البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الفصل الثاني : فيما
ينعقد عند الإجماع
*
...
الفصل الثاني فيما ينعقد عنه الإجماع:
و لا بد له من مستند؛ لأن أهل الإجماع ليست لهم رتبة الاستقلال
بإثبات الأحكام، وإنما يثبتونها نظرا إلى أدلتها ومأخذها، فوجب
أن يكون عن مستند؛ لأنه لو انعقد من غير مستند لاقتضى إثبات
الشرع بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو باطل.
وحكى إمام الحرمين في باب القراض من "النهاية" عن الشافعي أنه
قال: الإجماع إن كان حجة قاطعة سمعية، فلا يحكم أهل الإجماع
بإجماعهم، وإنما يصدر الإجماع عن أصل ا هـ.
وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يحصل بالبخت والمصادفة،
بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من غير مستند، وهو بالخاء
المعجمة من البخت، وهو التوفيق، وغلط صاحب التحصيل فظنه بمعنى
الشبهة، وهو فاسد، فإن معناه: يجوز أن يحصل عن توفيق من الله
جل ذكره، بغير دليل شرعي دلهم على ذلك بأن يوفق الله للصواب
بالإلهام لقوله: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" 1
وهو ضعيف، لا يجوز القول في دين الله تعالى بغير دليل، وقد
يترجم المسألة بأنه لا يجوز حصول الإجماع إلا عن توقيف ومستند.
وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع2، وليس كما قال،
فإن الخصوم ذكروا صورا، وادعوا وقوع الإجماع فيها من غير
مستند.
ثم ذلك المستند إما من جهة الكتاب كإجماعهم على أن ابن الابن
كالابن في الميراث، وإما من جهة السنة كإجماعهم على توريث كل
واحد من الجدين السدس3.
ـــــــ
1 رواه أحمد موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه، وسبق تخريجه.
2 انظر الإحكام للآمدي 1/285.
3 والدليل من السنة على ذلك ما رواه أبو داود في سننه 3/121
كتاب الفرائض، باب في الجدة بإسناده عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال:
جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: ما لك في
كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك وفي سنة نبي الله صلى الله
عليه وسلم شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل النناس فقال
المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها
السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال
مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر.
(3/499)
وعلى توريث المرأة من دية زوجها بالخبر في
امرأة أشيم الضبابي1، أو الاستفاضة، كالإجماع على أعداد
الركعات، ونصب الزكوات، أو عن المناظرة والجدال، كإجماعهم على
قتل مانعي الزكاة، أو عن توقيف كإجماعهم على أن الجمعة تسقط
بفرض الظهر، أو عن استدلال وقياس، كإجماعهم على أن الجواميس في
الزكاة كالبقر.
قال القفال الشاشي: وكإجماعهم على خلافة الصديق "رضي الله عنه"
بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه في مرضه للصلاة
بالناس2.
قال الصيرفي: ويستحيل أن يقع منهم الإجماع بالتواطؤ، ولهذا
كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك، بل يتباحثون، حتى
أخرج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة، ولا يمكن اختلافهم
فيما وقفوا عليه؛ لأنه مذموم شرعا. فثبت أن الإجماع لا يقع
منهم إلا عن توقيف، أو دليل عقله جميعهم، لا لأن غيره قال به،
فقال معه.
وجعل الماوردي، والروياني أصل الخلاف أن الإلهام هل هو دليل أم
لا؟ وحيث قلنا: لا بد من مستند، فلا يجب البحث عن مستندهم، إذ
قد ثبتت لهم العصمة، ولا يحكمون إلا عن مستند صحيح، لكنه لا
يمتنع الاطلاع عليه، وأكثر الإجماعات قد عرف مستندها. وحكى
الإمام في باب القياس عن الشافعي ما يقتضي البحث عن المستند
حيث قال: لم يعهد القراض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأول ما جرى في زمن عمر، فقال الشافعي: لا ينعقد الإجماع بغير
مستند، ولو كان في القراض خير لاعتني بنقله.
مسألة
اتفق القائلون بالمستند عليه إذا كان دلالة، واختلفوا فيما إذا
كان أمارة على مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقا سواء كان جلية أو خفية، كالدلالة. ونص
عليه
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود في سننه، كتاب الفرائض، باب في المرأة
ترث من دية زوجها، حديث 2927، ورواه الترمذي، كتاب الديات،
حديث 1415، بإسناده عن سعيد بن المسيب أن عمر كان يقول: الدية
على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره
الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب
إليه أن ورث امرأة أشيم الضباني من دية زوجها. قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم، ورواه ابن
ماجة، حديث 2642.
2 حديث صحيح، وسبق تخريجه.
(3/500)
الشافعي في "الرسالة"، وجوز الإجماع عن
قياس، وهو قول الجمهور. قال الروياني: وبه قال عامة أصحابنا،
وهو المذهب.
وقال ابن القطان: لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع
عنه في قياس المعنى على المعنى والشرط، وأما قياس الشبه
فاختلفوا فيه على وجهين، وإذا وقع عن الأمارة، وهي المفيدة
للظن وجب أن يكون الظن صوابا للدليل الدال على العصمة، ومن هنا
قيل: ظن من هو معصوم عن الخطأ مقطوع بصحته.
ومن فروع المسألة: اتفاق الصحابة على أحد القولين بعد الخلاف.
والثاني : المنع مطلقا، وبه قال الظاهرية، ومحمد بن جرير
الطبري.
فالظاهرية منعوه لأجل إنكارهم القياس1 وأما ابن جرير، فقال:
القياس حجة، ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعا بصحته،
هكذا حكاه الأستاذ أبو منصور. قال: وبه قال بعض القدرية، وهو
جعفر بن مبشر. ثم اختلفت الظاهرية، فمنهم من أحاله، ومنهم من
سلم الإمكان، ومنع الوقوع، وادعوا أن العادة تحيله في الجمع
العظيم.
وحكى القاضي في "التقريب" عن ابن جرير أنه منع منه عقلا، وقال:
لو وقع لكان حجة، غير أنه منع وقوعه؛ لاختلاف الدواعي والأغراض
وتفاوتهم في الذكاء والفطنة.
واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه وافق على وقوعه في خبر
الواحد، وهم مختلفون فيه، فكذلك القياس، ولا يقال خبر الواحد
أجمعت عليه الصحابة بخلاف القياس؛ لأنا نقول: كلاهما سواء في
إجماعهم على القول به. ومن السنة أن إمامة الصديق - رضي الله
عنه - ثبتت بالقياس، لقول عمر رضي الله عنه: رضيناه لديننا
أفلا نرضاه لدنيانا.
ثم اعترض بإجراء مثل ذلك في عبد الرحمن بن عوف، فإن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى خلفه، وأجاب بالفرق، وهو أن الصديق أمره
النبي عليه السلام، وعبد الرحمن وجده يصلي، فصلى خلفه،
وكذلك صدقة البقر ثبت [الحكم] فيها بالنص، ثم ثبت الحكم في
الجواميس بالإجماع بالقياس على البقر، وكذلك أجمعوا على ميقات
ذات عرق ولم يقع النص.
ـــــــ
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/495.
(3/501)
قال: وفيه نظر؛ لأن فيه أخبارا عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه وقته لأهل المشرق. قال: وقد أدخل في
هذا أصحابنا ما ليس منه، كصدقة الذهب وفيها أحاديث. وكذلك
قوله: "من أعتق شركا له في عبد"1، والأمة في معناه، مع قولهم:
إن العبد اسم لكل رقيق، ذكرا كان أو أنثى. قال: ومن أجوده أن
الله ذكر ميراث الإخوة والأخوات، ولم يذكر شيئا أنه من بعد
الوصية والدين، والحكم فيه من طريق القياس كذلك. ا هـ.
والمذهب الثالث : التفصيل في الأمارة بين الجلية، فيجوز انعقاد
الإجماع عنها، دون الخفية. حكاه ابن الصباغ، وكذا صاحب
"الكبريت الأحمر" عن بعض أصحابنا. قال: وهو ظاهر مذهب أبي بكر
الفارسي من الشافعية. قال: ولذلك اشترط في الخبر الذي انعقد عن
الإجماع كونه مشهورا.
والمذهب الرابع : أنه لا يجوز في القياس إلا عن أمارة، ولا
يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه، حكاه السمرقندي في "الميزان"
عن بعض مشايخهم، وهو غريب قادح في إطلاق نقل جماعة الإجماع على
جوازه عن دلالة.
مسألة
وإذا جوزنا انعقاد الإجماع عن الاجتهاد، فهل وقع؟ فيه خلاف،
حكاه ابن فورك، وإذا قلنا بوقوعه، فهل يكون حجة تحرم مخالفته
أم لا؟ المشهور، وعليه الجمهور: نعم، وحكى ابن فورك، وعبد
الوهاب، وسليم، عن قوم أنه لا يكون حجة، ولعله قول ابن جرير
السابق، وحكاه عبد الجبار عن الحاكم صاحب المختصر. قاله أبو
الحسين في المعتمد.
تنبيه : قال ابن السمعاني: وهذا الخلاف فيما إذا كان الاجتهاد
عن أصل، فأما الاجتهاد عن غير أصل كالاجتهاد في جزاء الصيد،
وجهات القبلة، وأروش الجنايات وقيم المتلفات. فمن يمنع انعقاد
الإجماع بالقياس كان من هذا أمنع، ومن جوز ثم اختلفوا، فذهب
بعضهم إلى امتناع انعقاد الإجماع عن مثل هذا الاجتهاد، والصحيح
جوازه.
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
(3/502)
فروع [لا يجب معرفة دليل الإجماع]
الأول : قال الأستاذ أبو إسحاق: لا يجب على المجتهد طلب الدليل
الذي وقع الإجماع به، فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة
المسألة. وقال أبو الحسن السهيلي: إذا أجمعوا على حكم، ولم
يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره فإنه يجب
المصير إليه، لأنهم لا يجمعون إلا عن دلالة، ولا يجب معرفتها.
(3/503)
[يجوز للمجمعين
ترك دليل الإجماع بعد اشتهار الإجماع]
الثاني : قال أيضا: يجوز للمجمعين ترك الدليل بعد اشتهار
المسألة، وانعقاد الإجماع، وربما كان أصله ظاهرا محتملا أو
قياس شبه عرف العصر الأول حكمة المشاهدة على نفي الشبه فتركوا
الدليل لما فيه من تكره التأويل، ويقتصرون على إظهار الحكم،
ليكون أمنع من الخلاف، وأقطع للنزاع.
(3/503)
[إذا احتمل
إجماعهم أن يكون عن قياس أو توقيف فعلى أيهما يحمل؟]
الثالث : إذا احتمل [أن يكون] إجماعهم عن قياس لإمكانه في
الحادثة، أو عن دليل، فهل الأولى حمله على أن يكون صادرا عن
القياس أو عن التوقيف؟ لا أعلم فيه كلاما للأصوليين.
ويخرج من كلام أصحابنا في الفروع فيه وجهان، فإنهم قالوا فيمن
قتل الحمام بمكة: إن فيها شاة؛ لإجماع الصحابة، واختلفوا في
بناء ذلك على وجهين. أحدهما: أن إيجابها لما بينهما من الشبه،
فإن كل واحد منهما يألف البيوت. ويأنس بالناس، وأصحهما أن
مستنده توقيف بلغهم فيه.
قلت: لكن لا يجوز أن يضاف إليهم أنهم أخذوه توقيفا مع قيام
الاحتمال بكونه استنباطا، وعلى هذا نص الشافعي في "الرسالة"1
فقال: أما ما أجمعوا عليه، فذكروا أنه حكاية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. قالوا: وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكونوا
قالوه
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 472.
(3/503)
[الإجماع
الواقع على وفق خبر، هل يدل على صحة ذلك الخبر؟] .
قال: وينبني على هذا مسألة، وهي أن الإجماع الواقع على وفق خبر
من الأخبار، هل يكون دليلا على صحته؟ منهم من قال: يدل على ذلك
إذا علم أنهم أجمعوا لأجله، ومنهم من قال: إن إجماعهم يدل على
صحة الحكم، ولا يدل على صحة الخبر.
قال: وهو أولى القولين؛ لأنه لا يجوز أن يكون اتفقوا على العمل
به؛ لأن التعبد ثابت بخبر الواحد، وهذا التعبد ثبت في حق
الكافة، فلأجل التعبد الثابت أجمعوا على موجب الخبر، وصار
الحكم مقطوعا به؛ لأجل إجماعهم. فإن كان الإجماع، ولا دليل
غيره، كان انعقاده دليلا على أنه انعقد عن دليل موجب له؛ لأنهم
استغنوا بالإجماع عن نقل الدليل، واكتفوا به عنه.
وقال ابن برهان في "الوجيز": إذا انعقد الإجماع، وكان دليله
مجهولا عند أهل العصر الثاني، ووجدنا خبر واحد فهل يجب أن يكون
الخبر مستنده أم لا؟ نقل الشافعي أنه قال: لا بد أن يكون ذلك
الخبر مستندا للإجماع، وخالف في ذلك الأصوليون. ا هـ.
وإنما قيد المسألة بخبر الواحد؛ لأنه إذا كان الخبر متواترا
فهو مستندهم بلا خلاف، كما قال القاضي عبد الوهاب، كما يجب
عليهم العمل بموجب النص.
قال: وإنما الخلاف في خبر الآحاد، وهو ثلاثة أقسام: أن يعلم
ظهوره بينهم والعمل بموجبه لأجله، أو يعلم ظهوره بينهم والعمل
بموجبه ولا يعلم أنهم عملوا لأجله،
(3/504)
أو لا يكون ظاهرا، بل عملوا بما تضمنه.
ففي القسم الثاني ثلاثة مذاهب، ثالثها: إن كان على خلاف القياس
فهو مستندهم، وأما الثالث فلا يدل على أنهم عملوا من أجله، وهل
يدل إجماعهم على موجبه على صحته؟ فيه خلاف. انتهى.
وقال إلكيا: إذا ظهر أن مستند الإجماع نص، كان هو مستند الحكم،
ونحن إنما نتلقى الحكم من الإجماع إذا لم نر مستندا مقطوعا به،
فأما إذا أجمعت الأمة على موجب الخبر المروي من خبر الواحد،
فهل يدل القطعي على أن إجماعهم كان لأجله أم لا؟
قال: فيه تفصيل، وهو إن عملوا بما عملوا، وحكموا مستندين إلى
الخبر مصرحين بالمستند، فلا شك، وإن لم يظهر ذلك، فالشافعي
"رحمه الله" يقول في مواضع من كتبه: إن إجماعهم يصرف إلى
الخبر، وبه قال أبو هاشم، وزاد عليه فقال: أجمعت الصحابة على
القراض، ولا خبر فيه، فالظاهر أنهم أجمعوا عليه بخبر المساقاة،
ولكن اشتهر الإجماع في القراض؛ لعموم البلوى به، دون المساقاة.
وذهب غيرهما إلى أنه يجوز أن يكون إجماعهم لأجل الاجتهاد، أو
لأجل خبر آخر لم ينقل، ويبعد كل ذلك ليس خرقا للعادة، وهذا لا
دافع له إلا أن يقال: لا يجوز أن يجمعوا لأجل خبر، ثم لا ينقل
ما أجمعوا عليه، وهذا لا يمشي إذ يمكن أن يقال: إجماعهم أعني
نقل ما له أجمعوا. ا هـ.
وما نقلاه عن الشافعي، نقله في "المحصول" عن أبي عبد الله
البصري، وخالفه، والظاهر أن المراد أن ذلك على سبيل الظن
الغالب، لا أنه عنه حقيقة. وقال ابن برهان في "الأوسط": الخلاف
لفظي لا فائدة له؛ لأن الإجماع ينعقد عن الدليل القطعي والظني.
قلت: ولها نظائر .
منها أن عمل العالم أو فتياه على وفق حديث لا يكون حكما منه
بصحة ذلك الحديث؛ لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطا أو لدليل آخر
وافق ذلك الخبر، وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحا منه في صحته،
وقد سبق الخلاف فيها.
ومنها الإجماع على وفق خبر لا يدل على صدقه، وقد سبقت في باب
الأخبار.
(3/505)
ومنها أن المجتهد إذا علل حكم الأصل بعلة
مناسبة، وألحق به الفرع، فمنع الخصم كون العلة في الأصل هذه،
وقال: العلة غيرها، لم يسمع منه؛ لأن الأحكام لا بد لها من
علة، وقد وجدت علة مناسبة، فليضف الحكم إليها، إذ الأصل عدم ما
سواها، وهذا بخلاف المسألتين السابقتين.
وقد يفرق بينهما بأن المسألة التي قام فيها الإجماع قد قامت
الحجة على العمل بها، والإضافة إلى الحديث من باب تكثير
الدلائل لم يوجب أن يكون الإجماع عن ذلك الحديث، إذ لا ضرورة
تدعو إليه، ولاحتمال أن يكون غيره، بخلاف مسألة القياس، فإنه
لا ينتهض الإلحاق ما لم تثبت العلة، فلهذا قلنا: إن الأصل كون
الحكم مضافا إلى هذه العلة.
(3/506)
مسألة [في وجود خبر أو دليل لا تعارض فيه
تشترك الأمة في عدم العلم به]
هل يمكن وجود خبر أو دليل بلا معارض، اشتركت الأمة في عدم
العلم به؟ فيه خلاف. واختار الآمدي وابن الحاجب والهندي
الجواز، إن كان عمل الأمة موافقا لمقتضاه، وعدمه إن خالف1.
وأما الرازي فترجمها في "المحصول" بأنه هل يجوز اشتراك الأمة
في الجهل بما لم يكلفوا به؟ وكذلك ترجمها القاضي عبد الوهاب في
"الملخص". وفي ظني أن الأصفهاني ظنهما مسألة واحدة، وليس كذلك،
بل هما مسألتان.
إحداهما : هل يجوز أن تشترك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا
به؟ قولان.
الثانية : هل يمكن وجود خبر أو دليل لا تعارض فيه، وتشترك
الأمة في عدم العلم به؟
والخلاف في هذه مرتب على التي قبلها، فمن منعه هناك لم يجوز
هذا بطريق الأولى، ومن جوز هناك، اختلفوا على ثلاثة مذاهب:
المنع مطلقا، والجواز مطلقا، والتفصيل بين أن يكون عملهم
موافقا لمقتضاه فيجوز، وإلا فلا؛ لأنه لا يجوز ذهولهم عما
كلفوا به، وإلا لزم اجتماعهم على الخطأ، وهو ممتنع.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 1/279، ومختصر ابن الحاجب 2/43.
(3/506)
مسألة [إذا أجمعوا على خلاف الخبر]
إذا ذكر واحد من المجمعين خبرا عن الرسول عليه السلام، يشهد
بضد الحكم الذي انعقد عليه الإجماع، قال ابن برهان في الوجيز":
يجب عليه ترك العمل بالحديث، والإصرار على الإجماع، وقال قوم
من الأصوليين: بل يجب عليه الرجوع إلى موجب الحديث. وقال قوم:
إن ذلك يستحيل، وهو الأصح من المذاهب. فإن الله تعالى عصم
الأمة عن نسيان حديث في الحادثة، ولولا ذلك خرج الإجماع عن أن
يكون قطعيا.
وبناه في "الأوسط" على الخلاف في انقراض العصر، فمن قال: ليس
بشرط منع الرجوع، ومن اشترط جوزه.
والجمهور على الأول؛ لأنه يتطرق إلى الحديث احتمالات من النسخ
والتخصيص ما لا يتطرق إلى الإجماع، بل لو قطعنا بالإجماع في
صورة، ثم وجدنا على خلافه نصا قاطعا من كتاب أو سنة متواترة،
لكان الإجماع أولى؛ لأنه لا يقبل النسخ بخلاف النص، فإنه
يقبله. وفي مثل هذه الصورة يستدل بالإجماع على ناسخ بلغهم أو
موجب لتركه، ولهذا قدم الشافعي الإجماع على النص لما رتب
الأدلة. قلت: وقال في موضع آخر: الإجماع أكثر من الخبر
المنفرد، وعلى هذا، فيجب على الراوي للخبر أن يترك العمل
بمقتضى خبره، ويتمسك بالإجماع، وكذا قال الإمام في باب
التراجيح من البرهان": إذا أجمعوا على خلاف الخبر تطرق الوهن
إلى رواية الخبر؛ لأنه إن كان آحادا فذاك، وإن كان متواترا
فالتعلق بالإجماع؛ لأنه معصوم، وأما الخبر فيتطرق إليه إمكان
النسخ، فيحمل الإجماع على القطع؛ لأنه لا ينعقد إلا على قطع،
ويحمل الخبر على مقتضى النسخ استنادا وتبيانا، لا على طريق
البناء، ثم نبه على أن الكلام في الجواز، وقطع بأنه غير واقع،
ثم قال: من ضرورة الإجماع على مناقضة النص المتواتر أن يلهج
أهل الإجماع بكونه منسوخا. قلت: ويحتمل تقييد المسألة بانقراض
العصر، وإلا فيمكن أن يتطرق عدم الحجية إليه برجوعهم عنه،
ويحتمل خلافه؛ لأن الأصل عدم رجوعهم.
(3/507)
مسألة [إذا أجمعوا على خلاف الخبر ثم رجعوا
إلى الخبر]
فلو رجع أهل الإجماع للخبر، فعملوا بمقتضاه، قال الغزالي: كان
ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان، إذ لم يكلفوا بما لم
يبلغوا، كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ الناسخ، ونوزع في
ذلك بلزوم إجماعين متعارضين، ينسخ أحدهما الآخر، وهو محال،
والظاهر الحكم بإحالة هذه الصورة؛ لأنه يلزم تخطئة أحد
الإجماعين، وهو محال.
(3/508)
|