البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل في المستفيض
[تعريف المستفيض والفرق بينه وبين المتواتر]:
قيل: إنه والمتواتر بمعنى واحد، وهو الذي جرى عليه أبو بكر الصيرفي والقفال الشاشي، كما رأيته في كتابيهما. وقيل: بل المستفيض رتبة متوسطة بين المتواتر والآحاد1، ونقله إمام الحرمين وأتباعه عن الأستاذ أبي إسحاق2، وجرى عليه تلميذه الأستاذ أبو منصور في كتاب معيار النظر "، وابن برهان في "الأوسط" فقال: ضابطه أن ينقله عدد كثير يربو على الآحاد، وينحط عن عدد التواتر. وجعله الآمدي وابن الحاجب قسما من الآحاد. قال الآمدي: وهو ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة، وهو المشهور في اصطلاح المحدثين، وقيل: "المستفيض" ما تلقته الأمة بالقبول، وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه ما اشتهر عند أئمة الحديث، ولم ينكروه، وكأنه استدل بالاشتهار مع التسليم، وعدم الإنكار على صحة الحديث، وقد أشار ابن فورك في صدر كتابه: "مشكل الحديث" إلى هذا أيضا. ومثله بخبر: "في الرقة ربع العشر، وفي مائتي درهم خمسة دراهم " 3.
وقال الروياني في "البحر": المستفيض: أن يكون الخبر مرة بعد مرة، وليس هناك رتبة تدل على خلافه. والمختار أنه الشائع بين الناس، وقد صدر عن أصل ليخرج الشائع لا عن أصل.
وذكر الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" تقسيما غربيا جعلا فيه المستفيض أعلى رتبة من المتواتر، وكل منهما يفيد العلم. فقالا: الخبر على ثلاثة أضرب. أحدها: الاستفاضة، وهو أن ينتشر من ابتدائه بين البر والفاجر، ويتحققه العالم والجاهل، ولا يختلف فيه، ولا يشك فيه سامع إلى أن ينتهي، وعنيا بذلك استواء الطرفين
ـــــــ
1 انظر أصول السرخسي 1/291، والإحكام للآمدي 2/21، وشرح تنقيح الفصول ص: 349، فواتح الرحموت 2/111.
2 انظر البرهان 584.
3 رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، حديث 1454.

(3/312)


والوسط. قالا: وهذا أقوى الأخبار وأثبتها حكما. والثاني: التواتر: وهو أن يبتدئ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم، ويبلغوا قدرا ينتفي عن مثلهم التواطؤ والغلط فيكون في أوله من أخبار الآحاد وفي آخره من المتواتر،
والفرق بينه وبين الاستفاضة من ثلاثة أوجه.
أحدها : ما ذكرناه من اختلافهما في الابتداء واتفاقهما في الانتهاء.
الثاني : أن خبر الاستفاضة لا تراعى فيه عدالة المخبر، وفي المتواتر يراعى ذلك.
والثالث : أن الاستفاضة تنتشر من غير قصد له، والمتواتر ما انتشر عن قصد لروايته، ويستويان في انتفاء الشك ووقوع العلم بهما وليس العدد فيهما محصورا وإنما الشرط انتفاء التواطؤ على الكذب من المخبرين.
قالا: والمستفيض من أخبار السنة مثل عدد الركعات، والتواتر منها مثل وجوب الزكوات. هكذا قالا، وهو غريب، لكن قولهما في الاستفاضة موافق لما اختاراه من أن الشهادة بالاستفاضة من طرقها أن يكون قد سمع ذلك من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب، وهو اختيار ابن الصباغ والغزالي والمتأخرين. قال الرافعي وهو: أشبه بكلام الشافعي. والذي اختاره الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق، وأبو حاتم القزويني، أن أقل ما ثبتت به الاستفاضة سماعه من اثنين، وإليه ميل إمام الحرمين، وذكر الرافعي في موضع آخر عن ابن كج، ونقل وجهين: في أنه هل يشترط أن يقع في قلب السامع صدق المخبر؟ قال: ويشبه أن يكون هذا غير الخلاف المذكور في أنه هل يعتبر خبر عدد يؤمن فيهم التواطؤ.

(3/313)


مسألة : إفادة المستفيض العلم
...
[إفادة المستفيض العلم]
والمستفيض على القول بالواسطة يفيد العلم في قول الأستاذين أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي منصور التميمي، وابن فورك، ومثله أبو منصور في كتابه المعروف بالأصول الخمسة عشر": بالأخبار الواردة في المسح على الخف، وأخبار الرؤية والحوض، والشفاعة وعذاب القبر، ومثله ابن برهان بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" ، وحديث: "لا تنكح المرأة على عمتها" ، وقال: الصحيح أنه يفيد ظنا قويا

(3/313)


متأخرا عن العمل، مقاربا لليقين.
وسبقه إليه إمام الحرمين، وضعف مقالة الأستاذ بأن العرف وإطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق قطعا، بل قصاراه غلبة الظن، وقال الإبياري: كأن الأستاذ أراد أن النظر في أحوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك، وقد مال إليه الغزالي، ولا وجه له. نعم، هو بغلبة الظن لا العلم. وإذا قلنا: إنه يفيد العلم فهو نظري لا ضروري في قول الأستاذين.

(3/314)


القسم الثاني : فيما يقطع بكذبه
وهو أقسام:
أحدها : الخبر المعلوم خلافه ، إما بالضرورة كالإخبار باجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، أو بالاستدلال كإخبار الفيلسوف بقدم العالم.
الثاني : الخبر الذي لو كان صحيحا لتوفرت الدواعي على نقله متواترا ، إما لكونه من أصول الشريعة، وإما لكونه أمرا غريبا، كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة. ويتفرع على هذا الأصل مسائل:
منها : بطلان النص الذي تزعم الروافض أنه دل على إمامة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعدم تواتره دليل على عدم صحته. قال: إمام الحرمين: ولو كان حقا لما خفي على أهل بيعة الثقيفة، ولتحدثت به المرأة على مغزلها ولا بد أن يخالف أو يوافق.
وبهذا المسلك أيضا تبين بطلان قول من يقول: إن القرآن قد عورض، فإن ذلك لو جرى لما خفي، والنص الذي تزعم العيسوية أن في التوراة أن موسى عليه السلام آخر مبعوث، ومستند هذا الحكم الرجوع إلى العادة واقتضائها الاشتهار في ذلك، والشيعة تخالف في ذلك، ويقولون: يجوز أن لا يشتهر لخوف أو فتنة، وهو باطل لما يعلم بالعادة في مثله. وليس من هذا ما قدح به الروافض علينا، مثل قولهم: إنه عليه السلام حج مرة واحدة، واختلف الناس في نفس حجته اختلافا لم يتحصل المختلفون فيه على يقين، وكذا الاختلاف في فتح مكة. هل كان صلحا أو عنوة؟ وكذا الإقامة في طول عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يختلفون في تثنيتها وإفراده، مع أن ذلك مما تتوفر فيه الدواعي على نقله.
قلنا: أمر القران والإفراد والتمتع واضح؛ لأنه لما تقرر عند الكل جواز الكل لم يعتنوا بالتفتيش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقن الخلق إضافة الحج، فناقل الإفراد سمعه يلقن غيره ذلك، وناقل التمتع كذلك.

(3/315)


وكذلك فتح مكة، نقل أنه على هيئة العنوة والقهر، وصح أنه لم يأخذ مالا، وتواتر ذلك. وإنما الخلاف في أحكام جزئية كمصالحة جرت على الأراضي وغيرها مما يتعلق بها منع بيع دور مكة أو تجويزه. قال القاضي أبو بكر: وصورة دخوله عليه السلام متسلحا بالألوية والرايات وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان، ومن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة غير مختلف فيه، وإنما استدل بعض الفقهاء على أنه كان صلحا بأنه ودى قوما قتلهم خالد، ونهيه عن ذلك، وغير هذا مما يجوز فيه التأويل.
وأما الإقامة فتثنيتها وإفرادها ليس من عظائم العزائم، ولولا اشتهارها بين أصحاب المذاهب، لم تعلم العامة تفصيلها، فإنها لا تهمهم، والعصور تناسخت، وتعلقت الإقامة بالبدل، وشعائر الملوك، ولا كذلك أمر الإمامة، فإنها من مهمات الدين وتتعلق بعزائم الخطوب، ويستحيل تقدير دثورها على قرب العهد بالرسول.
وأما انشقاق القمر فمنهم من أنكره؛ لأنه لم يتواتر، وهو لا تتوفر الدواعي على نقله، ونقل ذلك عن الحليمي. هكذا حكاه عنه إمام الحرمين1 وابن القشيري والغزالي، وقال القاضي أبو بكر: إنما لم يتواتر؛ لأنه آية ليلية، تكون والناس نيام غافلون، وإنما يرى ذلك من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وصرف همته إلى النظر فيه، وإنما انشق منه شعبة في مثل طرف القمر، ثم رجع صحيحا، وكم من انقضاض ورياح تحدث بالليل، ولا يشعر بها أحد، فلهذا لم ينقل ظاهرا، وإنما يستدل أكثر الناس على انشقاقه بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] وأنه لو أراد الإخبار عن اقتراب انشقاقه، لوجب أن يقول: وانشقاق القمر، ولوجب أن يعرفهم الرسول أن من الآيات المستقبلة انشقاقه. ا هـ. والحق أنه متواتر وقد رواه خلق من الصحابة، وعنهم خلق كما أوضحته في "تخريج أحاديث المختصر".
ومنها: أن القراءات الشاذة لا يجوز إثباتها في المصحف 2؛ لأن الاهتمام به من الصحابة الذين بذلوا أرواحهم في إحياء معالم الدين يمنع تقدر درسه، وارتباط مسائله بلا حاجة. فإن قيل: فلم اختلفوا في البسملة أنها من القرآن أم لا؟ قيل: لأنه لم يجز دروس رسمها ونظمها، فلم يكن؛ لنقل كونها من السور كبير أثر في الدين بعد الاهتمام به، ولهذا اختلفت معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمنها ما نقل متواترا، ومنها ما نقل آحادا مع أنها أعاجيب خارقة للعادة، وكذا إذا كثرت
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/592.
2 انظر مختصر ابن الحاجب 2/21.

(3/316)


المعجزات، وكثرت فيها عسرتهم مثل تشوقهم إلى نقل آحادها، وكذلك اختلفت الصحابة في القراءات الشاذة، ولم يهتم عثمان بجمع الناس على بعض القراءات، وحرص ابن مسعود على ذلك.
فإن قيل: يجري ذلك في القرآن؟ قلنا: لما كان القرآن ركن الدين استوت الأمة في الاعتناء به، فلم نجز أن ينقل بعضه متواترا وبعضه آحادا مع استواء الجميع في توفر الدواعي على نقله، بخلاف باقي المعجزات، فإنهم اعتنوا بنقل ما يبقى رسمه أبد الدهر، وقد صنف القاضي أبو بكر في هذا النوع كتاب الانتصار "، وما أعجبه من كتاب، فقد أزال به الحائك عن صدور المرتابين.
ومنها : لو غص المجلس بجمع كثير، ونقل كلهم عن صاحب المجلس حديثا، وانفرد واحد منهم، وهو ثقة بنقل زيادة، فذهب بعضهم إلى أنها ترد، وإلا لنقلها الباقون، وهو بعيد، فإن انفراد بعض النقلة بمزيد حفظ لا ينكر، والقرائح والفطن تختلف، وليست الروايات مما تتكرر على الألسنة، حتى لا يشذ شيء منها، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى، وبنى بعض الحنفية على هذا الأصل رد أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى كمس الذكر، والجهر بالبسملة، وستأتي إن شاء الله تعالى.
قال القاضي في "التقريب": وإنما قبلت من الواحد؛ لأنه لم يقع الإخبار بها بحضرة من يجب توفر دواعيهم على النقل والإظهار لذلك، وإنما كان يلقيه إلى الآحاد.
الثالث : ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار ثم فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة ، ذكره الإمام الرازي وغيره، وغايته الظن لا القطع، واحترز بقوله: "بعد استقرار الأخبار" عما قبل ذلك في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم حيث كانت الأخبار منتشرة، ولم تعتن الرواة بتدوينها. قال ابن دقيق العيد: وفيما ذكروه نظر عندي؛ لأنهم إن أرادوا جميع الدفاتر وجميع الرواة، فالإحاطة بذلك متعذرة مع انتشار أقطار الإسلام، وإن أرادوا أكثر من الدفاتر والرواة فهذا لا يفيد إلا الظن العرفي، ولا يفيد القطع.
الرابع: خبر مدعي الرسالة من غير معجزة ، نقله إمام الحرمين ثم قال: وعندي فيه تفصيل، فأقول: إن زعم أن الخلق كلفوا متابعته وتصديقه من غير آية فهو كذب، فإن قال: ما أكلف الخلق اتباعي، ولكن أوحي إلي، فلا يقطع بكذبه. ا هـ.
وصورة المسألة فيما قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما بعدها فنقطع بكذبه بكل حال؛ لقيام الدليل القاطع على أنه لا نبي بعده.

(3/317)


الخامس : كل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل ، إما لمعارضته للدليل العقلي أو القطعي النقلي، وهو المتواتر عن صاحب الشرع - ممتنع صدوره عنه قطعا، كأخبار روتها الزنادقة تخالف القطع قصدا لشين الدين، وقد نقل عن بعض من ينافر أهل الحديث، كحديث: عرق الخيل.

(3/318)


[أسباب الوضع]
وسبب الوضع إما نسيان الراوي لطول عهده بالخبر المسموع، وإما غلطه بأن أراد النطق بلفظ فسبق؛ لسانه إلى سواه، أو وضع لفظا مكان آخر ظانا أنه يؤدي معناه، وإما افتراء الزنادقة وغيرهم من أعداء الدين الواضعين أحاديث تخالف العقول تنفيرا عن الشريعة المطهرة وغير ذلك.
السادس: بعض المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد لقوله صلى الله عليه وسلم: "سيكذب علي" فإن صح هذا الحديث لزم وقوع الكذب ضرورة، وإن لم يصح مع كونه روي عنه فقد حصل الكذب فيما روي عنه ضرورة.

(3/318)


[أخبار الآحاد]
القسم الثالث ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه وهو إما أنه يترجح احتمالات صدقه كخبر العدل أو كذبه كخبر الفاسق، أو يتساوى الأمران كخبر المجهول، وهذا الضرب لا يدخل إلا في الجائز الممكن وقوعه وعدمه، والكلام إنما هو في الأول؛ لأنه الذي يجب العمل به1 وليس المراد به ما يرويه الواحد فقط، وإن كان موضوع خبر الواحد في اللغة يقتضي وحده المخبر الذي ينافيه التثنية والجمع، لكن وقع الاصطلاح به على كل ما لا يفيد القطع، وإن كان المخبر به جمعا إذا نقصوا عن حد التواتر.
ومنهم من قال: ما لم ينته ناقله إلى حد الاستفاضة والشهرة، وهو ظاهر كلام ابن برهان. قال الهندي: وهو ضعيف على رأي أصحابنا، وإنما يستقيم على رأي الحنفية؛ لأنهم يفردون له أحكاما أصولية قريبا من أحكام الخبر المتواتر، أما أصحابنا فلا، وهذا الذي قاله الهندي بناه على أن الاستفاضة من جملة خبر الواحد، وقد سبق أن الأمر ليس كذلك.
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/647، 649.

(3/318)


مسألة [أقسام خبر الواحد]
قسم الأقدمون من أصحابنا، منهم القفال الشاشي في كتابه، والماوردي، وابن السمعاني، خبر الواحد إلى أقسام:
أحدها : ما يحتج به فيه إجماعا كالشهادات والمعاملات . قال القفال: ولا خلاف في قبوله، لقوله تعالى: {إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] قال الماوردي ومن بعده: ولا يراعى فيها عدالة المخبر، وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره، فيقبل من كل بر وفاجر، ومسلم وكافر، وحر وعبد، فإذا قال الواحد منهم: هذه هدية فلان إليك، أو هذه الجارية وهبها فلان إليك، أو كنت أمرته بشرائها فاشتراها، كلف المخبر قبول قوله إذا وقع في نفسه صدقه، ويحل له استمتاع بالجارية والتصرف في الهدية، وكذا الإذن في دخول الدار، وهذا شيء متعارف في الأعصار من غير نكير، ويلتحق به خبر الصبي في ذلك على الصحيح.
وأما خبر الشهادات فيعتبر فيه شرطان بالإجماع: العدالة، والعدد. قال القفال: وقد ورد الكتاب والإجماع بقبولها في الجملة، وإن اختلف في شرط بعضها الأكثرون منا ومن المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى نفيه، وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية.
وذهب الأقلون من الفريقين كابن سريج والصيرفي، والقفال منا، وأبي الحسين البصري من المعتزلة، إلى أن الدليل العقلي دل عليه أيضا؛ لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر، ومن بعدها أعظم الضرر إذ لا يمكنهم التلافي بأجمعهم. ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل، والأول هو الصحيح.
وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة، وما لا يسقط بها، فمنعه في الأول وجوزه في الثاني. حكاه في "الأحكام"، وقد بسط الشافعي كلامه في هذا الفصل في كتاب "الرسالة".
وقد احتجوا على وجوب العمل بخبر الواحد بقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] وبقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وهذا لا يفيد إلا الظن، والاستدلال بالثانية أضعف من الأولى.
قال ابن دقيق العيد: والحق عندنا في الدليل بعد اعتقاد أن المسألة علمية أنا

(3/319)


قاطعون بعمل السلف والأمة بخبر الواحد، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد منه ما يقتضي العمل بخبر الواحد، وهذا القطع حصل لنا من تتبع الشريعة، وبلوغ جزيئات لا يمكن حصرها، ومن تتبع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعا. ا هـ.
ولنا على وجوب العمل به ثلاثة مسالك.
الأول : ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنفاذ ولاته ورسله آحادا إلى أطراف البلاد النائية؛ ليعلموا الناس الدين، وليوقفوهم على أحكام الشريعة، ومن طالع كتب السير ارتوى بذلك.
والثاني : ما علم بالتواتر من عمل الصحابة ورجوعهم إليه عندما يقع لهم من الحوادث.
والثالث : أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا؛ لأن العدل إذا أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بكذا، حصل ظن أنه وجد الأمر، وأنا لو تركناه لصرنا إلى العذاب، وبهذا الدليل استدل ابن سريج ومتابعوه على وجوب العمل به عقلا.
ونقول: سبب الاضطرار إلى العمل به، أما في الشهادات والفتوى والأمور الدنيوية كالإذن في دخول الدار ونحوها فظاهر، فإنه يشق على الناس الرجوع في ذلك ونحوه إلى الأخبار المتواترة ووقوفهم عندها، وقد وقع الاتفاق على ذلك بين جميع العلماء.
وأما في الأحكام الشرعية فلأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ليعلمها الناس، وهو صلى الله عليه وسلم مبعوث لجميع الناس، مضطر إلى تبليغ الناس كلهم تلك الأحكام، وليس يمكنه ذلك بمشافهة الجميع، فلا بد من بعث الرسل إليهم بالتبليغ، وليس عليه أن يسير إلى كل بقعة عددا متواترا، فلزم بالضرورة أن التبليغ يكون بأخبار الآحاد.
ويلزم من ذلك وجوب العمل بها، وإلا لم يلزم المبعوث إليهم العمل بما يقوله الرسل، فبطل فائدتهم. هذا إذا كان أكثر عنه مما يكتفى فيه بالظن.
أما ما يطلب فيه اليقين كالعلم بالله وصفاته، فإن ذلك لا يجوز العمل فيه بهذه الأخبار؛ لأنها لا تفيد العلم، والظن في ذلك غير جائز. فكيف يمكن تبليغ هذه إلى الناس كلهم؟

(3/320)


فنقول: إن ذلك يمكن بأن يرسل فيها الآحاد أيضا، ولكنه يشير في كلامه إلى البرهان العقلي مما يخبرهم به ممن يكون له فطانة، فيتنبه بذلك الخبر إلى ذلك البرهان بطريق العقل، ومن لا فطانة له فقد يتعلم على الطول، وقد يسافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستقصي به ذهنه شرعا.
فإن قيل: فهلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في جميع الأحكام الشرعية، فكانت كلها علمية؟ قلنا: هذا غير ممكن. أما إذا قلنا: إن الأحكام لا تعرف إلا بالشرع فظاهر، وإن قلنا بالعقل، فتكليف الناس الوقوف على براهين جميع الأحكام الشرعية مما يشق جدا، ويشغلهم عن الأعمال التي لا بد منها في عمارة البلد، فلذلك اكتفى الشارع في هذه الأحكام بالظن. فكفت فيها أخبار الآحاد، وإشارات البراهين العقلية في الأحكام التي لا بد فيها من اليقين، وهي التي يتوقف عليها الإيمان فيتم بذلك تبليغه الناس كلهم جميع الأحكام.
تنبيهات
الأول: قولهم: إنه يوجب العمل . قال إمام الحرمين: في العبارة تساهل؛ لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه، وهو لا يثمر علما، وإنما وجب العمل عند سماعه بدليل آخر، فالتحقيق أنه يجب العمل عنده لا به، وهذا سهل.
الثاني : أن الشافعي صنف كتابا في إثبات العمل بخبر الواحد، وذكر في أوله الحديث المشهور: "رحم الله امرأ سمع مقالتي" 1 فاعترض أبو داود، وقال: أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، والشيء لا يثبت بنفسه، كمن ادعى شيئا، فقيل له: من يشهد لك؟ فقال: أنا أشهد لنفسي. قال الأصحاب: هذا الذي ذكره باطل فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد، وإنما ذكر نحوا من ثلاثمائة حديث، وذكر وجوه الاستدلال فيها، فالمجموع هو الدال عليه، ثم قال الشافعي بعد ذلك: ومن الذي ينكر خبر الواحد، والحكام آحاد، والمفتون آحاد، والشهود آحاد.
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي 5/34 كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، حديث 2658 ورواه ابن ماجة 1/85 حديث 232 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه فرب مبلغ أحفظ من سامع". وهو حديث صحيح.

(3/321)


مسألة [إثبات أسماء الله بأخبار الآحاد]
اختلف في أسماء الله تعالى، هل تثبت بخبر الواحد، والصحيح كما قاله ابن القشيري في "المرشد"، والآمدي في "الإحكام": الثبوت كما في سائر الأحكام الشرعية؛ لكون التجويز والمنع من الأحكام الشرعية، وقيل: لا يثبت، بل لا بد من القاطع كأصل الصفات.

(3/322)


مسألة [إثبات العقيدة بخبر الآحاد]
سبق منع بعض المتكلمين من التمسك بأخبار الآحاد فيما طريقه القطع من العقائد؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والعقيدة قطعية، والحق الجواز، والاحتجاج إنما هو بالمجموع منها، وربما بلغ مبلغ القطع، ولهذا أثبتنا المعجزات المروية بالآحاد.
وقال الإمام في "المطلب": إلا أن هذا الطريق ينتقض بأخبار التشبيه، فإن للمشبهة أن يقولوا: إن مجموعها بلغ مبلغ التواتر. فإن منعناهم عن ذلك كان لخصومنا في هذه المسألة منعنا عنه، وأيضا فالدلائل العقلية إذا صحت وساعدت ألفاظ الأخبار تأكد دليل العقل وقوي اليقين.

(3/322)


مسألة [إفادة خبر الواحد العلم]
إذا ثبت أنه يجب العمل به، فهل يفيد العلم؟ اختلفوا فيه، فذهب أهل الظاهر إلى أنه يفيده. وحكاه ابن حزم في كتاب "الإحكام" عن داود والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم. قال: وبه نقول. قال: وحكاه ابن خويز منداد عن مالك بن أنس1. ا هـ.
وفيما حكاه عن الحارث نظر، فإني رأيت كلامه في كتاب فهم السنن "، نقل عن أكثر أهل الحديث، وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم، ثم قال: وقال أقلهم: يفيد
ـــــــ
1 انظر المكعتمد 2/566، 570، الإحكام لابن حزم 1/170، 125، الإحكام للآمدي 2/32-37، مختصر ابن الحاجب 2/55، المسودة ص: 240

(3/322)