البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية فصل: في بيان الطرق
التي بها تعرف جهة الفعل من كونه واجبا، ومندوبا، ومباحا
مدخل
...
فصل في بيان الطرق التي بها تعرف جهة الفعل من كونه واجبا،
ومندوبا، ومباحا ; لأن وجوب المتابعة يتوقف على ذلك
اعلم أن فعله عليه السلام ينحصر فيما ذكرنا ; لأن المحرم يمتنع
صدوره منه إجماعا، وكذلك المكروه عندنا، بل لا يتصور منه وقوعه
; لأنه إنما يفعله لقصد التشريع، فهو أفضل في حقه من الترك،
وإن كان فعله مكروها لنا، ثم الطريق قد يعم هذه الأمور، وقد
يخص البعض.
فالعام أربعة:
أحدها : أن ينص على كونه من القسم الفلاني.
ثانيها : أن يسويه بفعل علمت جهته.
ثالثها : أن يقع امتثالا لآية مجملة، دلت على أحد هذه الثلاثة.
رابعها : أن يقع بيانا لآية مجملة دلت على أحدها.
وأما الخاص بالوجوب، فعرف بطرق:
أحدها : أن يقع على صفة تقرر في الشرع أنها أمارة الوجوب،
كالصلاة بأذان وإقامة.
ثانيها : أن يقع قضاء لعبادة علم وجوبها عليه.
ثالثها : أن يقع جزاء شرط كفعل ما وجب بالنذر. قلنا: إن النذر
غير مكروه. رابعها: أن يداوم على الفعل مع عدم ما يدل على عدم
الوجوب ; لأنه لو كان غير واجب لأخل بتركه.
خامسها: ذكر الصيرفي أن يفعله فصلا بين المتداعيين جزاء، فهو
دليل على وجوبه. قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] وكذلك ما
أخذه من مال رجل وأعطاه لآخر، فيعلم أن ذلك الأخذ واجب.
سادسها: أن يكون ممنوعا منه لو لم يجب، كالإتيان بالركوعين في
صلاة الخسوف. فإن الزيادة في الصلاة مبطلة في غير الخسوف،
فمشروعيتها دليل على وجوبها.
وهذا المعنى نقلوه عن ابن سريج في إيجاب الختان، وهو منتقض
بصور كثيرة.
منها سجود السهو، والتلاوة في الصلاة، فإنه ممنوع منه، ولما
جاز لم يجب. وكذلك رفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد،
وغيره، وقال الخفاف في الخصال: فعل النبي صلى الله عليه وسلم
غير واجب علينا إلا في خصلتين، أن يكون فعله بيانا أو يقارنه
دلالة.
(3/257)
وأما الخاص بالندب فأمور : منها قصد القربة
مجردا عن أمارة دالة على الوجوب، فإنه يدل على كونه مندوبا،
وبكونه قضاء لمندوب، ومداومته على الفعل ثم يخل بتركه، كتركه
الجلوس للتشهد الأول، وكذا تركه الوضوء مما مسته النار بعد
وجوبه، فيه دليل على أنه كان غير واجب فيه. قاله الأستاذ أبو
منصور، ومنها بالدلالة على أنه كان مخيرا بينه وبين فعل آخر
ثبت [عدم] وجوبه ; لأن التخيير لا يقع بين واجب وغير واجب، وقد
يكون بعض الندوب آكد من بعض.
قال القفال في "محاسن الشريعة": ومما تعرف بها الآكدية
المداومة عليه ; لأنه أعرف بمواقع الشكر، فيقدم على ما لم
يداوم عليه. ومنها أداؤه في جماعة، فيكون آكد مما شرعه منفردا
; لأن الجماعة من شعائر الفرائض. ومنها التوقيت، فالفعل المؤقت
أفضل مما لا وقت له ; لأن التوقيت من معالم الفروض. وجعل منه
الوتر والرواتب، وما نقص عن ذلك كان بعده في الرتبة، وذكر
الإمام في "النهاية" من أسباب الآكدية أن ما اتفق عليه آكد مما
اختلف فيه. وهذا خارج عما نحن فيه.
وتعرف الإباحة بمجرد الفعل وتنتفي ندبيته ووجوبه بالبقاء على
حكم الأصل، فيعرف أنه مباح: قال في المحصول: وبأنه ثبت أنه لا
يفعل راجح الترك، فيعلم أن فعله غير راجح الترك، والأصل عدم
رجحان الفعل فثبتت الإباحة. قال الصيرفي: وبأن يفعله بعد نهي
منه، فيعلم زوال النهي. ومثله بأمره بالصلاة قعودا خلف الإمام
القاعد، ثم صلى قاعدا، والناس قيام خلفه. قال: وهذا إنما يقع
في السنة ; لأن السنة لا تنسخ القرآن.
(3/258)
مسألة : ما فعله
الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة يأتي به على أكمل وجه.
...
دون بلده لبيان الجواز.
(3/59)
مسألة [دخول الزمان والمكان فيما وقع من
الأفعال للبيان]
إذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلا لبيان، دخل في ذلك هيئة
الفعل، وأما الزمان والمكان فإنما يدخلان حيث يليق دخولهما،
كما في الوقوف بعرفة، والصلوات في أوقاتها، وقيل: إن تكريره
للفعل في زمان واحد، أو مكان واحد، يدل على اعتبار ما وقع فيه.
وقد سبقت في مباحث البيان.
(3/259)
مسألة [قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله
الموافقان للقرآن هل هما بيان للقرآن أو بيان حكم مبتدأ]
نقل السرخسي من الحنفية عن أصحابهم أن فعل النبي صلى الله عليه
وسلم أو قوله متى ورد موافقا للقرآن، يجعل صادرا عن القرآن
وبيانا لما فيه. قال: والشافعية يجعلونه بيان حكم مبتدأ، حتى
يقوم الدليل على خلافه. قال: وعلى هذا قلنا: بيان النبي صلى
الله عليه وسلم التيمم في حق الجنب صادر عما في القرآن، وبه
يتبين أن المراد بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] الجماع
دون المس باليد، وهم يجعلون ذلك بيان حكم مبتدأ، ويحملون قوله:
{أَوْ لامَسْتُمُ} [النساء: 43] على المس باليد ; لأنه يحتمل
أن يكون صادرا عما في القرآن، ويحتمل أن يكون شرع في الحكم
ابتداء، وهو في الظاهر غير متصل بالآية، فيحمل على أنه بيان
حكم مبتدأ باعتبار الظاهر، ولما فيه من زيادة الفائدة. قلت:
وسبق في أول الباب عكسها.
(3/259)
مسألة [طرق إثبات فعله صلى الله عليه وسلم]
إذا قلنا في أمر من الأمور: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعله،
فلنا في معرفته ثلاث طرق:
الأول : أن ينقل إلينا أنه فعله تواترا أو آحادا، كفعل التكبير
عند التحرم والطمأنينة في الركوع، والسجود، والاعتدال، فإنه
منقول أنه واجب علينا ; لأنه عليه السلام فعل ذلك، وكل ما فعله
وجب علينا فعله.
الثاني : أن نقول هذا الفعل أفضل بالإجماع، وأفضل الخلق لا
يواظب على
(3/259)
|