البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية الباب الخامس: فيما
يجري فيه القياس
مسألة: قال ابن عبدان في شرائط
الأحكام
...
الباب الخامس فيما يجري فيه القياس
وفيه مسائل:
مسألة
قال ابن عبدان في شرائط الأحكام: شرط القياس الصحيح حدوث حادثة
تؤدي الضرورة إلى معرفة حكمهما, لأن النص أقوى من القياس. قال
ابن الصلاح. والأول يأباه وضع الأئمة الكتب الطافحة بالمسائل
القياسية من غير تقييد بالحادثة, والثاني غريب وإنما يعرف ذلك
بين المناظرين في مقام الجدل قلت: وكأنه جرى على ظاهر حديث
معاذ فإنه يفهم عدم مشروعية القياس عند وجدان النص, وهو ظاهر
قول الشافعي: الأصل قرآن وسنة, فإن لم يكن فقياس عليهما. لكن
هذا في العمل به لا في صحته في نفسه, وقد قال أبو زيد في
التقويم: قال الشافعي: يجوز أن يكون الفرع حادثة فيها نص
فيزداد بالقياس ما كان النص ساكتا عنه ولا يجوز إذا كان مخالفا
للنص, لأن الكلام وإن ظهر معناه يحتمل البيان الزائد ولا يحتمل
الخلاف, فيبطل القياس إذا جاء مخالفا. وقال إلكيا: لا يمتنع
القياس مع وجود النص, وفائدته تشحيذ الخاطر. وستأتي المسألة في
شروط الفرع.
(4/47)
مسألة
يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات التي لا نص فيها ولا
إجماع بالقياس عندنا خلافا للحنفية1, قاله القاضي أبو الطيب
وسليم وابن السمعاني والأستاذ أبو منصور. قال: فأما الاستدلال
على المنصوص عليها بالقياس فجائز وفاقا وحكى الباجي عن أصحابهم
كقولنا, وحكاه القاضي في التقريب عن الجمهور من أصحاب مالك
والشافعي وغيرهما وقال: إنه الصحيح المختار. وقد قال الشافعي
رحمه الله في الأم: ولا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ منهم
ربع دينار فصاعدا, قياسا على السنة في
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "54" الإحكام للآمدي "4/82" المنخول "385"
المستصفى "2/334".
(4/47)
السارق ويتجه أن يخرج له في هذه قولان من
اختلاف قوله في تحمل العاقلة الأطراف وأروش الجراحات
والحكومات, فإنه قال في القديم: لا يضرب على العاقلة لأن الضرب
على خلاف القياس, لكن ورد الشرع به في النفس فيقتصر عليها,
ولهذا لا قسامة ولا كفارة في الأطراف. والمشهور أنها تضرب
عليهم كدية النفس قياسا بل أولى لأنه أقل.
وقال الماوردي والروياني: الذي يثبت به القياس في الشرع هو
الأحكام المستنبطة من النصوص, فأما الأسماء والحدود في
المقادير ففي جواز استخراجها بالقياس وجهان: أحدهما: يجوز إذا
تعلق بأسماء الأحكام كتسمية النبيذ خمرا لوجود معنى الخمر فيه
ويجوز أن يثبت المقادير قياسا كما قدرنا أقل الحيض وأكثره,
وهذا اختيار ابن أبي هريرة, لأن جميعها أحكام والثاني: لا يجوز
لأن الأسماء مأخوذة من اللغة دون الشرع, ومعاني الحدود غير
معقولة والمقادير مشروعة انتهى. وفي بعض النسخ أن الأول هو
الصحيح لكن نقل في كتاب الصيام عن علي بن أبي هريرة أنه أوجب
بالأكل والشرب كفارة فوق كفارة المرضع والحامل ودون كفارة
المجامع: قال: وهذا مذهب لا يستند إلى خبر ولا إلى أثر ولا
قياس, حكاه عنه الرافعي, قال صاحب الذخائر وقد حكى أنه لا وقص
في النقدين فيجب فيما زاد على النصاب بحسابه خلافا لأبي حنيفة
وأنه اعتبره بالماشية. قال: وهو فاسد; لأنه قياس في غير محله
سيما على رأيهم فإن القياس في المقدرات ممنوع. انتهى.
وقال الأصحاب فيما إذا قلنا: يمسح على الجبيرة بالماء, هل
يتقدر مدة المسح بيوم وليلة للمقيم وثلاثة للمسافر؟ وجهان,
أصحهما: لا, لأن التقدير إنما يعرف بنقل وتوقيف ولم يرد, ونقل
القاضي في التقريب والشيخ في اللمع عن الجبائي مثل قول
الحنفية. قالا: وقيل: يجوز إثبات ذلك بالاستدلال دون القياس.
وقال آخرون: لا يجوز مطلقا. وقال الأستاذ أبو إسحاق
الإسفراييني: منع بعض أهل الكوفة جريان القياس في الزكاة
والحدود والمقادير, وربما ألحق بها الكفارات قال: وما من باب
إلا ولهم فيه ضرب من القياس ولا تعلق لهم بغيره, والظاهر أنهم
استعملوه في الوصف إذا ثبت بغير الأصل, ومنعوه في الإيجاب,
وجوزوه في الترك. انتهى وذكر أبو عبد الله الصيمري من الحنفية
في كتابه في الأصول أنه روي عن أبي يوسف إثبات الحدود بخبر
الواحد, قال: فيجوز على قوله إثباته بالقياس ويجوز أن يقال خبر
الواحد مقدم على القياس واحتج الشيخ في اللمع بأن هذه الأحكام
يجوز إثباتها بخبر الواحد فجاز إثباتها
(4/48)
بالقياس كسائر الأحكام وهذه العلة تبطل
بالنسخ وقد صار المزني إلى أن أقل النفاس أربعة أيام لأن أكثر
النفاس مثل أكثر الحيض أربع مرات فليكن أقله مع أقله كذلك,
وخالفه الأصحاب وقالوا أقله ساعة فقد خالفوا الأصل.
وقال ابن السمعاني: منع أصحاب أبي حنيفة جريان القياس فيما
ذكرناه وقال أبو الحسن الكرخي لا يجوز تعليل الحدود والكفارات
والعبادات, ولهذا منع من قطع النباش بالقياس, ومنع من إيجاب
الحد على اللواط بالقياس, ومنع من الصلاة بإيماء الحاجب
بالقياس, ومنع من إيجاب الكفارة في قتل العمد بالقياس قال: ولا
فرق في الكفارات الجارية مجرى العقوبات وبين ما لا يجري مجرى
العقوبات, ومنع أيضا من إثبات النصب بالقياس. قال: ولهذا الأصل
لا تجب الزكاة في الفصلان وصغار الغنم. والأصح على مذهبنا جواز
القياس في المقادير. ومنع الكرخي أيضا أن يعلل ما رخص فيه لنوع
مساهلة كأجرة الحمام, وقطع السارق, والاستصناع على أصولهم فيما
جرت العادة فيه مثل الخفاف والأواني وغير ذلك. وقد تتبع
الشافعي مذهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء مما ذكروه فقال
الشافعي: أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها تعديتموها إلى
الاستحسان وهو في مسألة شهود الزنى فإنهم أوجبوا الحد في تلك
المسألة ونصوا أنه استحسان. وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار
بالأكل على الإفطار بالوقاع, وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله
عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} [سورة المائدة: 95] وأما المقدرات
فقاسوا فيها ومما أفحشوا في ذلك تقدير عدد الدلاء عند وقوع
الفأرة ثم أدخلوا تقديرا على تقدير فقدروا للحمام غير تقدير
العصفور والفأرة, وقدروا الدجاجة على تقدير الحمامة وقدروا
الخرص بالقلتين في العشر. وأما الرخص فقد قاسوا فيها وتناهوا
في القصد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار من أظهر الرخص
ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة أو معتادة مقيسة على الأثر
اللاصق بمحل النجو, وانتهوا في ذلك إلى نحو نفي إيجاب استكمال
الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا النبي صلى الله عليه
وسلم فهموا هذا التخفيف منه في هذا الموضع لشدة البلوى.
ثم قال الشافعي رحمه الله تعالى: ومن شنيع ما قالوا في الرخص,
إثباتهم لها على خلاف وضع الشرع فيها فإنها شرعت تخفيفا وإعانة
على ما يعانيه المرء في سفره من كثرة أشغال قاسوها في سفر
المعصية. فهذا الذي ذكروه يزيد على القياس إذ القياس تقدير
المنصوص عليه قراره, وإلحاق غيره به, وهذا قلب الموضوع المنصوص
في
(4/49)
الرخص الكلية قال ابن السمعاني: وليس كل من
هذه المذكورات يجوز القياس فيها بل الضابط أن كل حكم جاز أن
يستنبط منه معنى مخيل من كتاب أو سنة فإنه معلل, وما لا يصح
منه مثل هذا لا يعلل سواء كان من الحدود أو الكفارات. ثم قد
تنقسم العلل أقساما, فقسم يعلل جملته لا تفصيله وهو كل ما يمكن
إبداء معنى من أصله وفرعه, وقسم يعلل جملته وتفصيله لعدم اطراد
التعليل في التفاصيل, وقسم آخر لا تعلل جملته, لكن بعد ثبوت
جملته تعلل تفاصيله, كالكتابة والإجازة وفروع تحمل العاقلة.
وقد يوجد قسم لا يجري التعليل في جملته وتفاصيله, كالصلاة وما
تشتمل عليه من القيام والسجود وغيره وربما يدخل فيه الزكاة
ومقادير الأنصبة والأوقاص انتهى.
وقال إلكيا: نقل عن زعماء الحنفية امتناع القياس في التقديرات
والحدود والكفارات والرخص, ولذلك منعوا إثبات حد السارق في
المختلس. وحكي عن أبي حنيفة ما يدل على ذلك, فإنه لم يثبت لهذا
المحصر بدلا عن الصوم وقال: إنه يقتضي إثبات عبادة مبتدأة وكان
يقول: إن النصب لا يصح أن تبتدأ بقياس ولا بخبر الواحد ولذلك
اعتد في إسقاط الزكاة في الفصيل, وكان يجوز أن يعمل القياس في
نصب ما قد يثبت الزكاة فيها, كما يجوز أن يعمل القياس في صفة
العبادة من وجوب وغيره, ولذلك قبلوا خبر الواحد في إثبات
النصاب فيمن زاد على المائتين, وفي وجوب الوتر. فقيل لهم: تكلم
الناس في الحدود والأيمان بالقياس, فأجابوا أنه ليس لأجل إثبات
حد به, وإنما تكلموا لبيان الشبه المسقطة له مع تحقق إثباتها,
وسقوط الحد ليس بحد فيصح القياس. وأوجبوا الكفارة على القتل
قياسا على المجامع, وعلى المرأة كالرجل, وعلى المجامع ناسيا في
الإحرام, كما لو قتل الصيد خطأ وليس في ذلك شيء من نص ولا عموم
ولا إجماع. فأجابوا بأن هذا لم نعلمه قياسا بل استدلالا
بالأصول على الأحكام مغاير للقياس لنحو السر. وهذا كله مردود
لأنه لا شيء فيها غير القياس.
ثم بين ذلك وأطال, وقال: الذي يستقيم مذهبا للمحصل على ما يراه
أن أبا حنيفة إنما قال ذلك في إجراء القياس في أصول الكفارات
وأصول الحدود كإلحاق الردة, والقذف بالقتل في الكفارة وكإلحاق
من يكاتب ويطلعهم على عوراتنا بالسارق من حيث إن ذلك يقتضي
التصرف في علائق غيب لا يهتدى إليه فانعدم طريق القياس. فامتنع
القياس من حيث إن الذي يكاتب الكفار وإن زاد ضرر فعله على ضرر
السارق الواحد فهو بالإضافة إلى سارق واحد, أما بالإضافة إلى
الجنس فلا من حيث إن السرقة
(4/50)
مما يتشوف إليها الرعاع بخلاف مكاتبة
المسلم فإنها لا تكاد توجد, أو لا يظهر استواء السبب, فكل ما
كان من هذا الجنس فلا يجري فيه القياس لفقد الشرط.
تنبيهات
الأول : أشار الغزالي رحمه الله إلى أن الجاري في الحدود
والكفارات ليس قياسا بل هو تنقيح المناط1 وكذلك في الأسباب,
ونازعه العبدري في الأسباب, وقال: هي تخريج, لا تنقيح.
الثاني : قال بعضهم: المراد بجريانه في الحدود زيادة عقوبة في
الحد, لوجود علة تقتضي الزيادة, كزيادة التعزير في حق الشرب
وتبليغه إلى ثمانين, قياسا على حد القذف. أما إنشاء حد بالقياس
على حد فلا يجوز بالاتفاق.
الثالث : ذكر في المحصول تبعا للشيخ في اللمع أن العادات لا
يجوز القياس فيها ومثله بأقل الحيض وأكثره, وهذا مخالف لتمثيل
الماوردي رحمه الله السابق, لأنه مثل به للمقادير وقد خطأ من
قاس في العبادات بأن هذه أمر وجودي, فإما أن يكون القياس
لإثبات ذلك الموجود في محل آخر ففاسد, لأن الأمور الوجودية لا
تطرد على نظام واحد, لأنه ليس حكما شرعيا حينئذ, وإما أن يكون
لإثبات الحكم: فإن كانت العادة موجودة في هذا الفرع أثبتنا
الحكم فيها فلا حاجة إلى الأصل لأنه مساو للفرع حينئذ في سبب
الحكم, وإن لم يبين وجوده فالحكم مثبت لانتفاء علته.
الرابع : أن سبب وضع هذه المسألة فيما ذكره ابن المنير أن أبا
حنيفة قد اشتهر عنه القول بالقياس والإقبال على الرأي والتقليل
من التوقيف والأحاديث, فتبرأ أصحابه من ذلك فأظهروا أنهم
امتنعوا من الرأي والقياس في كثير من القواعد التي قاس فيها
أصحاب الحديث. قلت: وكذلك منعهم من التعليل بالعلة القاصرة فهم
يدعون أنا أقول بالقياس منهم.
الخامس : سبق أن أبا حنيفة منع القياس في الكفارات ثم أوجب
الكفارة على المفطر بغير الجماع, والشافعي مع أنه حكي عنه جواز
القياس فيها فإنه لا يوجب الكفارة في غير الوقاع. ولهذا قال
بعض الفقهاء: ما أجدر كلا من الإمامين أن ينتحل في هذه المسألة
مذهب صاحبه, يعني: أن قياس القول بالقياس في الكفارات عدم
ـــــــ
1 انظر المستصفى "2/334" المنخول ص "285".
(4/51)
تخصيصها بالوقاع دون سائر المفطرات, وقياس
عدم القياس عدم إيجاب الكفارة في غير الوقاع. وهذا القول جهل
بمدارك الأئمة, فإنهم وإن أثبتوا بالحديث المأمور به بالكفارة
بمطلق الإفطار فهذا المطلق هو المقيد بالجماع, وقد يمكن أن
يبنى الخلاف في القياس في الكفارات على أنه هل يجب على المجتهد
البحث عن كل مسألة هل يجري القياس فيها أم لا؟ وهل قام الدليل
على أن أدلة القياس عامة بالنسبة إلى آحاد المسائل؟ وأن العلة
الجامعة بين الأصل والفرع في صورة الخلاف الخاصة صحيحة معتبرة
في نظر الشرع وخلية عن الاعتبار؟ وقد أشار ابن السمعاني إلى
هذا البناء المذكور.
(4/52)
مسألة: مذهب الشافعي
جواز القياس في الرخص
...
مسألة
قال في المحصول: مذهب الشافعي جواز القياس في الرخص, وهو ظاهر
كلام ابن السمعاني فيما سبق. وليس كذلك, فقد نص الشافعي في
البويطي على امتناع القياس, فقال في أوائله: لا يتعدى بالرخصة
مواضعها وقال في الأم: لا يقاس عليه. وكذلك إن حرم جملة وأحل
بعضها. وكذلك إن فرض شيئا رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
التخفيف في بعضه. ثم قال: وما كان له حكم منصوص ثم كانت لرسوله
سنة بتخفيف في بعض الفرض دون بعض عمل بالرخصة فيما رخص فيه دون
ما سواها ولم نقس ما سواها عليها. وهكذا ما كان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم من حكم عام لشيء ثم سن فيه سنة تفارق حكم
العام, كمسح الخفين والعرايا "هذا لفظه, وذكر في الرسالة1
مثله, وقال في موضع آخر من الأم2: ولا يقاس إلا ما عقلنا
معناه, ولهذا قلنا في المسح على الخفين لا يقاس عليهما عمامة
ولا برقع ولا قفازان وكذلك القسامة. وفي موضع آخر: إن المحرم
لا يتحلل بالمرض, والتحلل رخصة فلا يتعدى بها مواضعها. كما أن
المسح على الخف رخصة فلم يقس عليه مسح العمامة. انتهى.
وجرى على ذلك جماعة من أصحابنا منهم الأستاذ أبو منصور
البغدادي فقال: لا يجوز القياس عندنا على الرخص وعللوه بأنها
تكون معدولا بها عن الأصل وما عدا محل الرخصة يبقى على الأصل,
وقال القاضي الحسين في تعليقه": لا يجوز القياس في الرخص,
ولهذا لما كان الأصل غسل الرجلين ثم رخص في محل الخف المسح
للضرورة
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "66".
2 انظر الأم "1/30".
(4/52)
فلا يقاس عليه مسح القلنسوة والعمامة.
والأصل أن من تلبس بالإحرام لا ينقضي عنه إلا بالإتمام, ورخص
للمحصر بالعدو في التحلل, ثم لا يقاس عليه المصدود بالمرض.
والأصل أن لا يضمن الميت. فأوجب الغرة في الجنين لا على القياس
ثم لا يقاس عليه سائر الرخص. والأصل أن الجناية توجب على
الجاني فاستثنى منه جناية الخطأ ثم لا يقاس عليها غيرها.
وقال إلكيا: إنما نمنع القياس على الرخص إذا كانت مبنية على
حاجات خاصة لا توجد في غير محل الرخصة فيمتنع القياس لعدم
الجامع كغير المسافر يعتبر بالمسافر في رخص السفر إذ يتضمن
إبطال تخصيص الشرع. وقد يمتنع أيضا مع شمول الحاجة إذا لم يبن
عندنا استواء السببين في الحاجة الداعية إلى شرع القصر مع أن
المريض خفف عنه في بعض الجهات ذلك في الرخصة سدا لحاجته,
كالقعود في الصلاة, وذلك تخفيف في الأركان مقابل للتخفيف في
عدد الركعات. انتهى. وألحق القاضي عبد الوهاب القياس على الرخص
بالقياس على المخصوص وسيأتي فيه التفصيل الآتي قال: ويحتمل أن
يكون المنع عنه لأن علته قاصرة عليه, لا من حيث كونه رخصة.
وقال القرطبي: يحتمل التفصيل بين أن لا يظهر للرخصة معنى فلا
يقاس عليها وبين أن يظهر فيقاس, وينزل الخلاف على هاتين
الحالتين. ورأيت في كلام بعض المالكية التفصيل بين أن يكون
الأصل المقيس عليه منصوصا فيجوز, وبين أن يكون اجتهادا فلا.
فحصل مذاهب.
[أمثلة للقياس في الرخص]
وقد استعمل أصحابنا القياس في الرخص فيما سبق فلنشر إلى ذلك
أدنى إشارة, فإنه يعز استحضاره:
ومنها: أن السلم رخصة ورد مقيدا بالأجل وجوزه أصحابنا حالا,
لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فلأن يجوز حالا أولى لقلة الغرر
وقد ينازع في كونه هذا قياسا, وإنما هو من باب دلالة الفحوى,
أي مفهوم الموافقة, وفي كونها قياسا خلاف. على أن الغزالي في
المستصفى أبدى في كون السلم رخصة احتمالين له.
ومنها: ثبت في صحيح مسلم النهي عن المزابنة وهي بيع الرطب على
النخل بالتمر ثم ورد الترخيص في العرايا وهي بيع الرطب على
النخل بتمر في الأرض كذلك مفسرا من طريق زيد بن ثابت وغيره,
وألحق أصحابنا به العنب بجامع أنه زكوي يمكن
(4/53)
خرصه ويدخر بالسنة, فكان كالرطب وإن لم
يشمله الاسم.
قال ابن الرفعة: وكلام الشافعي في الأم يدل على أن الأصل
الرطب, والعنب مقيس عليه, ولكن الماوردي في الحاوي حكى خلافا
فقال: اختلف أصحابنا, هل جازت الرخصة في الكرم نصا أو قياسا؟
على وجهين:
أحدهما : وهو قول البصريين إنها نص فرووا عن زيد بن ثابت أن
النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في العرايا والعرايا: بيع الرطب
بالتمر والعنب بالزبيب.
والثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وطائفة من البغداديين
إنها جازت قياسا على النخل لبروز ثمرتها وإمكان الخرص فيهما
وتعلق الزكاة بهما. قلت: والظاهر ترجيح الثاني وهو الذي يدل
عليه كلام الشافعي. وما ذكره الأولون عن زيد بن ثابت غير ثابت
بل المعروف عنه خلافه. وقد روى البخاري عنه في صحيحه أنه عليه
الصلاة والسلام رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر
ولم يرخص في غيره1, ومن توابع ذلك أنه هل يلتحق بهما ما سواهما
من الأشجار؟ قولان, مدركهما جواز القياس في الرخص, والأصح أنه
لا يلحق.
ومنها: أن الصلاة تحرم عند الاستواء2, واستثني يوم الجمعة
لحديث أبي هريرة فيه, يستثنى باقي الأوقات في يوم الجمعة؟ فيه
وجهان: أحدهما: نعم كوقت الاستواء تخصيصا ليوم الجمعة وتفضيلا
له, "وأصحهما" المنع, لأن الرخصة قد وردت في وقت الاستواء
خاصة, فلا يلحق به غيره لقوة عموم النهي.
ومنها : الرخصة في مسح الخف وردت وهي مقصورة على الضرورة فلا
يلحق بها الجرموق على الجديد - لأن الحاجة لا تدعو إليه فلا
تتعلق الرخصة به. واستشكل هذا بتجويز المسح على الخف الزجاج
والخشب والحديد.
ومنها : لو مسح أعلى الخف وأسفله كفى وهو الأكمل, لوروده في
معجم الطبراني من حديث جابر, وفي الاقتصار على الأسفل قولان,
أصحهما: المنع, لأنه رخصة فيقتصر على الوارد. ومنها: التيمم
للفرض رخصة للضرورة, وفي جوازه للنافلة
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.
2 وذلك احديث عقبة بن عامر الجهني قال: " ثلاث ساعات كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن
موتانا, حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قام الظهيرة
حتى تميل الشمس, وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب " رواه مسلم
"1/568" كتاب صلاة المسافرين باب الأوقات التي نهي عن الصلاة
فيها حديث "831".
(4/54)
خلاف.
ومنها : النيابة في حج الفرض عن المعضوب رخصة1, كما صرح به
القاضي الحسين وغيره. ولو استناب في حج التطوع جاز في الأصح.
ومنها : أن الرخصة وردت فيمن أقام ببلد لحاجة يتوقعها كل وقت
فله أن يقصر ثمانية عشر يوما, ولا يجوز له الترخص بغير ذلك.
لكن هل يتعدى هذا الحكم لباقي الرخص من الجمع والفطر والمسح
وغيرها؟ لم يتعرض له الجمهور, ويحتمل إلحاقه بناء على جواز
القياس في الرخصة. وقد نص عليه الشافعي رحمه الله بالنسبة إلى
عدم وجوب الجمعة. ويحتمل منعه من جهة أنا منعنا الزيادة على
هذه المدة بالنسبة إلى القصر مع ورود أصله فلأن يمتنع رخص ما
لم يرد أصله أولى.
ومنها : أن الرخصة وردت بالجمع بين الصلاتين بالمطر وألحقوا به
الثلج والبرد إن كانا يذوبان, وقيل: لا يرخصان اتباعا للفظ
المطر.
ومنها : قال الروياني: لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر بعذر
المطر تأخيرا, وكذا تقديما في أصح الوجهين, لأن الجمعة رخصة في
وقت مخصوص فلا يقاس عليه. والمشهور الجواز.
ومنها : أن صلاة شدة الخوف لا تختص بالقتال, بل لو ركب الإنسان
سيلا يخاف الغرق وغيره من أسباب الهلاك فإنه يصلي ولا يعيد
قياسا على الصلاة في القتال. وأجاب إمام الحرمين في النهاية إذ
قال: من أصلكم أن الرخص لا تتعدى مواضعها ولذلك لم يثبتوا رخصا
في حق المريض بوجهين:
أحدهما : أن هذا بالنص وهو عموم قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ}
.
والثاني : أنا نجوز القياس في الرخص إذا لم يمنع مانع,
والإجماع يمنع من إجراء رخص السفر في المرض.
ومنها : أن صوم أيام التشريق لا يجوز في الجديد, ويجوز في
القديم للمتمتع إذا
ـــــــ
1 المعضوب: هو العاجز عن الحج بنفسه وذلك بسبب مرض معقد لا
برجى زواله أو كبر في السن بحيث تلحقه مشقة شديدة أو سبب كسر
لحقه. وهو من "العضب" أي: القطع. هكذا قال أهل اللغة يقال:
عضبته أي قطعته, قال الجوهري في الصحاح: المعضوب: الضعف قال
النووي: فيجوز أن يكون تسمية الفقهاء العاجز عن الحج "معضوبا"
لهذا ويجوز أن يكون من القطع لأن الزمان ونحوها قطعت حركته.
هذا هو الذي قاله الشارحون لألفاظ الفقهاء. انظر: تهذيب
الأسماء واللغات "3/2/25". والمصباح المنير "2/634".
(4/55)
عدم الهدي, وفي جوازه لغيره وجهان, أصحهما
المنع, لأن النهي عام والرخصة في حق المتمتع.
ومنها : قال الرافعي وردت السنة بالمساقاة على النخل, والكرم
في معناه. وفي الكفاية قيل: إن الشافعي قاس على النخل وقيل:
أخذه من النص.
ومنها : المبيت بمنى للحاج واجب وقد رخص في تركه للرعاة وأهل
سقاية العباس, فهل يلتحق بهم المعذور كأن يكون عنده مريض منزول
به محتاج لتعهده, أو كان به مرض يشق عليه المبيت, أو له بمكة
مال يخاف ضياعه؟ فيه وجهان: "أصحهما": نعم قياسا على العذر,
والثاني: المنع, والرخصة وردت لهم خاصة.
قال في "البحر": فلو عمل أهل العباس أو غيرهم في غير سقايته هل
يجوز لهم ترك المبيت والرمي؟
فيه وجهان: أحدهما: لا, والثاني: نعم, قياسا عليهم وهكذا ذكره
أبو حامد, ونص الشافعي في الأوسط على أنه لا يشركه باقي
السقايات وبهذا يعترض على تصحيحه في الروضة الجواز.
القياس في المقدرات:
ميقات المحرم من العراق ذات عرق واختلفوا هل هو بالنص عليه
كباقي المواقيت أو باجتهاد عمر؟
فيه وجهان, صحح النووي في شرح مسلم الثاني, وهو نص الإمام في
الأم1 وصحح الجمهور الأول كما قاله في شرح المهذب ولو جاء
الغريب من ناحية لا يحاذي في طريقه ميقاتا لزمه أن يحرم إذا لم
يكن بينه وبين مكة إلا مرحلتان, قياسا على قضاء عمر في تأقيت
ذات عرق لأهل الشرق. قاله إمام الحرمين تفقها, وتابعه الرافعي
والنووي.
القياس في الكفارات:
منها : اليمين الغموس وكفارة القتل والعدوان ونحوهما, فإنهم
أثبتوها قياسا.
ومنها : لو رأى مشرفا على الهلاك يغرق أو غيره وكان في تخليصه
الإفطار لزمه ويقضي. وفي الفدية وجهان أظهرهما: الوجوب قياسا
على الحامل والمرضع.
ـــــــ
1 انظر الأم "2/118".
(4/56)
ومنها: وهو مخالف لما سبق: من أفطر عمدا
بغير الجماع في رمضان لأنه لم يرد فيه توقيف.
القياس في الجوابر:
على المتمتع دم بنص القرآن, ويجب على القارن بالقياس فإن أفعال
المتمتع أكثر من أفعال القارن, وإذا وجب عليه الدم فلأن يجب
على القارن أولى, وهو دم حرمة على الأصح لا نسك. ودم فوات الحج
كدم التمتع في الترتيب والتقدير على المذهب, لأن دم المتمتع
إنما وجب لترك الإحرام من الميقات, والنسك المتروك في صورة
الفوات أعظم. وهذا كله بناء على أحد القولين في المفهوم الأولى
أنه من باب القياس.
القياس في الأحداث:
قال في "البرهان "لا يجري في الطهارات والأحداث لعدم اطلاعنا
على ضبط أهلها. قال القاضي: وكما لا تثبت الأحداث بالقياس لا
مجال للقياس أيضا في الأحداث, فإن القياس كما لا يهتدي لتأقيت
الطهارة لا يهتدي لنفي إثباتها, وقال في القواطع: قيل: إنه لا
مجال للقياس في الأحداث وتفاصيلها والوضوء وتفاصيله بل يتبع
محض النص وقيل: إن الوضوء معقول المعنى, فإنه مشعر بالتنظيف
والتنقية, وقيل: الصلاة يعقل فيها الخشوع والاستكانة, قلت: ومن
فروعه لو مس ذكره بدبر غيره. قال الإمام في النهاية لا ينتقض,
وفي الشامل ينبغي أن ينتقض, لأنه مسه بالآلة التي تمس بها هذا
المحل, وقول الإمام أقيس لأن الأحداث لا تثبت قياسا ولم يرد
إلا في اليد كما أنا لم نعده إلا في الأمرد, وإن وجد المعنى,
قال ابن السمعاني, وأما الشهادة فقالوا: أصلها معقول المعنى
وهو الثقة وحصول الظن والغفلة ولهذا لا تقبل شهادة النسوة لما
غلب عليهن من الذهول والغفلة, وأما أصل عقود المعاملات فمعقول
المعنى إلا أن الشرع أثبت فيها أنواعا من التعبدات فلزم
اتباعها ولا يجوز تجاوزها وتعديها انتهى.
(4/57)
مسألة [جريان القياس العقلي في العقليات]
الأكثرون منا ومن المعتزلة, كما قال الأستاذ أبو منصور وغيره,
على جريان
(4/57)
القياس العقلي في العقليات, أي: العلوم
العقلية, كقولنا في مسألة الرؤية: الله موجود, وكل موجود مرئي,
فيكون مرئيا. وحكى ابن سريج في كتابه الإجماع على استعماله.
قال: وإنما اختلفوا في الشرعي. ثم قيل: قطعي, والمحققون - منهم
الإمام الرازي - على أنه ظني لا يفيد اليقين. وقال ابن برهان:
القياس القطعي يجوز التمسك به في إثبات القطعيات, بخلاف الظني,
لأن المطلوب فيها القطع, واليقين لا يستفاد من الدليل الظني.
وذهب الصيرفي والغزالي إلى المنع وحكاه في البرهان عن أحمد بن
حنبل وأصحابه قال: وليسوا منكرين أيضا نظر العقل إلى العلم,
ولكن ينهون عن ملابسته والاشتغال به1.
قال الصيرفي: العقل وضع لإدراك الأشياء على ما هي به فلا يجوز
انتقاله عن هذا أبدا قال: وإنما أخطأ الناس في نفي القياس في
الأحكام لأنهم راموا جعل العقليات كالموجب في الشرع فلما لم
يجز أحالوه ولو سلكوا بكل واحد طريقه لأصابوا.
وقال إمام الحرمين أطلق النقلة القياس وأنا أقول: إن عنوا
النظر الفعلي فهو في نوعه مفض إلى العلم إذا استجمع شرائطه,
مأمور به شرعا, وإن عنوا به اعتبار شيء, بشيء واستثارة معنى في
قياس غائب على شاهد فذاك باطل عندي2.
قلت: ولا يمكن أن يعنوا به الأول, فإن القياس لا يطلق حقيقة
على النظر المحض.
قال الأصفهاني رحمه الله تعالى: ومن قال بجريان القياس في
العقليات جمع بين الأصل والفرع بأحد أمور أربعة:
أحدها : العلة كقولنا: العالمية في الشاهد حاصلة اتفاقا فكذا
في الغائب لأن تمام التعليم بالشاهد إنما كان للعالمية
المستقلة به للعلم, وهذا المعنى موجود في الغائب. فيكون له
العلم وهذا جمع بالعلة.
ثانيها : الجمع بالدليل. قالوا: الإتقان في الشاهد دليل العلم.
وأفعال الله متقنة فيكون عالما لوجود دليل العلم.
ثالثها : الجمع بالشرط كقولنا العلم من الشاهد شرطه الحياة
والله عالم فيكون حيا.
رابعها : الجمع بالإطلاق الحقيقي كقولنا: المريد من قامت به
الإرادة وهذه
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/875" المستصفى "2/335".
2 انظر البرهان "2/875".
(4/58)
طريقة المتقدمين من المتكلمين وهي ضعيفة
تفيد العلم والمطلوب في هذه المسائل إنما هو العلم.
(4/59)
مسألة [جريان القياس في اللغات]
في جريان القياس في اللغات وجهان, وقد سبقت في مباحث اللغات
بتحريرها ونقولها, والذي نذكره هاهنا أنه ليست هذه المسألة
مسألة التعليل بالاسم, بل تلك في أنه هل يناط حكم شرعي باسم؟
وهذه في أنه هل يسمى شيء باسم شيء آخر لغة لجامع؟ والقياس
الشرعي إلحاق فرع بأصل في حكمه.
وقال أبو الحسين في المعتمد: اختلفوا في العلة هل هي دليل على
اسم الفرع ثم تعلق به حكم شرعي أو يدل ابتداء على حكم شرعي؟
فحكى عن ابن سريج أنه قال: إنما ثبت بالقياس الأسماء في الشرع
ثم تعلق عليها الأحكام, فكان يتوصل إلى أن الشفعة تركة ثم
يجعلها موروثة, وأن وطء البهيمة زنى ثم تعلق به الحد, وبعض
الشافعية كان يقيس النبيذ على الخمر في تسميته خمرا لاشتراكهما
في الشدة ثم يحرمه بالآية. وأكثر الفقهاء متفقون على أن العلل
تثبت بها الأحكام فإن كان ابن سريج يمنع من تعليل الأحكام في
الشرع بالعلل فهو باطل, لأن أكثر المسائل إنما تعلل فيها
أحكامها دون أسمائها. وإن أراد أن العلل قد يتوصل بها إلى
الأسماء في بعض المواضع فإن أراد بالعلل العلل الشرعية فباطل;
لأن اللغة أقدم من الشرع فلا يجوز إثباتها بأمور طارئة.
قال إلكيا: كان ابن سريج يقول: إنما ثبتت الأسامي بالقياس ثم
تعلق الأحكام بها نحو ما كان يقول: إن القياس يوصل إلى أن وطء
البهيمة زنى ثم ثبت الحد فيه بظاهر الآية, ووجه كونه زنى أنه
إيلاج فرج في فرج تمحض تحريما فكان زنى, والنبيذ خمر للشدة
والخمر محرمة.
قال إلكيا: وهذا النوع باطل من كل وجه; لأن القياس في الأسامي
يتلقى من فهم مقاصد اللغة ومعرفته موضع اشتقاق الاسم, ثم يجري
على ما فيه ذلك المعنى ذلك الاسم, فيكون نهاية نصهم على فائدة
التسمية ذلك, وليس لهذا القول تعلق بالشرع, لأنه قد يصح سواء
كان هناك شرع أم لا, وأما القياس الذي يختص الشرع به فإنما
تثبت به الأحكام فقط بأن يعلل الأصول التي يثبت الحكم فيها,
لتعدية الحكم بالتعليل إلى ما شاركها في العلة.
(4/59)
وقد نص الشافعي رحمه الله تعالى في الخمر
على خلاف ما ذكره, والقول في بطلانه ظاهر في الشرع أولا, وفي
اللغة, لأن فهم موضع الاشتقاق لا يمنع إمكان تخصيص الاسم.
(4/60)
مسألة [القياس في الأسباب]
إذا أضيف حكم إلى سبب وعلمت فيه علة السبب فإذا وجدت في وصف
آخر هل يجوز أن ينصب سببا؟ وهي مسألة القياس في الأسباب فنقل
عن أبي زيد الدبوسي وغيره المنع.
وقالوا: الحكم يتبع العلة دون حكمة العلة, فلا يجوز أن يجعل
اللواط سببا للحد بالقياس على الزنى, ولا النبش سببا للقطع
قياسا على السرقة, واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وقال
الأصفهاني شارح المحصول إنه الأظهر. لكن المنقول عن أصحابنا
جوازه, واختاره الغزالي وإلكيا وعبارته: "معتقدنا جواز اعتبار
السبب بالسبب بشرط ظهور عدم تفاوت السببين في المعنى المعتبر,
ثم في وضع الأسباب ثم صورة الأسباب لا يراعى عند ظهور التفاوت
في مضمون السببين, وقال في موضع آخر: منع الحنفية القياس في
الأسباب, وعندنا يسوغ كما إذا ثبت لنا أن القصاص وجب لزجر
القاتل, وثبت أن القتل صار سببا لمكان الحكمة لا لصورته, فيجوز
اعتبار المشتركين في القتل بالقتل وإن ثبت لنا أنه غير قاتل
قال: وقد اعتبر الشافعي المساقاة بالقراض لاستوائهما في مقصود
التجار ومصلحة المتعاملين وهما سببان مختلفان, وإن أمكن أن
يقال: عموم الحاجة إلى القراض بخلاف المساقاة, لكن جوابه أن
المساقاة كانت أعم عند العرب وهم قوم رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ومنه اعتبار الشافعي الشهادة بالإكراه من جهة أن الشهادة يظهر
إفضاؤها إلى القتل كالإكراه, وإن كان للإكراه مزية من وجه
فللشهادة مزية من وجه. ومنه ما قال الشافعي رحمه الله إن
المرأة يلزمها الحج إذا وجدت نسوة ثقات يقع الأمن بمثلهن
إلحاقا لهن بالمحرم والزوج فقاس أحد سببي الأمن على الثاني
قال: وكذلك يجري في مثلهن في الشروط وقد نفى الشافعي رحمه الله
اشتراط الإسلام في الإحصان إلحاقا له بالجلد فقال: الجلد أعلى
أنواع العقوبات ثم استوى فيه إنكار المسلمين والكفار فالرجم
كذلك وهو حسن.
(4/60)
ثم قال: والضابط أن ما لم يوجد له نظير فلا
يلحق به. فلهذا لم يلحق المرض بالسفر لأنا لا نعلم نظيرا له في
الحاجة, وهذا واضح. وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: التقابض
شرط في بيع الطعام بالطعام قياسا على النقدين وصح هذا القياس
للشافعي بلا مدافع انتهى.
وأما صاحب "الكبريت الأحمر "فنقل المنع في أصل ترجمة المسألة
عن أصحابهم ثم قال: ومذهب الشافعي وأصحابه أن كل ما يمكن
استعمال القياس فيه بشروطه وجب ما لم يمنع مانع, وعن الشافعي
أنه قال في اشتراط النية في الوضوء قياسا على التيمم: طهارتان
فأنى يفترقان. انتهى.
ومنهم من قال: إن قلنا: إن الأسباب والموانع والشروط أحكام
شرعية جرى فيها القياس, وإن قلنا: ليست بحكم شرعي ففي جريان
القياس فيها نظر. قال القرطبي رحمه الله: والأولى جريانه, لأنا
عقلنا أن الزنى إنما نسب سببا للرجم لعلة كذا, ووجدناها في
اللواط مثلا, فيلزم نصب سببها. وكذلك هو في السرقة حتى يلحق
بها نبش القبر وأخذ الأكفان فهذا إذا تم على شروطه قياس صحيح
انتهى.
وقد ألزموا المانع منع حمل النبيذ على الخمر من حيث إن خصوص
وصف المحل لو اعتبر في محل الحكم لاقتضى منع توسيع الحكم, وفي
منع توسيعه رفع القياس أصلا. والمختار أنه يجوز أن يثبت سبب
حكم قياسا على سبب آخر, فإذا حكم الله برجم الزاني جاز أن يطلب
سبب ذلك حتى يقف على سببه وهو الزنى, فإذا ثبت أن الزنى علة
الرجم صح أن يعلله بعلة تعديها إلى غير الزنى, كما يجوز أن
يعلل الحكم الثابت على زيد ويعدى إلى عمرو عند فهم المعنى
المقتضي للتعدية, فإنه جائز بالإجماع, فكذا ما قبله. وقد أنكر
أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل, وقال: الحكم يتبع السبب
دون حكمة السبب, وإنما الحكم ثمرة وليس بعلة, فلا يجوز أن
يقال: جعل القياس سببا للقصاص للزجر والردع, فينبغي أنه يجب
القصاص على شهود القصاص إذا رجعوا لمسيس الحاجة إلى الزجر, وإن
لم يتحقق القتل إلى غير ذلك من الأسباب.
قال الإبياري في شرح البرهان: وهذا الذي قالوه يمكن أن ينزل
على ثلاثة أوجه: إما أن يقولوا ذلك بناء على توقيف ثابت يمنع
من القياس في هذه الحالة وحينئذ فيتبع وإما أن يقولوا: لم يثبت
عندنا عموم شرعية القياس عند فهم المعاني فهذا يجر أنواعا من
الخيال, ويقتضي منع القياس إلا في مواضع الإجماع, وقل أن يصادف
ذلك بحال. وإما أن يقولوا: إن تعليل الأسباب يفوت به حقيقة
القياس, لأن من شرع
(4/61)
القياس على الأصول تقريرها أصولا, وفي
تقرير الأسباب ما يخرجها عن كونها أسبابا قال: وهذا - والله
أعلم - معتمد القوم.
وتقريره: أنا إذا قلنا: الزنى علة الرجم واستنبطنا منه إيلاج
الفرج في الفرج المحرم قطعا إلى تمام القياس, واعتبرنا اللفظ
فقد أبان آخرا أن الزنى لم يكن علة, وإنما العلة أمر أعم من
الزنى فقد علل الزنى في كونه [سببا] بعلة أخرجت الزنى عن كونه
سببا. ويمنع تعليل الأصول بما يخرجها عن كونها أصولا. هذا أعظم
ما تمسكوا به في منع تعليل الأسباب, وقد تحير الأصحاب في
الجواب, واعتذروا بأن ذلك يرجع إلى تنقيح مناط الحكم دون
تخريجه.
وقال بعض أصحابنا: الإنصاف يقتضي مساعدتهم على ذلك. وزعم أن
الجاري في تعليل الأصحاب تنقيح المناط دون تخريجه وهذا هو
اختيار الغزالي, وقال: لا وجه غيره, وأنه الحق. وحاصل ما قاله
الاعتراف بامتناع إجراء القياس في الأسباب, لا لخصوص في
التعبد, ولا لتعذر فهم المعنى, ولكن لاستحالة وجدان الأصل عند
التعليل إذ يفوت القياس لفوات بعض أركانه ولا يبقى للقياس
حقيقة, ونحن نقول: الصحيح إجراء القياس على حقيقته في الأسباب,
ولا فرق في تصور القياس بين تعليل الأسباب وتعليل الأحكام.
وبيانه هو أنه إذا حرمت الخمرة فهل حرمت باعتبار خصوصية وصفها
وهو الخمرية حتى لا يتعدى الحكم إلى النبيذ بحال, أو حرمت
الخمر من جهة كونها مزيلة للعقل وهو الوصف الأعم؟ فإنها إذا
كانت أصلا باعتبار حكم الشرع فيها, وقد بان لنا أنه إنما حكم
فيها من جهة اشتدادها وإسكارها فكذلك إذا جعلنا الزنى علة
الرجم فيقال: هل هو علة من جهة كونه زنى أو من جهة علة أخرى
أعم من هذا, أو لا علة وهو باطل فهذا هو المناقض. أما إذا جعل
علة من بعض الجهات لم يخرج عن كونه علة مطلقا. هكذا ينبغي أن
يفهم تعليل الأسباب ولا فرق بينه وبين تعليل الأحكام في الأصول
السابقة.
قال: وهذه المسألة من أعظم مسائل الأصول فقد زل فيها الجماهير
وأثبتوا القياس في الأسباب على وجه يخل بمقصود القياس.
وقال ابن المنير: صورة القياس في الأسباب أن الإجماع قام على
أن الزنى سبب في الرجم, والنص أومأ إلى ذلك أيضا, فهل يجوز أن
نقيس عليه اللواط في إثبات حكم السببية له فيكون سببا للرجم,
أو لا؟ هذا محل الخلاف. ومنه قياس النبش على
(4/62)
السرقة وللمانعين مسلكان:
أحدهما : أن الجمع بين السببين لا يتأتى إلا بحكمة السبب,
بخلاف الجمع بين الأصل والفرع, فإنه يقع بالأوصاف. قالوا:
والحكم خفية لا تنضبط, والأوصاف ظاهرة منضبطة, ولا يصح التعليل
بما لا ينضبط, فلو فرضنا انضباط الحكم ففي جواز التعليل بها
خلاف, فإن أجزناه فلا يقاس في الأسباب بل نقيس الفرع بالحكمة
المنضبطة, ويستغنى عن توسيط السبب, وإن منعناه بطل القياس في
السبب.
والثاني : أن القياس في الأسباب يؤدي إثباته إلى أصالته بخلاف
القياس في الأحكام. وبيانه أن القياس في الأحكام يقرر الأصل
أصلا ويلحق به فرعا, والقياس في الأسباب يبطل كون السبب المقيس
عليه سببا, ويحقق أن السببية أمر أعم منه, وهو القدر المشترك
بين السببين, ويؤول الأمر إلى أنه لا أصل ولا فرع فلا قياس,
فقياس النبيذ على الخمر لم يغير حكم الأصل, ولا إضافة التحريم
إليها, وقياس اللواط على الزنى غير كون الزنى سببا وصير السبب
"الإيلاج" المشترك بين المحلين, فيصدق على الزنى أنه ليس بسبب
إن فرضناه سببا.
وأما المجوزون فاحتجوا بأمر جلي وهو انسحاب الإجماع عليه لأن
أهل الإجماع استرسلوا في الأقيسة, ولو ذهبنا نشترط في كل صورة
إجماعا خاصا بها لاستحال, فالقياس في السبب كالقياس في الإجارة
مثلا فلا يحتاج إلى إجماع خاص "قال": وينبغي أن يرتفع الخلاف
في هذه المسألة; لأن الأسباب لا تنتصب بالاستنباط, وإنما تنتصب
بإيماء النص والإجماع, وإذا فرضنا القياس في الأسباب فلا بد أن
نفرض فيها جهة عامة كالإيلاج, وجهة خاصة لكونه فرجا لآدمية,
وهو الذي يسمى زنى بلفظ السبب, ويتناول أمرين أعم وأخص, ولا
ينتظم القياس إلا بحذف الأخص عن درجة الاعتبار ليتغير الأعم,
إذ لو كان الأخص باقيا على تقييده لاستحال القياس, وإذا حذف
الأخص عن كونه مراد اللفظ بقي الأعم وهو مراد النص, وحينئذ
يكون القياس في الأسباب تنقيح مناط, وتنقيح المناط, حاصله
تأويل ظاهر, وهو يتوقف على دليل, فينبغي أن يقع الاتفاق على
قبول المسلك الذي سماه من سماه قياسا في الأسباب, لاتفاقنا على
قبول تأويل الظاهر بالدليل, فلا حجر في التسمية, ولا منع من
تسميته قياسا, لأن فيه صورة النطق في موضع والسكوت في موضع,
ووجود قدر مشترك بين الموضعين وهو سبب الاشتراك في الحكم, غير
أن امتياز المحلين نطقا وسكوتا إنما كان مبنيا على الظاهر الذي
قام أنه غير مراد, فلهذا تكدرت التسمية والخطب يسير.
(4/63)
مسألة
كل حكم شرعي أمكن تعليله يجري القياس فيه, وليس المراد أنه
يجوز إثبات جميع الشرعيات بالقياس خلافا لمن شذ1, وقد سبقت.
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب مع العضد "2/256" المعتمد "2/723".
(4/64)
مسألة
ذهب بعض الحنفية إلى أنه لا يجوز القياس إلا عن أمارة, ولا
يجوز عن دلالة للاستغناء بها, حكاه السمرقندي في الميزان وهو
غريب. وقد نقل جماعة الاتفاق على جواز الإجماع عن دلالة.
(4/64)
مسألة
ذهب أبو هاشم إلى أن القياس الشرعي إنما يجوز في تعيين ما ورد
النص به على الجملة فيعرف بالقياس تفصيله, كورود النص بالتوجه
إلى الكعبة, وبجزاء الصيد, وبتحريم الربا فيجوز أن يعرف
بالقياس من جهة القبلة, وصفة المثل في الجزاء, وتفصيل ما يجري
فيه الربا, ولا يجوز قياس المسكوت عنه على المنصوص عليه إذا لم
يدخل في الاسم الذي ورد به النص. وأما إثبات مسألة لم يرد فيها
النص فلا يجوز أن يبتدأ إلحاقها بالقياس ولهذا لما ثبت بالنص
ميراث الأخ جاز إثبات إرثه مع الجد بالقياس. قال الأستاذ أبو
منصور: والذي عليه الجمهور جواز القياس في الموضعين جميعا
كقياس الصلاة على الزكاة والعكس, والكفارة على الزكاة, والصيام
على الصلاة ونحوه في أنواع الأحكام. وقال إلكيا: ما قاله أبو
هاشم هو عين ما حكيناه عن أبي زيد وأبطلناه, ومما يدل على
بطلانه أن الأولين أثبتوا قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام
بالقياس, ولم يكن عليه نص على وجه الجملة, لأن قوله تعالى: {لا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [سرة
المائدة: 87] أمارة في المنع من تحريم ذلك, ولا يفيد حكمه إذا
وقع التحريم. ويحتمل أن يقال: علموا أصلا غاب عنا فيقال:
رأيناهم يتشرفون للقياس باتباع الأوصاف المخيلة المؤثرة من غير
قصد إلى جمل.
(4/64)
مسألة
حكى سليم الرازي عن بعض أصحابنا أن العموم إذا خص لم يجز أن
يستنبط منه معنى يقاس عليه غيره, لأنه إذا خص صار الحكم ثابتا
بقرينة, فإذا استنبط المعنى منه لم يصح اجتماع المعنى مع تلك
القرينة, فإن المعنى يقتضي العموم والقرينة تقتضي الخصوص فلا
يصح اجتماعهما, قال: وهذا قول فاسد, لأن اللفظ إذا خص خرج منه
ما ليس بمراد فبقي الباقي ثابتا باللفظ فيصير كأن الحكم للباقي
ورد ابتداء, فجاز استنباط المعنى منه.
(4/65)
مسألة
القياس الجزئي إذا لم يرد نص على وفقه مع عموم الحاجة إليه خرج
فيه بعض المتأخرين قولين كان الخلاف في ضمان الدرك بأن القياس
الجزئي يقتضي منعه, لأنه ضمان ما لم يجب, ولكن عموم الحاجة
إليه لمعاملة الغرماء وغيرهم يقتضي جوازه ولم ينبه النبي صلى
الله عليه وسلم عليه فمنعه ابن سريج على مقتضى القياس, والصحيح
صحته بعد قبض الثمن لا قبله, لأنه وقت الحاجة المؤكدة واختار
الإمام جوازه مطلقا لأصل الحاجة. وقال إمام الحرمين في البرهان
عند الكلام على أقسام المناسبة: إن ما ابتنى على الحاجة
كالإجارة لا خلاف في جريان قياس الجزء منه على الجزء, فأما
اعتبار غير ذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه معظم
القياسيين. ثم أشار إلى جوازه وقال: فإذن القياس على الإجارة
إذا استجمع الشرائط لا يضر. والاستصلاح الجزئي في مقابلة
الوجود بالموجود, وهذا كقياس النكاح مثلا في وجه الحاجة إليه
على الإجارة.
(4/65)
مسألة
التمسك بقياس جزئي في مصادمة قاعدة كلية مردود. ومن أمثلته
قياس الأقارير السابقة في إثبات الحق الآن, على الشهادة بالملك
السابق, في أنه لا يفيد الآن فهذا قياس جزئي في مقابلة قاعدة
كلية وهي أنه لو عمل بذلك فما كان في الشهادة على الأقارير
فائدة, والحجة تسقط بمضي ساعة, قاله ابن دقيق العيد في كتاب
اقتناص السوانح.
(4/65)
مسألة
يجوز أن يثبت ما طريقه القطع في الفروع والأصول بالقياس
المقطوع بصحته عليه دون ما لا يقطع بصحته. مثاله في الفروع,
قولنا: إن البسملة آية في كل سورة لأنه مكتوب بلا تغيير, متلو
بلا نكير, فهو كسائر القرآن. فهذا قياس مدلول على صحته
بالإجماع على كتابته في المصحف وتلاوته, وذلك يوجب القطع
بصحته. ومثاله في أصول الفقه قول بعضهم: إن الإجماع لا يشترط
فيه انقراض العصر, لأنه وجد إجماع من أهل العصر على حكم
الحادثة فكان حجة, دليله إذا انقرض العصر عليه.
(4/66)
|