البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الفصل الثالث
فيما ينعقد به الإجماع
[الوفاق المعتبر في الإجماع]
وله شروط:
الشرط الأول : أن يوجد فيه قول الخاصة من أهل العلم فلا اعتبار
بقول العامة، وفاقا ولا خلافا عند الأكثرين، لقول الله تعالى:
{وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وقال: "العلماء ورثة
الأنبياء" 1، واحتج الروياني بما يروى أن أبا طلحة الأنصاري
خالف الصحابة وقال: البرد لا يفطر الصائم؛ لأنه ليس بطعام ولا
شراب. قال: فردوا قوله، ولم يعتدوا بخلافه. قال ابن دقيق
العيد: وهو الصواب؛ لوجوب رد العوام إلى قول المجتهدين، وتحريم
الفتوى منهم في الدين.
وقيل: يعتبر قولهم؛ لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها من
الخطأ، فلا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من
الخاصة والعامة. وحينئذ لا يلزم من ثبوت العصمة للكل ثبوتها
للبعض.
وهذا القول حكاه ابن الصباغ، وابن برهان عن بعض المتكلمين،
واختاره الآمدي، ونقله الإمام، وابن السمعاني، والهندي عن
القاضي أبي بكر، ونوزعوا في ذلك بأن المذكور في مختصر
"التقريب" التصريح بأنه لا يعتبر خلافهم ولا وفاقهم، وكاد أن
يدعي الإجماع فيه، وقال في موضع آخر في الكلام على المرسل: لا
عبرة بقول العوام لا وفاقا ولا خلافا. ا هـ.
وأقول: فعلى هذا من تصرف إمام الحرمين، وعبارة التقريب: قد
بينا فيما سلف أن الذي دل عليه السمع صحة إجماع جميع الأمة،
وقد ثبت أن الأمة عامة وخاصة، فيجب اعتبار دخول العامة والخاصة
في الإجماع، وليس للخاصة إجماع على شيء يخرج منه العامة. قال:
والعامة مجمعة على أن حكم الله ما أجمعت عليه الخاصة، وإن لم
يعرفه عيانا.
ـــــــ
(1) حديث صحيح , وسبق تخريجه .
(3/509)
فإن قيل : فإذا لم يكن العامة من أهل العلم
بالدقائق والنظر، فلا يكون لهم مدخل في الإجماع، ولا بهم معتبر
في الخلاف؟ قلنا: كذلك نقول، ويقول أكثر الناس. وإنما وجب سقوط
الاعتبار بخلافهم لإجماع سلف الأمة من أهل كل عصر على أنه حرام
على عامة أهل كل عصر من أعصار المسلمين مخالفة ما اتفق عليه
علماؤهم، فوجب أن لا يعتبر بخلاف العامة لأجل هذا الإجماع
السابق على منعهم من ذلك.
وجواب آخر : أنه لا يجب ترك الاعتبار بهم؛ لأنهم مسلمون، وبعض
الأمة، بل معظمها، فوجب الاعتبار بخلافهم، وثبت أن ما أجمع
عليه العلماء عينا وتفصيلا إجماع العامة، وإن لم نعرفه عينا.
فإن قيل: فما يقولون: لو صار عامة الأمة في بعض الأعصار إلى
مخالفة إجماع جميع العلماء وخطئهم؟ هل يكون إجماع العلماء حجة؟
قيل: لا يكون قولهم دون قول العامة إجماعا بجميع الأمة؛ لأن
العامة بعضهم، لكن العامة مخطئون في مخالفتهم؛ لأنهم ليسوا من
أهل العلم بحكم الله، وأنه يحرم عليهم القول في دين الله بلا
علم، وليس خطؤهم من جهة مخالفة الإجماع، إذ هم بعض الأمة.
وجواب آخر: أنه لا يعتبر بخلاف العامة، ولا بدخولهم في
الإجماع، لأجل ما قدمناه من اتفاق سلف الأمة على تخطئة عامة
أهل كل عصر في خلافهم على علمائهم، فوجب سقوط الاعتبار بقول
العامة.
هذا كلامه، وحاصله يرجع إلى إطلاق الاسم بمعنى أن المجتهدين
إذا أجمعوا هل يصدق "أجمعت الأمة "، ويحكم به قول العوام فيهم
تبعا؟ فالقاضي يقول: لا يصدق اسم الإجماع، وإن كان ذلك لا يقدح
في حجيته، وهو خلاف لفظي في الحقيقة، وليس خلافا في أن
مخالفتهم تقدح في قيام الإجماع، ولهذا قال في "مختصر التقريب"
بعدما سبق: فإن قال قائل: فإذا أجمع علماء الأمة على حكم من
الأحكام، فهل يطلقون القول بأن الأمة مجمعة عليه؟
قلنا : من الأحكام ما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام، كوجوب
الصلاة والزكاة وغيرهما. فما هذا سبيله يطلق القول بأن الأمة
أجمعت عليه.
وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشتبه على
العوام، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: العوام يدخلون
في حكم الإجماع، وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفصيل الأحكام، فقد
عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة من تفاصيل
الأحكام فهو مقطوع به، فهذا مساهمة منهم في الإجماع، وإن لم
يعلموا مواقعه
(3/510)
على التفصيل.
ومن أصحابنا من زعم أنهم لا يكونون مساهمين في الإجماع، فإنه
إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها، فإذا لم يكونوا
عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع. واعلم أن هذا خلاف
مهول أمره، ويرجع إلى العبارة المحضة، والحكم فيه أنا إن
أدرجنا العوام في حكم الإجماع المطلق، أطلقنا القول بإجماع
الأمة، وإن لم ندرجهم في حكم الإجماع، أو بدر من بعض طوائف
العوام خلاف، فلا يطلق القول بإجماع الأمة، فإن العوام معظم
الأمة. ا هـ.
وما ذكره القاضي، وتابعه المتأخرون من رجوع الخلاف إلى كونه:
هل يسمى إجماعا أم لا مع الاتفاق على كونه حجة، مردود، ففي
"المعتمد" لأبي الحسين ما لفظه: اختلفوا في اعتبار قول العامة
في المسائل الاجتهادية، فقال قوم: العامة وإن وجب عليها اتباع
العلماء، فإن إجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر، حتى لا
يسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم، فإن لم
يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم، وقال
آخرون: بل هو حجة اتبعهم علماء عصرهم أم لا. انتهى1.
وفي المسألة ثالث: أنه يعتبر إجماعهم في العام دون الخاص، حكاه
القاضي عبد الوهاب2، وابن السمعاني، وبهذا التفصيل يزول
الإشكال في المسألة، وينبغي تنزيل إطلاق المطلقين عليه.
وخص القاضي أبو بكر الخلاف بالخاص، وقال لا يعتبر خلافهم في
العام اتفاقا، وجرى عليه الروياني في "البحر" فقال: إن اختص
بمعرفته العلماء كنصب الزكوات وتحريم نكاح المرأة وعمتها
وخالتها، لم يعتبر وفاق العامة معهم، وإن اشترك في معرفته
الخاصة والعامة كأعداد الركعات، وتحريم بنت البنت، فهل يعتبر
إجماع العوام معهم؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يعتبر؛ لأن الإجماع
إنما يصح عن نظر واجتهاد. والثاني: نعم؛ لاشتراكهم في العلم
به. وقال سليم: إجماع الخاصة هل يحتاج معهم فيه إلى إجماع
العامة؟ فيه وجهان. الصحيح أنه لا يحتاج إليهم.
ـــــــ
1 انظر المعتمد 2/482.
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص: 341.
(3/511)
[هل الخلاف في
هذه المسألة لفظي أم معنوي]
إذا علمت هذا فقد اختلفوا في أن الخلاف لفظي أو معنوي وكلام
القاضي وغيره كما سبق أنه لفظي، وكلام الأستاذ أبي إسحاق
بخلافه، فإنه قال: الإجماع ضربان: أحدهما: ما اجتمع عليه
الخاصة والعامة، كاتفاقهم على عدد الصلوات. قال: واختلف
أصحابنا فيمن وقع بهم الاعتبار، فقيل: الاعتبار في ثبوته بأهل
المعرفة. وقيل: الاعتبار بالكافة، فيدخل فيه الخاصة والعامة.
قال: وفائدة الخلاف تتبين في الضرب الثاني من الإجماع، وهو أن
يجمع أهل المعرفة والاجتهاد على حكم الحادثة، كالنكاح، والعدة،
والجمع بين الأختين بالزوجية، فمن قال: إن الاعتبار في الضرب
الأول بأهل العلم كفر المخالف بالنوعين، ومن قال: إن الاعتبار
فيه بالكافة لم يجعل المخالف في الضرب الثاني كالمرتد وإن قطع
بتخطئته. ا هـ.
تنبيه [اعتبار قول المقلد في الإجماع]
حكم المقلد حكم العامي في ذلك، إذ لا واسطة بين المقلد
والمجتهد، قاله إمام الحرمين.
(3/512)
مسألة [إجماع العوام عند خلو الزمان من
المجتهدين]
إجماع العوام عند خلو الزمان من المجتهد لا عبرة به؛ لأنا إن
لم نعتبرهم في انعقاد الإجماع، منعنا إمكان وقوع المسألة؛ لأنه
لا يجوز خلو الزمان عمن يقوم بالحق، وإن اعتبرنا قولهم منعنا
أن إجماعهم ليس إجماعا شرعيا.
(3/512)
مسألة [الذين يعتبر قولهم في الإجماع]
يشترط في الإجماع في كل فن من الفنون أن يكون فيه قول كل
العارفين بذلك في ذلك العصر، فإن قول غيرهم فيه يكون بلا دليل
بجهلهم به، فيشترط في الإجماع في المسألة الفقهية قول جميع
الفقهاء، وفي الأصول قول جميع الأصوليين، وفي النحو قول
(3/512)
[هل لخلاف
الأصولي في الفقه اعتبار؟]
وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه، ففي اعتبار خلافه في
الفقه وجهان، حكاهما الماوردي. وذهب القاضي إلى أن خلافه
معتبر. قال الإمام: وهو الحق،
وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسين بن القطان إلى أن خلافه
لا يعتبر؛ لأنه ليس من المفتين، ولو وقعت له واقعة للزمه أن
يستفتي المفتي فيها، قال إلكيا: والحق قول الجمهور؛ لأن من
أحكم الأصول، فهو مجتهد فيها. ويقلد فيما سنح له من الوقائع،
والمقلد لا يعتد بخلافه،
واستبعد إمام الحرمين مذهب القاضي. وقال: إذا أجمع المفتون،
وسكت [الأصوليون] المتصرفون فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على
مراجعته، فإن الذين لا يستقلون بأنفسهم في جواب مسألة، ويتعين
عليهم تقليد غيرهم من المحال وجوب مراجعتهم، وإن فرض أنهم
أبدوا وجها في التصرف، فإن كان سالفا فهو محمول على إرشادهم
وتهديتهم إلى سواء السبيل، وإن أبدوا قولهم إبداء من يزاحم
الأحكام، فالإنكار يشتد عليهم.
قال: والقول المغني في ذلك أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ
الاجتهاد، وليس بين
(3/513)
من يقلد ويقلد مرتبة ثالثة.
ثم قال: والنظر السديد يتخطى كلام القاضي وعصره، ويترقى إلى
العصر المتقدم، ويفضي إلى مدرك الحق قبل ظهور الخلاف.
والتحقيق - خالف القاضي أو وافق - أن المجتهدين إذا أطبقوا لم
يعتد بخلاف المتصرفين مذهبا مختلفا به، فإن المذاهب لأهل
الفتوى، فإن بان أن المتصرف الذي ذكروه من أهل الفتوى فسيأتي
في بابه، والكلام الكافي في ذلك أنه إن كان مفتيا اعتبر خلافه،
وقال الصيرفي في كتاب "الدلائل": إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم
فيه، سواء المتكلم وغيره، وهم الذين تلقوا العلم من الصحابة،
وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه، فأما من انفرد
بالكلام في الخبر والظفرة والداخلة، لم يدخل في جملة العلماء،
فلا يعد خلافا على من ليس هو مثله، وإن كانوا حذاقا بدقائق
الكلام، كما لا يجعل الحاذق من النقاد حجة على البزاز في البز.
انتهى.
(3/514)
مسألة [دخول المجتهد المبتدع في الإجماع]
المجتهد المبتدع إذا كفرناه ببدعته1، غير داخل في الإجماع بلا
خلاف؛ لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة، وإن لم
يعلم هو كفر نفسه.
قال الهندي: لكن لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك
الاعتقاد؛ لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره لو ثبت كفره،
فإثبات كفره بإجماعنا وحده دور،
وأما إذا وافقنا هو على أن ما ذهب إليه كفر، فحينئذ يثبت كفره،
لا لأن قوله معتبر في الإجماع؛ لأنه كافر، ولا لإجماعنا وحده
لما سبق، بل؛ لأنه لو لم يكن ما ذهب إليه كفرا إذ ذاك لزم أن
يكون مجموع الأمة على الخطأ، وأدلة الإجماع تنفيه.
ـــــــ
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/580، اللمع ص: 51، المنخول ص: 310.
(3/514)
[المذاهب في
خلاف المبتدع غير الكافر]
وأما إذا اعتقد ما لا يقتضي التكفير، بل التبديع والتضليل،
فاختلفوا على مذاهب:
أحدها : اعتبار قوله، لكونه من أهل الحل والعقد، وإخباره عن
نفسه مقبول إذا كان يعتقد تحريم الكذب، وقال الهندي: إنه
الصحيح، وكلام ابن السمعاني كما سنذكره يقتضي أنه مذهب
الشافعي؛ لنصه على قبول شهادة أهل الهوى.
والثاني : أنه لا يعتبر . قال الأستاذ أبو منصور: قال أهل
السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية، والخوارج، والرافضة،
ولا اعتبار بخلاف هؤلاء المبتدعة في الفقه، وإن اعتبر في
الكلام، هكذا روى أشهب عن مالك، ورواه العباس بن الوليد عن
الأوزاعي وأبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن، وذكر أبو
ثور في منثوراته أن ذلك قول أئمة أهل الحديث. ا هـ.
وقال أبو بكر الصيرفي: هل يقدح خلاف الخوارج في الإجماع؟ فيه
قولان. قال: ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم، وإن
اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر من حملة الآثار، ومن رأى
الإرجاء، وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان
من أهل الفقه. فإذا قيل: قالت الخطابية والرافضة كذا، لم يلتفت
إلى هؤلاء في الفقه؛ لأنهم ليسوا من أهله،
وقال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم، فأما من كان
من أهل الأهواء، فلا مدخل له فيه. قال: قال أصحابنا في الخوارج
لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف؛ لأنهم ليس لهم أصل ينقلون
عنه؛ لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين. انتهى.
وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي، ومن
الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من كلام أحمد لقوله: لا
يشهد رجل عندي ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه قال القاضي:
يعني الجهمي.
والثالث : أن الإجماع لا ينعقد عليه، وينعقد على غيره، أي أنه
يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولا يجوز
لأحد أن يقلده، حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون، وأنكر عليه
بعضهم، وقال: أرى حكايته لغيره. والظاهر أنه تفسير للقولين
المتقدمين، ومنع من بقائهما على إطلاقهما؛ لوقوع مسألتين في
بابي الاجتهاد
(3/515)
والتقليد، تنفي ذلك. إحداهما: اتفاقهم على
أن المجتهد بعد اجتهاده ممنوع من التقليد، وأنه يجب عليه العمل
بما أداه إليه اجتهاده، فالقول هنا بأنه يجب عليه العمل بقول
من خالفه معارض لذلك الاتفاق. وثانيهما: اتفاقهم على أنه يجوز
للمقلد أن يقلد من عرف بالعلم والعدالة، وأنه يحرم عليه تقليد
من عرف بضد ذلك، وإذا ثبت هذا استحال بقاء القولين في هذه
المسألة على إطلاقهما، وتبين أن معنى قول من يقول: لا ينعقد
الإجماع بدونه، يعني في حق نفسه، ومعنى قول من يقول: فينعقد،
يعني على غيره، ويصير النزاع لفظا، وعلى هذا يجب تأويل هذا
القول، وإلا فهو مشكل.
والرابع : التفصيل بين الداعية فلا يعتد به، وبين غيره فيعتد
به، حكاه ابن حزم في كتاب "الإحكام"، ونقله عن جماهير سلفهم من
المحدثين، وقال: وهو قول فاسد؛ لأن المراعى العقيدة1.
واعلم أنه كثر في عبارة المصنفين خصوصا في علم الكلام أن
يقولوا عن الرافضة ونحوهم: خلافا لمن لا يعتد بخلافه، وهذا لا
ينبغي ذكره؛ لأنه كالتناقض من حيث ذكره. وقال: لا يعتد به، إلا
أن يكون قصدهم التشنيع عليهم بخلاف الإجماع.
فرعان
أحدهما : إذا لم يعتد بخلاف من كفرناه. فلو أنهم أجمعوا حال
تكفيره، ثم تاب وأصر على ذلك الخلاف، فهل يعتبر خلافه الآن؟
فليبن على انقراض العصر. وسنذكره. الثاني: أن بعض الفقهاء لو
خالف الإجماع الذي خالف فيه المبتدع، فإن لم يعلم ببدعته، أو
علمها لكنه لم يعلم أنها توجب الكفر، ويعتقد أنه لا ينعقد
الإجماع بدونه، هل يكون معذورا أم لا؟
وقال الهندي: إن لم يعلم بدعته فمعذور، إن كان مخطئا فيه حيث
تكون موجبة للتكفير؛ لأنه غير مقصر، وإن علمها لكنه لم يعلم
اقتضاءها التكفير، فغير معذور، بل كان يلزمه مراجعة علماء
الأصول، وإن مثل هذا الاعتقاد هل يكفر أم لا؟
ـــــــ
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/580.
(3/516)
مسألة [العلماء المجتهدون الفسقة، هل يعتبر
قولهم في الإجماع؟]
في اعتبار الورع في أهل الإجماع خلاف، فالفسقة بالفعل دون
الاعتقاد إذا بلغوا في العلم مبلغ المجتهدين، هل يعتبر وفاقهم
أو خلافهم؟ فيه وجهان، حكاهما الأستاذ أبو منصور. وذهب معظم
الأصوليين كما قاله إمام الحرمين وابن السمعاني أنه لا يعتد
بخلافهم، وينعقد الإجماع بدونهم، وقال الرازي من الحنفية: إنه
الصحيح عندنا. قال ابن برهان: وهو قول كافة الفقهاء
والمتكلمين.
قال: ونقل عن شرذمة من المتكلمين، منهم إمام الحرمين إلى أن
خلافه معتد به. قلت: وجزم به الشيخ أبو إسحاق الشيرازي،
واختاره الغزالي في "المنخول"؛ لأن المعصية لا تزيل اسم
الإيمان، فيكون قول من عداهم قول بعض المؤمنين لا كلهم، فلا
يكون حجة، وإليه مال إمام الحرمين.
واستشكل الأول بأن المجتهد الفاسق لا يجوز له تقليد غيره،
فانعقاد الإجماع في حقه مشكل، ولا يمكن تجزئة الإجماع، حتى
يكون حجة في حق غيره، ولا يكون حجة في حقه، واستحسنه إلكيا،
وقال: المسألة محتملة. واختلف المانعون في تعليله على وجهين.
أحدهما : أن إخباره عن نفسه لا يوثق به لفسقه، فربما أخبر
بالوفاق وهو مخالف أو بالخلاف وهو موافق، فلما تعذر الوصول إلى
معرفة قوله سقط أثره، وشبه بعضهم ذلك بسقوط أثر قول الخضر عليه
السلام على القول بأنه حي؛ لتعذر الوصول إليه.
والثاني : أن العدالة ركن في الاجتهاد، فإذا فاتت العدالة فاتت
أهلية الاجتهاد، وعلى الثاني اقتصر ابن برهان في "الأوسط".
وفرعوا عليها ما إذا أدى الفاسق اجتهاده إلى حكم في مسألة، هل
يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن؟. وحكى ابن السمعاني
عن بعض أصحابنا أن المجتهد الفاسق يدخل في الإجماع من وجه،
ويخرج من وجه؛ لأنه إذا ظهر خلافه سئل عن دليله؛ لجواز أن
يحمله فسقه على اعتقاد شرع بغير دليل. قال ابن السمعاني: وهذا
التقسيم لا بأس به وهو يقرب من مأخذ أهل العلم، فليعول عليه.
ورأيت في كتاب
(3/517)
الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أن كل من كان من
أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا، وسواء
كان عدلا أمينا أو فاسقا متهتكا، يعتد بخلافه؛ لأن المعول في
ذلك على الاجتهاد والمستور كالمشهور. قال: والأحسن هو الأول،
ثم قال ابن السمعاني: وأما الفسق بتأويل فلا يمنع من اعتبار من
يعتقد في الإجماع والاختلاف،
وقد نص الشافعي - رحمه الله - على قبول شهادة أهل الأهواء،
وهذا ينبغي أن يكون في اعتقاد بدعة لا تؤدي إلى التكفير، فإن
أدته فلا يعتد بخلافه ولا وفاقه. وهذه هي المسألة المتقدمة في
المبتدع.
(3/518)
مسألة : هل يعتبر
بخلاف الظاهرية في الإجماع
...
[هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع]
ذهب قوم منهم القاضي أبو بكر، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني،
ونسبه إلى الجمهور أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس في
الحوادث الشرعية، وتابعهم إمام الحرمين، والغزالي، قالوا؛ لأن
من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو
كالعامي الذي لا معرفة له، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي
بن أبي هريرة، وطائفة من أقرانه،
وقال الأصفهاني شارح "المحصول": يلزم القائل بذلك أنه لا يعتبر
خلاف منكر العموم، وخبر الواحد، ولا ذاهب إليه.
قلت: نقل الأستاذ عن ابن أبي هريرة - رحمه الله - أنه طرد قوله
في منكر أخبار الآحاد، ومن توقف في الظواهر والعموم. قال: لأن
الأحكام الشرعية تستنبط من هذه الأصول، فمن أنكرها وتوقف فيها
لم يكن من أهل الاجتهاد، فلا يعتبر بخلافه. قال النووي في باب
السواك في "شرح مسلم"1: إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد
الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون، وكذا قال
صاحب "المفهم" جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم،
بل هم من جملة العوام، وإن من اعتد بهم فإنما ذلك؛ لأن مذهبه
أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع، والحق خلافه.
ـــــــ
(1) انظر شرح مسلم للنووي (3/142) .
(3/518)
وذكر غيره أنهم في الشرعيات كالسوفسطائية
في العقليات، وكذا قال أبو بكر الرازي من الحنفية: لا يعتد
بخلافهم، ولا يؤنس بوفاقهم.
وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": يعتبر كما يعتبر خلاف من
ينفي المراسيل، ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب؛ لأن
مدار الفقه على هذه الطرق، ونقل ابن الصلاح عن الأستاذ أبي
منصور أنه حكى عن ابن أبي هريرة وغيره، أنهم لا يعتد بخلافهم
في الفروع، ويعتد بخلافهم في الأصول،
وقال إمام الحرمين: المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنا؛
لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعشر
معشارها.
وقال في كتاب اللعان: إن قول داود بإجزاء الرقبة المعيبة في
الكفارة نقل الشافعي - رحمه الله تعالى - الإجماع على خلافه.
قال: وعندي أن الشافعي لو عاصر داود لما عده من العلماء،
وقال الإبياري: هذا غير صحيح عندنا على الإطلاق، بل إن كانت
المسألة مما تتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي، ولا مخالف
للقياس فيها لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم إلا على رأي من
يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ. فإن قلنا: بالتجزؤ، لم يمنع أن يقع
النظر في فرع هم فيه محقون، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة
الكلامية؛ لأن له فيه مدخلا، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل
القياسية يعتد بخلافهم.
وقال ابن الصلاح: الذي استقر عليه الأمر ما اختاره الأستاذ أبو
منصور، وحكاه عن الجمهور، وأن الصحيح من المذهب الاعتداد
بخلافهم، ولهذا يذكر الأئمة من أصحابنا خلافهم في الكتب
الفرعية.
ثم قال: والذي أجيب به بعد الاستخارة: أن داود يعتبر قوله،
ويعتد به في الإجماع إلا ما خالف القياس، وما أجمع عليه
القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع
على بطلانها، فاتفاق من سواه على خلافه إجماع ينعقد، فقول
المخالف حينئذ خارج عن الإجماع، كقوله في التغوط في الماء
الراكد1، وتلك المسائل
ـــــــ
1 يعني قول أهل الظاهر في مسألة التبول في الماء الراكد، فمن
المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول فيه ثم
يتوضأ منه، فاستمسكوا هم بهذا اللفظ ظاهرا وقالوا: يجوز لمن لم
يتبول فيه أن يتوضأ منه أو يغتسل منه ما لم يتغير أحد أوصافه،
ويجوز لمن تبول في قارورة وألقاها فيه أن يتطهر منه لأنه لم
يتبول فيه مباشرة، وقد عبر ابن حزم رحمه الله تعالى عن هذه
المسألة وفروعها في المحلى 1/141 فقال: مسألة: وكل شيء مائع من
ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو
غير ذلك
أي شيء كان، إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه أو
ميتة، فإن غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه أو ريحه فقد فسد كله
وحرم أكله، ولم يجز استعماله ولا بيعه، فإن لم يغير شيئا من
لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه، فذلك المائع حلال
أكله وشربه واستعماله، إن كان قبل ذلك كذلك والوضوء حلال بذلك
الماء. والتطهر به في الغسل أيضا كذلك، وبيع ما كان جائزا بيعه
قبل ذلك حلال، ولا معنى لتبين أمره، وهو بمنزلة ما وقع فيه
مخاط أو بصاق إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام
عليه الوضوء بذلك الماء، والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه
التيمم إن لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغير،
إن لم يغير البول شيلئا من أوصافه. وحلال الوضوء به والغسل به
لغيره. فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه
فهو طاهر، ويجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره، إلا أن يغير ذلك
البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء، فلا يجزئ حينئذ استعماله
أصلا له ولا لغيره. انتهى من المحلى.
(3/519)
الشنيعة، وفي "لا ربا إلا في النسيئة"
المنصوص عليها، فخلافه في هذا وشبهه غير معتد به. ا هـ.
فتحصلنا على خمسة آراء في المسألة.
وقد اعترض ابن الرفعة على إطلاق إمام الحرمين بأن القاضي
الحسين نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال في الكتابة:
لا أمتنع من كتابة العبد عند جمع القوة والأمانة، وإنما أستحب
الخروج من الخلاف، فإن داود أوجب كتابة من جمع بين القوة
والأمانة، وداود من أهل الظاهر، وقد أقام الشافعي لخلافه وزنا،
واستحب كتابة من ذكره لأجل خلافه. ا هـ.
وهذا وهم عجيب من ابن الرفعة؛ لأن داود إنما ولد قبل وفاة
الشافعي بسنتين؛ لأنه ولد سنة اثنتين ومئتين، ولا يمكن أن
يقال: اعتبر الشافعي خلافه، فغلط ابن الرفعة لأجل فهمه أن هذه
الجملة من كلام الشافعي، وليس كذلك وإنما استحب هو، بفتح
الحاء، وهو من كلام القاضي الحسين والمستحب هو القاضي الحسين،
لكنه علله بتعليل غير صحيح لما ذكرناه. نعم، أوجبها قبل غير
داود، فالمراد الخلاف الذي عليه داود لا خصوص داود على أنه قد
قيل: إن كلام القاضي الحسين مستقيم، والجملة من قول الشافعي،
وليس المراد صاحب الظاهر، بل المراد به داود بن عبد الرحمن
العطار شيخ الشافعي بمكة، الذي قال فيه الشافعي: ما رأيت أورع
منه، ولعله الذي نقل عنه الشافعي وجوب العقيقة، فإن الشافعي
قال كما حكاه عنه الإمام في "النهاية": في باب العقيقة أفرط في
العقيقة رجلان، رجل قال بوجوبها، وهو داود، ورجل قال ببدعتها
وهو أبو حنيفة،
(3/520)
وكلام القاضي الحسين في التعليق لا يقتضي
أن يكون هو داود الظاهري؛ لأنه نقل عن الشافعي أنه قال: أستحب
كتابة من جمع بين القوة والأمانة للخروج من الخلاف، فإن داود
يوجب كتابة من جمع بين القوة والأمانة، ولم يقل داود الظاهري
كما نقله ابن الرفعة.
(3/521)
مسألة [عدم اشتراط الشهرة في من يعتبر قوله
في الإجماع من المجتهدين]
لا يشترط في المجتهد الذي يعتبر قوله أن يكون مشهورا في
الفتيا، بل يعتبر قول المجتهد الخامل خلافا لبعض الشاذين حيث
فصل بين المشهور بالفتوى، فيعتبر قوله دون غيره، حكاه صاحب
"الكبريت الأحمر" وغيره؛ لأن العبرة بما فيه من الصفات، لا
بشهرته، ولا يشترط أن يكون صاحب مذهب، بل يعتبر قوله مهما علم
أنه مجتهد مقبول الفتيا، بدليل أن الذي دل على صحة الإجماع
متناول له، ولا مخرج عنه، فيعتبر قوله.
(3/521)
مسألة [هل يعتد بقول من أشرف على رتبة
الاجتهاد]
من أحكم أكثر أدوات الاجتهاد، حتى لم يبق عليه إلا أداة واحدة،
كمن أحكم علوم القرآن والسنة، ولم يبق عليه إلا اللغة أو علم
التفسير، فهل يعتد بخلافه؟ قال ابن برهان: ذهب كافة العلماء
إلى أنه لا يعتد بخلافه، وينعقد الإجماع دونه؟ ونقل عن القاضي
أبي بكر أنه قال: لا ينعقد الإجماع مع خلافه.
قال ابن برهان: ولم يذهب إليه أحد سوى القاضي، وترجم إلكيا هذه
المسألة بقوله: من أشرف على رتبة المجتهدين، قال أكثر
الأصوليين: لا يعتد بخلافه، وصار قاضينا أبو بكر إلى أنه يعتد،
ولعله أراد أن يدخل نفسه في رتبة المجتهدين.
(3/521)
مسألة [لا يعتد بخلاف الصبي والكافر إذا
أحكما أدوات الاجتهاد]
الصبي إذا أحكم أدوات الاجتهاد، وأنى يتصور ذلك ولكن يقدر على
البعد. قال ابن برهان: اتفقوا على أن خلافه لا يعتد به؛ لأن
قول الصبي لا أثر له في الشرع.
(3/521)
مسألة [الاعتداد في الإجماع بمن بلغ مبلغ
الاجتهاد من النساء والعبيد]
قال الأستاذ أبو منصور: وأما من بلغ من النساء والعبيد مبلغ
الاجتهاد، فإنه يعتد بخلافه، ولا ينعقد الإجماع مع خلافه والرق
والأنوثة لا يؤثران في اعتبار الخلاف، كما لا يؤثران في قبول
الرواية والفتوى. وقد رجع أعلام الصحابة إلى فتاوى عائشة،
وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى فتاوى نافع مولى
ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس، قبل عتقهما.
(3/522)
الشرط الثاني :
اتفاق جميع المجتهدين في البقاع
...
اتفاق جميع المجتهدين في البقاع
ويتفرع عليه مسائل:
المسألة الأولى : إذا اتفق الأكثرون وخالف واحد ، فلا يكون قول
غيره إجماعا ولا حجة: هذا هو المشهور، ومذهب الجمهور، وحكاه
أبو بكر الرازي عن الكرخي من أصحابهم1.
واحتج القفال بمخالفة ابن عباس في العول، ودعوته إلى المباهلة،
واعتدوا به خلافا، وكذا جزم به ابن القطان والصيرفي، قال: ولا
يقال لهذا: شاذ؛ لأن الشاذ ما كان في الجملة، ثم شذ عليهم،
وكيف يكون محجوجا بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به. قال: إلا أن
يجمعوا على شيء من جهة الحكاية، فلزمه قبول خبرهم، أما من جهة
الاجتهاد فلا؛ لأن الحق قد يكون معه، ودليل النظر باق.
واحتج جمع من أصحابنا بقصة الصديق في قتال مانعي الزكاة. قال
في "البيان": لأن الصحابة أنكروا على أبي بكر رضي الله عنه،
ولم يكن قولهم حجة. ا هـ.
ـــــــ
1 انظر المسألة في المعتمد 2/486، 491، الإحكام لابن حزم
1/507، 544. اللمع ص: 50
(3/522)
مسألة [لا اعتبار للخلاف الثاني]
الخلاف الثاني لا اعتبار له، كما أن الاحتمال البعيد لا يخرج
النص عن كونه نصا، ولهذا عد إمام الحرمين جملة من التأويلات
الباطلة، وهكذا يقول الحنفية في الخلاف في الشاذ: إنه لا خلاف،
ولا اختلاف. يعنون بذلك أنه إنما يعتبر الخلاف المشهور القريب
المأخذ بخلاف الشاذ البعيد، فهو خلاف لأهل الحق.
(3/524)
مسألة [الأوجه المحكية هل تقدح في الإجماع]
الأوجه المحكية في المذهب، هل تقدح في الإجماع؟ لم أر فيه نصا
للأصوليين، ويشبه تخريجه على أنه لازم المذهب، أم من جهة أن
الأوجه مأخوذة من قواعد عامة لصاحب المذهب وإلا فلا، لكن رأيت
ابن الرفعة في "المطلب" في أول القضاء صرح بحكاية خلاف في أنها
هل تقدح في الإجماع أم لا؟ وقال: الصحيح أنها تقدح.
(3/525)
المسألة الثانية [التابعي المجتهد هل يعتبر
قوله في إجماع الصحابة إذا أدرك عصرهم؟]
إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد دخل معهم
فيه، ولا ينعقد الإجماع إلا به على أصح الوجوه عند القاضي أبي
الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ، وابن السمعاني، وأبي
الحسين السهيلي في كتاب "أدب الجدل" له. قال: لأنهما لم يختلفا
إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يوجب كون الحق
معه.
وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الصحيح، ونقله صاحب "اللباب"،
والسرخسي من الحنفية عن أكثر أصحابهم.
قال: ولهذا قال أبو حنيفة، لا يثبت إجماع الصحابة في الإشعار؛
لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه، وهو ممن أدرك عصر الصحابة، فلا
يثبت إجماعهم بدون قوله، ولنا أن الصحابة إذ ذاك بعض الأمة،
والعصمة إنما ثبتت لجميعهم.
وسئل ابن عمر عن فريضة فقال: سلوا ابن جبير، فإنه أعلم بها،
وكان أنس يسأل فيقول: سلوا مولانا الحسن، فإنه سمع وسمعنا،
وحفظ ونسينا، وسئل ابن عباس عن ذبح الولد فأشار إلى مسروق،
فلما بلغه جوابه تابعه عليه.
والوجه الثاني : أنه لا يعتد بخلافه، واختاره ابن برهان في
الوجيز "، ونقله في "الأوسط" عن إسماعيل ابن علية ونفاة
القياس، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد.
والوجه الثالث : التفصيل بين أن يكون من أهل الاجتهاد وقت حدوث
تلك النازلة فيعتد بخلافه، وإلا فلا، واختاره القاضي في
"التقريب"، والروياني في "البحر"، والقاضي عبد الوهاب،
والصيرفي في "الدلائل"، وسليم في "التقريب". قال: ومن
(3/525)
أصحابنا من رتب المسألة فقال: إن بلغ
التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، ثم وقعت حادثة،
فأجمعوا، وخالفهم، اعتد بخلافه، وإن أجمعوا على قول ثم أدركهم،
وخالفهم، فمن لم يعتبر انقراض العصر لم يعتد بخلافه، ومن اعتبر
انقراضه ففي الاعتداد به وجهان. ا هـ.
وصور الروياني في "البحر" المسألة بالمعاصر المجتهد، فقال:
يعتبر وفاقه في حجة الإجماع، ومن أصحابنا من لم يعتبره، وهو
غلط؛ لأنه من أهل الاجتهاد عند الحادثة، فاعتبر وفاقه كالواحد
من الصحابة. قال: فأما من عاصرهم وهو صبي لم يبلغ رتبة
الاجتهاد، ثم بلغها وخالفهم، فهل يعد خلافه خلافا؟ والمذهب أنه
لا يعد؛ لأنه لم يكن من أهل الاجتهاد، فهو كالمعدوم. وقال
القفال: فيه وجهان:
أحدهما : هذا.
والثاني : يعد خلافا لقصة ابن عباس في العول. ا هـ.
والذي رأيته في كتاب القفال الشاشي ما نصه: ومتى أجمعت الصحابة
على شيء ثم حدث في عصرهم من بلغ مبلغ الاستدلال، لم يكن له
مخالفة إجماعهم، فإن حدثت حادثة في الوقت الذي قد جاء فيه
التابعي مستدلا فأجمعت الصحابة استنباطا، ورأى خلافه، فقد قيل:
إنه خلاف، وفيه نظر، هذا كلامه.
وحكى في "القواطع" الوجهين، ثم قال: هذا إذا بلغ التابعي فأما
إذا تقدم الإجماع على قول التابعي فإنه يكون التابعي محجوجا
بذلك قطعا، وقد اعتبر ذلك من شرط انقراض العصر، وقد قلنا: إن
هذا الاعتبار يؤدي إلى أنه لا ينعقد إجماع. ا هـ.
وكلام الآمدي يقتضي طرد الخلاف مطلقا، فإنه قال: القائلون بأنه
لا ينعقد إجماعهم دونه اختلفوا، فمن لم يشترط انقراض العصر،
قال: إن كان من أهل الاجتهاد قبل إجماع الصحابة، لم ينعقد
إجماعهم مع مخالفته، وإن بلغ الاجتهاد بعد انعقاد إجماعهم لم
يعتد بخلافه. قاله: وهذا مذهب الشافعي، وأكثر المتكلمين،
وأصحاب أبي حنيفة، وهي رواية عن أحمد، ومن شرط انقراض العصر،
قال: لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته، سواء كان مجتهدا حال
إجماعهم أو صار مجتهدا بعد ذلك في عصرهم،
وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلا، وهو مذهب بعض
المتكلمين وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى.
(3/526)
قال: والمختار إن كان من أهل الاجتهاد حال
إجماع الصحابة لم ينعقد إجماعهم مع مخالفته. انتهى. وتحصل أن
اللاحق إما أن يتأهل قبل الانقراض أو بعده، وعلى الأول فإما أن
يوافق أو يخالف أو يسكت، والقائل بعدم اعتباره لا يجعل لذلك
أثرا، والقائل به اثنان: قائل إنه لا يعتبر وفاقه، بل يعتبر
عدم خلافه. وقائل يعتبرهما.
تنبيهان
الأول : الكلام في هذه المسألة لا يتصور إلا مع القائلين بأن
خلاف الأقل يندفع به إجماع الأكثر، فلهذا ذكرت.
الثاني : لا يختص هذا بالتابعي مع الصحابة، بل إذا اجتمع أهل
العصر على حكم، فنشأ قوم مجتهدون قبل انقراضهم، فخالفوهم،
وقلنا: انقراض العصر شرط، فهل يرتفع الإجماع؟ على مذهبين، وإن
قلنا: لا يعتبر الانقراض فلا.
(3/527)
المسألة الثالثة [إجماع الصحابة]
إجماع الصحابة حجة بلا خلاف بين القائلين بحجية الإجماع، وهم
أحق الناس بذلك، ونقل عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن
إجماعهم ليس بحجة،
وهكذا إجماع غيرهم من العلماء في سائر الأعصار خلافا لداود
الظاهري حيث قال: إجماع اللازم يختص بعصر الصحابة، فأما إجماع
من بعدهم فليس بحجة1،
وهو ظاهر كلام ابن حبان البستي منا في صحيحه، وقيل: إن أحمد
علق القول به في رواية أبي داود، فقال: الإجماع أن يتبع ما جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وهو بعد في التابعين
مخير، لكنه في الرواية الأخرى سوى بين الكل. فمن أصحابه من
أجرى له قولين ومنهم من قطع بالثاني، وحمل الأول على آحاد
التابعين، لا إجماعهم. وأما قول أبي حنيفة: إذا أجمعت الصحابة
على شيء سلمناه، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم، فليس ذلك موافقا
لداود؛ لأنه رأى نفسه من التابعين، فقد رأى
ـــــــ
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/544.
(3/527)
أنسا رضي الله عنه. وقيل: أدرك أربعة منهم،
ولنا أن الإجماع إنما يكون عن أصل، وهو شامل للكل، وبالشهادة
بالعصمة، وهو عام، فتخصيصه تحكم، وهو كالقائل لا حجة إلا في
قياس الصحابة بدليل {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وخص أبو الحسن السهيلي في "أدب
الجدل" النقل عن داود بما إذا أجمعوا عن نص كتاب أو سنة قال:
فأما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس، فاختلفوا فيه، وقد
سبق،
وقال ابن القطان: ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو
إجماع الصحابة فقط، وهو قول لا يجوز خلافه؛ لأن الإجماع إنما
يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف.
فإن قيل: فما يقولون في إجماع من بعدهم. أيجوز أن يجمعوا على
خطأ؟ قلنا: هذا لا يجوز لأمرين.
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن ذلك بقوله: "لا
يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".
والثاني : أن سعة أقطار المسلمين، وكثرة العدد لا يمكن أحدا
ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لا يخفى على أحد كذبه.
(3/528)
المسألة الرابعة [إجماع أهل المدينة]
إجماع أهل المدينة على الانفراد لا يكون حجة، وقال مالك: إذا
أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم. قال الشافعي في كتاب "اختلاف
الحديث": قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحدا ذكر قوله
إلا عابه، وإن ذلك عندي معيب. انتهى.
وقال الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السنن": قال مالك: إذا كان
الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به لم أر لأحد خلافه، ولا يجوز
لأحد مخالفته. ا هـ. ونقل عنه الصيرفي في "الأعلام" والروياني
في "البحر" والغزالي في "المستصفى" أن الإجماع إنما هو إجماعهم
دون غيرهم، وهو بعيد.
ونقل الأستاذ أبو منصور في كتاب "الرد على الجرجاني" أنه أراد
الفقهاء السبعة وحدهم، وقال: إنهم إذا أجمعوا على مسألة انعقد
بهم الإجماع، ولم يجز لغيرهم مخالفتهم، والمشهور عنه الأول.
لكن يشكل على ذلك أنه في "الموطأ" في باب العيب
(3/528)
في الرقيق نقل إجماع أهل المدينة على أن
البيع بشرط البراءة لا يجوز، ولا يبرأ من العيب أصلا، علمه أو
جهله. ثم خالفهم، فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته.
وعلى المشهور فاختلف أصحابه فقال الباجي: إنما أراد فيما طريقه
النقل المستفيض، كالصاع والمد والأذان، والإمامة، وعدم الزكوات
في الخضراوات مما تقضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم، فأما مسائل
الاجتهاد فهم وغيرهم سواء. وحكاه القاضي في "التقريب" عن شيخه
الأبهري. وقيل: يرجح نقلهم على نقل غيرهم، وقد أشار الشافعي -
رضي الله عنه - إلى هذا في القديم، ورجح رواية أهل الدين على
غيرهم. وقيل: أراد بذلك الصحابة، وقيل: أراد به في زمن الصحابة
والتابعين وتابعي التابعين. حكاه القاضي في "التقريب"، وابن
السمعاني، وعليه ابن الحاجب.
وادعى ابن تيمية أنه مذهب الشافعي، وأحمد بناء على قولهما: إن
اجتهادهم في ذلك الزمن مرجح على اجتهاد غيرهم، فيرجح أحد
الدليلين لموافقة أهل المدينة. وقال مرة: إنه محمول على إجماع
المتقدمين من أهل المدينة،
وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي - رضي الله
عنه -: إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء، فلا يدخل قلبك شك
أنه الحق، وكلما جاءك شيء غير ذلك، فلا تلتفت إليه، ولا تعبأ
به، فقد وقعت في البحار، ووقعت في اللجج. وفي لفظ له: إذا رأيت
أوائل أهل المدينة على شيء فلا تشكن أنه الحق، والله إني لك
ناصح، والقرآن لك ناصح، وإذا رأيت قول سعيد بن المسيب في حكم
أو سنة، فلا تعدل عنه إلى غيره.
وقال مالك: قدم علينا ابن شهاب قدمة، فقلت له: طلبت العلم حتى
إذا كنت وعاء من أوعيته تركت المدينة فقال: كنت أسكن المدينة،
والناس ناس، فلما تغيرت الناس تركتهم. رواه عنه عبد الرزاق. ا
هـ.
وقيل محمول على المنقولات المستمرة كما سبق، وإليه ذهب القرافي
في شرح المنتخب وصحح في مكان آخر التعميم في مسائل الاجتهاد،
وفيما طريقه النقل، والصحيح الأول. ولا فرق في مسائل الاجتهاد
بينهم وبين غيرهم من العلماء، إذا لم يقم دليل على عصمة بعض
الأمة. نعم، ما طريقه النقل إذا علم اتصاله، وعدم تغيره،
واقتضته العادة من صاحب الشرع، ولو بالتقرير عليه فالاستدلال
به قوي يرجع إلى أمر
(3/529)
عادي، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
وقال القاضي عبد الوهاب: إجماع أهل المدينة على ضربين: نقلي،
واستدلالي.
فالأول على ثلاثة أضرب : منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى
الله عليه وسلم. إما من قول أو فعل أو إقرار.
فالأول : كنقلهم الصاع، والمد والأذان، والإقامة والأوقات،
والأحباس ونحوه.
والثاني : نقلهم المتصل كعهدة الرقيق، وغير ذلك.
والثالث : كتركهم أخذ الزكاة من الخضراوات مع أنها كانت تزرع
بالمدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لا
يأخذونها منها. قال: وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا
المصير إليه، وترك الأخبار والمقاييس له، لا اختلاف بين
أصحابنا فيه.
قال: والثاني: وهو إجماعهم من طريق الاستدلال، فاختلف أصحابنا
فيه على ثلاثة أوجه .
أحدها : أنه ليس بإجماع، ولا مرجح، وهو قول أبي بكر، وأبي
يعقوب الرازي، والقاضي أبي بكر، وابن السمعاني، والطيالسي،
وأبي الفرج، والأبهري، وأنكروا كونه مذهبا لمالك ثانيها : أنه
مرجح، وبه قال بعض أصحاب الشافعي.
ثالثها : أنه حجة، وإن لم يحرم خلافه، وإليه ذهب قاضي القضاة
أبو الحسين بن عمر. انتهى.
وقال أبو العباس القرطبي: أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف
فيه؛ لأنه من باب النقل المتواتر، ولا فرق بين القول والفعل
والإقرار إذ كل ذلك نقل محصل للعمل القطعي، وأنهم عدد كثير،
وجم غفير، تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، ولا شك
أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر،
وأما الثاني : فالأول منه أنه حجة إذا انفرد، ومرجح لأحد
المتعارضين، ودليلنا على ذلك أن المدينة مفرز الإيمان، ومنزل
الأحكام، والصحابة هم المشافهون لأسبابها، الفاهمون لمقاصدها،
ثم التابعون نقلوها وضبطوها، وعلى هذا فإجماع أهل المدينة ليس
بحجة من حيث إجماعهم، بل إما هو من جهة نقلهم المتواتر، وإما
من
(3/530)
جهة شهادتهم لقرائن الأحوال الدالة على
مقاصد الشرع، قال: وهذا النوع الاستدلالي إن عارضه خبر، فالخبر
أولى عند جمهور أصحابنا؛ لأنه مظنون من جهة واحدة، وهو الطريق،
وعملهم الاجتهادي مظنون من جهة مستند اجتهادهم، ومن جهة الخبر،
وكان الخبر أولى، وقد صار كثير من أصحابنا إلى أنه أولى من
الخبر بناء منهم على أنه إجماع، وليس بصحيح؛ لأن المشهود له
بالعصمة كل الأمة لا بعضها. ا هـ. وقد تحرر بهذا موضع النزاع،
والصحيح من مذهبه، وهؤلاء أعرف بذلك.
(3/531)
[اتفاق أهل
المدينة مراتب عدة]
وقال بعض المتأخرين: التحقيق في هذه المسألة أن منها ما هو
كالمتفق عليه، ومنها ما يقول به جمهورهم. ومنها ما يقول به
بعضهم. فالمراتب أربعة:
إحداها : ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
كنقلهم لمقدار الصاع والمد، فهذا حجة بالاتفاق. ولهذا رجع أبو
يوسف إلى مالك فيه، وقال: لو رأى صاحبي كما رأيت لرجع كما
رجعت، ورجع إليه في الخضراوات. فقال: هذه بقائل أهل المدينة لم
يؤخذ منها صدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر
ولا عمر، وسأل عن الأحباس. فقال: هذا حبيس فلان، وهذا حبيس
فلان، فذكر أعيان الصحابة. فقال له: أبو يوسف: وكل هذا قد رجعت
إليك.
الثانية : العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان، فهذا كله هو
حجة عند مالك حجة عندنا أيضا . ونص عليه الشافعي. فقال في
رواية يوسف بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء
فلا يبق في قلبك ريب أنه الحق، وكذا هو ظاهر مذهب أحمد، فإن
عنده أن ما سنه الخلفاء الراشدون حجة يجب اتباعها، وقال أحمد:
كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة، ومعلوم أن بيعة الصديق،
وعمر، وعثمان، وعلي كانت بالمدينة، وبعد ذلك لم يعقد بها بيعة،
ويحكى عن أبي حنيفة أن قول الخلفاء عنده حجة.
الثالثة : إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين ، فهل
يرجح أحدهما بعمل أهل المدينة؟ وهذا موضع الخلاف. فذهب مالك
والشافعي إلى أنه مرجح، وذهب أبو حنيفة إلى المنع1، وعند
الحنابلة قولان: أحدهما: المنع، وبه
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/702.
(3/531)
قال القاضي أبو يعلى، وابن عقيل. والثاني:
مرجح، وبه قال أبو الخطاب، ونقل عن نص أحمد، ومن كلامه: إذا
روى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية.
الرابعة : النقل المتأخر بالمدينة . والجمهور على أنه ليس بحجة
شرعية، وبه قال الأئمة الثلاثة، وهو قول المحققين من أصحاب
مالك كما ذكره القاضي عبد الوهاب في "الملخص". فقال: إن هذا
ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين، وإنما يجعله حجة بعض أهل
المغرب من أصحابه، وليس هؤلاء من أئمة النظر والدليل، وإنما هم
أهل تقليد. وجعل أبو الحسن الإبياري المراتب خمسة :
أحدها : الأعمال المنقولة عن أهل المدينة بالاستفاضة، فلا خلاف
في اعتمادها.
ثانيها : أن يرووا أخبارا ويخالفوها، وقد تقدم الكلام عليه.
قال: واختار إمام الحرمين أن الراوي الواحد إذا فعل ذلك سقط
التمسك بروايته، ويرجع إلى عمله فما الظن بعلماء أهل المدينة
جملة.
ثالثها : أن لا ينقلوا الخبر، ولكن يصادف خبر على نقيض حكمهم،
فهذه أضعف من الأولى، ولكن غلبة الظن حاصلة بأن الخبر لا يخفى
عن جميعهم؛ لهبوط الوحي في بلدهم، ومعرفتهم بالسنة، ولهذا
كانوا يرجعون إليهم. ويبعثون يسألون منهم، فينزل منزلة ما لو
رأوا وخالفوا.
رابعها : أن لا ينقل خبر على خلاف قضائهم، ولكن القياس على غير
ذلك. فهذا فيه نظر، فقد يقال: إنهم لم يخالفوا القياس مع كونه
حجة شرعية إلا بتوقيف، وقد يقال: لا يوافقون، ولهذا اختلف مالك
في هذه الصورة، كالقصاص بين الحر والعبد، والمسلم والكافر في
الأطراف.
خامسها : أن يصادف قضاؤهم على خلاف خبر منقول عنهم أو عن
غيرهم، لا عن خلاف قياس، حتى يستدل به على خبر لأجل مخالف
القياس، فالصواب عندي في هذه الصورة عدم الالتفات إلى المنقول،
ويتبع الدليل. ا هـ.
(3/532)
[الرد على
القول بأن إجماع أهل المدينة حجة لا ينزل منزلة إجماع الأمة]
وما قدمناه من كلام القرطبي هو المعتمد إن شاء الله تعالى، لكن
نبه الإبياري على مسألة حسنة، وهي أنا إذا قلنا: إن إجماعهم
حجة، فلا ينزل منزلة إجماع جميع
(3/532)
الأمة، حتى يفسق المخالف، وينقض قضاؤه،
ولكن يقول: هو حجة، على معنى أن المستند إليه مستند إلى مأخذ
من مآخذ الشريعة، كالمستند إلى القياس وخبر الواحد.
(3/533)
[ردود العلماء
على دعوى: إجماع أهل المدينة]
ولم تزل هذه المسألة موصوفة بالإشكال، وقد دارت بين أبي بكر
الصيرفي وأبي عمر [ابن عبد البر] من المالكية. وصنف الصيرفي
فيها وطول في كتابه "الأعلام" الحجاج فيها مع الخصم، وقال: قد
تصفحنا قول من قال: العمل على كذا، فوجدنا أهل بلده في عصره
يخالفونه، كذلك الفقهاء السبعة من قبله، فإنه مخالفهم، ولو كان
العمل على ما وصفه لما جاز له خلافهم؛ لأن حكمه بالعمل كعلمهم
لو كان مستفيضا.
قال: وهذا عندي من قول مالك على أنه عمل الأكثر عنده، وقد قال
ربيعة في قول: ادعى مالك العمل عليه، فقال ربيعة: وقال قوم: -
وهم الأقل - ما ادعى مالك أنه عمل أهل البلد. وقال مالك:
التسبيح في الركوع والسجود لا أعرفه، حكاه عنه ابن وهب، ثم إنا
رأينا ما ادعاه من العمل إنما علمنا عنه بخبر واحد، كرواية
القعنبي، وابن بكير، والسبكي، وابن مصعب، وابن أبي إدريس، وابن
وهب، وهؤلاء كلهم يجوز عليهم العلم. ووجدنا في كتاب الموطإ هذه
الحكاية، ولم نشاهد العمل الذي حكاه، ووجدنا الناس من أهل
المدينة وغيرهم على خلافه،
وقال أبو حيان التوحيدي في "البصائر": سمعت القاضي أبا حامد
المروروذي يقول: ليس الاعتماد في الإجماع على أهل المدينة على
ما رآه مالك؛ لأن مكة لم تكن دون المدينة، وقد أقام النبي -
عليه الصلاة والسلام - بها كما أقام بالمدينة، ومن عدل عن مكة
وأهلها مع قيام النبي - عليه السلام - بين أظهرهم وسكانها
الغاية في حمل الشريعة بغير حجة، جاز أن يعدل خصمه عن المدينة
وأهلها بحجة. وذلك أن الشريعة كملت بين جميع أهل العصر الذين
تحققوا النبي عليه الصلاة والسلام، وحفظوا عنه، وابتلوا
بالحوادث، فاستفتوه، واختلفوا في الأحكام فاستقضوه، وتخوفوا
العواقب فاستظهروا به، ثم إنهم بعد أن صار إلى الله كانوا بين
مقيم بالمدينة، ومقيم بمكة، ونازل بينهما، وظاهر عنهما إلى
الأمصار البعيدة، واستقرت الشريعة على الكتاب والسنة الشائعة،
والقياس المنتزع، والرأي الحسن، والإجماع المنعقد، فلم يكن بلد
أولى من بلد، ولا مكان أولى من مكان، ولا ناس أولى وأحفظ لدين
الله من ناس، وهم في الإصابة شركاء، وفي الحكم بما ألقى إليهم
متفقون. قال: وكان يطيل
(3/533)
الكلام في تهجير المدلين بهذا القول. ا هـ.
وقال ابن حزم في الأحكام: هذا القول لصق به بعض المالكية
محتجين بما روي في فضل المدينة، وليس ذلك لفضل أهلها، وقد صح
أن مكة أفضل منها، وقد كان الصحابة في غيرها، وقد تركوا من عمل
أهل المدينة سجودهم مع عمر في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
[الانشقاق:1] وسجودهم معه إذا قرأ السجدة، ونزل عن المنبر
فسجد، وفعل عمر إذ أعلم عثمان وهو يخطب يوم الجمعة بحضرة
المهاجرين والأنصار، فقالوا: ليس على ذلك العمل.
وأيضا فإن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في ثمان وأربعين
مسألة في موطئه فقط، وقد تتبعنا ذلك فوجدنا منها ما هو إجماع،
ومنها ما الخلاف فيه موجود في المدينة، كوجوده في غيرها، وكان
ابن عمر وهو عميد أهل المدينة يرى إفراد الأذان، والقول فيه:
حي على خير العمر، وبلال يكرر قد قامت الصلاة، ومالك لا يرى
ذلك، والزهري يرى الزكاة في الخضراوات، ومالك لا يراها، ثم ذكر
لهم مناقضات كثيرة.
(3/534)
[إجماع أهل
الحرمين والمصرين]
المسألة الخامسة إجماع أهل الحرمين: مكة والمدينة، والمصرين:
البصرة والكوفة، ليس بحجة، خلافا لمن زعم ذلك من الأصوليين.
قال القاضي: وإنما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم تخصيص الإجماع
بالصحابة، وكانت هذه البلاد موطن الصحابة، ما خرج منها إلا
الشذوذ. ا هـ. وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل
عصر، بل في عصر الصحابة فقط،
وقال الشيخ أبو إسحاق: قيل: إن المخالف أراد في زمن الصحابة
والتابعين، فإن كان هذا مراده فمسلم، لو اجتمع العلماء في هذه
البقاع، وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها.
(3/534)
[المسألة] السادسة [إجماع أهل البيت]
إجماع أهل البيت ليس بحجة، المراد بهم: علي، وفاطمة، والحسن،
والحسين رضوان الله عليهم، خلافا للشيعة، وبالغوا، فقالوا: قول
علي حجة وحده. حكاه الشيخ أبو إسحاق في "اللمع"، وعن "المعتمد"
للقاضي أبي يعلى أن العترة لا
(3/534)
[المسألة] السابعة [إجماع الخلفاء الأربعة]
قال القاضي أبو خازم - بالخاء والزاي المعجمتين - من الحنفية:
إجماع الخلفاء الأربعة حجة، وحكم بذلك في زمن المعتضد بتوريث
ذوي الأرحام ولم يعتد بخلاف زيد، وقبل منه المعتضد ذلك، وردها
إليهم، وكتب بذلك إلى الآفاق،
وقال أبو بكر الرازي: وبلغني أن أبا سعيد البراذعي كان أنكر
ذلك عليه. قال: وهذا فيه خلاف بين الصحابة. فقال أبو حازم: لا
أعد هذا خلافا على الخلفاء الأربعة، وقد حكمت برد هذا المال
إلى ذوي الأرحام، ولا يجوز لأحد أن يتبعه بالنسخ1. ا هـ. وهي
رواية عن أحمد، قال الموفق في "الروضة": نقل عن أحمد ما يدل
على أنه لا يخرج عن قولهم إلى قول غيرهم.
والصحيح أن ذلك ليس بإجماع، وكلام أحمد في إحدى الروايتين يدل
على أن قولهم حجة، ولا يلزم من ذلك أن يكون إجماعا. قلت: ويجري
ذلك في كلام القاضي أبي حازم أيضا، وأنه أراد أنه يقدم على قول
غيرهم، وعلى هذا فلا معنى لتخصيص أصحابنا حكايته عن أبي حازم،
فإنه قول للشافعي.
قال ابن كج في كتابه هنا: إذا اختلفت الصحابة على قولين وكانت
الخلفاء الأربعة مع أحد الفريقين، فقال الشافعي في موضع: يصار
إلى قول الخلفاء الأربعة، وقال في موضع: إنهما سواء، ويطلب
دلالة سواهما. انتهى.
ويحتمل أن يكون أبو حازم بناه على أن خلاف الواحد والاثنين لا
يقدح في الإجماع، وهو ظاهر سياق أبي بكر الرازي عنه. وقيل:
إجماع الشيخين وحدهما حجة.
لنا أن ابن عباس خالف جميع الصحابة في خمس مسائل في الفرائض
انفرد بها، وابن مسعود بأربع مسائل، ولم يحتج عليهم أحد بإجماع
الأربعة.
واحتج أبو حازم بحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" 2
وعورض بحديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 3.
ـــــــ
1 انظر اللمع ص: 50، مختصر ابن الحاجب 2/36، الإحكام للآمدي
1/249.
2 حديث صحيح، سبق تخريجه.
3 موضوع، وسبق بيان وضعه.
(3/535)
قال القرطبي: والصحيح أنه لا تعارض بينهما،
فإن الأول: يقتضي أن يقتدى بالخلفاء فيما اتفقوا عليه.
والثاني: الأمر للمقلد بالتخيير، واعتبار المجتهدين، والصحابة،
فلا يعارضه. سلمنا المعارضة، لكن الأول صحيح، والثاني ضعيف.
وذكر القاضي في "التقريب" أن القائلين بهذا المذهب أرادوا
الترجيح لقولهم على قول غيرهم، لفضل سبقهم وتعددهم، وطول
صحبتهم، وعندنا أن الترجيح إنما يطلب به غلبة الظن لا العلم.
فائدة [عقود الخلفاء الأربعة وحماهم]
إذا عقد الخلفاء الأربعة عقدا، أو حموا حمى لزم، ولا ينتقض على
أصح قولي الشافعي. حكاه أبو حامد في "الرونق"، وممن حكى القول
فيه صاحب "التلخيص" في باب الإحياء، واستقر به السنجي في شرحه
"، وقال: يشبه أن يكون قاله على قياس التقديم في تقليد
الصحابي. وأما أصحابنا على قوله الجديد فسووا بينهم وبين من
بعدهم. ا هـ. والأحسن ما قاله صاحب "الرونق".
(3/536)
[المسألة] الثامنة [العبرة بإجماع أهل كل
عصر]
وفاق من سيوجد لا يعتبر اتفاقا، حكاه ابن الحاجب وغيره، إذ لو
اعتبر لما استمر إجماع، ولا يعتد بخلاف ابن عيسى الوراق، وأبي
عبد الرحمن الشافعي، فيما حكاه عنهما الأستاذ أبو منصور، ولا
يطلب في هذه وفاق الظاهرية في قولهم: لا يعتبر إلا إجماع
الصحابة. فإنهم منكرون اعتبار أهل العصر الحاضرين، فضلا عمن
سيوجد، وإنما الوفاق المذكور هو من القائلين بإجماع أهل كل
عصر.
وهذه المسألة هي المترجمة : أنه هل يعتبر اتفاق كل المسلمين في
سائر الأعصار؟ وإنما الاعتبار بإجماع أهل كل عصر.
أما وفاق من سيوجد، فلا يعتبر أيضا . فإذا حدثت حادثة لم يتقدم
فيها قول لمن سلف انعقد الإجماع بقول أهل ذلك العصر؛ لأن ذلك
لو اعتبر لما انعقد أبدا إجماع، حكاه عبد الوهاب، ولم يذكر فيه
خلافا.
(3/536)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع
أمتي على خطأ" 1 فلا يخالف هاتين المسألتين من جهة أن لفظ
الحديث يتناول جميع من صدق به وقت مبعثه وإلى الأبد؛ لأنا
علمنا بقصده من هذا أنه على وجه التكليف، والالتزام يمنع من
هذا القول.
ـــــــ
1 هذا الحديث روي بألفاظ عدة، ومنها ما أخرجه أبو داود في سننه
4/98، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، حديث
4253، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم
فتهلكوا جميعا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا
تجتمعوا على ضلالة" وفي إسناده انقطاع، وصحح الشيخ الألباني
الجملة الأخيرة منه، ورواه الترمذي 4/466، كتاب الفتن، باب ما
جاء في لزوم الجماعة، حديث 2167 عن ابن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي – أو قال: أمة محمد
صلى الله عليه وسلم – على ضلالة ويد الله مع الجماعة، ومن شذ
شذ في النار" . قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وفيه سليمان المدني وهو ضعيف. ورواه ابن ماجة 2/1303 حديث 3950
عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافا فعليكم
بالسواد الأعظم" ورواه أحمد في مسنده 6/396، حديث 27267 عن أبي
نضرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله
اصلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي عز وجل أربعا فأعطاني
ثلاثا ومنعمنمي واحدة سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على
ضلالة فأعطاني..." الحديث، والطبراني في الكبير 2/280. وروواه
الدارمي 1/24حديث 54 عن عمرو بن قيس أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "وإن الله عز وجل وعدني في أمتي وأجارهم من
ثلاث لا يعمهم بسنة وزلا يستأصلهم عدطو ولا يجمعهم على ضلالة"
. ورواه الحاكم في المستدرك 1/200 حديث، وأبو نعيم في الحلية
3/37، واللألكائي في السنة 1/106، والحديث رواه ابن أبي شيبة
في مصنفه 7/457 موقوفا على ابن مسعود بلفظ: "اتقوا الله وعليكم
بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة" وإسناده صحيح،
ومثله لا يقال بالرأي كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص
3/141، وله شاهد رواه الطبراني في تفسير سورة الأنعام، 7/224
عن الحسن مرسلا، ورجاله رجال الصحيح.
والخلاصة في هذا الحديث: أنه روي عن عدة من الصحابة وبألفاظ
متقاربة ولا يخلو طريق منها من ضعف، لكنها يعضد بعضها بعضا
فترتقي إلى درجة الصحة من حيث المعنى والإسناد.
(3/537)
[المسألة] التاسعة [انعقاد الإجماع في زمن
الرسول صلى الله عليه وسلم]
لا ينعقد الإجماع في زمانه صلى الله عليه وسلم كما ذكره القاضي
أبو بكر، والإمام فخر الدين، وغيرهما؛ لأن قولهم دونه لا يصح،
وإن كان معهم فالحجة في قوله. وفيه نظر ذكرناه في باب النسخ،
إذ جوزنا لهم الاجتهاد في زمانه، كما هو الصحيح، فلعلهم
اجتهدوا في مسألة، وأجمعوا عليها من غير علمه بهم. وقد نقل
القرافي عن أبي إسحاق، وابن برهان جواز انعقاد الإجماع في
زمانه. قال: وشهود النبي صلى الله عليه وسلم بالعصمة متناول
لما في زمانه، وما بعده، لكن المشهور الأول، والذي وجدته في
"الأوسط" لابن برهان في الكلام على
(3/537)
حجية الإجماع أنه إنما يكون حجة بعد موت
النبي صلى الله عليه وسلم.
(3/538)
المسألة العاشرة [الإجماع في العصور
المتأخرة]
هل ينعقد الإجماع في زماننا؟ لا نص فيه، وينبغي أن يأتي فيه
خلاف مبني على أن عصرنا هل يخلو عن المجتهد أم لا؟ فإن قلنا:
لا يخلو، فلا شك في انعقاده، وإن قلنا: خلاف، فيحتمل أن يقال:
لا ينعقد، وإن كان هناك مجتهدون في المذاهب وناظرون في
الشريعة، ولم يترقوا إلى رتبة الاجتهاد. والظاهر أنه ينعقد،
وليست هذه مسألة اعتبار العوام في الإجماع، والدليل على ذلك أن
حجة الإجماع، إما من السمع وهو عدم اجتماع الأمة على خلافه، أو
من العقل، وهو أن الجم الغفير لا يقدرون على قاطع، وهؤلاء جمع
كثير، وهذا الموجود فيهم.
(3/538)
[ظهور الإجماع
وانتشاره في العصر الذي وقع فيه] .
الشرط الثالث : أن يظهر في العصر، حتى يعلم أهل العصر الثاني،
وقد يقترن ظهوره بالعمل، وقد يكون بالقول والفعل جميعا.
فأما ظهوره بالقول إذا وجد صح انعقاد الإجماع به، وحكى
الروياني، وابن السمعاني عن بعضهم أنه لا ينعقد بالقول حتى
يقترن به الفعل، ليكمل في نفسه. قال: وهذا ليس بصحيح، لأن حجج
الأقوال آكد من حجج الأفعال.
(3/538)
[حجية الإجماع
السكوتي]
ثم قد يكون القول من الجميع، ولا شك، وقد يكون من بعضهم وسكوت
الباقين بعد انتشاره من غير أن يظهر معهم اعتراف أو رضا به،
وهذا هو الإجماع السكوتي، وفيه ثلاثة عشر مذهبا:
أحدها : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، وحكي عن داود وابنه، وإليه
ذهب الشريف المرتضى، وصححه صاحب المصادر "، وعزاه جماعة إلى
الشافعي، منهم القاضي، واختاره. وقال: إنه آخر أقواله، ولهذا
قال الغزالي في "المنخول"، والإمام الرازي، والآمدي: إن
الشافعي نص عليه في الجديد. وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر
مذهبه، ولهذا قال: ولا ينسب إلى ساكت قول. قال: وهي من عباراته
الرشيقة.
قلت: ومعناه لا ينسب إلى ساكت تعيين قول؛ لأن السكوت يحتمل
(3/538)
مسألة [ظهور الإجماع بالفعل وسكوت الآخرين
عليه]
وأما ظهوره بالفعل وحده بأن يتفق أهل الحل والعقد على عمل، ولم
يصدر منهم قول، فاختلفوا على مذاهب:
أحدها : أنه كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة تابعة
لإجماعهم كثبوتها للشارع، فكانت أفعالهم كأفعاله، وقطع به
الشيخ أبو إسحاق وغيره، وقال في "المنخول": إنه المختار، وقال
أبو الحسين في "المعتمد"1: يجوز اتفاقهم على القول والفعل
والرضى، ويخبرون عن الرضى في أنفسهم، فيدل على حسن ما رضوا به،
وقد يجمعون على ترك الفعل، وترك الفعل يدل على أنه واجب ويجوز
أن ما تركوه مندوب إليه؛ لأن تركه غير محظور، وتابعه في
"المحصول".
والمذهب الثاني : المنع، ونقله إمام الحرمين عن القاضي، قال:
بل ربما أنكر تصوره، إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على
فعل واحد من غير أرب، فالتواطؤ عليه غير ممكن. نعم، آحادهم
يرتكبون ذلك في أوقات متغايرة، وذلك لا يعد توافقا أصلا، فإن
تكلف متكلف تصوره في مجلس واحد، فلا احتفال به لإمكان أن يختص
به، وليس في نفس الفعل دلالة على انتسابه إلى الشرع، والقول
مصرح بانتسابه إلى الشرع، فإذن ليس في الفعل دلالة على كونه
صوابا. ا هـ. واعلم أن الذي رأيته في "التقريب" للقاضي التصريح
بالجواز، فقال: كل ما أجمعت الأمة عليه يقع بوجهين: إما قول،
وإما فعل، وكلاهما حجة. انتهى.
والمذهب الثالث : قول إمام الحرمين بأنه يحمل على الإباحة ما
لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب، فإنا نعلم أن الواحد
من التابعين لو باشر فعلا، فروجع فيه، فقال: كيف لا أفعله، وقد
فعله المهاجرون والأنصار قبل المشورة عليه، والعادة أيضا تدل
على مثل ذلك، فإن الأمة إذا اتفقت على فعل، وتكرر الفعل فيما
بينهم، فإن كان معصية اشتهر كونه معصية، ولا يخفى، قال إلكيا:
والحق ما قاله، فليلتحق بمسائل الإجماع، وقال القرافي: إنه
تفصيل حسن.
والمذهب الرابع : قول ابن السمعاني: إن كل فعل خرج مخرج الحكم
والبيان
ـــــــ
1 انظر المعتمد 2/479، اللمع ص: 50، المنخول ص: 318.
(3/551)
لا ينعقد به الإجماع، كما أن ما لم يخرج من
أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع، وأما الذي خرج من
الأفعال مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع؛ لأن
الشرع يؤخذ من فعل الرسول عليه السلام، كما يؤخذ من قوله، ولا
بد من مجيء التفصيل بين أن ينقرض العصر أو لا، ومن اشترطه في
القولي فهاهنا أولى.
مسألة :
وقد يتركب من القول والفعل بأن يقول بعضهم: هذا مباح، ويقدم
الباقي على إباحته بالفعل، فيعلم أنه إجماع منهم، وإن كان
بعضهم قائلا، وبعضهم فاعلا، قاله القاضي عبد الوهاب.
تنبيه :
إذا فعل أهل الإجماع فعلا، ولم يعلم أنهم فعلوه على وجه الوجوب
أو الندب. فعلام يحمل؟ توقف بعضهم فيها من جهة النقل، والذي
يقتضيه قياس المذهب أن حكمه حكم الفعل من الرسول صلى الله عليه
وسلم؛ لأنا قد أمرنا باتباعهم، كما أمرنا باتباع الرسول صلى
الله عليه وسلم.
الشرط الرابع : عدم النص في حكم الحادثة؛ لأنه مع وجود النص لا
اعتبار بالإجماع. هكذا قاله أبو الفضل بن عبدان في كتاب شرائط
"الإحكام". فإن أراد حمله إذا كان النص على خلافه. فقد يقال:
إن العمل بالإجماع، وبه تبينا نسخ النص، وإن أراد ما إذا كان
على وفقه، فالنص بين لنا مستند قبول الإجماع.
الشرط الخامس : أن لا يسبقه خلاف فلو اختلف أهل عصر على قولين،
فليس لمن بعدهم الإجماع على أحدهما على المذهب، وسيأتي.
(3/552)
فصل في أمور اشترطت في انعقاد الإجماع
والصحيح خلافها .
[لا يشترط انقراض عصر المجمعين]
الأمر الأول : لا يشترط في انعقاد الإجماع انقراض عصر المجمعين
وموت الجميع على الصحيح عند المحققين، بل يكون اتفاقهم حجة في
الحال، وإن لم ينقرضوا، فإن رجع أحدهم لا يقبل رجوعه، بل يكون
قوله الأول مع قول الآخرين حجة عليه كما هو حجة على غيره، وكذا
لو نشأ في العصر مخالف قبل انقراض أهله كما قاله الإمام في
"النهاية" في مسألة ابن عباس رضي الله عنهما، وحجبه الأم
بثلاثة إخوة؛ لأن المقتضي قد وجد، وهو صورة الإجماع ولا مانع
فيلزم الحكم.
قال القاضي في "التقريب": وهو قول الجمهور، وقال الباجي: هو
قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال عبد الوهاب: إنه الصحيح،
وقال الأستاذ أبو منصور: وهو قول القلانسي من أصحابنا مع
المعتزلة وأصحاب الرأي. وقال ابن برهان: هو القول المنصور
عندنا.
وقال ابن السمعاني: إنه أصح المذاهب لأصحاب الشافعي، وقال
الرافعي في الأقضية: إنه أصح الوجهين. وقال الإمام في
"النهاية". في باب نواقض الوضوء: إنه المختار، وجرى عليه
الدبوسي في التقويم "، وقال أبو سفيان: إنه قول أصحاب أبي
حنيفة، وقال أبو بكر الرازي: إنه الصحيح، وحكاه عن الكرخي.
والمذهب الثاني : يشترط، وهو مذهب أحمد، ونصره محققو أصحابه،
واختاره ابن فورك، وسليم، ونقله ابن برهان من أصحابنا عن
المعتزلة. ونقله صاحب "المعتمد" عن الجبائي ونقله الأستاذ أبو
منصور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري.
واختلفوا في علته على وجهين. أحدهما: أن فائدة اشتراطه إمكان
رجوع المجمعين أو بعضهم. والثاني: جواز وجود مجتهد آخر، وينبني
على العلتين، ما لو وجد مجتهد قبل انقراضهم، يعتبر وفاقه.
قال القاضي في "التقريب": والمشترطون افترقوا فرقتين، فمنهم من
اشترط انقراض
(3/553)
جميع أهله، ومنهم من اشترط انقراض أكثرهم،
فإن بقي واحد أو اثنان ونحوه مما لا يقع العلم بصدق خبره لم
يعتد ببقائه. ومنهم من اعتبر موت العلماء فقط. حكاه عبد
الوهاب، وكأنه بناه على دخول العامة في الإجماع.
وقال الغزالي في "المنخول": اختلف المشترطون، فقيل: يكتفى
بموتهم تحت هدم دفعة، إذ الغرض انتهاء عمرهم عليه، وقال
المحققون: لا بد من انقضاء مدة تفيد فائدة، فإنهم قد يجمعون
على رأي، وهو معرض للتغيير. وقد روي عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - أنه أبدى الخلاف في مسائل بعد اتفاق الصحابة. وقال
صاحب "الكبريت الأحمر": القائلون بالاشتراط اختلفوا، فقيل: هو
شرط في انعقاد الإجماع، وقيل: شرط في كونه حجة،
وإذا قلنا: إن الانقراض شرط، فعلام يعتبر؟ فيه وجهان. ذكره أبو
علي الطبري:
أحدها : أنه يعتبر فيما بني أمره على المسامحة، فيتساهل الأمر
فيه. فأما ما يتعلق بالإتلاف: من قتل، أو قطع، أو ما أشبهه، لم
يعتبر فيه انقراض العصر.
والثاني : أنه يعتبر في جميع الأشياء حكاه بعض شراح "اللمع".
ثم قال إلكيا: مقتضى اشتراط انقراض العصر أن لا يستقر الإجماع
ما بقي من الصحابة واحد، ولو لحقهم زمرة من المجتهدين قبل أن
[ينقرضوا] فلا شك أنهم صاروا معتبرين فيما بينهم وصار خلافهم
معتبرا، ومع هذا أجمعوا على أنه لا يشترط انقراض عصر اللاحقين،
فإنا لو اعتبرنا ذلك لم يستقر الإجماع، ومعلوم أن اللاحق صار
كالسابق في اعتبار قوله، وإذا كان اعتبار قوله يمنع من استقرار
الإجماع فينبغي عدم اشتراطه؛ لأن المخالف لو خالف قبل انقراض
عصر الأولين اعتبر خلافهم، فإذا مات الأولون بعد تحقق انقراض
العصر، فينبغي أن تصير المسألة إجماعية.
والمذهب الثالث : إن كان سكوتيا اشترط لضعفه ، بخلاف القولي،
وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي منصور البغدادي،
فقال أبو منصور في كتاب التحصيل: إنه قول الحذاق من أصحاب
الشافعي، وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر الأصحاب،
واختاره البندنيجي أيضا. وقال القاضي الحسين في باب الكفارة من
تعليقه: إنه ظاهر المذهب، وجعل سليم محل الخلاف في القولي قال:
وأما السكوتي فانقراض العصر معتبر فيه بلا خلاف، وحاصله اختيار
هذا المذهب،
(3/554)
وممن اختاره من المتأخرين الآمدي1.
واعلم أن ما نقلته عن الأستاذ أبي إسحاق تابعت فيه إمام
الحرمين، لكن الذي في تعليقة الأستاذ عدم الاشتراط فيهما
جميعا.
والمذهب الرابع : التفصيل بين أن يستند إلى قاطع فلا يشترط فيه
تمادي زمان، وينتهض حجة على الفور، وبين أن يستند إلى ظني،
فليس بحجة، حتى يطول الزمان، وتتكرر الواقعة، ولو طال الزمان،
ولم يتكرر، فلا أثر له، وهذا قول إمام الحرمين في "البرهان"،
ومستنده أن المسألة لما استندت إلى ظني، وطالت المدة، وتكررت
الواقعة، ولم يعرض لأحد خلاف. التحق بالمقطوع، وصرج بأنهم لو
هلكوا عقب الإجماع فليس بإجماع. وظهر بهذا أن الانقراض عنده
غير شرط ولا معتبر في حالة من الأحوال، وبذلك يعرف وهم ابن
الحاجب في نقله عنه التفصيل بين الصادر عن قياس، فيشترط فيه
الانقراض، وإلا فلا. وليس كما قال، بل كلامه مصرح بعدم اعتبار
الانقراض ألبتة، ومع ذلك فما قاله في الظني حكم عليه بتقدير
وقوعه، ويرى أنه غير متصور الوقوع [و] اشتراطه طول الزمان في
الظني، إنما هو ليصل إلى القطع، لا أنه متصور في نفسه. ثم أشار
إلى ضابط قدر الزمان بما لا يفرض في مثله استقرار الجم الغفير
على رأي إلا عن حامل قاطع، أو نازل منزلة القاطع على الإصرار،
واختاره في "المنخول"، وقال: الرجوع في مقداره إلى العرف، ورده
في "القواطع" بأنه لا يعرف إلى أي شيء استناد المجمعين، ولو
عرف استنادهم إلى المقطوع كان هو الحجة دون الإجماع.
وقال إلكيا: قال الإمام: إن قطع أهل الإجماع في مظنة الظن، فلا
يعتبروا انقراضه، فإن ذلك لا يصدر إلا عن توقيف وتقدير يقتضيه
خرق العادة، والعادة لا تخرق لا في لحظة ولا في أمد طويل.
قال: وهذا الذي ذكر الإمام2 لا يختص بالإجماع، فإن المجتهد لو
قطع في مظنة الظن كان كذلك، ولا فائدة له كبيرة هنا. قال: وإن
كان الإجماع في الحكم مع الاعتراف باستناده إلى اجتهاده فما
داموا في مهلة البحث فلا مذهب لهم، فضلا عن أن يكون إجماعا،
وإن جزموا الحكم بناء على أحد النظرين، فهذا مما يبعد الإمام،
ويرى
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي 1/256.
2 يعني إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.
(3/555)
أن الرأي الذي أجمع عليه أهل التواتر مستند
للقاطع. وقد بينا من قبل تصوره، وحينئذ فالمعتبر ظهور إصرارهم،
والإصرار قد يتبين بالقرائن، إما في المجلس أو بعده.
والمذهب الخامس: ينعقد قبل الانفراض فيما لا مهلة فيه، ولا
يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج. حكاه ابن السمعاني
عن بعض أصحابنا، وهو نظير ما سبق في السكوتي.
والمذهب السادس : أنه إذا لم يبق من المجمعين إلا عدد ينقصون
عن أقل عدد التواتر ، فلا عبرة ببقائهم : وعلم انعقاد الإجماع.
حكاه القاضي في مختصر "التقريب"، وأشار إليه ابن برهان في،
"الوجيز"،
والمذهب السابع : إن شرطوا في إجماعهم أنه غير مستقر ، وجوزوا
الخلاف، اعتبر انقراض العصر . وإن لم يشترطوا ذلك، لم يعتبر.
حكاه القاضي في مختصر "التقريب"، وسليم الرازي، ثم قيده
بالمسائل الاجتهادية، دون مسائل الأصول التي يقطع فيها بخطأ
المخالف.
والمذهب الثامن : إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق
بها إتلاف واستهلاك، اشترط قطعا ، وإن تعلق بها ذلك مما لا
يمكن استدراكه كإراقة الدماء، واستباحة الفروج، فوجهان، وهو
طريقة الماوردي في "الحاوي".
قال سليم: وفائدة الخلاف في هذه المسألة، أن من اعتبر انقراض
العصر جوز أن يجمعوا على حكم، ثم يرجعوا عنه، أو بعضهم، ومن لم
يعتبر لم يجوز ذلك.
تنبيهات
الأول : [المراد بانقراض العصر] قال ابن برهان: ليس المراد
بالانقراض مدة معلومة، بل موت المجمعين المجتهدين. فالعصر في
لسانهم المراد به علماء العصر، والانقراض عبارة عن موتهم
وهلاكهم، حتى لو قدر موتهم في لحظة واحدة في سفينة، فإنه يقال:
انقراض العصر.
الثاني : صور الطبري المسألة بإجماع الصحابة، وظاهره أن إجماع
التابعين لا خلاف في عدم اشتراط انقراضهم، وبه صرح بعد، وكلام
غيره ظاهر في التعميم.
ومن المشترطين من أحال عدم بلوغ الأمة في عصر حد التواتر، حكاه
القاضي
(3/556)
عبد الوهاب، وحينئذ فيخرج في المسألة مذهب
ثامن.
الثالث : أن المشترطين قالوا: يحتج به، وإن كان انقراض العصر
شرطا، كما يجب علينا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر
به، وإن جاز تبديله بنسخ، وذلك لأن الأصل عدم رجوعهم، ثم إذا
رجعوا فغايته أنهم اتفقوا على خطأ لم يقروا عليه.
(3/557)
[لا يشترط في المجمعين بلوغهم حد التواتر]
الأمر الثاني : لا يشترط في
المجمعين بلوغهم حد التواتر، خلافا للقاضي، بل يجوز
انحطاطهم عنه عقلا، ونقل ابن برهان عن معظم العلماء وعن طوائف
من المتكلمين، أنه لا يجوز عقلا.
وإذا جوزنا، فهل ينعقد الإجماع به؟ فذهب معظم العلماء إلى أنه
يكون حجة، كما قاله ابن برهان، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق،
وقال إمام الحرمين: يجوز، ولكن لا يكون إجماعهم حجة، فإن مأخذ
الخلاف مستند إلى طرد العادة، ومن لم يحسن استناد الإجماع
إليه، لم يستقر له قدم فيه1، ومأخذ الخلاف راجع إلى أن الإجماع
من دلالة العادة أو السمع، فمن أخذه من دلالة العقل، واستحالة
الخطأ بحكم العادة شرط التواتر، ومن أخذه من الأدلة السمعية
اختلفوا، فمنهم من شرطه، ومنهم من نفاه. وهو الصحيح؛ لأن صورة
الإجماع المشهود بعصمته عن الخطأ قد وجبت، فيترتب عليها حكمها.
وقال الهندي: المشترطون اختلفوا، فقيل: إنه لا يتصور أن ينقص
عدد المسلمين عن عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقيا.
ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور، لكن يقطع بأن من ذهب إليه
دون عدد التواتر سبيل المؤمنين؛ لأن إخبارهم عن إيمانهم لا
يفيد القطع، فلا يحرم مخالفته. ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن
يعلم إيمانهم بالقرائن، لا يشترط فيه ذلك، بل يكفي فيه الظهور.
لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفا عن دليل قاطع، وهو يوجب
كونه متواترا، وإلا لم يكن قاطعا، فما يقوم مقامه نقله
متواترا، وهو الحكم بمقتضاه، يجب أن يكون صادرا عن عدد
التواتر، وإلا لم يقطع بوجوده.
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/691.
(3/557)
فرع [إذا لم يبق إلا مجتهد واحد، فهل قوله
حجة كالإجماع]
وطرد الأستاذ قياسه، فقال: يجوز ألا يبقى في الدهر إلا مجتهد
واحد، ولو اتفق ذلك، فقوله حجة، كالإجماع، ويجوز أن يقال
للواحد: أمة، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ
أُمَّةً} [النحل: 120] ونقله الهندي عن الأكثرين.
قلت: وبه جزم ابن سريج في كتاب "الودائع"، فقال: وحقيقة
الإجماع هو القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد، فهو
إجماع، وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة. والحجة على أن الواحد
إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر لما منعت بنو حنيفة
الزكاة، فكانت بمطالبة أبي بكر لها بالزكاة حقا عند الكل، وما
انفرد بمطالبتها غيره. هذا كلامه، وخلاف كلام إمام الحرمين
فيه، وهو الظاهر؛ لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعدا،
ونقل ابن القطان عن أبي علي بن أبي هريرة أنه حجة.
وقال إلكيا: المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد
الواحد، والصحيح تصوره، وإذا قلنا به، ففي انعقاد الإجماع
بمجرد قول خلاف، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق. قال: والذي حمله
على ذلك أنه لم ير في اختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه، فسوى
بين العدد والفرد. وأما المحققون سواه فإنهم يعتبرون العدد، ثم
يقولون المعتبر عدد التواتر، فإذن مستند الإجماع مستند إلى طرد
العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول، وهو يستدعي وفور عدد من
الأولين، وهذا لا يتحقق فيما إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد
واحد، فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد.
قال : وينشأ من هذا خلاف في مسألتين
إحداهما : أن الصحابة إذا أجمعوا على قول وانفرد واحد منهم
بخلاف، والمجمعون عدد التواتر، فهل ينعقد الإجماع دونه؟ فقيل:
لا يعتد بخلاف الواحد. وهو مذهب ابن جرير. والصحيح أنه يعتد
بخلافه إن كان استناد الإجماع إلى قياس، إذ لا يبعد أن يقال:
الجماعة إذا ابتدروا أجلى القياس وظهر الواحد منهم بقياس غامض
يخالف فيه.
نعم. إن قطعوا في مظنة الظن، فأهل التواتر لا يقطعون في مظنة
الظن إلا
(3/558)
بقاطع، ثم ذلك القاطع لا بد وأن يظهر
للمخالف.
الثانية : أن إجماع أهل سائر الأعصار، هل يكون حجة؟ وفيه خلاف،
والأكثرون على التسوية بين إجماع الصحاب ومن عداهم، خلافا
لداود1.
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/690-691، الإحكام للآمدي 255.
2 انظر الإحكام في أصول الأحكام 4/566.
(3/559)
[لا يشترط
التواتر في نقل الإجماع]
الأمر الثالث : لا يشترط التواتر في نقله، بل يحتج بالإجماع
المروي بطريق الآحاد على المختار، وبه قال الماوردي، وإمام
الحرمين، والآمدي، ونقل عن الجمهور اشتراطه، وقد سبقت المسألة
في أوائل الباب عند كونه قطعيا أو ظنيا.
(3/559)
مسألة [قول القائل: لا أعلم فيه خلافا، هل
هو إجماع]
قول القائل: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا. قال الصيرفي:
لا يكون إجماعا، لجواز الاختلاف، وكذا قال ابن حزم في الإحكام.
وقال في كتاب الإعراب: إن الشافعي نص عليه في "الرسالة" وكذلك
أحمد بن حنبل. قال الصيرفي: وإنما يسوغ هذا القول لمن بحث
البحث الشديد، وعلم أصول العلم، وحمله، فإذا علم على هذا
الوجه، لم يجز الخروج منه؛ لأن الخلاف لم يظهر، ولهذا لا نقول
للإنسان عدل قبل الخبرة، فإذا علمناه بما يعلم به مسلم حكمنا
بعدالته، وإن جاز خلاف ما علمناه.
وقال ابن القطان: قول القائل: لا أعلم خلافا يظهر، إن كان من
أهل العلم فهو حجة، وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع
والاختلاف فليس بحجة
وقال الماوردي: إذا قال: لا أعرف بينهم خلافا، فإن لم يكن من
أهل الاجتهاد، وممن أحاط علما بالإجماع والاختلاف، لم يثبت
الإجماع بقوله، وإن كان من أهل الاجتهاد، فاختلف أصحابنا،
فأثبت الإجماع به قوم، ونفاه آخرون.
قال ابن حزم2: وزعم قوم أن العالم إذا قال: لا أعلم خلافا، فهو
إجماع، وهو قول فاسد، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي، إنا لا
نعلم أحدا أجمع منه لأقاويل أهل العلم، ولكن فوق كل ذي علم
عليم.
ـــــــ
2 انظر الإحكام في أصول الأحكام 4/566.
(3/559)
مسألة [تعريف الشذوذ]
اختلف في الشذوذ، وما هو؟ فقيل: هو قول الواحد، وترك قول
الأكثر، وقال أبو الحسين بن القطان: هو أن يرجع الواحد عن
قوله، فمتى رجع عنه سمي شاذا، كما يقال: شذ البعير عن الإبل
بعد أن كان فيها، يسمي شاذا، فأما قول الأقل فلا معنى لتسميته
شاذا؛ لأنه لو كان شاذا لكان قول الأكثر شاذا.
(3/560)
|