البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

 [الركن الرابع] العلة
وهي شرط في صحة القياس ليجمع بها بين الأصل والفرع. قال ابن فورك: من الناس من اقتصر على الشبه ومنع القول بالعلة. وقال ابن السمعاني: ذهب بعض القياسين من الحنفية وغيرهم إلى صحة القياس من غير علة إذا لاح بعض الشبه. وذهب جمهور القياسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة لا بد منها في القياس وهي ركن القياس لا يقوم القياس إلا بها.
والعلة في اللغة قيل: هي اسم لما يتغير حكم الشيء بحصوله, مأخوذ من العلة التي هي المرض, لأن تأثيرها في الحكم كأثر العلة في ذات المريض. ويقال: اعتل فلان إذا حال عن الصحة إلى السقم. وهذا المعنى اعتمده القاضي أبو بكر في كتاب الإخبار عن "أحكام العلل" وهو مجلد لطيف وجرى عليه إلكيا وابن السمعاني. وقيل: لأنها ناقلة بحكم الأصل إلى الفرع كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض, حكاه ابن السمعاني, وقال: الأول أحسن, لأنا قبلنا صحة التعليل بالقاصرة.
وقيل: إنها مأخوذة من العلل بعد النهل, وهو معاودة الماء للشرب مرة بعد مرة, لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر, ولأن الحكم يتكرر بتكرار وجودها, ولأن الحادثة مستمرة باقية غير متكررة عند جمهور القدرية. قال إلكيا: وقد يعبر بها عما لأجل ذلك يقدم على الفعل أو يمنع منه يقال: فعل الفعل لعلة كيت, أو لم يفعل لعلة كيت. وقد استعملت في المعلولات في المعنى الذي يوجب لغيره حالا كالعلم يوجب العالمية, والوصف من غير حال السواد فقال: إنه علة في وصف المحل بأنه أسود. وأما في الاصطلاح: فاختلفوا فيها على خمسة أقوال1:
أحدها: أنها المعرف للحكم أي جعلت علما على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم, قاله الصيرفي في "كتاب الإعلام" وابن عبدان في "شرائط الأحكام" وأبو زيد من الحنفية, وحكاه سليم في التقريب عن بعض الفقهاء واختاره صاحب المحصول
ـــــــ
1 انظر تعريفات الأصوليين للعلة في اللمع ص "58" أصول السرخسي "2/174" مختصر ابن المعتمد "2/704" الحاجب "2/209" المنهاج ص "14".

(4/101)


والمنهاج. أي ما يكون دالا على وجود الحكم وليست مؤثرة لأن المؤثر هو الله, ولأن الحكم قديم فلا يؤثر فيه الحادث. ونقض ب "العلامة" فإن الحد صادق عليها وليست الأحكام مضافة إليها. وهذا بالنسبة إلى العلل الشرعية كما قاله الصيرفي. أما العقلية فموجبة. والفرق بينهما أن الشرع دخله التعبد الذي لا يعقل معناه, بخلاف العقل فإن أحكامه معقولة المعاني فمن ثم كانت علله مؤثرة وعلل الشرع معرفات والمؤثر إنما هو خطاب الشرع. وعبارة ابن عبدان في الفرق أن العقلية من موجبات العقول, والشرعية ليست من موجباته, بل هي أمارات ودلالات في الظاهر. وقال في "التقويم": علل الشرع أعلام في الحقيقة على الأحكام, والموجب هو الله تعالى بدليل أنها كانت موجودة قبل الشرع, ولو كانت موجبة لم تنفك عن معلولاتها قال: ويجوز أن تسمى أدلة لأنها دلت على حكم الله في الفروع قال: وبعضها أظهر من بعض, حتى قال علماؤنا: الظاهر منها قياس, والباطن استحسان.
تنبيه :
قال الهندي: ليس المراد بكونها معرفة أنها تعرف حكم الأصل, فإن ذلك لا يعرف بالنص بل حكم الفرع, لكن يخدشه قول أصحابنا إن حكم الأصل معلل بالعلة المشتركة بينه وبين الشرع مع أنه غير معرف بها.
الثاني : أنها الموجب للحكم على معنى أن الشارع جعلها موجبة لذاتها, وهو قول الغزالي وسليم. قال الهندي: وهو قريب لا بأس به, فالعلة في تحريم النبيذ هي الشدة المطربة كانت موجودة قبل تعلق التحريم بها, ولكنها علة بجعل الشارع.
الثالث : أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله, وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقلي. والعلة وصف ذاتي لا يوقف على جعل جاعل ويعبرون عنه تارة بالمؤثر.
الرابع : أنها الموجبة بالعادة, واختاره الإمام فخر الدين الرازي في "الرسالة البهائية" في القياس وهو غير الثاني.
الخامس : الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم. ومنهم من عبر عنها بالتي يعلم الله صلاح المتعبدين في التعبد بالحكم لأجلها, وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب وهو نزعة القائلين بأن الرب تعالى يعلل أفعاله بالأغراض.

(4/102)


والصحيح عند الأشعرية خلافه. ونحوه قول ابن القطان: العلة عندنا هي المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها, وهو الغرض والمعنى الجالب للحكم ثم قال: والعلة ما جلب الحكم. قال: وإلى هذا كان يذهب أبو علي بن أبي هريرة. انتهى. وحكى الماوردي في باب الربا القولين فقال: العلة هي التي لأجلها ثبت الحكم. وقيل: الصفة الجالبة للحكم.
وقال الأستاذ أبو منصور: اختلف في العلة فقيل: إنها صفة قائمة بالمعلول كالشدة في الخمر. وهو خطأ, لأن بعض الأغراض قد يكون علة لغرض آخر ولا يقوم أحدهما بالآخر. وقال: وإنما معنى العلة السبب الذي يتعلق به الحكم اجتهادا فإن النص الجالب للحكم لا يكون علة له, لأنه ليس من طريق الاجتهاد, والاعتلال استدلال المعلل بالعلة وإظهاره لها, والمعتل هو المعلل والمعتل به نفس العلة وقال إلكيا: العلة في عرف الفقهاء الصفة التي يتعلق الحكم الشرعي بها, والعقلية موجبة على رأي القائلين بها والشرعية موضوعة ولكنها مشبهة بها في الشرع, أثبت الحكم لأجلها في طريق الفقهاء فكان أقرب عبارة على هذا التقدير عبارة العلة ليكون الحكم تبع الحقيقة على مثالها. وقال ابن السمعاني: قالوا: إنها الصفة الجالبة للحكم. وقيل: إنها المعنى المنشئ.
مسألة
وهي تنقسم إلى عقلية: وهي لا تصير علة بجعل جاعل بل بنفسها, وهي موجبة لا تتغير بالأزمان كحركة المتحرك. وشرعية: وهي التي صارت علة بجعل جاعل كالإسكار في الخمر, وكانت قبل مجيء الشرع, وتتخصص بزمان دون زمان ولا تتخصص بعين دون عين.
مسألة
العلة حقيقة في العقلية. كالحركة علة في كون المتحرك متحركا, كما قاله الشيخ أبو إسحاق. وإنما تسمى العلل الشرعية علة مجازا أو اتساعا, وإلا ففي الحقيقة العلة ما أوجب الحكم بنفسه, وهي العلة العقلية, وأما التي توجبه بغيرها فليست بعلة في وضع المتكلمين, وإنما هي أمارة على الحكم.

(4/103)


مسألة
وتنقسم إلى: مستنبطة ومنصوصة, وقال بعض أهل خراسان: مسطورة ومنشورة. وقال في اللمع: وأنكر بعضهم جعل المنصوصة علة وهو قياس نفاة القياس. وقيل: هي علة في المعنى في المنصوص عليه ولا يكون علة في غيره إلا بأمر ثان, والصحيح أنها علة مطلقا. قال: وأما المستنبطة فيجوز أن تكون علة. وقيل: لا يجوز أن تكون علة إلا ما ثبت بنص أو إجماع.
مسألة
قال ابن فورك: طريق اعتبار العلة منهم من قال: سمعي, ومنهم من قال: عقلي, فمن قال: سمعي يراعي في كون الوصف علة دلالة سمعية, ومن قال: عقلي قال: طريقة اعتبار علل السمع كطريق اعتبار علل العقل, ويكون ذلك بالتقسيم بأن يقال: لا يخلو إما أن يكون حرم لكذا أو كذا, كما يقال: لا يخلو أن يكون تحرك لكذا أو لكذا, فيقع على المعنى له تحرك.
مسألة
قال في "المقترح": للعلة أسماء في الاصطلاح, وهي: السبب, والإشارة, والداعي, والمستدعي, والباعث, والحامل, والمناط, والدليل, والمقتضي, والموجب, والمؤثر. انتهى. وزاد بعضهم: المعنى. والكل سهل غير السبب والمعنى.
أما السبب: فهو متميز عن العلة من جهة الاصطلاح الكلامي والأصولي والفقهي واللغوي.
أما اللغوي فقال أهل اللغة: السبب ما يتوصل به إلى غيره. ولو بوسائط, ومنه سمي الحبل سببا, وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر وأمرا مؤثرا في آخر.
وقال أكثر النحاة: اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية, وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل. وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران. وأما الكلامي: فاعلم أنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين: أحدهما: أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به, والعلة ما يحصل به. والثاني: أن المعلول متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده, والسبب إنما

(4/104)


يقتضي الحكم بواسطة أو بوسائط, ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع. وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها, إذا اشترط لها, بل هي أوجبت معلولا بالاتفاق, حكى الاتفاق إمام الحرمين والآمدي وغيرهما.
وأما الأصولي: فقال الآمدي في جدله: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم, كما في القتل العمد العدوان, فإنه يصح أن يقال: قتل لعلة القتل, وتارة يطلقونها على حكمة الحكم, كالزجر الذي هو حكمة القصاص, فإنه يصح أن يقال: العلة الزجر. وأما السبب: فلا يطلق إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة. انتهى.
وأما الفقهي فقال إلكيا: يطلق السبب في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور:
أحدها : السبب الذي يقال: إنه مثل العلة كالرمي, فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة, لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه, ومنه الزنى.
الثاني : ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله, فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الآخر إلى الأصل.
الثالث : ما ليس سببا بنفسه ولكن يصير سببا بغيره, كقولهم: القصاص وجب ردعا وزجرا, ثم قالوا: وجب لسبب القتل, إذ القتل علة القصاص, فقطعوا الحكم عن العلة, وجعلوه متعلقا بالعلة, والعلة غير الحكم. واعلم أنه لولا الحكمة لكان الحكم صورة غير صالحة للحكم, فبالحكمة خرج عن كونه صورة, والعلة صارت جالبة للحكم بمعناها لا بصورتها, ودون الحكمة لا شيء إلا صورة الفعل, والصورة لا تكون علة قط, فعلى هذا, الحكمة راجعة إلى العلة فلا علة بدونها, والخلاف يرجع إلى اللفظ.
الرابع : ما يسمى سببا مجازا من حيث إنه سبب لما يجب, كقولهم الإمساك سبب القتل, وليس سبب القتل حقيقة, فإنه ليس يفضي إلى القتل, بل القتل باختيار القاتل, ولكنه سبب للتمكن من القتل بإلحاق, وقيل: سبب القتل. فالأسباب لا تعدو هذه الوجوه. انتهى. وقال في "تعليقه": المتكلمون لا يفرقون بين العلة والسبب, والفقهاء يقولون: العلة هي التي يعقبها الحكم, والسبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده. وفرق غيره بين السبب والحكمة, بأن السبب يتقدم على الحكم, والحكمة متأخرة عن الحكم, والحكم مفيد لها, كالجوع سبب الأكل, ومصلحة رفع الجوع وتحصيل الشبع حكمة له.

(4/105)


وقد ذكر الغزالي في الفقهيات أن الفعل الذي له مدخل في زهوق الروح إن لم يؤثر في الزهوق ولا فيما يؤثر فيه فهو "الشرط", كحفر البئر التي يتردى فيها مترد. وإن أثر فيه وحصله فهو "العلة" كالقد والحز. وإن لم يؤثر في الزهوق ولكن أثر فيما يؤثر في حصوله فهو "السبب" كالإكراه, ولا يتعلق القصاص بالشرط قطعا, ويتعلق بالعلة قطعا, وفي السبب خلاف وتفصيل.
وإذا تبين أن العلة فوق السبب, صح الحكم بتقاصر رتبته عن المباشرة كما قرروه في كتاب الجراح من أن المباشرة علة, والعلة أقوى من السبب, ومن نظائر المسألة: لو أن رجلا فتح زقا بحضرة مالكه فخرج ما فيه والمالك يمكنه التدارك فلم يفعل ففي وجوب الضمان على الفاتح وجهان, ولو رآه يقتل عبده أو يحرق ثوبه فلم يمنعه مع قدرته على المنع وجب الضمان وجها واحدا. والفرق أن القتل والتحريق مباشرة, وفتح الزق سبب, والسبب قد يسقط حكمه مع القدرة على منعه, بخلاف العلة لاستقلالها في نفسها. وإنما قلنا: قد يسقط حكمه ولم نجعل السقوط مطردا لأن الإنسان لو صالت عليه بهيمة غيره وأمكنه الهرب فلم يهرب ففي الضمان وجهان: أحدهما: يضمن وهو بعدم هروبه مفرط في حق نفسه. والثاني: لا يضمن لوقوع الصيال, وهذا الوجه أرجح منه في مسألة الزق, لأن الإنسان قد يحصل له عند الصيال دهشة تشغله عن الدفع.
وقال القفال الشاشي: الطرق في التمييز بين العلة والسبب والشرط: أنا ننظر إلى الشيء إن جرى مقارنا للشيء وأثر فيه فهو "العلة", أو غير مقارن ولا تأثير للشيء فيه دل على أنه "سبب". وأما "الشرط "فهو ما يختلف الحكم بوجوده. وهو مقارن غير مفارق للحكم كالعلة سواء إلا أنه لا تأثير له فيه وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلا.
وقال ابن السمعاني رحمه الله: الشرط ما يتغير الحكم بوجوده, والسبب لا يوجب تغير الحكم بل يوجب مصادفته وموافقته. ثم ذكر كلام القفال, ويتفرع على هذا الأصل مسألة خلافية مقصودة في نفسها. قال علماؤنا: الشرط إذا اتصل بالسبب ولم يكن مبطلا كان تأثيره في حكم تأخر السبب إلى حين وجوده لا في منع وجوده, ومثاله إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق, فالسبب قوله: "فأنت طالق "لأن "أنت طالق "ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدونه, غير أن الشرط أوقف حكمه إلى وقت وجوده, فتأثير الشرط إنما هو في منع حكم العلة, لا في نفس العلة, بدليل أنه لو لم يقترن به الشرط ثبت حكم العلة.

(4/106)


وربما عبروا عن هذا بأن الشرط لا يبطل السببية, ولكن يؤخر حكمها, والسبب ينعقد ولكن الشرط يرفعه ويؤخر حكمه فإذا ارتفع الشرط عمل السبب عمله, ومن ثم يقولون: الصفة وقوع لا إيقاع, والشرط عندهم قاطع طريق يضر ولا ينفع, إذ لا مدخل له في التأثير نفيا وإثباتا, وإنما هو توقف عن الحكم. ومن هذا يعلم أنها إذا دخلت طلقت لكونه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق, لا لكونها دخلت. قال أصحابنا من علق الطلاق فقد نجز السبب, والمعلق إنما هو عمل السبب لا نفسه, وقد وافقنا على ذلك المالكية والحنابلة, وقال أبو حنيفة: الشرط يمنع انعقاد السبب في الحال وخرجه بعض المتأخرين وجها في مذهبنا من قول بعض أصحابنا في المسألة السريجية: إنه يقع المنجز وطلقتان معه أو بعده من المعلق, وربما قال أبو حنيفة: الشرط داخل على نفس العلة لا على حكمها. قال: والشرط يحول بين العلة ومحلها. فلا تصير علة معه. والظاهر مذهب الشافعي لأن الشرط لا مدخل له في التأثير فكيف يمنع العلية.
وعلى هذا الأصل مسائل:
منها: تعليق الطلاق أو العتق بالملك عندنا باطل لأنه لم يصادف عندنا وقت التعليق محلا قابلا لما يعرف به منه, وقد بينا أن التعليق لا يمنع السببية, وإذا لم يمنعها انعقدت, وانعقاد العتق والطلاق في غير زوجة ورقيق غير معقول. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى, بناء على أصل: لما منع التعليق السببية لم يكن منعقدا فلم يكن الطلاق والعتق في غير مملوك بل هو إنما هي في مملوك, لأن العلة تأخرت إلى زمن الملك فالموجود وقت التعليق لفظ العلة لا نفسها وقد قطعها التعليق.
تنبيه :
قد عرفت حكم كلمة الشرط المسلطة على الأسباب, وأن الشافعي يقول: إنها لا ترفع السببية بل توقف حكمها, وأبو حنيفة يقول: بل ترفعها ولكن لا مطلقا بل إلى وقت وجود الصفة. وبالغ القاضي ابن سريج رحمه الله فقال بمذهب الشافعي في انعقاد السببية, وزاد أن الشرط يلغى بالكلية, لكونه ورد قطعا لشيء بعد مضي حكمه, فقال: إذا علق الطلاق تنجز في الحال, فهذه مبالغة وقول ضعيف. وبالغ ابن حزم في مذهب أبي حنيفة فقال به, وزاد أن الشرط منع انعقاد السبب مطلقا, وأن الطلاق المعلق لا يقع رأسا وجدت الصفة أو لم توجد وهذا خرق للإجماع فتلخص من هذا أن

(4/107)


الشرط الداخل على السبب قاطع له عند ابن حزم رأسا, ويقابله قول ابن سريج: إنه فاسد في نفسه غير معرض للسبب في شيء ولكن ابن سريج يقصر ذلك على ما إذا بدأ بالسبب قبل الشرط, ولا يقوله فيما إذا عكس فقال: إن دخلت الدار فأنت طالق والجمهور لا يلغون الشرط. ثم اختلفوا: فأشدهم إعمالا الشافعي حيث قال: إنه ينتصب في الحال سببا في ثاني الحال ونقلوه عن أبي حنيفة فإنه قال: لا ينعقد في الحال ولا يكون منهيا, وإنما ينعقد في ثاني الحال.
ومنها: أعني من المسائل المترتبة على أنه هل انعقد السبب في حال التعليق, كما يقوله أبو حنيفة, أو لم ينعقد كما هو الصحيح عندنا في موضع الشهود أن الغرم على شهود التعليق دون شهود الصفة في الطلاق والعتق. وفي وجه أراه أنه مذهب أبي حنيفة أنه عليهم جميعا. وقد أشبع إمام الحرمين هذا الأصل تقريرا في الخلافيات ثم عاد عنه في الفروع فقال: وقد حكى قول الأستاذ فيمن قال: وقفت داري بعد الموت, وساعده أئمة الزمان إن هذا تعليق على التحقيق, بل هو زائد عليه, فإنه إيقاع تصرف بعد الموت قال الرافعي: كأنه وصية بدليل أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعا.
وأما "المعنى" فقال الماوردي في الحاوي عبر بعض الفقهاء عن "المعنى " "بالعلة" وهو تجوز, والتحقيق أنهما يجتمعان من وجهين:
أحدهما : أن حكم الأصل موجود في المعنى والعلة.
وثانيهما : أن العلة والمعنى موجودان في الفرع والأصل.
ويفترقان من وجوه:
أحدها : أن العلة مستنبطة من المعنى وليس المعنى مستنبطا من العلة لتقدم المعنى وحدوث العلة.
والثاني : أن العلة تشتمل على معان, والمعنى لا يشتمل على علل, لأن الطعم والجنس معنيان وهما علة الربا.
والثالث : أن المعنى ما يوجب به الحكم في الأصل حتى يتعدى إلى الفرع والعلة اجتذاب حكم الأصل إلى الفرع, فصار "المعنى" ما ثبت به حكم الأصل, والعلة ما ثبت به حكم الفرع. ثم يجتمع العلة والمعنى في اعتبار أربعة شروط: أن يكون المعنى مؤثرا في الحكم, وأن يسلم المعنى ولا يردهما نص ولا إجماع, وأن لا يعارضهما من المعاني والعلل أقوى منهما, وأن يطرد المعنى والعلة فيوجد الحكم بوجودهما ويسلمان من نقض

(4/108)


أو كسر, فإن عارضهما نقض أو كسر لعدم الحكم مع وجودهما فسد وبطلت العلة, لأن فساد العلة يرفعها, وفساد المعنى لا يرفعه, لأن المعنى لازم والعلة طارئة, لأن الكيل إذا بطل أن يكون علة في الربا في البر لم يبطل أن يكون الكيل باقيا في البر, فيصير التعليل باطلا والمعنى باقيا, ولا يجوز تخصيص المعاني من العلل المستنبطة, وفي المنصوصة وجهان. والثاني وقوف العلة على حكم النص وعدم تأثيرها فيما عداها هل يصح؟ فيه وجهان.
وأما "المظنة" فهي معدن الشيء قال صاحب المقترح من غلط الطلبة تسمية العلة مظنة. قال شارحه: يريد أنهم غلطوا في إطلاق اسم المظنة على كل علة, وإنما تطلق في الاصطلاح على بعض العلل, ولها دلالتان: دلالة على المعنى, ودلالة على الحكم الشرعي, فهي إذا أضيفت إلى المعنى الوجودي سميت مظنة. وإذا أضيفت إلى الحكم الشرعي سميت علة له, ومن عكس ذلك فقد غلط. فالسفر مثلا يدل على المشقة ويدل على الرخصة, فإذا أضفته إلى المشقة قلت هو مظنة, وإذا أضفته إلى الرخصة قلت هو علة له, فالسفر مظنة المشقة, وعلة الرخصة وهذا أمر يرجع إلى اصطلاح جدلي.

(4/109)


مسألة [المعلول]
اختلفوا في "المعلول" ما هو؟ فقيل: هو محل العلة, وهو المحكوم فيه كالخمر للإسكار والبر للطعم, فإن المعلول من وجد فيه العلة, كالمضروب والمقتول وكالمريض المعلول ذاته, وحكاه الشيخ أبو إسحاق وسليم عن أبي علي الطبري وغيره, وخيالهم في ذلك أن الحكم مجلوب العلة ولا علة فيه إذن, وإنما جلبته العلة وصح بها, بل العلة في المحكوم فيه كالمأكول والمشروب لوجود الأكل والشرب فيه, ولذلك يقول الفقهاء: إن العلة جارية في معلولاتها, ولا يريدون به في أحكامها, والجمهور على أن المعلول هو الحكم لا نفس المحكوم فيه, كالمدلول حكم الدليل, وكذا المعلول حكم العلة, وحكاه الشيخ وسليم عن أبي بكر القفال وصححاه: وكذا إلكيا الطبري, ونسبه القاضي عبد الوهاب في التلخيص للجمهور. لأن تأثير العلة في الحكم دون ذات المحكوم فيه, وقال ابن برهان: الخلاف لفظي.
وأما "المعلل" بفتح اللام. فقال القاضي عبد الوهاب: هو الحكم في البر

(4/109)


والخمر دون ذاتيهما, ومتى قلنا إن البر معلل فمجاز, ومرادنا أن حكمه معلل, وأما "المعلل" بكسرها فقال الشيخ أبو إسحاق: هو الناصب للعلة و "المعتل" هو المستدل بالعلة قال القاضي وأما "المعتل به" فهو العلة كما أن المستدل به هو الدليل. وأما "التعليل" فقيل: هو إلحاق المعلل الفرع بالأصل بالعلة المقتضية لذلك, وقيل: هو الإخبار منه عن إلحاقه والاعتلال والتعليل واحد1.
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "58".

(4/110)


مسألة [تقدم العلة على المعلول في العقليات]
العلة متقدمة على المعلول في الأمور العقلية, فإنا نعلم قطعا أن حركة الخاتم متفرعة عن حركة الإصبع, وليست حركة الأصبع متفرعة عن حركة الخاتم, وأما الشرعية فقال الأصفهاني: هو كذلك لكن يفترقان من جهة أن العقلية تفعل بذاتها والشرعية يجعل الشارع إياها موجبا أو علة على الخلاف.
واعلم أنه لا خلاف أن العلة تتقدم على المعلول في الرتبة. واختلفوا هل تسبقه في الزمان أو تقارنه؟ على مذاهب:
أحدها : وعليه الأكثر من المعتزلة والفقهاء أنها تقارنه واستدل عليه بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [لزمر: 42] وزعم بعضهم أن ذلك في العقليات مجمع عليه, وكلام الرافعي في كتاب الطلاق يقتضي ترجيحه فإنه قال: الذي ارتضاه الإمام ونسب إلى المحققين أن المعلق بالصفة يقع مع وجودها, فإن الشرط علة وضعية, والطلاق معلول لها مقارن في الوجود, كالعلة العقلية مع معلولها. انتهى: وقال في الروضة: إنه الصحيح وأجاب الرافعي رحمه الله تعالى عن قول القائل: إن جئتني أكرمتك. أن الإكرام فعل لا يتصور إلا متأخرا عن المجيء فلزم الترتيب ضرورة, وقد يقال: هذا لا يرد لأن الكلام في معلول يترتب على العلة عند وجود المعلق بنفسه وما ذكروه ترتيب إنشاء فعل على وقوع شيء وهو يتأخر عنه ضرورة. أما وقوع الطلاق فإنه حكم شرعي لا يفتقر إلى زمان مخصوص فسبيله سبيل العلة مع المعلول.

(4/110)


والثاني : أنها معه. وللرافعي إليه صغو ظاهر.
والثالث : أن العقلية تقارن معلولها لكونها مؤثرة بذاتها, والوضعية تسبق المعلول, والشرعية من الوضعية. حكاه ابن الرفعة في كتاب الطلاق من "المطلب".

(4/111)


مسألة [لا بد للحكم من علة]
ونقل ابن الحاجب في الكلام على السبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة واستشكل ذلك بالأصل المشهور أن أفعال الله لا تعلل بالغرض1.
قلت: ولا منافاة بينهما لأن الأحكام غير الأفعال.
قال الأصفهاني في "شرح المحصول": ندعي شرعية الأحكام لمصالح العباد ولا ندعي أن جميع أحكام الله تعالى لمصالح العباد, وذلك ليس في علم الكلام وندعي إجماع الأمة, ولو ادعى مدع إجماع الأنبياء على ذلك, بمعنى أنا نعلم قطعا أن الأنبياء صلوات الله عليهم بلغوا الأحكام على وجه يظهر بها غاية الظهور مطابقتها لمصالح العباد في المعاش والمعاد ثم انقسم الناس إلى موفق وغيره, فالموفق طابق فعله وتركه للأحكام الشرعية ففاز بالسعادتين في الدارين, والمخذول بالضد من ذلك, والأمر فيهما ليس إلا لخالق العباد. انتهى.
وهكذا ذكر الهروي أن رعاية المصالح لم تخص شريعتنا بل كان معهودا في الشرائع المتقدمة, وعليها انبنت ووقف عليه الفقيه المقترح وقال: لا علم لنا بذلك, وقطع به الإبياري, وقال ابن المنير: ليس كما قال, فإن شريعة عيسى لم يكن القصاص فيها مشروعا, وقد أريد بها صلاح الخلق إذ ذاك, وما قاله في القصاص من شريعة عيسى باطل بل كان مشروعا وإنما الذي لم يشرع فيها الدية, ويتلخص ثلاثة أقوال: ثالثها: الوقف.
فإن قلت: إذا كانت كل شريعة انبنت على مصالح الخلق إذ ذاك فبماذا اختصت شريعتنا حتى صارت أفضل الشرائع وأتمها؟ قلت: بخصائص عديدة: منها: نسبتها إلى رسولها وهو أفضل الرسل. ومنها: نسبتها إلى كتابها وهو أفضل الكتب: ومنها استجماعها لمهمات المصالح وتتماتها ولعل الشرائع قبلها إنما انبنت على المهمات وهذه
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب مع العضد "2/236".

(4/111)


جمعت المهمات والتتمات, ولهذا قال عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 1 "ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا" إلى قوله: "فكنت أنا تلك اللبنة" 2 يريد عليه السلام أن الله عز وجل أجرى على يده وصف الكمال ونكتة التمام. ويلزم من حصول نكتة الكمال حصول ما قبلها من الأصل دون العكس.
واعلم أن مذهب أهل السنة أن أحكامه تعالى غير معللة بمعنى أنه لا يفعل شيئا لغرض, ولا يبعثه شيء على فعل شيء, بل هو الله تعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها وإعدام المضار بدون دوافعها. وقال الفقهاء: الأحكام معللة ولم يخالفوا أهل السنة بل عنوا بالتعليل الحكمة وتحجر المعتزلة ومن وافقهم من الفقهاء واسعا فزعموا: أن تصرفه تعالى مقيد بالحكمة مضيق بوجه المصلحة. وفي كلام الحنفية ما يجنح إليه, ولهذا يتعين الماء في إزالة النجاسة عندنا خلافا لهم, وكذا نبيذ التمر لا يتوضأ به خلافا لهم.
والحق أن رعاية الحكمة لأفعال الله وأحكامه جائز واقع ولم ينكره أحد, وإنما أنكرت الأشعرية العلة والغرض والتحسين العقلي ورعاية الأصلح, والفرق بين هذه ورعاية الحكمة واضح, ولخفاء الغرض وقع الخبط. وإذا أردت معرفة الحكمة في أمر كوني أو ديني أو شرعي فانظر إلى ما يترتب عليه من الغايات في جزئيات الكونيات والدينيات متعرفا بها من النقل الصحيح نحو قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الاسراء: 1] في حكمة الإسراء وبملاحظة هذا القانون يتضح كثير من الإشكال ويطلع على لطف ذي الجلال.
وقرر ابن رحال في "شرح المقترح" الإجمال بطريق آخر فقال: قال أصحابنا: الدليل على أن الأحكام كلها شرعية لمصالح العباد, إجماع الأمة على ذلك, إما على جهة اللطف والفضل على أصلنا, أو على جهة الوجوب على أصل المعتزلة, فنحن نقول: هي وإن كانت معتبرة في الشرع لكنه ليس بطريق الوجوب, ولا لأن خلو
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "2/318" حديث "8939" عن أبي هريرة مرفوعا [ينقل]. ورواه الحاكم في المستدرك "2/670" قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه والبيهقي في الكبرى "10/191" حديث "1/2057" والبخاري في الأدب المفرد "104" حديث "273".
2 الحديث رواه البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيين حديث "3534" ورواه مسلم "4/1791" كتاب الفضائل حديث "2287".

(4/112)


الأحكام من المصالح يمتنع في العقل كما يقول المعتزلة, وإنما نقول رعاية هذه المصلحة أمر واقع في الشرع, وكان يجوز في العقل أن لا يقع كسائر الأمور العادية. ثم القائل بالوجوب ما يريد ما هو المفهوم من الوجوب الشرعي, ولكن معناه عنده أن نقيضه يمتنع على الباري, كما يجب وصفه بالعلم لأن نقيضه - وهو الجهل - ممتنع, وعلى هذه الطريقة ينزل كلام ابن الحاجب وغيره ويرتفع الإشكال.
وقال بعض المتأخرين: اشتهر عند المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث, ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وليس كذلك ولا تناقض بل المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف, مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع, فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه, لأنه قادر أن يحفظ النفوس بغير ذلك, وإنما يتعلق أمره بحفظ النفوس, وهو مقصود في نفسه وبالقصاص, لأنه وسيلة إليه فكلاهما مقصود للشارع: حفظ النفوس قصد المقاصد, والقصاص قصد الوسائل, وأجرى الله العادة أن القصاص سبب للحفظ. فإذا قصد بأداء فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص, وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله تعالى ووسيلة إلى حفظ النفوس, كان له أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس, وكلاهما مأجور به من جهة الله تعالى, أحدهما بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [سورة البقرة: 178] والثاني: إما بالاستنباط أو بالإيمان بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا نبين أن كل حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان:
أحدهما: ذلك المعنى. والثاني: الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعله قاصدا به ذلك المعنى, فالمعنى باعث له لا للشارع. ومن هنا تعرف أن الظاهرية فاتهم نصف التفقه ونصف الأجر, وتعرف أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من التعبدي, نعم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفوس لا حظ لها فيه فقد يكون الأجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي, وتعرف به أيضا أن العلة القاصرة سواء فيها المستنبطة والمنصوص عليه.
فائدة :
بعين كل مسألة ثلاث مراتب: حكم الله بالقصاص, ونفس القصاص وحفظ

(4/113)


النفوس, وهو باعث على الثاني لا الأول, وكذا حفظ المال بقطع السرقة, وحفظ العقل باجتناب الخمر ونحوه, وكان بعضهم يجمع بينهما ويقول في تفسير المتكلمين: إن الأحكام وقعت على وفق المصالح لا أنها علة لها, وهذا وحده لا ينشرح له الصدر. انتهى.
نعم حكاية الإجماع مردودة فإن أبا الحسين بن القطان من قدماء أصحابنا اختار في كتابه أن الأحكام جميعها إنما ثبتت بالعلة, إلا أن منها ما يقف على معناه, ومنها ما لا يقف, وليس إذا خفيت علينا العلة أن يدل على عدمها, فقد أوجب الله تعالى علينا السعي والاضطباع لعلة سبقت في غيرنا. ثم قال: وذهب بعض الحنفية إلى أنه ليس كل الأحكام تعلل, بل منها ما هو لعلة, ومنها ما ليس له علة. قال: وهذا خطأ, لأن الواضع حكيم.
وحكى ابن الصلاح في "فوائد رحلته", عن كتاب العلل في الإحكام للقاسم بن محمد الزجاج تلميذ أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا: اختلف القياسون في العلل, فقال قوم منهم بنفي العلل, وزعموا أن تشبيه الشيء بالشيء على ما يغلب في النفس, لا أن ثم له علة توجب الجمع بين الشيئين, وزعموا أنه لم ينقل لهم عن أحد من الصحابة العلل, وقد حكي عن جميعهم القياس, فقلنا بالتشبيه إذ هو منقول عنهم ولم يعلل بالعلل. قال: واختلفوا في أن كل حكم لا بد له من علة, فقال قوم: ما أعلمنا الله علته قلنا: إنه لعلة, وما لم يعلمنا علته لم نقطع أنه لعلة بل جوزنا فيه أحد الأمرين. قال: وهذا عندي هو الأصح. انتهى. وقال الإمام الرازي في "الأربعين": اتفقت المعتزلة على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية مصالح العباد, وهو اختيار المتأخرين من الفقهاء. وهو عندنا باطل. إلى آخره1.
وقال إلكيا: فصل: في أن الأحكام الشرعية هل وضعت لعلل حكمية أم لا؟ ذهب بعضهم إلى امتناع أن يتعبد الله عباده بما لا استصلاح فيه. وهذا قول مرغوب عنه. ونحن وإن جوزنا أن يتعبد الله عباده بما شاء, ولكن الذي عرفناه من الشرائع أنها وضعت على الاستصلاح, دلت آيات الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ملاءمة الشرع للعبادات الجبلية والسياسات الفاضلة وأنها لا تنفك عن مصلحة عاجلة وآجلة. قال الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ}
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب "2/213" الإحكام للآمدي "3/303".

(4/114)


[النساء: 165]وقال {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] وهذا كله يدل على أنه تعالى إنما تعبدهم بالشرائع لاستصلاح العباد, وهذا لا يعلم إلا بالشرع, وأن العقل لا يدل على أن عند وقوع أحد الفعلين يقع الآخر على سبيل الاختيار إذا لم يكن المختار ممن ثبتت حكمته, فإذا صح ذلك السمع فأحدها القياس على ما سنبينه
ثم الأحكام الشرعية تنقسم إلى ما اطلعنا عليه وعلى وجه الحكمة فيه بأدلة موضوعة من النص تارة, ومن مفهوم وتنبيه وسير وإيجاز, ومنها ما لا يطلع فيه على وجه الحكمة الخفية, وهي من ألطاف الله التي لا يطلع عليها, فمن هاهنا تخصيص التكاليف بوقت دون وقت, وتخصيص بعض الأفعال بالندب, وبعضها بالوجوب, وهذه المصالح بحسب المعلوم من حال المتعبدين به واحدا اختلف الأفعال من الله تعالى في النقل من شريعة إلى أخرى, وقد بنى الله أمور عباده على أن عرفهم معاني دلائلها وجملها, وغيب عنهم معاني دقائقها وتفاصيلها, كما إذا رأينا رجلين عليلين تفاوتت عللهما عرفنا الوجه في افتراقهما, ولو سألنا عن تعداد الاختلاف جهلنا وهذا فن يهون بسطه.
إذا عرفت هذا فهل يجوز أن يقول الله لرسوله: احكم فكل ما حكمت هو الصواب؟ أو يأمر عامة الخلق أن يحكموا بما عن لهم, أو بعض العالم من غير اجتهاد؟ فيه خلاف سيأتي. فقيل: لله أن يتعبد بذلك والصحيح خلافه, فإن هذه الأحكام إذا وضعت لمصالح العباد يجوز أن يختار الفساد والصلاح جميعا وليس اختياره علما على الصواب, وبمثله لم يجز ورود التعبد بتصديق نبي من غير أمارة, فكما يجوز تفويض الأمر إلينا في الخبر على اتفاق الصدق فكذلك القول في المصلحة. قال: والفرق بينه وبين الاجتهاد أن الأمارة على التعبد به مقطوع بها, والظن مبني على أمارة تفضي إلى الظن قطعا, وهنا بخلافه, إذ لا أمارة.
إذا علمت ذلك فما ذكرناه من اشتمال كليات الشرع وجزئياته على المصالح وانقسامها إلى ما يلوح للعباد وإلى ما يخفى عليهم لا خلاف فيه, ولكن اختلفوا وراء ذلك في القياس الشرعي وأنه من مدارك الأحكام أو من القول بالشبه المحض, والذين ردوا القياس اختلفوا فيه, فقيل: لا يجوز ورود التعبد به أصلا, وقيل: يجوز ولكن يمتنع ورود التعبد, قال: ويمتنع ورود التعبد بالقياس في جميع الحوادث لأنه لا بد من أصول تعلل وتحمل الفروع عليها, ولهذا قلنا: إنه مظنون من حيث إن جهات المصالح مغيبة

(4/115)


عنا, فلا وصول إلى المعنى الواحد من بين المعاني على وجه يعلم أنه الأصلح دون ما سواه قطعا, ولأجله تفاوتت الآراء, وإنما اعتبرنا الأصول السمعية لصحة القياس لأنه لا يجوز رد الفرع إلى الأصول العقلية, ولا يجوز أن يتوصل إلى أحكامها بالأمارات التي يتوصل بمثلها إلى مصالح الدنيا, لأن لها أمارات معلومة بالعادة. انتهى.
مسألة
وإذا ثبت أن الحكم لا يثبت إلا لمصلحة إما جوازا أو وجوبا - على الخلاف - انبنى على ذلك أنه لا ينصب أمارة على الحكم إلا بمناسبة أو مظنة معنى يناسب, وإلا لزم ثبوت الحكم لا لمصلحة وهو ممتنع, فإن قيل: فقد يكون في غير المناسب مصلحة وأقر التعريف والعلامة وصار له طريقان: ظهور المناسب, ومحض العلامة. قلنا: لا يجوز عن المناسبة وإن خفي علينا. على أنه سيأتي في فصل الطرد من كلام الشافعي والأصحاب أنه لا يشترط ظهور المناسبة.
مسألة
قال بعضهم: الأحكام الضمنية لا تعلل, لأن الإنسان إذا سافر إلى بلد لزم منه نقل الأقدام وقطع المسافات, ثم إنه لا يعلل لعدم خطوره بباله, وهذا صحيح في حق الإنسان, فأما في أحكام الشرع فلا, لأن الشارع للأحكام لا تخفى عليه خافية فتحقق شرائط الإضافة إلى المصالح مضاف ومعلل, لأن شرط الإضافة ليس إلا العلم والخطور بالبال.
مسألة
هل الأصل في الأصول أن تكون غير معللة ما لم يقم الدليل على كونها معللة, أو الأصل أنها معللة إلا لدليل مانع؟ قولان حكاهما الدبوسي وشمس الأئمة. قالا: والأشبه بمذهب الشافعي أنها معللة في الأصل, إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل يميز. قالا: والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معللا في الحال.
مسألة
قال الدبوسي: حكم العلة عندنا تعدية حكم الأصل المعلل إلى فرع لا نص فيه

(4/116)


ولا إجماع ولا دليل, وعند الشافعي حكم العلة توقف حكم النص بالوصف الذي ترتب عليه كالعلة العقلية, وفائدة الخلاف تظهر في مسألتين: إحداهما: أن العلة القاصرة لا يصح التعليل بها عندنا وعندهم يجوز, والثانية: امتناع تعديها إلى فرع منصوص عليه عندنا, وعندهم: لا. قلت: وهذه هي المسألة السابقة أن الحكم ثبت بالأصل أو العلة. وقال ابن السمعاني: في مذهب الحنفية أن حكم العلة ثبوت حكم الأصل في الفرع بعلة الأصل, وفي الحقيقة ثبوت مثل حكم الأصل بها. ثم إن وجدت تلك العلة في موضوع آخر ثبت مثل ذلك الحكم في ذلك الموضع, وإلا فلا يثبت. قال: وهذا هو الخلاف في أن العلة القاصرة هل تصح أم لا؟ فعندنا: تصح, وعندهم: لا. ثم اعلم أنه كما جرى الاختلاف في الحكم فكذا في علة الحكم كاختلافهم في الإسلام هل هو علة العصمة أم لا؟ وكذا الاستيلاء على مال الغير عندنا علة للضمان وعندهم: ليس بعلة.
مسألة
المحققون من أصحابنا كما قاله ابن السمعاني على أن العلة لا بد من الدليل على صحتها, لأنها شرعية كالحكم, فكما لا بد من الدليل على الحكم فكذا العلة. قالوا: وإذا ثبت متفق عليه وادعى أنه معلل بمعنى أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل, وقد ذكر بعض الجدليين أنه لا تسوغ هذه المطالبة, لكن على المعترض أن يبطل معناه الذي ذكره إن كان عنده مبطل له. وهذا ليس بشيء, والصحيح هو الأول لما بيناه من فساد الطرد, وستأتي مسالك العلة الدالة على صحتها, وقال ابن فورك: من أصحابنا من قال: نعلم صحة العلة بوجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها ولا يرفعها أصل, منهم من قال: يحتاج إلى دلالتين يعلم بأحدهما أنه علة وبالآخر أنها صحيحة, ومنهم من قال: إذا دل الدليل على أنه علة لم يحتج إلى غيرها, لأن الفائدة ليست بعلة. واختلف أصحابنا في الجريان, هل هو دلالة صحة العلة أم لا؟ على وجهين ومعنى الجريان هو استمرارها على الأصول حتى لا يدفعها أصل ثابت.
مسألة
في أن العلة هل هي دليل على اسم الفرع ثم تعلق به حكم شرعي؟ هكذا ترجم أبو الحسين في المعتمد هذه المسألة, وحكى عن أبي العباس بن سريج رحمه الله أنه

(4/117)


قال: إنما يثبت بالقياس الأسماء في الفروع ثم تعلق عليها الأحكام, وكان يتوصل إلى أن الشفعة تركة, ثم يجعلها موروثة, وأن وطء البهيمة زنى ثم يتعلق به الحد1. وبعض الشافعية كان يقيس النبيذ على الخمر في تسميته خمرا لاشتراكهما في الشدة ثم يحرمه بالآية. وأكثر القياسين على أن العلل ثبتت بها الأحكام, فإن كان ابن سريج يمنع من الأحكام في الفروع بالعلل فذلك باطل, لأن أكثر المسائل إنما تعلل فيها أحكامها دون أسمائها, وإن أراد أن العلل قد يتوصل بها إلى الأسماء في بعض الموانع, ولم يمنع من أن يتوصل بها إلى الأحكام, فإن أراد بالعلل العلل الشرعية وبالأسماء الأسماء اللغوية فذلك باطل, لأن اللغة أسبق من الشرع, ولتقدم اللغة خاطبنا الله عز وجل بها, فلا يجوز إثبات أسمائها بأمور طارئة, وإن أراد أن الأسماء قد ثبتت في الله بقياس غير شرعي نحو أن يعلم أنهم سموا الجسم الذي حضرهم بأنه أبيض لوجود البياض, قسنا ما غاب عنهم من الأجسام البيض فليس ببعيد, وإن أراد أن من الأسماء الشرعية ما يثبت بالعلل فغير بعيد أيضا انتهى. وقد سبقت هذه المسألة في القياس في اللغة.
مسألة
إذا حرم الشيء لعلة فارتفعت هل وجب ارتفاع الحكم؟ قال ابن فورك: الذي نذهب إليه أنه يرتفع ويبقى بعد ذلك موقوفا على الدليل كتحريم الخمر للشدة, ثم تحرم للنجاسة, وكملك الغير مع عدم الإذن. ثم هي على ضربين: علل مطلقة للحكم, وعلل مقيدة, فالمطلقة كقول القائل علة القتل القتل. وشرطها أن يرتفع الحكم بارتفاعها فلا يجوز أن يوجد قتل إلا بقتل, ومنه مناقضة الشافعي لمحمد بن الحسن في الجمع بين الأختين في المبتوتة, لأن اعتلاله وقع مطلقا بأنه يؤدي إلى اجتماع مائه في رحم أختين. فقال: إذا خلا بها وطلقها لم يؤد إلى ذلك فأجزه. فقال بعض أصحاب أبي حنيفة: ذلك لعلة أخرى قلنا: إن الاعتلال وقع مطلقا, فلذلك كان كلام الشافعي نقضا لما قال. فأما أن يقول علة قتل القاتل كذا فيجوز أن يقتل غير القاتل, كما تقول أدركته لقربه وارتفاع المانع لم يدركه. قلنا وإن لم يوجد ذلك المعنى من طريق آخر فلا يكون نقضا وإنما ذلك لسببين مختلفين لحكم واحد.
ـــــــ
1 انظر المعتمد "2/710".

(4/118)