البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الفصل السادس في أحكام الإجماع
[حكم منكر الإجماع] وفيه بحثان :
الأول : في تحريم مخالفته وفيه مسألة واحدة، وهي أن من أنكر الإجماع، هل يكفر؟ وهو قسمان:
أحدهما : إنكار كون الإجماع حجة فينظر إن أنكر حجية الإجماع السكوتي، أو الإجماع الذي لم ينقرض أهل عصره، ونحو ذلك من الإجماعات التي اعتبر العلماء المعتبرون في انتهاضها حجة، فلا خلاف أنه لا يكفر، ولا يبدع، وإن أنكر أصل الإجماع، وأنه لا يحتج به، فالقول في تكفيره، كالقول في تكفير أهل البدع والأهواء.
والثاني : أن ينكر حكم الإجماع، فيقول مثلا: ليست الصلاة واجبة، وليس لبنت الابن مع الأم السدس فله أحوال:
أحدها : بأن يكون قد بلغه الإجماع في ذلك وأنكره، ولج فيه، فإن كانت معرفته ظاهرة كالصلاة كفر، أو خفية كمسألة البنت ففيه تردد. ثانيها: أن ينكر وقوع الإجماع بعد أن يبلغه، فيقول: لم يقع، ولو وقع لقلت به، فإن كان المخبر عن وقوعه الخاصة دون العامة، كمسألة البنت، فلا يكفر على الأظهر، وإن كان المخبر الخاصة والعامة كالصلاة كفر. وثالثها: أن لا يبلغه فيعذر في الخفي دون الجلي، إن لم يكن قريب العهد بالإسلام. وذكر جماعة من أصحابنا منهم البغوي في أوائل "التهذيب"، وإلكيا، وابن برهان، وابن السمعاني، وغيرهم تقسيم الإجماع إلى ثلاثة أقسام.
الأول : ما يشترك الخاصة والعامة فيه كأعداد الصلوات وركعاتها، والحج والصيام، وزمانهما وتحريم الزنى، والخمر والسرقة، فمن اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما انعقد عليه الإجماع فهو كافر؛ لأنه صار بخلافه جاحدا لما قطع من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار كالجاحد لصدقه. قال إلكيا ويكفر مخالفه من حيث إنه منقول عن الشرع قطعا، فإنكاره كإنكار أصول الدين.
والثاني : إجماع الخاصة فقط، وهو ما ينفرد بمعرفته العلماء كتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف، وتوريث الجدة السدس، ومنع

(3/566)


توريث القاتل، ومنع الوصية للوارث. فإذا اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما عليه الإجماع يحكم بضلاله وخطئه، ومعصيته بإنكار ما خالف. قال البغوي: ومنه أنه يجمع علماء كل عصر على حكم حادثة إما قولا أو فعلا، فهو حجة لكن لا يكفر جاحده، بل يخطأ ويدعى إلى الحق، ولا مساغ له فيه لاجتهاد. ا هـ. وهو ظاهر؛ لأن هذا إجماع ظني، لا قطعي. لكن حكى الأستاذ أبو إسحاق خلافا فيمن جحد مجمعا عليه غير معلوم بالضرورة، هل يكفر؟ فقال: فيه وجهان مبنيان على أن ما أجمع عليه الخاصة والعامة، هل العامة مقصودة؟ وجهان: فعلى الأول لا يكفر؛ لأنه لم يخالف جميع المعصومين في الإجماع، وعلى الثاني يكفر وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق، وأطلق الرافعي القول بالكفر بجحود الحكم المجمع عليه. واستدرك عليه النووي، وفصل بين أن يكون فيه نص، وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام فكافر، وإن اختص بمعرفته الخاصة فلا، وبين أن يكون ظاهرا لا نص فيه، ففي الحكم بتكفيره خلاف، وصحح في باب الردة فيه القول بالتكفير.
وما جزم به النووي من التكفير في القسم الأول فيه خلاف، أشار إليه الرافعي في باب حد الشرب، فقال: من استحل شرب الخمر كفر، للإجماع على تحريمه، ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير المستحل فقال: كيف يكفر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع، وإنما نبدعه ونضلله. وأول ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع، ثم حلله، فإنه يكون رادا للشرع. قال الرافعي: وهذا أوضح فليحرر. مثله في سائر ما حصل بالإجماع على افتراضه فنفاه، أو تحريمه فأثبته. ا هـ.
والذي قاله الإمام في "البرهان": أن من اعترف بالإجماع، وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما أجمعوا عليه، كان هذا التكذيب آيلا إلى تكذيب الشارع ومن كذب الشارع كفر.
والقول الضابط فيه : أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم يكفر، ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم جحده، كان منكرا للشرع. وإنكار بعضه كإنكار كله1. وقال الشيخ أبو محمد الجويني في ديباجة كتابه "المحيط" في إنكار إجماع الخاصة:
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/724-725.

(3/567)


إن كان من العلماء فهو مرتد؛ لأنه لا يخفى عليه، وإن كان من العوام ففي الحكم بردته وجهان، وعليهما نقتله. لكن على الثاني نقتله حدا، وعلى الأول للردة.
وقال الإمام أبو الفضل الفزاري فقيه الحرم: من جحد أصلا مجمعا عليه كفر. وقال إمام الحرمين: لا يكفر إلا بما اشترطنا في الإسلام إذا أنكره.
وقال أبو الحسين السهيلي في أدب الجدل: الأقرب أن ينظر في المخالف للإجماع، فإن كان لا يعتقد كونه حجة فإنه يخطأ، ويفسق، ولا يكفر، وإن كان يعتقد أنه حجة، فإن ثبت الإجماع بالتواتر فهو كافر؛ لأنه مقر على نفسه بالمعاندة، وإن ثبت بالآحاد فإنه مخطئ أو فاسق.
واعلم أن كلام الآمدي، وابن الحاجب في هذه المسألة في غاية القلق، فإنهما حكيا مذاهب في منكر حكم الإجماع القطعي، ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر، وهذا يقتضي أن له قولا بالتكفير في الأمر الخفي، وقولا بعدمه في نحو العبادات الخمس وليس كذلك.
وعبارة الهندي في "النهاية" هنا في غاية الحسن، فإنه قال: جاحد الحكم المجمع عليه من حيث إنه مجمع بإجماع قطعي لا يكفر عند الجماهير خلافا لبعض الفقهاء وإنما قيدنا بقولنا: "من حيث إنه مجمع عليه" لأن من أنكر وجوب الصلوات الخمس ونحوها يكفر، وهو مجمع عليه، لكن لا لأنه مجمع عليه، بل لأنه معلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما قيدنا بالإجماع القطعي، لأن جاحد حكم الإجماع الظني لا يكفر وفاقا. انتهى.
وقال أبو العباس القرطبي - رحمه الله -: الحق في هذه المسألة التفصيل، فإن قلنا: إن أدلة الإجماع ظنية، فلا شك في نفي التكفير؛ لأن المسائل الظنية اجتهادية، ولا نكفر فيها بالاتفاق، وإن قلنا قطعية، فهؤلاء هم المختلفون في تكفيره، والصواب أن لا يكفر، وإن قلنا: إن تلك الأدلة قطعية متواترة؛ لأن هذا لا تعم معرفته كل أحد بخلاف من جحد سائر المتواترات، والتوقف عن التكفير أولى من الهجوم عليه، فقد قال عليه السلام: "من قال لأخيه يا كافر، فقد باء أحدهما، فإن كان كما قال وإلا جاءت عليه" 1. ا هـ.
وقد قال ابن دقيق العيد: أما من قال: إن دليل الإجماع ظني، فلا سبيل
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، حديث 6103.

(3/568)


إلى تكفير مخالفه كسائر الظنيات، وأما من قال: إن دليله قطعي، فالحكم المخالف فيه إما أن يكون طريق إثباته قطعيا أو ظنيا. فإن كان ظنيا، فلا سبيل إلى التكفير، وإن كان قطعيا، فقد اختلفوا فيه ولا يتوجه الخلاف فيما تواتر من ذلك عن صاحب الشرع بالنقل، فإنه يكون تكذيبا موجبا للكفر بالضرورة، وإنما يتوجه الخلاف فيما حصل فيه الإجماع بطريق قطعي، أعني أنه ثبت وجود الإجماع به إذا لم ينقل أهل الإجماع الحكم بالتواتر عن صاحب الشرع، فتلخص أن الإجماع تارة يصحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع وتارة لا.
فالأول لا يختلف في تكفيره، والثاني قد يختلف فيه. فلا يشترط في النقل عن صاحب الشرع لفظ معين، بل قد يكون ذلك معلوما بالقطع بأمور خارجة عن الحصر، كوجوب الأركان الخمسة. فتنبه لهذا، فقد غلط فيه من يعتقد في نفسه، ويعتقد من المائلين إلى الفلسفة، حيث حكم بكفر الفلاسفة لإنكارهم علم البارئ عز وجل بالجزئيات، وحدوث العالم، وحشر الأجساد، فتوهم هذا الإنسان أن يخرج على الخلاف في مخالف الإجماع، وهو خطأ فاحش، لأن هذا من القسم الذي صحب التواتر فيه الإجماع تواترا قطعيا معلوما بأمور غير منحصرة. ا هـ.
وكأنه يريد ابن رشد، فإن له كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال ورد على الغزالي في تكفير الفلاسفة في ذلك.

(3/569)


المبحث الثاني : فيما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد
...
فيما يعد خرقا للإجماع وما لا يعد
وفيه مسائل :

(3/570)


المسألة الأولى: هل يجوز أن يجمع على شيء سبق خلافه؟
وفيه ثلاثة أحوال :
إحداها : في انعقاد الإجماع بعد الإجماع على شيء سبق خلافه وفيه مسألتان :
إحداهما : أن يكون من المجمعين كما لو أجمع أهل عصر على حكم، ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع، وأجمعوا عليه، ففي جواز الرجوع خلاف مبني على اشتراط انقراض العصر في الإجماع. فمن اعتبره جوز ذلك، ومن لم يعتبره - وهو الراجح - لم يجوزه، وكان إجماعهم الأول حجة عليهم وعلى غيرهم.
الثانية: أن يكون من غيرهم، فمنعه الأكثرون أيضا، وإلا لتصادم الإجماعان، وجوزه أبو عبد الله البصري. قال الإمام الرازي: وهو الأولى؛ لأنه لا امتناع في إجماع الأمة على قول يشترط أن لا يطرأ عليه إجماع آخر، ولكن لما اتفق أهل الإجماع على أن كل ما أجمعوا عليه، فإنه يجب العمل به في كل الأعصار أمنا من وقوع هذا الجائز، فعدم الجواز عنده مستفاد من الإجماع الثاني لا من الإجماع الأول، وعند الجماهير هو مستفاد من الإجماع الأول من غير حاجة إلى الإجماع الثاني.
والحاصل: أن نفس كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف بعده عند الجماهير، وعند البصري لا يقتضي ذلك، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية إمكان حصول إجماع آخر. قال الهندي: وعند هذا ظهر أن مأخذ أبي عبد الله البصري قوي. قيل اتفقوا على أنه لم يقع. وما ذكر من قول الشافعي: أجمعوا على رد شهادة العبد، وما روي عن أنس أجمعوا على قبولها، فالذي نقل عن أنس لم يصح عنه، وكذا قولنا: أجمعوا على القول بالقياس، وقول ابن حزم: "أجمعوا على بطلان القياس" مردود.

(3/570)


وحكى أبو الحسين السهيلي في كتاب "أدب الجدل" له في هذه المسألة خلافا غريبا فقال: إذا أجمعت الصحابة على قول، ثم أجمع التابعون على قول آخر، فعن الشافعي - رحمه الله - جوابان. أحدهما: - وهو الأصح - أنه لا يجوز وقوع مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على الضلالة. والثاني: لو صح وقوعه، فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة؛ لأنا لما وجدناهم مجمعين على قول واحد، علمنا كونهم مجمعين فيه، فلم يجز تركه بما يتحقق كونه حقا، وقيل: إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب، وليس بشيء.
الحالة الثانية : في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف بأن يختلف أهل العصر على قولين في مسألة لم يقع الإجماع منهم على أحدهما. والتفريع على جواز صدوره عن الاجتهاد كما قاله إلكيا، فللخلاف حالتان:
إحداهما : أن لا يستقر، بأن يكون المجتهدون في مهلة النظر، ولم يستقر لهم قول، كخلاف الصحابة لأبي بكر - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة، وإجماعهم بعد ذلك. قال الشيخ في "اللمع": صارت المسألة إجماعية بلا خلاف1. وحكى الهندي تبعا للإمام أن الصيرفي خالف في ذلك، ولم أره في كتابه، بل ظاهر كلامه يشعر بالوفاق في هذه المسألة.
والثانية : أنه يستقر، ويمضي أصحاب الخلاف عليه مدة، وفيه مسائل
إحداها : إذا اختلف أهل العصر على قولين، فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الاتفاق على أحد القولين، والمنع من المصير إلى القول الآخر؟ فيه خلاف، وبتقدير وقوعه، هل يصير إجماعا متبعا أم لا؟ اختلفوا فيه بناء على مسألة انقراض العصر في الإجماع، فإن اشترطناه جاز وقوعه قطعا، وكان حجة، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي؛ ولأن اختلافهم على قولين ليس بأكثر من إجماعهم على قول واحد، فإذا جاز الرجوع في الواحد المتفق عليه، ففي المختلف فيه أولى. والشرط كما قاله ابن كج: أن يرجع الجميع من قبل أن ينقرض منهم واحد، وإن لم يشترط، ففيه مذاهب:
أحدها : المنع مطلقا كما لو اتفقوا على قول، ثم رجعوا بأسرهم، ولتناقض الإجماعين، وبه قال القاضي أبو بكر، وإليه ميل الغزالي وغيره، ونقله ابن برهان في "الوجيز" عن
ـــــــ
1 انظر اللمع ص: 51.

(3/571)


الشافعي، وبه جزم الشيخ في "اللمع". والثاني: عكسه، ونقله إمام الحرمين عن أكثر الأصوليين، واختاره الآمدي، والرازي. والثالث: الجواز فيما دليل خلافه الإمارة والاجتهاد، دون ما دليل خلافه القاطع عقليا كان أو نقليا. وقال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إن كان الخلاف فيما طريقه التأثيم والتضليل، جاز الإجماع بعد ذلك، وإن كان في مسائل الاجتهاد في الفروع جاز أيضا، لكن لا يجوز أن يجزموا معه بتحريم الذهاب إلى الآخر؛ لأنه يؤدي إلى كون أحد الإجماعين خطأ. ومنهم من أحاله قطعا. والرابع: يخرج من كلام إمام الحرمين في مسألة الانقراض: إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فهو إجماع، وإن تمادى الخلاف في زمن طويل، ثم اتفقوا فليس بإجماع، والمختار: أنه يجوز وقوعه، وأنه حجة.
ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحابنا على أنه حجة مقطوع بصحته، ويخرج من كلام الماوردي والروياني طريقة قاطعة به، فإنهما جزما بالجواز، وقالا: يرتفع به الخلاف السابق، ثم قالا: وفيه وجهان، أحدهما: أنه آكد من إجماع لم يتقدمه خلاف؛ لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه. والثاني: أنهما سواء؛ لأن الحق مقترن بكل منهما.
ومنهم من نقل هاهنا عن الصيرفي أنا إذا لم نشترط انقراض العصر لا يكون إجماعا، لتقدم الإجماع منهم على تسويغ الخلاف، وبه جزم القاضي عبد الوهاب فيما نقل عنه أيضا، وقد استشكلها الغزالي من حيث إن الإجماع الأول قد تم على تسويغ الخلاف، ثم الاتفاق الثاني قد منع الخلاف، فقد تناقص الإجماعان. وفرق بينهما وبين ما إذا كان الاتفاق من أهل العصر الثاني. فإن المخالفين في هذه المسألة المتفقون عليها بخلاف تلك، وقد رأى أن المخلص في ذلك الحكم بإحالة وقوع هذه المسألة للتناقض المذكور.
وقد أورد عليه أن ذلك ليس بمحال، فقد وقع في قضية خلافة الصديق رضي الله عنه، فإنهم اختلفوا، فقال الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير ثم أجمعوا عليها، فكان إجماعا صحيحا، ويجاب بأن ذلك لم يكن بعد استقرار الخلاف بل لم يتم النظر، ثم لما تم وتبين أجمعوا، وصورة المسألة إنما هي بعد استقرار الخلاف، وعلى هذا فالظاهر بحثا ما قاله الغزالي.
إذا عرف هذا، فلو اختلفوا ثم ماتت إحدى الطائفتين، أو ارتدت - والعياذ بالله - وبقيت الطائفة الأخرى على قولها، فهل يعتبر قول الباقين إجماعا وحجة،

(3/572)


فقولان، حكاهما الأستاذ أبو إسحاق،
واختار الرازي، والهندي أنه يعتبر مجمعا عليه، لا بالموت والكفر، بل عندهما لكونه قول كل الأمة، وذكر ابن الحاجب في الكلام على اتفاق العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول، وحكى عن الآخرين أنه لا يكون إجماعا، وذكر الآمدي نحوه.
قلت: وصححه القاضي في "التقريب" قال: لأن الميت في حكم الباقي الموجود، والباقون من مخالفيه هم بعض الأمة لا كلها، وقال في "المستصفى": إنه الراجح، وجزم الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب "عيار الجدل"، وكذا الخوارزمي في الكافي "، قال: لأنه بالموت لا يخرج عن كونه من الأمة.
ونقل أبو الحسين السهيلي في "أدب الجدل" الخلاف في هذه المسألة ثم قال: وقال بعضهم - وهو أقوى الطرق -: إن هذه المسألة مبنية على أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين، ثم أجمع التابعون على أحدهما، فقيل: يصير إجماعا، وفيه قولان: فإن قلنا: يصير، فكذلك هاهنا، وإن قلنا بالمنع ثم فكذلك هاهنا؛ لأن خلاف من مات لا ينقطع.
وفي المسألة مذهب ثالث حكاه أبو بكر الرازي، إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة؛ لأن الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان، وقد شهدت ببطلان قول المنقرضة، فوجب أن يكون قولها حقا، وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعا لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف. قال: وهذا منه بناء على أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع الخلاف المتقدم إذا كان طريقه اجتهاد الرأي.
الثانية : أن يموت بعضهم ويرجع من بقي إلى أحد القولين . قال ابن كج: فيه وجهان. أحدهما: أنه إجماع، وبه قال أهل العراق؛ لأنهم أهل العصر.
والثاني: المنع؛ لأن الصديق رضي الله عنه - جلد في حد الخمر أربعين، ثم أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم على ثمانين في زمن عمر رضي الله عنه. فلم يجعلوا المسألة إجماعا؛ لأن الخلاف كان قد تقدم، وقد مات من قال بذلك، وإن كان فيهم من رجع إلى قول عمر رضي الله عنه،
الثالثة : أن ينقرضوا على خلافهم ، فقد حصل الإجماع منهم على أن الحق لم يخرج عن القولين، وعلى تسويغ الاجتهاد في طلب الحق بين القولين، بل جواز تقليد كل واحد من الفريقين، ثم قال بعض أصحابنا: هو إجماع مبين، وقال بعضهم:

(3/573)


بشرط أن لا يظهر على أحد القولين دليل مقطوع به فهل لمن بعدهم الإجماع على أحد ذينك القولين؟ فيه قولان للشافعي رحمه الله، كما قاله أبو الحسين السهيلي في "أدب الجدل". وأصحهما امتناعه، وكأنه حاضر، وليس موته مسقطا لقوله، فيبقى الاجتهاد، ولا يخرج الخلاف، وهو أصح الوجهين عند أصحابنا، ونصره الصيرفي في الدلائل،
ونقله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ عنه عن ابن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وأبي حامد المروزي. ونقله الأستاذ أبو منصور عن الصيرفي وأكثر أصحاب الشافعي، وذكر الشيخ أبو إسحاق أنه قول عامة أصحابنا، وقول الشيخ أبي الحسن الأشعري1. ونقله القاضي في "التقريب" عن جمهور المتكلمين والفقهاء، قال: وبه نقول، وقال سليم الرازي: إنه قول أكثر أصحابنا، وأكثر الأشعرية، وكذا قال ابن السمعاني. وقال إمام الحرمين: إليه ميل الشافعي، قال: ومن عباراته الرشيقة: المذاهب لا تموت بموت أربابها، أي فكان الخلاف باقيا، وإن ذهب أهله2.
وقال إلكيا، وابن برهان: ذهب الشافعي إلى أن حكم الخلاف لا يرتفع. قلت: وهو يباين ما سبق عن الشافعي من امتناعه في العصر الواحد، فهاهنا، وقال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص: إنه أصح قولي الشافعي، وهو الذي نصره ابن القطان، ونقل أنهم قالوا: إنه مذهب الشافعي رضي الله عنه، أنه قال: حد الخمر أربعون؛ لأنه مذهب الصديق رضي الله عنه، وقد أجمعوا بعد هذا على أن حده ثمانون؛ لأنهم قالوا: نرى أنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وقد أجمعوا على هذا، ولم نعده إجماعا؛ لسبق خلاف الصديق رضي الله عنه.
قلت: ولا يشكل على ذلك أنه نقض في الجديد قضاء من حكم ببيع أمهات الأولاد لأجل اتفاق التابعين بعد خلاف الصحابة، فعد إجماعا، فإنه إنما اعتبر في ذلك إجماع الصحابة؛ لأنهم كانوا أجمعوا على المنع، وكان علي رضي الله عنه فيهم، وانقراض العصر ليس بشرط، واختاره الإمام والغزالي.
والثاني : أنه جائز، وبه قال أكثر الحنفية، منهم: محمد بن الحسن، وأبو يوسف، والكرخي. قال محمد بن الحسن في قاض حكم ببيع أم الولد بعد موت مولاها: إني أبطل قضاءه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانت اختلفت فيها، ثم أجمع بعد ذلك
ـــــــ
1 انظر اللمع ص: 52.
2 انظر البرهان 1/715.

(3/574)


قضاة المسلمين وفقهاؤهم على أنها لا تباع.
قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول أصحاب الرأي، وأكثر المعتزلة، والحارث بن أسد المحاسبي، وأبي علي بن خيران، وكذا حكاه عنهما القفال الشاشي في كتابه، وقال: إنه الأصوب، واختاره الإصطخري، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والرازي، وأتباعه. ونقله إلكيا عن الجبائي وابنه، وأبي عبد الله البصري.
وفي المسألة قول ثالث حكاه أبو بكر الرازي، إن كان خلافا يؤثم فيه بعضهم بعضا كان إجماعا، وإلا فلا.
التفريع : إن قلنا بالامتناع، فقال الصيرفي: يكون منزلة المجمعين من التابعين منزلة من وافق الصدر الأول، وللناس أن ينظروا أي الفريقين أصوب ولا يسقط النظر أبدا مع وجود المخالف.
وإن قلنا بالجواز، فقال أكثرهم: هو حجة، يرتفع به الخلاف السابق، وتصير المسألة إجماعية، وليس لمن بعدهم أن يخالفوهم، وقيل: لا يكون حجة. ونقل ابن القطان عن قوم أنه ليس بإجماع إلا أن يكون لهؤلاء مزية على أولئك. ثم قرره بأن هذا القائل هل يرى أن هذا القول أصح لانفراده في العصر؟ وإذا كان منفردا في العصر وجب أن يكون الاعتبار له.
قال أبو الحسين بن القطان: وليس هذا بشيء إلا على طريقة له في القديم، وهي أنه إذا اختلفت الصحابة على قولين أخذ بقول الأكثر، فأما المشهور من مذهبه، فإنه لا فرق بين العدد الكثير والقليل؛ ونحوه ما حكاه الصيرفي عن قوم أن إجماع التابعين دل على الصواب من أقاويل المختلفين،
والحق أنه لا يبلغ مبلغ الإجماع القطعي، ولكنه إجماع مظنون، فإن مراتب الإجماع متفاوتة، وإليه يشير كلام إمام الحرمين، وقد صرح الحنفية بأنه مراد في مراتب الإجماع. حكاه أبو زيد في "التقويم".
وصورة المسألة عند الغزالي ما إذا لم يصرح المانعون بتحريم القول الآخر، فإن صرحوا بتحريمه، فقد تردد، أعني الغزالي. هل يمنع ذلك أو لا؟ ولا يجب اتباعهم فيه، هذا في الجواز.
وأما الوقوع، فظاهر ما سبق عن الشافعي في حد الخمر وقوعه. وقال ابن الحاجب: الحق في مثل هذا الإجماع أنه بعيد وقوعه؛ لأنه غالبا لا يكون إلا عن جلي، وتبعه غفلة المخاطب عنه، لكن وقع قليلا، والوقوع قليلا لا ينافي البعد، كما

(3/575)


لا خلاف في بيع أم الولد فإنه وقع بين الصحابة، ثم زال.
ونقل عبد الوهاب في "الملخص" عن الصيرفي أنه أحال ذلك، وقال: لا يجوز أن يتفق للتابعين الإجماع على أحد قولي الصحابة، فلا يؤدي إلى تعارض الإجماعين، وكون أحدهما خطأ؛ لأن اختلافهم على قولين إجماع على تسويغ الذهاب ورأي كل منهما.
قلت: وكذا رأيته في كتابه، فقال بعد أن قرر أنه ليس بإجماع: على أني لا أعلم خلافا وقع في الصحابة منتشرا فيهم، ثم وقع من التابعين الإجماع على أحد القولين، إلا أن يكون ناقله من جهة الآحاد، فهذا لا يترك له ما قامت عليه الدلالة من قول من سلف. ا هـ. وقال إلكيا: ذهب قوم إلى أن هذا النوع لا يتصور، وإليه ميل إمام الحرمين1، والذين أحالوا تصوره اختلفوا فيه على ثلاثة أنحاء، فقيل: لأن إجماع التابعين لا يحتج به. وقد تقدم أن الصحيح خلافه، وإن لم يكن إجماع التابعين حجة لم يكن لهذا الخلاف معنى. وقيل: لأن الإجماع لا يصدر إلا عن اجتهاد، والاختلاف على قولين يقتضي صدور الأقوال عن اجتهاد، وقد تقدم ما فيه.
وقال الإمام: واستحالة تصوره من حيث إنه إذا تمادى الخلاف في زمان متطاول، بحيث يقتضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين مع طول المباحثة، لظهر ذلك للباحثين، فإذا انتهى الأمر إلى هذا انتهى، ورسخ الخلاف، وتناهى الباحثون، ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو أثر يجب الحكم به، فلا يقع في العرف. [دروس مذهب طال الذب عنه]. فإن فرض فارض ذلك، فالإجماع محمول على بلوغ خبر يجب بمثله سوى ما كانوا خائضين فيه من مجال الظنون.
قال إلكيا: وما ذكره الإمام مخيل، لكن جوابه سهل، فإنا نرى أهل كل عصر يظهرون مذهبا غير الذي عهده من تقدمهم في العصور الخالية مع أن النظم يحتمله وغيره، وإذا ثبت أنه متصور انبنى عليه أن الإجماع هل يزيل الحكم السابق أم لا؟ قال إلكيا: وهذه المسألة يلاحظ في مجاريها أصل تصويب المجتهدين.
قلت: وطريقة رابعة لهم في الإحالة وهي عليهم، فقوله هنا: إذا وجد إجماع
ـــــــ
1 انظر البرهان 1/713.

(3/576)


بعد اختلاف، فلا بد أن يكون هناك خلاف، وإن لم يبلغنا، وإلا لأدى إلى تعارض الإجماعين، ذكره عبد الوهاب.
الحالة الثالثة : في حدوث الخلاف بعد تقدم الإجماع . قال الروياني في "البحر": فإن كان في عصر واحد، مثل أن يتقدم إجماع الصحابة، ثم يحدث من أحدهم خلاف، فهذا الخلاف الحادث يمنع انعقاد الإجماع، يعني إن شرطنا انعقاد العصر، وإلا فلا.
وإن كان في عصرين، كإجماع الصحابة، وخلاف التابعين لهم، فهو ضربان. أحدهما: أن يخالفوهم مع اتفاق الأصول في المجمع عليها، فهذا الخلاف الحادث مطروح، والإجماع الأول منعقد. ثانيهما: أن يحدث في المجمع عليه صفة زائدة أو ناقصة، فيحدث الخلاف فيها لحدوث تلك الصفة، فيكون الإجماع في الصفات المختلفة منعقدا، وحدوث الاختلاف في الصفات المختلفة سائغ عند الشافعي وجمهور العلماء.
وقال داود وبعض أهل الظاهر: يستصحب حكم الإجماع، واختلاف الصفة الحادثة لا ينتج الحكم فيها إلا بدليل قاطع، وجعلوا استصحاب الحال حجة في الأحكام. مثاله: أن ينعقد الإجماع على إبطال التيمم برؤية الماء قبل الصلاة، فإذا رأى الماء في الصلاة أبطلوا تيممه استصحابا لبطلانه قبل الصلاة من غير أن يجمعوا بينهما بقياس، وهذا فاسد، ولكل حادث حكم يتجدد، وإنما يكون الإجماع حجة في الحال التي ورد فيها لا في غيرها، إلا أن يكون القياس موجبا لاستصحاب حكمه، فإن الإجماع أصل تجويز القياس عليه، فيكون القياس هو الذي أوجب استصحاب حكم الإجماع لا الإجماع. ا هـ.
وذكر القفال في كتابه قريبا من هذا التفصيل، وقال في "القواطع": إذا حدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد، فهو على ضربين. أحدهما: أن يكون المخالف لم يوافق قبل على خلافه، فيصح خلافه، ولا ينعقد مع خلافه الإجماع، كما خالف ابن عباس في العول مع إجماع غيره. والثاني: أن يكون وافقهم ثم خالفهم، كخلاف علي في بيع أمهات الأولاد بعد اتفاقه مع عمر وسائر الصحابة في تحريم بيعهن. فمن جعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع أبطل الإجماع بخلافه؛ لحدوثه قبل استقراره، ومن لم يجعله شرطا أبطل خلافه بعد إجماعهم.
ثم قال: الاختلاف بعد الإجماع إن كان في عصر انبنى على أن انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا؟ فإن قلنا: شرط، جاز الاختلاف؛

(3/577)


لأن الإجماع لم ينعقد، وإن قلنا: ليس بشرط، فلا يجوز فأما في العصرين، وذلك بأن يجمع الصحابة على شيء، ثم يختلف التابعون فلا يجوز ذلك، ويكون خلافه معاندة ومكابرة.

(3/578)


المسألة الثانية :
إذا أجمعوا على شيء وخالفهم من كفرناهم بالتأويل فلم يعتد بخلافهم لذلك، ثم إنهم رجعوا إلى الحق، وأقاموا على الخلاف الذي كان بينهم وبين المؤمنين أيام كفرهم. قال القاضي في "التقريب": ينبني على مسألة انقراض العصر، فإن اعتبرناه لم يكن إجماعا؛ لأن عصر المؤمنين لم ينقرض على القول، حتى يرجع الكافرون إلى الحق كما للمؤمنين إن رجعوا.
وإن قلنا: لا يعتبر، وهو الأصح، قال القاضي: فالواجب كونه إجماعا؛ لأنه قول جميع المؤمنين قبل إيمان هؤلاء المتأولين، وعلى هذا فلا يعتد بخلاف من أسلم من سائر الكفار، وبلغ رتبة الاجتهاد إذا خالف من قبله؛ لأنه إجماع على إجماع سبق خلافه، وكذلك قال الصيرفي في الدلائل: إذا أجمعت الأمة، ثم أسلم كافر، وبلغ صبي، لم يكن له منازعة معهم، وإنما عليه الاتباع، وهو واضح إن لم يشترط انقراض العصر، والحق أن تبنى المسألة على انقراض العصر فإن قلنا باشتراطه اعتد بقوله، وإلا فلا.

(3/578)


المسألة الثالثة :
قد مر أن الإجماع إذا انعقد على شيء لم يجز مخالفته. وأما إذا استدلوا بدليل على حكم أو تأويل لفظ ولم يمنعوا من غيره جاز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول، ولا إبطاله، ولا يكون ذلك خرقا لإجماعهم؛ لأنه قد يكون على الشيء أدلة، فيجوز أن يستدلوا بدليل، ثم آخر يدل على الحكم أيضا. قاله الصيرفي، وسليم، وابن السمعاني، وغيرهم، وحكاه ابن القطان عن أكثر أصحابنا، وإنما الإجماع والاختلاف في الفتوى، فأما في الدلالة فلا يقال له إجماع؛ لأن الأدلة لا يضر اختلافها.
قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم، ويكون إجماعا على الدليل، لا على الحكم. والأصح هو الأول؛ لأن المطلوب من الأدلة

(3/578)


المسألة الرابعة :
إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ فيه مذاهب 1:
الأول : المنع مطلقا، وهو كاتفاقهم على أن لا قول سوى هذين القولين. قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول الجمهور، وقال إلكيا: إنه الصحيح، وبه الفتوى، وقال ابن برهان: إنه مذهبنا، وجزم به القفال الشاشي في كتابه، والقاضي أبو الطيب، وكذا الروياني، والصيرفي، ولم يحكيا مقابله إلا عن بعض المتكلمين. قال الصيرفي: وقد رأيته موجودا في فتيا بعض الفقهاء من المتأخرين، فلا أدري أكان قال هذا مناقضة، أو غلطا، أو كان يذهب إلى هذا المذهب. وكذلك ابن القطان، لم يحك مقابله إلا عن داود، فقال: إذا اختلف الناس في حد السكر، فقيل: ثمانون، وقيل: أربعون، فهو إجماع على نفي ما عداهما، وقال داود: لا يكون هذا إجماعا؛ لأنها قد وقعت مخالفة، فيجب أن يكون حكم الله فيها الاختلاف. قال: وهذا ليس بشيء؛ لأن الموضع الذي اختلفوا فيه غير الذي اتفقوا عليه.
وقال صاحب "الكبريت الأحمر": هو مذهب عامة الفقهاء، ونص عليه الشافعي - رحمه الله في رسالته "، وكذا ذكره محمد بن الحسن في نوادر هشام "؛ لأنه عد الأصول، وعد في جملتها اختلاف الصحابة.
والثاني : الجواز مطلقا. قال القاضي أبو الطيب: رأيت بعض أصحاب أبي حنيفة يختاره وينصره ونقله ابن برهان، وابن السمعاني عن بعض الحنفية، والظاهرية، ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود. قال: ثم ناقض فشرط الولي في صحة
ـــــــ
1 انظر الإحكام لابن حزم 1/507، اللمع ص: 52، المنخول ص: 320، المستصفى.

(3/580)


عقد البكر دون الثيب، مع أن الخلاف هل يلزم فيهما، أو لا يلزم فيهما؟ وأنكر ابن حزم على من نسبه لداود، وإنما قال كلاما معناه: أن القولين إذا رويا، ولم يصح أنهم أجمعوا عليهما، ولم يرد عن جماعة منهم أو واحد إنكار ولا تصويب، أن لمن جاء بعدهم أن يأتي بقول ثالث يدل عليه النص أو الإجماع، فهذا ما قاله أبو سليمان، فكيف يسوغ أن ينسب هذا إليه، وهو يقول: إن الأمة إذا تفرقت على قولين، وكانت كل طائفة منهم قد قرنت بقولها في تلك المسألة مسألة أخرى، فإنه ينبغي أن يحكم لتلك المسألتين بحكم واحد، فإن صحت إحدى المسألتين فالأخرى صحيحة، ولذلك حكم بالتحليف بمكة عند المقام لإجماع القائلين بذلك على التحليف عند المنبر، فيصح وجوبه عند الزحام بمكة.
قال ابن حزم: وهذا القول وإن كنا لا نقول به، فقد قاله أبو سليمان، وأردنا تحرير النقل عنه، وإنما قال: إن الخلاف إذا صح فالإجماع على بعض تلك الأقوال المختلف فيها لا يصح أبدا، وصدق في ذلك.
وهذا كالخلاف في حد شارب الخمر، قيل: لا حد عليه، وقيل: أربعون، وقيل: ثمانون. فهذا لا ينعقد عليه إجماع أبدا.
والثالث : وهو الحق عند المتأخرين أن الثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه، وإلا جاز، وكلام الشافعي في "الرسالة" يقتضيه، حيث قال في أواخرها1: القياس تقدم الأخ على الجد، لكن صدنا عن القول به أني وجدت المختلفين مجتمعين على أن الجد مع الأخ مثله أو أكثر حظا منه، فلم يكن لي عندي خلافهم، ولا الذهاب إلى القياس، والقياس مخرج من جميع أقاويلهم. ا هـ. وإنما منعه؛ لأن في إحداث قول ثالث رفعا للإجماع، وأما حيث لا رفع فتصرفه يقتضي جوازه، وقضية كلام الهروي في "الإشراف" أنه مذهب الشافعي، فإنه قال: ومن لفق من القولين قولا على هذا الوجه لا يعد خارقا للإجماع كما ذكرنا في وطء الثيب، هل يمنع الرد بالعيب؟ تحزبت الصحابة حزبين: ذهبت طائفة إلى أنه يردها، ويرد معها عقرها، وذهب حزب إلى أنه لا يرد، فأخذ الشافعي في إسقاط العقر بقول حزب، وفي تجويز الرد بقول حزب، ولم يعد ذلك خرقا للإجماع. ا هـ.
ولعله مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد إجماع سابق على خلافه. فإن
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 595.

(3/581)


قلنا بالجواز، كما ذهب إليه البصري، فالظاهر الجواز، لكنه لا يقع. وقد اعترض بعض الحنفية على اختيار الثالث، وقال: لا معنى له؛ لأنه لا نزاع في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا، والخصم يستلزم هذا، لكن يدعي أن القول الثالث يستلزم إبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور، إما في صورة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد، وإما في مجموع المسألتين في مسألة الزوج، والزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت، وهو ثلث الكل في كليهما، أو ثلث الباقي في كليهما. فثلث في أحدهما دون الآخر خلاف الإجماع. قال: فالشأن في تمييز صورة يلزم منها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم ذلك، فلا بد من ضابط، وهو أن القولين إن اشتركا في أمر هو في الحقيقة واحد، وهو من الأحكام الشرعية، فحينئذ يكون الثالث مستلزما لإبطال الإجماع وإلا فلا، وعند ذلك فالمختلف فيه إما حكم يتعلق بمحل واحد، كمسألة الجد مع الإخوة والعدة، أو متعدد. فإن كان الثابت عن البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى، وعند البعض عكس ذلك، كمسألة الخروج والمس، فإن القول بأن كلا منهما ناقض أو ليس بناقض، لا يكون خلاف الإجماع.
تنبيهات
الأول : ذكر القولين مثال، فالثلاثة وأكثر كذلك، كما قاله الصيرفي، ومثله بأقوالهم في الجد. قال: فلا يجوز إحداث قول سوى ما تقدم؛ لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذه الأقوال.
الثاني : أن الصيرفي أيضا فرض المسألة في اختلاف الصحابة، فقد توهم التفصيل بين ما أجمع على أنه حجة فيمتنع فيه الإحداث دون غيره، وليس ببعيد.
الثالث : أنه نبه أيضا على تصورها بالاختلاف المستفيض فيهم. قال: فأما ما حكى من فتوى واحد، ولم يستفض قوله، فيجوز الخروج عنه إلى ما أيده دليل، ويخرج منه مذهب آخر مفصل بين الإجماع السكوتي وغيره.
الرابع : قال العبدري: إنما يصح فرض هذه المسألة على مذهب من يجوز الإجماع عن اجتهاد وقياس، وعلى أن تكون اجتهادية يتجاذبها أصلان، فيجمع الصحابة على أنه يجوز أن يلحق بهذا الأصل، فيكون حلالا، ويجوز أن يلحق بهذا الأصل، فيكون حراما، فإذا لم ينقرض إلا على هذا الوجه، فإحداث قول ثالث ورابع وأكثر جائز؛ لأنها اجتهادية، ولا حصر في المجتهدات.

(3/582)


وأما إذا كان معنى قولهم: إذا أجمع الصحابة على قولين أجمع هؤلاء على قول، وخطئوا من خالفه، وأجمع هؤلاء على قول آخر وخطئوا من خالفه، فليس بإجماع، ولكنه خلاف صحيح، وإذا لم يكن إجماعا فإحداث قول ثالث أو رابع وأكثر فجائز أيضا، وبالجملة فلم يأخذوا في هذه المسألة الإجماع الشرعي، بل اللغوي، وفيما قاله نظر.
الخامس : لم يتعرضوا لهذه المسألة بالنسبة إلى عصر واحد، بأن يختلف الصحابة على قولين، ثم يحدث بعضهم قولا ثالثا، والقياس التفصيل بين أن لا يستقر الخلاف فيجوز، وبين أن لا يستقر، فينبني على الخلاف في انقراض العصر، فإن قلنا: شرط جاز، وإلا فلا،
ولو أدرك بعض التابعين عصر الصحابة، فأحدث ثالثا، فالقياس بناؤه على الوجهين في الانقراض أو على الوجهين في قول التابعي مع الصحابة، وهل يعتد به؟ ومثاله ما لو وجد ماء لا يكفيه للوضوء فهل يقتصر على التيمم، أو يستعمله ويتيمم؟ قولان للصحابة، فأحدث الحسن قولا ثالثا، فقال: يستعمل ما معه ثم يجمع ما يتساقط. من الماء فيعمل به.

(3/583)


المسألة الخامسة :
إذا تعدد محل الحكم بأن لم يفصل أهل العصر بين مسألتين بل ذهب بعضهم إلى حكاية وجهين في هذه المسألة، وقال: الأصح امتناعه، وحكاه أبو بكر الرازي عن أصحابهم. قال في "المحصول": وهذا الإجماع متأخر عن سائر الإجماعات في القوة؛ لعدم التصريح. ا هـ. ومنهم من فصل، فقال: إن كان طريق الحكم واحدا لم يجز الفصل، وإلا جاز. قال الهندي: وهو المختار.
والتحقيق أنهم إن نصوا على عدم الفرق بأن قالوا: لا فصل بينهما في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني؛ امتنع الفصل بينهما على الصحيح، وحكى الهندي فيه الاتفاق، وليس كذلك، ففيه خلاف. حكاه القاضي في "التقريب"، وحكاه في "اللمع" احتمالا عن القاضي أبي الطيب1، وإن لم ينصوا كمن ورث العمة، ورث الخالة، ومن منع إحداهما، منع الأخرى؛ لأن المأخذ واحد، وهو المحرمية، وإن لم يكن
ـــــــ
1 انظر اللمع ص: 52.

(3/583)


كذلك، فقيل: لا يجوز الفرق، والحق جوازه؛ لأنه إذا لم يتحد المأخذ لم يمتنع الخلاف. وقال القاضي عبد الوهاب: إن عينوا الحكم، وقالوا: لا تفصيل، حرم الفصل، وإن لم يعينوا، ولكن أجمعوا عليه مجملا، فلا يعلم تفصيله إلا بدليل غير الإجماع، فإن دل الدليل على أنهم أرادوا معينا تعين، أو أرادوا العموم تعين العموم. ومتى كان مدرك أحد الصنفين مجملا، أو كاد أن يكون مجملا، جاز التفصيل بين المسألتين. وكلام التبريزي في "التنقيح" يدل على أنه إذا وقع الاشتراك في المأخذ، فهو محل الخلاف، وأما إذا لم يشتركا فيه، فلا خلاف في أنه ليس بحجة، وهو خلاف كلام الرازي.
ومنشأ الخلاف هل إحداث الفصل بين المسألتين كإحداث قول فيهما، فيكون خرقا للإجماع، أو ليس كإحداثه؛ لأن المفصل قال في كل مسألة بقول بينهما، ولم يلزم من هذه المسألة نسبة الأمة إلى جميع الحق، كما يلزم من تلك، فلا يكون خرقا للإجماع، وهو الصحيح.
وقال الأستاذ أبو منصور: إن نصوا على التسوية بينهما في حكم واحد، حرم على من بعدهم التفريق قطعا، وإن سووا بينهما في حكمين على البدل فاختلفوا على قولين، وبالجواز قال محمد بن سيرين، وسفيان الثوري؛ لأن الصحابة اختلفوا في زوج أو زوجة وأبوين، وكذلك الجماع، والأكل ناسيا.
وقال سليم: إن أجمعوا على التسوية بينهما في حكم، كقولهم: لكل واحدة من الجدتين أم الأم، وأم الأب إذا انفردت السدس، لم يجز لمن بعدهم أن يفرق بينهما، فيجعل لأم الأم الثلث؛ لأنه يخالفهم في التي تزيد على فرضها، وهكذا إذا أجمعوا على التفرقة بين المسألتين في الحكم، كقولهم: للأم مع الأب الثلث، وللجدة معه السدس، لم يجز لمن بعدهم أن يسوي بينهما، وهذان لا خلاف فيهما.
وقال ابن القطان: إذا أجمعوا على أن الكرم والنخل في المساقاة سواء من يجيزهما ومن يأباهما يردها، فقال داود: هذا إجماع، ولا يجوز التفريق بينهما، ويقول: قد أجمعوا على التسوية.
قال: وهذا فاسد، وعندنا أن ذلك لا يكون إجماعا؛ لأن القول بالعلة غير الاعتبار بهذا؛ لأنا نجد من يقول: هذه العين حلال، وهذه حرام، وإن كان من قائلين. فهاتان مسألتان. والعجب من داود في هذا، فيقال له: خبرنا عن المساقاة

(3/584)


على الثلث والربع من أي طريق أخذتها؟ فقال: من طريق الإجماع، وهو أن الذين اختلفوا، فرقوا في الرد والإجازة. قلنا لهم: إنما أخذوا ذلك عن طريق القياس من الإجازة، ثم هو لا يجيز المساقاة، والمجمعون سووا بينهما، فقالوا: الكرم لا يجوز كما لا يجوز النخل، ومن أجاز سوى بينهما، فلم فرقت؟
مسألة :
إذا اختلفوا في مسألتين على قولين: فقالت طائفة في كل من المسألتين قولا، وقالت الأخرى في كل منهما أيضا قولا، ثم قام دليل عن نص على صحة قول أحديهما في إحدى المسألتين، فهل يدل على صحة قولها في المسألة الأخرى أم لا؟
اختلف في هذه المسألة داود وابنه، فصار داود إلى أنه دليل على ذلك، ومنعه ابنه. هكذا قال ابن حزم في الإحكام. ثم قال: ويقول ابنه: لأنه لو صح ما قاله داود لكانت الطائفة التي قام النص على صحة قولها في مسألة واحدة مصيبة في جميع مذاهبها ولا يقول به أحد. نعم إن صح إجماع الأمة يقينا على أن حكم المسألتين سواء، ثم قام نص على صحة حكم ما في إحدى المسألتين، فقد صح بلا شك أن حكم الأخرى كذلك، والفرق أن المسألتين الأوليين لم يحفظ عنهم فيهما تسوية بين المسألتين، بخلاف الثاني. ثم مثل المسألة بالمساقاة. فمنهم من منعها جملة، ومنهم من أباحها جملة، ومن مبيح لها في النخل والعنب خاصة، ومانع لها في سواهما، فلما صح القول بإباحتها، وبطل إبطالها، نظرنا في المساقاة بالثلث والربع، فوجدنا الأمة مجمعة على أن حكم المساقاة على النصف كحكمها على جزء مسمى، أي جزء كان، وكذلك المزارعة، الناس فيها على قولين: الإباحة والحظر، فلما قام الدليل على صحتها، نظرنا في المزارعة على النصف سواء، وكل من تكلم في هذين الحكمين فقد أجمل، فلما جاء النص بإباحة المساقاة والمزارعة على النصف، وصح الإجماع على أن حكم المساقاة والمزارعة على جزء مسمى كحكمها على النصف، صحت المزارعة على كل جزء مسمى.
فائدة [معنى قولهم: هذا لا يصح بالإجماع]
إذا قلنا: هذا لا يصح بالإجماع احتمل أمرين. أحدهما: الإجماع على نفي الصحة. والثاني: نفي الإجماع على الصحة، والثاني أعم من الأول، فلا يلزم من نفي الإجماع على الصحة، نفي الصحة، لجواز أن يكون الحكم مختلفا فيه، فهو صحيح على

(3/585)


رأي. فالإجماع على الصحة منتف، لكن هي غير منتفية مطلقا، بل ثابتة على ذلك الرأي، بخلاف الإجماع على نفي الصحة، فإنه يقتضي نفيها مطلقا، فإذا قلنا: الوضوء بدون مسح الرأس لا يصح بالإجماع، كان هذا إجماعا على نفي الصحة، وإذا قلنا: الوضوء بدون استيعاب الرأس بالمسح لا يصح بالإجماع، كان هذا نفيا للإجماع على الصحة، لا لحقيقة الصحة مطلقا؛ لأن ذلك يصح عند أبي حنيفة والشافعي.
والمثير لهذه المباحثة أن بعض الفضلاء رأى شافعيا قد توضأ، ومسح بعض رأسه، فمازحه، وقال له: وضوءك هذا لا يصح بالإجماع، فغضب من ذلك، وقال تزعم أن الشافعي ليس بمعتبر القول. قال: لا وقال: كلامك يقتضي ذلك، فبين له هذه النكتة فزال غضبه. وحاصله : أن المنفي هاهنا هو الصحة المطلقة، أو المقيدة بكونها مجمعا عليها. فإن أريد الأول فهو إجماع على النفي، وإن أريد الثاني فهو نفي الإجماع.
وحاصله من جهة العربية : أن موضع الإجماع نصب، لكن هو على التمييز أو الحال؟ إن قلنا: على التمييز فهو إجماع على نفي الصحة، إذ تقديره لا يصح إجماعا إذ التمييز رفع الإبهام عن الذات، ونفي الصحة هنا يحتمل أنه إجماعي أو خلافي، فبقولنا: إجماع، رفعنا ذلك الإبهام، وقلنا: إن نفي الصحة إجماعية،
وإن قلنا على الحال، فهو نفي الإجماع على الصحة، لا لنفي الصحة؛ لأن الحال نعت للفاعل، فتقديره هذا لا يصح مجمعا عليه، ونفي الصفة لا يستلزم نفي الموصوف.

(3/586)


خاتمة [قد يكون الخلاف حجة]
قد يكون الخلاف حجة كالإجماع في مواضع :
منها : منع الخروج منه إذا انحصر على قولين أو ثلاثة.
ومنها : تسويغ الذهاب إلى كل واحد من الأقوال المختلف فيها.
ومنها : كون الجميع صوابا إن قلنا كل مجتهد مصيب، وغير ذلك. ذكره القاضي عبد الوهاب في مسألة تقليد الصحابي.

(3/586)


[الاختلاف مذموم والاجتماع محمود]
وقال المزني في كتاب ذم التقليد: قد ذم الله الاختلاف في غير ما آية، ولو كان من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما رده إلى كتابه وسنة نبيه، ولا أمر بإمضاء الاختلاف والتنازع على ما هما به، وما حذر رسول الله أمته من الفرقة وأمرها بلزوم الجماعة. قال: ولو كان الاختلاف رحمة، لكان الاجتماع عذابا؛ لأن العذاب خلاف الرحمة، ثم قال: قال الشافعي - رحمه الله تعالى - الاختلاف وجهان: فما كان منصوصا، لم يحل فيه الاختلاف، وما كان يحتمل التأويل أو يدرك قياسا، فذهب المتأول أو المقايس إلى معنى يحتمل ذلك، وإن خالفه غيره، لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الاختلاف في المنصوص1. قال المزني: فظاهر قوله أنه ضيق الخلاف كتضييقه في المنصوص، والله أعلم.
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص: 560.

(3/587)