشافعي: ليس بشرط، حتى لو كان الأمر معلقا بوقت جاز
نسخه قبل مجيء الوقت. وكذلك إذا كان منجزا غير معلق، لكن لما
لم يتمكن من الامتثال به فيه وقع الخلاف. وأجمعوا على أن
التمكن من الاعتقاد شرط. ا هـ.
وقال شمس الأئمة السرخسي: شرط جواز النسخ عندنا التمكن من عقد
القلب، وأما الفعل والتمكن منه فليس بشرط، وعند المعتزلة
التمكن من الفعل شرط. قال القاضي في "التقريب": قال أهل الحق:
لا نسخ على الحقيقة إلا قبل دخول الوقت. قال: واختلف المجوزون
لنسخ الشيء قبل وقته، فقيل: يجوز مطلقا، وله أن ينهى عن نفس ما
أمر به قبل دخول وقته. وقيل: إنما يجوز بشرط أن ينهى على غير
الوجه المأمور بإيقاعه عليه، فلا يجوز أن ينهى عنه في ذلك
الوقت على ذلك الوجه الذي تناوله الأمر عليه.
واختلفوا في وجه المغايرة على طرق: إنما يؤمر بالفعل بشرط بقاء
الأمر، فإذا نهي عنه قبل وقته زال الأمر به، فصار لذلك مأمورا
به على وجه، ومنهيا عن إيقاعه على غير الوجه الذي تناوله
الأمر. وقيل: إنما يؤمر بالفعل في الوقت مع انتفاء النهي عنه
بدل الأول مع بقاء الأمر. وقيل: إنما يؤمر بالفعل بشرط أن لا
يمنع منه. وقيل: بشرط أن يختاره المكلف ويعزم عليه، فإذا نهى
عنه فإنما ذلك لعلمه بأنه لا يختاره، ثم قال القاضي: والمختار
عدم القول بالحاجة إلى شيء من ذلك. قال بعضهم: وحاصل الخلاف
يرجع إلى أن الأمر قبل التمكن هل هو ثابت موجود بالفعل فيصح
نسخه، أو غير ثابت فلا يصح، كما تقدم في مسألة خطاب الكفار
بالفروع؟ واستشكل بعضهم فائدة الأمر على تقدير تجويز النسخ،
وأجيب بأن فائدته اعتقاد الوجوب ; لأن ما يجب لله يكون على محض
الابتلاء، ويتحقق الابتلاء في التكليف
(3/164)
باعتقاد الوجوب..
القسم الرابع : أن يدخل وقت المأمور به، لكن ينسخ قبل فعله،
إما لكونه موسعا، وإما لأنه أراد أن يشرع فينسخ. فقال سليم،
وابن الصباغ في "العدة": إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه،
وجعلا الخلاف فيما قبل دخول الوقت، وكذلك فعل ابن برهان في
"الأوسط" والقاضي من الحنابلة، وكذا نقل فيه الإجماع صاحب
"الكبريت الأحمر". قال: للمعنى الذي جاز نسخه بعد إيجاده، وهو
انقلاب المصلحة مفسدة، وكذا الآمدي في أثناء الاستدلال، فإنه
قال: والخلاف إنما هو فيما قبل التمكن لا بعده.
وكلام إمام الحرمين في "البرهان" مصرح به، وجرى عليه العبدري
في "شرح المستصفى" فقال: النسخ قبل التمكن من الفعل ثلاث صور:
إحداها : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة
كلها.
الثانية : أن يرد بعد أن مضى من الوقت قدر ما يقع فيه بعضها.
فهاتان الصورتان متفق على جواز النسخ عند الأشعرية، والمعتزلة
فيهما، لأن شرط الأمر حاصل، وهو التمكن من الفعل.
الثالثة : أن يرد الأمر قبل وقته المعتد به ثم ينسخ قبل دخول
ذلك الوقت، فهو موضع الخلاف. ا هـ.
وفي هذا رد على القرافي وغيره حيث أجروا خلاف المعتزلة هنا.
نعم، الخلاف ثابت بنقل الهندي أن في بعض المؤلفات القديمة أن
بعضهم كالكرخي خالف فيه.
وقال: لا يجوز النسخ قبل الفعل، سواء مضى من الوقت مقدار ما
يسعه أم لم يمض.
وقد أطلق جماعة من أئمتنا حكاية الخلاف في النسخ قبل الفعل،
وهو يشمل هذه الصورة. وحكى الماوردي فيها ثلاثة أوجه، فقال:
إذا ورد النسخ قبل اعتقاد المنسوخ وقبل العمل به، ففيه ثلاثة
أوجه:
أحدها : لا يجوز، كما لا يجوز قبل الاعتقاد.
والثاني : يجوز كما يجوز بعد العمل، لأن الاعتقاد من أعمال
القلب.
والثالث : لا يجوز إلا إن مضى بعد الاعتقاد زمان العمل به وإن
لم يعمل به، لاختصاص النسخ بتقديره التكليف، وذلك موجود بمضي
زمانه. ا هـ. وقضيته جريان الخلاف مطلقا فيما قبل التمكن
وبعده.
(3/165)
وعن أبي العباس بن سريج حكاية وجهين لأصحاب
الشافعي في النسخ قبل الفعل.
أحدهما : المنع.
والثاني : التفصيل بين أن ينقل من فرض إلى إسقاطه فيجوز، لأن
الإسقاط حصل فيه الإثبات للتخفيف، وهذا الوجه رأيته محكيا في
كتاب أبي إسحاق المروزي الذي ألفه في الناسخ والمنسوخ قال: باب
ذكر نسخ الفرض المأمور به قبل أن يستعمل منه شيء، بإسقاطه أو
بالنقل إلى غيره.
قال أبو إسحاق: لست أحفظ للشافعي في هذا الباب شيئا نصا إلا ما
ذكره في بعض المواضع من أن الله عز وجل إذا فرض شيئا استعمل
عباده به ما أحب، ثم نقلهم منه إذا شاء. هذا معناه، وليس فيه
ما يقتضي الجواز أو المنع، لكنه إلى المنع أقرب. وقد ذهب بعض
أصحابنا إلى جوازه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عليه
خمسون صلاة حيث أسري به، ثم رد إلى خمس1، فصار نسخا قبل
استعماله. وكذلك قصة إبراهيم في الذبح، ونسخ الصدقة عند مناجاة
الرسول، وعهد النبي عليه السلام مع قريش أن يرد عليهم من جاءه
من نسائهم، وذلك نقل عما أمروا به قبل استعماله. قال أبو
إسحاق: وهذا كله محتمل، والأصح عندي على مذهب الشافعي أنه لا
يجوز نسخ الشيء قبل أن يستعمل منه شيء.
وأما الانفصال عن جميع ما ذكر على مذهب الشافعي، والجواب في
ذلك على وجهين:
أحدهما : أنه لا يجوز نسخ شيء لم يستعمل منه شيء بأي وجوه
النسخ كان نقلا من فرض إلى غيره، أو من وجوب إلى إسقاط أو من
حظر إلى إباحة أو عكسه.
والثاني : أن ذلك جائز فيما نقل من فرض إلى إسقاط، لأن الإسقاط
قد حصل منه الامتنان بالتخفيف، وهو المقصود، ولهذا قال تعالى:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [لأنفال: 66] فامتن
بالتخفيف بعد التغليظ، فهذا جائز، فأما إذا نقل من فرض إلى
مثله أو أغلظ منه، فليس ذلك موضع الامتنان ولا المقصد في الأمر
الأول إلا فعل ما أمروا به، والنقل عن ذلك إلى مثله لا مقصد
فيه ينسب إلى الله تعالى فعلا، إلا ويكون في ذلك مقصد معتزلي
معروف.
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
(3/166)
ثم قال: وإنما حمل القائلين بجواز النسخ
قبل الفعل مراعاة مذهبهم في المنع من تأخير البيان، فأرادوا
تصحيح مذهبهم. فسموا ما وقع التأخير فيه نسخا، لئلا يلزمهم
تأخير البيان، فعدلوا عن تسميته بيانا إلى النسخ، لذلك قال:
وأول من فعل ذلك القاشاني. وقد كان قوله بتأخير البيان أولى
ثم، وأشبه بمذاهب أهل العلم في جواز تأخير البيان.
ثم قال: فإن قلنا بالوجه الثاني فما ذكروه من الأدلة ساقط، لأن
جميعها نقل من فرض إلى إسقاط. والامتنان في جميع ذلك ثابت، وإن
قلنا بالأول وهو نفي جواز ذلك مطلقا. فالجواب عنه: أنها كلها
نسخ بعد الشروع في الأمر، ونحن إنما نمنع من قبل أن يؤتى منه
بشيء، وقصة إبراهيم أتي فيها بالإضجاع، وإمرار السكين، والطعن
به، وكذلك قصة النجوى، فقد فعلها بعض الصحابة، وقصة الصلاة لا
نسميه نسخا، لأنه لم يستقر الأمر إلا بخمس. وأما قصة الصلح،
فقال الشافعي: إن الصلح كان قد وقع في الرجال والنساء، فرد
النبي صلى الله عليه وسلم الرجال، ومنع من رد النساء1، وأعطوا
الغرض منه، فقد استعمل بعد الفعل، ونحن لا نمنع وقوع النسخ بعد
أن يفعل بعضه. هذا خلاصة كلامه.
القسم الخامس : أن يدخل وقته فيشرع في فعله، لكنه ينسخ قبل
تمامه. وقد سبق التصريح من كلام أبي إسحاق المروزي بجواز هذه
الحالة، وقد جعلها الأصفهاني في "شرح المحصول" من صور الخلاف.
وقال القرافي: لم أر فيه نقلا، ولكن مقتضى قولنا الجواز مطلقا،
ومقتضى قول المعتزلة التفصيل بين أن يقال: إذا أتى ببعض
المأمور به لا يخلو إما أن يكون المأتي به تحصل به مصلحة، أو
لا تحصل، فإن لم تحصل كما إذا أمر بإنقاذ الغريق يأتي به إلى
قريب من الشاطئ، وكان الغريق بحيث لا يمكنه السباحة إلى طلوع
البر، فإن هذه الصورة وأشباهها لا يجوز فيها النسخ. وإن حصل
بعض المقصود، كما إذا أمر بإشباع الجائع، وسقي العطشان، وإكساء
العريان، ففعل البعض، فإنه
ـــــــ
1 يشير إلى صلح الحديبية حين جاء سهيل بن عمرو إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، واشترط شروطا، ومنها أن يرد النبي صلى الله
عليه وسلم من جاءه مسلما من المشركين، وبالفعل جاء أبو جندل بن
سهيل بن عمرو يرسف في قيوده حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين،
فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك أن ترده إلي.. وبالفعل
رده الرسول صلى الله عليه وسلم بعد محاولات لمنع رده، فلم يرض
سهيل، أما النساء اللاتي جئن مسلمات فلم يردهن النبي صلى الله
عليه وسلم. انظر الحديث في صحيح البخاري، برقم 2734 كتاب
الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب.
(3/167)
يجوز نسخ الباقي، لأن الذي فعله مقصود..
القسم السادس : أن يقع بعد خروج الوقت قبل فعله: مقتضى استدلال
ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق، ووجه بأن التكليف بذلك الفعل
المأمور بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء شرطه، وهو الوقت، وإذا
انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم، لكن صرح الآمدي في
الإحكام بالجواز، وأنه لا خلاف فيه. قيل: ولا يتأتى الأمر إذا
صرح بوجوب القضاء، أو قلنا: الأمر بالأدلة يستلزمه، والصواب
هذه الطريقة، فإن أبا الحسين البصري من المعتزلة قطع به، فقال
في "المعتمد"1: نسخ الشيء قبل فعله ضربان: نسخ له قبل وقته،
وهو غير جائز عند شيوخنا المتكلمين، وذهب بعض الفقهاء إلى
جوازه، ونسخ له بعد مضي وقته، وهو جائز، لأن مثل الفعل يجوز أن
يصير في مستقبل الأوقات مفسدة. قال: ولا فرق في جواز ذلك في
العقل بين أن يعصي المكلف أو يطيع. ا هـ.
فهذا تصريح بأن خلاف المعتزلة لا يجيء في هذه الصورة، بل هي
محل وفاق بيننا وبينهم. لكن القاضي في "التقريب" صرح بجريان
خلافهم في هذه المسألة، فقال: لا يستحيل عندنا أن ينسخ الفعل
قبل وقوعه، وبعد مضي وقته الذي وقته به، لا على أن يقال
للمكلف: لا تفعله في الوقت الماضي الذي كان قد وقت به
لاستحالته، ولكن يجوز النسخ له والنهي عنه قبل فعله، ومع فعله،
وبعد مضي وقته، بأن تعاد القدرة على فعله أو على تركه في
المستقبل، لأن ذلك يصح، ثم يؤمر المكلف بأن يفعله مرة ثانية
فيما بعد إذا عرفه بعينه، ثم يقال له: قبل دخول وقته الذي وقت
له ثانيا: لا تفعله فقد نهيناك عنه هذا جائز غير ممتنع، ويكون
نسخا للشيء قبل وقته، وقبل إيقاعه، ومنع إيقاعه في وقته الأول.
قال: وهذا لا يصح إلا مع القول بجواز إعادة أفعال العبادات،
والمعتزلة ينكرونه، وعلى إعادة الباقي من أفعال العباد وغير
الباقي، فلذلك أحالوا نسخ الشيء قبل تقضي وقته، إما لاختصاصه
بالزمان، أو لاستحالة الإعادة عليه، وإن كان باقيا. ومن وافقهم
من الفقهاء على مسألة النسخ فلم يعرف ما أرادوا من ذلك، فليحذر
الفقيه السليم من بدعتهم.
ـــــــ
1 انظر المعتمد 1/395.
(3/168)
تنبيهات
الأول: أن القاضي أبا الطيب الطبري ترجم المسألة بالنسخ قبل
وقت الفعل، ثم قال: وقال بعض العلماء بالأصول: إنما قلنا: نسخ
الحكم قبل وقت الفعل، ولم نقل: قبل فعله، لأن المخالف يقول:
يجوز قبل فعله، وهو نسخ الفعل الثاني والثالث وما بعده. قال
القاضي: والصحيح أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل بينا أن
المراد به إيجاب مقدمات الفعل، وكل النسخ عندنا هكذا، لأنه
تخصيص للزمان، وبيان لما يراد باللفظ، كالتخصيص في الأعيان.
ولا نقول: إن الله نسخ ما أمر به، وأوجب علينا فعله، وأراد
إيجابه، لاستلزامه البداء، وهو محال. ا هـ.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: جوز الجمهور النسخ قبل
الفعل، وجعلوا الحقيقة إذا قال لهم: صلوا غدا، واقتلوا زيدا،
ثم منعهم منه قبل دخول الوقت، إنه إنما أمرهم به على وصف إن
وجد سقط الأمر كأن قال: صلوا غدا، واقتلوا زيدا إن لم تموتوا.
الثاني: قال ابن أبي هريرة، والأستاذ أبو إسحاق، والخفاف في
"الخصال": كل نسخ فإنما يكون قبل الفعل، لأن ما مضى يستحيل
لحوق النسخ له، لأن النسخ رفع الحكم في المستقبل من الزمان،
فلا معنى لقول من أبطل النسخ قبل الفعل. ولهذا قال إمام
الحرمين: ترجمة المسألة بالنسخ قبل الفعل مختلة، يعني لأنها
تفهم صحة النسخ بعد الفعل، وهو غير صحيح، ولا نسخ أبدا إلا قبل
الفعل، سواء قلنا: إنه رفع أو بيان، إذ لا ينعطف النسخ على
سابق، وإنما المراد به، هل يجوز نسخ الفعل قبل دخول وقته، أو
قبل أن يمضي من وقت الأمر به ما يسعه؟ فأهل الحق على جوازه،
والمعتزلة على منعه، ثم احتج بقصة الخليل عليه السلام، فإنه
نسخ الأمر قبل وقوعه، وهذا الدليل لا يطابق المدعى بظاهره.
وصور الغزالي المسألة في النسخ قبل التمكن من الفعل. وأبو
الحسين في النسخ قبل وقت الفعل، وتبعه ابن الحاجب وغيره.
والأحسن أن يقال: قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته، ليشمل ما إذا
حضر وقت الفعل، ولكن لم يمض مقدار ما يسعه، فإن هذه الصورة من
محل النزاع أيضا. قلت: والقائلون بالنسخ، قيل: أرادوا به نسخ
الخطاب الذي لم يتقدم به عمل ألبتة، وحينئذ فلا يتوجه ما قاله
الإمام، فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من
مقتضاه ألبتة.
(3/169)
الثالث : أصل الخلاف هنا الخلاف السابق في
صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته، وكذلك
يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال. والمعتزلة
يمنعونه، ولهذا أنكروا ثبوت الأمر المقيد بالشرط، فمن قال: إنه
يمتنع كالمعتزلة لزمه هنا عدم جواز النسخ قبل وقته، إذ لا
يتمكن قبل الوقت فلا أمر، والنسخ يستدعي تحقق الأمر السابق،
فيستحيل النسخ عند عدمه، ويلزم إمام الحرمين موافقتهم هنا،
لأنه وافقهم على ذلك الأصل. أما من لم يقل بذلك كالجمهور،
فيجوز أن يقول بجوازه، وأن لا يقول بذلك، لما يظهر له من دليل
تخصيصه، وليست هذه المسألة فرع تلك على الإطلاق، أعني في
الجواز وعدمه كما أشعر به كلام الغزالي، بل في عدم الجواز فقط.
وفي "تقريب" القاضي أن أصل الخلاف هنا الخلاف الكلامي في جواز
إعادة أفعال العبادة، وقد سبق قريبا.
مسألة
لا يشترط في النسخ أن يتقدمه إشعار المكلف بوقوعه، خلافا لبعض
المعتزلة، وقد سبقت.
مسألة
لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل، كما في نسخ الصدقة في مناجاة
الرسول، والإمساك بعد الإفطار في ليالي رمضان، خلافا للمعتزلة
حيث قالوا: لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل. حكاه الإمام في
"مختصر التقريب". واستدل القاضي بأنه يجوز ارتفاع التكليف عن
المخاطبين جملة، فلأن يجوز ارتفاع عبادة بعينها لا إلى بدل
أولى. قال: والمخالفون في ذلك وهم المعتزلة لا يجوزون ارتفاع
التكليف. فلهذا خالفونا في هذه المسألة، فهذا مثار الخلاف
بيننا وبينهم. ا هـ. لكن المجزوم به في "المعتمد" لأبي الحسين:
الجواز، وإنما نسب الأصوليون المنع في هذه المسألة لبعض
الظاهرية.
هذا بالنسبة إلى الجواز، أما الوقوع فالجمهور عليه، وقيل: لم
يقع، وهو ظاهر نص الشافعي، فإنه قال في "الرسالة"1: وليس ينسخ
فرض أبدا إلا إذا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس
فأثبت مكانها الكعبة. قال: وكل منسوخ في كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم هكذا. وقال الشافعي في موضع آخر بعد ذكر
نسخ التوجه
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 109.
(3/170)
لبيت المقدس: وهذا مع إبانته لك أن الناسخ
والمنسوخ في الكتاب والسنة دليل على أن النبي صلى الله عليه
وسلم إذا سن سنة حوله الله عنها إلى سنن أخرى غيرها يصير إليها
الناس بعد التي حول عنها، لئلا يذهب على عامتهم الناسخ،
فيثبتون على المنسوخ، ولئلا يشتبه على أحد بأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسن، فيكون في الكتاب شيء يرى بعض من جهل
اللسان أو العلم بموقع السنة مع الكتاب بمعانيه أن الكتاب ينسخ
السنة. ا هـ. كلامه.
وليس ذلك مراده، بل هو موافق للجماهير على أن النسخ قد يقع بلا
بدل، وإنما أراد الشافعي بهذه العبارة كما نبه عليه الصيرفي في
"شرح الرسالة"، وأبو إسحاق المروزي في كتاب "الناسخ" أنه ينقل
من حظر إلى إباحة، أو إباحة إلى حظر، أو يجري على حسب أحوال
المفروض. ومثله بالمناجاة. وكان يناجى النبي صلى الله عليه
وسلم بلا تقديم صدقة، ثم فرض الله تقديم الصدقة، ثم أزال ذلك،
فردهم إلى ما كانوا عليه، فإن شاءوا تقربوا بالصدقة إلى الله،
وإن شاءوا ناجوه من غير صدقة. قال: فهذا معنى قول الشافعي فرض
مكان فرض فتفهمه. ا هـ.
والحاصل أنهم ينقلون من حكم شرعي إلى مثله، ولا يتركون غير
محكوم عليهم بشيء. وهذا صحيح موجود في كل منسوخ. قال أبو
إسحاق: معنى قولنا: لا ينسخ الشيء إلا بمثله، يعني ما لا بد له
من الناسخ، كالنقل من الحظر إلى الإباحة، أو من الفرض إلى
الندب أو إلى الفرض، فأما إن أريد إسقاطه فنسخه إما أن ينسخ
برسم مع ثبوت الرسم الأول فلا يكون ذلك إلا بقرار رسمه، وإما
برفع رسمه مع حكمه بأن ينسى، فيستغني بذلك عن رسم يرفع به
كسورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة.
وقال ابن القطان: قول الشافعي إن النسخ يكون بأن يبدل مكانه
شيئا، جوابه من وجهين: أحدهما: أنه أراد أن الأكثر في الفرائض
هو الذي ذكره. الثاني: أن ذلك يجري مجرى أمر ثان بعبارة أخرى،
والفرض الأول قد تغير، لأن الله تعالى حين أمر به أراد: في
زمان يوصف، إنما خفي ذلك علينا، وقدر أنه عام في الأزمنة كلها،
إلا أنه لا بد أن يعلم أن الفرض الأول قد تغير، ألا ترى أنه
كان خمسين صلاة، فكان علينا أن نعتقد أن الكل واجب، فإذا سقط
البعض تغير الاعتقاد الذي كنا قد اعتقدناه، فلا محالة يتغير
شيء ما من الفرض الأول. ا هـ.
والحاصل أن الصور أربع:
الأولى : جواز النسخ بلا بدل، لا شك فيه، وإنما فيه خلاف
المعتزلة.
(3/171)
الثانية : وقوعه بلا بدل أصلا بحيث يعود
الأمر كهو قبل ورود الشرائع، ويتركون غير محكوم عليهم بشيء،
وهذا هو الذي منع الشافعي وقوعه، وإن كان جائزا عقلا كما صرح
به إمام الحرمين في "التلخيص".
الثالثة : يبدل من الأحكام الشرعية، إما إحداث أمر مغاير لما
كان واجبا أولا كالكعبة قبل القدس، أو الحكم بإباحة ما كان
واجبا كالمناجاة، والنسخ لم يقع إلا هكذا، كما قاله الشافعي،
وبه صرح إمام الحرمين في "التلخيص"، فقال بعد أن ذكر جواز
النسخ لا إلى بدل: فإن قال قائل: كيف يتصور ذلك؟ ولو وجبت
عبادة فمن ضرورة نسخ وجوبها إباحة تركها، والإباحة حكم من
الأحكام، وهو بدل من الحكم الثابت أولا، وهو الوجوب. قلنا: من
مذهب من يخالفنا أن العبادة لا تقع إلا بعبادة، ولا يجوزون
نسخا بإباحة على أن ما طالبتمونا به يتصور بأن يقال: الرب
سبحانه نسخ حكم العبادة، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ورود
الشرائع، فهذا مما يعقل ولا ينكر، فإن استروحوا في منع ذلك
بقوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية. وهي
مصرحة بإثبات البدل، قلنا: هذا إخبار بأن النسخ يقع على هذا
الوجه، وليس فيه ما يدل على أنه لا يجوز وقوع النسخ على غير
هذا الوجه. ا هـ.
فقد صرح بأن النسخ لا يقع إلا على هذا الوجه بعد أن جوز وقوعه
لا إلى بدل.
الرابعة : وقوعه ببدل بشرط أن يكون تأصيلا لأمر آخر، كالكعبة
بعد المقدس، ولم يشترطه الشافعي كما توهم عليه.
(3/172)
فصل : النسخ ببدل
يقع على وجوه:
أحدها : أن ينسخ بمثله في التخفيف أو التغليظ، كنسخ استقبال
بيت المقدس بالكعبة.
الثاني : نسخه إلى ما هو أخف منه كنسخ العدة حولا بالعدة أربعة
أشهر، وهذان القسمان لا خلاف فيهما.
الثالث : نسخه إلى ما هو أغلظ منه، والجمهور على جوازه كالعكس،
ولوقوعه، لأن الله تعالى وضع القتال في أول الإسلام، ثم نسخه
بفرض القتال. ونسخ الإمساك في الزنا بالجلد. وذهب قوم من
الظاهرية إلى المنع، وإليه صار ابن داود، كما نقله ابن
السمعاني.
ثم اختلف المانعون فقيل: منع منه العقل لما فيه من التنفير.
وقيل: بل الشرع لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وزعم
الهندي أن كل من قال بالجواز قال بالوقوع، وليس كذلك، فقد حكى
القاضي قولا أنه جائز، ولكنه لم يقع.
وذكر ابن برهان أن بعضهم نقل المنع عن الشافعي. قال: وليس
بصحيح، وكذا حكاه عبد الوهاب قولا للشافعي. قلت: كأن مستند
النقل عنه قول الشافعي في "الرسالة"1: إن الله فرض فرائض
أثبتها، وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده. هذا لفظه، وقد اختلف
فيه أصحابنا كما قاله أبو إسحاق المروزي، فقال بعضهم: أشار به
إلى أن الناسخ يكون أخف من المنسوخ ; لأنه جعل النسخ رحمة
وتخفيفا، وما نسخ بأغلظ منه كان تشديدا لا تخفيفا.
وقال آخرون: لم يرد به جميع أنواع النسخ، بل البعض. قال أبو
إسحاق: وكلام الشافعي مخرج على وجوه: أحدها: أنه أطلق اللفظ
على الأكثر من النسخ، لأن أكثر ما يقع فيه النسخ، نقل من تغليظ
إلى تخفيف. والثاني: أنه لم يقصد ذلك، وإنما ذكر الفرائض،
وأراد ما لم يلزم إثباته من الفرائض، فأسقط.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص:106
(3/173)
قلت : وبالجملة فالقول بالجواز مطلقا هو
الأشبه. وقد قال بكل منهما بعض أصحابنا، وليس في ذلك عن
الشافعي شيء نقطع به، والظاهر أنه أشار به إلى وجه الحكمة في
النسخ. والصحيح: الجواز ; لأن النسخ للابتلاء، وقد يكون لمصلحة
تارة في النقل إلى ما هو أخف وتارة أشق.
الثالث : نسخ التخيير بين أمرين بتعيين أحدهما، وهو راجع إلى
النسخ بالأثقل، كالذي كان في صدر الإسلام بين التخيير في صوم
رمضان بالفدية والصيام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الآية. ثم نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وينقسم باعتبار آخر إلى ما سقط وجوبه إلى الندب، كنسخ ثبات
الواحد للعشرة إلى ثباته للاثنين، فكان ثباته للعشرة مندوبا،
ونسخ وجوب قيام الليل، فجعل ندبا وإلى ما سقط وجوبه إلى
الإباحة كترك المباشرة بالليل للصائم بعد النوم، إلى ما سقط
تحريمه إلى الإباحة كزيارة القبور، وادخار لحوم الأضاحي1..
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
(3/174)
مسألة يدخل النسخ في جميع الأحكام الشرعية
يدخل النسخ في كل حكم شرعي، خلافا للمعتزلة فيما حسنه وقبحه
ذاتي أو لازم له كالظلم والكذب. ووافقهم الصيرفي كما رأيته في
كتابه. فقال: الأشياء في العقود على ثلاثة أضرب:
أحدها : واجب لا يجوز النهي عنه، وهو الاعتراف للمنعم
بالإحسان، وللخالق بالتعظيم، واعتقاد توحيده.
والثاني : محظور لا تجوز إباحته كإباحة الكذب والظلم ونحوه.
والثالث : ما يجوز أن يأتي العباد به، ويجوز أن لا يأتوا، وهذا
هو الذي يقع فيه النسخ كالصلاة، والصيام، والزكاة ونحوها، لأن
النهي عنه والأمر به لا يدفعه العقل، فجاز أن يوقعه الله في
زمان دون زمان، وفي مكان دون مكان، لأنه يجوز أن لا يأتي به
ألبتة، ولا يقع النسخ في غير ذلك، ولا يجوز أن يقع النسخ في
التوحيد، ولا في صفة من صفاته، هذا لفظه.
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
(3/174)
وهكذا قال أبو إسحاق المروزي في كتابه: لا
يجوز النسخ في توحيد الله، وما أمر به من الاعتراف بربوبيته،
والامتثال لأمره، والاتباع لرسله، والكفر بالشيطان وأوليائه،
ولا في صفات الله. ا هـ. وقد سبق مثله عن سليم.
واتفق الكل على جواز زوال التكاليف بأسرها عن المكلف لزوال
شرطه كالعقل، وأنه لا يجوز أن ينهى الله المكلف عن معرفته
سبحانه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق. واختلفوا في زوالها
بالنسخ فمنعه المعتزلة، والغزالي، لأنه يتضمن التكليف بمعرفة
الناسخ، وهو ظاهر كلام المتولي والرافعي حيث ذكرا فيه لو علق
الطلاق على ما يستحيل شرعا كما لو قال: إن نسخ وجوب المكتوبات
الخمس أو صوم رمضان فأنت طالق أنه يقع في الحال. والمختار عند
ابن الحاجب جوازه، لأنها أحكام كغيرها، لكن أكثر أصحابنا كما
ذكرنا على المنع..
مسألة
في جواز نسخ المقرون بكلمة التأبيد قولان. حكاهما صاحب
"الكبريت الأحمر". وقال: قال الجصاص: الصحيح عند أصحابنا
المنع، لأن الله تعالى ألزمنا اعتقاده باقيا على سبيل التأبيد،
فلا يجوز أن يكون بقاؤه مؤقتا. قال: وظاهر مذهب الجمهور جوازه
كالمطلق، وكلمة التأبيد تستعمل للدوام المعهود. قلت: وقد سبق
نظيره في التخصيص للحكم المؤكد..
(3/175)
مسألة : في نسخ
الأخبار
[الخبر] إما أن ينسخ لفظه أو مدلوله.
والأول : إما أن ينسخ تكليفا بأن يخبر به، أو تلاوته، ولا خلاف
في جوازه سواء كان ماضيا أو مستقبلا فيما يقبل التغيير كإيمان
زيد أم لا. وسيأتي حديث: "لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى
لهما ثالثا" 1، لأنه من المنسوخ تلاوته، وهو
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، حديث
6436 عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا،
ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" .
ورواه مسلم كتاب الزكاة، حديث 1049.
(3/175)
خبر، لكن هل يجوز نسخ تكليفنا بالإخبار عما
لا يتغير تكليفا بالإخبار بنقيضه؟ منعه المعتزلة، لأنه كذب
والتكليف فيه قبيح. قال الآمدي: وهذا مبني على قاعدة الحسن
والقبح الباطلة عندنا. قال: وعلى هذا فلا مانع من التكليف
بالخبر نقيض الحق.
والثاني : وهو نسخ مدلوله وثمرته، وهي المسألة الملقبة بنسخ
الأخبار بين الأصوليين، فننظر فإن كان مما لا يمكن تغييره بأن
لا يقع إلا على وجه واحد كصفات الله، وخبر ما كان من الأنبياء
والأمم، وما يكون من الساعة وآياتها، كخروج الدجال، فلا يجوز
نسخه بالاتفاق كما قاله أبو إسحاق المروزي، وابن برهان في
"الأوسط"، لأنه يفضي إلى الكذب، وإن كان مما يصح تغييره بأن
يقع على غير الوجه المخبر عنه ماضيا كان أو مستقبلا، أو وعدا
أو وعيدا، أو خبرا عن حكم شرعي، فهو موضع الخلاف.
فذهب أبو عبد الله، وأبو الحسين البصريان، وعبد الجبار،
والإمام الرازي إلى جوازه مطلقا، ونسبه ابن برهان في "الأوسط"
إلى المعظم. وذهب جماعة إلى المنع، منهم أبو بكر الصيرفي كما
رأيته في كتابه، وأبو إسحاق المروزي كما رأيته في كتابه في
"الناسخ والمنسوخ"، والقاضي أبو بكر، وعبد الوهاب، والجبائي،
وابنه أبو هاشم، وابن السمعاني، وابن الحاجب. وقال الأصفهاني:
إنه الحق.
ومنهم من فصل، ومنع في الماضي لأنه يكون تكذيبا، دون المستقبل،
لجريانه مجرى الأمر والنهي، فيجوز أن يرفع، ولأن الكذب يختص
بالماضي ولا يتعلق بالمستقبل، ولهذا قال الشافعي: لا يجب
الوفاء بالوعد، وإنما يسمى من لم يف بالوعد مخلفا لا كاذبا.
وهذا التفصيل جزم به سليم، وجرى عليه البيضاوي في "المنهاج"1،
وسبقهما إليه أبو الحسين بن القطان، فقال الخبر ضربان: أحدهما:
ما يمنع نسخه كما حكاه الله لنا عن الأمم السالفة، كقوله:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً}
[العنكبوت: 14]. والثاني: ما كان من باب الأخبار الكائنة
كقوله: من صلى دخل الجنة، ومن زنى دخل النار، فهذا يجوز
تغييره، فيقال بعد ذلك: من صلى أدخلته النار على حسب المصلحة.
ا هـ.
وقيل: إن كان الخبر الأول معلقا بشرط أو استثناء جاز نسخه، قال
ابن مقلة
ـــــــ
1 انظر الإبهاج في شرح المنهاج. 2/367.
(3/176)
في كتابه "البرهان": كما وعد قوم يونس
بالعذاب إن لم يتوبوا، فلما تابوا كشفه عنهم. وقال الآمدي:
يجوز مطلقا إذا كان مما يتكرر والخبر عام، فيبين الناسخ إخراج
ما لم يتناوله اللفظ.
وقال ابن دقيق العيد: المشهور في الخبر أنه لا يدخله النسخ،
لأن صدقه مطابقته للواقع، وذلك لا يرتفع. واختار جماعة من
الفضلاء جوازه، لكن جوازا مقيدا، وينبغي أن يكون في صورتين:
إحداهما: أن يكون بمعنى الأمر، نحو: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233]. والثانية: أن يكون الخبر تابعا
للحكم، فيرتفع بارتفاع الحكم.
تنبيهات
الأول : أن الخلاف مبني على تفسير النسخ وهل هو رفع أو بيان
كما صرح به القاضي؟ فقال: ذهب كل من قال بأن النسخ بيان، وليس
برفع حقيقي إلى جواز النسخ في الأخبار على هذا التأويل. قال:
وأما نحن إذا صرنا إلى أنه رفع لثابت حقيقي، وأن المبين ليس
بنسخ أصلا، فلا نقول على هذا بنسخ الأخبار، لأن في تجويزه
حينئذ تجويز الخلف في خبر الله، وهو باطل. وهذا بخلاف تجويز
النسخ في الأوامر والنواهي، لأنه لا يدخلها صدق ولا كذب. ا هـ.
ومن هذا يعلم أن من وافق القاضي، في تفسيره بالرفع وقال بتجويز
النسخ في الأخبار فلم يتحقق. ولم يقف الهندي على كلام القاضي،
فقال: لا يتجه الخلاف إن فسرنا النسخ بالرفع، لأن نسخه حينئذ
يستلزم الكذب. وإنما يتم إذا فسرناه بالانتهاء، فإنه لا يمتنع
حينئذ أن يراد من الدليل على ثبوت الحكم في كل الأزمنة لا
بعضها..
[نسخ الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي]
الثاني : أن الخلاف أيضا في الخبر المحض أما الخبر الذي بمعنى
الأمر أو النهي، نحو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:
233] {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] {لا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:] فلا خلاف في
جواز نسخه اعتبارا بمعناه. قاله ابن برهان، وتبعه الهندي. قال:
وأما نقل الإمام وغيره الخلاف في الخبر عن حكم شرعي فمحمول على
ما كان خبرا لفظا ومعنى. قلت: لكن ذهب أبو بكر القفال من
أصحابنا إلى منع نسخ الخبر وإن كان حكما شرعيا، اعتبارا بلفظه.
حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" وشرحها، وسليم في
"التقريب"، وابن السمعاني في "القواطع"،
(3/177)
وقال عبد الوهاب: الصحيح أنه لا يجوز نسخ
الخبر إلا إذا كان مرادا به الأمر. وقال الروياني: يجوز نسخ
الأمر وإن ورد بلفظ الخبر. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز اعتبارا
بالأخبار، وهو فاسد لاختصاص الأخبار بالإعلام، واختصاص الأوامر
بالإلزام..
[النسخ في الوعد والوعيد]
الثالث : النسخ في الوعد والوعيد، نقل أبو الحسين في المعتمد
عن شيوخ المعتزلة منع النسخ فيهما. وأما عندنا فكذلك في الوعد
لأنه إخلاف، والخلف في الإنعام مستحيل على الله، وبه صرح
الصيرفي في كتابه. وأما الوعيد كآخر البقرة فنسخه جائز كما
قاله ابن السمعاني. قال: ولا يعد ذلك خلفا، بل عفوا وكرما.
وظاهر كلام ابن القطان السابق جواز نسخهما.
وذكر بعضهم أن منشأ الخلاف أن الوعيد هل هو خبر محض؟ أو هو مع
ذلك إنشاء؟ كصيغ العقود التي تقبل النسخ، لكونه إخبارا عن
إرادة المتوعد وعزمه؟ كالخبر عن الأمر والنهي المتضمن خبره عن
طلبه المتضمن إرادته الشرعية. وفي صحيح مسلم لما نزل قوله
تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] عظم ذلك، فأمرهم
النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، فلما ذلت
بها ألسنتهم، نسخها الله بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
قال البيهقي: وهذا النص بمعنى التخصيص، فإن الآية الأولى وردت
مورد العموم، فبينتها التي بعدها: أن مما لا يخفى لا يؤاخذ به،
وهو حديث النفس الذي لا يستطيع العبد دفعه عن قلبه. قال: وكثير
من المتقدمين كانوا يطلقون عليه اسم النسخ على الاتساع، بمعنى
أنه لولا الآية الثانية لكان مؤاخذا بجميع ذلك. قال: ويحتمل أن
يكون هذا خبرا مضمنا لحكم، وكأنه حكم بمؤاخذة عباده بجميع ذلك
وتعبدهم به، فلما قابلوه بالطاعة خفف عنهم، ووضع عنهم حديث
النفس، فيكون قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:
284] خبرا مضمنا لحكم، أي محاسبكم به. وهذا كقوله: {إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [لأنفال: 65] الآية.
قال: وهذا كتبته من جملة كلام الشيخ أبي بكر الإسماعيلي.
قال: وقال الخطابي: النسخ لا يجري فيما أخبر الله عنه أنه كان،
وأنه فعل ذلك فيما مضى، لئلا يؤدي إلى الكذب والخلف، ويجري عند
بعضهم فيما أخبر أنه يفعله، لجواز تعليقه بشرط، بخلاف إخباره
عما فعله، فإنه لا يجوز دخول الشرط فيه
(3/178)
وهذا أصح الوجوه، وعليه تأول ابن عمر
الآية، ويجري ذلك مجرى العفو والتخفيف.
وليس بخلف. وقال الصيرفي: فإن سبب على أحدنا إدخال الوعيد في
باب الأخبار فقد وهم، لأن الله قد أخبر أنه يغفر ما دون الشرك
إن شاء.
وقال القرطبي: أما الوعيد والوعد، فلما كانا معلقين على ما
يجوز النسخ والتبديل جاز نسخهما. نعم، قد ورد في الشرع أخبار
ظاهرها الإطلاق، وقيدت في مواضع أخرى كقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. فقد جاء تقييده بقوله:
{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]
ونحوه. فقد يظن من لا بصيرة له أن هذا من باب النسخ في الأخبار
وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد. وقال ابن حاتم
الأزدي في "اللامع": وأما الأوقات فلا تنسخ، لأنها لا تدخل تحت
قدرة العباد. وقال شارحه: وهذا صحيح، وإنما نؤمر أن نوقع
أفعالنا في أوقات تعين لها.
الرابع: هل يرد النسخ في الدعاء؟ روى الترمذي عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم العن أبا سفيان، اللهم
العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية" 1 قاله عليه
السلام وهم كفار قريش، ثم أسلموا بعد ذلك. قال صاحب "مسند
الفردوس": وهذا منسوخ بقوله: "اللهم أيما رجل سببته أو شتمته
فاجعل ذلك قربة إليك" 2. متفق عليه. وفي رواية: "أيما مؤمن" .
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي 5/227 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة
آل عمران، حديث 3004 سالم ابن عبد الله بن عمر عن أبيه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: "االلهم العن أبا
سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية"
قال: فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فتاب الله عليهم، فأسلموا فحسن
إسلامهم. وهو حديث صحيح.
2 رواه البخهاري في صحيحه كتاب الدعوات باب قول النبي صلى الله
عليه وسلم: "من آذيته..." برقم 6361، ومسلم برقم 2601.
(3/179)
مسألة : [نسخ جميع القرآن ممتنع]
يمتنع نسخ جميع القرآن بالإجماع، كما قاله الإمام الرازي
وغيره، وأما نسخ بعضه فجائز خلافا لأبي مسلم الأصفهاني كما
نقله عنه الإمام.
(3/179)
فصل في وجوه النسخ في القرآن
وقسمه أبو إسحاق المروزي، والماوردي، وابن السمعاني وغيرهم إلى
ستة أقسام:
أحدها: ما نسخ حكمه، وبقي رسمه، وثبت حكم الناسخ ورسمه ، كنسخ
آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ العدة حولا
بأربعة أشهر وعشر. فالمنسوخ ثابت التلاوة مرفوع الحكم، والناسخ
ثابت التلاوة والحكم.
ومنع بعض الأصوليين من ذلك، لأن المقصود من التلاوة حكمها،
فإذا انتفى الحكم فلا فائدة في بقائها. حكاه جماعة من الحنفية
والحنابلة. ومنهم من ادعى الإجماع على الجواز. وقال الأستاذ
أبو إسحاق: هكذا مثلوا بآية العدة، وعندي أنها من المخصوص، لأن
فيها تخصيص بعض الشروط بالإيجاب وبعضها بالإسقاط.
الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه، وثبت حكم الناسخ ورسمه ، كنسخ
استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، وصيام عاشوراء برمضان.
قال أبو إسحاق المروزي: ومنهم من جعل القبلة من نسخ السنة
بالقرآن، وزعم أن استقبال بيت المقدس بالسنة لا بالقرآن.
الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه، ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه ،
كقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً} [النساء: 15] بقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما ألبتة نكالا من الله " 1. وقال عمر: كنا نقرؤها على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا أن يقال: زاد عمر في كتاب
الله لأثبتها، فإن قيل: لا نسلم أن الرجم ثبت بهذه الآية، بل
إنما ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم "البكر بالبكر جلد مائة
وتغريب عام
ـــــــ
1 رواه ابن ماجة 2/852 كتاب الحدود، باب الرجم، حدحيث 2553 عن
ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: لقد خشيت أن يطول بالناس
زمان حتى يقول قاائل: ما أجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك
فريضة من فرائض الله، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل وقامت
البينة، أو كان حمل أو اعتراف، وقد قرأتها: "الشيخ والشيخة إذا
زنيا فارجموهما ألبتة" رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده.
والحديث أصله في البخاري حديث 6830 بلفظ: إن الله بعث محمدا
بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم
فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما
نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.
والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا احصن من الرجال والنساء
إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف... الحديث وكذلك
رواه مسلم في صحيحه 1691.
(3/180)
والثيب بالثيب الرجم" رواه مسلم1 قلنا: هذا
مقرر لحكم تلك الآية. ويعرف أنه لم ينسخ. وقد يضعف هذا من
وجهين: أحدهما: أن حمل الحديث على التأسيس وإثبات الرجم ابتداء
أولى من حمله على تأكيد الآية المنسوخة. وثانيهما: أن الحديث
ورد مبينا للسبيل المذكور في قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15]. فدل على أنه غير متعلق بآية
الرجم، بل هو إما مستقل بإثباته أو مبين للسبيل الأخرى.
الرابع: ما نسخ حكمه، ورسمه، ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه .
كالمروي عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات ثم نسخن بخمس رضعات،
فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يتلى من القرآن2. قال
البيهقي: فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه، والخمس مما نسخ رسمه
بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسما، وحكمها
باق عند هم. وقولها: وهي مما يقرأ من القرآن. قال ابن
السمعاني: يعني أنه يتلى حكمه دون لفظه. وقال البيهقي: يعني من
لم يبلغه نسخ تلاوته قرآنا، فهذا أولى. وإنما احتجنا لهذين
التأويلين لأنه ليس في القرآن اليوم، وأن حكمه غير ثابت، فكان
المنسوخ مرفوع التلاوة والحكم، والناسخ باقي التلاوة.
ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه، ومن نسخ حكمه مع بقاء
لفظه، لأنه يؤدي أحدهما إلى أن يبقى الدليل ولا مدلول، والآخر
يؤدي إلى أن يرتفع الأصل ويبقى الناسخ. والصحيح هو الجواز، لأن
التلاوة والحكم في الحقيقة شيئان مختلفان، فجاز نسخ أحدهما،
وتبقية الآخر كالعبادتين. وجزم شمس الأئمة السرخسي بامتناع نسخ
التلاوة مع بقاء الحكم، لأن الحكم لا يثبت بدون التلاوة.
وقد أورد على أثر عمر السابق كونه مما نسخ رسمه، لأن القرآن لا
يثبت بمثل هذا، فإن من أنكر آية من القرآن كفر، وبمثل هذا لا
يكفر، فإذا لم يثبت كونه قرآنا، فكيف يدعى نسخه؟ والرجم ما عرف
بهذا، بل بحديث ماعز3. وكذلك حديث عائشة، فإن القرآن لا يثبت
بخبر الواحد، فلا تثبت به تلاوة ما هو من القرآن وحكمه معا،
فإنا لا نعقل كونه منسوخا حتى نعقل كونه قرآنا، وكونه من
القرآن لا يثبت بخبر الواحد.
وهذا الاعتراض في القسمين أعني في منسوخ التلاوة دون الحكم
وعكسه. ولهذا
ـــــــ
1 رواه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنى، حديث 1690.
2 حديث صحيح سبق تخريجه.
3 حديث رجم ماعز والغامدية سبق تخريجه، وهو حديث صحيح.
(3/181)
قال صاحب "المصادر": وأما نسخ التلاوة دون
الحكم فوجوده غير مقطوع به، لأنه منقول من طريق الآحاد، وكذلك
نسخهما جميعا، لا يقال: إن ذلك لم يكن قرآنا، لقول عمر: لولا
أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن، وذلك يدل على أنه لم يكن
قرآنا. قلنا: إنما قال ذلك لارتفاع تلاوته، فلم يكتبه لأنه نسخ
رسمه. وقال: لولا أن يقال: زاد في القرآن المثبت، لكتبت ذلك.
فإن قيل: "الشيخ والشيخة" لم يثبت بالتواتر، بل بقول عمر، ونسخ
المتواتر بالآحاد ممتنع، سواء كان قرآنا أو خبرا. قلنا: والرجم
أيضا لم يثبت بالتواتر، بل بالآحاد. وغايته أن الرجم ثابت
إجماعا، والإجماع ليس بناسخ، وغايته الكشف عن ناسخ متواتر، وقد
تكون سنة متواترة، وليس كون أحدهما متواترا أولى من الآخر.
وأجاب الهندي عن أصل السؤال بأن التواتر شرط في القرآن المثبت
بين الدفتين. أما المنسوخ فلا نسلم أن ذلك شرط فيه، بل يثبت
بخبر الواحد، لكن الذي قد ثبت ضمنا بها لا يثبت به استقلالا،
كالنسب بشهادة القوابل، وكقبول قول الراوي في أحد الخبرين
المتواترين أنه قبل الآخر على رأي، وإن لزم نسخ المعلوم بقوله.
وأجاب غيره بأن زماننا هذا ليس زمان نسخ، وفي زمان النسخ لم
يقع النسخ بخبر الواحد. وقال إلكيا الطبري: القرآن وإن لم يثبت
بخبر الواحد، لكن يثبت حكمه والعهد به بقول عائشة: وهي مما
يتلى، أي في حق الحكم. وضعف هذا بأن التلاوة لا تجوز بذلك.
وأجاب آخرون بأن قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] مطلق في الإرضاع، والخبر جاء
لبيان العدد، فلفظ القرآن مجمل في حق العدد، والتغير إنما يلحق
بخبر عائشة، فالآية إذا كانت مبينة بالخبر، وكان المراد به خمس
رضعات كان المتلو خمس رضعات، يعني وهذا كقوله: {وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] إذا ثبت بالخبر
بيان قدر الزكاة نصف دينار، وهو المراد بالخبر، فكان قراءة
الزكاة في القرآن قراءة نصف دينار.
والدليل على جوار نسخ الآخر مع بقاء الحكم، أن التلاوة حكم،
فلا يبعد نسخ أحد الحكمين مع بقاء الآخر. وليس أحدهما تبعا
للثاني.
(3/182)
فرع هل يجوز للمحدث مس المنسوخ التلاوة
قال الآمدي: تردد فيه الأصوليون، والأشبه المنع. وخالفه ابن
الحاجب، وقال: الأشبه الجواز1، وهو أصح الوجهين عندنا. ولذلك
تبطل الصلاة بذكره فيها. وذكر الرافعي في أول باب حد الزنى أن
القاضي ابن كج حكى عن بعض الأصحاب وجها أنه لو قرأ قارئ آية
الرجم في الصلاة، لم تفسد صلاته والصحيح خلافه. وأما المنسوخ
حكمه دون لفظه فله حكم ما لم ينسخ بالإجماع.
الخامس: ما بقي رسمه وحكمه، ولا نعلم الذي نسخه ، كالمروي أنه
كان في القرآن "لو كان لابن آدم واد من ذهب، لابتغى أن يكون له
ثان. ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب" 2. رواه
البخاري ومسلم من حديث أنس مرفوعا، ورواه أحمد في مسنده. وقال:
كان هذا قرآنا فنسخ خطه.
قال ابن عبد البر في التمهيد: قيل: إنه في سورة ص، وفي رواية،
عن أنس، قال: فلا ندري أشيء نزل أم شيء كان يقوله، وكما رواه
أنس في أصحاب بئر معونة: إنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم.
فكنا نقرأ: أن قد بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا
وأرضانا3. وأخرج الحاكم في مستدركه من حديث زر بن حبيش، عن أبي
بن كعب أن النبي قرأ عليه: {لَمْ يَكُن} ، وقرأ فيها: "إن ذات
الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية، ومن تعجل
خيرا فلن يكفر" 4. قال الحاكم: صحيح الإسناد.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 3/204، مختصر ابن الحاجب 2/194
2 سبق تخريجه قريبا.
3 الحديث رواه البخاري في صحيحه، ككتاب الجهاد والسير، حديث
2801 عن أنس رضي اله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم
أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم
خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبا، فتقجم فأمنوه، فبينما يحدثهم
عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه
فأنفذه، فقال: الله أكبر؛ فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية
أصحابه فقتلوهم إلا رجلا أعرج صعد الجبل قال همام: فأراه آخمر
معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد
لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ: أن بلغوا قومنا أن قد
لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين
صباحا، على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله
وورسوله صلى الله عليه وسلم.
4 الحديث رواه الترمذي 5/711 حديث 3898. وقال: هذا حديث حسن.
ورواه أحمد 5/131 حديث 2124. وأبو داود الطيالسي في مسنده 73.
ورواه الحاكم في المستدرك 2/579 حديث 3962. وقال: صحيح
الإسناد.
(3/183)
هكذا ذكر الماوردي هذا القسم في "الحاوي"،
ومثله بالحديث الأول، وفيه نظر كما قاله ابن السمعاني. وقال:
هذا ليس بنسخ حقيقة ولا يدخل في حده، وعده غيره مما نسخ لفظه
وبقي معناه. وعده ابن عبد البر في "التمهيد" مما نسخ خطه
وحكمه، وحفظه ينسى مع رفع خطه من المصحف، وليس حفظه على وجه
التلاوة، ولا يقطع بصحته عن الله، ولا يحكم به اليوم أحد. قال:
ومنه قول من قال: إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة
والأعراف.
السادس: ناسخ صار منسوخا وليس بينهما لفظ متلو ، كالمواريث
بالحلف والنصرة، نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة، ثم نسخ
التوارث بالهجرة ذكره الماوردي. قال ابن السمعاني: وهذا يدخل
في النسخ من وجه، ثم قال: وعندي أن القسمين الأخيرين تكلف،
وليس يتحقق فيهما النسخ. وجعل أبو إسحاق المروزي التوريث
بالهجرة من قسم ما علم أنه منسوخ، ولم يعلم ناسخه. قال: وكذا
قوله تعالى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فهو
منسوخ لا ندري ناسخه. وقيل ناسخه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وذكر أبو إسحاق
في وجوه النسخ في القرآن شيئا أنسي فرفع بلا ناسخ يعرف، فلم
يبق له رسم ولا حكم، مثل ما روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل
سورة البقرة، فرفعت. قال: وهذه الأوجه في نسخ القرآن، أما نسخ
السنة فإنما يقع في الحكم، فأما الرسم فلا مدخل له.
(3/184)
مسألة : لا يشترط في
الناسخ أن يكون متأخرا عن المنسوخ في التلاوة
وهذا كالآية الدالة على البقاء بالبيت سنة متأخرة عن الدالة
على البقاء أربعة أشهر وعشرا، لأنها متقدمة في النزول على
أربعة أشهر وعشر، ولكن كتابتها في المصحف جاءت على خلاف ما وقع
به النزول، كذلك نقله المفسرون وشبهوه لقوله تعالى: {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وهذا نزل بعد أن
تولوا عن القبلة الأولى، وتوجهوا إلى الكعبة، ثم جاء بعد ذلك:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وقوله:
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144] يدل على أنه لم يحول بعد.
وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة: 144] نزل قبل التحويل،
وقوله: {مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة: 142] نزل بعد التحويل، فلم
يأت الترتيب في
(3/184)
الكتابة على مقتضى النزول، فتفهم هذا الفصل
فإنه دقيق المسألة، عزيز الأمثلة.
(3/185)
مسألة [نسخ المتواتر بالآحاد]
لا خلاف في جواز نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بمثلها،
والآحاد بالآحاد، والآحاد بالمتواتر، وأما نسخ المتواتر سنة أو
قرآنا بالآحاد، فالكلام في الجواز والوقوع. أما الجواز عقلا
فالأكثرون عليه، وحكاه سليم عن الأشعرية، والمعتزلة. ومنهم من
نقل فيه الاتفاق، وبه صرح ابن برهان في "الأوسط" فقال: لا
يستحيل عقلا نسخ الكتاب بخبر الواحد بلا خلاف، وإنما الخلاف في
جوازه شرعا. ومنعه الهندي، وظاهر كلام سليم في "التقريب" أن
غير الأشعرية، والمعتزلة يقولون بمنعه عقلا، وهو ظاهر ما نقله
القاضي في "التقريب" عن الجمهور.
وقال إلكيا: لا يمنع منه، ولا يلتفت إلى من قال: إن خبر الواحد
يفيد الظن، وكتاب الله قطعي، فكيف يرفع المقطوع بمظنون؟ فإن
هذا شاع مما يلوج في الظاهر، لأن خبر الواحد وإن كان مفضيا إلى
الظن، لكن العمل به مستند إلى قاطع، وذلك القاطع أوجب علينا
العمل بالظن، ولولاه لما صرنا إلى العمل به. فوجوب العمل به
مقطوع، والظن وراء ذلك. فعلى هذا ما رفعنا المقطوع بمظنون.
وأما الوقوع، فذهب الجمهور كما قاله ابن برهان، وابن الحاجب
وغيرهما إلى أنه غير واقع1، ونقل ابن السمعاني وسليم في
"التقريب" فيه الإجماع، وعبارتهما: لا يجوز بلا خلاف. وهكذا
عبارة القاضي أبي الطيب في "شرح الكفاية"، والشيخ أبي إسحاق في
"اللمع"، ولم يحكيا خلافا. وينبغي حمل كلامهم على نفي الوقوع
لما ذكرناه، وإن كانت أدلتهم صريحة في نفي الجواز. وذهب جماعة
من أهل الظاهر منهم ابن حزم إلى وقوعه، وهي رواية عن أحمد
احتجاجا بقصة أهل قباء، حكاها ابن عقيل، وألزم الشافعي ذلك
أيضا، فإنه احتج على خبر الواحد بقصة قباء.
وفصل القاضي في "التقريب"، والغزالي، وأبو الوليد الباجي،
والقرطبي بين زمان الرسول وما بعده، فقالا: بوقوعه في زمانه.
وكذا قال إمام الحرمين: أجمع العلماء
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب مع العضد 2/194.
(3/185)
على أن الثابت قطعا لا ينسخه مظنون، ولم
يتعرض لزمان الرسول. وكأن الفارق أن الأحكام في زمان الرسول في
معرض التغير، وفيما بعده مستقرة، فكان لا قطع في زمانه.
(3/186)
مسألة [نسخ القرآن بالسنة]
وأما نسخ القرآن بالسنة، فإن كانت السنة آحادا فقد سبق المنع،
وكرر ابن السمعاني نقل الاتفاق فيه، وليس كذلك، وإن كانت
متواترة فاختلفوا فيه، فالجمهور على جوازه ووقوعه، كما قاله
القاضي أبو الطيب، وابن برهان.
وقال ابن فورك في "شرح مقالات الأشعري": إليه ذهب أكثر أصحاب
الشافعي، وإليه يذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري. وكان يقول: إن
ذلك وجد في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ}
[البقرة: 180] فإن هذه الآية منسوخة بالسنة، وهو قوله: "لا
وصية لوارث". وكان يقول: إنه لا يجوز أن يقال: إنها نسخت بآية
المواريث، لأنه يمكن أن يجمع بينهما. ا هـ. ومن خط ابن الصلاح
نقلته.
قال ابن السمعاني: وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين. وقال
سليم: هو قول أهل العراق، وقالوا: ليس لأبي حنيفة نص فيه، ولكن
نص عليه أبو يوسف، واختاره. قال: وهو مذهب الأشعرية،
والمعتزلة، وسائر المتكلمين. قال الدبوسي في "التقويم": إنه
قول علمائنا، يعني الحنفية.
قال الباجي: قال به عامة شيوخنا، وحكاه أبو الفرج عن مالك.
قال: ولهذا لا تجوز الوصية عنده للوارث للحديث، فهو ناسخ لقوله
تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} [البقرة: 180] الآية.
قال عبد الوهاب: قال الشيخ أبو بكر: وهذا سهو، لأن مالكا صرح
بأن الآية منسوخة، بآية المواريث.
(3/186)
[مذهب الشافعي
في نسخ القرآن بالسنة]
وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قاله ابن السمعاني: إلى أنه لا
يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال، وإن كانت متواترة، وجزم به
الصيرفي في كتابه، والخفاف في كتاب "الخصال"، ونقله عبد الوهاب
عن أكثر الشافعية، وقال الأستاذ أبو منصور: وأجمع
(3/186)
[نسخ القرآن
بالمستفيض من السنة]
الثاني : أنهم تعرضوا للآحاد والتواتر وسكتوا عن المستفيض،
لأنه يؤخذ حكمه من المتواتر بطريق الأولى، وقد توقف فيه
النقشواني. وقال: قد جوزوا التخصيص به، والاحتياط في النسخ
آكد، وقد تعرض له ابن برهان في "الأوسط" في باب الأخبار. وحكى
عن بعضهم جواز نسخ الكتاب به. قال: ومنهم من منع، وجوز الزيادة
على الكتاب به، لأن الزيادة ليست بنسخ. انتهى.
وظاهر كلام الماوردي في "الحاوي" أنه لا فرق بين المستفيض
والمتواتر، فإنه حكى الخلاف في نسخ القرآن بالسنة ثم قال: وجوز
أبو حنيفة نسخ الكتاب بالسنة المستفيضة، كما نسخت آية المواريث
بحديث: "لا وصية" 2. قال: وهذا غلط،
ـــــــ
2 حديث صحيح سبق تخريجه قريبا.
(3/192)
فإنه إنما نسخها آية المواريث، وكانت السنة
بيانا.
الثالث : في المسألة حديث رواه الدارقطني عن جابر رفعه: "كلامي
لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا" 1، وقال ابن
عدي في "الكامل": إنه حديث منكر.
مسألة [نسخ السنة بالقرآن]
وأما نسخ السنة بالقرآن ، فمن جوز نسخ القرآن بالسنة فأولى أن
يجوز هذا وأما المانعون هناك فاختلفوا. وللشافعي فيها قولان:
حكاهما القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وسليم، وإمام
الحرمين، وصححوا الجواز. وقال ابن برهان: هو قول المعظم. وقال
سليم: هو قول عامة المتكلمين والفقهاء. وقال ابن السمعاني: إنه
الأولى بالحق، وجزم به الصيرفي هنا مع منعه هناك. وظاهر كلام
أبي إسحاق المروزي تصحيحه، لكن حكى الرافعي في باب الهدنة أن
المنع منسوب إلى أكثر الأصحاب.
وقال الماوردي في "الحاوي" في باب القضاء: ظاهر مذهبنا وجهان
أو قولان. التردد منه. وقال: الذي نص عليه الشافعي في القديم
والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن. كالعكس. وقال ابن
سريج: يجوز بخلاف ذلك لأن القرآن آكد من السنة، وخرجوا قولا
ثانيا للشافعي من كلام تأوله في "الرسالة". انتهى.
ـــــــ
1 الحديث رواه الدارقطني في سننه 4/145 كما قال المصنف بلفظ عن
أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلامي لا ينسخ كلام الله،
وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا" . وقال ابن
عدي في "الكامل في الضعفاء" 2/180: إنه حديث منكر.
(3/193)
[مذهب الشافعي
في نسخ السنة بالقرآن]
وقال أبو إسحاق المروزي في كتابه: نص الشافعي في "الرسالة
القديمة والجديدة" على أن السنة لا تنسخ إلا السنة، وأن الكتاب
لا ينسخ السنة، ولا العكس2. وقال ابن السمعاني: ذكر الشافعي في
"الرسالة القديمة والجديدة" ما يدل على أن نسخ السنة لا يجوز،
ولعله صرح بذلك، ولوح في موضع آخر بما يدل على الجواز، فخرجه
أكثر أصحابنا على قولين، وأظهرهما من مذهبه أنه لا يجوز.
والثاني: الجواز، وهو أولى بالحق انتهى.
ـــــــ
2 انظر الرسالة صك 106.
(3/193)
وقد استعظم إلكيا الهراسي القول بالمنع
هاهنا أيضا. وقال: توجيهه عسر جدا، والممكن فيه أن يقال: إنه
عليه السلام إذا قال عن اجتهاد، فلا يجوز أن يرد الكتاب من بعد
بخلافه، لما فيه من تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم على
الباطل، وإيهام المخالفة. وقال في "تعليقه": قد صح عن الشافعي
أنه قال في "رسالتيه" جميعا: إن ذلك غير جائز، وعلى ذلك من
هفواته، وهفوات الكبار على أقدارهم، ومن عد خطؤه عظم قدره. وقد
كان عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب الشافعي في الأصول
والفروع، فلما وصل إلى هذا الموضع، قال: هذا الرجل كبير، لكن
الحق أكبر منه، ثم نصر هو الحق.
قال إلكيا: والمتغالون في محبة الشافعي لما رأوا أن هذا القول
لا يليق به طلبوا له محامل، فقيل: إنما قال هذا بناء على أصل،
وهو جواز الاجتهاد للرسول، فإذا جاز له الاجتهاد في. بنص
الكتاب وحكم ثم أراد الرسول نسخه باجتهاده، لا يجوز له، لأن
الاجتهاد لا يؤدي إلى بيان أمد العبادة، ولا يهدي إلى مقدار
وقتها. وهذا باطل، لأن الشافعي منع من النسخ بالمتواتر، وقضية
هذا الكلام تجويز نسخ القرآن للسنة التي لا توجد، وبيانه أن ما
كان بيانا في كتاب الله بالنص كان ثبوته عنه باجتهاد الرسول،
لأن الاجتهاد استخراج من جهة الله، وهو لا يجوز مع وجود
الكتاب. فكأنه يقول: الشافعي يمنع من نسخ الكتاب لسنة لا يتصور
وجودها. انتهى كلامه.
قلت: وعبارة الشافعي في "الرسالة" بعد الكلام السابق: وهكذا
سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسوله، ولو أحدث الله لرسوله
في أمر سن فيه غير ما سن رسول الله [لسن فيما أحدث الله] إليه
حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها، وهذا
مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: هل تنسخ السنة
بالقرآن؟ قيل: لو نسخت السنة بالقرآن، كان للنبي صلى الله عليه
وسلم فيه سنة تبين أن السنة الأولى منسوخة بسنته الأخيرة، حتى
يقيم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله. انتهى1.
وفيه كذلك قوله في "الرسالة" في موضع آخر2: وقد ورد حديث أبي
سعيد في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق،
وأن ذلك قبل أن ينزل الله الآية التي ذكر فيها صلاة الخوف، ثم
ذكر الشافعي صلاة النبي بذات الرقاع، ثم قال: وفي هذا دلالة
على ما وصفت قبل هذا في هذا الكتاب، من أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا سن سنة، [فأحدث الله إليه في تلك السنة نسخها أو
مخرجا إلى سعة] منها سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تقوم
الحجة
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 108.
2 انظر الرسالة ص: 242.
(3/194)
على الناس بها، حتى [يكونوا] إنما صاروا من
سنته إلى سنته التي بعدها، فنسخ الله تأخير الصلاة عن وقتها في
الخوف إلى أن يصلوها كما أنزل الله، وسن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وقتها، ونسخ صلى الله عليه وسلم [سنته] في
تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم سنته صلاها رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وقتها كما وصفت. انتهى.
ومن صدر هذا الكلام أخذ من قبل عن الشافعي أن السنة لا تنسخ
بالكتاب، ولو تأمل عقب كلامه بان له غلط هذا الفهم. وإنما مراد
الشافعي أن الرسول إذا سن سنة ثم أنزل الله في كتابه ما ينسخ
ذلك الحكم، فلا بد أن يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى
موافقة للكتاب تنسخ سنته الأولى، لتقوم الحجة على الناس في كل
حكم بالكتاب والسنة جميعا، ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب،
وقوله: ولو أحدث إلى آخره، صريح في ذلك. وكذلك ما بعده.
والحاصل أن الشافعي يشترط لوقوع نسخ السنة بالقرآن سنة معاضدة
للكتاب ناسخة، فكأنه يقول: لا تنسخ السنة إلا بالكتاب والسنة
معا، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا، ولئلا يتوهم متوهم
انفراد أحدهما من الآخر، فإن الكل من الله. والأصوليون لم
يقفوا على مراد الشافعي في ذلك، وقد سبق أن هذا أدب عظيم من
الشافعي وليس مراده إلا ما ذكرناه. فإن قيل: يرد عليه الكتاب
المنفرد بلا سنة، والسنة المنفردة بلا كتاب. قيل: الحجة في ذلك
قائمة بالكتاب والسنة جميعا. أما الأول فلتبليغ النبي صلى الله
عليه وسلم، والعلم باتباعه له، ما تواتر عنه من الأمر بطاعة
الله. وأما الثاني فلقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ}
[الحشر: 7]، فاجتمع في كل مسألة دليلان.
فإن قيل: فهذا حاصل فيما إذا كان أحدهما ناسخا للآخر. قيل:
نعم، ولكنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله،
وأكثر أدبا ومسارعة إلى ما يؤمر به، ولا يبقى مكان إزالة
الشبهة عن الناس، وإزالة عذرهم، وذلك يقتضي أنه لا يبقى له سنة
تخالف الكتاب إلا بين أنها منسوخة بيانا صريحا بقوله أو فعله،
حتى لا يتعلق من في قلبه ريب بأحدهما ويترك الآخر. وهذا من
محاسن الشافعي الذي لم يسبقه غيره إلى الإفصاح به.
وقد وقع على هذا المعنى ونبه عليه جماعة من أئمتنا، منهم أبو
إسحاق المروزي في كتابه "الناسخ". فقال: وقد نقل كلام الشافعي
في "الرسالتين"، فذكر الكلام السابق ثم قال: وذكر الشافعي في
"الرسالة القديمة" منع نسخ القرآن بالسنة، ثم قال: وكذلك
القرآن لا ينسخ السنة، ولو أحدث الله عز وجل لنبيه في سنة سنها
غير ما سن الرسول لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا غير
السنة الأولى، حتى تنسخ سنته الأخيرة سنته الأولى.
(3/195)
وقال أيضا في القديمة في مناظرة بينه وبين
محمد حكاية عن محمد أنه قال: وإذا كانت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم سنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى ما
أراد الله عز وجل، ولا يتأول على سنة لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا يزعم أن الكتاب ينسخ بسنة، ولكن السنة تدل على معنى
الكتاب. فقال الشافعي: إذا أصبت. وهذا قولنا، فكيف لا نقول
باليمين مع الشاهد. قال أبو إسحاق: فقد نص الشافعي في "الرسالة
القديمة والجديدة" على أن سنة الرسول لا تنسخ إلا بسنة، وأن
الكتاب لا ينسخ السنة، ولا السنة تنسخ الكتاب، وأن كتاب الله
فيما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة إنما يأتي أمر ثان ينسخ
سنته، حتى يكون هو المتولي لنسخه، وسنته أن يكون ذلك، لئلا
يختلط البيان بالنسخ، فلا يوجد لرسول الله سنة ظاهر القرآن
خلافها، إلا جعل القرآن ناسخا، أو جعلت السنة إذا كان ظاهرها
خلاف القرآن ناسخة للقرآن، فيكون ذلك ذريعة إلى أن يخرج أكثر
السنن من أيدينا.
وقد قال الشافعي في مواضع ما يوجب أن القرآن ينسخ السنة، إلا
أنه في أيدينا وجب استعمالها على ما يمكن منهما، والذي يمكن
تخصيص العام بالنص بعلمنا ذلك، ثم سواء تقدمت السنة أو تأخرت،
لأنها إن تقدمت فالكلام العام مثبت عليها، وهي بيان، وإن تأخرت
فهي تفسيره، وهي بيان. ومن جعلها منسوخة فإنما يريد منا أن
نترك المفسر بالمجمل، والنص بالمجمل، ومن أراد ذلك منا قلنا
له: بل بيان كما أمر الله نبيه بالبيان به. فلا يجوز ترك النص
بما يحتمل المعاني. قال: وهذا جملة مما قاله الشافعي في هذا
الباب، وما قاله أبو العباس بن سريج فيه. ا هـ.
ومنهم أبو بكر الصيرفي في كتابه، فقال: ومعنى قول الشافعي: إن
السنة لا تنسخ القرآن صحيح على الإطلاق لا يأتي برفع حكم
القرآن أبدا، ومعنى قوله: لا ينسخ القرآن السنة إلا أحدث النبي
صلى الله عليه وسلم سنة تبين أن سنته الأولى قد أزيلت بهذه
الثانية كلام صحيح، أحال أن تكون السنة تأتي برفع القرآن
الثابت على ما بينا من قيام الأدلة، وأجاز أن يأتي القرآن برفع
السنة، بل قد وجده، ثم قرنه بأنه لا بد من سنة معه تبين أنه
أزال الحكم، لئلا يجوز أن يجعل عموم القرآن مزيلا لما بينه من
سنن النبي صلى الله عليه وسلم، لوهم أن يتوهم أن قوله: فاغسلوا
أرجلكم مزيل لحكم مسح الخفين، ومثله قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي
مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}
[الأنعام: 145] مزيل لتحريم كل ذي ناب من السباع ونحوه. وهكذا
قال الشافعي عند ذكره صلاة الخوف، وحكي عن أبي سعيد صلاة النبي
صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وذلك قبل أن ينزل الله:
{فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] فقال: وهذا من
الذي قلت لك: إن الله إذا أحدث لرسوله في شيء سنة عليه السلام،
(3/196)
فلا بد من سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة
بسنته الأخيرة، يعني أن الله عز وجل رفع الحكم بالآية ففعل هذه
السنة، لأن الرافع هو القرآن، والسنة هي المثبتة أن القرآن قد
رفع حكم ما سنه، وبيانا للأمة، ألا ترى النبي صلى الله عليه
وسلم قد علم أن الحكم قد زال بما أمر، وصار هو الفرض بفعله
امتثالا للمفروض عليه وعلى أمته، وبيانا للأمة أنه قد أزيل ما
سنه، فيعلم بسنته الثانية أن الله قد أزال سنته الأولى لما
وصفت من احتمال ترتيب الآية على السنة، لئلا يشكل ذلك في
الترتيب والفرض. وقد نص الشافعي على ذلك فقال فيما عقده النبي
صلى الله عليه وسلم لقريش بنقض الله الصلح من رد المؤمنات:
فهذا يدل على أن القرآن هو الذي رفع السنة. انتهى كلامه.
وقال الغزالي في "المنخول": أما ورود آية على مناقضة ما تضمنه
الخبر فجائز بالاتفاق، ولكن الفقهاء قالوا: النبي صلى الله
عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية. قال: وهذا كلام لا فائدة
فيه، ولا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر وعزي إلى الشافعي
المصير إلى استحالته، ولعله عنى في المسألة أن النبي صلى الله
عليه وسلم لا ينسخ، ولا يبين، وإنما الناسخ الله1. ا هـ.
وقال القاضي في "التقريب": كان الشافعي يقول بتجويز ورود
القرآن بلفظ ينفي الحكم الثابت بالسنة، غير أنه لا يقع النسخ
به حتى يحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن سنة له أخرى
يبين بها انتفاء حكم السنة المتقدمة، وهذا مما لا وجه له، لأنه
إذا كان القرآن من عند الله، وكان ظاهره ينفي حكم السنة، وجب
القضاء على رفعه لها، ولو كان ما هذا حكمه من القرآن لا يكفي
في ذلك في رفع حكم السنة لفظ سنة أخرى ينفي حكمها. فإن قيل: قد
يلتبس الأمر في ذلك، فيظن سامع لفظ الآية أنه غير مراد به رفع
حكم السنة؟ قلنا: إذا لم يحتمل اللفظ غير ما يضاد حكم السنة
ارتفع التوهم.
وقال أبو إسحاق المروزي: نص الشافعي في موضع آخر على أن الله
ينسخ سنة رسوله، غير أن قوله لم يختلف في أن الله إذا نسخ ذلك
لم يكن بد من أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تبين
أن سنته الأولى منسوخة، إما بالسنة أو بكتاب الله، لأن المنع
من إجازة نسخ الله سنة نبيه لئلا يختلط البيان بالنسخ فتخرج
السنن من أيدينا، فإذا انضم إلى السنة الأولى وإلى القرآن الذي
أتى برفعه سنة أخرى تبين أن السنة الأولى منسوخة، فقد زال ما
يخوف من اختلاط البيان بالنسخ، ولا يبالى بعد ذلك أيهما الناسخ
ـــــــ
1 انظر المنخول ص: 295.
(3/197)
للحكم الأول: الكتاب للسنة، أو السنة
للسنة، وليس في أيدينا دليل واضح على أنه لا ينسخ الكتاب
السنة، كما أن السنة لا تنسخ القرآن. قال: وحكى أبو العباس بن
سريج قولا للشافعي في "الرسالة" أن الله لا ينسخ سنة إلا ومعها
سنة له تبين أن سنته الأولى منسوخة، وإلا خرجت السنن من
أيدينا.
ثم قال: وهذا الذي احتج به الشافعي بين لمن تدبره، وذلك أن
الله قال لنبيه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فإذا كانت هذه الآيات محتملة للخصوص،
ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك، فهو بيان منه
لها، فإذا جعلت ناسخة له فقد أدى ذلك إلى إبطال الوضع الذي وضع
الله له نبيه من الإبانة عن معنى الكتاب. فإن قيل: إنما هي
بيان إذا ثبت أنه قال بعد نزول الآية. قيل: إن قوله والآية إذا
جعلنا الناسخ دليلا على أنه الناسخ، وأن الذي ينافيه منسوخ،
كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 1.
ـــــــ
1 رواه الترمذي 3/370 كتاب الجنائز باب ما جاء في الرخصة في
زيارة القبور، حديث 1054 ولفظه عن سليمان بن بريدة عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كنت نهيتكم عن
زيارة القبور فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها
تذكر الآخرة" . والحديث رواه مسلم أيضا، برقم 977 بلفظ "نهيتكم
عن زيارة القبور فزوروها..." الحديث.
(3/198)
تنبيهات
الأول: قسم الصيرفي ما يأتي من القرآن برفع ما حكم به النبي
صلى الله عليه وسلم إلى ضربين:
أحدهما : ما لا يحتمل الموافقة فبالخطاب يعلم رفعه، كقوله:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144]
الآية. وكصلح الرسول لقريش على أن يرد النساء إليهم، فأنزل
الله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [ الممتحنة:
10] فهذا يعلم من ظاهر الخطاب أن الحكم قد أزيل، ويكون فعل
النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله.
والثاني : يحتمل الموافقة كآية الوصايا مع الميراث، فإنه يحتمل
أن يجمع الوصية والميراث للوالدين والأقربين، فلا يثبت النسخ
إلا أن تأتي سنة تبين أن الآية رافعة كقوله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1. قال:
ومثل أن عموم آية على سنة، فلا بد حينئذ من سنة تبين أن السنة
الأولى قد أزيل حكمها ببيان السنة الثانية.
الثاني : أن الكلام هنا في الجواز هل هو الشرعي أو العقلي؟ فيه
ما سبق. وقد صرح الماوردي بأن العقلي محل وفاق، فقال بعدما
سبق: ثم اختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع
جوازه في العقل على ثلاثة أوجه:
أحدها : لا توجد سنة إلا ولها في كتاب الله أصل كانت فيه بيانا
لمجمله، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخا لما في الكتاب من
أصلها، فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب.
والثاني : يوحي إلى رسوله بما تحققه من أمته، فإذا أراد نسخ ما
سنه الرسول أعلمه به، حتى يظهر نسخه، ثم يرد الكتاب بنسخه
تأكيدا لنسخ رسوله، فصار ذلك نسخ السنة بالسنة.
والثالث : نسخ الكتاب بالسنة، فيكون أمرا من الله لرسوله
بالنسخ، فيكون الله هو الآمر به، والرسول هو الناسخ، فصار ذلك
نسخ السنة بالكتاب.
الثالث : حكى أبو بكر الرازي من الحنفية في كتابه عن بعضهم
طريقا آخر في الامتناع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد كان يقف
في تأويل مجمل الكتاب على ما لا يشركه في الوقوف عليه أحد من
أمته. فليست له سنة لا كتاب فيها إلا وقد يحتمل أن يكون لها في
الكتاب
ـــــــ
1 سبق تخريجه قريبا، وهو حديث صحيح.
(3/199)
جملة تدل عليها، فخص الله رسوله بعلم ذلك،
فلم يثبت أن آية نسخت سنة، لأن تلك السنة قد تكون مأخوذة من
جملة الكتاب وإن خفي علينا علم ذلك بعد. قال أبو بكر: وهذا
يوجب أن لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة أصلا. وأن يكون
كل ما بينه فهو بيان لجملة مذكورة في القرآن قد علمها دوننا.
قال: وبطلانه معلوم باتفاق الأمة. قلت: قد حكاه الشافعي في أول
الرسالة قولا عن بعض أهل العلم، ثم حكى الرازي عن هذا القائل
استقراء أنه لم يرد أنه نسخت عنده سنة إلا وقد وجد لها حكمة من
الكتاب، نحو: ما ادعوه من نسخ استقبال بيت المقدس، واستحلال
الخمر، وتحريم المباشرة، والفطر بعد النوم في ليالي الصوم، فقد
يكون استقبال بيت المقدس مأخوذا من قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وشرب
الخمر من قوله: {إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
[البقرة: 219] ومعلوم أن شربها لا يحل وفيه إثم، ويحرم ما يحل
للمفطر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
[البقرة: 183] أي على الصفة، قال: وإن ورد ما لم يطلع فيه على
ذلك، فيجوز أن يكون مأخوذا من الكتاب، وإن خفي علينا علمه. ثم
زيف الرازي هذه المقالة، ورد هذا كله.
الرابع : أشار الدبوسي إلى أن الخلاف في هذه المسألة والتي
قبلها نشأ من الخلاف في أن الزيادة نسخ أو بيان؟ فالشافعي يرى
أنه بيان، وما ورد مما يوهم النسخ جعله من قسم البيان. وعندنا
أن الزيادة نسخ، فاضطررنا إلى القول بجواز نسخ السنة بالكتاب
وبالعكس.
وقال ابن المنير في "شرح البرهان": طريق النظر عندي في هذه
المسألة غير ما ذهب إليه المصنفون، وذلك لأن الناسخ والمنسوخ
أمر قد فرغ منه، وجف به القلم، فلا تتوقع فيه الزيادة. وينبغي
أن يسمع الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، فإن لم نجد شيئا من
الذي نسخ بالسنة، ولا العكس، قطعنا بالواقع، واستغنينا عن
الكلام على الزائد، لأنه لا يقع أبدا.
قال: وها هنا مزلة قدم لا بد من التنبيه عليها، وذلك أنا قد
نجد حكما من السنة منسوخا، ونجد في الكتاب حكما مضادا لذلك
المنسوخ، فيسبق الوهم إلى أنه الناسخ، وهذا غير لازم، لأنا قد
نجد في السنة ناسخا، فلعل الموجود في السنة هو الذي نسخ،
والموجود في الكتاب نزل بعد أن استقر النسخ، فلا يتعين كون ذلك
هو الناسخ، ثم نتبع ذلك بالأمثلة.
(3/200)
مسألة
إذا وردت السنة بيانا لمجمل الكتاب، كقوله: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وبين الرسول الوضوء، ثم قال: هذا
وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. قال أبو إسحاق المروزي: فما
كان من السنة من هذا النوع فلا يجوز أن ينسخ بالسنة، لأن الفرض
إنما ثبت بالكتاب لا بالسنة. قال: وكذلك ما ورد في الكتاب
مجملا ففسرته السنة، أو عاما فخصصته، أو متشابها أو بيانا
للناسخ من المنسوخ، مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [النساء: 77] فلا يجوز نسخ ذلك بالسنة فيما كان
بيانا للجملة التي احتيج إلى تفسيرها، فأما ما ضم هو إليها،
فيجوز نسخه بالسنة.
(3/201)
مسألة [نسخ كل واحد من القول والفعل
بالآخر]
ظاهر مذهب الشافعي كما قاله الماوردي، والروياني أن القول لا
ينسخ إلا بالقول، وأن الفعل لا ينسخ إلا بالفعل. وقال بعض
أصحابنا: يجوز نسخ كل واحد منهما بالآخر، لأن كلا منهما سنة
يؤخذ بها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في السارق1: "فإن عاد في الخامسة
فاقتلوه" 2، ثم رفع إليه سارق في الخامسة، فلم يقتله، فدل على
أنه منسوخ. وقال: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 3، ثم رجم
ماعزا ولم يجلده4، فدل على أن الجلد منسوخ.
ـــــــ
1 كذا بالأصل، ولعلها "في الشارب" كما سيتبين من تخريج الحديث.
2 الحديث رواه أبو داود في سننه 4/164 كتاب الحدود، باب إذا
تتابع في شرب الخمر، حديث 4482 عن معاوية بن أبي سفيان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم
ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا
فاقتلوهم" . وراه الترمذي في سننه 4/48 كتاب الحدود، باب ما
جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة. حديث 1444 عن
معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر
فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" وكذا رواه النسائي
الرابعة، حديث 5662. ورواه ابن ماجة حديث 2573. وهو حديث صحيح.
وأما الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله: ثم رفع إليه سارق في
الخامسة فإنه يقتله، فهو خطأ، والمروي إنما هو في شرب الخمر.
3 سبق تخريجه قريبا.
4 الحديث رواه أحمد في مسنده 5/92 حديث 20897 عن جابر بن سمرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يذكر جلدا.
(3/201)
وما حكيناه عن بعض الأصحاب صححه الشيخ في
"اللمع"1 وهو الذي يقتضيه مذهب الشافعي، فإنه ذكر في إيجاب
القعود إذا صلى الإمام قاعدا أنه نسخ بفعله صلى الله عليه وسلم
في مرض موته2.
وقال القاضي: يجوز نسخ الفعل بالفعل إذا علم كونهما مثبتين
لحكمين متنافيين، فأما النسخ بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم
على الفعل أو المنع منه فقد ذكرناه في باب الأخبار. قال:
واختلف أيضا في نسخ قوله بفعله فأجازه قوم ومنعه آخرون.
والصحيح الجواز.
وقال ابن عقيل من الحنابلة: لا يجوز النسخ بالأفعال، وإن
جعلناها دالة على الوجوب دون دلالة صريح القول، والشيء إنما
ينسخ بمثله أو بأقوى منه. وقال ابن فورك: إذا أقر على غير ما
أمر به، هل يدل إقراره على نسخ الأول؟ وجهان: أحدهما: أنه يقع
به نسخ، كما يقع به التخصيص على قولنا: إن الفعل يدل على
الوجوب. ومن توقف في الفعل قال: ويستدل بإقراره على أنه قد
سبقه قول نسخ به الأمر الأول، لأن فعله يقع تخصيصا، ويقع
متعديا، فمن قال بهذا فإنه يقول في حديث معاذ: وكان قد تقدم من
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ قول في ذلك، ثم قال: "سن لكم
معاذ سنة فاتبعوه" 3 فأضافها إليه تنويها بذكره، لما كان هو
المبتدي به. ومن قال بالأول جعل سكوته على الإنكار نسخا له.
ـــــــ
1 انظر اللمع ص: 33.
2 يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب إنما
جعل الإمام ليؤتم به. حديث 689 عن أنس بن مالك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن فصلى
صلاة من الصلوات وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف
قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائما فصلوا قياما،
فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن
حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاائما فصلوا قياما،
وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون".
قال البخاري: قال الحميدي: قوله: "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا"
هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر
فالآخر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه مسلم حديث 411.
3 يشير إلى ما رواه أبو داود في سننه 1/138 كتاب الصلاة، باب
الأذان، حديث 506 وفيه وكان الرجل إذا جاء يسأل فيخبر بما سبق
من صلاته وإنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين
قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها قال: فقال: "إن
معاذا قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا..." الحديث. وهو حديث صحيح.
(3/202)
مسألة الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به
أما كونه لا ينسخ، فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة الرسول،
والنسخ لا يكون بعد موته. هكذا قاله ابن الصباغ، وسليم، وابن
السمعاني، وأبو الحسين في "المعتمد" والإمام فخر الدين.
وجعلوا هذه المسألة مبنية على أن الإجماع لا ينعقد في زمانه،
لأن قولهم بدون قوله لاغ ; وأما معه فالحجة في قوله، وقول
الغير لاغ، وإذا لم ينعقد إلا بعد زمانه فلا يمكن نسخه بالكتاب
والسنة لتعذرهما بعد وفاته، ولا بإجماع آخر، لأن هذا الإجماع
الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ. وإن كان عن دليل فقد غفل
عنه الإجماع الأول، فكان خطأ، والإجماع لا يكون خطأ، فاستحال
النسخ بالإجماع، ولا بالقياس، لأن من شرط العمل به أن لا يكون
مخالفا للإجماع فتعذر نسخ الإجماع مطلقا، لأنه لو انتسخ لكان
انتساخه بواحد مما ذكرنا، والكل باطل.
وما ذكروه من عدم تصور انعقاد الإجماع في حياته عليه السلام هو
ما ذكره أكثر الأصوليين، وفيه نظر إذا جوزنا لهم الاجتهاد في
زمانه كما هو الصحيح، فلعلهم اجتهدوا في مسألة، وأجمعوا عليها
من غير علمه صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر أبو الحسين البصري في
"المعتمد" بعد ذلك ما يخالف الأول، فإنه جزم بأن الإجماع لا
ينسخ، لأنه إنما ينعقد بعد وفاته، ثم قال: نعم، يجوز أن ينسخ
الله حكما أجمعت عليه الأمة على عهده. ثم قال: فإن قيل: يجوز
أن ينسخ إجماع وقع في زمانه. قلنا: يجوز، وإنما منعنا الإجماع
بعده أن ينسخ. وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا
عليه، لا حكمه.
وقد استشكل القرافي في "شرح التنقيح" هذا الحكم، ونقل عن أبي
إسحاق، وابن برهان جواز انعقاد الإجماع في زمانه. قال: وشهادة
الرسول لهم بالعصمة متناولة لما في زمانه وما بعده.
وقال صاحب "لمصادر": ذهب الجماهير إلى أن الإجماع لا يكون
ناسخا ولا منسوخا، لأنه إنما يستقر بعد انقطاع الوحي، والنسخ
إنما يكون بالوحي. قال الشريف المرتضى: وهذا غير كاف، لأن
دلالة الإجماع عندنا مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده.
قال: فالأقرب أن يقال: أجمعت الأمة على أن ما ثبت بالإجماع لا
(3/203)
ينسخ ولا ينسخ به، أي لا يقع ذلك، لا أنه
غير جائز. ولا يلتفت إلى خلاف عيسى بن أبان، وقوله: إن الإجماع
ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت. انتهى.
وأما كونه ينسخ به فكما لا يكون منسوخا لا يكون ناسخا، لأنه
لما كان ينعقد بعد زمانه لم يتصور أن ينسخ ما كان من الشرعيات
في زمانه، ولأن الأمة لا تجتمع على مثل هذا، لأنه يكون إجماعا
على خلافه، وهم معصومون منه. فإن قيل: قد نسختم خبر الواحد
بالإجماع، وهو حديث الغسل من غسل الميت، والوضوء من مسه؟ قلنا:
إنما استدل بمخالفة الإجماع له على تقدير نسخه فصار منسوخا
بغير الإجماع، لا بالإجماع، فصار الإجماع في هذا الموضع دليلا
على النسخ، لا أنه وقع به النسخ. قاله ابن السمعاني في
"القواطع".
وقال الأستاذ أبو منصور: إذا أجمعت الأمة على حكم واحد، ووجدنا
خبرا بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر، لا نسخه أو
تأويله على خلاف ظاهره، وكذا قال الصيرفي في كتابه: ليس
للإجماع حظ في نسخ الشرع، لأنهم لا يشرعون، ولكن إجماعهم يدل
على الغلط في الخبر أو رفع حكمه، لا أنهم رفعوا الحكم، وإنما
هم أتباع لما أمروا به. وقال القاضي من الحنابلة: يجوز النسخ
بالإجماع لكن لا بنفسه، بل بمستنده. فإذا رأينا نصا صحيحا
والإجماع بخلافه، استدللنا بذلك على نسخه، وأن أهل الإجماع
اطلعوا على ناسخ، وإلا لما خالفوه. وقال ابن حزم: جوز بعض
أصحابنا أن يورد حديث صحيح والإجماع على خلافه. قال: وذلك دليل
على أنه منسوخ. قال ابن حزم: وهذا عندنا خطأ فاحش، لأن ذلك
معدوم، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9] وكلام الرسول وحي
محفوظ. ا هـ.
وممن جوز كون الإجماع ناسخا الحافظ البغدادي في كتاب "الفقيه
والمتفقه" ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام الرسول
وأصحابه، فما أيقظهم إلا حر الشمس. وقال في آخره: "فإذا سها
أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" 1.
ـــــــ
1 رواه مسلم 1/472 كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة
واستحباب تعجيل قضائها حديث 681 بلفظ "أما إنه ليس في النوم
تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة
الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها فإذا كان الغد
فليصلها عند وقتها..." الحديث. ورواه أبو داود 1/119، حديث 437
بلفظ "إنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة، فإذا سها
أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت" .
(3/204)
قال: فأعاد الصلاة المنسية بعد قضائها حال
الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين على أنه لا يجب ولا
يستحب.
ومثله أيضا بحديث أسنده إلى زر قال: قلت لحذيفة: أي ساعة
تسحرتم مع رسول الله؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع1.
فقال: أجمع المسلمون أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب على
الصائم مع بيان ذلك في قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:
187] انتهى.
ودعواه النسخ في الثاني بالإجماع فيه نظر، فإن قوله تعالى:
{مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] صريح في التقييد بالفجر، فهو
الناسخ حينئذ لا الإجماع، إلا أن يريد أن الأمة لما أجمعت على
ترك ظاهره دل إجماعهم على نسخه لا أن الإجماع هو الناسخ.
وقال إلكيا: يتصور نسخ الإجماع بأن الأولين إذا اختلفوا على
قولين ثم أجمعوا على أحدهما، فنقول: إن الخلاف نسخ وجزم القول
به مع إجماع الأولين على جواز الاختلاف.
قلنا: الصحيح أن الخلاف الأول يزول به، ومن قال: يزول به، قال:
هذا لا يعد ناسخا، لأنهم إنما سوغوا القول الأول، بشرط أن لا
يكون هناك ما يمنع من الاجتهاد، كالغائب عن الرسول لا يجتهد
إلا بشرط فقد النص، والإجماع كالنص في ذلك، والاختلاف مشروط
بشرط. وهذا بعيد فإن نص الرسول ذلك الحكم المخالف لم يكن حكم
الله، وهنا الإجماع بعد الخلاف لا يبين أن الخلاف لم يكن
شرعيا، وإنما اعترض على دوام حكم الخلاف نسخا، فإن قيل بهذا
المذهب، فهو نسخ الإجماع على الخلاف لا محالة. انتهى. وقال ابن
برهان في "الأوسط": وأما إجماع الطبقة الثانية على أحد القولين
فليس بنسخ، لأن القول المهجور بطل في نفسه، ولهذا قال الشافعي:
المذاهب لا تموت بموت أربابها، وأيضا فلفقد شرط الإجماع، وهو
أن يكون للمذهب الأول ذاب وناصر.
وقال ابن السمعاني في "القواطع": وأما نسخ الإجماع بالإجماع
فمثل أن تجمع الصحابة في حكم على قولين، ثم يجمع المانعون
بعدهم على قول واحد، فيكون الصحابة
ـــــــ
1 الحديث رواه النسائي في سننه 4/142 كتاب الصيام، باب تأخير
السحوور، حديث 2152 وإسناده حسن. وقال السيوطي في شرح الحديث:
قوله: قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. الظاهر أن المراد
بالنهار هو النهار الشرعي، والمراد بالشمس الفجر، والمراد أنه
في قرب طلوع الفجر حيث يقال: إنه النهار نعم ما كان الفجر
طالعا.
(3/205)
مجمعين على جواز الاجتهاد، والمانعون
مجمعين على عدم جواز الاجتهاد. قال: وفي هذه المسألة للشافعي
قولان، وإن قلنا بجوازه لا يكون ناسخا، لأن الصحابة وإن سوغوا
الاجتهاد فشرطه ما لم يمنع مانع..
(3/206)
مسألة : القياس لا
ينسخ ولاينسخ به
...
مسألة القياس لا ينسخ ولا ينسخ به
أما كونه ناسخا فالجمهور على منعه، ومنهم الصيرفي في كتابه،
وإلكيا في "التلويح"، وابن الصباغ، وسليم، وأبو منصور البغدادي
في "التحصيل"، وابن السمعاني، ونقله أبو إسحاق المروزي عن نص
الشافعي وكلام ابن سريج، واختاره أيضا.
وقال القاضي الحسين في "تعليقه" في باب الأقضية: إنه الصحيح في
المذهب.
واختاره القاضي أبو بكر، ونقله في "التقريب" عن الفقهاء
والأصوليين، قالوا: فلا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة
بالقياس، لأن القياس يستعمل مع عدم النص، فلا يجوز أن ينسخ
النص. ولأنه دليل محتمل، والنسخ يكون بأمر مقطوع، ولأن شرط صحة
القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه، ففي نسخ الأصول
بالقياس تحقيق القياس دون شرطه، وهو ممتنع، ولأنه إن عارض نصا
أو إجماعا فالقياس فاسد الوضع، وإن عارض قياسا آخر، فتلك
المعارضة إن كانت بين أصلي القياس، فهذا يتصور فيه النسخ قطعا،
إذ هو من باب نسخ النصوص، وإن كان بين العلتين فهو من باب
المعارضة في الأصل والفرع لا من باب القياس.
قال الصيرفي: لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي، ولا حظ للقياس
فيه أصلا، اللهم إلا أن يرد خبر لمعنى، ثم يرد ناسخ لذلك الخبر
الذي فيه ذلك المعنى، فيرتفع هو ودلالته، كما لو حرم بيع البر
بالبر للأكل، فقسنا كل مأكول عليه، ثم أحل البر بالبر، فيصير
ما قسناه عليه حلالا، لأن تحريمه للمعنى الذي أوجبه ما أوجبه
في غيرها، فمتى أزال حكمها بطل حكم ما تعلق بها، وليس هذا نسخا
بالقياس، إنما هو نسخ للمنصوص عليه بالمنصوص. وقال: كذلك ما
أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز رفعه بالقياس،
لأنه قد ثبت تحليل عينه، والقياس يقع فيه الخطأ. انتهى.
والمذهب الثاني: الجواز مطلقا بكل دليل يقع به التخصيص. حكاه
القاضي وغيره. وقال الجزري في أجوبة "التحصيل": لو دل نص على
إباحة النبيذ مثلا كما يقول: من يبيحه، ثم دل نص على تحريم
الخمر، وكان متراخيا عن إباحة النبيذ، ثم قسنا
(3/206)
التحريم في النبيذ على الخمر، كان القياس
الثاني ناسخا. وهذا مبني على أمرين: تقدم إباحة النبيذ، وكون
التحريم في النبيذ بالقياس لا بالنص، كما قال بعضهم، وحينئذ
يتصور كون القياس ناسخا للنص.
وحكى القاضي عن بعضهم أنه ينسخ به المتواتر ونص القرآن، وعن
آخرين أنه إنما ينسخ به أخبار الآحاد فقط.
الثالث : التفصيل بين الجلي، فيجوز النسخ به، وبين الخفي فلا
يجوز. حكاه الأستاذ أبو منصور وغيره عن أبي القاسم الأنماطي،
إجراء له مجرى التخصيص، وحكاه صاحب المصادر عن ابن سريج، وحكى
أبو الحسين بن القطان عن الأنماطي أنه كان يقول: القياس
المستخرج من القرآن ينسخ به القرآن، والقياس المستخرج من السنة
ينسخ به السنة. وحكى في موضع آخر عنه أنه جوز ذلك، وقال: ما لا
يحتمل إلا معنى واحدا.
وقال: جوزه أكثر أصحابنا إلا أنه لم يقع. وحكى الباجي عن
الأنماطي التفصيل الأول، ثم قال: وهذا ليس بخلاف في الحقيقة،
لأن القياس عنده مفهوم الخطاب، وهو ليس بقياس في الحقيقة،
وإنما يجري مجرى النص.
(3/207)
وقسم الماوردي،
والروياني القياس الجلي ثلاثة أقسام:
أحدها : ما عرف معناه من ظاهر النص بغير الاستدلال، كقوله:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] فإنه يدل على تحريم
الضرب قياسا لا لفظا على الأصح، وفي جواز النسخ به وجهان،
والأكثرون على المنع.
الثاني : ما عرف كنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء، فكانت
العمياء قياسا على العوراء، والعرجاء على القطع، لأن نقصها
أكثر، فهذا لا يجوز التعبد به بخلاف أصله، ويجوز التخصيص به،
ولا يجوز النسخ بالاتفاق، لجواز ورود التعبد في الفرع بخلاف
أصله.
الثالث : ما عرف معناه باستدلال ظاهر بتأدي النظر، كقياس الأمة
على العبد في السراية، وقياس العبد عليها في تنصيف الحد، فلا
يجوز النسخ به، ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا. ا هـ.
الرابع : التفصيل بين أن تكون علته منصوصة، كقوله: حرمت الخمر
لأجل الشدة، فهذا يجوز النسخ به مع التعبد بالقياس، ويرفع به
حكم تحليل الأنبذة التي فيها الشدة، وبين أن تكون مستنبطة فهي
على ضربين:
(3/207)
أحدهما : أن تستنبط من خطاب متأخر عن
الخطاب المعارض لها، فهذا قد كان يجوز أن يرد الشرع بنسخها
للخطاب المتقدم. وإنما منع من ذلك الشرع.
والثاني : أن تكون العلة مستخرجة من خطاب سابق على الخطاب
المعارض لها، فهذا يستحيل أن يرد شرع بنسخها للخطاب المتأخر،
لأن المفهوم من العلة المستنبطة تحريم المباح بدليل الخطاب، ثم
يرد الخطاب المنسوخ بعد العلة الناسخة بالإباحة فيجتمع الحظر
والإباحة في حكم واحد، وذلك يمنع التكليف. قال الباجي في
أحكامه: وهذا هو الحق. وفصل الآمدي1 بين أن تكون العلة منصوصة
فيصح، وإلا فإن كان القياس قطعيا كقياس الأمة على العبد في
السراية، فإنه وإن كان مقدما، لكن ليس نسخا، لكونه ليس بخطاب،
والنسخ عنده هو الخطاب، وإن كان ظنيا بأن تكون العلة مستنبطة
فلا يكون ناسخا. وقد سبقه إلى هذا التفصيل صاحب "المصادر"
أيضا، ثم قال: قال القاضي عبد الجبار: إذا كان كذلك يعني العلة
منصوصة، فالأقرب أن الناسخ هو ما كان من جهة الرسول، ولكن
فعلنا بشرط، وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول. وقال: أما
بعده فلا ينسخ بالاتفاق.
وأما كونه منسوخا ففيه مسألتان: إحداهما: مع بقاء أصله، قال
ابن السمعاني: وفيه وجهان كالوجهين فيما إذا نسخ الأصل، هل
يكون ذلك نسخا للقياس؟ قال: وصورته أن يثبت الحكم في عين بعلة،
ويقاس عليها غيرها، ثم ينسخ الحكم في تلك العين المقيس عليها،
فالأصح أنه يبطل الحكم في الفرع، لأن الفرع تابع للأصل، فإذا
بطل الحكم في الأصل بطل في الفرع.
وقال ابن برهان في "الأوسط": نقل عن عبد الجبار أنه لا يجوز
نسخ القياس، لأنه يتضمن نسخ أصوله من الكتاب والسنة، وهي لم
تنسخ. ونقل عنه قول آخر أنه يجوز نسخه. قال: والحق ما ذكره
أصحابنا، وهو أنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب، لا السنة
والقياس. وأما بعد موته فلا يجوز. ا هـ.
وكذا قال إلكيا: قيل لا يصح نسخه، لأنه مع الأصول، فما دامت
الأصول ثابتة فنسخه لا يصح. قال: وهذا عندنا بعد الرسول، فإنه
إنما تبين بطلانه من أصله، وذلك ليس من النسخ في شيء، بل يظهر
مخالف أو لا يظهر، وكيفما قدر فلا يكون نسخا، وإن كان في عهد
الرسول، فيجوز ذلك إن قلنا بجواز الاجتهاد للغائب عنه، بناء
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 3/163.
(3/208)
على الأصول. فإذا طرأ ناسخ بعده صح نسخ
القياس، ثم يتجه أن يقال: ليس نسخ القياس، فإنه تبع للأصول
فإذا ارتفعت ارتفع التبع.
وأطلق سليم أنه لا يجوز نسخ القياس. قال: لأنه يستفاد من أصله،
فلا يجوز أن ينسخ مع بقاء حكم أصله. وقال صاحب "المعتمد": منع
القاضي عبد الجبار من نسخ القياس. قال: لأنه تبع للأصول، فلم
يجز مع ثبوتها رفعه، ولأنه إنما ثبت بعد انقطاع الوحي.
وقال في الدرس: إن كان معلوم العلة جاز نسخه. قال: لأن النبي
صلى الله عليه وسلم لو نص على أن علة تحريم البر هي الكيل،
وأمر بالقياس، لكان ذلك كالنص في تحريم الأرز، فكما جاز أن
يحرم الأرز ثم ينسخه جاز أن ينسخ عنا تحريم الأرز المستفاد
بهذه العلة المنصوص عليها، ويمنع من قياسه على البر. وقال
البيضاوي في "منهاجه": إنما ينسخ بقياس أجلى منه. وقال الإمام
فخر الدين في "المحصول" تبعا لصاحب "المعتمد"، وابن الصباغ:
ينسخ القياس إن كان في حياته، فلا يمتنع رفعه بالنص،
وبالإجماع، وبالقياس، أما بالنص فبأن ينص عليه السلام في الفرع
بخلاف حكم القياس بعد استمرار التعبد بالقياس، وأما بالإجماع
فإنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياسا، ثم أجمعوا على أحد
القولين كان إجماعهم رافعا لحكم القياس المقتضي للقول الآخر،
وأما بالقياس فبأن ينص على صورة بخلاف ذلك الحكم، ويجعله معللا
بعلة موجودة في ذلك الفرع. ويكون أمارة عليتها أقوى من أمارة
علية الوصف للحكم في الأصل الأول.
وأما بعد وفاته فإنه يجوز نسخه في المعنى، وإن كان لا يسمى
نسخا في اللفظ، كما إذا أفتى المجتهد بالقياس، ثم ظفر بالنص أو
بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول، فإن قلنا: كل مجتهد مصيب،
كان هذا الوجدان نسخا لقياسه الأول. وإن قلنا: المصيب واحد لم
يكن القياس الأول متعبدا به، فلم يكن النص الذي وجده آخرا
ناسخا لذلك القياس. قال صاحب "التحصيل": ولقائل أن يقول: وفي
هذه الأقسام نظر، فليتأمله الناظر. وهو كما قال، فإن تجويزه
نسخ القياس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع، يناقض
قوله قبل ذلك: إن الإجماع لا ينعقد في زمانه، كما قاله
القرافي، ونقله الإجماع على بطلان الأقسام الثلاثة الأول ليس
بجيد، بل الخلاف ثابت في تجويز نسخ الكتاب بالقياس كما سبق.
وقال بعضهم: ينبغي أن يجوز مطلقا، فإنا وإن قلنا: إن كل مجتهد
مصيب فلا خلاف أنه مكلف بما غلب على ظنه، كالقبلة إذا لم
يعينها، فإنه تكليف بما أدى إليه
(3/209)
اجتهاده.
وقال ابن برهان: نقل عن عبد الجبار أنه منع نسخ القياس، لأنه
إنما تنسخ أصوله، وأصوله باقية لم تنسخ. ونقل عنه الجواز،
والحق البين ما قسمه أصحابنا فقالوا: إذا كان القياس في زمن
الرسول جاز نسخه بالكتاب، والسنة، والقياس، فإذا قال: "لا
تبيعوا البر بالبر" 1، ونبه على علته فعديناها إلى الأرز، ثم
وجد نص من كتاب الله أو سنة رسوله يقتضي إباحة بيع الأرز
بالأرز متفاضلا، فإنه نسخ لحكم ذلك القياس، أما بعد وفاته فلا
يجوز نسخه، لأنه يستحيل بعد الوفاة تجدد شرع.
وقال الآمدي: العلة الجامعة في القياس إن كانت منصوصة، فهي في
معنى النص، ويمكن نسخه بنص أو قياس في معناه لو ذهب إليه ذاهب
بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لعدم اطلاعه على ناسخه بعد
البحث، فإنه وإن وجب عليه اتباع ما ظنه، فرفع حكمه في حقه بعد
اطلاعه على الناسخ لا يكون نسخا متجددا، بل تبين أنه كان
منسوخا، وإن كانت مستنبطة فحكمها في حقه غير ثابت بالخطاب،
فرفعه في حقه عند الظفر بذلك معارضة، ويترجح عليه فلا يكون
نسخا، لكونه ليس بخطاب، لأن النسخ هو الخطاب..
المسألة الثانية
الحكم الثابت بالقياس نسخ أصله يوجب نسخه في قول الجمهور، كما
قاله ابن السمعاني. وصورته ما لو نص الشارع على حكم، وعلله
بعلة، وألحق غيره به، ثم نسخ الحكم في الأصل، فهل يرتفع في
الفرع؟ عندنا يرتفع. وقالت الحنفية: يبقى، لأنه لو زال لكان
زواله نسخا بالقياس، وهو ممنوع. والصحيح الأول، لأن الفرع لا
يبقى بعد زوال الأصل، لأنه إذا بقي لا يكون فرعا.
وفصل إلكيا الهراسي بين أن ينسخ الأصل لا إلى بدل. فلا يبقى
الفرع. وبين أن ينسخ إلى بدل فيبقى. وهو غريب. قال إمام
الحرمين: الحق أن المعنى يبقى استدلالا، وفيه نظر، فإن شرط
الاستدلال عند العامل به أن لا يشهد عليه أصل، وهذا المعنى قد
ألغاه الناسخ. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة البحث في ثبوت
الحكم، وكون الوصف علة شرعا، هل هما متلازمان تلازمهما؟
والحنفية يعتقدونهما منفكين، فلا يلزم من بطلان أحدهما بطلان
الآخر.
ـــــــ
1 حديث صحيح، سبق تخريجه.
(3/210)
واعلم أن التعبير في هذه المسألة بالرفع
وقع في عبارات لسليم في. "التقريب"، وابن برهان في "الأوسط"،
وإمام الحرمين في "التلخيص"، وهو أحسن من تعبير غيرهم كابن
برهان، والهندي وغيرهما بالنسخ، لأن أصحابنا لا يقولون: إن حكم
الفرع ينسخ بارتفاع حكم الأصل، بل يزول لزوال كون العلة
معتبرة، والحكم إذا زال لزوال علته، لا يقال: إنه منسوخ.
قالوا: لو كان نسخ الأصل نسخ الفرع لكان ذلك بالقياس على الأصل
إذا لم يرد ناسخ للفرع، وأجيب بمنعه، إذ لا جامع وهو لا يتم
بدونه، بل هو لزوال حكم الأصل إذ العلة مبنية عليه. قال
الهندي: وهذا يبين أن محل النزاع في زوال الحكم لا من حيث إنه
نسخ حقيقة، إذ زوال الحكم لزوال علته ليس نسخا بالاتفاق.
قال القاضي أبو الطيب، وسليم الرازي، وإمام الحرمين في
"التلخيص"، وغيرهم: قد بنت الحنفية على أصلهم فرعين، أنه لا
يجوز التوضؤ بالنبيذ المسكر النيء، وإنما يجوز إذا كان مطبوخا.
وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنيء، وألحقوا به المطبوخ
قياسا، ثم نسخ التوضؤ بالنيء، وبقي التوضؤ بالمطبوخ.
والثاني : ادعوا أن يوم عاشوراء كان يجب صومه، ويجوز إيقاع
النية فيه نهارا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل
العوالي يوم عاشوراء أن من لم يأكل، فليصم1. فدل على أنه يجوز
إيقاع النية من النهار، وألحق به رمضان من حيث إنه صوم. ثم نسخ
صوم يوم عاشوراء، وبقي القياس مستمرا في رمضان.
وقد نوزع في هذا المثال الثاني، لأنه غير مطابق، من جهة أن حكم
القياس مغاير للحكم المنسوخ، لأن حكم القياس ترك التبييت،
والحكم المنسوخ إنما هو وجوب الصوم، وليست مسألتنا من هذا
القبيل.
وقال إلكيا: ذهب أكثر الحنفية إلى جواز الاستنباط من المنسوخ
في أمثلة، لا بد من مساعدتهم على بعضها. كقولهم في صوم يوم
عاشوراء: كان واجبا، وجوزه الرسول بنية من النهار، ثم نسخ
وجوبه، فادعوا أن النسخ يرجع إلى تبديل النية، وما
ـــــــ
1 الحديث رواه النسائي 4/192 كتاب الصيام، سباب إذا لم يجمع من
الليل هل يصوم ذلك اليوم؟ حديث 2321 عن سلمة بن الأكوع رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أذن يوم
عاشوراء: من كان أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن
أكل فليصم". والحديث رواه البخاري كتاب الصوم، باب إذا نوى
بالنهار صوما حديث 1924 عن سلمة أيضا أن النبي صلى الله عليه
وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء إن من أكل فليتم أو
فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل. ورواه مسلم حديث 1135.
(3/211)
فهمناه من جواز النية من النهار باق بحاله،
لا يتأثر بنسخه، فإذا عرفنا تماثل الحكمين عند وجوبها من
النية، فالنسخ راجع إلى أحدهما في الوجوب، لأنه المعنى المنقول
منه.
قال إلكيا: وهذا حسن لا ريب فيه. نعم، لو نسخ الأصل لا إلى
بدل، فالفرع لا يبقى دون الأصل. وهاهنا نسخ إلى بدل كما إذا
نسخ تحريم التفاضل في الأشياء الأربعة لا يمكن إثبات الحكم
بالمعنى المستنبط منه في المطعومات، لأنه يكون فرعا بلا أصل،
وعلى هذا يبطل قولهم: إن التوضؤ بالنبيذ جائز بحديث ابن مسعود
أنه وإن تم أداؤه من حيث كان نقع التمر، ولكن يفهم منه إجزاؤه
بنبيذ التمر، حيث إن هذا فرع بلا أصل. قال: وقد يلتبس بهذا ما
احتج به الشافعي من حيث وجوب التيمم لكل صلاة تلقيا من قوله:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] ثم فعل الوضوء
لكل صلاة، فكان التيمم بذلك أولى، ثم روى الجمع بين صلاتين
فأكثر بوضوء واحد، ولا يجوز ذلك في التيمم عند الشافعي. فلم
يعقل من حكم النسخ ما عقل من حكم الأصل، وهذا خطأ من الظان،
فإن الظاهر دل عليها..
(3/212)
مسألة :في نسخ المفهوم
وهو ينقسم إلى مفهوم مخالفة ومفهوم موافقة. أما المخالفة،
فيجوز نسخه مع نسخ الأصل وبدونه، كقوله: "إنما الماء من
الماء"، فإنه نسخ مفهومه بقوله: "إذا التقى الختانان" 1، وبقي
أصله وهو وجوب الغسل من الإنزال. وقال ابن السمعاني: دليل
الخطاب يجوز نسخ موجبه، ولا يجوز النسخ بموجبه، لأن النص أقوى
من دليله. ا هـ.
وما ذكره في نسخه ذكره القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، وأما
النسخ به، فقال الشيخ في "اللمع"2: يجوز، لأنه في معنى النطق
على المذهب على الصحيح. قال: ومن أصحابنا من جعله كالقياس،
فعلى هذا لا يجوز النسخ به، والأول أظهر. ا هـ. ويحتمل وجها
ثالثا، وهو التفصيل بين أقوى المفاهيم، وهو ما قيل فيه: إنه
منطوق
ـــــــ
1 الحديث روواه ابن ماجة 1/199 كتاب الطهارة وسننها، باب ما
جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، حديث 608 عن عائشة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إذا التقى الختانان فقد وجب
الغسل. ورواه الترمذي 1/182 كتاب الطهارة، ما جاء إذا التقى
الختانان وجب الغسل برقم 109 عن عائشة قالت: إذا جاوز الختان
الختان وجب الغسل. قال أبو عيسى: حديث عائشة حديث حسن صحيح.
2 انظر اللمع ص: 33.
(3/212)
كالحصر والشرط، وبين ما أجمعوا على أنه ليس
من قبيل المنطوق. وأما نسخ الأصل بدونه ففي جوازه احتمالان
للصفي الهندي: قال: والأظهر أنه لا يجوز، لأنه إنما يدل على
العدم باعتبار ذلك القيد المذكور، فإذا بطل تأثير ذلك القيد
بطل ما يبنى عليه، فعلى هذا نسخ الأصل نسخ المفهوم. وليس
المعنى فيه أن يرفع العدم، ويحصل الحكم الثبوتي، بل المعنى فيه
أن يرتفع العدم الذي كان شرعيا، ويرجع إلى ما كان عليه قبل.
وقال سليم في "التقريب" في باب المفهوم: من أصحابنا من قال:
يجوز أن يسقط اللفظ، ويبقى دليل الخطاب، والمذهب أنه لا يجوز
ذلك، لأن الدليل إنما هو تابع للفظ، فهو تابع له، وفرع عنه،
فيستحيل أن يسقط الأصل، ويكون الفرع باقيا.
(3/213)
[نسخ مفهوم
الموافقة والنسخ به]
وأما مفهوم الموافقة، فهل يجوز نسخه والنسخ به؟ أما كونه
ناسخا، فجزم القاضي بجوازه، في "التقريب" وقال: لا فرق في جواز
النسخ بما اقتضاه نص الكتاب، وظاهره، وجوازه بما اقتضاه فحواه،
ولحنه، ومفهومه، وما أوجبه العموم، ودليل الخطاب عند مثبتها،
لأنه كالنص أو. أقوى منه. انتهى. وكذا جزم ابن السمعاني، قال:
لأنه مثل النطق أو أقوى منه. قال: لكن الشافعي جعله قياسا،
فعلى قوله لا يجوز نسخ النص به.
ونقل الآمدي، والإمام فخر الدين الاتفاق على أنه ينسخ به ما
ينسخ بمنطوقه، وهو عجيب. فإن في المسألة وجهين لأصحابنا،
وغيرهم، حكاهما الماوردي في "الحاوي"، والشيخ في "اللمع"،
وسليم، وصححا المنع. قال سليم: وهو المذهب، لأنه قياس عند
الشافعي، فلا يقع النسخ به.
ونقله الماوردي عن الأكثرين. قال: لأن القياس فرع النص الذي هو
أقوى، فلا يجوز أن يكون ناسخا له. قال: والثاني، وهو اختيار
ابن أبي هريرة وجماعة: الجواز، لأنه لما جاز أن يرد التعبد في
فرعه بخلاف أصله، صار الفرع كالنص، فجاز به النسخ، وإن كان
أصله نصا في القرآن جاز أن ينسخ به القرآن، وإن كان أصله نصا
في السنة جاز أن ينسخ به السنة دون القرآن.
قال: ومن هاهنا اختلف أصحابنا في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا} [لأنفال: 65] مع قوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
(3/213)
مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] الآية أن نسخ
مصابرة عشرين مئتين بمصابرة عشرين أربعين علم بالقياس أو
باللفظ؟ فمنهم من قال: علم بالقياس، لأن الله لم ينص على حكم
العشرين، وإنما قسناه على حكم المئتين. ومنهم من قال علم
باللفظ. ا هـ.
ومنشأ الخلاف في أنه قياس جلي أو لا: أن دلالته لفظية أو عقلية
التزامية؟ فإن قلنا: لفظية جاز نسخها، والنسخ بها كالمنطوق،
وإن كانت عقلية، كانت قياسا جليا، والقياس لا ينسخ، ولا ينسخ
به.
وأما كونه منسوخا، فتارة يتوجه النسخ إليه مع بقاء حكم اللفظ،
وتارة يتوجه إلى اللفظ، فإن توجه إلى اللفظ فلا شك في جوازه،
ويكون نسخا للفحوى على الخلاف الآتي، وإن توجه إلى الفحوى فقط،
وحكم اللفظ باق، فاختلف فيه الأصوليون على قولين، حكاهما ابن
السمعاني وغيره:
أحدهما : الجواز، ونقله عن أكثر المتكلمين، كالنصين، يجوز نسخ
أحدهما مع بقاء الآخر. ونقله سليم عن الأشعرية وغيرهم من
المتكلمين، قال: بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ، فكانا
بمنزلة لفظين، فجاز نسخ أحدهما مع بقاء حكم الآخر. ا هـ. وجزم
به سليم، قال: لأنهما في الحكم بمنزلة ما تناوله العموم من
المشتبهات، ونسخ بعض ذلك مع بقاء بعض سائغ. قال: ويفارق القياس
حيث يمتنع نسخه مع بقاء أصله، لأن صحة الأصل صحة الفرع، فما
دام الأصل باقيا وجبت صحته.
والثاني : المنع، وصححه سليم، وجزم به الماوردي، والروياني،
ونقله ابن السمعاني عن أكثر الفقهاء، لأن ثبوت نطقه موجب
لفحواه ومفهومه، فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه كما لا ينسخ
القياس مع بقاء أصله.
وقال أبو الحسين في "المعتمد": فأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل.
فجوزه القاضي عبد الجبار في "العمد". وقال في شرحه: يجوز ذلك
إلا أن يكون نقضا للغرض، ومنع منه في الدرس، وهو الصحيح لأنه
لا يرتفع مع بقاء الأصل إلا وقد انتقض الغرض، لأنه إذا حرم
التأفيف على سبيل الإعظام للأبوين كانت إباحة مضرتهما نقضا
للغرض.
وفصل بعض المتأخرين بين أن تكون علة المنطوق لا تحتمل التغير،
كإكرام الوالد بالنهي عن تأفيفه، فيمتنع نسخ الفحوى لتناقض
المقصود. وإن احتملت النقض جاز، لاحتمال الانتقال من علة إلى
علة، كما لو قال لغلامه: لا تعط زيدا درهما، يقصد بذلك حرمانه
لغضبه، ففحواه أن لا يعطيه أكثر منه. فإذا نسخ ذلك بأن قال:
(3/214)
أعطه أكثر من درهم، ولا تعطه درهما جاز،
لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته.
وإذا فرعنا على الجواز، ففي استتباع نسخ أحدهما نسخ الآخر
ثلاثة مذاهب:
أحدها : أن نسخ كل منهما يستلزم نسخ الآخر، واختاره البيضاوي،
لتلازمهما.
والثاني : لا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر.
والثالث : أن نسخ الأصل يستلزم نسخ الفحوى، لأنها تابعة، ولا
يتصور بقاء التابع بدون متبوعه، ونسخ المفهوم لا يتضمن نسخ
الأصل، وجعله ابن برهان في "الأوسط" المذهب، ونقل عن الحنفية
أن نسخ المنصوص لا يتضمن نسخ المفهوم، لئلا يؤدي إلى النسخ
بالقياس. قال: وهذا باطل، لأن المنصوص عليه إذا نسخ كان من
ضرورته انتساخ المفهوم، لأنه من توابعه، ولا يتصور بقاء التابع
مع فقد الأصل. ووجه غيره مذهب الحنفية بأنه أولى بالثبوت من
النص، فلا يكون رفع الأصل مستلزما لرفعه.
قال الصفي الهندي: وهو متجه. ولهذا لو صرح بنفي تحريم التأفيف،
وتحريم الضرب لم يكن تناقضا، وهو على قول من يقول: نسخ الوجوب
لا يستلزم الجواز ألزم. وبنوا عليه أن نسخ قوله: "من قتل عبده
قتلناه" 1 لا يقتضي نسخ مفهومه، وهو أنه يقتل بقتل عبد غيره
بطريق أولى. واختار الآمدي أنا إن قلنا: الفحوى ثبت بدلالة
اللفظ، فهي على تحريم التأفيف صريحة، وعلى الضرب التزامية فهما
دلالتان مختلفتان، فلا يلزم من رفع إحداهما رفع الأخرى، وإن
قلنا: ثبت بالقياس وجب أن يكون رفع حكم الأصل موجبا لرفع حكم
الفرع، لاستحالة بقاء الفرع دون أصله، وإن لم يسم ذلك نسخا،
وإن رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل، لأنه لا يلزم من رفع
التابع رفع المتبوع.
فرعان
الأول : زعم في "المحصول" أن العقل يكون ناسخا في حق من سقطت
رجلاه، فإن الوجوب ساقط عنه. وهو مردود بأن زوال الحكم لزوال
سببه لا يكون نسخا كما
ـــــــ
1 رواه أبو داود 4/176 كتاب الديات حديث 4515، ورواه الترمذي
كتاب الديات 1414، والنسائي 4736، وابن ماجة 2663 كلهم عن سمرة
مرفوعا. وهو حديث ضعيف.
(3/215)
سبق. وقد قال القاضي في "التقريب": لا
خلاف، لأنه لا سبيل من جهة العقل إلى معرفة الناسخ من ناحية
ضرورته أو دليله نعم، حكى أبو إسحاق المروزي في كتابه عن جماعة
أن ارتفاع الحكم لارتفاع شرطه أو سببه يسمى نسخا.
الثاني: وقع في المحصول في مسألة تأخير البيان ما يقتضي جعل
الموت نسخا، وفيه نظر إذ لو كان كذلك، لكان كل حكم منسوخا
وانتقض حد النسخ. وأشكل على المعتزلة النسخ، فإنهم لا يجوزون
النسخ قبل الفعل، وكم موت وقع قبل الفعل، ولأنه غير معلوم
الوقوع فجاز تقديمه وتأخيره، ولو صح فينبغي أن لا يكون نسخا
بالنسبة إلى جملة الحكم، بل بالنسبة إلى كل ميت، ويصح على هذا
أن يكون الناسخ غير الشرع، وهذا كله تشويش للقواعد.
(3/216)
مسألة في الزيادة على النص هل تكون نسخا
لحكم النسخ؟
اعلم أن الزائد إما أن يكون مستقلا بنفسه أو لا، الأول
المستقل، وهو إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة
على الصلاة، فليس بنسخ، لما تقدمه من العبادات بالإجماع لعدم
التنافي. وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس،
فليس بنسخ أيضا عند الجماهير، وذهب بعض أهل العراق إلى أنها
تكون نسخا لحكم المزيد عليه، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنها
تجعلها غير الوسطى. قال القاضي عبد الجبار: ويلزمهم زيادة
عبادة على العبادة الأخيرة، فإنها تجعلها غير الأخيرة، وتغير
عدها وهو خلاف الإجماع.
الثاني : الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات، والتغريب،
وصفة رقبة الكفارة من الأيمان وغيرها، وكاشتراط النية في
الوضوء مع قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فإن اشتراطها يكون تغييرا لما دل
عليه النص من الاكتفاء بالمذكور فيه. فاختلفوا على أقوال:
أحدها : أنها لا تكون نسخا مطلقا، وبه قالت الشافعية والمالكية
والحنابلة، وغيرهم من المعتزلة كالجبائي، وأبي هاشم، وسواء
اتصلت بالمزيد عليه أم لا. قال الماوردي: وهو قول أكثر
الأشعرية، والمعتزلة. قال: ولا فرق بين أن تكون هذه مانعة من
إجراء المزيد عليه أو غير مانعة. وقال ابن فورك، وإلكيا: قال
الشافعي في اليمين مع الشاهد: إنه زيادة على ما في الكتاب وليس
بنسخ، وأن ذلك كالمسح على الخفين. وقال
(3/216)
في "المنخول": قال الشافعي: ليس بنسخ وإنما
هي تخصيص عموم، يعني حتى يجوز بخبر الواحد والقياس.
والثاني : أنها نسخ، وهو قول الحنفية، قال شمس الأئمة السرخسي:
وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم. وقال ابن السمعاني:
وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا: إن الزيادة على النص بعد استقرار
حكمه توجب النسخ، حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق. واختاره
بعض أصحابنا.
قال ابن فورك، وإلكيا: عزي إلى الشافعي أيضا، فإنه قال في
قوله: "إنما الماء من الماء" 1: منسوخ في وجه دون وجه، فإن هذا
النص تضمن أمرين:
أحدهما نصه، وهو غير منسوخ.
والثاني : أن لا غسل فيما سواه، وهو منسوخ بحديث التقاء
الختانين2. وإنما صار منسوخا بالزيادة على الأصل، وحكاه ابن
السمعاني وجها لبعض أصحابنا. ثم قال: وهذا غلط، لأن "إنما
الماء من الماء" إنما دل من حيث دليل الخطاب، فهو نسخ للمفهوم
لا نسخ للنص من حيث الزيادة. انتهى.
ولا يقال : إن هذا هو المذهب الآتي القائل بالتفصيل بين ما
نفاه المفهوم، وما لم ينفه، لأن القائل بهذا التفصيل يجعل ما
نفاه المفهوم نسخا للنص، وأصحابنا لا يجعلون ذلك نسخا للنص
ألبتة، ولا تعلق له به، وإنما هو نسخ للمفهوم غير مستلزم نسخ
النص. والكلام في هذه المسألة إنما هو فيما يجعل نسخا للنص،
ولم يقل أحد منا بذلك في نسخ مفهوم المخالفة إلا هذا الوجه
الضعيف.
والثالث : إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه، فإن تلك
الزيادة نسخ، كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة" 3، فإنه يفيد
دليله نفي الزكاة عن المعلوفة، فإن زيدت الزكاة في المعلوفة
كان نسخا، وإن كان ذكرها لا ينفي تلك الزيادة فوجوده لا يكون
نسخا، حكاه ابن برهان، وصاحب المعتمد وغيرهما.
والرابع : إن غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا حتى صار لو فعل
بعد الزيادة على حد ما كان يفعل مثلها لم يعتد به، ويجب
استئنافه، فإنه يكون نسخا، كزيادة على
ـــــــ
1 رواه مسلم، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء، حديث 343.
2 شيق تخريجه قريبا، وهو حديث صحيح.
3 سبق تخريجه قريبا. وهو حديث صحيح.
(3/217)
ركعتين، وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد
ما يكون يفعل قبل الزيادة يصح فعله، لم يكن نسخا كزيادة
التغريب على الجلد. حكاه صاحب "المعتمد" "والقواطع" عن عبد
الجبار. وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر والإستراباذي
والبصري.
قلت: وهو ظاهر ما رأيته في "التقريب" للقاضي، فإنه ذكره واستدل
له بأمور، ثم شرط القاضي لكونها نسخا إذا غيرت المزيد عليه أن
يعلم ورودها بعد استمرار الحكم بثبوت الغرض عاريا منها، فإن لم
يعلم جاز أن يكون على وجه البيان.
وحكى ابن برهان في "الأوسط" عن عبد الجبار التفصيل بين أن يتصل
به فهو نسخ، كزيادة ركعة رابعة على الثلاثة، وإن انفصلت لم
يكن، كضم التغريب إلى الجلد، وهذا ما اختاره الغزالي.
والخامس : إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل
كانت نسخا. وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم
تكن نسخا، فزيادة التغريب في المستقبل على الجلد نسخ، وكذا لو
زيد في حد القذف عشرون. وأما الزيادة التي لا تسقط من المزيد
عليه فكوجوب ستر الفخذ، ثم يجب ستر بعض الركبة، فلا يكون وجوب
ستر بعضها نسخا، حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة، وقال صاحب
"المعتمد": وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي، وأبو عبد الله
البصري.
والسادس : أن الزيادة إن رفعت حكما عقليا، أو ما ثبت باعتبار
الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخا، لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب
الأحكام، ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد رفعها نسخا، وإن تضمنت رفع
حكم شرعي تكون نسخا، كقوله: "في سائمة الغنم الزكاة"، فإن
ظاهره يدل على الوجوب، وفحواه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة،
فلو ورد خبر بإيجاب الزكاة في المعلوفة كان ناسخا لهذه الفحوى،
لأنه حكم شرعي. حكى هذا التفصيل ابن برهان في "الأوسط" عن
أصحابنا، وقال: إنه الحق، واختاره الآمدي، وابن الحاجب،
والإمام فخر الدين، والبيضاوي، ونقلاه عن اختيار أبي الحسين
البصري، يعني في "المعتمد"، وهو قضية كلام القاضي أبي بكر في
"مختصر التقريب"، وإمام الحرمين في "البرهان". وقال الصفي
الهندي: إنه أجود الطرق وأحسنها. وقال الأصفهاني: لا يتجه على
قولنا إن النسخ بيان، وحينئذ لا يتجه للآمدي، والرازي القول
به.
وحكى القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" عن القاضي: إن كانت
الزيادة شرطا في المزيد عليه كانت نسخا، وإلا فلا. والذي في
كتاب "التقريب" خلاف ذلك،
(3/218)
فإنه قرر ما سبق. نعم، قال: فإن قيل: فيجب
على هذا أن تكون زيادة شرط للعبادة لا تصح إلا بها نسخا لها،
لأنها إن فعلت مع عدمه لم تكن عبادة، فإذا فعلت مع عدمها لم
تكن صلاة. قال: وأما زيادة الترتيب والنية في الوضوء فهو من
باب النقصان في حكم النص لا الزيادة، لأن ظاهر قوله:
{فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية الإجزاء على أي وجه وقع،
فإذا وردت السنة بإيجاب النية والترتيب، جعلت بعض ما كان مجزئا
غير مجزئ، فصار بمثابة تقييد الرقبة المطلقة في الكفارة
بالأيمان بعد استقرار إطلاقها وإجزاء جميع الرقبات مؤمنة
وكافرة. فإن قلت: لها حكم وإن كان نقصانا. قيل: إذا أورد بالنص
كان تخصيص عموم، وإلا فهو نسخ. انتهى.
وقال بعضهم: إن هذه التفاصيل لا حاصل لها، وليست في محل
النزاع، فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكما شرعيا كان نسخا،
لأنه حقيقة، وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان،
وما لا فليس بنسخ. فالقائل: أنا أفصل بين ما رفع حكما شرعيا
وما لم يرفع، كأنه قال: إن كانت الزيادة نسخا فهي نسخ، وإلا
فلا. وهذا لا حاصل له، وإنما النزاع بينهم، هل يرفع حكما شرعيا
فيكون نسخا، أو لا، فلا يكون؟ فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع
حكما شرعيا لوقع الاتفاق على أنها تنسخ، أو على أنها لا ترفع،
لوقع على أنها ليست بنسخ، ولكن النزاع في الحقيقة في أنها: هل
هي رفع أو لا؟ وهذا كما يقول فيما لو لطخ ثوب العبد بالمداد في
ثبوت الخيار، وجهان، منشؤهما أن مثل هذا هل يصلح أن يكون
تغريرا؟ والأصح: لا، لأن الإنسان قد يلبس ثوب غيره عارية، فلو
وقع الاتفاق على أنها تعزير، لوقع على إثبات الخيار، أو على
عدمه لوقع على عدمه. والظاهر أن هؤلاء لم يجعلوا مذاهبهم
مغايرة للمذاهب السابقة، بل عرضوا الأمر على حقيقة النسخ
ليعتبر به، وذكر السماني في "الكفاية" أن الخلاف في هذه
المسألة مبني على الخلاف السابق في أن الأمر هل يدل على
الإجزاء؟ فإن قلنا: يدل كانت نسخا، وإلا فلا.
واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان
مقطوعا به، فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب1، فإن أبا حنيفة لما
كان عنده نسخا نفاه، لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد، ولما لم يكن
عند الجمهور نسخا قبلوه إذ لا معارضة.
ـــــــ
1 يعني كمسألة التغريب في الزنا وأنه قد ثبت بخبر الآحاد، وهو
ليس قطعي الثبوت.
(3/219)
وقد ردوا بذلك أخبارا صحيحة لما اقتضت
زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر
الآحاد. فردوا أحاديث تعيين الفاتحة1 في الصلاة، والشاهد
واليمين، وأيمان الرقبة، واشتراط النية في الوضوء.
ويلزمهم أن يجعلوا حديث المسح على الخفين ناسخا لآية الوضوء،
والحديث الوارد بالتوضؤ بالنبيذ عند عدم الماء2 مخالفا للقياس،
وقد رجع فيه إلى الحديث، وخالف عادته في حديث المصراة3، وحديث
القرعة بين العبيد4 لما خالف الأصول والقياس. فتحصل من مذهبه
طرح حديث لم يخالفه قياس، واستعمال حديث جاء بخلاف القياس.
وإنما قصرنا حديث الشاهد واليمين بالأموال دون غيرها لإجماع
الأمة على ذلك، لأن معنا قائلين:
أحدهما: تركه أصلا كالحنفية.
ـــــــ
1 وذلك كحديث "لا صلاة لمن لم زيقرأ بفاتحة الكتاب" رواه
البخاري حديث 756 وكحديث "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن
فهي خداج" . رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة
الفاتحة في كحل ركعة، حديث 395.
2 يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود 1/21، كتاب الطهارة، باب
الوضوء بالنبيذ، حديث 84، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: "ما في إداوتك؟" قال: نبيذ
قال: "تمرة طيبة وماء طهور" ، والترمذي 1/147 حديث 88، وابن
ماجة 1/135 حديث 384. والحديث ضعيف ففي إسناده أبو زيد وهو رجل
مجهول عند أ÷ل الحديث لا نعرف له رواية غير هذا الحديث – كما
قال الترمذي – وقال الزيلعي: قال ابن حبان في كتاب الضعفاء:
وأبو زيد شيخ يروي عن ابن مسعود ليس يدري من هو ولا يعرف أبوه
ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبرا واحدا خالف
الكتاب والسنة والقياس استحق مجانبة ما رواه. وقال ابن أبي
حاتم في كتابه العلل: سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي فزارة
بالنبيذ ليس بصحيح، وأبو زيد مجهول، وذكر ابن عدي عن البخاري
قال: أبو زيد الذي روى حديث ابن مسعود في الوضوء بالنبيذ مجهول
لا يعرف بصحبة عبد الله، ولا يصح ه-ذا الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم وهو خلاف القرآن. انظر عون المعبود 1/108.
3 يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع،
باب النهي للبائع أن ولا يحفل الإبل والبقر، حديث 2150، عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
تلقوا الركمبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا
يبع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين
بعد أن يحتلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"
. رواه مسلم، برقم 1515. والتصرية: هي حبس اللبن في الضرع حتى
ينخدع المشتري ويظنها كثيرة اللبن.
4 يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه 3/1288 كتاب
الإيمان، باب من أعتق شركا له في عبد، حديث 1668 عن عمران بن
حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال
غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا،
ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا.
(3/220)
والثاني: القول به في الأموال خاصة
كالشافعي ومالك1. وإذا قالت الأمة في مسألة بقولين لم يجز
إحداث ثالث.
قال القاضي أبو الطيب: وقد تمسك بعض الحنفية في سهم ذي القربى
أنه لا يستحق إلا بالحاجة، لأنه سهم من الخمس، فوجب أن يستحق
بالحاجة قياسا على سائر السهام. فقلت له: لا يصح هذا القياس،
لأنه زيادة في النص، وهو قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:
7] ولا ينسخ القرآن بالقياس، فلم يكن له جواب.
وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي: ومن زاد الخلوة على الآيتين
الواردتين في الطلاق قبل المسيس في إيجاب العدة، وتكميل المهر
بخبر عمر مع مخالفة غيره، وامتنع من الزيادة على النص بخبر
صحيح، كان حاكما في دين الله تعالى برأيه.
ونقض عليهم الأستاذ أبو منصور أيضا، فإن زيادة التغريب إن كانت
نسخا لزمكم أن يكون إدخال نبيذ التمر بين الماء والتراب نسخا
لآيتي الوضوء والتيمم، فهو مساو لزيادة التغريب وإنظاره بما
تقدم، وإن انفصلوا عن هذا بأن نبيذ التمر داخل في عموم الماء
لقوله: "ثمرة طيبة، وماء طهور" 2 قيل لهم: فيكون حينئذ رافعا
لإطلاق: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ضرورة أنه لا
يجوز التوضؤ به عند وجود غيره من المياه، وتقييد مدلول النص
المطلق نسخ للنص عندهم.
وقال أبو الطيب: فائدة هذه المسألة جواز الزيادة بالقياس، وخبر
الواحد بعدما جاز التخصيص به جازت الزيادة به.
وفصل ابن برهان في "الأوسط"، فقال: المزيد عليه إن ثبت بخبر
الواحد جاز
ـــــــ
1 اتفق أهل العلم على أن القضاء في الأموال يشترط فيه شهادة
رجلين أو رجل وامرأتين. واختلفوا فيما إذا شهد بالمال رجل واحد
مضافا إليه يمين المدعي، على قولين:
القول الول: أنه يقضى في الأموال بشهادة رجل واحد مع يمين
المدعي وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة وممن قال
بالقضاء بالشاهد ويمين المدعي الخلفاء الأربعة وأبي بن كعب
وجابر ابن عبد الله، وزيد وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة، وقال
به أيضا فقهاء المدينة السبعة. انظر القوانين الفقهية لابن جزي
311، وظالاستذكار 22/51، كفاية الطالب الرباني 4/443، الشرح
الكبير 4/187، الأم 6/256، الوسيط في المذهب الشافعي 7/377،
الروضة 11/278 مغني المحتاج 4/443، الروض المربع ص: 534،
المغني لابن قدامة 9/151، بداية المجتهد 2/456.
القول الثاني: أنه لا يجوز الحكم في الأموال أو في غيرها بشاهد
مع يمين المدعي وهذا قول الحنفية. انظر مختصر اختلاف العلماء
3/342، المبسوط 17/30، بدائع الصنائع 6/343، البناية 8/401،
رؤوس المساائل ص: 535.
2 سبق تخريجه.
(3/221)
إثبات تلك الزيادة بخبر الواحد، وإن لم يكن
الأصل مما يجوز إثباته بخبر الواحد، فلا يجوز إثبات الزيادة
به. قال: وأبو حنيفة يعتقد أن خبر الواحد لا يقبل إذا ورد فيما
تعم به البلوى، ويعتبر للعمل به شرائط، والشافعي لا يلتفت إلى
ذلك.
تنبيه
أطلق النص في هذه المسألة، وإنما يستمر إذا سمينا الظواهر
نصوصا، فإن قلنا: الظاهر لا يسمى نصا، فهذه العبارة مستدركة،
لأن تغيير النصوص التي لا احتمال فيها نسخ لا محالة، نبه عليه
المازري في غير هذا الباب.
فروع
الأول : لو أوجب الشارع الزكاة في معلوفة الغنم، فهل يكون نسخا
لوجوبها في السائمة؟ لأن مفهومه نفي إيجابها في المعلوفة، فلو
وجبت فيها لكانت زيادة نفاها المفهوم، فمن لم يقل بالمفهوم لا
يكون نسخا، لأنه لم يرفع شيئا من مدلوله، وإنما رفع المسكوت
عنه. ومن قال به كان نسخا لو ثبت أن المفهوم مراد من الكتاب.
الثاني : لو زيدت ركعة في الصبح بحيث صارت ثلاثا، قال أبو
الحسين: ليس بنسخ لحكم الدليل الدال على وجوب الصبح، لأن النسخ
لا يتعلق بالأفعال ولا بإجزائها، لأنهما يجزيان. وقال ابن
الحاجب: نسخ تحريم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم شرعي،
وقد ارتفع بالزيادة. وقال الآمدي1: هذا ليس بحق. لأنه إنما يصح
أن لو كان الأمر بالركعتين مقتضيا للنهي عن الزيادة عليها،
وليس كذلك، بل يمكن استفادته من دليل آخر. فزيادة الركعة على
الركعتين لا يكون نسخا لحكم الدليل الدال على وجوب الركعتين.
انتهى. وهذا هو الحق، فإن كلامنا في أن الزيادة هل هي نسخ
للمزيد عليه، لا في كونها نسخا لأمر آخر. وقال في "المحصول":
إنه نسخ، كوجوب التشهد عقيب الركعتين، ووافقه الآمدي للرد به
على أبي الحسين، ونازعه الهندي.
الثالث: زيادة التغريب على الجلد لا يزيل نفي وجوب ما زاد على
المائة، وهذا النفي غير معلوم بالشرع، لأن إيجاب المائة قدر
مشترك بين إيجابها مع نفي الزائد وثبوته، وما به الاشتراك لا
إشعار له بما به الامتياز، لكنه معلوم بالعقل، ورفع الثابت
بالعقل ليس بنسخ. وقال ابن الحاجب: هو نسخ، فقال: زيادة
التغريب نسخ لتحريمه، إذ
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 3/171.
(3/222)
كان يحرم التغريب، وقد عرفت أنه ليس
كلامنا، إلا في أنه هل هو نسخ للمزيد عليه الذي هو الجلد لا
غيره.
الرابع : إذا أوجب الله غسل الرجلين عينا، ثم خير بينه وبين
المسح على الخف، أو أخبر بأن الكفارة في الإطعام والصيام، ثم
زاد ثالثا وهو العتق، فهل يكون نسخا لوجوب غسل الرجلين على
التعيين؟ قال الإمام، والآمدي: ليس بنسخ، لأن معنى كون الكل
واجبا على التعيين وجوبه، وأن غيره لا يقوم مقامه، ووجوبه لم
يرتفع، وإنما المرتفع عدم قيام غيره مقامه، وإنما ينتقض النفي
الأصلي، فلا يكون رفعه نسخا. وقال ابن الحاجب: إنه نسخ، لأن
التخيير والتعيين حكمان شرعيان، وقد رفع الأول لا الثاني وهو
الصواب.
الخامس : إذا زيد في الطهارة اشتراط غسل عضو زائد على الأعضاء
الستة، فلا يكون نسخا لوجوب غسلها، إذ هي واجبة مع وجوب غسل
العضو الزائد، ولا لإجزائها. السادس: قبل أصحابنا خبر الواحد
في الشاهد واليمين، ورده الحنفية، لأنه ناسخ لقوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ
يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]
قالوا: فإن الأمر كان دائرا بين اثنين فزيد ثالث، والزيادة
نسخ، وخبر الواحد لا ينسخ الكتاب، وهو ضعيف، فإن الحديث والآية
لم يتواردا على محل واحد، وذلك لأن الأمر في الآية في
الاستشهاد، والحديث في الحكم بشاهد ويمين، والاستشهاد بخبر
الواحد، فلا تعلق لأحدهما بالآخر كذا ذكره ابن الحاجب، وهو
حسن. لا يقال: مفهوم الآية يقتضي الحصر، ويمنع الشاهد واليمين،
لأنا نقول: إنما يمتنع استشهاد الشاهد واليمين، ونحن قائلون
بذلك، إذ يمتنع الإرشاد في الاستشهاد بشاهد ويمين، ونحن قائلون
به.
السابع : تقييد الرقبة المطلقة بالأيمان.
(3/223)
مسألة [النقصان من العبادة هل هو نسخ لها؟]
لا خلاف أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها، لأنه كان
واجبا في جملة العبادة، ثم أزيل وجوبه، وأما بالنسبة إلى نسخ
الباقي فينظر، فإن كان مما لا تتوقف صحتها عليه كسنة من سننها،
فلا خلاف أيضا أنه ليس بنسخ للعبادة، نقله الآمدي،
(3/223)
والرازي. لكن الغزالي في كلامه ما يشعر
بجريان الخلاف فيه، وبه صرح الشيخ في "اللمع".
وإن كان مما يتوقف عليه صحتها من شرط أو غيره، فاختلفوا فيه
على مذاهب، أصحها أنه ليس بنسخ للعبادة، ويكون بمثابة تخصيص
العموم. قال ابن برهان: وهو قول علمائنا، وقال ابن السمعاني:
إليه ذهب جمهور أصحاب الشافعي، واختاره الرازي، والآمدي، وقال
الأصفهاني: إنه الحق، وحكاه صاحب "المعتمد" عن الكرخي. وقيل:
نسخ لها. وحكاه ابن برهان، وابن السمعاني عن الحنفية.
وفصل القاضي عبد الجبار بين الشرط المنفصل فلا يكون نسخا لها،
فنسخ الوضوء لا ينسخ الصلاة، وبين الجزء كالقيام والركوع في
الصلاة كان نسخا لها، ووافقه الغزالي في الجزء، وتردد في
الشرط، وصححه القرطبي، لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف
الجزء. أما المنفصل فلا خلاف فيه، لأنهما عبادتان منفصلتان،
وقيل به مطلقا لزوال إجزائها بدونه، وقيل: إن كان مما لا تجزئ
العبادة قبل النسخ إلا به فينسخ، سواء الجزاء والشرط، وإن كان
مما تجزئ العبادة قبل النسخ مع عدمه كالوقوف عن يمين الإمام،
وستر الرأس، فليس بنسخ حكاه الشيخ في "اللمع".
وقال إلكيا: الذي يجب أن يقال هنا نحو ما سبق في الزيادة على
النص، وجعل الهندي الخلاف في الشرط المتصل نحو الاستقبال، فأما
المنفصل كالوضوء، قال: فإيراد الإمام وغيره يشعر بأنه لا خلاف
فيه، وكلام غيره يقتضي إثبات الخلاف في الكل. قلت: وبالأول صرح
صاحب "المسودة"، فقال: الخلاف في المتصل كالتوجه، فأما المنفصل
كالوضوء فلا يكون نسخا لها إجماعا، لكن ابن السمعاني طرد
الخلاف في الكل، فقال: صورة المسألة فيما لو قدرنا نسخ الوضوء
أو نسخ استقبال القبلة، وفي هذا وأمثاله يكون الكلام ظاهرا في
أنه لا يكون نسخا للصلاة. قال: فأما في إسقاط الجزء كالركوع
فينبغي أن يكون على ما ذكرناه فيما إذا زيدت ركعة على ركعتين،
يشير إلى أنه يجيء هنا مذهب عبد الجبار من التفصيل بين أن
[يكون النسخ] لغير المزيد عليه أو لا.
تنبيه [دعوى ابن الحاج أن النسخ يرد على الحكم لا على العبادة]
نازع ابن الحاج في "نكت المستصفى" [في] ترجمة المسألة بنسخ بعض
العبادة، وقال إنما نشأ هذا من ظنهم كون العبادة تنسخ، وهو
فاسد لأن النسخ إنما يرد على الخطاب المتعلق بأصل العبادة لا
على العبادة، كالخطاب الوارد بأربع ركعات تجزئ، ثم
(3/224)
يرد خطاب آخر بأنها لا تجزئ، بل يجزئ بدلا
منها ركعتان، فأما العبادة فهي المحل القابل. قال: فالصواب أن
يقال: إذا رفع الخطاب الإجزاء عن عبادة لها أجزاء، ولا يوجبه
لبعضها، من حيث هو بعض لها، بل أوجب الجزاء لما هو مساو
لبعضها، فقد ظن قوم أن الشارع لم يرفع حكمها رأسا، وذلك باطل،
لأن النسخ وارد على الحكم، لا على العبادة، فيندفع هذا الخيال.
(3/225)
فصل في دلائل النسخ
إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان، ولم يمكن استعمالهما
استدل على نسخ أحدهما بأمور:
أحدها: اقتضاء اللفظ له، بأن يعلم تقدم أحد الحكمين على الآخر،
فيكون المتقدم منسوخا، والمتأخر ناسخا. قال الماوردي: المراد
بالتقدم التقدم في التنزيل، لا التلاوة، فإن العدة بأربعة أشهر
سابقة في التلاوة على العدة بالحول، مع أنها ناسخة لها،
واقتضاء اللفظ إما بالتصريح كقوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ
عَنْكُمْ} [لأنفال: 66] فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة
بقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] فإنه يقتضي نسخ الإمساك بعد
الفطر، وقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية فإنه يقتضي نسخ
الصدقة عند المناجاة، وإما بأن يذكر لفظ يتضمن التنبيه على
النسخ، كما نسخ الإمساك في البيوت حد الزنى بقوله: {أَوْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] فنبه على عدم
الاستدامة في الإمساك، ولذلك قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن
سبيلا" 1، وإما بالاستدلال بأن تكون إحدى الآيتين مكية،
والأخرى مدنية فعلم أن المنزل بالمدينة ناسخ للمنزل بمكة. قاله
أبو إسحاق المروزي وغيره.
الثاني: بقوله عليه السلام: هذا ناسخ أو ما في معناه، كقوله:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" 2.
الثالث: فعل النبي صلى الله عليه وسلم كرجم ماعز، ولم يجلده،
يدل على أن قوله: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة" 3
منسوخ، ذكره ابن السمعاني، ثم قال: وقد قالوا: إن الفعل لا
ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين، وإنما يستدل بالفعل على
تقدم النسخ بالقول، فيكون القول منسوخا بمثله من القول، لكن
فعله بين ذلك القول.
ـــــــ
1 رواه مسلم في صحيحه 3/1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى، حديث
1690.
2 سبق تخريجه.
3 سبق تخريجه. وهو حديث صحيح.
(3/226)
الرابع : إجماع الصحابة، كنسخ رمضان صوم
يوم عاشوراء، ونسخ الزكاة سائر الحقوق في المال، ذكره ابن
السمعاني أيضا، وكذا حديث: "من غل صدقته، فإنا آخذوها وشطر
ماله" 1 واتفقت الصحابة على ترك استعمالهم هذا، فدل عدولهم عنه
على نسخه. انتهى. وقد نص الشافعي على ذلك أيضا، فيما نقله
البيهقي في المدخل، فقال: ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا
بخبر - عن الرسول - آخر مؤقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر، أو
بقول من سمع الحديث أو العامة. انتهى.
وجرى عليه أبو إسحاق المروزي في "الناسخ" من كتابه، والشيخ في
"اللمع"، وسليم في "التقريب"، والماوردي في "الحاوي"، وقال:
يكون الإجماع مبينا لا ناسخا.
وكذا قال القاضي: يستدل بالإجماع على أن معه خبرا به وقع
النسخ، لأن الإجماع لا ينسخ. ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلا
على تعيين النص للنسخ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط، فإنه
قال في كتابه: فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو
غلط، والأمر ثابت. انتهى.
ومعنى قوله: أو غلط، أي من جهة بعض رواته، كما صرح به القفال
الشاشي في كتابه، فقال: إذا روي حديث والإجماع على خلافه دل
على أن الخبر منسوخ أو غلط من الراوي. هذا لفظه. والتحقيق أن
الإجماع لا ينسخ به، لأنه لا ينعقد إلا بعد الرسول، وبعده
يرتفع النسخ، وإنما النسخ يرفع بدليل الإجماع، وعلى هذا ينزل
نص الشافعي والأصحاب.
الخامس : نقل الراوي الصحابي تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر، إذ
لا مدخل للاجتهاد فيه، كما لو روي أن أحدهما شرع بمكة، والآخر
بالمدينة، أو أحدهما عام بدر والآخر عام الفتح، فإن وجد مثال
هذا فلا بد أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم، كقول جابر: كان آخر
الأمرين ترك الوضوء مما مست النار2. وكقول أبي بن كعب: كان
"الماء من الماء" . رخصة في أول الإسلام، ثم أمر بالغسل3، كذا
قاله ابن
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود في سننه 2/101، كتاب الزكاة، باب في
زكاة السائمة، حديث 1575، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في كل سائمة إبل في أربعين
بنت لبون، ولا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله
أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز
وجل ليس لآل محمد منها شيء" . ورواه النسائي 2444، وهوحديث
صحيح.
2 أبو داود، حديث 192، والحديث أصله في البخاري، كتاب الأطعمة،
حديث 5457.
3 رواه أبو داود، حديث 215، والترمذي، حديث 110، وابن ماجة
609.
(3/227)
السمعاني وغيره، وهو واضح إن كان الخبران
غير متواترين، أما إذا قال في أحد الخبرين المتواترين: إنه كان
قبل الآخر، ففي قوله خلاف، وجزم القاضي في "التقريب" بأنه لا
يقبل قوله. ونقله الهندي عن الأكثرين، لأنه يتضمن نسخ المتواتر
بالآحاد، وهو غير جائز، وقال القاضي عبد الجبار: يقبل، وإن لم
يقبل المظنون في نسخ العلوم، إذ الشيء يقبل بطريق الضمن
والتبع، ولا يقبل بطريق الأصالة، كما تقبل شهادة القابلة
بالولادة، ويتضمن ذلك ثبوت النسب وإن كن لو شهدن بالنسب ابتداء
لم يقبل.
وقال أبو الحسين البصري: هذا يقتضي الجواز العقلي في قبوله لا
في وقوعه، ما لم يثبت أنه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت
الآخر، والجواز العقلي لا نزاع فيه، ثم قال القاضي في
"التقريب": لا فرق في ثبوت النسخ بالمتأخر بين أن يكون
[الراوي] للحديثين واحدا أو اثنين لأنه قد يسمعهما الاثنان في
وقتين وكذلك الواحد، وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحدا،
قال: فإن كان راوي المتقدم غير راوي المتأخر نظر، فإن كان
المتأخر خبر واحد كان ناسخا للمتقدم، وإن كان المتقدم من أخبار
المتواتر، لم يصر منسوخا بخبر الواحد المتأخر، وإن كانا
متواترين أو آحادا، فالمتأخر ناسخ للمتقدم. هذا كله إن أخبر أن
هذا متأخر، فإن قال: هذا ناسخ نظر، فإن كان ذكر دليله فواضح.
قاله ابن السمعاني. وقال القاضي: لا يثبت به النسخ عند
الجمهور، ولو ذكر دليله، لكن ينظر فيه، فإن اقتضى النسخ عمل
به، وإلا فلا، وإن أرسله إرسالا، ففيه وجهان، حكاهما ابن
السمعاني أحدهما: يقبل قوله في النسخ، ونقله عن الكرخي.
قلت: والذي في "المعتمد" أن أبا عبد الله البصري حكى عن شيخه
أبي الحسن الكرخي أنه إن عينه، فقال: هذا نسخ لهذا، لم يرجع
إليه، لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد، وإن لم يعينه بل قال: هذا
منسوخ قبل.
وحكى الدبوسي في "التقويم" هذا التفصيل عن أبي عبد الله
البصري، ثم قال: ومنهم من قال: لا فرق بينهما. والثاني: أنه لا
يقبل قوله في النسخ ما لم يذكر دليله، لجواز أن يعتقد ما ليس
بنسخ نسخا، ولأن العلماء مختلفون في أسباب النسخ كالزيادة على
النص، والنقصان منه، وكاعتقاد آخرين أن قوله: "إذا التقى
الختانان" منسوخ بقوله: "إنما الماء من الماء" ونحو ذلك، ولذلك
لم يقبل قول من قال: إن مسح الخف نسخ بالكتاب. وهذا ما نقله
القاضي في "التقريب" عن الجمهور، وقال: إنه الصحيح، وعلله بما
ذكرنا. وقال ابن السمعاني: إنه أظهر الوجهين، وكذا صححه في
"اللمع"، وسليم، وصرح ابن برهان بأنه المذهب، فقال في كتابه
"الأوسط": إذا قال الصحابي
(3/228)
هذا منسوخ لم يقبل منه عندنا خلافا
للحنفية، لأن مذاهب الناس في النسخ مختلفة، فرب شيء يعتقده
ناسخا، وليس بناسخ، ولأن النسخ إسقاط للحديث بالكلية.
وجزم به الغزالي في المستصفى، وإلكيا في "التلويح" وعلله بما
سبق، ثم قال: فأما إذا قال الصحابي: إن كذا كان حكما ثابتا من
قبل، وإنه نسخ الآن، ولم يذكر ما به نسخ، فإن الكرخي كان
يتابعه، كقول ابن مسعود حين ذكر له في التشهد: التحيات
الزاكيات. قال: كان هذا ثم نسخ. ونحوه ما روي عن ابن عمر، وابن
عباس في الرضاع أنهما قالا: قد كان التوقيت، وأما الآن فلا.
قال: والذي رآه أكثر الأصوليين أنه لا يرجع إلى قول الصحابي في
ذلك، لأنه إذا كان فيما صرح به بأنه ناسخا للأية أن لا يكون
ناسخا لها في الحقيقة، وإن اعتقده فغير ممتنع أن يطلق ذلك
إطلاقا، ولا يذكر ما لأجله النسخ، ولو ذكره لكان مما لا ينسخ
به. قال: نعم، ولو علم من حاله أنه إنما ذكر أنه منسوخ لأمر لا
يلتبس، وجب الرجوع إلى قوله. قال: وهذا قريب من مخالفة الراوي
مضمون الحديث الذي رواه انتهى. وهذا تفصيل حسن.
وفصل بعض المتأخرين من الحنابلة بين أن يكون هناك نص آخر يخالف
ما ادعى نسخه، فإنه يقبل قوله، لأن الظاهر أن ذلك النص الناسخ،
ويكون حاصل الصحابي الإعلام بالمتقدم والمتأخر، وقوله يقبل في
ذلك. قال: ونقل القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه أومأ إلى أن
الصحابي إذا قال: هذه الآية منسوخة، لم يصر إلى قوله حتى يبين
الناسخ.
وقال عبد الوهاب في "الملخص" إذا قال الصحابي: هذا منسوخ،
فقيل: يقبل مطلقا وقيل بالمنع. وقيل: إن أطلق قبل. وإن أضافه
إلى ناسخ زعم أنه الذي نسخه، نظر فيه، فإن كان مما يوجب النسخ
حكم به، وإلا فلا. قال: ولست أحفظ في هذا عن أصحابنا شيئا،
ولكن عندي إن كان في معنى النسخ وصفته، وليس فيه خلاف بين
الصحابة، فالواجب أن يخرج فيه قولان، وإن لم يكن بينهم خلاف في
صفة النسخ وشروطه وجب قبوله. انتهى.
وأطلق الأستاذ أبو منصور النسخ بقول الصحابي، وكذا القاضي أبو
الطيب في مسألة قول الراوي: أمرنا، وجرى عليه المحدثون، ومنهم
ابن الصلاح، وهو ظاهر نص الشافعي السابق ذكره في الإجماع، وقد
احتج أصحابنا بقول عائشة في الرضعات إن العشر منها نسخن
بالخمس، واحتجوا على أن قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ
النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ}
(3/229)
[الأحزاب: 52] منسوخ بقوله: {إِنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] لأجل قول عائشة: ما مات
الرسول حتى أحل الله له النساء اللاتي حظرن عليه. لكن أجاب
القاضي عن هذا بأنهم لم ينسخوا بقول عائشة، بل بحجتها في
النسخ، فلأجل الآية والتأول لها قالوا وقالت ذلك.
ووراء ذلك أمور:
أحدها : أن يقول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نسخت عنكم كذا. قال القاضي: ويجب قبوله إذا كان المنسوخ من غير
الآحاد، فإن كان مما يوجب العلم، لم يرفع مثل هذا، إلا أن ينضم
ما يوجب القطع.
الثاني : هذا كله إذا صرح بالنسخ قياسا، وأما إذا قال قولا
يخالف الحديث، فلا يقتضي نسخ النص سواء انتشر أم لا. قاله
القاضي أيضا. قال: ومن جعل قوله حجة إذا انتشر، ولم يحفظ له
مخالف ترك به حكم النص، وتبين عنده أنه منسوخ، لأنه إجماع.
الثالث : إذا كان راوي أحدهما متقدم الصحبة، والآخر متأخرا،
فقسمه ابن السمعاني إلى قسمين
أحدهما : أن تنقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني، فيكون الحكم
الذي رواه المتأخر ناسخا للذي رواه الأول كرواية قيس بن طلق1،
وأبي هريرة في مس الذكر.
والثاني : أن لا تنقطع صحبة المتقدم عند صحبة المتأخر، فلا
تكون رواية المتأخر الصحبة ناسخة لرواية المتقدم، لجواز أن
يكون المتقدم راويا لما تأخر، كما لا يجوز أن يكون راويا لما
تقدم، وإثبات النسخ بمجرد الاحتمال ممتنع، كرواية ابن عباس،
وابن مسعود في التشهد2، فلا تكون رواية ابن عباس ناسخة لرواية
ابن مسعود، ولكن يطلب الترجيح من خارج. ا هـ.
والقسم الأول ذكره إلكيا، وصاحب "المصادر" ومثلا به، وجزما به،
لكن القاضي خالفهم.
ـــــــ
1 رواه أبو داود كتاب الطهارة، حديث 182 والترمذي، حديث 85،
والنسائي 165، وابن ماجة 483.
2 رواية ابن عباس رواها مسلم كتاب الصلاة، باب التشهد في
الصلاة، حديث 403. ورواية ابن مسعود رواها البخاري، كتاب
الاستئذان، حديث 6265.
(3/230)
قال في "المصادر": وشرط الشريف المرتضى في
ذلك أن يكون الذي صحبه آخرا لم يسمع من النبي صلى الله عليه
وسلم شيئا قبل صحبته له، لأنه لا يمتنع أن يراه أولا ويسمع
منه، وهو مصاحب له، ثم رآه ثانيا ويختص به.
والقسم الثاني ذكره الشيخ في "اللمع"، وجزم بعدم النسخ، وكذا
الهندي، قال: ومن هذا يعلم أنه لا يثبت النسخ بكون راوي أحد
الخبرين من أحداث الصحابة، أو يكون إسلامه متأخرا عن إسلام
راوي الآخر، وبذلك صرح القاضي في "التقريب".
وأطلق الأستاذ أبو منصور، وابن برهان أن رواية المتأخر صحبة
ناسخة لرواية المتقدم.
الرابع : أن يكون الراوي لأحدهما أسلم بعد موت الآخر، أو بعد
قصته، وفيه احتمالان للشيخ في "اللمع"، وجزم سليم في صورة
الموت بأن رواية المتأخر ناسخة.
الخامس : معرفة التاريخ للواقعتين، كحديث شداد بن أوس أنه قال:
"أفطر الحاجم والمحجوم" 1. قال الشاشي: هو منسوخ بحديث ابن
عباس: احتجم وهو محرم صائم2. أخرجه مسلم. فإن ابن عباس إنما
صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر، وفي بعض طرق حديث شداد أن
ذلك كان في زمن الفتح، وذلك سنة ثمان.
السادس : كون أحد الحكمين شرعيا، والآخر موافقا للعادة، فيكون
الشرعي ناسخا للمعتاد، كخبر مس الفرج. ذكره الأستاذ أبو منصور
وغيره، ومنعه القاضي، والغزالي. لأنه يجوز ورود الشرع بتقرير
الوصف، ثم يرد نسخه، ورده إلى ما كان في العقل، فإن الموافق
للعقل لم يرد بعد نقل حكمه.
وقال الماوردي في "الحاوي": دلائل النسخ يقدم أحدها على الآخر،
فإن جهل عدل إلى الثاني وهو بيان الرسول، فإن ثبت عنه عمل به،
وكانت السنة مبينة لا ناسخة، فإن عدم عدل إلى الثالث، وهو
الإجماع، فإن فقد عدل إلى الرابع، وهو
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود 2/3008 كتاب الصوم، باب في الصائم
يحتجم، حديث 2367، ورواه ابن ماجة 1680. وهو حديث صحيح.
2 الحديث رواه البخاري، ككتاب الصوم، باب الحجامة والقيء
للصائم، حديث 98 عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم. ورواه مسلم 1202 بلفظ احتجم
وهو محرم. ورواه الترمذي 3/146 كتاب الصوم، حديث 775، بلفظ
احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم قال وأبو
عيسى: هذا حديث صحيح.
(3/231)
الاستعمال، فإذا كان أحدهما مستعملا والآخر
متروكا، كان المستعمل ناسخا، والمتروك منسوخا، فإن فقد عدل إلى
الخامس، وهو الترجيح بشواهد الأصول والأدلة وكان غاية العمل
به.
وما ذكره في الرابع ينازعه قول الصيرفي: إذا وجد حكمان
متماثلان، وأحدهما منسوخ لم يحكم بأن السابق منهما نسخ بالآخر،
وذلك كصوم عاشوراء مع صوم رمضان، جاء أنه لما نزل فرض رمضان
نسخ صوم عاشوراء، فنقول: اتفق نسخه عند ثبوت فرض رمضان، لا أنه
نسخه، لأنه غير مناف له، وحكاه سليم أيضا.
(3/232)
مسألة إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه
من الوجوه
قال ابن الحاجب: فالوجه التوقف إلى التبين به، ولا يتخير. وقال
الآمدي: إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك
غير متصور الوقوع، وإن جوزه قوم، وبتقدير وقوعه، فالواجب إما
الوقوف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك
الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك.
واعلم أن كلامهم يشمل ما إذا علم اقترانهما وذلك لا يقع، وما
إذا لم يعلم الحال، أو علم أن أحدهما متأخر، ولكن لم تعرف
عينه، وما إذا علم المتأخر، ثم نسي. وقد ذكر الفقهاء هذه
الأقسام في الجمعتين، والنكاح، وعقد الأمان لاثنين، وموت جماعة
من الأقارب بهدم أو غرق. فأما إذا علم عين المتقدم من المتأخر
ثم نسي فلا وجه للتخيير، بل يتعين الوقف.
(3/232)
خاتمة : أمور لا
يثبت بها النسخ
...
أمور لا يثبت بها النسخ
لا يثبت النسخ بالترتيب في المصحف وقد سبق، ولا بكون أحد
الحكمين أخف من الآخر خلافا للقائلين بأنه لا ينسخ الشيء إلا
بما هو أخف منه، فإنهم زعموا أن ذلك من أدلة النسخ، وأن الأخف
هو الناسخ والأغلظ هو المنسوخ، حكاه أبو إسحاق المروزي، ولا
بكون أحدهما يوافق الحظر والآخر الإباحة، خلافا للقائلين بأن
أصل الأشياء الإباحة حيث زعموا أن الناسخ ما يقتضي الحظر، لأن
الانتقال من الحظر إلى الإباحة يعين العود إلى الإباحة ثانيا،
فجعلت الآية المبيحة تأكيدا لما قبلها من الإباحة،
(3/232)
|