البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

كتاب الإجماع
الفصل الأول : وفية عشرة مباحث
مدخل
...
كتاب الإجماع
وفيه فصول:
الفصل الأول:
وفيه عشرة مباحث :
في النظر في مسماه لغة واصطلاحا، ثم في إمكانه في نفسه، ثم في جواز العلم به، وجواز نقله، ثم في كونه حجة، ثم بماذا ثبتت حجيته، ثم في كونه قطعيا، ثم في استحالة الخطأ فيه، ثم في وجوب العمل به، ثم في استصحابه بعد ثبوته، ثم في كونه من خصائص هذه الأمة، فهذه عشرة مقاصد.

(3/486)


المبحث الأول [في مسماه لغة واصطلاحا]
هو لغة يطلق بمعنيين:
أحدهما : العزم على الشيء والإمضاء، ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أي اعزموا، وقوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" ، ونقض ابن الفارض المعتزلي هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى، والإجماع بمعنى العزيمة وقطع الرواية لا يتعدى بعلى.
قلت: حكى ابن فارس في المقاييس: أجمعت على الأمر، إجماعا وأجمعته. نعم، تعديته بنفسه أفصح.
والثاني : الاتفاق، ومنه أجمع القوم: إذا صاروا ذوي جمع. قال الفارسي: كما يقال: ألبن وأتمر، إذا صار ذا لبن وتمر.
وحكى عبد الوهاب في "الملخص" عن قوم منع كونه بمعنى الإجماع كما ظنه ظانون لتغايرهما، إذ يصح من الواحد أن يقول: أجمعت رأيي على كذا، أي عزمت عليه، ولا يصح الإجماع إلا من اثنين. والصحيح هو الأول. ثم قال الغزالي: هو مشترك بينهما. وقال القاضي: العزم يرجع إلى الاتفاق؛ لأن من اتفق على شيء فقد

(3/486)


عزم عليه، وقال ابن برهان، وابن السمعاني: الأول أشبه باللغة، والثاني: أشبه بالشرع. قالا: وتظهر فائدتهما في أن الإجماع من الواحد هل يصح؟ فعلى المعنى الأول لا يصح إلا من جماعة، وعلى المعنى الثاني يصح الإجماع من الواحد.
وأما في ا لاصطلاح : فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في حادثة على أمر من الأمور في عصر من الأعصار.
فخرج اتفاق العوام، فلا عبرة بوفاقهم ولا خلافهم، ويخرج أيضا اتفاق بعض المجتهدين. وبالإضافة إلى أمة محمد خرج اتفاق الأمم السابقة، وإن قيل بأنه حجة على رأي، لكن الكلام في الإجماع الذي هو حجة.
وقولنا: بعد وفاته، قيد لا بد منه على رأيهم، فإن الإجماع لا ينعقد في زمانه عليه السلام كما سنذكره.
وخرج بالحادثة انعقاد الإجماع على الحكم الثابت بالنص والعمل به، وقولنا: على أمر من الأمور، يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات.
وقولنا: في عصر من الأعصار؛ ليرفع وهم من يتوهم أن المراد بالمجتهدين من يوجد إلى يوم القيامة. وهذا التوهم باطل، فإنه يؤدي إلى عدم تصور الإجماع، والمراد بالعصر منا: من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة، وظهر الكلام فيه. فهو من أهل ذلك العصر، ومن بلغ هذا بعد حدوثها فليس من أهل ذلك العصر.
هكذا ذكره الإمام أبو محمد القاسم الزجاج في كتابه: "البيان عن أصول الفقه" وهو من أصحاب أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا.
واعلم أن أصل هذا التعريف أشار إليه الشافعي في "الرسالة"1 بقوله: وحده في موضع آخر بهذا المعنى، فقال هم الذين لا يجوز عليهم أن يجهلوا حكم الله.
ـــــــ
1 هذا النص موجود في الأم 4/22.

(3/487)


تنبيه [العبدري يرى أن التعريف السابق غير جامع]
قال العبدري: هكذا رسم الأصوليون الإجماع، وفيه نظر، فإنه لفظ مشترك، يقال على ما هو إجماع على العمل يستند الحكم، أي بدليله من الكتاب والسنة، ويقال: ما هو إجماع على استنباط الحكم من الكتاب والسنة بالاجتهاد والقياس، والذي هو إجماع على العمل بمستند الحكم ينقسم إلى إجماع نقل مستنده إلى المجتهدين، وإلى إجماع درس مستنده فلم ينقل إليهم. فهذه ثلاثة معان متباينة، فيحتاج إلى ثلاثة رسوم.

(3/488)


المبحث الثاني في إمكانه:
وقد أنكر قوم إمكان الإجماع مطلقا، وشبهوه بإجماع الناس في ساعة واحدة على مأكول واحد، وهذا استبعاد باطل، والدواعي والمآكل مختلفة قطعا، بخلاف الأحكام، فإن البواعث متفقة على طلبها1.
ومنهم من قال: ما أجمعوا عليه من جهة الحكاية عن النبي فجائز، وأما من جهة الرأي فباطل. حكاه الصيرفي. وقال: واختلف القائلون ببطلانه في علته، فقيل: إمكان الخطأ عليه، وقيل استحالة نقل ذلك عنهم؛ لأنه لا سبيل إليه إلا بلقيا الكل، وتواتر الخبر عنهم. وظاهر كلام أبي الحسين بن القطان أن الخلاف إنما هو في إجماع الخاصة، أما ما أجمع عليه العامة والخاصة، فليس بموضع الخلاف. قلت: ولو عكس هذا لم يبعد.
ـــــــ
1 انظر المسألة في المعتمد 2/458، الإحكام لابن حزم 1/507، اللمع ص: 48، المنخول ص: 303، الإحكام للآمدي 1/198، 200.

(3/488)


[المبحث الثالث] في إمكان الاطلاع عليه
وإذا ثبت أنه ممكن في نفسه، فاختلفوا في إمكان الاطلاع عليه. فمنعه قوم لاتساع خطة الإسلام، وانتشارهم في أقطار الأرض، وتهاون الفطن، وتعذر النقل المتواتر في تفاصيل لا تتوافر الدواعي على نقلها، ولتعذر العلم ببقاء المعنى الأول إلى أن

(3/488)


[المبحث الرابع] في كونه حجة
الرابع : وإذا ثبت إمكان العمل به، فهو حجة شرعية، ولم يخالف فيه غير النظام والإمامية. قال إمام الحرمين: أول من باح برده النظام، ثم تابعه بعض الروافض، أما الإمامية فالمعتبر عندهم قول الإمام دون الأمة. والنظام يسوي بين قول جميع الأمة وبين قول آحادها في جواز الخطأ على الجميع، ولا يرى في الإجماع حجة، وإنما الحجة في مستنده إن ظهر لنا، وإن لم يظهر لم يقدر له دليلا تقوم به الحجة. هكذا حكاه القاضي في التقريب، والقاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق، وإلكيا الطبري، وابن السمعاني، وغيرهم. وتبعهم الرازي، ونقل ابن برهان عنه أنه يحيل الإجماع، وتبعه ابن الحاجب.
وقال بعضهم: الصحيح عن النظام أنه يقول بتصور الإجماع، وأنه حجة، ولكن فسره بكل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد، ويسمى بذلك قول النبي عليه السلام إجماعا، ومنع الحجية عن الإجماع الذي نفسره نحن بما نفسره، وكأنه لما أضمر في نفسه أن الإجماع باصطلاحنا غير حجة، وتواتر عنده لم يخبر بمخالفته، فحسن الكلام وفسره بما ذكرناه. هكذا قال الغزالي وغيره، هذا تحرير النقل عنده، ولأجله قال

(3/490)


الصفي الهندي: النزاع لفظي.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العنوان" نقل عن النظام إنكار حجية الإجماع، ورأيت أبا الحسين الخياط أنكر ذلك في نقضه لكتاب الراوندي، ونسبه إلى الكذب، إلا أن النقل مشهور عن النظام بذلك. ا هـ.
وحكى الجاحظ في كتاب "الفتيا" عن النظام أنه قال: الحكم يعلم بالعقل أو الكتاب أو إجماع النقل. ا هـ. لكن قيل: إنه عنى به التواتر ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي عن أبي عبد الرحمن الشافعي وابن عيسى الوراق أنه إذا أجمع أهل عصر على حكم جاز أن يخالفهم فيه من لم يدخل معهم في الإجماع، ولا يجوز ذلك لمن وافقهم، وذهب جمهور الصحابة والتابعين وأكثر المسلمين إلى أن الإجماع حجة الله - عز وجل - في شريعته مع اختلافهم في شروطه.

(3/491)


المبحث الخامس [ما ثبت به حجية الإجماع] .
الخامس : في أنه ثبتت حجته، وقد اختلف فيه فقيل: دل عليه العقل، والجمهور على أنه السمع، وصححه القاضي، وابن السمعاني وغيرهما. وقال صاحب "المصادر": إنه قول الأكثرين، ومنعوا ثبوته من جهة العقل؛ لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب، فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ، كاجتماع الكفار على جحد النبوة وغير ذلك.
ولا يصح الاستدلال عليه بالإجماع، فإن الشيء لا يثبت بنفسه، ولا الاستدلال عليه بالقياس، فإنه مظنون، ولا يحتج بالمظنون على القطعي،
وكلام الشافعي في "الرسالة" البغدادية يقتضي ثبوته بالإجماع. فإنه قال عقب ما

(3/491)


بها، فلا يكون إلا عن مستند قاطع، فإن العادة تحيل تثبيتهم قاعدة الدين بغير قطعي، وإلا لزم القدح فيهم، وهو منتف،
وحكى سليم، وابن السمعاني وجها ثالثا، أن العقل والسمع دلا عليه. وفرع عليه الجويني في المحيط، وابن السمعاني إجماع الأمم السابقة، هل هو كإجماع هذه الأمة؟ والصحيح المنع، فإن إجماع هذه الأمة معصوم من الخطأ.
ونقل بعضهم عن الجمهور أن دليل الإجماع سمعي، والعقلي مؤكد له، وهو إحالة العادة خطأ الجم الغفير في حكم لا يثبته أحد؛ لموقع الخطأ فيه، وأن النصوص شهدت بعصمتهم، فلا يقولون إلا حقا، سواء استندوا في قولهم إلى قاطع أو مظنون1،
وطريقة إمام الحرمين تقتضي أنه ليس دليلا لنفسه، ولكنه دليل الدليل، لكن دلالته على الدليل دلالة قطعية عادية عندهم، وهو قريب مما سبق عن الغزالي.
تنبيه [وجه وضع الإجماع في أصول الفقه]
قيل: إن هذه المسألة ليست من صناعة الأصولي، كما لا يلزم تثبيت الكتاب والسنة، فلذلك ينبغي أن لا يلزمه تثبيت الإجماع.
وأجيب بأن الإجماع لما كان أمرا راجعا إلى السنة موجودا فيها بالاسترواح لا بالنص، وبالقوة لا بالفعل، احتاج إلى تثبته وإخراجه من تلك القوة إلى الفعل حتى يصير أصلا ثالثا من الأصول الأول، ينزل منزلة الكتاب والسنة في التبيان والظهور.
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/719.

(3/492)


[المبحث السادس] في أنه حجة قطعية
قال الروياني في البحر: إذا انعقد الإجماع على أحد أدلته، فهل يقطع على صحته؟ فيه وجهان:
أحدهما : نعم؛ ليصح قيام الحجة.
الثاني : المنع اعتبارا بأهله في انتفاء العصمة عن آحادهم، فكذا عن جميعهم. وأطلق جماعة من الأصوليين بأنه حجة قطعية. منهم الصيرفي، وابن برهان،

(3/492)


وجزم به من الحنفية الدبوسي، وشمس الأئمة. وقالا: كرامة لهذه الأمة،
وقال الأصفهاني: إنه المشهور، وإنه يقدم على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلا، ونسبه إلى الأكثرين. قال: بحيث يكفر أو يضلل ويبدع مخالفه. وخالفه الإمام الرازي والآمدي، فقالا: إنه لا يفيد إلا الظن،
والحق التفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فحجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي، وما ندري مخالفه، فحجة ظنية.
وقال البزدوي وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب: فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر، وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث.
والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السالف بمنزلة خبر الواحد، واختار بعضهم في الكل أنه يوجب العمل لا العلم، فصارت المذاهب أربعة: يوجب العلم والعمل. لا يوجبهما. يوجب العلم حيث اتفقوا عليه قطعا. يوجب العلم في إجماع الصحابة.
وقد أورد صاحب "التقويم" أن الإجماع قد يقع عن أمارة، فكيف يوجب العلم إجماع تفرع عن الظن؟ وأجاب بأن الموجب لذلك اتصالها بالإجماع، وقد ثبت عصمتهم من الخطأ، فكان بمنزلة الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم وتقريره على ذلك.
وأما أن الإجماع من الأصول الكلية التي يحكم بها على القواطع التي هي نصوص الكتاب والسنة المتواترة، فلا بد أن يكون قاطعا؛ لاستحالة رفع القاطع بما ليس بقاطع، وحكى الأستاذ أبو إسحاق في تعليقه، والبندنيجي في الذخيرة قولين في أن لفظ الإجماع هل يطلق على القطعي والظني، أو لا يطلق إلا على القطعي؟ وصرحا بأنه خلاف في العبارة.

(3/493)


مسألة [ثبوت الإجماع بنقل الآحاد وبالظنيات والعموميات]
فعلى هذا لا يقبل فيه أخبار الآحاد ولا الظواهر، ونقل عن الجمهور. وقال القاضي في "التقريب": إنه الصحيح،
وذهب جماعة من الفقهاء إلى ثبوته بهما في حق العمل خاصة، ولا ينسخ به قاطع كالحال في أخبار الآحاد فإنها تقبل في العمليات، لا العلميات، وأباه الجمهور مفرقين بينهما، بأن الأخبار قد تدل على قبولها الأدلة، ولم يثبت لنا مثلها في الإجماع،

(3/393)


[المبحث السابع] في استحالة الخطأ على الإجماع
وفيه مسائل:
الأول: أجمعوا على أنه لا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ في مسألة واحدة ، وإنما اختلفوا في طريقه. فنقل القاضي عن الجمهور أنه السمع دون العقل، وأنه لا يمتنع الخطأ عليهم عقلا، ولكنه امتنع بالسمع، وقيل: بل امتنع عقلا وسمعا.
قال ابن فورك: قال أصحابنا: إن الله - جل ذكره - لما ختم أمر الرسالة بنبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عصم جملة أمته من الإجماع على الخطأ في كل عصر، حتى يكونوا معصومين في التبليغ والأداء ويكونوا كنبي جدد شريعة.
قلت: وقبل قولهم كقول المعصوم. فإن قيل: سيأتي جواز رجوعهم عما أجمعوا عليه إذا شرطنا انقراض العصر. قلنا: قائله يجوز الخطأ عليهم، لكن لا يقرون عليه، وهم معصومون عن دوام الخطأ، وهذا يحتمل إن قصر الزمان، فإن تطاوله بحيث يتبعهم الناس على وجه لا يمكن استدراكه فمستحيل، كما يمتنع في الرسالة.
الثانية : أن يخطئ كل فريق في مسألة أجنبية عن الأخرى، فيجوز القطع بأن كل فريق يجوز أن يخطئ.
الثالثة : أن يجمعوا على الخطأ في مسألتين. مثل أن يكون بعضهم قائلا بمذهب الخوارج، والباقي بالاعتزال والرفض. وفي الفروع مثل أن يقول: النصف بأن العبد يرث، والباقي بأن القاتل عمدا يرث لرجوعهما إلى مأخذ واحد، وهو مانع الميراث، فوقع الخطأ فيه كله. اختلفوا فيه. فمن نظر إلى اتحاد الأصل منع، ومن نظر إلى تعدد الفروع اختار، والأكثرون كما قال الهندي على امتناعه؛ لأنه إجماع على خطأ، فلم يقع منهم، كما لم يقع في المسألة الواحدة.
وقيل: يصح، وليس بإجماع على خطأ. حكاه القاضي عبد الوهاب؛ لأن الخطأ في كل واحد منهما ليس بقول كل الأمة، بل الفريق الذاهب إليها فقط.

(3/495)


مسألة
لا يجوز أن يجمعوا على جهل ما يلزمهم علمه 1، فإنه لو وقع لكان إجماعا منهم على الخطأ، وكذلك سائر أضداد العلم والشك، والظن. أما ذهابهم عن العلم بما لم يكلفوه فجائز، سواء نصب عليه دليل أم لا. قاله عبد الوهاب.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 1/279، شرح تنقيح الفصول ص: 344.

(3/496)


[المبحث الثامن] وجوب اتباعه
واحتجنا إليه؛ لأنه لا يلزم من كون الشيء حقا وجوب اتباعه، بدليل أنا إذا قلنا: كل مجتهد مصيب للحق يجب على مجتهد آخر اتباعه. ووجه الوجوب أن الشرع إذا قال: ما أجمعت الأمة عليه حق وجب أن يعمل به كما إذا قال: هذا باطل، وجب اجتنابه.

(3/496)


[المبحث التاسع] استصحاب الإجماع واجب أبدا
لأنه لا ينسخ، كما ينسخ النص، ولا يختص كما يختص المفهوم. نعم، إن أجمعوا على شيء ثم حدث معنى في ذلك الشيء، لم يحتج بالإجماع المقدم خلافا للظاهرية. وسيأتي في باب الاستصحاب. وقد احتج ابن داود على بيع أمهات الأولاد فقال: اتفقوا على أنها إذا كانت أمة تباع، فمن ادعى أن هذا الحكم يزول بولادتها فعليه الدليل. فقلبه عليه ابن سريج، وقال: اتفقنا على أنها إذا كانت حاملا لا تباع، فمن ادعى أنها لا تباع إذا ولدت فعليه الدليل، فبهت.

(3/496)


[المبحث العاشر] في أنه من خصائص هذه الأمة أو كان حجة في الأمم السابقة أيضا
وفيه قولان.
أحدهما : وبه قال الأستاذ أبو إسحاق، أنه كان حجة، والأصح كما قاله الصيرفي وابن القطان، ونقله الأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو إسحاق في "اللمع" عن أكثر الأصحاب أنه ليس بحجة، وجزم القفال في تفسيره،
وحجة كون الإجماع من خصائص هذه الأمة، أن الدليل إنما قام على عصمة هذه الأمة دون غيرها، وتوقف القاضي في المسألة.
قال الإبياري: وهو المختار. لا بالنظر إلى طريقه، بل لأنه لم يثبت عندنا استحالة الغلط في مستند فهم الحكم عند أهل الشرائع المتقدمة.
وقال الدبوسي: يحتمل أن إجماعهم كان حجة ما داموا متمسكين بالكتاب، وإنما لم يجعله اليوم حجة؛ لأنهم كفروا به، وإنما ينسبون إلى الكتاب بدعواهم. وقال إمام الحرمين: إن قطع أهل الإجماع بقولهم في كل أمة فهو حجة لاستناده إلى حجة قاطعة، فإن العادة لا تختلف في الأمم، وإن كان المستند مظنونا، فالوجه الوقف.
وقال ابن برهان في "الأوسط": إن ثبت بالتواتر أن إجماعهم كان حجة قلنا به، وإن لم يثبت ذلك لم يصر إليه؛ لأنه يتعلق به حكم. وقال في "الوجيز": الحق أن هذا معلوم من جهة العقل، فإن ثبت ذلك بطريق قطعي صرنا إليه.
ونحوه قول إلكيا: لا معنى للخلاف في هذه المسألة؛ لأن العقل يجوز كلا الوجهين، وإذا تقابل الجائزان يوقف الأمر على السمع، ولا قاطع من جهته، فتوقفنا، ولم يثبت عندنا أن سلف كل أمة كانوا ينكرون على من يخالف أصحاب المرسلين في أحكام الوقائع بناء على أدلة تلك الشرائع. وقال الإبياري: ينبغي أن ينظر في هذه المسألة هل لها فائدة في الأحكام؟ وإلا فهي جارية مجرى التاريخ، كالكلام فيما كان عليه السلام عليه قبل البعثة. والصحيح عندي بناؤها على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فإن ثبت أنه شرع لنا افتقر إلى النظر في إجماعهم، هل كان حجة عندهم أم لا؟
وقد حكى الروياني في "البحر" الخلاف قريبا من ذلك. فقال: واختلفوا في أمة كل نبي، هل كان إجماعهم حجة؟ فقال بعض المتكلمين: إجماع غير هذه الأمة لا يكون حجة، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأن اليهود والنصارى أجمعوا على قتل عيسى،

(3/497)


وأخبر الله سبحانه بكذبهم، وقال آخرون: يكون حجة على من بعدهم من أمتهم؛ لوجوب العمل بشرائع الأنبياء في عصر بعد عصر، ما لم يرد نسخها.
فائدة [دليل يدل على أن الإجماع من خصائص هذه الأمة]
احتج بعضهم على أنه من خصائص هذه الأمة بحديث: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، والناس لنا تبع فيه، اليهود غدا، والنصارى بعد غد" . ووجه الاستنباط أن كل واحدة من الاثنتين أجمعت على تفضيل يوم وأخطأت.

(3/498)


[السر في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع]
والسر في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع أنهم الجماعة بالحقيقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الكافة، والأنبياء قبله إنما بعث النبي لقومه، وهم بعض من كل. فيصدق على كل أمة أن المؤمنين غير منحصرين فيهم في عصر واحد،
وأما هذه الأمة فالمؤمنون منحصرون فيهم، ويد الله مع الجماعة، فلهذا - والله أعلم - خصها بالصواب.

(3/498)