البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مباحث السنة
[تعريف السنة لغة واصطلاحا]
السنة لغة : الطريقة المسلوكة، وأصلها من قولهم: سننت الشيء
بالمسن إذا أمررته عليه، حتى يؤثر فيه سننا أي طرائق. وقال
إلكيا: معناها الدوام. فقولنا: سنة معناه الأمر بإدامته من
قولهم: سننت الماء إذا واليت في صبه.
قال الخطابي: أصلها الطريقة المحمودة، فإذا أطلقت انصرفت
إليها، وقد تستعمل في غيره مقيدة، كقولهم: من سن سنة سيئة،
وتطلق على الواجب وغيره في عرف اللغويين والمحدثين، وأما في
عرف الفقهاء فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب، وأطلقها بعض
الأصوليين هنا على الواجب، والمندوب، والمباح، وتطلق في مقابلة
البدعة، كقولهم: فلان من أهل السنة.
قال ابن فارس في فقه العربية: وكره العلماء قول من قال: سنة
أبي بكر وعمر، وإنما يقال: فرض الله وسنته، وسنة رسوله.
وقال الدبوسي: ذكر أصحاب الشافعي أن السنة المطلقة عند صاحبنا
تنصرف إلى سنة الرسول، وأنه على مذهبه صحيح ; لأنه لا يرى
اتباع الصحابي إلا بحجة، كما لا يتبع من بعده إلا بحجة، ويحتمل
; لأنه لم يبلغه استعمال السلف إطلاق السنة على طرائق العمرين
والصحابة.
وأما في الاصطلاح : فتطلق على ما ترجح جانب وجوده على جانب
عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض، وتطلق وهو المراد هنا:
على ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من الأقوال، والأفعال
والتقرير، والهم، وهذا الأخير لم يذكره الأصوليون، ولكن
استعمله الشافعي في الاستدلال.
مسألة السنة المستقلة بتشريع الأحكام
ولهذا لم يفرد إمام الحرمين السنة عن الكتاب. وقال: كل ما
يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى، فلم يكن
لذكر فصل بين الكتاب والسنة معنى، ونص الشافعي في "الرسالة"
على أن السنة منزلة كالقرآن محتجا بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ
مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
(3/236)
مسألة السنة المستقلة بتشريع الأحكام
ولهذا لم يفرد إمام الحرمين السنة عن الكتاب. وقال: كل ما
يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى، فلم يكن
لذكر فصل بين الكتاب والسنة معنى، ونص الشافعي في "الرسالة"
على أن السنة منزلة كالقرآن محتجا بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ
مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
(3/236)
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}
[الأحزاب: 34] فذكر السنة بلفظ التلاوة كالقرآن، وبين سبحانه
أنه آتاه مع الكتاب غير الكتاب، وهو ما سنه على لسانه مما لم
يذكره فيه1، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني قد أوتيت
الكتاب ومثله معه" رواه أبو داود2، وفي بعض طرقه أنه قال: دخل
يوم خيبر لما حرم لحوم الحمر. قال الحافظ الدارمي: يقول:
"أوتيت القرآن، وأوتيت مثله"3 من السنن التي لم ينطق بها
القرآن بنصه، وما هي إلا مفسرة لإرادة الله به، كتحريم لحم
الحمار الأهلي، وكل ذي ناب من السباع، وليسا بمنصوصين في
الكتاب. وأما الحديث المروي من طريق ثوبان في الأمر بعرض
الأحاديث على القرآن، فقال الشافعي في "الرسالة"4: ما رواه أحد
ثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وقد حكم إمام الحديث يحيى بن
معين بأنه موضوع، وضعته الزنادقة.
قال ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم": قال عبد الرحمن
بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: "ما أتاكم عنيفا عرضوه
على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف فلم
أقله" 5. قال الحافظ: وهذا لا يصح، وقد عارضه قوم، وقالوا: نحن
نعرضه على كتاب الله فوجدناه مخالفا للكتاب ; لأنا لم نجد فيه:
لا يقبل من الحديث إلا ما وافق الكتاب، بل وجدنا فيه الأمر
بطاعته، وتحذير المخالفة عن أمره حكم على كل حال. انتهى.
وقال ابن حبان في صحيحه في قوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا
عني ولو آية" 6: فيه دلالة على أن السنة يقال فيها: آي7. وقال
الشافعي في "الرسالة" في باب فرض طاعة الرسول صلى الله عليه
وسلم: قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ} [النساء: 80] وكل فريضة فرضها الله تعالى في كتابه
كالحج والصلاة والزكاة لولا بيان الرسول ما كنا نعرف كيف
نأتيها، ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات، وإذا كان الرسول
من الشريعة بهذه المنزلة
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 79.
2 رواه أبو داود 4/200 كتاب السنة باب في لزوم السنة، حديث
4604 بإسناده عن المقدام. ورواه الترمذي 5/38 حديث 2664. وابن
ماجة 1/6، حديث 12. وهو حديث صحيح.
3 رواه أحمد 4/130 حديث 17213 عن المقدام بن معدي كرب الكندي
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب
ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه..." الحديث وهو
حديث صحيح.
4 انظر الرسالة ص: 225
5 موضوع: أورده الشوكاني في الفوائد المجموعة 921، والفتني في
تذكرة الموضوعات 28.
6 رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما يذكر عن بني
إسرائيل، حديث 3461.
7 انظر صحيح ابن حبان ى14/149.
(3/237)
كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله.
(3/238)
كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله.
مسألة [السنن عند الشافعي ثلاثة أقسام]
قال الشافعي في "الرسالة"1: لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن
سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها : ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم مثل نص الكتاب.
والثاني : ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين عن الله ما أراد،
وهذان الوجهان لم يختلفوا فيهما.
والثالث : ما سن الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس فيه نص كتاب،
واختلفوا فيه، فمنهم من قال: جعل الله [له بما] فرض من طاعته،
وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب. ومنهم من
قال: بل جاءته رسالة الله فأثبت سنته بفرض الله. ومنهم من قال:
ألقي في روعه كما سن. انتهى.
وبالقول الثاني جزم أبو الحكم بن برجان، وبنى عليه كتابه
المسمى "بالإرشاد"، وبين كثيرا من ذلك مفصلا، وقال: كل حديث
ففي القرآن الإشارة إليه تعريضا أو تصريحا، وما قال منشئ فهو
في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من
عمه. قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
[الأنعام: 38] ألا يسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لأقضين
بينكما بكتاب الله" . وقضى بالرجم2، وليس هو نصا في كتاب الله،
ولكن تعريض مجمل في قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
[النور: 8] وأما تعيين الرجم من عموم ذلك العذاب، وتفسير هذا
المجمل فهو مبين بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وبأمره
به،
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 92
2 الحديث رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل
في الحدود، حديث 2725 عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما
قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال
الخصم الآخر – وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن
لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل". قال: إن ابني
كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني
الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم
فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة
هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي
بيدخه لأقضين بينكما بكتاب الله..." الحديث.
(3/238)
مسألة [حاجة الكتاب إلى السنة]
قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. قال
أبو عمر: يريد أنها تقضي عليه، وتبين المراد منه. وقال يحيى بن
أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب. وقال الفضل بن زياد: سمعت
أحمد بن حنبل وقد سئل عن الحديث الذي روي: أن السنة قاضية على
الكتاب. فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله ولكن أقول: إن السنة
تفسر الكتاب وتبينه
(3/239)
القسم الأول :
الأقوال
والمراد بها التي لا على وجه الإعجاز، وينقسم إلى نص، وظاهر
مجمل وغيره، وقد سبقت مباحث الأقوال بأقسامها من الأمر والنهي،
والعام والخاص، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ. قال الحارث
المحاسبي في كتاب "فهم السنن": وهذا القسم على وجوه شتى،
فمنها: ما يبتدئ ثم بتعليم عامتهم أو بعضهم. ومنها: ما يسأله
بعضهم عنه فيخبرهم. ومنها: ما يكون من بعضهم السبب بتوفيق الله
ليعلمه بسببه، فيبينه في ذلك تبيينا له، أو ينهى عنه، كما
كانوا يصلون ما سبقهم به من الصلاة، ثم يدخلون معه في الصلاة،
فجاء معاذ فدخل معه في الصلاة، ولم يبدأ بما سبق، ثم قضى ما
سبق به، لما سلم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إن معاذا قد سن لكم فافعلوا ذلك" 1، رواه غير
واحد عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ.
ومنها: ما يحتكم فيه إليه، فيقضي بين بعضهم بذلك إيضاحا لما
أحب الله وتعليما لهم، وذلك كتعليمه الصلاة للمسيء صلاته2،
وتعليمه التشهد كما يعلم السورة من القرآن3، وغير ذلك.
ـــــــ
1 رواه أبو داود 1/138، كتاب الصلاة، باب كيف الأذان، حديث
506. وهو حديث صحيح.
2 يشير إلى الحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة،
حديث 791، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل
المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم السلام عليه فقال: "ارجع
فصل فإنك لم تصل" فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاثا فقال: والذي بعثك
بالحق فما أحسن غيره فعلمني. قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم
اقرأ ما تيسر معك من القرآن..." الحديث ورواه مسلم حديث 397.
3 يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب
التشهد في الصلاة، حديث 403 عن ابن عباس أنه قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من
القرآن فكان يقول: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله..."
الحديث.
(3/240)
القسم الأول :
الأفعال
...
القسم الثاني : الأفعال
وعادتهم يقدمون عليها الكلام على العصمة ; لأجل أنه ينبني
عليها وجوب التأسي بأفعاله.
(3/241)
[عصمة الأنبياء] والكلام قبل النبوة وبعدها
أما قبل النبوة، فقال المازري: لا تشترط العصمة1، ولكن لم يرد
في السمع وقوعها. وقال القاضي عياض: الصواب عصمتهم قبل النبوة
من الجهل بالله وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت
الأخبار عن الأنبياء بتبرئتهم عن هذه النقيصة منذ ولدوا،
ونشأتهم على التوحيد والإيمان.
ونقل ابن الحاجب عن الأكثرين عدم امتناعها عقلا، وأن الروافض
ذهبوا إلى امتناعها، ونقله غيره عن المعتزلة ; لأن ذلك يوجب
هضمه واحتقاره، وهو خلاف الحكمة، والأصح قول الأكثرين، ومنهم
القاضي ; لأن السمع لا دلالة له على العصمة قبل البعثة، وأما
دلالة العقل فمبنية على فاسد أصلهم في التحسين والتقبيح العقلي
ووجوب رعاية الأصلح والمصلحة.
وأما بعد النبوة والإرسال بالمعجزة، فقد دلت المعجزة دلالة
قطعية على صدقه، وهل دلالتها عقلية أو عادية؟ خلاف سبق في أول
الكتاب. فكل أمر ينافي دلالتها فهو على الأنبياء محال عقلا.
والكلام في العصمة يرجع إلى أمور:
أحدها : في الاعتقاد ولا خلاف بين الأمة في وجوب عصمتهم عما
يناقض مدلول المعجزة، وهو الجهل بالله تعالى والكفر به.
وثانيها : أمر التبليغ، وقد اتفقوا على استحالة الكذب والخطأ
فيه.
وثالثها : في الأحكام والفتوى، والإجماع على عصمتهم فيها ولو
في حال الغضب، بل يستدل بشدة غضبه صلى الله عليه وسلم على
تحريم ذلك الشيء.
ـــــــ
1 انظر المنخول ص: 375، الإحكام للآمدي 1/169، 170. مختصر ابن
الحاجب 2/22.
(3/241)
ورابعها : في أفعالهم وسيرهم ، فأما
الكبائر فحكى القاضي إجماع المسلمين أيضا على عصمتهم فيها،
ويلحق بها ما يزري بمناصبهم كرذائل الأخلاق، والدناءات، وإنما
اختلفوا في الطريق، هل هو الشرع أو العقل؟ فقالت المعتزلة وبعض
أئمتنا: يستحيل وقوعها منهم عقلا ; لأنها منفرة عن الاتباع،
ونقله إمام الحرمين في البرهان عن طبقات الخلق. قال: وإليه
مصير جماهير أئمتنا. وقال ابن فورك: إن ذلك ممتنع من مقتضى
المعجزة. وقال القاضي عياض: إنها ممتنعة سمعا، والإجماع دل
عليه. ولو رددنا إلى العقل فليس فيه ما يحيلها واختاره إمام
الحرمين، والغزالي وإلكيا، وابن برهان. وقال ابن القشيري: إنه
المستقيم على أصولنا. وقال المقترح: إنه الصواب ; لأنه ليس في
العقل ما يحيله، وجعل الهندي الخلاف فيما إذا لم يسنده إلى
المعجزة في التحدي، فإن أسنده إليها كان امتناعه عقلا.
(3/242)
[العصمة من
الصغائر]
وأما الصغائر : التي لا تزري بالمناصب، ولا تقدح في فاعلها،
ففي جوازها خلاف من حيث السمع مبني أولا على ثبوت الصغيرة في
نفسها، فمن نفاها كالأستاذ أبي إسحاق من حيث النظر إلى مخالفة
أمر الآمر، فلا تجوز عنده عليهم. والعجب أن إمام الحرمين في
"الإرشاد" وافق الأستاذ على منع تصور الصغائر في الذنوب وخالفه
هنا، والصحيح تصورها. واختلف القائلون به، هل تجوز عليهم؟ وإذا
جازت، فهل وقعت منهم أم لا؟ ونقل إمام الحرمين وإلكيا عن
الأكثرين الجواز عقلا. قال ابن السمعاني: وأما السماع فأباه
بعض المتكلمين، والصحيح صحة وقوعها منهم، وتتدارك بالتوبة. ا
هـ.
ونقل إمام الحرمين، وابن القشيري عن الأكثرين عدم الوقوع. قال:
وأولوا تلك الآيات، وحملوها على ما قبل النبوة، وعلى ترك
الأولى. وقال إمام الحرمين: الذي ذهب إليه المحصلون أنه ليس في
الشرع قاطع في ذلك نفيا وإثباتا، والظواهر مشعرة بالوقوع. ونسب
الإبياري لمذهب مالك الوقوع في الجملة، والقائلون بالجواز
قالوا: لا يقرون عليه.
ونقل القاضي عياض تجويز الصغائر ووقوعها عن جماعة من السلف،
ومنهم أبو جعفر الطبري، وجماعة من الفقهاء والمحدثين. وقال في
الإكمال: إنه مذهب جماهير العلماء، ولا بد من تنبيههم عليه،
إما في الحال على رأي جمهور المتكلمين، أو قبل وفاتهم على رأي
بعضهم. والمختار امتناع ذلك عليهم، وأنهم معصومون من الصغائر
والكبائر جميعا، وعليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو بكر
بن مجاهد، وابن فورك، كما نقله
(3/242)
عنهما ابن حزم في كتابه "الملل والنحل"
وقال: إنه الذي ندين الله به. واختاره ابن برهان في "الأوسط".
ونقله في "الوجيز" عن اتفاق المحققين، وحكاه النووي في "زوائد
الروضة" عن المحققين.
وقال القاضي الحسين في أول الشهادات من تعليقه: إنه الصحيح من
مذهب أصحابنا، وإن ورد فيه شيء من الخبر حمل على ترك الأولى،
وقال القاضي عياض: على ما قبل النبوة، أو فعلوه بتأويل، وهو
قول أبي الفتح الشهرستاني، والقاضي عياض، والقاضي أبي محمد بن
عطية المفسر فقال عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ}
[البقرة: 128]: الذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول
الرسول: "إني لأتوب في اليوم وأستغفر سبعين مرة" 1، إنما هو
رجوعه من حالة إلى أرفع منها لمزيد علومه واطلاعه على أمر
الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا
لغوية.
واختار الإمام فخر الدين العصمة منها عمدا، وجوزها سهوا، ونقل
القاضي عياض عن بعض أئمتهم أنه على القولين تجب العصمة من
تكرار الصغائر ; لالتحاقها حينئذ بالكبائر. ونقل الإجماع على
العصمة عن الصغيرة المفضية للخسة وسقوط المروءة والحشمة. قال:
بل المباح إذا أدى إلى ذلك كان معصوما منه، ونقل عن بعضهم أنه
أوجب العصمة عند قصد المكروه.
ـــــــ
1 رواه البخاري ككتاب الدعوات باب استغفار النبي صلى الله عليه
وسلم، برقم 6307.
(3/243)
[معنى العصمة]
ثم القائلون بالعصمة، اختلفوا في معناها،2 فقيل المعصوم من لا
يمكنه الإتيان بالمعاصي. وقيل: يمكنه ثم الأولون اختلفوا،
فقيل: إنه يختص في نفسه أو بدنه بخاصية، تقتضي امتناع إقدامه
عليها، وقيل: هو مساو لغيره في خواص بدنه، ولكن فسر العصمة
بالقدرة على الطاعة، وعدم القدرة على المعصية، وهو قول الأشعري
حكاه في "المحصول".
واحتج بعضهم لإمكان الوقوع مع أن الله منعهم منها بألطافه بهم
من صرف دواعيهم عنها بما يلهمهم إياه من ترغيب أو ترهيب أو
كمال معرفة ونحوه بقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]، وقال
التلمساني: المعني بالعصمة عند الأشعرية تهيئة العبد للموافقة
مطلقا، وذلك يرجع إلى خلق القدرة على كل
ـــــــ
2 انظر المنخول ص: 223، مختصر ابن الحاجب 2/22، فواتح الرحموت
2/97.
(3/243)
طاعة أمروا بها، والقدرة تقارن وقوع
المقدور، كما قالوا: إن التوفيق خلق القدرة على الطاعة، فإذن
العصمة توفيق عام، وردت المعتزلة العصمة إلى خلق ألطاف تقرب
فعل الطاعة، ولم يردوها إلى القدرة ; لأن القدرة عندهم على
الشيء حاصلة لضده.
قال القاضي أبو بكر: ولا تطلق العصمة في غير الأنبياء
والملائكة على وجه التعظيم لهم في التحمل بما يؤدونه عن الله
تعالى. قلت: ووقع في كلام الشافعي في "الرسالة"1: وأسأله
العصمة.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 146
(3/244)
مسألة : قوع النسيان
من النبي صل الله علية وسلم
...
مسألة [وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم]
وأما النسيان: فلا امتناع في تجويز وقوعه من الأنبياء فيما لا
يتعلق بالتكليف. قال ابن عطية: وكذلك ما أراد الله من نبيه
نسيانه، ولم يرد أن يكتب قرآنا.
وأما ما يتعلق بالتكليف، فاختلفوا فيه. قال ابن القشيري: والذي
نقطع به أنه لا يمتنع وقوعه عقلا2 إلا أن نقول: النبي لا يقع
في نسيان، ونقيم المعجزة عليه، وإذا ثبت جوازه عقلا، فالظواهر
تدل على وقوعه، وقال قوم: لا يقرون عليه، بل ينبهون على قرب،
وهذا لا يحصل فيه، ولا يمتنع التراخي في التقرير عليه، ولكن لا
ينقرض زمانهم وهم مستمرون على النسيان، وادعى فيه الإجماع
للمسلمين.
قال ابن القشيري: ما أمر بتبليغه فنسي، فالحكم كما قال: فأما
ما أمر به ثم نسي، فلا أبعد أن ينسى ثم لا يتذكر حتى ينقرض
زمانه، وهو مستمر على النسيان، مثل أن ينسى صلاة، ثم لا
يتذكرها. ا هـ.
وفصل ابن عطية في الكلام على النسخ بين ما لا يحفظه أحد من
الصحابة، فالنبي معصوم من النسيان قبل التبليغ وبعده، فإن حفظه
جاز عليه ما يجوز على البشر ; لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه
قول أبي: حسبت أنها رفعت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لم
ترفع، ولكن نسيتها". وقال: ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني
وكثير من الأئمة إلى امتناع النسيان، وذهب القاضي إلى جوازه،
وأما الإمام الرازي فادعى في بعض كتبه الإجماع على الامتناع،
وحكى الخلاف في بعضها.
قال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني: الظاهر أن ما طريقه
التبليغ فيه مما يقطع
ـــــــ
2 انظر المنخول ص: 225.
(3/244)
بدخوله تحت دلالة المعجزة على الصدق، فهذا
هو محل الإجماع، وما طريقه التبليغ والبيان للشرائع فهو محل
الخلاف، فيحمل كلام الرازي على ذلك.
وقد أشار إلى هذا التفصيل القاضي وإمام الحرمين وغيرهما، وحاصل
الخلاف يرجع إلى أن ذلك هل هو داخل تحت دلالة المعجزة على
التصديق، أم لا؟ فمن جعله داخلا فيها منعه، وقال: لو جاز تبعضت
دلالة المعجزة على التصديق، ومن جعله غير داخل فيها جوزه لعدم
انتقاص الدلالة.
وأما القاضي عياض فحكى الإجماع على امتناع السهو والنسيان في
الأقوال البلاغية، وخص الخلاف بالأفعال، وأن الأكثرين ذهبوا
إلى الجواز، وأن المانعين تأولوا الأحاديث الواردة في سهو
النبي صلى الله عليه وسلم على أنه تعمد ذلك ليقع النسيان فيه
بالفعل، وخطأهم في ذلك لتصريحه عليه السلام بالنسيان بقوله:
"إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" 1، ولأن
الأفعال العمدية تبطل الصلاة والبيان كاف بالقول، فلا ضرورة
إلى الفعل، وحيث [قلنا] بالجواز، فالشرط - بالاتفاق - أن لا
يقر أحدهم عليه فيما طريقه البلاغ لما يؤدي ذلك إليه من فوات
المقصود بالتشريع. واشترط الجمهور اتصالا لتنبيه بالواقعة،
وميل إمام الحرمين إلى جواز التأخير.
قال القاضي عياض: وأما الأقوال فلا خلاف في امتناع ذلك فيها،
وفي السنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: قلت: يا رسول
الله، أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: "نعم" . قلت: في الرضا
والغضب؟ قال: "نعم. فإني لا أقول إلا حقا" 2. قال: وتنزيه
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله واجب برهانا وإجماعا كما
قاله الأستاذ، وفي كلام إمام الحرمين ما يقتضي وجود خلاف فيه،
وهو مؤول على ما ليس طريقه البلاغ. وقال الرازي في تفسيره:
وأما ما يتعلق بالتبليغ فأجمعت الأمة على العصمة فيه من الكذب
والتحريف عمدا وسهوا، ومنهم من جوزه سهوا، ولا يحسن حكاية
الخلاف بعد إجماع الأمة. والصواب ما قاله القاضي عياض، وكلامه
موافق لجمهور الأمة في ذلك.
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان،
برقم 401، ومسلم، برقم 572.
2 رواه أبو داود 3/318 كتاب العلم، باب في كتاب العلم، حديث
3646، بلفظ: عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش،
وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب
والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما
يخرج منه حق" وهو حديث صحيح.
(3/245)
ثم قال القاضي: وأما ما ليس سبيله البلاغ
ولا تعلق له بالوحي ولا بالأحكام، فالذي يجب اعتقاده تنزيه
النبي عن أن يقع خبره في شيء من ذلك كله، بخلاف مخبره، لا عمدا
ولا سهوا ولا غلطا، وأنه معصوم من ذلك كله في كل حال: رضاه
وغضبه، ومزاحه ; لاتفاق المسلمين والصحابة على تصديقه في جميع
أحواله، وتلقيه بالقبول والعمل.
(3/246)
[عصمة الملائكة]
هذا كله في الأنبياء، أما الملائكة فقد تكلم القاضي على
عصمتهم، وقال: أما الرسل منهم فالقول فيهم كالقول في الأنبياء،
وقال: هم في حق الأنبياء كالأنبياء في حق الأمم. قال ابن
القشيري: ولعله بنى هذه اللفظة على تفضيله الملائكة على الرسل
من بني آدم، وأما من عد الرسل من الملائكة، فقال قوم بثبوت
عصمتهم، ومنهم من خصه بالمقربين منهم، كالحملة والكروبيين
ونحوهم، ونقل ابن السمعاني في العصمة عن المعتزلة وغيرهم، قال:
وعند أهل السنة أنه يصح وقوع ذلك منهم، بدليل قصة إبليس، وقد
كان من الملائكة.
فرع [هل يجوز أن يخلع الله نبيا من النبوة؟]:
ذكره إمام الحرمين وغيره. إن قيل: هل يجوز أن يخلع الله نبيا
من النبوة؟ قلنا: هذا لا يمتنع عقلا، فإن الله يفعل ما يشاء،
ويحكم ما يريد. قال: فإن قيل: لو خلع كيف يكون أحوال تلك
المعجزات؟ قلنا: كانت ترد إذن أو تزال، وأما شرعا فمن ثبتت له
العصمة لا تزول عنه. قال: ولا معول على ما نقله الضعفاء من أن
بلعم بن باعوراء كان نبيا، فخلعه الله تعالى، فإن ذلك ضعيف لا
يصح.
(3/246)
مسألة : [جواز الإغماء على الأنبياء]
أطلق أصحابنا الفقهاء جواز الإغماء على الأنبياء ; لأنه مرض،
ونقل القاضي الحسين في تعليقه في كتاب الصيام عن الدرك أن
الإغماء إنما يجوز على الأنبياء ساعة وساعتين. فأما الشهر
والشهران فلا يجوز كالجنون.
(3/246)
مسألة [وقوع المحرم والمكروه من النبي صلى
الله عليه وسلم]
يمتنع فعل المحرم عليه لما بينا من العصمة، وكذلك المكروه، لا
يفعله ليبين به الجواز ; لأنه يحصل فيه التأسي ; لأن الفعل يدل
على الجواز، فإذا فعله استدل به على جوازه، وانتفت الكراهة،
[وقيل] بل [فعل المكروه] في حقه في تلك الحالة أفضل لأجل
تكليفه البيان. وقد لا يتم إلا بالفعل، وقد صرح بذلك أصحابنا
في وضوئه مرة ومرتين، ونقل عن الحنفية أنهم حملوا وضوءه بسؤر
الهر على بيان الجواز مع الكراهة.
تنبيه [شرط إلحاق فعله بقوله]
شرط الحارث المحاسبي في كتابه كون فعله صلى الله عليه وسلم
ملحقا بقوله أن يجمعهم عليه، أو بعضهم، أو يفعله بنفسه هو
ويظهره لهم ليأخذوه عنه، يعني فإن لم يكن كذلك كان مخصوصا به.
قلت: وكذلك ما كان يفعله في خلواته من الأمور الشرعية، ولهذا
كان أهله يفعلونه، وهذا القدر كاف في إظهار البيان، كما في
القبلة للصائم والاغتسال من التقاء الختانين، ومن ذلك استدباره
الكعبة في البنيان ونحوه، وشرط صاحب "الكبريت الأحمر" أن يكون
لولا مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم له ما كنا نفعله، وإنما
نفعله لأجل أنه فعله ; لأنه لو دل على الفعل دليل آخر غير فعله
لم نكن متأسين.
(3/247)
[أقسام الأفعال]
وأما تقسيم الأفعال: ففعله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى
أقسام:
أحدها : ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية، كتصرف
الأعضاء وحركات الجسد. قال ابن السمعاني: فلا يتعلق بذلك أمر
بامتناع ولا نهي عن مخالفة، أي وإنما يدل على الإباحة.
الثاني : ما لا يتعلق بالعبادات، ووضح فيه أمر الجبلة، كأحواله
في قيامه وقعوده، والمشهور في كتب الأصول أنه يدل على الإباحة،
ونقل القاضي عن قوم أنه مندوب بخصوصه، وكذلك حكاه الغزالي في
"المنخول". وقد كان ابن عمر لما حج جر خطام ناقته حتى بركها
حيث بركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بآثاره الظاهرة.
الثالث : ما احتمل أن يخرج عن الجبلية إلى التشريع بمواظبته
على وجه خاص،
(3/247)
كالأكل والشرب، واللبس والنوم، وهو دون ما
ظهر منه قصد القربة، وفوق ما ظهر فيه الجبلية، وقد يخرج فيه
قولان للشافعي من القولين في تعارض الأصل والظاهر، إذ الأصل
عدم التشريع، والظاهر أنه شرعي ; لكونه منصوبا لبيان الشرعيات،
وقد جاء عن الشافعي أنه قال لبعض أصحابه: اسقني قائما، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما1.
وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق بحكاية الخلاف، وفيه وجهان للأصحاب:
أحدهما : وهو قول أكثر المحدثين أنه يصير سنة وشريعة، ويتبع،
والأصل فيه أن يستدل به على إباحة ذلك.
والثاني : أنه لا يتبع فيه إلا بدليل. هكذا حكى الخلاف في "شرح
الترتيب"، وقال في كتابه في "الأصول": يعلم تحليله على أظهر
الوجهين، ويتوقف فيه في الوجه الآخر على البيان.
وهكذا حكى الخلاف إلكيا، وعلل الوقت بأن الفعل لا يدل على جواز
الإيقاع، والمصالح مختلفة باختلاف أحوال المكلفين. قال: وفي
هذا نظر للأصوليين متجه إلا أن الذي عليه الأكثرون أنه مباح ;
لإجماع الصحابة، وقد سئلت أم سلمة عن القبلة للصائم، فأجابت
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبتعد عن ذلك. ا هـ2.
وجزم ابن القطان بأنه على الإباحة، وكذلك الماوردي والروياني
في كتاب القضاء، حتى يقوم دليل على اختصاصه به، وفي الصحيح عن
عبيد بن جريج. قال: قلت لابن عمر: رأيتك تصنع أربعا، وفيها:
رأيتك تلبس النعال السبتية؟ فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يلبسها3.
وذكر البخاري في باب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حديث
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب، فاتخذ
الناس خواتيم من ذهب، فنبذه، وقال: "إني لم ألبسه أبدا" فنبذ
الناس خواتيمهم4.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب قائما
5615 بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه شرب قائما فقال: إن ناسا
يكره أحدهم أن يشرب وهو قاائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم فعل كما رأيتموني فعلت.
2 الحديث رواه البخاري، كتاب الصوم، باب القبلة للصائم، حديث
929 عن أم سلمة بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها
وهو صائم.
3 رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين ولا
يمسح على النعلين، حديث 166، ورواه مسلم حديث 1187.
4 رواه البخاري، كتاب اللباس، باب خواتيم الذهب، برقم 5866
ومسلم، برقم 2091.
(3/248)
ويخرج من كلام الفقهاء ما يقتضي انقسام هذا
القسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها : ما يترقى إلى الوجوب، كإيجاب الشافعي الجلوس بين
الخطبتين ; لأنه عليه السلام كان يجلس بين الخطبتين1 وثانيها :
ما يترقى إلى الندب ، كاستحباب أصحابنا الاضطجاع على الجانب
الأيمن بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، سواء كان المرء تهجد أو
لا ; لقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي
الفجر اضطجع على شقه الأيمن2، وأما حديث الأمر به فمعلول3.
ثالثها : ما يجيء فيه خلاف ، كدخوله مكة من ثنية كداء وخروجه
من ثنية كداء، وحجه راكبا، وذهابه إلى العيد في طريق، ورجوعه
في أخرى، وقد اختلف أصحابنا في هذا: هل يحمل على الجبلي، فلا
يستحب؟ أو على الشرعي فيستحب؟ على وجهين.
وقال أبو إسحاق المروزي: إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم
فعلا لمعنى، ولم يكن مختصا به فعلناه، ومن طريق الأولى إذا
عرفنا أنه فعله لمعنى يشاركه فيه غيره. وقال أبو علي بن أبي
هريرة: نفعلها اتباعا له، سواء عرفنا أنه لمعنى يختص به أم لا،
وقال الرافعي: الذي مال إليه الأكثرون قول ابن أبي هريرة، ذكره
في استحباب تخالف الطريقين في العيد.
وعن الماوردي أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى فزال
ذلك المعنى، فيه وجهان:
أحدهما : قاله أبو إسحاق: لا يفعل إلا بدليل.
والثاني : قاله ابن أبي هريرة يفعل.
وقال ابن الصباغ في صلاة العيدين من "الشامل": قال أبو إسحاق:
إذا عقلنا معنى ما فعله، وكان باقيا، أو لم نعقل معناه، فإنا
نقتدي به فيه، فأما إذا عقلنا معنى فعله، ولم يكن الغرض به
باقيا لم نفعله ; لزوال معناه، وقال ابن أبي هريرة نقتدي به،
ـــــــ
1 في ذلك أحاديث كثيرة، ومنها ما رواه البخاري في صحيحه في
كتاب الجمعة، باب الخطبة قائما، حديث 920 بإسناده عن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما
ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون الآن. ورواه مسلم حديث 861.
2 رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد
ركعتي الفجر، حديث 1160. ورواه مسلم حديث 736.
3 يشير إلى الحديث الذي رواه أبو داود في سننه 2/21 كتاب
الصلاة، ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه"
وهو حديث إسناده صحيح كما قال النووي في المجموع شرح المهذب
3/525.
(3/249)
وإن زال معناه، لقوله تعالى:
{وَاتَّبِعُوهُ} [لأعراف: 158] الآية. لأنه كان يفعل الرمل
والاضطباع1 لإظهار القوة من المسلمين، ثم صار سنة، وإن زال
معناه،
وبقي قسم آخر وهو أن لا يعلم السبب، وقال النووي في "الروضة":
يستحب التأسي قطعا.
الرابع : ما علم اختصاصه به كالضحى والوتر 2، والمشاورة
والتخيير لنسائه، والوصال، والزيادة على أربع - فلا يشاركه فيه
غيره. وتوقف إمام الحرمين في أنه هل يمتنع التأسي به؟ وقال:
ليس عندنا نقل لفظي أو معنوي في أن الصحابة كانوا يقتدون به
صلى الله عليه وسلم في هذا النوع، ولم يتحقق عندنا ما يقتضي
ذلك، فهذا هو محل التوقف. وتابعه على ذلك ابن القشيري
والمازري.
وفصل الشيخ الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه
"المحقق في الأفعال" بين المباح، فليس لأحد التشبه فيه به
كالزيادة على أربع، وبين الواجب فيستحب التشبه، وكذلك التنزه
عن المحرم، كأكل ذي الريح الكريهة، وطلاق من تكره صحبته. قال:
وهذا تفصيل حسن لمن فهم الفقه وقواعده، ولعل الإمام عنى بذلك
أنه لم ينقل أن الصحابة فعلوا ذلك بمجرد الاقتداء والتأسي، بل
لأدلة منفصلة. قلت: وقد
ـــــــ
1 الرمل – بفتح الراء والميم -: هو سرعة المشي مع تفاوت الخطى
وهو الخبب، يقال: رمل يرمل – بضم الميم – رملا ورملانا. انظر
طلبة الطلبة ص: 30، المجموع شرح المهذب 8/55. والاضطباع: أن
يجعل رداءه تحت إبطه الأيمن ويلقيه على كتفه الأيسر حين الطواف
بالكعبة. وهو سنة. فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
انظر فتح القدير لابن الهمام 2/451.
2 روي في ذلك بعض الأحخاديث الضعيفة ومنها عن ابن عباس مرفوعا
بلفظ "ثلاث هن علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة
الضحى" . رواه أحمد في مسنده 1/231 والدارقطني في سننه 2/21،
وفيه "ركعتا الفجر" بدلا من "ركعة الوتر" ورواه الحاكم في
المستدرك 1/300، والبيهقي في السنن الكبرى 2/468 جميعا من طرق
عن أبي جناب الكلبي عن عكرمة عن ابن عباس مرنفوعا، وأبو جناب
الكلبي اسمه يحيى بن أبي حية، وهو ضعيف كما في الضعفاء الصغير
للبخاري ص: 50، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص: 23، الضعفاء
الكبير للعقيلي 4/399 والكامل في الضعفاء لابن عدي 7/212،
ورواه الدارقطني في سننه 2/21 وابن شاهين في ناسخ الحديث
ومنسوخه ص: 193 وعبد الرزاق في المصنف 3/5، ثلاثتهم من طرق عن
عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس مرفوعا بلفظ: "أمرت بالوتر
والأضحى ولم يعزم علي" وفيه عبد الله بن محرر وهو منكر الحديث،
وكان من خيار عباد الله ممن يكذب ولا يعلم. انظر ترجمته في
التاريخ الكبير للبخاري 5/12 والمجروحين لابن حبان 2/22.
والحديث ضعيف من جميع طرقه كما قال ابن الصلاح في شرح مشكل
الوسيط ج2/ق69/أ والحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/136.
(3/250)
ذكره الماوردي والروياني. وقسما هذا النوع
إلى ما أبيح له وحظر علينا كالمناكح. وإلى ما أبيح له وكره لنا
كالوصال وإلى ما وجب عليه وندب لنا كالسواك، والوتر والضحى.
الخامس : ما يفعله لانتظار الوحي ، كابتداء إحرامه صلى الله
عليه وسلم بالحج حيث أبهمه منتظرا للوحي، فقال بعض أصحابنا:
إطلاق الإحرام أفضل من تعيينه تأسيا، والصحيح خلافه. قال
الإمام في "النهاية": وهذا عندي هفوة ظاهرة، فإن إبهام رسول
الله صلى الله عليه وسلم محمول على انتظار الوحي قطعا، فلا
مساغ للاقتداء به في هذه الجهة.
السادس : ما يفعله مع غيره عقوبة ، فلا شك أنه واجب عليه، قال
ابن القطان: ولا خلاف فيه، وإنما اختلفوا هل غيره ممن يشاركه
في المعنى قياسا عليه، أم على الظاهر؟. وقال الأستاذ أبو
إسحاق: ما يفعله مع غيره، إن تعلق به أحد طرفيه كالبيوع
والأنكحة فظاهر المذهب وعليه جمهور الفقهاء أنه محمول على
الجواز في غيره مستدل على إباحته، واختلفوا في وجوب أوصافه على
حسب اختلافهم فيما يأتيه من عباداته، وإن فعله بين شخصين
متداعيين أو على جهة التوسط فهو محمول على الوجوب بلا خلاف،
ويجري مجرى القضاء والحكم. قال: وما تصرف فيه من أملاك الغير
فهو بالإجماع موقوف على معرفة السبب، ويدخل فيه جميع وجوه
الاستباحة.
السابع : ما يفعله مع غيره إعطاء ، وقد حكى الرافعي وجهين في
أن الرضخ للعبيد والنساء والصبيان مستحب أو واجب1 قال:
والمشهور وجوبه، لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضخ
قط، ولنا فيه أسوة حسنة.
الثامن : الفعل المجرد عما سبق، فإن ورد بيانا، كقوله: "صلوا
كما رأيتموني أصلي" 2، و "خذوا عني مناسككم" 3، أو لآية كالقطع
من الكوع المبين لآية السرقة، فهو دليل في حقنا، ولا خلاف أنه
واجب، وحيث ورد بيانا لمجمل، فحكمه حكم ذلك المجمل إن كان
واجبا فواجب، وإن كان مندوبا فمندوب، كأفعال الحج والعمرة،
وصلاة الفرض والكسوف.
ـــــــ
1 انظر سنن أبي داود 1/84 حديث 313. وهو حديث صحيح.
والرضخ: هو العطية القليلة من الغنيمة بخلاف السهم للمقاتلين
من الرجال. والرضخ يكون للنساء والصبيان والعبيد ويجتهد الإمام
في تقديرها. انظر طلبة الطلبة ص: 82. والموسوعة الفقهية
22/257.
2 رواه البخهاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا
جماعة... ، حديث 631.
3 رواه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي حجرة العقبة يوم
النحر راكبا، حديث 1297، بلفظ "لاخذوا مناسككم" .
(3/251)
وقال الأستاذ أبو منصور: وهذا على القول
بجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ومن أباه منع بيان المجمل
بالفعل المتأخر عنه، وإن لم يكن كذلك بل ورد مبتدأ، فإن علمت
صفته في حقه من وجوب أو ندب وإباحة، فما حكم الأمة فيه؟
اختلفوا فيه على مذاهب:
أصحها : أن أمته مثله، إلا أن يدل على تخصيصه به.
وثانيها : كما لم تعلم صفته، وهو قول القاضي أبي بكر،
وثالثها : مثله في العبادات دون غيرها، وبه قال أبو علي بن
خلاد من المعتزلة.
ورابعها : الوقف، قاله الرازي: وحكى ابن السمعاني عن أبي بكر
الدقاق أنه لا يكون شرعا لنا إلا بدليل يدل عليه، ثم قال ابن
السمعاني: هكذا أورده الأصحاب. وعندي أن ما فعله على جهة
التقرب سواء عرف أنه فعله على جهة التقرب أو لم يعرف، فإنه شرع
لنا، إلا أن يقوم دليل على تخصيصه به1.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: هذه المسألة لم يفصح عنها
المحققون، وأنا أقول: إذا علمنا أن فعله على طريق الوجوب، فإن
علمناه واجبا عليه وعلينا فلا حاجة إلى الاستدلال بفعله على
أنه واجب علينا، بل مرجعنا إلى الدليل الدال على عدم خصوصيته،
وإن علمناه مختصا به، فقد مر الكلام في خصائصه، وإن شككنا فلا
دليل على الوجوب إلا أدلة القائلين بالوجوب فيما لم تعلم صفته،
فلا حاجة إلى فرض هذه المسألة، وهي أنه معلوم الصفة أولا، وإن
علمنا أنه أوقعه ندبا فهو على اختيارنا الندب في مجهول الصفة،
أو مباحا، فهو الذي لم يظهر فيه قصد القربة. ا هـ ملخصا.
وإن لم نعلم صفته في حقه، فتنقسم إلى قسمين:
الأول : أن يظهر فيه قصد القربة. قال إمام الحرمين في البرهان:
فذهبت طوائف من المعتزلة إلى حمله على الوجوب، وبه قال ابن
سريج وابن أبي هريرة من أصحابنا، وذهب آخرون إلى أنه لا يدل
على الوجوب، ولكن يقتضي الاستحباب. قال: وفي كلام الشافعي ما
يدل عليه، وحكاه غيره عن القفال، وأبي حامد المروزي، وذهب
الواقفية إلى الوقف، ونسبه الشيخ أبو إسحاق لأكثر أصحابنا،
ويحكى عن الدقاق، واختاره القاضي أبو الطيب، وحكاه في "اللمع"
عن الصيرفي، وأكثر المتكلمين، ولم
ـــــــ
1 انظر المعتمد 1/377 الإحكام لابن حزم 1/422، اللمع ص: 37،
أصول السرخسي 2/87، الإحكام للآمدي 1/174، مختصر ابن الحاجب
2/23، المسودة ص: 189.
(3/252)
يحك الإمام قول الإباحة هاهنا ; لأن قصد
القربة لا يجامع استواء الطرفين، لكن ابن السمعاني حكاه حملا
على أقل الأحوال، وكذا الآمدي صرح بجريان الخلاف الآتي في
الحالتين جميعا. ويمكن توجيهه بأن القصد بفعل المباح جواز
الإقدام عليه، ويثاب عليه السلام على هذا القصد، فهو قربة في
حقه بهذا الاعتبار.
الثاني : أن لا يظهر فيه قصد القربة ، بل كان مجردا مطلقا،
وهذا موضع الخلاف الآتي، والذي يقتضيه التحقيق فيما إذا لم
يعرف حكم ذلك الفعل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فإما أن يكون من العبادات فهو متردد بين الوجوب والندب، وما
كان من غيرها، وهو دنيوي كالتنزه فهو متردد بين الإباحة
والندب، وإلا كان ظاهرا في الندب، ويحتمل الوجوب.
وأما حكم ذلك الفعل بالنسبة إلينا ففيه مذاهب:
أحدها : أنه واجب في حقنا وحقه ما لم يمنع مانع، ونسبوه لابن
سريج. قال إمام الحرمين: وهو زلل في النقل عنه، وهو أجل قدرا
من ذلك1. وحكاه ابن الصباغ وغيره عن الإصطخري، وابن خيران،
وابن أبي هريرة، والطبري، وأكثر متأخري أصحابنا، كما قاله
الأستاذ أبو منصور، وقال سليم: إنه ظاهر مذهب الشافعي، ونصره
ابن السمعاني في "القواطع"، وقال: إنه الأشبه بمذهب الشافعي.
لكنه لم يتكلم إلا فيما ظهر فيه قصد القربة، واختاره أبو
الحسين بن القطان ونصر أدلته. قال: وأخذوه من قول الشافعي [في
الرد] على أهل العراق في سنن النبي صلى الله عليه وسلم
وأوامره: أجمعنا أن الأمر يختص به الظاهر، فهو إذا انفرد بنفسه
أولى أن يكون واجبا، واختاره الإمام فخر الدين في "المعالم".
ومن هذا الباب جلوسه بين الخطبتين يوم الجمعة2، وليس فيه إلا
فعله عليه السلام. ورأى الشافعي فساد الصلاة بتركه، والقول
بوجوب التأسي في حقنا هو الصحيح عن مالك. قاله القاضي أبو بكر
وابن خويز منداد، واختاره، وقال عبد الوهاب: إنه اللائق
بأصولهم. قال القرافي: وهو الذي نقله أئمة المالكية في كتبهم
الأصولية والفروعية، وفروع المذهب مبنية عليه.
ونقله القاضي أبو بكر عن أكثر أهل العراق، منهم الكرخي وغيره.
ثم قال
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/489 ف 398.
2 في ذلك أحاديث كثيرة، ومنها ما رواه البخاري حديث 920 ومسلم
حديث 861.
(3/253)
القاضي: واختلف القائلون بالوجوب على
طريقين، فذهب بعضهم إلى أنا ندرك الوجوب بالعقل، وذهب بعضهم
إلى أنا ندركه بالسمع، وهو الذي أورده ابن السمعاني. وقال
إلكيا الطبري: الصحيح أنه لا أقيس من حيث العقل ; لأنه لا
دلالة فيه، والمخالف يسلم ذلك، ولكنه يقول: دليل السمع دل
عليه، فيرجع النزاع إلى دليل السمع، إذن لا متعلق لهم،
والألفاظ دلت على التأسي به، وتهديد تارك التأسي به والاتباع
له.
والثاني : أنه مندوب، وهو قول أكثر الحنفية والمعتزلة، ونقله
القاضي وابن الصباغ، وسليم عن الصيرفي والقفال الكبير. فأما
النقل عن القفال فصحيح، فقد رأيته في كتابه، وعبارته لا تدل
على الوجوب في حق الأمة إلا بدليل، ولنا أسوة به، وهو غير
مخصوص به حتى يوقف على الخصوص، وأما الصيرفي فسيأتي عنه الوقف،
ونسبه القاضي أبو بكر لأصحاب الشافعي. وقال ابن القشيري: في
كلام الشافعي ما يدل عليه. وقال الماوردي والروياني: إنه قول
الأكثرين، وأطنب أبو شامة في نصرته.
والثالث : أنه مباح، ولا يفيد إلا ارتفاع الحرج عن الأمة لا
غير، وهو الراجح عند الحنابلة1. ونقله الدبوسي في "التقويم" عن
أبي بكر الرازي، وقال: إنه الصحيح، واختاره الإمام في
"البرهان"2، وأطنب في الرد على الأولين، ونقل عن مالك. قال
القرطبي: وليس معروفا عند أصحابه.
قال ابن القطان: ونسبوه إلى الشافعي ; لأنه قال في كتاب
المناسك، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الطواف: ولا
أدري أفرض أو تطوع؟ ولا أدري الفريضة تجزئ عنها أم لا؟ إلا أن
الظاهر إن صلاهما أن علينا صلاتهما، وإنما منعنا من إيجابهما
أن الله تعالى ذكر الطواف، ولم يذكر الصلاة، فدل على أن فعله
عليه السلام غير واجب. قال: وذكر أيضا في الأمر قول عائشة:
فعلت أنا ورسول الله، اغتسلنا. وقوله تعالى: {وَلا جُنُباً
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] إنما أريد به الجماع،
وإن لم يكن معه إنزال ; لأنه يوجب المهر. ولم يعد إلى حديث
عائشة، بل استدل بقوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ} [النساء: 43] وباتفاقهم على إيجاب المهر، وإن لم يكن
إنزال، فكذلك الغسل، فلو كان فعله عنده واجبا لكان أولى ما
يحتج به صلى الله عليه وسلم. قال: والقائلون بالوجوب أولوا هذا
إلى قولهم. ا هـ.
الرابع: أنه على الوقف حتى يقوم دليل على الوقف ، وبه قال
جمهور أصحابنا،
ـــــــ
1 انظر المسودة ص: 187.
2 انظر البرهان 1/402.
(3/254)
منهم الصيرفي كما رأيت التصريح به في كتابه
"الدلائل"، ونقله ابن السمعاني عن أكثر الأشعرية. قال: واختاره
من أصحابنا الدقاق وأبو القاسم بن كج، وقال ابن فورك: إنه
الصحيح، وكذا صححه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية"، ونقله
عن كثير من أصحابنا، منهم ابن كج والدقاق والسريجي قال:
وقالوا: لا ندري إنه للوجوب أو للندب أوللإباحة ; لاحتمال هذه
الأمور كلها، واحتمال أنه من خصائصه. واختاره الغزالي والإمام
فخر الدين وأتباعه. ونقله الأستاذ أبو منصور عن الأشعري
والصيرفي. وقال ابن القطان: هذا القول بعيد جدا عن المذهب، إلا
أنه أقيس من الذي قبله، وصححه أبو الخطاب من الحنابلة، وذكره
عن أحمد.
قال بعضهم: وللوقف في أفعاله معنيان: أحدهما الوقف في تعدية
حكمه إلى الأمة، وثبوت التأسي، وإن عرفت جهة فعله، والثاني:
الوقف في تعيين جهة فعله من وجوب أو استحباب، وإن كان التأسي
ثابتا، وهو بهذا يئول إلى قول الندب.
والخامس : أنه يدل على الحظر. قال الغزالي، وتبعه الآمدي
والهندي: وهو قول من جوز على الأنبياء المعاصي، وهو سوء فهم.
فإن هذا القائل يقول: إن غيره يحرم عليه اتباعه فيها. لا إن
وقع منه يكون حراما، كما صرح به القاضي أبو الطيب وابن
القشيري، فقالا: ذهب قوم إلى أنه يحرم اتباعه، وهذا بناء على
أصلهم في الأحكام قبل ورود الشرائع، فإنهم زعموا أنها على
الحظر، ولم يجعلوا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علما في
تثبيت حكم، فبقي الحكم على ما كان عليه في قضية العقل قبل ورود
الشرائع.
تنبيهات
الأول : الظاهر أن هذا الخلاف يجري في حكم الفعل بالنسبة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم عند القائلين بأن حكمنا حكمه في
الأفعال المعروفة الأحكام، ثم رأيت ابن النفيس قال في كتابه
"الإيضاح": الذي يظهر لي أنه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم
أن ما يكون من العبادات فهو متردد بين الوجوب والندب، وما كان
من غيرها وهو دنيوي كالتنزه، فهو متردد بين الإباحة والندب،
وإلا كان ظاهرا في الندب، ويحتمل الوجوب، وأما كونه بالنسبة
إلينا ففيه أربعة أقوال، وحكى الخلاف السابق.
الثاني : ما أطلقوه من أن الفعل إذا وقع بيانا يصير حكمه حكم
المبين في الوجوب أو الندب، أثار فيه ابن دقيق العيد بحثا، وهو
أن الخطاب المجمل مبين بأول الأفعال وقوعا، فإذا تبين بذلك
الفعل لم يكن ما وقع بعده بيانا لوقوع البيان بالأول، فيبقى
فعلا
(3/255)
مجردا لا يدل على الوجوب. مثاله قوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 77] وصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه افتتح الصلاة بعد التكبير بدعاء الاستفتاح1، وفي
حديث عائشة رضي الله عنها أنه افتتحها بعد التكبير بالفاتحة. 2
فيتعارضان، اللهم إلا أن يدل دليل على وقوع ذلك الفعل المستدل
به بيانا، فيتوقف الاستدلال بهذه الطريقة على وجود ذلك الدليل،
بل قد يقوم الدليل على خلافه كرواية من رأى فعلا للنبي صلى
الله عليه وسلم وسبقنا له.
هذه التقاسيم كلها في الأفعال بعد السمع، وأما أفعاله قبل ورود
السمع فحكمها مبني على أنه متعبد بشريعة من قبلنا، وسيأتي.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب
الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث 771، عن علي بن أبي طالب عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا نقام إلى الصلاة
قال: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا
شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله
وإلا أنت أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي
ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" .
2 رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يجمع صفة الصلاة وما يفتتح
به، حديث 498 عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير وزالقراءة بـ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
(3/256)
مسألة [حكم التأسي بالرسول صلى الله عليه
وسلم في فعله]
التأسي بالنبي عليه السلام واجب فيما سوى خواصه عند المعتزلة
وجمهور الفقهاء، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وقال عمر: لولا أني رأيت رسول الله
يقبلك ما قبلتك3. وقيل: إن ذلك إنما يجب في العبادات، وفسروا
التأسي بأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا على وجه
الوجوب، وجب علينا أن نفعله كذلك، وإن فعله على وجه الإباحة أو
الندب، وجب علينا اعتقاد أنه كذلك. وينبغي أن يخص بهذا من عرف
الفعل وحكمه، إذ لو وجب تحصيل العلم بذلك لكان تعلم مسائل
الفقه من فروض الأعيان.
ـــــــ
3 رواه البخاري، كتاب الحج، باب تقبيل الحجر الأسود، برقم 1610
ومسلم في الحج برقم 1270.
(3/256)
|