البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل في ذكر شروط العلة
الأول: أن يكون مؤثرا في الحكم1:
فإن لم يؤثر فيه لم يجز أن يكون علة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجم ماعزا لاسمه ولا لهيئة جسمه, ولكن الزنى علة الرجم, وكذا الطعم علة الربا دون الزرع, هكذا ذكره الماوردي والروياني. ومرادهما بالتأثير المناسبة وأحسن من عبارتهما قول الأستاذ أبي منصور: أن يكون وصفها مما يصح تعليق الحكم بها, فإن لم يجز تعليق الحكم بها فإن لم يجز تعليق الحكم على وصف لم يجز أن يكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم, ولهذا قلنا: إن المعصية لا تكون علة للتخفيف, وأبطلنا بذلك قول من جعل الردة علة لإسقاط وجوب الصلاة والصوم, وإباحة الفطر والقصر وأكل الميتة في السفر الذي يكون معصية.
وأجاز بعضهم التعليل بمجرد الأمارة الطردية. والحق خلافه وأنه لا بد أن يشتمل على حكم يبعث المكلف على الامتثال ويصح شاهدا لإناطة الحكم بها على ما تقدم.
وقال القاضي في التقريب: معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو الحكم بأن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها, والمراد من تأثيرها في الحكم دون ما عداها أنها جعلت علامة على ثبوت الحكم فيما هي فيه وليس المراد أنها موجبة لثبوت الحكم لا محالة كالعلة العقلية التي يستحيل ثبوتها مع انتفاء الحكم أو ثبوت حكمها مع انتقائها, وقيل: معناه إنها جالبة للحكم ومقتضية له ويجب أن يكون معنى هذه الألفاظ أجمع أنها علامة على ثبوت الحكم لا يوجبه في حق من غلب على ظنه كونها مؤثرة فيه.
وفي أي موضع يعتبر تأثير العلة؟ وجهان حكاهما الشيخ في اللمع:
أحدهما : في الأصل لأن العلة تنزع من الأصل أولا.
والثاني : أنه يكفي أن يؤثر في موضع من الأصول. قال: وهو اختيار شيخنا
ـــــــ
1 انظر اللمع "59" التبصير ص "458" المسودة ص "389" شرح الكوكب المنير "4/51".

(4/119)


القاضي أبي الطيب رحمه الله وهو الصحيح عندي, وحكى شارحه فيها ثلاثة أوجه: أحدها: تأثيره في الأصل. قال: وهو قول أكثر أصحابنا واختاره ابن الصباغ, وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة. والثاني: اشترط تأثيرها في الفرع, لأنه المقصود والأصل ثابت بالإجماع. والثالث: أنه يكفي في موضع من الأصول سواء المقيس عليه وغيره وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والغزالي وغيرهم لأن تأثيرها في موضع يدل على صحتها.
الثاني: أن يكون وصفا ضابطا1:
لأن تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمة مجردة لخفائها, فلا يظهر إلحاق غيرها بها, وهل يجوز كونها نفس الحكمة, وهي الحاجة إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة؟ قال الإمام الرازي في المحصول: يجوز. وقال غيره: يمتنع واختاره في "المعالم", وفصل آخرون فقالوا: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها لمساواة ظهور الوصف, واختاره الآمدي والهندي, واتفقوا على جواز التعليل بالوصف المشتمل عليها, أي مظنتها بدلا عنها, ما لم يعارضه قياس والمنقول عن أبي حنيفة المنع, وقال: الحكمة من الأمور الغامضة, وشأن الشرع فيما هو كذلك قطع النظر عند تقدير الحكم عن دليله ومظنته. وعن الشافعي الجواز وأن اعتبارها هو الأصل, وإنما اعتبرت المظنة للتسهيل.
وعلى هذا الأصل ينبني خلافهما في المصابة بالزنى, هل تعطى حكم الأبكار أو الثيبات في السكوت؟ فإن قطع بانتفاء الحكمة في بعض الصور كاستبراء الصغيرة فإنه شرع لتبين براءة الرحم وهو مفقود في الصغيرة, فقال الغزالي وتلميذه محمد بن يحيى: ثبت الحكم بالمظنة, فإن الحكم قد صار متعلقا بها, والذي عليه الجدليون أنه لا يثبت لانتفاء الحكمة فإنها أصل العلة, وقال ابن رحال: التعليل بالحكمة ممتنع عند من يمنع القياس في الأسباب, وجائز عند من جوزه.
فرعان فيهما نظر:
الأول : هل العلة حقيقة في الوصف المترجم عن الحكمة مجاز في الحكمة؟ أو
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "3/290" شرح تنقيح الفصول ص "406" نهاية السول "3/106" إرشاد الفحول ص "207" نشر البنود شرح مراقي السعود "2/132".

(4/120)


العكس, لأن الحكمة هي المقصودة اعتبارا والملاحظ بالحقيقة إنما هو معناها وتوسط الوصف مقصود لأجلها.
الثاني : إذا وجد محل قابل للتعليل بالوصف والحكمة, والحكمة نهضت بشرطها وسارت العلة في تأثير التعدية بإلحاق فروع تنشئ أحكاما من الأصل, فالأولى في النظر أن ينظر إلى الوصف أو الحكمة؟ فيه احتمالان: أحدهما: الوصف لاتفاقهم على التعليل به واختلافهم في الثاني. والثاني: الحكمة لأنها المقصودة بالذات والوصف وسيلة إلى العلم بوجودها.
الثالث: أن تكون ظاهرة جلية1:
وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء, ذكره الآمدي في جدله". وظاهره أن العلة يجب أن تكون في الأصل أظهر منها في الفرع, وقول الأصوليين: "القياس في معنى الأصل" يقتضي استواء حالهما في المحلين, والحق أن كل وصف يمكن الوقوف عليه بدليل ينبغي أن يصح نصبه أمارة, لأن مقصود التعريف يحصل منه. كما يحصل من غيره, سواء كان خفيا أو لا وقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وفي الحديث: "إنما البيع عن تراض" , وهذا يدل على أن الرضا هو المعتبر في العقود وإن كان خفيا عندهم, وكذلك العمدية علة في القصاص, وهو كثير في الكتاب والسنة.
واعلم أنهم فسروا الخفاء بما لا يمكن الاطلاع عليه, ومثلوه بالرضا في العقود والعمدية في القصاص, واستشكل لأنهم إن عنوا بكونه لا يطلع عليه أنه لا سبيل إلا الوقوف عليه لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره مما يدل عليه, فهذا لا يصح نصبه أمارة بنفسه ولا مظنة, وإن عنوا به أنه لا يطلع عليه باعتبار نفسه ويمكن [أن] يوقف عليه باعتبار ما يدل عليه, فيلزمهم على هذا أن يكون الإشكال خفيا, لأنه لا يوقف عليه باعتبار نفسه وإنما يستدل عليه بآثاره. قالوا: وينبغي أن يكون التعليل بالقدر المشترك بين الأصل والفرع إذ يعسر تعيين قدر في الأصل هو ثابت في الفرع, وأيضا إذا فعل ذلك اندفعت النصوص إذ يمنع أن يكون ما في محلها من الحكم غير قاصر عن ذلك القدر المشترك. قال ابن النفيس في "الإيضاح": إن الأمر وإن كان كذلك ولكن يرد حينئذ
ـــــــ
1 انظر التبصير للشرازي "460" المعتمد لأبي الحسن البصري "2/822" أصول السرخسي "2/208" المنخول للغزالي ص "404" المستصفى "2/336".

(4/121)


منع يعسر دفعه, وهو أنه لم قلتم: إن هذا القدر المشترك قدر يجوز التعليل به؟ فإن التعليل بالحكمة إنما يجوز إذا كان لذلك الحكم قدر يعتد به ولا يجوز التعليل بكل حكمة.
الرابع : أن تكون سالمة بشرطها, أي بحيث لا يردها نص ولا إجماع. لأن القياس فرع لها لا يستعمل إلا عند عدمها فلم يجز أن يكون رافعا لها, فإذا رده أحدهما بطل.
الخامس : أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها, فإن الأقوى أحق بالحكم, كما أن النص أحق بالحكم من القياس, وما أدى إلى إبطال الأقوى فهو الباطل بالأقوى. ذكره - والذي يليه - الماوردي والروياني.
السادس : أن تكون مطردة, أي كلما وجدت وجد الحكم ليسلم من النقض والكسر, فإن عارضها نقض أو كسر فعدم الحكم مع وجودها بطلت.
واعلم أن العلة إما عقلية أو سمعية, فالعقلية يمتنع تخصيصها بإجماع أهل النظر كما نقله ابن فورك والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور وابن عبدان, في شرائط الأحكام, وغيرهم. وإنما اختلفوا في الشرعية. وهي إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة, فإن كانت مستنبطة فجزم الماوردي والروياني بامتناع تخصيصها على معنى أن العلة لا تبقى حجة فيما وراء الحكم المخصوص لبطلان الوثوق بها, وقال ابن فورك: عند الشافعي لا يجوز تخصيصها, وقال ابن كج: إنه قول أصحاب الشافعي. قال الأستاذ أبو منصور أجمع عليه أصحاب الشافعي, وكذلك قال صاحب "البيان" في باب الربا: إنه لا خلاف فيه عندنا, وإنما الخلاف في المنصوصة. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: اتفق عليه أهل الحجاز والبصرة والشام, وبه قال أكثر العراقيين, وزعم أهل الكوفة أنه لا يمتنع. وأطلق ابن الصباغ في "العدة" منع تخصيص العلة وإن كانت منصوصة.
فمن جوز تخصيص المستنبطة جوز هذه أيضا, ومن منع هناك اختلفوا على قولين, وهما وجهان لأصحابنا.
أحدهما : المنع, كالمستنبطة. قال القفال الشاشي: والفرق بينها وبين اللفظ العام حيث جاز تخصيصه أن العام لا يجوز إطلاقه على بعض ما يتناوله, فإذا ورد لم ينافه, وأما العلة المستنبطة فإنما انتزعها القائس من الأصل, ومقتضاه الاطراد, وقال الأستاذ أبو إسحاق: هذا قول الجمهور وهو الصحيح. وقال القاضي في التقريب إنه قول الجمهور من الفقهاء, ثم اختاره القاضي آخرا وجزم به القاضي أبو علي بن أبي هريرة, ونصره في "كتاب الجدل" له, وكذا الخفاف في الخصال وقال الأستاذ أبو

(4/122)


منصور: إنه الصحيح عندنا, وقال إلكيا: إنه المشهور عند أصحاب الشافعي.
وقال في القواطع: إنه مذهب الشافعي وجميع أصحابه إلا القليل منهم, وهو قول كثير من المتكلمين, وقالوا: تخصيصها نقض لها, ونقضها يتضمن إبطالها. قال: وبه قال عامة الخراسانيين من الحنفية. قال أبو منصور الماتريدي تخصيص العلة باطل, ومن قال بتخصيص العلة فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث, لأنه أي فائدة في وجود العلة ولا حكم إذ العلة شرعت للحكم, والكلام في العلل الشرعية, فإذا خلا الفعل عن العاقبة الحميدة يكون عبثا. والدليل على فساد تخصيص العلة, أن دليل الخصوص يشبه الإبداء أو الناسخ وكلاهما لا يدخل العلل. وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص لا يجوز تخصيص العلة سواء المنصوصة والمستنبطة في قول أصحابنا وأكثر أصحاب الشافعي وبعض الحنفية.
وقال الغزالي في "المنخول"1: المختار أن التخصيص لا يتطرق إلى جوهر علة الشارع, فإنه من أعم الصيغ, ولا نظن برسول الله أن ينصب علما ثم ينتفي الحكم مع وجوده من غير سبب, نعم يتطرق إلى محل كلامه بتخصيص بعض المحال, بدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] فيذكر المحل دون العلة.
والثاني : الجواز, ونقل عن ابن سريج, وقال أبو الحسين: إنه ظاهر مذهب الشافعي وهو الذي أورده ابن كج في كتابه. قال: والفرق بينها وبين المستنبطة حيث امتنع فيها أن المنصوصة في الحقيقة ليست بعلة, بل هي كالاسم يدل على الحكم بدلالة العموم, وأيضا فإنما جاز تخصيصها لأن واضعها قد علم أنه لم يرد بها عند إطلاقها العموم فصار كالاستثناء, والمعلل يقصد بالعلة جميع معلولاتها, فإذا وجدت ولا حكم كان نقضا, وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أهل العراق. قال: وحكاه الهمداني عن أصحابنا والأمر بخلاف ما قاله. انتهى. قال إلكيا: وإليه ذهب قدماء الحنفية, ونقله ابن برهان في "الوجيز "عن الأستاذ أبي إسحاق. - وفيه نظر لما سبق عنه - ونقله ابن السمعاني عن عامة العراقيين من الحنفية. قال: ومنهم أبو زيد وادعى أنه مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
قال: واختلف أصحاب مالك في ذلك على قولين. وقال ابن برهان في
ـــــــ
1 انظر المنخول ص "408".

(4/123)


"الأوسط": وأما أصحاب أبي حنيفة فالمتقدمون منهم وافقوا الشافعي على المنع, والمتأخرون كأبي زيد جوزوا ورجع بعضهم عن ذلك وهم أهل ما وراء النهر. انتهى. وقال القاضي في التقريب: جوز قوم من أسلاف أصحاب أبي حنيفة تخصيصها مستنبطة ومنصوصة, وزعموا أنه قول أبي حنيفة, وحكى بعضهم ذلك عن مالك وهو غير ثابت عنه, ومن أصحابه من يجيزه, وأنكر كثير من أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيص العلة وأن يكون ذلك قولا لأبي حنيفة وقالوا: إنما يترك بعض أسلافنا الحكم لأجل علة أخرى وهي أولى منها فأما على وجه تخصيصها فلا. وهذا اعتذار منهم وتحام للقول بتخصيصها.
وتحصل في المسألة مذاهب: ثالثها: المنع في المستنبطة, والجواز في المنصوصة.
وفيها مذهب رابع: وهو تجويز تخصيصها في أصل المذهب, وأما في علة النظر. فلا يجوز, حكاه السهيلي في "أدب الجدل" عن بعض الحنفية. قال: وهو فاسد لأن التعليل في الناظرة إنما يثبت المذهب, فوجب القول بجواز ما فيه وهو قريب من اختيار ابن برهان في "الوجيز" شرط الاطراد في المناظرة حتى أنه ليس له الاحتراز عن النقض الذي أورده الخصم. والجواز في المجتهد نفسه حتى أن له الرجوع إلى ذلك.
وفيها مذهب: خامس: حكاه القاضي في التقريب عن بعض القدرية وهو التفصيل بين علة الإقدام فيجوز تخصيصها, وبين علة ترك الفعل فلا يجوز, بل يكون علة لتركه واجتنابه أين وجدت. قال: وهذا القول خروج عن إجماع الأمة وربما عزي لقدماء الحنفية. قال ابن فورك: ولأبي علي بن أبي هريرة طريقة في تخصيص العلة والعموم فيقول: إن تخصيصها سواء, وهو أنه إنما يمتنع تخصيص العلة المطلقة كما يمتنع تخصيص العام المطلق, وأما إذا اقترنت بهما قرينة فيعلم أن ذلك كان فيها في الابتداء وليس ذلك نقضا, والنقض أن يقال: كانت مطلقة فقيدت الآن, فعلى هذا يسقط ما قاله الخصم تخصيصا من علل السمع, بل تبين بالقرينة, أنها وقعت في الابتداء مقيدة.
ثم الكلام في تحرير أمور:
أحدها : أن الغزالي ذكر في "شفاء العليل" أنه لم يصح عن الشافعي وأبي حنيفة التصريح بتخصيص العلة أو منعه, ونقل الدبوسي تعليلات عنهما منقوضة. قال:

(4/124)


وهذا يدل على قبولها التخصيص. انتهى.
ويوافقه ما ذكره الصيرفي في كتاب "الأعلام" أن المجوزين قاسوا بقول الشافعي: "القياس كذا لولا الأثر "و "النظر كذا لولا الخبر", وكذا أبو حنيفة يقول: "القياس كذا إلا أني أستحسن", ولولا الأثر لكان القياس كذا. فلو كانوا يبطلون الأصل الذي جرى القياس فيه لما وجدوا الأثر في العين التي جاء الأثر فيها, انتهى.
وقال القاضي في التقريب: نقل جماعة عن أبي حنيفة جواز التخصيص مطلقا, وحكى عن مالك أيضا. وهو غير ثابت عنه. وأنكر كثير من الحنفية القول بتخصيص العلة وأن يكون ذلك قولا لأبي حنيفة وقال: إنما يترك بعض أسلافنا الحكم بعلة لأجل علة أخرى هي أولى منها, فأما على وجه تخصيصها فلا, وإنما هذا اعتذار وتحام عن القول بتخصيصها. ونقل ابن فورك وابن السمعاني وغيرهما عن الشافعي المنع. وقال ابن برهان في "الأوسط": إن الشافعي نص على أن القول بتخصيص العلة باطل, وأن القاضي قال: لو صح عندي أن الشافعي قال بتخصيص العلة ما كنت أعده من جملة الأصوليين.
وذكر صاحب المعتمد أن في كلام الشافعي جوازه, قال: وذكر أقضى القضاة يعني عبد الجبار - في "الشرح "أن الشافعي لا يجيز ذلك وإنما يعدل عن حكم علة إلى علة أخرى. والمعلوم من مذهبه أنه شرط في العلة التأثير حتى لا تنتقض.
قلت: وفي كلام الشافعي في الأم ما يقتضي الجواز, فإنه قال: ويسن سنة في نص معين فيحفظها حافظ وليس يخالفه في معنى, ويجامعه سنة غيرها لاختلاف الحالين فيحفظ غيره تلك السنة. فإذا أدى كل ما حفظ رأى بعض السامعين اختلافا, وليس فيه شيء مختلف, انتهى. وترجم عليه ابن اللبان في "ترتيب الأم" جواز تخصيص العلة وأن المناسبة لا تبطل بالمعارضة.
الثاني: مثل ابن السمعاني المسألة بقول الحنفية في علة الربا في الذهب والفضة: هو الوزن, وجعلوا لذلك فروعا من الموزونات, ثم جوزوا إسلام الدراهم في الزعفران والحديد والنحاس مع اجتماعها في الوزن1, فحكموا بتخصيص العلة فانتقضت علة الوزن عندنا وعندهم لم تنتقض. قيل: قد ناقض الشافعي أصله, فإنه قال بتخصيص العلة في مسائل كثيرة, كقوله: الواجب في إتلاف المثل المثل, ثم خص هذا الأصل في المصراة فأوجب عليه في اللبن المستهلك صاعا من تمر. وقال بتحريم الخمر للشدة, وقاس عليها النبيذ, وللخمر ثلاثة أحكام: التحريم, والتفسيق, والحد, فطرد علته في
ـــــــ
1 السلم: هو نوع من البيع وهو السلف وزنا ومعنى وهذا النوع من البيع يعجل فيه الثمن وعادة ما يكون البيع ليس موجودا في الحال ولكن يشترط فيه ضبط البيع بالوصف إلى أجل معلوم وهذا البيع مشروع بالكتاب والسنة انظر المصباح المنير "1/437" مادة "س ل م" أنيس الفقهاء ص "218 وما بعدها" شرخ حدود ابن عرفة "292" الموسوعة الفقهية "25/193-229".

(4/125)


الشرع في الحد, ولم يطردها في التفسيق, فإنه لم ترد شهادة شارب النبيذ ولم يحكم بفسقه. وأيضا فإنه خص علة الربا في مسألة العرايا, وجوز العقد من غير وجود المماثلة كيلا, وكذلك خص ضمان الجنين بالغرة مع مخالفة سائر أجناسه, وكذلك الدية على العاقلة في سائر المواضع.
وأجاب بأنا لا ننكر وجود مواضع في الشرع وتخصيصها بأحكام تخالف سائر أجناسها بدليل شرعي يقوم في ذلك الموضع على الخصوص كالأمثلة المذكورة, إنما الممنوع تخصيص العلة المعنوية. وأجاب القفال عن العرايا بأن العلة في تحريم المزابنة الجهل الكثير, وما أجيزت فيه قليل, فتكون هذه علة مقيدة لعلة الربا مقيدة للجنس.
الثالث: أن المجوزين لتخصيص العلة تمسكوا بآيات, منها قوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78] فإن هذه العلة التي قصدوا بها إطلاقه من يد العزيز هي موجودة في كل واحد منهم. وأجيب بأنه لم يكن في ذهنهم أن العزيز يعرف أخوتهم الذي أخذوا الاحتراز من محل النقض إنما هو لدفع المعترض بحيث لا يعترض إلا بحسب الاحتراز عنه لفظا, وتكفي إرادته. فالعلة أن له أبا شيخا كبيرا وأنه صغير يصدر عليه من الحزن ما لا يصدر على أحد, فحذف هذا القيد مع إضماره, وإن في حذفه لفائدة جليلة, إذ لم يكن لهم قصد في التعريف بأخوتهم له, ولو صرحوا له بذكر هذا القيد لفهم أخوتهم له. فتأمل هذا ما أحسنه. ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} [التوبة: 113] الآية. دل النص على أن العلة هي تبين أنهم من أصحاب الجحيم, ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم بالوعد, فدل على جواز تخصيص العلة. واحتج بعضهم على الامتناع بقوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فإنه طالب الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة لأوجه

(4/126)


لا تدفع لهم, لأنهم إذا أثبتوا أحد هذه المعاني أن الحرمة لأجله انتقض بإقرارهم بالجواز في الموضع الآخر مع وجود ذلك المعنى فيه, ولو كان التخصيص في علل الأحكام الشرعية جائزا لما كانوا محجوجين فإنه لا يعز أن يقال امتنع ثبوته هناك لمانع.
الرابع : مثل جماعة من الأئمة لتخصيص العلة بمسألة العرايا, وإنما يصح ذلك إن قلنا: إن تحريم المزابنة وارد أولا واستقر, ثم وردت رخصة العرايا. فإن قلنا: إن النهي لم يتوجه إلى خصوص العرايا, وأنه أراد بالمزابنة ما سواها من باب إطلاق العام وإرادة الخاص فلا. وهذان الاحتمالان نص عليهما الشافعي في الأم ونقلهما البيهقي في سننه عن الربيع عنه, ونقل عن الشافعي أنه قال: أولى الاحتمالين عندي الثاني: وقد يقال: ترجيح الثاني يقتضي منع كون العرايا رخصة.
الخامس : أن إلكيا الطبري قسم المسألة إلى قسمين: أحدهما: بحسب المناظرة والآخر: المجتهد.
فأما المناظرة إذا توجه إليها النقض فهل له أن يقول ثم لم أحكم بمثل ما حكمت به هاهنا لمانع ويتكلف عذرا, أم لا يقبل ذلك من حيث إنه يناقض كلامه فلزمه أن يسكت؟ فيه خلاف. وأما المجتهد فيتبع العلة المطردة في محالها ثم حكى الخلاف السابق.
السادس : أن المانعين تعلقوا بأن التخصيص يؤدي إلى تكافؤ الأدلة على معنى أنه يجعل المعنى الذي تعلق به المعلل علة في ضد ذلك الحكم ويجريه في كل موضع إلا ما قام دليله, لأن نفس هذا المعنى تعلق عليه حكمان مختلفان جعل المعلل ما خالف حكمه مخصوصا, وما وافقه تعميما. فما الفرق بينه وبين من جعل "ما جعله أصلا" مخصوصا وما "جعله مخصوصا" أصلا. مثاله أن يقول المعلل: طهارة تفتقر إلى النية قياسا على التيمم, فيقال: باطل بإزالة النجاسة, فيقول: إنها مخصوصة, فتقلب عليه فتقول: طهارة تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة ليقال: باطل بالتيمم فيقول: ذلك مخصوص فلا يكون أحدهما أولى من الآخر.
قال الطبري: وهذا فيه نظر, فإن العلة إذا كانت دالة على الحكم بإخالتها وتأثيرها في محل النص ففيما عداه لا يكون دلالتها من ناحية الاطراد فقط لكن من ناحية التأثير والإخالة, ولا يتصور تناقض شهادتهما حينئذ. أما إذا كانت الدلالة تتلقى من الاطراد المحض فيتجه ادعاء التكافؤ في بعض الصور إن صح القول بالطرد, قال الأستاذ أبو إسحاق: تقول لمن خص العلة بما استنبط: عام أو خاص؟ إن ادعيت عمومه

(4/127)


واستغراقه بطلت الدعوى بالمناقضة لا محالة, وإن لم تدع عمومه وقلت: إنها علة في محل دون محل فلعلها علة في الأصل المقيس عليه دون الفرع. ثم قال إلكيا: من اشترط الاطراد ومنع التخصيص فإنما يشترط اطراد كل علة في فروع معلولاتها لا في فروع معلومات غيرها, وهذا لا نزاع فيه, وإنما النزاع في علة جزئية لا تطرد في فروع معلولاتها, فلا يغلب على الظن كونها علة.
السابع : أنه سبق في باب العموم تقسيم اللفظ إلى ما قصد فيه العموم نصا وإلى ما لا يقصد فيه. قال إمام الحرمين في البرهان1 في "باب الترجيح": ما ذكره الأصحاب من أن علة الشارع عليه السلام لا تنقض, محمول على ما قصد فيه العموم نصا, أما ما لم يقصد فيه ذلك بل قصد تنزيل الكلام على مقصود آخر فهذا هو الذي يتطرق إليه التخصيص.
مسألة [اقتصار الشارع على أحد الوصفين]
لا يجوز أن يقتصر الشارع على أحق الوصفين ويقول: إنه المستقل ويكون الحكم متعلقا بوصفين, فإن ذلك خلف, قاله إلكيا قال: وأما غير ذلك فإن صرح به وقال: إنه تعليل ولكن لم أطرده في حكم خاص, فقال الأستاذ أبو إسحاق: إن ذلك ممتنع, فإنه يكون تناقضا منه إلا أن يقول هو: دلالة الحكم دلالة العموم. وقال غيره: يجوز, فإنه لا يبعد أن يكون متضمنا مصلحة في المحال كلها إلا في محل واحد وصار علة كمثل ذلك إلا حيث يعلم الشرع أنه لو جعله تعليلا لم يكن مصلحة في محل واحد, فيكون المحل كالزمان من جهة الوجه.
الشرط السابع: العكس.
وهو انتفاء الحكم لانتفاء العلة, والمراد به انتفاء العلم أو الظن به, إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول وإلى هذا الشرط والذي قبله أشار الإمام أحمد بقوله: لا تكون العلة علة حتى يقبل الحكم بإقبالها ويدبر بإدبارها. وقد اختلف في كونه شرطا, أما العقلية فنقل إمام الحرمين في "مختصر التقريب "الإجماع على اشتراط الاطراد والانعكاس فيها, لكن ذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يشترط عكسها واختاره الإمام فخر
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/857".

(4/128)


الدين, فقال: وأما أصحابنا فإنهم أوجبوا العكس في العلل العقلية وما أوجبوه في الشرعية والدليل على عدم وجوبه في العقلية فذكره. ونقل القاضي بعد ذلك الاتفاق على عدم اشتراط العكس في الأدلة العقلية, وظن بعضهم أنه مناقض لنقله أولا, توهما منه أن الأدلة هي العلل, وليس كذلك, فإنه لا يشترط في الدليل الانعكاس, والحاصل أن العلل العقلية كالأدلة السمعية. وأخذ صاحب المعتمد من النص السابق أنه يرى أن الطرد والعكس دليل على صحة العلة فقال: وصارت الأشعرية فيما حكاه ابن اللبان إلى أنه لا يدل على صحتها وإن كان من شروطها.
إذا علمت ذلك فاختلفوا في الشرعي على مذاهب:
أحدها : ونقله الماوردي عن ابن أبي هريرة: أنه لا يشترط, بل إذا ثبت الحكم بوجودها صحت وإن لم يرتفع بعدمها, لأن المقصود بها إثبات الحكم دون نفيه, كما يصح المعنى إذا اطرد ولم ينعكس. واختاره الإمام الرازي وأتباعه, ونقله الصفي الهندي عن أكثر أصحابنا.
والثاني : يعتبر, كالأدلة العقلية, ولأن عدم التأثير في ارتفاعها دليل على عدم التأثير في وجودها. وقال الماوردي في باب الربا: إنه هو الصحيح.
والثالث : أنه يعتبر في المستنبطة دون المنصوصة.
والرابع : وهو المختار عند الغزالي إن تعددت العلة فلا يطالب بالعكس, فإنا نجوز ازدحام العلل على حكم واحد, فلا مطمع في العكس معه. وكذا إذا استند الحكم إلى حديث عام وقياس, فقد لا يطرد القياس ويطرد الحديث فلا يطلب العكس وإن اتحدت العلة فلا بد من عكسها, لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم, بل لأن الحكم لا بد له من علة, فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب. أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها. وأطال في الاحتجاج لذلك. قال في "المنخول": فكأنما نقول: شرط العلة الانعكاس إلا لمانع. وقال الهندي: لا ينبغي أن يكون فيما ذكره الغزالي خلاف ونزاع لأحد. وبه يظهر أن هذه المسألة فرع تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة.
وقال إمام الحرمين1: ذهبت طائفة إلى اشتراط الانعكاس جملة أي سواء قلنا باتحاد العلة أو بجواز اجتماعها. وآخرون إلى أنه لا يلزم فقال: أما التزام العكس مع
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/835".

(4/129)


اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع فلا بد منه عندنا. والإنصاف في ذلك أن يقال: إنه لازم في الاجتهاد ولا يحسن المطالبة به في المناظرة. وقال إمام الحرمين في تدريسه "في أصول الفقه: ثم الذين اشترطوا العكس اختلفوا: فمنهم من قال: لا بد من عكس على العموم كما شرطنا الاطراد عموما, ومنهم من قال - وهو الأستاذ أبو إسحاق - يكتفي بالعكس ولو في صورة واحدة.
وذكر ابن الحاجب والبيضاوي أن اشتراط العكس مبني على منع التعليل للحكم بعلتين, فمن منعه اشترط العكس في العلة لأنه حينئذ لا يكون للحكم إلا دليل واحد, فيلزم انتفاء الحكم عند انتقاء دليله. وهذا البناء أشار إليه إمام الحرمين في "مختصر التقريب" وحوم عليه الآمدي. وقد يقال: إن من يجوز التعليل بعلتين لعلة يشترط العكس ويقول عند انتفاء واحدة بانتفاء الحكم المضاف إليها وذلك متلقى من القول بتعدد الأحكام, ومن لا يعلل إلا بواحدة يجوز انتفاء الحكم وبقاءه لا بعلة أصلا بل عن دليل [من] الشرع تعبدي فلم يكن انتفاء العلة الواحدة مستلزما لانتفاء الحكم.
وقال ابن المنير: حيث قلنا بامتناع تعدد العلل وإن العكس لازم فلا نعني بلزومه ما أراده مشترطوه, بل نقول من الزهوق حكما بعلة فقيل له: قد وجد الحكم في صورة كذا بدون هذا الوصف فله أن يقول: لا ضير لأن العلة عندي إما الوصف الذي ذكرته أو أمر صادق على الوصف صدقا للعام على الخاص, وأيا ما كان حصل الغرض من صدق العلة على الوصف, لأنه إن كان علة باعتبار كونه أحد وصفين يصدق على كل منهما علة فقد صدق العلة على هذا الوصف. فحصل الغرض, وإن كان الحكم ثابتا في صورة أخرى بدون هذا الوصف.
وهذا كشف الاضطراب في هذه المسألة, فإن الذين اشترطوا العكس فهموا أنه من لوازم وجود العلة ولكن وهموا في اعتقادهم أن الوصف مهما صدق عليه العلة لزم أن ينتفي الحكم عند انتفائه, وليس كذلك, لاحتمال أن يكون معنى كون الوصف علة صدق العلة عليه كما يصدق العام على الخاص, فلا يلزم من نفي الخاص نفي العام, لاحتمال أن يوجد العام بوجود خاص آخر, وإن لزم من وجود الخاص وجود العام. نعم, يلزم من نفي الوصف نفي الحكم إذا كان صدق العلة عليه بمعنى أنه هو العلة باعتبار كونه هذا الوصف. وهذا إنما يتحقق إذا عرف الوصف والذين لم يشترطوا العكس فهموا أن بعض الأوصاف المتفق على عليتها ينتفي مع ثبوت الحكم فاعتقدوا العكس لغوا بالكلية, وفاتهم أن العكس ما ثبت عند

(4/130)


انتفاء العلة وإنما ثبت عند انتفاء وصف يصدق عليه العلة صدق العام على الخاص فلم يلزم من نفي الخاص نفي العام وهو العلة. نعم, لو انتفى ذلك العام - وهو العلة - بانتفاء جميع الخاص لزم انتفاء الحكم قطعا.
ثم قال: والعكس - على المختار عندي - عبارة عن نفي الحكم عند نفي العلة. وعلى مختار إمام الحرمين, النفي علة للنفي. والسبب في هذا الاختلاف أن بعض العلل يستلزم نفيه وجود علة أخرى مشعرة بالنقض, فيظن الظان أن ذلك لارتباط بين النفي, والنفي ليس كذلك.
الشرط الثامن: أن تكون أوصافهما مسلمة أو مدلولا عليها, وإذا نوزع المعلل في وصف العلة جاز له أن يدل على صحته إن كان مجيبا وليس للسائل إن نوزع وصف العلة أن يدل على صحته.
الشرط التاسع: أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي تعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع.
ذكره وما قبله الأستاذ أبو منصور, وقال: واختلفوا في أنه هل يجب أن تكون علة الفرع علة الأصل أم لا؟ فقال أصحابنا: إن كان حكم الأصل ثبت بعلة واحدة فلا يجوز أن يقاس عليه الفرع إلا بتلك العلة, وإن كان قد ثبت في الأصل بنص أو إجماع قيس عليه الفرع بعلة مستخرجة بالاجتهاد. فأما إلحاق الفرع بأصله بعلة لم يتعلق بها الحكم في الأصل المعلول فغير جائز عندنا خلافا لأصحاب الرأي, ولهذا قالوا, في رجلين أحدهما أقام البينة على عبد في يد الآخر أنه وهبه له وأقبضه, وأقام الآخر بينة على أنه باعه منه, ولم تؤرخ البينتان: أن بينة المشتري أدل, لأن عدم التأريخ في العقدين يوجب عندهم وقوعهما معا في الحكم. ومتى وقعا سبق وقوع الملك بالشراء الملك بالهبة, لأن الشراء يوجب الملك بنفس العقد, والهبة لا توجبه إلا بعد القبض, فهذه العلة عندهم توجب الحكم بالبيع دون الهبة.
ثم قالوا: لو أقام أحدهما البينة على الرهن والآخر على الهبة, وشهدت الشهادتان على القبض كان الرهن أولى من الهبة, لأنهما قد تساويا في أن شرط كل واحد منهما القبض, والرهن يشبه البيع فيما يتعلق بهما من ضمان الدين والثمن فقاسوا الرهن على البيع بعلة غير العلة التي أوجبت كون البيع أولى من الهبة. وقال ابن القطان: العلة في الفرع ليست هي العلة في الأصل, بل مثلها.
الشرط العاشر: أن لا تكون في الفرع موجبة حكما, وفي الأصل حكما

(4/131)


آخر غيره, كاعتلال من قال: لا زكاة في مال الصبي, قياسا على سقوط الجزية عن أموالهم بعلة الصغر, وهذا خطأ, لأن المراد من العلة الجمع بين الفرع والأصل في الحكم الواحد, وإذا كان حكمها في الفرع غير حكمها في الأصل خرجت عن أن تكون علة.
الحادي عشر: أن لا توجب ضدين, بأن تنقلب على المعلل في ضد حكمها لأنها حينئذ شاهدة بحكمين متضادين, كالشاهدين إذا شهدا للمدعي بدعواه وشهدا للمدعى عليه ببراءته من دعوى المدعي, تبطل شهادتهما جميعا, فلذلك تبطل شهادة العلة للحكمين المتضادين, هكذا قال الأستاذ أبو منصور.
وقال ابن القطان ذهب بعضهم إلى أن العلة يجوز أن تدل على الضدين, كما يدل وجود الحركة على حركة الجسم, وعلى أنها إذا عدمت عدمت الحركة ثم خالفه أبو الحسين لأن الأصل إذا كان مثلا: الواطئ في رمضان ففيه كفارة فلا يجوز أن توجد منه دلالة الكفارة وأن لا كفارة.
الثاني عشر: أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت الأصل, خلافا لقوم1. كما يقال فيما أصابه عرق الكلب: أصابه عرق حيوان نجس فيكون نجسا كلعابه, فيمنع كون عرق الكلب نجسا, فيقال: لأنه مستقذر, فإن استقذاره إنما يحصل بعد الحكم بنجاسته, فكان كما يعلل سلب الولاية عن الصغيرة بالجنون العارض للولي, لنا: لو تأخرت العلة - بمعنى "الباعث" عن الحكم - لثبت الحكم بغير باعث, وهو محال. وإن جعلنا العلة بمعنى "الأمارة" لزم تعريف المعرف. وحكى الأستاذ أبو منصور عن بعض أصحابنا تجويز كون وصف العلة متأخرا عن حكمها, فاعتل في إسقاط الزكاة عن الخيل بالاختلاف في جواز أكله, قياسا على الحمير قال: وهذا اعتلال باطل, لأن الخلاف في إباحة لحوم الخيل إنما حدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, والزكاة فيما فيه الزكاة إنما وجبت في حياته, وكذلك سقوطها عما سقطت عنه الزكاة كان في حياته, فكيف يكون علة سقوطها عن شيء متأخرة عن سقوطها عنه.
وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: اختلفوا في العلة المتأخرة عن الحكم هل يجوز أن يكون؟ فقال قوم من أهل العراق: يجوز, وعللوا طهارة جلد الكلب بالدباغ كالكلب قال: ومنهم من منع ذلك; وهو قولنا وقول أكثر أصحاب يكن له دليل
ـــــــ
1 انظر جمع الجوامع بحاشية البنياني "2/247" الآيات البينات للعبادي "4/48".

(4/132)


لم يجز, قال الصفي الهندي: المشهور أنه لا يجوز تعليل الحكم بعلة متأخرة عنه في الوجود, وقيل بجوازه, وهو الحق إن أريد بالعلة العرف, لأنه يمتنع تأخير المعرف. فإن أريد بها "الموجب والباعث "فلا. لكن قد تقدم أنه لا يجوز تعليل حكم الأصل بالأمارة, فحينئذ يلزم أن لا يجوز تعليل حكم الأصل بالعلة المتأخرة عنه في الوجود, لكان لا لكونها متأخرة بل لكونها لا يجوز أن تكون معرفة, وأما في غيره فيجوز.
الثالث عشر: أن يكون الوصف معينا, لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة, فلو ادعي عليه شيء مشترك مبهم بين الأصل والفرع لم يقبل منه إلا عند بعض الجدليين.
الرابع عشر: أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم. ذكره الآمدي في جدله".
الخامس عشر: يشترط أن تكون وصفا مقدرا خلافا للرازي1. قال الهندي: ذهب الأكثرون إلى أنه لا يجوز التعليل بالصفات المقدرة, خلافا للأقلين من المتأخرين, كقولنا: جواز التصرفات نحو البيع والهبة معلل بالملك, ولا وجود له في نظر العقل والحس, فيقدر له وجود في نظر الشرع, لئلا يلزم أن يكون الحكم معللا بما لا وجود له حقيقة ولا تقديرا, فيكون عدما محضا ونفيا صرفا, وهو ممتنع. فنقول: الملك معنى مقدر شرعي في المحل, أثره جواز التصرفات وغيرها. قلت: وكتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك.
هذا إذا قيل بالمقدرات فإن الإمام فخر الدين أنكر وجودها في الشرع, قال: ليس الولاء للمعتق عنه بتقدير الملك له, وأنكر تقدير الأعيان في الذمة. قال صاحب "التنقيح": وهذا بعيد, فإنه لا يكاد يوجد باب من أبواب الفقه يعرى عنها. ألا ترى أنه لو أسلم على إردب قمح صح العقد مع أنه غير معين, فلا بد أن يكون مقدرا في الذمة وإلا لكان عقدا بلا معقود عليه, وكذا إذا باعه بلا ثمن. وكذلك الإجارة لا بد من تقدير منافع في الأعيان حتى يصح أن يكون موردا للعقد. وكذلك الوقف والعارية لا بد من تخيل ذلك فيها. وكذلك الصلح على الدين وغيره, ولا بد من تخيل ذلك عليه. وإذا لم يقدر الملك للمعتق عنه كيف يصح القول ببراءة ذمته من الكفارة التي عتق عنها؟ فكيف يكون له الولاء في غير عبد يملكه محققا؟ فتعين أن يكون مقدرا.
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "3/355".

(4/133)


والتصوير في هذا الباب كثير.
السادس عشر: أن لا يكون عدما في الحكم الثبوتي عند الإمام الرازي وغيره وخالفه الآمدي. واعلم أنه يجوز تعليل الحكم العدمي بمثله والعدمي بالوجودي بلا خلاف. وإنما اختلفوا في تعليل الوجودي بالعدمي على قولين: فذهب أكثر المتقدمين, منهم القاضي أبو بكر الطيب الطبري, والشيخ أبو إسحاق, وأبو الوليد الباجي إلى الجواز, لأن لا معنى للعلة إلا المعرف وهو غير مناف للعدم. ومثاله علة تحريم متروك التسمية عدم ذكر اسم الله, وذهب القاضي أبو حامد المروروذي, كما قاله الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة "إلى المنع, لأن الحكم لا يثبت إلا بوجود معنى يقتضي ثبوته, والنفي عدم معنى فلا يجوز أن يوجب الحكم.
والأولون يقولون: لا بد وأن يكون مناسبا ولأنه أشبه بالعلل العقلية. ومن حجة المانع أن العلة يجب أن تكون منشأ للحكمة كالسرقة المنصوبة علة للقطع, فإنها منشأ الحكمة, إذ كونها جناية ومفسدة إنما نشأ من ذاتها لا من خارج عنها.
وهذا منازع فيه, فإن العلة لا يشترط فيها ذلك, بل يكفي كونها أمارة على الحكمة وحينئذ فالعدم يصلح أن يكون أمارة عليها, وقد ساعد الخصم على جواز تعليل العدم بالعدم وهو اعتراف منه بإمكان جعل العدم أمارة, وإذا أمكن ذلك في طرف العدم أمكن في الطرف الآخر لأن الظهور لا يختلف.
وقال الأستاذ أبو منصور: أنكره قوم في العقليات والشرعيات, وجوزه آخرون فيهما جميعا, قال: وفصل أكثر أصحابنا فجوزه في الشرعيات دون العقليات. وقد قال الشافعي - فيما رد على العراقيين - في خراج البيع من غلة وثمرة وولد إن ذلك كله مما لم يقع عليه صفقة البيع.
وقال المزني في إباحة القصر: لمن لم يكن عزم على المقام وقال إلكيا: إن كان الحكم من قبيل الأحكام الجزئية المبنية على الأصول تطرق القياس إليه من جهتي الإثبات والنفي, كقولنا: لا كفارة على الأكل ولا على من أفطر ظنا وإن أمكن تلقيه من أمارة غير القياس لم يمتنع تلقيه من القياس.
وقال الهندي: الحكم والعلة إما أن يكون ثبوتيين, كثبوت الربا لعلة الطعم, أو عدميين, كعدم صحة البيع لعدم الرضا, وهذان القسمان لا نزاع فيهما. هكذا ذكره الإمام, وفيه نظر, فإن من يجعل العلة ثبوتية ينبغي أن لا يجوز قياسها بالعدم, سواء كان علة الحكم الثبوتي أو العدمي. وإما أن تكون العلة ثبوتية والحكم عدميا, كعدم

(4/134)


وجوب الزكاة لثبوت الدين وهذا القسم تسميه الفقهاء "تعليلا بالمانع "وهو مبني على جواز تخصيص العلة. واختلفوا في أنه هل من شرط وجود المقتضى أم لا؟ وإما أن تكون العلة عدمية والحكم ثبوتيا, كاستقرار الملك لعدم الفسخ في زمان الخيار, وهذا موضع الخلاف, والمشهور عدم الجواز. انتهى.
وممن اختاره الآمدي وابن الحاجب وصاحب "التنقيح" والإمام في "المعالم" واختار في المحصول الجواز وقال في "الرسالة البهائية": إن كان الوصف ضابطا لحكمة مصلحة يلزم حصول المفسدة عند ارتفاعها كان عدم ذلك الوصف ضابطا لتلك المفسدة, فيكون ذلك العدم مناسبا للحرمة.
وقال ابن المنير: المختار أن النفي لا يكون علة للحكم الثبوتي ولا للنفي, لأن النفي المفروض علته لا يجوز أن يكون النفي المطلق باتفاق, فتعين أن يكون نفيا مضافا إلى أمر, وذلك الأمر إن كان منشأ مصلحة استحال أن يعلل بنفيه حكم ثبوتي, إذ عدم المصلحة لا يكون علة في الحكم وإن كان منشأ مفسدة فهو مانع, ونفي المانع لا يكون علة وإن كانت العلة بمعنى "المعرف" جاز أن يكون العدم علة للوجود. وإن كان المراد جميع ما يتوقف عليه الشيء جاز أن يكون بعض أجزاء العلة أمرا عدميا, بدليل أن وجود الضد في المحل يقتضي عدم الضد الآخر في المحل, فقد صار العدم جزءا من العلة ولكن يمتنع أن يكون جميع أجزائها عدميا لاستحالة كون العدم الصرف علة للأمر الوجودي والعلم به. وإن كان المراد بالعلة هو المعنى الموجود استحال أن يكون شيء من أجزائه عدميا, لأن العدم لا يكون جزءا من العلة المعينة الموجودة والعلم به ضروري.
تنبيهات
الأول: قال بعض المتأخرين: التحقيق أن محل الخلاف لا يتصور, لأنه إن كان في العدم المحض الذي ليس فيه إضافة إلى شيء فلا يعلل به قطعا, وإن كان في الأعدام المضافة فيصح أن يعلل بها قطعا, كما تكون شروطا, خصوصا في الشرعية فهي أمارات. فليتأمل.
وجعل النصير الطوسي في "شرح التحصيل" الخلاف في العدم المقيد, كما يقال: عدم المال علة الفقر, أما المطلق فلا يعلل ولا يعلل به قطعا.
الثاني : أن الخلاف يجري في الجزء أيضا, فالمانعون اشترطوا أن لا يكون العدم جزءا من العلة كما يكون كلا. والمجوزون في الكل جوزوه في الجزء.

(4/135)


الثالث: لو ورد من الشرع لفظ يدل بظاهره على ثبوت تعليل الثبوت بالعدم نحو: أثبت حكم بهذا العدم كذا فقال البزدوي - وهو من المانعين -: يتعين تأويل اللفظ وحمله على غير التعليل من تأقيت أو غيره, جمعا بين الدليلين. ورد عليه بأن التعليل عنده عبارة عن نصب الأمارة خاصة, فإذا حمل الكلام على التأقيت رجع إلى الأمارة فكأنه فر من التعليل فوقع في التعليل.
فرعان:
أحدهما: القائلون بأن العدم لا يعلل قالوا: إن المعدوم والموجود رتبة ثالثة وهي النسب والإضافات, وجوزوا التعليل بها وقالوا: ليس من شروط العلة أن يكون أمرا وجوديا, بل من شروطها ألا تكون عدمية, ثم تارة تكون أمرا وجوديا, وتارة تكون أمرا معلوما من قبيل النسب والإضافات. وبه يظهر المعنى في قولهم: "أن لا يكون عدميا" ولم يقولوا: "أن يكون وجوديا".
ومثاله قولنا: البنوة مقدمة على الأبوة, وهذا علة الميراث وهما إضافيان ذهنيان لا وجود لهما في الأعيان. وقد اختلف في التعليل به, فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز. والحق ابتناء هذا الخلاف على أن الإضافيات من الأمور العدمية أو الوجودية, فإن قلنا: عدمية فالكلام فيه كما سبق في العدمي, وإن قلنا: وجودية فهي كالحكم الشرعي لأنه ليس فيه معنى مناسب فهو علة بمعنى الأمارة.
الثاني : الوصف التقديري هو كالعدمي, لأنه معدوم في الخارج, وإنما قدر له وجود للضرورة فيما يخرجه عن كونه عدميا تعليل ثبوت الولاء لمعتق عنه بتقدير ثبوت الملك له, وتوريث الدية بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في الزمن الفرد, فإنه حي لا يستحقها, وما لا يملك لا يورث عنه, والملك بعد الموت محال, فيصير تقدير الملك قبل الزهوق. والخلاف فيه أضعف من الخلاف في العدمي.
تنبيه
امتناع الشيء متى دار استناده إلى عدم المقتضى أو وجود المانع, كان استناده إلى عدم المقتضى أولى, لأنا لو أسندناه إلى وجود المانع لكان المقتضى قد وجد وتخلف أثره والأصل عدمه, وهذا كتعليلهم عدم صحة بيع الصبي بعدم التكليف أولى من التعليل بالصبا. وفيه الخلاف في تعليلهم منع إطلاقهم كافر "على من أسلم باعتبار ما كان عليه, فقال الجمهور: لوجود المانع الشرعي, وقال ابن الحاجب: لعدم المقتضى وهو

(4/136)


عدم المشتق منه حالة الإطلاق.
السابع عشر: إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا يرجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه, لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح, إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من الاستنباط, لأنه فرع لهذا الحكم, والفرع لا يرجع على إبطال أصله, وإلا لزم أن يرجع إلى نفسه بالإبطال. ومن ثم ضعف مدرك الحنفية في تأويلهم قوله: "في أربعين شاة شاة" أي قيمة شاة, لأن القصد دفع الحاجة أو القيمة, فإن هذا يلزم منه أن لا تجب الشاة أصلا, لأنه إذا وجبت القيمة لم تجز الشاة فلم تكن مجزئة وهي مجزئة بالاتفاق.
هكذا مثلوا به, ونازع فيه الغزالي من جهة أن من أجاز القيمة فهو مستنبط معنى معمم, لا مبطل, لأنه لا يمنع إجزاء الشياه.
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها : أن استنباط القيمة ألغى تعلق الزكاة بالعين ابتداء الذي عليه الدليل, وهذا معنى الإبطال أي إبطال التعلق. الثاني: أنه ألغى تعيينها, من بنت المخاض أو بنت اللبون أو حقة أو جذعة, وصير الواجب جائزا. لأنه إن كانت القيمة هي الواجب لم تكن الشاة واجبة ولا يلزم وجوبها ولا قائل به. الثالث: يقال: وإن أجزأت الشاة لكن من حيث لم يخص الأجزاء بها فبطل لفظ "في أربعين شاة شاة" وليست القيمة أعم من الشاة. ومن مثله أيضا مصير بعض المالكية إلى الاكتفاء في إتباع رمضان بصوم ستة أيام من غير شوال, نظرا لمعنى تكميل السنة. وهذا يبطل خصوص شوال الذي دل عليه النص. وكذا قوله "ذكاة الجنين ذكاة أمه" فإن الخصوم يقدرون فيه "مثل" ذكاة أمه, وهذا التقدير يرفع, لكونه غير محتاج إليه, لإمكان صحة الكلام بدونه لأن الجنين إذا احتيج إلى ذكاته فذكاته كغيره من الحيوانات لا خصوصية لأمه. ثم إن كل واحد يعرف أن ذكاته كذكاتها فلا يكون اللفظ مفيدا ألبتة. ولا يقال: للشافعي قول يقتضي الجواز حيث جوز الإمعان في غسلات الكلب, نظرا إلى أن المعنى في التراب الخشونة المزيلة. وهذا يبطل خصوص التراب, لأنا نقول: هو على هذا القول عاد على أصله بالتعميم, لأنه جعل العلة الاستظهار, وهي أعم من الجمع بين الطهورين*.
ـــــــ
* حديث صحيح سبق نخريجه.

(4/137)


وقال الهندي: هذا الشرط صحيح إن عنى بذلك إبطاله بالكلية, فأما إذا لزم فيه تخصيص الحكم ببعض الأفراد دون البعض فينبغي أن يجوز, لأنه كتخصيص العلة لحكم نص آخر وهو جائز, فكذا هذا, وإن كان بينهما فرق لطيف لا ينتهي إلى درجة أن لا يجوز بذلك معه. انتهى1.
وهذا الذي توقف فيه ولم يظفر فيه بنقل قد وجدت النقل بخلافه في كتاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وتلميذه أبي منصور البغدادي, فشرطا في العلة: أن لا يرجع على أصلها بالتخصيص, خلافا للحنفية, فإنهم اعتلوا لتحريم التفاضل في البر والشعير بالكيل, لأن النص الوارد بتحريم التفاضل فيهما شامل للقليل والكثير منهما, والكيل يخص الكثير دون القليل, فهذه العلة توجب في القليل من أصلها ضد ما أوجبه النص في ذلك. ولا يجوز أن تكون العلة المنتزعة من أصل مخصصة لأصلها وإن جاز تخصيص اسم آخر غير أصلها بها. انتهى: واعلم أن في عودها على الأصل بالتخصيص قولين للشافعي وغيره وسبقت في باب العموم.
الثامن عشر: إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل بأن تبدى علة أخرى من غير ترجيح, وإلا جاز التعليل بمجموعهما أو بالأخرى وقيل: ولا بمعارض في الفرع بأن تثبت فيه علة أخرى توجب خلاف الحكم بالقياس على أصل آخر, فإن المعارض يبطل اعتبارها. وقيل: أن لا يكون بمعارض في الفرع مع ترجيح المعارض. ولا بأس بالتساوي لأنه لا يبطل. وقيل: المعارض المساوي يمنع التعليل أيضا.
التاسع عشر: يشترط في المستنبطة أن لا تتضمن زيادة على النص أي حكما في الأصل غير ما أثبته النص, لأنه إنما يعلم بما أثبت به. مثاله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فعلل الحرمة بأنها ربا فيما يوزن كالنقدين, فيلزم التقابض, مع أن النص لم يتعرض له.
وقيل: إن كانت الزيادة منافية لحكم الأصل لم يجز, لأنه نسخ له فهو مما يعكر على أصله بالإبطال, وإلا لجاز. واختاره الآمدي, وجعله الهندي تنقيح مناط ولم ينسبه إليه.
العشرون : أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها بأن نقول:
ـــــــ
1 انظر أصول السرخسي "2/165" جمع الجوامع "2/247".

(4/138)


ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه فيوقف ذلك فسيأتي بيان ذلك في الاعتراضات وقال الهندي: إن عنى به أن لا يعارضه بعلة أخرى كيف كانت فهذا مما لا وجه له, لأن بتقدير أن تكون راجحة على ما يعارضها من العلة لا مانع من استنباطها وجعلها علة.
وإن عنى به أن لا تكون معارضة أخرى راجحة عليها فهذا وإن كان من شرائط صحة العلة المعمول بها لكن ليس من شرائط صحة العلة في ذاتها, فإن العلة الموجودة والدليل المرجوح لا يخرجان بسبب المرجوحية عن العلة والدلالة, وإلا لما تصور التعارض إلا بين المتساويين.
الحادي والعشرون: إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة توجب إزالة شرط أصلها, كقول بعضهم: لما جاز نكاح الأمة لمن خشي العنت جاز ولكن لمن لا يخشاه لوصف يجمع بينهما, وذلك أن خشية العنت شرط منصوص عليه في القرآن في إباحة نكاح الأمة, وهذه العلة توجب سقوط هذا الشرط.
الثاني والعشرون: أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه على المختار للاستغناء حينئذ عن القياس. وفي كلام الشافعي في الأم ما يقتضي جوازه, فإنه قال: والوجه الثاني: أن يكون أحل لهم شيئا جملة وحرم منه شيئا بعينه, فيحلون الحلال بالحكم, ويحرمون الشيء بعينه, ولا يقيسون على الأقل الحرام, والقياس على الأكثر أولى أن يقاس عليه من الأقل. هذا لفظه وترجم عليه ابن اللبان في ترتيب الأم: يجوز أن يكون الفرع داخلا في عموم حكم الأصل.
وقال إلكيا: ذهب بعضهم إلى أن المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض, ومتى وجد في الفرع نص أمكن العمل به من غير اعتباره بأصل آخر كان القياس فاسد الوضع, لعدم شرطه, كقياس القتل عمدا على القتل خطأ في إيجاب الكفارة, وقياس المحصر على المتمتع في إيجاب الصوم بدلا عن الهدي عند العدم, لأن كل حادثة منصوص عليها.
قال: وهذا إنما يتم إذا دلت الأمارات على أنه استقصى حكم الواقعة ولم يقارب مما يتعلق بها شيء. أما إذا أمكن أن يقال: إنه ذكر في كل واقعة مما يختص به مما لا يشاركه فيه غيره أو قصد به ما يدل فحواه على استقصاء حكمه وبقي ما عدا المذكور فذلك محض تخصيص حكم لا يدل على نفي ما عداه, وذلك بين في باب

(4/139)


المفهوم.
الثالث والعشرون: أن لا يكون مؤيدا للقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي, كالعلة التي يقيس بها العراقيون المسافات على المزارعة, والدعوى في الدم مع اللوث على الدعوى في الأموال في البداءة فيهما بيمين المدعى عليه. ذكره الأستاذ أبو منصور وقال: هذا معنى ما روى يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي أنه لا يقاس أصل على أصل.
الرابع والعشرون: إن كانت متعدية أي توجد في غير الأصل فيشترط فيها أن لا يكون التعليل في المحل ولا جزءا منه ولا يتصور تعديتها بخلاف القاصرة, فإنه يجوز فيها ذلك. هذا هو المختار عند الرازي وابن الحاجب. وقيل: يجوز أن يعلل بالمحل وجزئه فيهما. وقيل: يمتنع فيهما ونسب للأكثرين.
وقال الآمدي: يجوز بجزء المحل دون المحل, وليس هذا في الحقيقة مذهبا ثالثا, كما يوهم صاحب "البديع" وغيره, لأن مراده بالجزء "العام" بدليل قوله بعد ذلك: وأما الجزء فلا يمتنع التعليل به لاحتمال عمومه للأصل والفرع. وهذا بخلافه. وقال الهندي: الحق أنه مبني على جواز تعليل الحكم بالعلة القاصرة فإن جوز ذلك جاز هذا, سواء ثبت عليته بنص أو بغيره, إذ لا يبعد أن يقول الشارع: حرمت الربا في البر لكونه برا أو يعرفه مناسبة محل الحكم له لاشتماله على حكمة داعية له, ولا نظر إلى أن يقال: لو جاز ذلك لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا, لأنا لا نسلم استحالة ذلك, واستحالته مبنية على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد, وهو باطل قطعا وإن يجوز التعليل بالقاصرة, لم يجوز هذا, لأن محل الحكم وجزأه الخاص يستحيل أن يوجد في غيره.
واعلم أن هذه المسألة منقولة عن مسألة مشهورة بين المتكلمين والفلاسفة, وهي أن الواحد من جميع الوجوه لا يصدر عنه أكثر من واحد إلا إذا تعددت القوابل. وبنوا عليه ترتيب الموجودات, فإنهم قالوا: أقل ما صدر من الواجب لذاته شيء واحد وهو المسمى بالفلك الأول عندهم, ثم صدر من الفلك الأول عقل ونفس, ثم بنوا على هذا الأصل الفاسد فاسدا آخر, وهو أنه لا يجوز أن يكون لواجب الوجود صفة وجودية قائمة بذاته, وإلا لكان فاعلا لها وقابلا لها وهو محال, وذلك لأن الفعل والقبول أمران مختلفان, والواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهو من باب تفريع الفاسد على الفاسد.

(4/140)