البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الباب السادس: في أركانه
مدخل
...
الباب السادس في أركانه
وهي أربعة: الأصل, والفرع, والعلة, وحكم الأصل, ولا بد من ذكر هذه الأربعة في القياس, كقولنا في اشتراط النية في الوضوء: طهارة عن حدث, فوجب أن تحتاج إلى نية كالتيمم, فالوضوء هو الفرع, والتيمم هو الأصل, والطهارة عن حدث هي الوصف, وقولنا وجب هو الحكم. ولا بد من ذكر هذه الأربعة.
ومن الفقهاء من يترك التصريح بالحكم مثل أن يقول: طهارة عن حدث كالتيمم, واختلف أصحابنا فيه كما قاله السهيلي في باب "أدب الجدل" فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصح القياس إلا بعد التصريح بالحكم. وقيل: يصح ويكون الحكم محالا إلى السؤال. والأول أصح.
مسألة
اختلف في اشتراط أمر خامس أنه: هل يشترط في إطلاق اسم القياس أن يكون الجامع مستنبطا بالنظر والفكر؟ على قولين. ولهذا اختلفوا في أن إلحاق العبد بالأمة, والضرب بالتأفيف, هل يسمى قياسا؟

(4/67)


الركن الأول: الأصل
...
الأول: الأصل
وحكى ابن السمعاني خلافا في ركنيته, وأن بعضهم ذهب إلى جواز القياس بغير أصل قال: وهو قول من خلط الاجتهاد بالقياس. وإنه لا بد له من أصل, لأن الفروع لا تتفرع إلا عن أصول.
وهو يطلق شرعا على أمور سبقت في أول أصول الفقه وذكر هنا إلكيا منها أربعة:
أحدها : ما يقتضي العلم به علما بغيره أو يوصل به إلى غيره, كما يقال: إن الخبر أصل لما ورد به, والكتاب أصل السنة لما علم صحتها به.
والثاني : لا يصح العلم بالمعنى إلا به.
الثالث : في الحكم الذي يعتريه ما سواه, فيقال: هذا الحكم أصل بنفسه لا

(4/67)


يقاس عليه.
الرابع : الذي يقع به القياس وهو مرادنا.
وقد اختلف فيه, فقال المتكلمون: هو النص الدال على ثبوت الحكم في محل الوفاق, كخبر الواحد في تحريم الربا مثلا, وحكاه في الملخص عن القاضي, وحكاه صاحب "الواضح "عن المعتزلة. وقال الفقهاء: هو محل الحكم المشبه به سواء المجمع عليه والمنصوص كالبر المحكوم به قال ابن السمعاني: وهذا هو الصحيح. قال: وتمامه أن الخبر أصل للبر, والبر أصل لكل ما يقاس عليه قال: وهذا ظاهر حسن فليعتمد عليه, وقال المحققون منهم: إنه نقيض الحكم الثابت بالخبر قال إلكيا: وهذا هو الأوجه عندنا, ولم نر في كلام المخالف ما يضعفه.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: ما ثبت به حكم نفسه: وقيل: ما ثبت به حكم غيره. وليس بصحيح, لأن العلة يجوز أن تكون قاصرة. ورجح العبدري الأول بأن الأصل محكوم فيه حتى يفهم الحكم, وبالعكس فإن سمى مسمى الخمر وحدها أصلا بمعنى أنها هي المحل الذي نص الشارع على الحكم بالتحريم فيه دون غيره من المحال فيجوز. وقال الإمام فخر الدين: الأصل هو الحكم الثابت في محل الوفاق باعتبار تفرع العلة عليه, وهو فرع في محل الخلاف باعتبار تفرعه عليه والعلة بالعكس فرع في محل الوفاق لأنا إنما نعلل الحكم بعد معرفة أصل في محل لأنا نعرف العلة فيه ثم نفرع الحكم عليها.
قال التبريزي: وقوله: الحكم أصل في محل الخلاف ذهاب عظيم عن مقصود البحث إذ ليس المقصود تعريف ما سمي أصلا باعتبار, وإنما القصد بيان الأصل الذي يقابل الفرع في القياس المركب, ولا شك أنه بهذا الاعتبار محل الحكم المجمع عليه, كما قاله الفقهاء. قال الأصفهاني: وهذا تهويل لا تعويل عليه.
ثم قال جماعة منهم ابن برهان: إن النزاع لفظي يرجع إلى الاصطلاح فلا مشاحة فيه, أو إلى اللغة فهو يجوز إطلاقه على ما ذكر. ولا فائدة لهذا الخلاف إلا الصورة.
وقيل: بل يرجع إلى تحقيق المراد "بالأصل", وهو يطلق تارة على الغالب, وتارة على الوضع اللغوي لقولهم: الأصل عدم الاشتراك, وعلى إرادة البعيد الذي لا يعقل معناه كقولهم: خروج النجاسة من محل وإيجاب الطهارة في محل آخر على خلاف الأصل. وقد يطلقونه على إرادة البراءة الأصلية فلا بد من توجيه الاستشعار على

(4/68)


الأصل حتى يصح الكلام والاعتراض عليه. قال الآمدي: يطلق الأصل على ما يتفرع عليه غيره وعلى ما يعرف بنفسه وإن لم يبن عليه غيره, كقولنا: تحريم الربا في النقدين أصل, وهذا منشأ الخلاف في أنه هل الأصل في تحريم النبيذ الخمر أو النص أو الحكم؟ قال: واتفقوا على أن العلة ليست أصلا وقال الرازي: تسمية العلة في محل النزاع أصلا أولى من تسميته محل الحكم في محل الوفاق أصلا, لأن التعلق الأول أقوى من الثاني "قال": وتسمية محل الوفاق بالأصل أولى من تسميته محل الخلاف بالفرع, لأنه أصل الأصل, وهذا أصل الفرع قال: لكنا نساعد الفقهاء على مصطلحهم في تسمية محل الوفاق بالأصل ومحل الخلاف بالفرع.
مسألة
لا يشترط قيام الدليل على جواز القياس على القياس بنوعه أو شخصه, بل كل معنى قدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه قيس عليه, خلافا لعثمان البتي. وقال قوم: لا بد من قيام الدليل على تعليله ولم يكتفوا بقيام الدليل على أصل القياس. وفصل الغزالي1 في ذلك فقال: أما قياس الشبه فشرط قوم في جواز الاعتماد على الجامع الشبهي دعاءه إلى التعليل فلو لم يقم دليل وجوب التعدية في البر في مسألة الربا لما جاز القياس. قال: وهذا لا يتعدى عندي في أكثر الأشباه, فإنه إذا أمكن تعرف الحكم باسم المحل فأي حاجة إلى طلب مناط لا مناسبة فيه؟ وفرق الإمام في الأشباه فقال في بعضها: يكفي في الإلحاق الاطلاع على الوصف الشبهي, وفي بعضها: لا بد من دعاء ضرورة إلى التعليل وبسط ذلك.
مسألة
لا يشترط في الأصل أن يكون انعقد الإجماع على أن حكمه معلل, أو أن تثبت علته عينا بالنص, بل لو ثبت ذلك بالطرق العقلية أو الظنية جاز القياس عليه. وخالف فيه بشر المريسي والشريف المرتضى فزعما أنه لا يقاس على أصل حتى يدل نص على عين علة ذلك الحكم, أو انعقد الإجماع على كون حكمه معللا. وقال الغزالي في شفاء العليل نقل عن بشر المريسي وجماعة أنه لا يجوز القياس على أصل بمجرد قيام
ـــــــ
1 انظر المستصفى "2/272" الإحكام للآمدي "4/72" مختصر ابن الحاجب "2/253".

(4/69)


الدليل على أصل تجويز القياس, بل لا بد من دليل خاص على أن الأصل الذي يقاس عليه معلول بعلة, لأنه على تقدير عدم الدليل الخاص بذلك, يجوز أن يكون من جملتها أصل لا يعلل بل يخصص مورده, فلا بد من دليل على كونه الأصل معللا. قال: ولست أعرف لهذا المذهب وجها إلا ما ذكرته, فإن الوصف المخصص إذا عادل الوصف المتعدي في الانفكاك عن المناسبة تعادلا, فلا بد من دليل على التعدية, فإن خصص صاحب هذا المذهب مذهبه بهذا الجنس من التعليل الخالي عن المناسبة فله وجه كما ذكرنا, وإن طرده فيما ظهرت فيه المعاني المناسبة وقال: يجوز أن يلحق الشرع المناسب في محل مخصوص, فلا بد من دليل التعدية, أو قال: يجوز أن يقدر وقوع هذا المناسب اتفاقا فهو في هذا الطرف أضعف. واستمداده من القول بإنكار أصل القياس. انتهى.
مسألة
لا يشترط في الأصل أن يكون غير محصور بالعدد, بل يجوز القياس عليه سواء كان محصورا أو لم يكن وقال قوم: المحصور بالعدد لا يجوز القياس عليه, ولهذا قالوا: لا يجوز القياس على جواز قتل الفواسق الخمس, لأنهن محصورات باسم العدد. وهو ممنوع بل هن محصورات في الذكر وليس النزاع فيه, وإنما النزاع فيما إذا كان الأصل محصورا في اللفظ في عدد معين. ونحن وإن قلنا بأن مفهوم العدد حجة لكن القياس أولى من المفهوم.
مسألة
ولا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل, بل يكفي انتهاض الدليل عليه, خلافا لمن شذ حيث اشترطه. قال الشيخ أبو إسحاق: إن أراد بالاتفاق الذي اشترطه إجماع الأمة كلها أدى إلى إبطال القياس, لأن نفاة القياس من جملتهم, وأكثرهم يقولون: إن الأصول غير معللة. وإن أراد إجماع القياسيين فهم بعض الأمة وليس قولهم بدليل.

(4/70)


مسألة [تأثير الأصل في كل موضع]
ولا يشترط تأثير في كل موضع. قال القاضي أبو الطيب في الاستدلال على إبطال بيع الغائب: باع عينا لم ير منها شيئا. فوجب أن لا يصح, أصله إذا باع النوى في التمر, فإن قيل: قولكم لم ير منها شيئا لا تأثير له في الأصل, لأن بعض النوى إذا كان ظاهرا يراه, وبعضه غير ظاهر لا يصح أيضا, قلنا: ليس من شرط القياس أن يكون موجودا في كل موضع, وإنما يكفي التأثير في موضع واحد, وتأثيره في بيع البطيخ والجوز واللوز فإنه يرى بعضها وهو ظاهرها دون باطنها ويكون بيعها صحيحا.
مسألة
قال الأستاذ أبو منصور: ولا يشترط أن يكون الأصل صحيحا, بل يجوز أن يكون فاسدا وشهادته صحيحة, وهذا إنما يصح في مقام الإلزام والإفحام, كإلزامنا من اعتبر الأصل جواز اجتماع الحياة والموت في محل واحد, وهذا قياس صحيح, وإن كان الأصل الذي قاس عليه فاسدا عندنا.

(4/71)