البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

المجلد الرابع
كتاب القياس
مدخل
مدخل
...
كتاب القياس
والنظر فيه أوسع من غيره من أبواب الأصول, فلهذا خصوه بمزيد اعتناء. وقد قال إمام الحرمين مبينا لشرفه: القياس مناط الاجتهاد, وأصل الرأي, ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة, وهو المفضي إلى الاستقلال بتفاصيل أحكام الوقائع مع انتفاء الغاية والنهاية, فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة مقصورة, ومواضع الإجماع معدودة مأثورة, فما ينقل منها تواترا فهو المستند إلى القطع, وهو معوز قليل, وما ينقله الآحاد من علماء الأعصار ينزل منزلة أخبار الآحاد, وهي على الجملة متناهية, ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي يتوقع وقوعها لا نهاية لها. والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع والأصل الذي يسترسل على جميع الوقائع القياس وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال. فهو إذا أحق الأصول باعتناء الطالب.
وفيه أبواب:

(4/3)


الباب الأول: في حقيقته لغة واصطلاحا
مدخل
...
الباب الأول في حقيقته لغة واصطلاحا
أما لغة : فالمشهور أنه تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به, ولذلك سمي المكيال مقياسا, وما يقدر به النعال مقياسا, وفلان لا يقاس بفلان: أي لا يساويه. وقيل: هو مصدر قست الشيء إذا اعتبرته, أقيسه قيسا وقياسا. ومنه: قيس الرأي, وامرؤ القيس; لاعتبار الأمور برأيه. وقسته "بضم القاف" أقوسه قوسا ذكر هذه اللغة ابن أبي البقاء في نهايته وصاحب الصحاح, فهو من ذوات الواو والياء.
وقال ابن مقلة في كتاب البرهان: القياس في اللغة: التمثيل والتشبيه, وإنما يعتبر التشبيه في الوصف أو الحد لا.
الاسم : وقال الماوردي والروياني في كتاب القضاء: القياس في اللغة مأخوذ من المماثلة, يقال: هذا قياس هذا, أي مثله, لأن القياس الجمع بين المتماثلين في الحكم. وقيل: إنه مأخوذ من الإصابة, يقال: قست الشيء: إذا أصبته, لأن القياس يصيب به الحكم, وحكاها ابن السمعاني في القواطع, وقال الصيرفي: القياس فعل القائس, وهو مصدر قست الشيء قياسا, وهو الجمع بين الشيئين: إما بالمشاهدة فيهما جميعا, أو أحدهما والآخر بالفكر, أو جميعهما بالفكر يعلم تساويهما في الشيء الذي جمعا من أجله بخلافهما. هذه فائدة القياس ونتيجته, فإذا أثمرت المقابلة مساواة الشيئين من حيث كان جرى الحكم عليهما في الشيء الذي اجتمعا فيه وخولف بينهما في شيء اختلفا فيه, وهذا ثابت في قضية العقول أن كل شيئين اشتبها في شيء ما فحكمهما من حيث اشتبها واحد, ولولا ذلك لما كان بين المختلف والمتفق فرق.
وأما في الاصطلاح: فاختلفوا "أولا" في إمكان حده:
فقال إمام الحرمين: يتعذر الحد الحقيقي في القياس, لاشتماله على حقائق مختلفة: كالحكم فإنه قديم, والفرع والأصل فإنهما حادثان, والجامع فإنه علة1. ووافقه ابن المنير شارحه على تعذر الحد, لكن العلة عنده في ذلك كونه نسبة وإضافة
ـــــــ
1 انظر: تعريفات القياس في المعتمد "2/697" المنهاج ص"13" البرهان "2/745" المنخول ص"323" الإحكام للآمدي "3/262".

(4/4)


وهي عدمية, والعدم لا يتركب من الجنس والفصل الحقيقيين الوجوديين. قال الإبياري: الحقيقي إنما يتصور عما تركب من الجنس والفصل ولا يتصور ذلك في القياس.
وكلام الجمهور يقتضي إمكانه, واختلفوا:
فالمحققون أنه: مساواة فرع لأصل في علة الحكم, أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم. وذلك لأنه من أدلة الأحكام فلا بد من حكم مطلوب به, ولا بد له من محل يقوم به وهو الفرع; وذلك لثبوته في محل آخر وهو الأصل ولا يمكن ذلك بين كل شيئين, بل إذا كان بينهما أمر يوجب الاشتراك في الحكم وهو المراد بالمساواة في نفس الأمر. فيختص الحد بالقياس الصحيح. هذا عند القائلين بأن المصيب واحد.
أما القائلون بأن كل مجتهد مصيب, فلا بد أن يزاد "في نظر المجتهد" سواء ثبت في نفس الأمر أم لا, كذا قاله ابن الحاجب وغيره.
والحق, أن التعريف المذكور شامل للقياس الصحيح على المذهبين, لأن المساواة المذكورة أعم من أن تكون في نظر المجتهد أم لا.
وقيل: إدراج خصوص في عموم. واستحسنه بعض الجدليين.
وقيل: إنه إلحاق المسكوت بالمنطوق, وقيل: إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه, وقيل: استنباط الخفي من الجلي, وقيل: حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل, وإليه ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني, ولم يرتضه القاضي الحسين.
وقال ابن كج: رد فرع مسكوت عنه وعن حكمه إلى أصل منطوق بحكمه, وقيل: الجمع بين النظرين وإجراء حكم أحدهما على الآخر, وقيل: إنه بذل الجهد في طلب الحق, وهو باطل باستخراج الحق بالنصوص والظواهر.
وقال أبو هاشم: حمل الشيء على حكمه وإجراء حكمه عليه. وهو باطل لأنه لم يذكر الجامع.
وقال عبد الجبار: حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه, وقال الشريف المرتضى: إثبات حكم المقيس عليه للمقيس وهو ركيك, فإن المقيس والمقيس عليه مشتقان من القياس, فتعريف القياس بهما دور.
وقال صاحب الإحكام: استواء بين الأصل والفرع في العلة المستنبطة من حكم

(4/5)


الأصل, ويخرج عنه القياس إذا كانت العلة منصوصة, فإن منع كونه قياسا فباطل, لأنه أقوى أنواع الأقيسة1.
وقال القاضي - واختاره المحققون منا, كما قاله في المحصول: هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع حكم أو صفة أو نفيهما, فالحمل اعتبار الفرع بالأصل ورده إليه, والمعلوم يتناول الموجود والمعدوم, بخلاف الشيء والفرع يوهم الموجود. ثم بين فبماذا يكون الحمل بقوله: "في إثبات حكم" فأفاد أن القياس يتوصل به إلى ثبوت الأحكام ونفيها, والمعلوم الثاني لا بد منه, إذ القياس يستدعي منتسبين, لأن إثبات الحكم بدون الأصل ليس بحكم. ثم قسم الجامع إلى حكم وصفة. قال إلكيا: وهو أسد ما قيل على صناعة المتكلمين.
وقد اعترض عليه بأمور:
منها : إن أردت بالحمل إثبات الحكم فقولك: "في إثبات حكم" ضائع للتكرار, وإن أردت غيره فبينه, وذلك الغير يكون خارجا عن القياس; لأنه يتم بإثبات مثل معلوم لآخر بجامع.
ومنها : أن قوله "في إثبات حكم لها" يشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس وهو باطل, فإن القياس فرع ثبوت الحكم في الأصل, فلو كان ثبوت الحكم فرعا عن القياس لزم الدور. وأجيب بأن القاضي لعله يرى أن الحكم ثبت في الأصل بالعلة لا بالنص وكذلك في الفرع, والقياس كاشف عما ثبت فيهما.
وقال ابن المنير: هذا السؤال لا يرد من أصله, لأن قوله "بهما "يتعلق بمحذوف صلة للحكم المنكر, كأنه قال في إثبات حكم, وذلك الحكم في نفس الأمر ثابت للأصل والفرع, والمثبت له في الأصل النص, وفي الفرع القياس, فلا تناقض. وليس متعلقا بإثبات.
ومنها : أن الصفة ثبتت أيضا بالقياس, كقوله: إنه عالم فله علم, كما في الشاهد, فإن اندرجت الصفة في الحكم يكون قوله: بجامع حكم أو صفة لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارا, وإن لم تندرج كان التعريف ناقصا, فهو إما زائد وإما ناقص.
ومنها : أن المعتبر في القياس الجامع دون أقسامه, ولو وجب ذكر أقسامه
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "3/262" وما بعدها.

(4/6)


لوجب ذكر أقسام الحكم.
ومنها : القياس الفاسد خارج عنه, لأن الجامع متى حصل صح القياس.
وقال إلكيا: هو شامل للصحيح والفاسد والتفاوت بينهما يرجع إلى شروط لا مدخل لها في التحديد, وكذلك صرح القاضي وإمام الحرمين والغزالي بشموله لها. وما ذكرناه من اختصاصه بالصحيح - تبعا للآمدي - فهو مردود بما ذكرنا.
ومنها : قال الآمدي: الحكم في الفرع نفيا وإثباتا يتفرع على القياس إجماعا وليس بركن في القياس, فإن نتيجة الدليل لا تكون ركنا في الدليل, لما فيه من الدور, فيلزم من أخذ الحكم في الفرع ركنا في القياس الدور الممتنع.
وأجاب القرافي بأن تعريف الدليل بنتيجته تعريفا رسميا تعريف جائز, لأنه تعريف بلازم الشيء بخلاف تعريفه الحدي1. ورده الأصفهاني بأن التعريف باللازم شرطه اللزوم البين من حيث هو لازم, وإلا يلزم الدور.
وأجاب ابن الحاجب بأن المحدود القياس الذهني, وثبوت حكم الفرع الذهني أو الخارجي ليس فرعا له. ورده الأصفهاني بأن معرفة حكم الفرع الذهني فرع القياس الذهني, لأن نتيجته ذهنا, ويجب أن يكون التعريف للقياس الخارجي الذي هو دليل على حكم الله.
وأجاب الصفي الهندي بأن القاضي لم يأخذ في تعريف القياس إلا الإثبات لا الثبوت, والمتفرع عن القياس الثبوت لا الإثبات, والحق أن الثبوت ثابت قبل القياس وإنما الناشئ بالقياس اعتقاد المساواة أو الثبوت مستندا إلى العلة لا مجرد الثبوت. وقال إمام الحرمين: الإنصاف أن ما ذكره القاضي ليس بحد ولا مطمع في الحد بما يتركب من نفي وإثبات كما ذكره في الحكم والجامع.
ـــــــ
1 انظر شرح تنقيح الفصول ص"383".

(4/7)


مسألة [القياس في نظر الأصوليين]
حاصل القياس في نظر الأصوليين يرجع إلى الاستدلال بحكم شيء على آخر من غير أن يكون أحدهما أعم من الآخر, ويسميه قوم "التمثيل", وأما في اصطلاح المنطقيين

(4/7)


فهو الاستدلال بحكم العام على حكم الخاص, ويرجع إلى المقدمات والنتائج. قال الإبياري: وهو أبعد عن المدلول اللغوي, لأن قولهم: "كل نبيذ مسكر, وكل مسكر حرام" ينتج: "كل نبيذ حرام" ليس فيه اعتبار بحال وإنما النبيذ أحد الصور المندرجة تحت العموم. قلت: بل هو قريب من المدلول اللغوي بمعنى التسوية, لأنه تسوية حكم الخاص بحكم العام, وذكر إمام الحرمين أن لفظ القياس قد يتجوز بإطلاقه في النظر المحض من غير تقدير فرع وأصل فيقول المفكر: قست الشيء إذا تفكر فيه. ونازعه الإبياري. ولا معنى لنزاعه, لوجود المعنى اللغوي فيه وهو الاعتبار.
وقال الغزالي في أساس القياس: وأما نحو " كل مسكر خمر, وكل خمر حرام" 1 أنت ج "كل مسكر حرام" هذا لا تسميه الفقهاء والأصوليون قياسا, وإنما يسميه ذلك المنطقيون, وهو ظلم منهم على الاسم وخطأ على الوضع, فإن القياس في وضع اللسان يستدعي مقيسا ومقيسا عليه, لأنه حمل فرع على أصل بعلة جامعة, وإطلاقه على غير هذا خطأ.
ـــــــ
1 الحديث رواه مسلم في صحيحه "3/1587" كتاب الأشربة باب بيان أن كل مسكر خمر, وأن كل خمر حرام. حديث "2003".

(4/8)


مسألة [لفظ القياس مشترك]
وقال "الغزالي" أيضا: لفظ القياس مشترك يطلق تارة على الرأي المحض المقابل للتوقيف حتى يقال: الشرع إما توقيف أو قياس1. وهذا الذي ننكره, وهو الذي يتعرض لتشنيع الظاهرية التعليمية, ويطلق تارة بمقابل التعبد حتى يقال: الشرع ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى تعبد. كرمي الجمار. وكلاهما توقيف, لكن يسمى ما عقل معناه قياسا لما انقدح فيه من المعقول. وهذا هو الذي نقول به وهو بهذا المعنى أحد نوعي التوقيف وليس مقابلا له
ـــــــ
1 انظر المستصفى "1/245" مطبوع مع فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت, وهي الطبعة التي سنحيل عليها في هذا الجزء على خلاف الأولى, حيث كنا نحيل على دار الكتب العلمية, وهي جزء واحد.

(4/8)


مسألة [يسمى القياس استدلالا]
في المعتمد لأبي الحسين البصري: كان الشافعي رضي الله عنه يسمي القياس استدلالا, لأنه فحص ونظر, ويسمي الاستدلال قياسا, لوجود التعليل فيه. وحكى صاحب الكبريت الأحمر عن بعضهم أن القياس والاجتهاد واحد, لحديث معاذ: "أجتهد رأيي"1 والمراد القياس بالإجماع. وقال إلكيا: يمتاز القياس عن الاجتهاد بأنه في الأصل بذل المجهود في طلب الحق سواء طلب من النص أو القياس. وقد قال الشافعي في الرسالة إن القياس الاجتهاد, وظاهر ذلك لا يستقيم, فإن الاجتهاد أعم من القياس, والقياس أخص, إلا أنه لما كان الاجتهاد في عرف الفقهاء مستعملا في تعريف ما لا نص فيه من الحكم, وعنده أن طريق تعرف ذلك لا يكون إلا بأن يحمل الفرع على الأصل فقط, وذلك قياس عنده. والاجتهاد عند المتكلمين ما اقتضى غلبة الظن في الأحكام التي لا يتعين فيها خطأ المجتهد ويقال فيها: كل مجتهد مصيب, والقياس ما ذكرناه والأمر فيه قريب. وقال ابن السمعاني: هل القياس والاجتهاد متحدان أو مختلفان؟ اختلفوا فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: إنهما متحدان, ونسب للشافعي, وقد أشار إليه في كتاب الرسالة, والذي عليه جمهور الفقهاء, أن الاجتهاد غير القياس, وهو أعم منه; لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدماته, وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس, ولأن الاجتهاد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة, وليس ذلك بقياس.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في سننه "3/303" كتاب الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء حديث "3592" ورواه الترمذي حديث "1327" وأحمد في مسننده "5/242" حديث "22153" وأبو داود الطيالسي في مسنده "76" برقم "559" والبيهقي في السنن الكبرى "10/114" حديث "20126" وهو حديث ضعيف.

(4/9)


مسألة [ما وضع له القياس]
اختلف أصحابنا كما قاله الأستاذ أبو إسحاق فيما وضع له اسم "القياس" على

(4/9)


قولين: "أحدهما" أنه استدلال المجتهد وفكره المستنبط, "والثاني" أنه المعنى الذي يدل على الحكم في أصل الشيء وفرعه. قال: وهذا هو الصحيح ومن فر منه فإنما فر لشبهة تعود إليه في الحقيقة, لأنه قبل القياس لا بد من أن يكون له أصل وفرع, فإن كان أصلا فقد وجب وجوده في كل ما يسمى به واستغنى عن الإلحاق, وإن كان فرعا لم يجز أن يكون دليلا على غيره, ووجب أن يكون له أصل يستنبط به. ثم الكلام في أصله كالكلام فيه لنفسه. وهذا بعينه يستشكل على القائل الأول بأن يقال: المجتهد إما أن يكون مأمورا بالنظر والإلحاق, فإن لم يكن لم يتوجه عليه الطلب عند نزول الحادثة, وإن كان مأمورا, فإما أن يكون أصلا أو فرعا ثم يعود ما سبق. ومهما كان جوابه فهو جوابنا.

(4/10)


مسألة [الذي يثبته القياس]
واختلفوا كما قاله المقترح في الذي أثبته القياس, هل هو حكم واحد يشمل الأصل والفرع أو حكمين متماثلين؟ فذهب بعض الأصوليين إلى أنهما حكمان متماثلان وقرره بوجهين:
"أحدهما" جواز نسخ الأصل مع إبقاء الفرع فدل على أنهما حكمان "والثاني" أن الحكم يختلف باختلاف متعلقه, ولا شك أن متعلق الأصل غير الفرع, فكانا مختلفين. وذهب بعض الأصوليين إلى أنه حكم واحد شامل لهما, لأنا لا ننظر إلى القضية الخاصة, وإنما النظر إلى الأمر العام. فإن أورد جواز النسخ, قلنا: لا يتصور نسخ الأصل مع بقاء الفرع.

(4/10)


مسألة [اشتمال النصوص على الفروع الملحقة بالقياس]
روى الربيع في اختلاف الحديث عن الشافعي ما يقتضي اشتمال الكتاب والسنة على جميع الفروع الملحقة بالقياس أي ابتداء أو بالواسطة. فقال الشافعي: ولما قبض الله رسوله تناهت فرائضه فلا يزاد فيه ولا ينقص. ونص في الرسالة على أن القياس موضع ضرورة1. وروى أحمد بن حنبل عن الشافعي أنه قال: القياس ضرورات
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "599".

(4/10)


مسألة [القياس مظهر لا مثبت]
الحق أنه مظهر لحكم الله تعالى لا مثبت له ابتداء, لأن مثبت الحكم هو الله. ومنع الشافعي في الرسالة أن يقال: إنه حكم الله على الإطلاق. وقال الصيرفي: لأن هذا اللفظ إنما ينصرف في الظاهر للمنصوص عليه فيمتنع إطلاقه على القياس, وإن كان فيه حكم الله من الاجتهاد, إشفاقا أن يقطع على الله بذلك, فإن أطلق عليه حكم الله, بمعنى أنه أوجبه كان على التقييد.
وقال الروياني في "البحر": القياس عندنا دين الله وحجته وشرعه.
وقال ابن السمعاني: إنه دين الله ودين رسوله بمعنى أنه عليه, ولا يجوز أن يقال: إنه قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو الحسين في المعتمد1 هو مأمور
ـــــــ
1 انظر المعتمد "3/766".

(4/11)


به, بمعنى أن الله بعثنا على فعله بالأدلة. وأما كونه بمعنى صيغة "أفعل"1 فصحيح أيضا عند من يحتج بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [سورة الحشر: 2] وأما كونه من دين الله فلا ريب فيه إذا عنى أنه ليس ببدعة, وإن أريد غير ذلك فعند الشيخ أبي الهذيل لا يطلق عليه لأن اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر, وأبو علي الجبائي يصف ما كان واجبا منه بذلك, وبأنه إيمان دون ما كان منه ندبا. والقاضي عبد الجبار يصف بذلك واجبه ومندوبه. وقال الآمدي: إن أريد بالدين ما تعبدنا به وهو أصلي فليس القياس من الدين.
وإن أريد به ما تعبدنا به مطلقا فهو من الدين.
ويتحصل في كون القياس من الدين أقوال: ثالثها حيث يتعين.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "4/90, 91".

(4/12)