البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل : في شروط الفعل بخبر الآحاد
مدخل
...
فصل : في شرط الفعل بخبر الآحاد.
منها: ما هو في المخبر، وهو الراوي، ومنها: ما هو في المخبر عنه، وهو مدلول الخبر. ومنها: ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ.
[الشروط التي يجب توفرها في المخبر]
أما الأول فله شروط. الأول: التكليف ، فلا تقبل رواية المجنون والصبي مميزا كان أو لا؛ لعدم الوازع عن الكذب، واعتمد القاضي في رد رواية الصبي الإجماع1، وقال المعلق عنه: وقد كان الإمام يحكي وجها في صحة رواية الصبي، فلعله أسقطه. ا هـ.
والخلاف ثابت مشهور، حكاه ابن القشيري معترضا به على القاضي، بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة، كما حكاه القاضي الحسين في تعليقه. ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره، بل قال الفوراني في "الإبانة" في كتاب الصيام: الأصح قبول روايته،
وحكى إلكيا الطبري خبرا في مستند رد أحاديث الصبي، فقيل هو مقتبس من رواية الفاسق؛ لأن ملابسة الفسق تهون عليه توقي الكذب، والصبي أولى بذلك، فإن الفاسق لا يخلو عن خيفة يستوحشها، والصبي يعلم أنه غير آثم، وقيل: بل ذلك متلقى من الإجماع. قال: وهذا أسد فإن الصحابة لم يراجعوا صبيا قط، ولم يستخبروه، وقد راجعوا النساء وراء الخدور، وكان في الصبيان من يلج على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلع على أحوال له بحيث لو نقلها لم يخل الأخذ بقوله من فائدة شرعية، ثم لم يراجعوا قط. ا هـ. وجعل الغزالي في "المنخول" محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه، قال: أما غيره فلا يقبل قطعا، كالبالغ الفاسق2، وحكاه صاحب "الواضح" قولا ثالثا في المسألة، وهو التفصيل بين المراهق ومن دونه والقائلون بعدم القبول اختلفوا، هل ذلك
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/613.
2 انظر المنخول ص: 257.

(3/327)


مظنون أو مقطوع به؟ والأكثرون على أنه مظنون.
هذا كله إذا أدى في حال صباه، فإن تحمل في صباه، ثم أداه بعد بلوغه فقولان في شرح "اللمع" و مختصر "التقريب"، وأصحهما وعليه الجمهور أنه يقبل؛ للإجماع على قبول رواية ابن عباس، وابن الزبير، ومعاذ بن بشير من غير تفرقة بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده، وقد روى محمود بن الربيع حديث المجة التي مجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين1، واعتمد العلماء روايته ذلك بعد بلوغه، وجعلوه أصلا في سماع الصغير، والإجماع على إحضار الصبيان مجالس الروايات.
قال ابن دقيق العيد: ولو قيل: هذا لقبول الأمة روايات من سبق كان عندي أولى؛ لتوقف الأول على أن يعلم أن الأصاغر رووا للأكابر ما لم يعلموه إلا من جهتهم، فقبلوه، وثبوت مثل هذا عن كل الصحابة قد يتعذر، ولكن الأمة بعدهم قد قبلوا رواية هؤلاء. قال: والتمثيل بابن عباس ونحوه ذكره الأصوليون، وفي مطابقته لحال بعضهم نظر، قال ابن القشيري: وإنما يصح من الصبي تحمل الرواية، ثم أداؤها بعد البلوغ إذا كان وقت التحمل مميزا، فأما إذا كان غير مميز ثم بلغ، لم تصح روايته؛ لأن الرواية نقل ما سمعه، ولا يتحقق نقل ما سمعه إلا بعد علمه، وهذا إجماع، ولهذا قلنا: لو سمع المجنون، ثم أفاق لم تسمع روايته.
وقال قوم: لا يصح التحمل إلا من بالغ عاقل، وما سمعه الصبي في حال صباه لا تصح روايته، والصحيح خلافه، وكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر، ثم روى وهو عدل مسلم، قال الماوردي والروياني، وحكاه في "القواطع" عن الأصوليين: المراد بالعقل المعتبر هنا التيقظ، وكثرة التحفظ، ولا يكفي العقل الذي يتعلق به التكليف.
قال ابن السمعاني: فإن كان يفيق يوما، ويجن يوما، فإن أثر جنونه في زمن إفاقته لم يقبل، وإلا قبل.
الثاني : كونه من أهل القبلة، فلا تقبل رواية الكافر كاليهودي والنصراني إجماعا، سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أم لا، وسواء علم أنه عدل في دينه أم لا؛ لأن قبول الرواية منصب شريف، ومكرمة عظيمة، والكافر ليس أهلا لذلك.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير، حديث 77 عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو.

(3/328)


وروى الإمام أحمد في المسند من جهة محمد بن الحنفية، عن عروة بن عمرو الثقفي، سمعت أبا طالب قال: سمعت ابن أخي الأمين يقول: "اشكر ترزق، ولا تكفر فتعذب"1، ورواه الحافظ الصريفيني وقال غريب عجيب رواية أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[حكم ما رواه أهل البدع]
وأما الذي من أهلها وهم المبتدعة، فإن كفر ببدعته كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم، فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب إما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم قطعا، كذا قالوه. وقيده بعضهم بما إذا اعتقدوا جوازه مطلقا، فإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة، أو الترغيب في الطاعة، أو الترهيب عن المعصية ردت روايتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط، وإن اعتقدوا حرمة الكذب، فقولان. قال الأكثرون: لا تقبل، ومنهم القاضيان أبو بكر، وعبد الجبار، والغزالي، والآمدي قياسا على الفاسق، بل هو أولى، وقال أبو الحسين البصري: يقبل، وهو رأي الإمام وأتباعه؛ لأن اعتقادهم حرمة الكذب يمنعهم من الإقدام عليه، فيحصل صدقه، فيجب العمل به وهذا التفصيل في الكافر بالبدعة ذكره في "المحصول"2.
أطلق القاضي عبد الوهاب في "الملخص"، وابن برهان في، "الأوسط" عدم قبول رواياتهم مطلقا، وقال: لا خلاف فيه، وجرى عليه ابن الصلاح وغيره من المحدثين.
وأما المبتدع إذا لم يكفر ببدعته ، فإن كان ممن يرى الكذب والتدين به لم يقبل بالاتفاق، وإلا فاختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: رد روايته مطلقا ؛ لأنه فاسق ببدعته، وإن كان متأولا يرد كالفاسق بغير التأويل، كما لا يقبل الكافر مطلقا، وبه قال القاضي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق في "اللمع". قال الخطيب البغدادي: ويروى عن مالك، واستبعده ابن الصلاح لأن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة.
وقال ابن دقيق العيد: لعل هذا القول مبني على القول بتكفيرهم، ورواية
ـــــــ
1 لم أجده في المسند.
2 انظر المعتمد 2/618، زالإحكام لابن حزم 1/133، اللمع ص: 42، الإحكام للآمدي 2/83، مختصر ابن الحاجب 2/62، المسودة ص: 263.

(3/329)


الكافر غير مقبولة، وغاية ما يقال في الفرق: أنه غير عالم بكفره، وذلك ضم جهل إلى كفر، فهو أولى بعدم القبول، وما قاله ممنوع، فإن التفريع على عدم تكفيره بالبدعة، وإنما مأخذ الرد عندهم الفسق، ولم يعذروه بتأويله، وقالوا: هو فاسق بقوله، وفاسق لجهله ببدعته، فتضاعف فسقه.
والثاني : يقبل سواء دعا إلى بدعته أو ل ا، إذا كان ممن لا يستحل الكذب، كما سبق من تصوير المسألة، وهو قضية مذهب الشافعي. قال الحافظ ابن عدي: قلت؛ للربيع: ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه بأنه كان قدريا؟ فقال: كان الشافعي يقول: لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب.
وقال الخطيب: وهذا مذهب الشافعي؛ لقوله: هل هو إلا من الخطابية الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم قال: ويحكى عن ابن أبي ليلى، والثوري، وأبي يوسف القاضي، وقال أبو نصر بن القشيري: إلى هذا ميل الشافعي، وقبل شهادة هؤلاء والخوارج مع استحلالهم الدماء والأموال لتوقيهم الكذب واعتقادهم كفر فاعله، وقال ابن برهان: إنه الصحيح، وقول الشافعي؛ لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية، فإنهم يتدينون بالكذب،
وقال محمد بن الحسن: إذا كنا نقبل رواية أهل العدل، وهم يعتقدون أن من كذب فسق، فلأن نقبل رواية أهل الأهواء، وهم يعتقدون أن من كذب كفر بطريق الأولى. قال: وتحقيق ما ذكرناه أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كتبهم عن أهل الأهواء حتى قيل: لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب. ا هـ.
وقد اعترض الشيخ الهندي في النهاية على كون الخطابية من هذا القبيل، بأن المحكي في كتب المقالات ما يوجب تكفيرهم قطعا. قال: فإن صح ذلك عنهم لم يكونوا من قبيل ما نحن فيه، بل من قبيل الكفرة من أهل القبلة، فيكون الاستثناء في كلام الشافعي منقطعا. وقال ابن دقيق العيد: هذا هو المذهب الحق؛ لأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر عن صاحب الشرع، وإذا لم نكفره وانضم إليه التقوى المانعة من الإقدام على ما يعتقد تحريمه فالموجب للقبول موجود، وهو الإسلام مع العدالة الموجبة لظن الصدق، والمانع المتخيل لا يعارض ذلك الموجب، بل قد يقويه كما في الخوارج الذين يكفرون بالذنب، والوعيدية الذين يرون الخلود بالذنب، وإذا وجد المقتضى

(3/330)


وزال المانع، وجب القبول.
وأطلق الماوردي والروياني القول بقبول رواياتهم، وهو محمول على هذا التفصيل، وكذلك قال إلكيا الطبري: الفساق بسبب العقيدة كالخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع اختلف في قبول روايتهم، والصحيح الذي عليه الجمهور أن رواياتهم مقبولة، فإن العقائد التي تحلوا بها لا تهون عليهم افتعال الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل الثقة، وهو في حق المتأول والمحق سواء. نعم الشافعي لا يقبل شهادة الكافر على الكافر مع أنه عدل في دينه من حيث إن الشهادة تستدعي رتبة ووقارا، ولذلك لم يكن العبد من أهلها بخلاف الرواية، فإنها إثبات الشرع على نفسه وغيره، فاستدعت مزيد منصب.
والثالث: إن كان داعيا إلى بدعته لم يقبل، وإلا قبل ، وبه جزم سليم في "التقريب"، وحكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن مالك؛ لقوله: لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه. قال القاضي عياض: وهذا يحتمل أن يريد أنه إذا لم يدع يقبل، ويحتمل أنه أراد لا يقبل مطلقا، ويكون قوله: يدعو لبيان سبب تهمته، أي لا تأخذ عن مبتدع، فإنه ممن يدعو إلى هواه، وهذا هو المعروف من مذهبه. ا هـ.
قال الخطيب: وهو مذهب أحمد، ونسبه ابن الصلاح؛ للأكثرين، قال: وهو أعدل المذاهب، وأولاها، وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا، كعمران بن حطان، وداود بن الحصين، وغيرهما.
وقد نقل أبو حاتم بن حبان في كتاب "الثقات" الإجماع على الأمرين، فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي: فليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف في أن الصدوق التقي إذا كان فيه بدعة، ولم يكن يدعو إليها، أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إلى بدعته سقط. الاحتجاج بأخباره. ا هـ.
وقال ابن دقيق العيد: جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه، وليس كما قاله. نعم، في هذا المذهب وجه أنه إذا روى المبتدع الداعية ما يقوي به حجته على خصمه، وكذلك إذا لم يكن داعية إلا أنه أضعف من الأول.
قال: نعم، الذي أختاره أن الداعية إذا روى، فإما أن يروي ما ينفرد به عن غيره، ولا يوجد إلا عنده أو ما يوجد عند غيره، فإن كان الأول روي عنه؛ لأن الرواية عنه هاهنا في مرتبة الضرورة، وإن كان يوجد عند غيره لم يرو عنه، لا؛ لأن روايته

(3/331)


باطلة، بل لإهانته وعدم تعظيمه. ا هـ، وهو تفصيل غريب. وما حكاه عن بعض المتأخرين كأنه يريد به ابن القطان المحدث، فإنه قال في كتاب "الوهم والإيهام": الخلاف في غير الداعية، أما الداعية فهو ساقط عند الجميع، وليس كما قال. وفعل أبو علي الغساني من المحدثين، فقال: إن ضم إلى بدعته افتعاله الحديث، وتحريف الرواية؛ لنصرة مذهبه لم يقبل، وإلا قبل. وهذا التفصيل لا وقع له، فإن ذلك متروك، ولو لم يكن صاحب بدعة.
تنبيهات.
الأول [المراد بالداعية إلى البدعة]
الأول: يتبادر أن المراد بالداعية الحامل على بدعته، لكن قال أبو الوليد الباجي: الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهرها، ويحقق عليها، فأما الداعي بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه.
الثاني [متى تقبل رواية الكافر]
إنما لا تقبل رواية الكافر إذا روى في حال كفره، أما لو تحمل وهو كافر ثم أدى في الإسلام قبلت على الصحيح. قاله القاضي في "التقريب"، وجزم به الماوردي، والروياني، قالا: وكذلك لو روى وهو فاسق، ثم أدى وقد اعتدل، وفي الصحيح عن جبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور1، ولما سمع هذا كان كافرا عقب أسره في غزوة بدر، وصرح بذلك في الحديث، ثم أنه رواه بعدما أسلم، وأجمعوا على قبوله.
الشرط الثالث [العدالة في الدين]
فالفاسق لا تقبل روايته كما لا يوثق بشهادته، والعدل هو العادل توسعا، مأخوذ من الاعتدال، وفي الاصطلاح: من تقبل شهادته ويحكم بها. والعدالة في الأصل هي الاستقامة، يقال: طريق عدل، لطريق الجادة، وضدها الفسق، وهو الخروج عن الحد الذي جعل له، والمقصود أن لا تقبل روايته من حيث إن هواه غالب على تقواه، فلا تصح الثقة بقوله، ثم ضابط الشرع في ذلك معتبر، فلو لاح بالمخايل صدقه لم يجز قبول روايته، فإنه يخالف ضابط الشرع، وليس لنا أن نعمل بكل ظن،
ـــــــ
1 رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في المغرب، حديث 765. ورواه مسلم في كتاب الصلاة، حديث 463.

(3/332)


بل ظن له أصل شرعا. هذا إذا رجع الفسق إلى الديانة فلا خلاف فيه كما قاله ابن برهان وغيره، فإن رجح إلى العقيدة كأهل الأهواء والبدع فقد سبق حكمه. قال القاضي: ولا تقبل ممن اتفق على فسقه، وإن كان متأولا.

(3/333)


[تعريف العدالة]
واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق، ولكن اختلف في معناها، فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم معرفة الفسق، وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة، والرذائل المباحة كالبول في الطريق، والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة، لا حاجة؛ للإصرار على الصغيرة؛ لأنها تصير كبيرة.
قال ابن القشيري: والذي صح عن الشافعي أنه قال: ليس من الناس من يمحض الطاعة، فلا يمزجها بمعصية، ولا في المسلمين من يمحض المعصية، فلا يمزجها بالطاعة. فلا سبيل إلى رد الكل، ولا إلى قبول الكل، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها. وهو ظاهر في جري الرواية والشهادة مجرى واحدا، وعليه جرى القاضي.
وقال أبو بكر الصيرفي: من قارف كبيرة ردت شهادته، ومن اقترف صغيرة لم ترد شهادته، ولا روايته. قال: والمواظبة على الصغيرة كمقارفة الكبيرة، وقال: لو ثبت كذب الراوي ردت روايته إذا تعمد، وإن كان لا يعد ذلك الكذب من الكبائر؛ لأنه قادح في نفس المقصود بالرواية. وقال القاضي ما معناه: المعني في الرواية الثقة، فكل ما لا يخرم الثقة لا يقدح في الرواية، وإنما القادح ما يخرم الثقة. ا هـ.
وقال الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام": المراد بالعدل من كان مطيعا؛ لله في نفسه، ولم يكثر من المعاصي إلا هفوات وزلات، إذ لا يعرى واحد من معصية، فكل من أتى كبيرة فاسق، أو صغيرة فليس بفاسق، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] ومن تتابعت منه الصغيرة وكثرت وقف خبره، وكذا من جهل أمره.
قال: وما ذكرت من متابعة الأفعال للعاصي أنها علم الإصرار؛ لعلم الظاهر، كالشهادة الظاهرة، وعلى أني على حق النظر لا أجعل المقيم على الصغيرة المعفو عنها، مرتكبا للكبيرة إلا أن يكون مقيما على المعصية المخالفة أمر الله دائما. قال: فكل من

(3/333)


ظهرت عدالته فمقبول حتى يعلم الجرح، وليس لذلك غاية يحاط بها وأنه عدل في الحقيقة، ولا يكون موقوفا حتى يعلم الجرح. ا هـ.
وقال ابن السمعاني في "القواطع": لا بد في العدل من أربع شرائط:
1 - المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية.
2- وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض.
3 - وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر، ويكسب الندم.
4 - وأن لا يعتقد من المذاهب ما ترده أصول الشرع.
وقال إمام الحرمين: الثقة من المعتمد عليها1، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل، وهذا مفهوم من عادة الأصوليين، وهذا ظاهر نص الشافعي في، "الرسالة"2 فإنه قال: وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه، فإن كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قبل وإن كان فيه تقصير من بعض أمره؛ لأنه لا يعرى أحد رأيناه من الذنوب، فإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، والتمييز بين حسنه وقبحه. ا هـ.
واعلم أن العدالة في الرواية وإن كانت عندنا شرطا بلا خلاف، لكن اختلف أصحابنا هل ينتهي إلى العدالة المشترطة في الشهادة أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما ابن عبدان في شرائط الأحكام.
أحدهما : أن تعتبر العدالة ممن يقبله الحاكم في الدماء والفروج والأموال، أو زكاه مزكيان.
والثاني : أنه لا يعتبر في ناقل الخبر، وعدالته ما يعتبر في الدماء والفروج والأموال، بل إذا كان ظاهره الدين والصدق قبل خبره، هذا كلامه.
قلت: وظاهر نص الشافعي على الأول، فإنه قال في اختلاف الحديث في جواب سؤال أورده: فلا يجوز أن يترك شهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر. ا هـ. وهو ظاهر في أن ظاهر العدالة من يحكم الحاكم بشهادته.
ـــــــ
1 انظر المعتمد 2/616، اللمع ص: 42، البرهان 1/619 الإحكام للآمدي 2/77، مختصر ابن الحاجب 2/63، المسودة ص: 358.
2 انظر الرسالة ص: 493.

(3/334)


ثم اختلفوا في مواطن:
أحدها: أن الذنوب إلى كم تنقسم؟ على ثلاثة أوجه:
أحدها: إلى قسمين صغائر وكبائر، وهو المشهور بين الفقهاء، ويساعدهم إطلاقات الكتاب والسنة، لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فجعل الفسوق وهو الكبائر تلي رتبة الكفر، وجعل الصغائر تلي رتبة الكبيرة، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بعض الذنوب باسم الكبائر.
الثاني: هو قسم واحد ، وهو الكبائر وهو طريقة جمع من الأصوليين، منهم الأستاذ أبو إسحاق، ونفي الصغائر، وجرى عليه إمام الحرمين في، "الإرشاد"، وابن فورك في كتابه "مشكل القرآن"، فقال: المعاصي عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، وكلها كبائر. قال: ومعنى الآية: إن اجتنبتم كبائر ما نهاكم عنه، وهو الكفر بالله، كفرت عنكم سيئاتكم التي دون الكفر، إن شئت. ثم حكى انقسام الذنوب إلى صغيرة وكبيرة عن المعتزلة وغلطهم، ولعل أصحاب هذا الوجه كرهوا تسمية معصية الله صغيرة؛ إجلالا لله وتعظيما لأمره، مع أنهم وافقوا في الجرح أنه لا يكون بمطلق المعصية.
والثالث: قول الحليمي: إلى ثلاثة أقسام صغيرة، وكبيرة وفاحشة ، فقتل النفس بغير حق كبيرة، فإذا قتل ذا رحم ففاحشة، فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة. وجعل سائر الذنوب هكذا، والظاهر أن الخلاف لفظي، فإن رتبة الكبائر تتفاوت قطعا.

(3/335)