البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

فصل في ذكر أمور اشترطت في العلة والصحيح عدم اشتراطها
منها: شرط الحنفية وأبو عبد الله البصري تعدي العلة من الأصل إلى غيره, فلو وقعت على حكم النص ولم تؤثر في غيره كتعليل الربا في الذهب والفضة بأنهما أثمان فلا يعلل بهما. واعلم أن العلة القاصرة إن كانت منصوصة أو مجمعا عليها صح التعليل بها بالاتفاق, كما قاله القاضي وابن برهان والهندي وغيرهم, لكن القاضي عبد الوهاب نقل عن قوم أنها لا تصح على الإطلاق, سواء كانت منصوصة أو مستنبطة; قال: وهذا قول أكثر فقهاء العراق, وإن كانت مستنبطة فهي محض الخلاف. وقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين:
أحدهما : ونقله في الحاوي عن أبي بكر القفال المنع, وهو ظاهر كلام ابن السمعاني في "الاصطلام", لأن العلة ما جذبت حكم الأصل إلى فرعه. ونقل إمام الحرمين عن الحليمي ما يقتضيه فقال: من ينشئ النظر لا يدري أيقع على علة قاصرة أو متعدية, فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر, فيجب النظر من هذه الجهة. قال الإمام: وهذا قليل النيل, فإن الخصم لا ينكر. وهذا الخلاف فيما تحقق قصوره, فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة انتهى.
وأصحهما : ونصره في القواطع تبعا للقاضي أبي بكر, وبه قال جمهور أصحابنا: إنها علة وإن لم يتعد حكم الأصل, وقال القاضي عبد الوهاب: هو قول جميع أصحابنا وأصحاب الشافعي وحكاه الآمدي عن أحمد, لكن أبو الخطاب حكى عن أصحابهم مقابله.
وقال ابن برهان في "الوجيز": كان الأستاذ أبو إسحاق من الغلاة في تصحيح العلة القاصرة, ويقول: هي أولى من المتعدية وكذلك القاضي واحتجوا بأن وقوفها يقتضي نفي الحكم عن غير الأصل, كما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل في غيره, فصار وقوفها مؤثرا في النفي, كما كان تعديها مؤثرا في الإثبات فاستفيد بوقوفها وتعديها حكم غير الأصل, فعلى هذا ثبوت الربا في الذهب والفضة بالمعنى دون الاسم.
ويخرج مما سبق حكاية مذهب ثالث: وهو الجواز في المنصوصة دون المستنبطة. قال عبد الوهاب: وحكاه الهمداني عن أبي عبد الله البصري, والصحيح

(4/141)


الجواز مطلقا.
ولهذا فوائد:
منها : معرفة الباعث المناسب:
ومنها : عدم إلحاق غيرها. وقولهم: "هذه الفائدة علمت من النص" ممنوع, فإن النص لم يفد إلا إثبات الحكم خاصة, وخصه القاضي بما إذا لم يكن هناك غيرها, وجوزنا اجتماع علتين فباطلاعنا على علة الحكم نزداد علما كنا غافلين عنه والعلم بالشيء أعظم فائدة, ومن أعظم ما تشوق إليه النفوس الزكية, ذكره ابن السمعاني.
ومنها : أن العلة إذا طابقت النص زاده قوة ويتعاضدان. ذكره القاضي.
ومنها : أن الفاعل يفعل الفعل لأجلها فيحصل له أجران أجر قصد الفعل والامتثال وأجر قصد الفعل لأجلها, وهذان القصدان يجوز اجتماعهما فيفعل المأمور لكونه أمر بفعله. ذكره بعض المتأخرين.
ومنها : إذا حدث هناك فرع يشاركه في المعنى علق على العلة وألحق بالمنصوص عليه, ذكره الماوردي في الحاوي في باب الربا والشيخ أبو إسحاق1 وضعف بأن المسألة مفروضة في القاصرة, ومتى حدث فرع يشاركها في المعنى خرجت عن أن تكون قاصرة. وقد نقل إمام الحرمين عن بعضهم أن فائدتها أنا إذا عللنا تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية أن يلحق بها التحريم في الفلوس إذا جرت نقودا, قال الإمام وهذا خرف من قائله وخبط على الفرع والأصل, فإن المذهب عدم جريان الربا في الفلوس وإن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمطبوعات, والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم لو صح هذا قيل لصاحبه: إن دخلت الفلوس تحت الدراهم بالنص فالعلة بالنقدية قائمة, وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية والمسألة مفروضة في القاصرة.
ومنها : أنها تفيد بعكسها, فإذا ثبت "النقدية" علة في النقدين فعدم النقدية مشعر بانتفاء تحريم الربا, والنص على اللقب لا مفهوم له. ورده الإمام بأن الانعكاس لا يتحتم في العلل.
ومنها : أنه متى زالت الصفة عنه زال الحكم, ذكره القاضي في التقريب "قال": ويجب على هذا تخصيص القاصرة بالتي ثبتت تارة وتزول أخرى وإلا بطلت
ـــــــ
1 انظر التبصير ص "458" اللمع ص "59".

(4/142)


هذه الفائدة. قلت: ويجوز أن يكون من فوائد الخلاف أنه إذا وجد في مورد النص وصفان قاصر ومتعد وغلب على ظن المجتهد أن القاصرة علة, هل يمتنع التعليل بالمتعدية أم لا, فعندنا يمتنع إن منعنا اجتماع علتين, وعند أبي حنيفة: لا يمتنع لأنه لا اعتبار لغلبة الظن بغلبة الوصف القاصر.
ومن فوائده: إذا عورضت علة الأصل بوصف قاصر ليقطع القياس فاحتاج إلى دفع المعارضة, فهل يكفي في إفساد الوصف قصوره أو لا يكون ذلك مفسدا؟ وهذا هو وجه جعل إمام الحرمين في البرهان "القصور" من الاعتراضات الفاسدة على القياس, وإلا لم يكن عنده من الاعتراضات, إذ القصور ينافي القياس, ثم اختار إمام الحرمين التفصيل بين أن يكون كلام الشرع نصا لا يحتمل التأويل, فلا فائدة في التعليل بالقاصرة, وبين أن يكون ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل, فإذا نتجت علة توافق ظاهره فهي تعصم من التعليل بعلة أخرى لا ترقى رتبتها على المستنبطة القاصرة, فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص منه, متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه من حيث عصمته من التخصيص والتأويل, وكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا.
تنبيهات
الأول: زعم ابن الحاج في نكته على المستصفى "أن الخلاف في هذه المسألة لم يتوارد على محل واحد. قال: والحق أن يقال: إنها صحيحة باعتبار الأصل, باطلة باعتبار الفرع. وقال ابن رحال: إذا فسر اللفظ زال الخلاف, وتفسيره أن الشافعي يقول: ثبوت الحكم لأجل الوصف القاصر صحيح, وهذا متفق عليه. وأبو حنيفة يقول: نصب الوصف القاصر أمارة باطل, وهذا أيضا متفق عليه. ولما كان لفظ التعليل يطلق تارة على ثبوت الحكم لأجل الوصف وتارة على نصبه, فهذا الاشتراك هو سبب الخلاف.
الثاني: أن كلام أصحابنا صريح في أن التعليل بالقاصرة ليس مشروطا بانتفاء التعدية, بل يجوز اجتماعهما وإليه أشار في القواطع", ولو كان ذلك شرطا لما تصور وقوع التعارض بينهما لأن التعارض فرع اجتماعهما, وقد اختلفوا فيما إذا تعارضا, فرجح الجمهور المتعدية, وقال الأستاذ أبو إسحاق: القاصرة, وتوقف قوم.
الثالث: قال بعضهم: الخلاف في بطلانها لا على المنع من ظن كونها حكمة في

(4/143)


مورد النص, بل على خروجها عن متعلق الأمر الشرعي إذا لم تظهر له فائدة تزيد على مقتضى النص, والمحققون على صحتها, لصحة ورود الشرع بها, ولمساواتها للعلة المتعدية في استجماع شرائط الصحة والقصور, إذ ما من متعدية إلا وهي قاصرة من وجه, فلم يبق إلا مطابقة النص لها, وذلك مما يؤيدها لا مما يبطلها, كمطابقة العلة المتعدية, وكمطابقة سائر الأدلة المتعاضدة في المسألة الواحدة.
ومنشأ الخلاف أن موضع التعبد بالتعليل هل هو لإفادة ما لم يفده النص أو بمجرد إناطة الحكم بالوصف؟
وقال بعض الحنفية: الخلاف مبني على اشتراط التأثير في العلة عند أبي حنيفة, وعلى الاكتفاء بالإخالة عند الشافعي. ومعنى التأثير: اعتبار الشرع جنس الوصف أو نوعه في جنس الحكم إلى آخر ما سيأتي وقال إلكيا: الخلاف راجع إلى أن علة الشرع هل تقبل التخصيص أم لا؟ وقال الدبوسي: هو راجع إلى أن حكم العلة عندنا: تعدي حكم النص إلى الفرع, وعند الشافعي: تعلق الحكم في النص المعلول بتلك العلة لا التعدي. وقال إمام الحرمين: الخلاف راجع إلى كونها هل هي مأمور بها؟ ومعنى صحتها: موافقتها للأمر, ومعنى فسادها: عدم تعلق الأمر بها.
وقال ابن المنير في شرح البرهان: لا ينبني على الخلاف فائدة فرعية ألبتة, لأنا إن رددناها فلا إشكال في عدم إفادتها, وإن قبلناها فلا إشكال في أنها لا يتعدى بها حكمها, والنص في الأصل مغن عنها فرجع ثباتها إلى الفوائد العلمية لا العملية, إلا إذا بنينا على التزام اتحاد العلل وصححنا القاصرة, وجعلناها مقاومة للمتعدية فينبني حينئذ قبولها فائدة عملية لأنها قد تعارض متعدية بتعطل العمل بها.
وقال قبل ذلك: لا يتحرر الخلاف في ردها, لأن العلة إما الباعث أو العلامة, فإن فسرنا بالباعث وهو الحق فلا مانع من أن ينص بالشرع على الحكم في جميع موارده حتى لا يبقي من محاله مسكوتا عنه, وينص مع ذلك على الباعث ولا يتخيل عاقل خلاف ذلك, وإن فسرناها بالعلامة وعليه بنى الرازي كلامه فلا مانع من أن يكون النص علامة والوصف علامة, فيجتمع على الحكم علامتان كما يجتمع على الحكم نصان معا وظاهران معا, أو نص وظاهر, أو نص وقياس. وهذا القسم أيضا لا يختلف فيه فلا محل للخلاف.
ومنها : منع الإمام الرازي من التعليل بمجرد الاسم, كما لو عللنا كون النقدين ربويين بكون اسمهما ذهبا أو فضة وحكى فيه الاتفاق, واعترض النقشواني بأن

(4/144)


العلة إذا فسرت بالمعرف, فما المانع من جعل الاسم علة؟ فإن فيه تعريفا, وقواه القرافي بما إذا قلنا: إن مجرد الطرد كاف في العلة, ويصعب مع اشتراط المناسب. وما ادعى الإمام فيه من الاتفاق تبعه فيه الهندي في النهاية.
وليس كما ادعوا, ففي المسألة مذاهب, وهي وجوه لأصحابنا:
أحدها: الجواز مطلقا وهو رأي الشيخ أبي إسحاق الشيرازي1, ونقله ابن الصباغ وابن برهان عن أصحابنا, ونقله سليم الرازي في التقريب عن الأكثرين من العلماء قالوا: وسواء في ذلك المشتق كقاتل وسارق, والاسم الذي هو لقب كحمار وفرس, قال الشافعي رحمه الله تعالى, في بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول فشابه بول الآدمي "انتهى".
وقال أبو الحسن السهيلي: إنه الأقرب إلى نص الشافعي وقال الأستاذ أبو منصور: إنه قول أكثر القائسين. وكذلك قال أصحابنا: لا يجوز بيع الكلب لأنه كلب, قياسا على الكلب الذي ليس بمعلم. وقال الشافعي: في المنع من ضم القطنية بعضها إلى بعض في الزكوات: إنها حبوب منفردة بأسماء مخصوصة. وقاسها على التمر والزبيب, فإذا جعل افتراقها في الاسم علة لافتراقها في الحكم لم يمتنع أن يكون اتفاقها في الاسم علة, لاتفاقها في الحكم, وقال أهل الرأي في المنع من التكرار في مسح الرأس: إنه مسح كالمسح على الخفين. وقال أصحاب مالك في زكاة العوامل: إنها تعم قياسا على السائمة "انتهى" ونقله الباجي عن أكثر المالكية.
و " الثاني " المنع لقبا ومشتقا.
و " الثالث " التفصيل بين المشتق فيجوز, وبين اللقب فلا, حكاهما الشيخ أبو إسحاق في التبصرة وابن الصباغ في العدة وسليم الرازي في التقريب. وهذا الثالث هو ظاهر قول أصحابنا في باب الربا في أن العلة في الربوي الطعم: الحكم متى علق باسم مشتق من معنى يصير موضع الاشتقاق علة. وحكى ابن برهان وجها أنه إنما يكون بشرط الإخالة والمناسبة, ونسبه للحنفية.
وهذا يقتضي " مذهبا رابعا " وهو التفصيل في المشتق. ونحوه قول القاضي عبد الوهاب في الملخص: إن كان الاسم يفيد معنى في المسمى جاز التعليل به, وإن كان لقبا ففي جواز التعليل به قولان. وقال السهيلي في أدب الجدل: إن كان الوصف اسما
ـــــــ
1 انظر التبصير ص "454" اللمع ص "64".

(4/145)


مشتقا فلا شك في جريان القياس به, وإن كان اسم جنس, كبغل وحمار ودابة ودار, ففيه وجهان:
" أحدهما " وهو الأقرب إلى نص الشافعي الجواز.
و " الثاني " المنع كالوصف من اسم ولقب كزيد وعمرو. وفي الأم: في بول الحيوان تعليق حكم باسم "قال": والدليل على جواز التعليل أنه لو ورد الشرع به لكان جائزا, فإذا استنبطه المعلل فكذلك "انتهى" وهذا يقتضي تخصيص الخلاف بالعلة المستنبطة. أما المنصوصة من الشارع فلا خلاف في جوازها, وبه صرح ابن برهان في الوجيز.
وقال الماوردي في بيوع الحاوي: يصح التعليل بالاسم المشتق, كعاقل وقاتل ووارث, وبالاسم إذا عبر به عن الجنس, كما جاز التعليل بالصفة, فيجوز أن تقول في نجاسة بول ما يؤكل لحمه: لأنه بول فوجب أن يكون نجسا قياسا على بول الآدمي. وقال في القواطع: وأما جعل الاسم علة للحكم فقد قال الأصحاب: إن الاسم ضربان: اسم اشتقاق, واسم لقب. فأما المشتق فضربان:
أحدهما ما اشتق من فعل كالضارب والقاتل, اشتق من الضرب والقتل, فيجوز جعله علة في قياس المعنى, لأن الأفعال يجوز أن تكون عللا للأحكام.
و ثانيهما ما اشتق من صفة كالأبيض والأسود, مشتق من السواد والبياض, فهذا من باب الشبه الصوري. فمن جعله حجة جوز التعليل. وقد قال عليه السلام: "فاقتلوا منها كل أسود بهيم" 1 فجعل السواد علة لإباحة القتل.
فأما اللقب فضربان:
أحدهما مستعار كزيد وعمرو فلا يدخله حقيقة ولا مجاز, لأنه قد ينقل اسم زيد إلى عمرو وعمرو إلى زيد, فلا يجوز التعليل بهذا الاسم لعدم لزومه وجواز انتقاله.
و ثانيهما لازم كالرجل والمرأة والبعير والفرس.
وقد حكى الأصحاب في جواز التعليل بها وجهين والصحيح عندي امتناع التعليل
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "3/108" كتاب الصيد باب في اتخاذ الكلب للصيد حديث "2945" عن عبد الله بن مقفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها, فاقتلوا منها الأسود البهيم" ورواه الترمذي كتاب الأحكام باب ما جاء في قتل الكلاب حديث "1468" ورواه النسائي "280" وهو حديث صحيح.

(4/146)


بالأسامي مطلقا, لأنها تشبه الطرد. وأما الأسامي المشتقة فالتعليل بموضع الاشتقاق لا بنفس الاسم "انتهى" وهو تفصيل لا مزيد على حسنه.
فإن قلت: فهل للإمام سلف في دعواه الاتفاق؟ قلت: رأيت في كتاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ما نصه: اتفقوا على فساد العلة إذا اقتصرت بها على الاسم, وإن كان بعضهم إذا ضاق عليه الأمر تعلق به, كالرجل يسأل عن بيع الكلب فيقال: لأنه كلب قياسا على ما لا نفع فيه, أو على القصور, وليس ذلك خلافا بعد.
هذا لفظه مع أنه قبل ذلك بقليل حكى وجهين في التعليل بالاسم.
فإن قلت: فما تحمل كلام الإمام, على المشتق أو اللقب؟ قلت: أحمله على اللقب, لأنه نص في غير موضع أنه إذا علق الحكم بالاسم المشتق كان معللا بما منه الاشتقاق, فتعين أن يكون هنا مراده الاسم الذي ليس بمشتق. نعم الخلاف جار وإن لم يكن مشتقا.
و " منها " أن لا يكون وصفها حكما شرعيا عند قوم لأنه معلول فكيف يكون علة. والمختار جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي, كقولنا: حرم الانتفاع بالخمر فيبطل بيعه, لأن الحكم قد يدور مع الحكم الآخر وجودا وعدما, والدوران يفيد ظن العلية, ولأن العلة بمعنى المعرف ولا بعد في أن يجعل حكم معرفا لحكم آخر بأن يقول الشارع: رأيتموني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية, فاعلموا أني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا. ونقله الهندي عن الأكثرين.
وقال السهيلي إنه هو الصحيح من مذهب الأصوليين, ونقله الأستاذ أبو منصور عن عامة أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة "قال" وقد قاس الشافعي رقبة الظهار على الرقبة في القتل, وفي أن الإيمان شرط فيهما, بأن كل واحدة كفارة بالعتق, وقال في زكاة مال اليتيم: لأنه مالك تام الملك, وقال في الذمي: يصح ظهاره لأنه يصح طلاقه كالمسلم, وقاس الوضوء على التيمم في النية بأنهما طهران عن حدث.
وقال مالك: كل فطر معصية فيها الكفارة كالفطر بالوطء, وقال أصحاب الرأي: المني نجس لأنه ينقض الطهارة بخروجه من البدن كالبول "انتهى".
وقال ابن القطان حكم تلك العلة لا يجوز أن يكون علة كقولنا: حرم الربا لأنه ربا, حرم الأكل لأنه أكل, وإنما امتنع لأنه لا يجوز أن يدل الشيء على نفسه وإنما يدل عليه بغيره, فإذا تعذر هذا فهل يجوز أن تكون العلة في تحريم هذا تحريم غيره, كأن يقول: العلة في إيجاب الكفارة على الواطئ إيجابها على القاتل وتحريم القتل وما أشبهه

(4/147)


أم لا؟ على وجهين لأصحابنا: منهم من جوزه, ومنهم من أباه.
واحتج المجوزون بأن الشافعي جعل العلة فيما يخرج في زكاة الفطر ما تجب فيه الزكاة, وإذا كان هكذا دل على جوازه, لأن هذا إنما حكم لأن القرآن ورد به في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] والظلم هو اسم حكم.
واختار ابن المنير أن الحكم لا يكون علة وإنما هو دليل على العلة من حيث الملازمة, وذلك أن تكون علته تقتضي حكمين, فإذا وجد أحدهما استدللنا بوجوده على وجودها ثم على وجود الحكم المعلوم ضرورة تلازم الثلاثة.
وقال الآمدي في الأحكام: المختار أن الشرعي يكون علة شرعية بمعنى "الأمارة" لا في أصل القياس بل في غيره, فيجوز أن يقول الشارع: إذا عرفتم أني حكمت بإيجاب كذا فاعلموا أني حكمت بكذا. وإنما امتنع في أصل القياس لأن العلة لا بد وأن تكون بمعنى "الباعث", فإن كان باعثا على حكم الأصل كتحصيل مصلحة يقتضيها حكم الأصل جاز, وإن كان لدفع مفسدة فلا, وتابعه ابن الحاجب. وهو تحكم, لأن الحكم الشرعي إنما شرع لتحصيل مصلحة أو دفع مفسدة, فلما يخصص بالمصلحة دون دفع المفسدة؟
تنبيه
القائلون بالجواز اختلفوا في تعليل الحكم الحقيقي بالحكم الشرعي, كقولنا في إثبات الحياة في الشعر بأنه يحرم بالطلاق ويحل بالنكاح فيكون حيا كاليد, فمنهم من جوزه. قال الهندي: وهو الحق, لأن المراد من العلة المعرف, ولا يبعد أن يكون الحكم الشرعي معرفا للحكم الحقيقي فأما إذا فسرناها بالموجب والداعي امتنع, ومنهم من أطلق المنع, فإن كان ذلك بناء على تفسير العلة بالموجب فصحيح لكن لا نرتضيه, وإن كان ذلك مطلقا فباطل, وكلام العبدري يقتضي التفصيل بين الحكم المنصوص والمستنبط, فإنه قال: يقال للمانع من التعليل بالحكم: إن أردت به الحكم الذي يستنبطه المجتهد فقولك صحيح ولسنا ننفيه, وإن أردت الحكم الذي صدر عن الشارع فلا يمتنع أن يحكم الشرع بحكم ثم يجعل ذلك الحكم علة لحكم آخر, وقد وقع في الشرع كثيرا بناء على تفسير العلة بالموجب.

(4/148)


مسألة
قال في المحصول1: يجوز التعليل بالأوصاف العرفية وهي الشرف والخسة, والكمال والنقص ولكن بشرطين: أن يكون منصوصا متميزا عن غيره, وأن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات, وإلا لجاز ألا يكون ذلك المعرف حاصلا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يجوز التعليل.
و "منها" شرط قوم أن تكون العلة ذات وصف, كالإسكار في تحريم الخمر. والمختار جواز تعدد الوصف ووقوعه كالقتل العمد العدوان للقصاص. ونسبه الهندي للمعظم, وحكى الأستاذ أبو منصور إجماع القياسين وصور المسألة بالعلل الشرعية فقال: وإنما اختلفوا في العقلية فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يجوز تركيبها من وصفين فأكثر "قال": وأجازه الباقون من أصحابنا "قال": وكذلك الحدود امتنع من تركيبها الأشعري وأجازه الباقون وهو الصحيح2.
وحيث قلنا بالتركيب فقيل لا يتعدى خمسة, وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أبي عبد الله الجرجاني الحنفي, ونصره أبو إسحاق الإسفراييني في كتاب شرح الترتيب فقال: لم أسمع أهل الاجتهاد زادوا في العلة على خمسة أوصاف, بل إذا بلغت خمسة استثقلوها ولم يتمموها وقال في كتابه: أقواها ما تركب من وصفين ثم يليه الثلاثة, ثم الأربعة, ثم الخمسة ولم أر لأحد من المتقدمين زيادة عليه. ويخرج ذلك عن الأقسام والضبط إذا كثرت الأوصاف.
وحكى في المحصول عن الشيخ أبي إسحاق, أنه حكى عن بعضهم أنه لا يجوز زيادتها على سبعة لكن نقل في رسالته "البهائية "عنه عن بعضهم أنها لا تزيد على خمسة, وهذا هو الصواب عن حكاية الشيخ. نعم, قول عدم الزيادة على السبعة محكي أيضا, حكاه ابن الفارض في كتابه عن جماعة, قال الإمام الرازي: وهذا التقدير لا أعرف له حجة.
وقال صاحب التنقيح: غاية ما يتوقف عليه الحكم سبعة قال ابن عقيل: وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي: من كان بقرب مصر يجب عليه الحضور, إذا سمع
ـــــــ
1 انظر المحصول "2/2/412".
2 انظر اللمع ص "60" المستصفى للغزالي "2/336" مختصر ابن الحاجب "2/230" كشف الأسرار "3/348" نشر البنود "2/134".

(4/149)


النداء حر, مسلم, صحيح, مقيم, في موطن يبلغه النداء, في موضع تصح فيه الجمعة فهو كالمقيم في مصر "قال" وهذا يتضمن سبعة أوصاف.
ولما ذكر الأستاذ أبو إسحاق ترتيبها على ما سبق قال: وإنما قدم ما قل وصفه على ما كثر منه للحاجة فيما كثر وصفه إلى زيادة الاجتهاد وجواز الخطأ وسلامة ما قل وصفه في أحد مواضعه عنه, لأنه يكون بمنزلة النص والعموم والظاهر الصريح والمحتمل إذا وقع التعارض بينه.
وقال إلكيا: يجوز أن يكون التعليل أوصافا, ويجوز أن يكون واحدا وفيه إخالة, ثم هذا المعنى يقتضي إفراد كل وصف بالتعليل لأنه إذا كان مخيلا كفى ذلك. وقد يمتنع الإجماع ولا يهتدي العقل أن الوصف مخيل, لكن يجب ألا يكتفي بأنه ليس كالإخالة المعتبرة في العلة التي ليس لها وصف واحد وقد يكون أحدهما وصفا والآخر مخيلا وإنما يعلم كونه مخيلا بأن لا يؤثر في الحكم أصلا ولكن يؤثر في العلة لتعظيم وقعها, أو لا يكون مؤثرا في الحكم والعلة فيكون علما محضا, وهذا هو الذي يلقب بالشرط والشرط العلامة.
تنبيه :
قد يستشكل محل الخلاف فإنه إن كان عند الحاجة للزيادة فلا وجه للمنع, أو عند عدم الحاجة فلا وجه للتجويز, ويمكن أن يجعل هذا موضع الخلاف وقد علل الشافعي في الجديد الربا في الأربعة بكونها مطعومة من جنس واحد, وأضاف في القديم إلى ذلك الكيل والوزن, وزيفه القاضي أبو الطيب في تعليقه بأن العلة إذا استقلت بوصفين لم يجز أن يضاف إليهما وصف ثالث, لأن الوصف في العلة إنما يذكر للحاجة إليه, فإذا استغنى عنه كان ذكره لغوا. وكذلك قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص إذا تقابلت العلتان وإحداهما أكثر أوصافا من الأخرى فالقليلة أولى بإجماع النظار وأهل الأصول "قال" ولو جاز أن يزيد الواحد وصفا بعد استقامة العلة والاستغناء عنه لجاز أن يزيد خمسة أوصاف وعشرة, ولا فائدة فيها, لأن العلة كلما زادت أوصافها ضعفت, وكلما قلت قويت, لأن الحاجة إلى كثرة الأوصاف لبعد الفرع عنه, وقلة الأوصاف لقربه منه, وهو بمنزلة من قربت قرابته ومن بعد, لما كان ابن العم لا يدلي إلى الميت إلا بجماعة توسطوا بينه وبين الميت, ولم يكن بمنزلة الابن والأب اللذين يدليان إليه بأنفسهما. وأيضا لأن الأوصاف كلما كثرت في العلة قلت الفروع,

(4/150)


ألا ترى من ضم وصف الكيل والوزن إلى الطعم أسقط الربا عن المطعومات التي لا تكال ولا توزن, كالبطيخ والقثاء والتين والجوز وغيرها, فكان كاجتماع المتعدية مع القاصرة, ثم أشار الشيخ إلى أن من الأصحاب من جعل العلة على الجديد مركبة من الجنس والطعم "قال": والصحيح أنها بسيطة وهي الطعم وأما الجنس فحمل الحكم لا أثر له في تعلق الحكم كما أن الشدة محل لتحريم الخمر وليست الخمر علة لوجود الشدة في غير الخمر.
وقال الهندي بعد حكاية الخلاف: اعلم أنه لا سبيل إلى إنكار جواز كون الماهية المركبة علة, فإن استقرار الشرع يدل على وجوب وقوعه, فإن كون القصاص واجبا في القتل العمد العدوان وحده, وكذلك كون الربا جاريا في المطعوم بجنسه لا يمكن أن يجعل أحد الوصفين علة مستقلة لذلك, بل مجموع الوصفين, أو أحدهما بشرط الآخر, وفي الجملة أن أكثر أحكام الشرع غير ثابت على إطلاقها بل بعقود معتبرة فيها, واستنباط العلة البسيطة من مثل هذه الأحكام غير ممكن, فيلزم المصير إلى كون تلك الأحكام تعبدية, وهو على خلاف الأصل, أو تجويز استخراج العلة المركبة وهو المطلوب.
فائدة
العلة إذا كثرت أوصافها قلت معلولاتها, وإذا قلت كثرت. ذكره بعض تلامذة إلكيا. ونظيره أن الزيادة في الحد نقصان في المحدود والنقصان فيه زيادة في المحدود.
و " منها " أن تكون مستنبطة من أصل مقطوع بحكمه عند قوم. والمختار الاكتفاء بالظن, لأنه الأصل في العمل.
و " منها " القطع بوجود العلة في الفرع عند قوم, منهم المروزي في جدله ونقله عن شيخه محمد بن يحيى تلميذ الغزالي والمختار الاكتفاء بالظن, لأنه معمول به في الشرعيات, ولأن سائر أركان القياس يكفي فيه الظن فكذا ما نحن فيه لأن الله تعالى علق إباحة وطء الحائض على الطهر بقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] ومع ذلك لو قالت المرأة: تطهرت اكتفى بذلك وجاز الوطء اتفاقا, وكذلك إباحة العقد على المطلقة ثلاثا على أن تنكح زوجا غيره ومع ذلك إذا قالت: تزوجت اكتفى بذلك وإن لم يفد قولها إلا الظن.
واحتج الأول بأن القطع إنما قام على العمل بالظن في الأحكام الشرعية دون

(4/151)


الأوصاف الحقيقية. وهو ضعيف فإن القاطع لا يختص دلالته في شيء دون شيء, بل يدل على العمل بالمظنون حيث تحققت. وتوسط المقترح فقال: لا يشترط القطع بوجودها إلا إذا كانت وصفا حقيقيا كالإسكار, أما الوصف الشرعي فيكفي غلبة الظن بحصوله. ومنهم من جعل محل الخلاف في الوصف الحقيقي أو العرفي وأنه لا خلاف في الشرعي بالاكتفاء بالظن.
و "منها" حصول الاتفاق على وجود الوصف الذي هو علة للحكم في الأصل. هكذا شرط بعضهم. وهو ضعيف لأنه لما أمكن إثباته بالدليل حصل الغرض.
و "منها " أن لا تكون مخالفة لمذهب صحابي. والحق جوازها لجواز أن يكون مذهبه لعلة مستنبطة من أصل آخر.
و "منها" أن تكون متحدة في الأصل أي لا يكون معها علة أخرى, ذكره الآمدي, وهو بناء على اختياره في منع تعليل الحكم بعلتين.
و "منها" إذا كانت العلة وجود مانع أو انتفاء شرط فشرط الجمهور منهم الآمدي وصاحب التنقيح وجود المقتضى. والمختار - وفاقا للرازي - أنه لا يلزم, كقولنا: الزكاة لا تجب في الحلي المباح بدليل عدمها في اللآلئ والجواهر. ثم قال الإمام - وتبعه الهندي - هذا الخلاف مفرع على جواز تخصيص العلة, لإمكان اجتماع العلة مع المانع في أصل المسألة.
فإن منعناه فلا يتصور هذا الخلاف, لأن التعليل بالمانع حينئذ لا يتصور, فضلا عن أن يكون مشروطا ببيان المقتضى أم لا.
وكذلك الخلاف فيما لو علل عدم الحكم بفوات شرط ومنع صاحب التلخيص تفريعا على القول بتخصيص العلة. وقال بمجيء الخلاف وإن لم يجوز تخصيص العلة, وكأن وجهه أن المانع من التخصيص يقول: ما يسمونه بالمانع مقتض عندي للحكم بالعدم, فقتل المكافئ في غير الأب هو العلة في إيجاب القصاص وقتل الأب بخصوصه هو المقتضي لعدم الإيجاب, ويعود حينئذ الخلاف لفظيا.
و "منها" إذا أثرت العلة في موضع من الأصول دل على صحتها وإن لم يكن ذلك أصل العلة. ومن أصحابنا من قال: يعتبر تأثيرها في الأصل, قاله الشيخ في التبصرة.

(4/152)


مسألة
في جواز تعليل الشيء بجميع أوصافه خلاف - حكاه ابن فورك والقاضي عبد الوهاب في الملخص - مبني على أن شرط العلة التعدي فمن شرطه منعها هنا, ومن جوزه اختلفوا على قولين:
"أحدهما" لا يصح لأن حق العلة التأثير, ولا بد أن يكون المؤثر بعض الأوصاف دون بعض, فتعليله بجميعها لا يصح فلو اتفق أن جميعها مؤثرة جاز. و "الثاني" يصح لأن أكثر ما فيه أن لا يتعدى, وذلك لا يمنع صحتها.
مسألة
اختلف أصحابنا - كما قاله الأستاذ أبو منصور - في العلة الموجبة للحكم إذا احتاجت إلى تقديم أسباب عليها, ولم يكن لتلك الأسباب تأثير في الحكم كالزنى الموجب للرجم بشرط وجود الإحصان, وتكميل جلد الزنى مائة بشرط وجود الحرية. فقال أكثرهم: يكون مجموع تلك الأوصاف علة للحكم, لسقوطه عند عدم بعضها كما يسقط عند عدم جميعها.
وقال بعضهم: العلة هي الوصف الجالب للحكم دون السبب المتقدم عليه. وعلى هذا فعلة الرجم وتكميل الحد وجود الزنى دون الحرية والإحصان, وبه قال أكثر أهل الرأي. وكذلك قالوا في أربعة شهدوا على رجل بالزنى وشهد عليه اثنان بالحرية أو بالإحصان, ووقع الحكم بشهادتهم, ثم رجع الكل عن شهادتهم إن الضمان على شهود الزنى دون شهود الإحصان, وقالوا في شاهدين شهدا على رجل أنه أعتق عبده أمس, فقضى القاضي عليه بعتقه, وشهد آخران بأن ذلك العبد كان قد جنى أول أمس, وأن الولي علم بالجناية, فألزمه القاضي الدية وجعله مختارا للفداء, ثم رجع الشهود كلهم, إن ضمان الدية على شهود الجناية وضمان القيمة على شهود العتق, لأن القاضي ألزمه الدية بشهادتهم وإن لم تكن الجناية موجبة للدية أكثر بعد الحرية.
واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو حفص بن الوكيل: إذا شهد عليه أربعة بالزنى وشاهدان بالإحصان فرجم, ثم رجع واحد منهم عن الشهادة عليه سدس الدية, وهذا يدل على أنه كان يجعل مجموع الإحصان والزنى علة للرجم ولذلك قال: إن رجع شهود الإحصان فعليهم ثلث الدية, أو شهود الزنى فثلثاها, وهذا إذا كان شهود الزنى

(4/153)


غير شاهدي الإحصان فإن كانا من شهود الزنى فعليهما برجوعهما عن شهادة الإحصان ثلث الدية, وبرجوعهما عن شهادة الزنى ثلثا الدية وإن شهد الأربعة على الإحصان والزنى فالحكم واضح. وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كان شهود الإحصان غير شهود الزنى, فإن كان منهم فالدية بينهم بالسوية.
وقيل: إن رجعوا كلهم فعلى هؤلاء نصف الدية, وعلى الآخرين النصف, وعلى هذا قول من رأى أن الأوصاف علة للحكم. قلت: والراجح في المذهب أن شهود الإحصان لا يغرمون "قال": وأما مذهب الشافعي في شهود العتق وشهود الجناية في العبد فإذا رجعوا كلهم فالصحيح من مذهبه أن ضمان الجناية على شهود الجناية, وضمان القيمة على شهود العتق, وأبطل أبو ثور العتق.
مسألة
يجوز أن تكون علة الحكم وصفا لازما بالإجماع, كتعليلنا تحريم الربا في المطعومات بإمكان الطعم منها, وكتعليل أهل الرأي تحريم النساء بالجنس وحده, نقله الأستاذ أبو منصور قال ويجوز أن تكون العلة وصفا غير لازم للمعلوم ويجوز أن تكون العلة الشرعية مركبة من أوصاف بعضها لازم وبعضها ثابت بالشرع أو العادة, كتعليلنا في الذهب والورق بالجنس, وكونه نقدا عاما, والجنس: وصف لازم, وكونه عاما: بالعرف والعادة.
مسألة
قال صاحب اللباب من الحنفية: إذا كانت العلة ذات وصفين ووجدا على التعاقب, أو شرط ذو وصفين, قال بعض أصحابنا: الحكم منسوب إلى آخر الوصفين, والمعتبر في الشرط آخرهما لاستوائهما في الأثر, ويرجع الآخر باعتبار أنه يعقب الحكم. وبنوا على هذا مسائل:
منها : شراء القريب إعتاق, لأن العتق حصل بالقرابة والملك, والملك آخرهما وجودا, فصار الشراء معتقا. وكذلك إذا وضع جماعة في سفينة شيئا فغرقت وجب الضمان على آخرهم وضعا, وكذلك شرب المثلث حرام إلى حالة السكر, ثم إذا أسكر القدح العاشر كان هو الحرام لا غيره, وإن حصل السكر بشرب الجميع, لكن هذا آخرها وجودا.

(4/154)


وقال بعضهم: لا يضاف إلى آخرها بل إليهما جميعا, لأنهما جميعا جزءا علة. قلت: والخلاف عندنا أيضا فيما لو طلق زوجته ثلاثا في دفعات هل يتعلق التحريم بالطلقة الثانية وحدها بمجموع الثلاث؟ وجهان, وفائدتهما فيما لو شهدوا بالثالثة ثم رجعوا هل يكون الغرم بجملته عليهم أو ثلثه فقط.
مسألة
تنقسم العلة إلى ما يفيد الأثر في الحال, كإفضاء الكسر إلى الانكسار, والحرق إلى الإحراق, وإلى ما يفيده في ثاني الحال, كاقتضاء الزراعة والغراسة حصول الغلة والثمرة, وكإفضاء الطلاق [إلى] حصول البينونة بعد انقضاء العدة, ثم العلة تارة تفيد المعلول بلا شرط وهو كثير, وتارة لا تفيده إلا مع الشرط كإفضاء التعليق [إلى] وقوع المعلق عند الشرط ولكن السابق على الشرط لا يكون علة إلا للأمر المقيد وهو الأثر بعد وجود الشرط ثم منها ما يفيد المعلول بغير واسطة كما قلنا في الكسر مع الانكسار, وتارة لا يفيده إلا بواسطة, كاقتضاء قطع اليد الزهوق في بعض الصور, فإنه يؤثر في السراية, ثم تفيد السراية أثرا آخر, أو آثارا ينشأ منها زهوق الروح, ومتى بطلت تلك الواسطة بطل اقتضاء العلة المعلول من حيث التحقيق. وكان بعضهم يستدل بالعلة الأولى على المعلول الثاني ويدعي أنه لا يضره انتفاء الواسطة, قال الشيخ نجم الدين المقدسي في كتاب الفصول: وهو خطأ يأباه العقل.
"قال" وكان شيخنا ركن الدين الطاوسي يقول: هو بمنزلة من أخبرنا وسط النهار بغروب الشمس في موضع علق رجل طلاق امرأته على غروب الشمس, فقال آخر: يطلق امرأته هنا, لأن إخبار الرجل اقتضى غروب الشمس, وغروب الشمس مستلزم وقوع الطلاق فيقع به, وهذا باطل, لأن اقتضاء الإخبار الوقوع إنما كان بواسطة ثبوت المخبر عنه, وهو غروب الشمس, فلما بطلت الواسطة بطل الاقتضاء.
مسألة
العلة تنقسم باعتبار عملها في الابتداء والدوام إلى ثلاثة أقسام:
" أحدها " ما يكون علة لاقتضاء الحكم واستدامته كالرضاع في تحريم النكاح, وكالإيمان وعدم الملك في المنكوحة.
" الثاني " ما تكون علة للابتداء دون الاستدامة, كالعدة والردة هما علتان في منع ابتداء النكاح دون استدامته, وكعدم الطول وخوف العنت وعدم الإحرام.

(4/155)


وما ذكرناه من كون هذا القسم من أحكام العلل ذكره الأصوليون وغيرهم, منهم ابن القطان في كتابه وإلكيا والشيخ أبو إسحاق والإمام في المحصول وغيرهم, وحكاه سليم في التقريب عن بعض أصحابنا.
ثم قال: وهذا قول فاسد; لأنه يوجب القول بتخصيص العلة ونقضها, والعدة والردة إنما جعلتا علة في منع ابتداء علة عقد النكاح, وهما علة في منع ذلك بكل حال, ولم يجعلا علة في منع الاستدامة, فلا يقال: إن استدامته تجوز مع وجود العلة, وكذلك كل ما أشبهه.
" الثالث ": عكسه, كالطلاق, فإنه يرفع حل الاستمتاع ولكن لا يدفعه, إذ الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد. قال ابن القطان: وجملة الكلام في هذا أن العلل على حسب ما رتبها الله ونصبها, فإن نصبها للابتداء والدوام, أو لأحدهما, كانت له.
وقد أطال أصحابنا الكلام مع المزني فيما إذا تزوج بالأمة ثم أيسر, هل يصح النكاح؟ فإنه ذهب إلى انفساخه كالابتداء, وناقض في ذلك فجوزه مع ارتفاع العنت وهو لا يحل في الابتداء. فالواجب اعتبار ما نصبه تعالى دون الاشتغال بأعيان. وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في أكل الميتة مضطرا في الابتداء غير مضطر في الانتهاء, هل يأكل بعد ارتفاع الضرورة؟ فخرجه على قولين:
" أحدهما " أنه يأكل.
و " الثاني " لا, من حيث إنه قد ارتفعت العلة. وهذا معنى قول أصحابنا: الشيء إذا أبيح لمعنيين فارتفع أحدهما هل يباح أو يرجع إلى الضد؟ وقيل: لا حتى يرتفع المعنيان جميعا. وعندنا أن الأمر على ما نصب له قلت: وهذا الخلاف حكاه القاضي في الحكم العقلي إذا وجب بعلتين كما سنذكره.
مسألة
في تعدد العلل مع اتحاد الحكم وعكسه: يجوز تعليل الحكم الواحد بالنوع المختلف بالجنس لشخص بعلل مختلفة بالاتفاق, كتعليل إباحة قتل زيد بردته, وعمرو بالقصاص, وخالد بالزنى وممن نقل الاتفاق فيه الأستاذ أبو منصور البغدادي والآمدي والهندي وغيرهم, وكلام المنهاج وغيره ظاهر في جريان الخلاف فيه. ولا وجه له. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعلل مختلفة كل منها مستقل في إباحة الدم, كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام, أو زنى بعد إحصان, أو قتل

(4/156)


مؤمن بغير حق" 1.
وأما تعليل الحكم الواحد في شخص بعلل مختلفة فلا خلاف في امتناعه بعلل عقلية, كذا قيل, لكن لأهل الكلام فيه خلاف حكاه القاضي في التقريب ثم قال: اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين, فقيل: لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعا: وقيل: يرتفع بارتفاع إحداهما. واختلفوا في العلل الشرعية إذا ثبت كونها عللا بذلك من خارج, هل يصح تعليل الحكم بها؟ كمحصن زنى وقتل, فإن الزنى يوجب القتل بمجرده, فهل تعلل إباحة دمه بهما معا أم لا؟ وكالعصير إذا تخمر ووقعت فيه نجاسة, هل تعلل نجاسته بهما معا أم لا؟ وكتحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض على مذاهب:
أحدها : المنع مطلقا, منصوصة ومستنبطة, وبه جزم الصيرفي في الدلائل, وحكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم, واختاره الآمدي ونقله عن القاضي وإمام الحرمين, وسيأتي تحرير مذهبهما.
قال إلكيا الطبري: ونظيره ما قدمناه في الأسماء الشرعية أنه لا يتصور تقدير العموم في نفي الإجزاء والفضيلة والعموم الشرعي والحسي جميعا, فإن انتفاء الشرعي يوجب ثبوت الحسي لا محالة, فلا يتصور تقدير اجتماعهما.
والثاني : الجواز مطلقا وهو الصحيح وقول الجمهور كما قاله القاضي في التقريب, ثم قال: وبهذا نقول بناء على أن العلل علامات وأمارات على الأحكام, لا موجبة لها, فلا يستحيل ذلك. هذا لفظه, وقال ابن برهان في الوجيز: إنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين.
وقال ابن الرفعة في المطلب: كلام الشافعي في كتاب الإجارة من الأم عند الكلام على قفيز الطحان مصرح بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين قال: وهو الذي يقتضيه قول عمر: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"2. وتقديره: أنه لو
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "4/170" كتاب الديات باب الإمام يأمر بالعفو عن الدم حديث "4502" عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إحصان أو قبل نفس بغير نفس" فو الله ما زنيت في الجاهلية ولا في إسلام قط, ولا أحببت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله ولا قتلت نفسا فبم يقتلونني؟!!!. قال أبو داود: عثمان وأبو بكر رضي الله عنهما تركا الخمر في الجاهلية. ورواه الترمذي كتاب الفتن حديث "2158" والنسائي حديث "4019" وابن ماجة "2533" وهو حديث صحيح.
2 موضوع: أورده القني في تذكرة الموضوعات "1/101" والهرمي في الموضوعات الكبرى "1/564" والشوكاني في الفوائد المجموعة "1/1202" والألباني في السلسلة الضعيفة "3/1006".

(4/157)


لم يخف الله لم يعصه لإجلاله لذاته وتعظيمه, فكيف وهو يخاف. وإذا كان كذلك كان عدم عصيانه معللا بالخوف والإجلال والإعظام, وقد يكون الحكم معللا بعلتين, كل واحدة منهما مستقلة في التعليل ويقصر على إحداهما لنكتة, وذلك كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} نهاهم عن أكله في هذه الحالة لأن النفوس لا تنفر منه وإن كان النهي لا يختص بها بل تحريم الضعف كتحريمه مضاعفا, وقال الشافعي في الأم قبيل ما جاء في الصرف": "إذا شرط في بيع الثمار السقي على المشتري فالمبيع فاسد من قبل أن السقي مجهول ولو كان معلوما أبطلناه من قبل أنه بيع وإجارة "انتهى فالبيع والإجارة موجود مع الجهالة وعدل عن التعليل بها في الحالتين, لأن التعليل للبطلان بالجهالة أقرب إلى الأفهام من تعليله بالجمع بين البيع والإجارة, ولولا هذا التنزيل لكان في هذا النص لمح لمنع التعليل بعلتين, قلت: وقد قال في, الأم, وقد قال له بعض الناظرين: أفتحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة؟.
قلت: نعم إذا اختلفت أسبابه قال: فاذكر منه شيئا, قلت: قد يقر الرجل عندي على نفسه بالحق أو لبعض الآدميين فآخذه بإقراره, أو لا يقر فآخذه ببينة تقوم عليه, أو لا تقوم عليه فيدعى عليه فآمره أن يحلف فيمتنع, فآمر خصمه أن يحلف فآخذه بما حلف عليه وخصمه إذا أتى باليمين التي تبرئه", انتهى.
وقال بعض أئمة الحنابلة: الذي يقتضيه جواب أحمد في خنزير ميت وقد احتجوا بأن القياس من جملة الأدلة كالنص, ويجوز أن يكون في الحادثة نصان فأكثر, ولأنها أمارة على الحكم, ويجوز اجتماع الأمارات.
والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك والإمام الرازي وأتباعه. وينبغي أن يلحق بالمنصوصة المجمع عليها. قال إمام الحرمين: وللقاضي إليه صغو ظاهر في كتاب التقريب وهذا هو عمدة ابن الحاجب في نقله هذا المذهب في "مختصره" عن القاضي, فاختلف النقل عنه على أن الموجود في التقريب له الجواز مطلقا, وإليه يرشد كلام الغزالي في المستصفى1 وإن كان أطلق صريح الجواز في صدر المسألة إطلاقا ولا ينافيه قوله في الوسيط في الكلام على زوائد البيع: الحكم الواحد قد يعلل بعلتين لاحتمال إرادة تنزيله على المنصوصة, أو لأنه أراد ما يريده
ـــــــ
1 انظر المستصفى "2/342".

(4/158)


الفقيه من أن كلا من الوصفين صالح لإفادة الحكم, ومراده في المستصفى امتناع حصول العرفان بكل منهما على حدته, أو التأثير بكل منهما فإنه يرى أن العلة مؤثرة بجعل الله والحاصل أنه تكلم في كل فن بحسبه فلا تظنه تناقضا.
والرابع : عكسه. حكاه ابن الحاجب وابن المنير في شرحه للبرهان وقد استغربت حكايته, وسيأتي له نظير في النقض. وقال أبو الحسين في المعتمد: إن لم تكن إحداهما علة حكم الأصل جاز, كاستحقاق القتل للردة والقصاص, وفساد الصلاة للحدث والكلام إذا وجدا معا. وإن كانت إحداهما دليلا على حكم الأصل من غير أن يقاس بها على أصل آخر فهي موضع الخلاف.
وقال الإبياري في شرحه: إن كانت كل واحدة لو انفردت لكانت صحيحة فاجتماعهما غير مضر ولا مانع من التعليل, ولكن قد يكون الإيراد يبين جانب التعليل وعند التعدد يقع الشك في النفس, فيمتنع التعليل لعدم الدليل لا لضيق المحل عن العلل, فأما العلل المؤثرة فلا يمتنع اجتماعها, وأما المعنى الملائم فينبني على قبول الاستدلال بالمرسل: فمن رده كان تعدد المعنى في الأصل مخلا بالشهادة, ومن قبله لم يضر لأنه يجوز الاعتماد عليه, وإن لم يرد حكم على وفقه, فكيف إذا ورد على الوفق.
وقال ابن رحال السكندري: هذه المسألة لا يتحقق فيها الخلاف, فإن لفظ التعليل مشترك بين معنيين, ويجوز أن يكون كل واحد أراد معنى غير ما أراد الآخر فلا خلاف. قال: والمختار أنه إن أريد بالتعليل نصب الأمارة فهو جائز وواقع, وإن أريد بالتعليل ثبوت الحكم لأجل الوصف فهو جائز في صور متعددة بحيث يثبت الحكم في كل صورة لعلة, فأما ثبوت الحكم في صورة واحدة بعلل كل منها مستقلة فيه فهذا لا يجوز. انتهى.
التفريع :
إن قلنا بالجواز فالجمهور على الوقوع, وقال إمام الحرمين: إنه جائز غير واقع, وأراد بالجواز العقلي فإنه قال في البرهان: ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية, ولكنه يمتنع شرعا. وجرى عليه إلكيا وقال: إن المانع له استقراء عرف الشرع لا العقل.
وقال ابن برهان في الوجيز: إن الذي استقر عليه رأي الإمام - أخيرا هو المنع يعني كما نقله الآمدي وحينئذ يكون له في المسألة رأيان وحكى الهندي قولا عكس

(4/159)


مقالة الإمام فقال: قال إمام الحرمين: يجوز عقلا ولم يقع سمعا, وقيل بعكسه. وقال البزدوي بوقوعه إن دل عليه نص أو إجماع وإلا فلا لتعارض الاحتمالين, فلا يحكم بواحد منها إلا بدليل. وأما إذا قلنا بالمنع فلو اجتمعت كاللمس والمس فاختلفوا فقال قوم: كل واحد جزء علة, وقال آخرون: العلة واحدة منهما لا بعينه حذرا من تحصيل الحاصل إذا جعلنا كل واحد علة مستقلة, وأغرب ابن الحاجب فحكى هذا الخلاف على القول بالجواز. والمعروف اتفاق المجوزين على أن كل واحدة علة وإنما القولان على القول بالمنع.
نعم, قال بعض المحققين: اتفقوا عند الترتيب على أن الحكم مستند إلى الأولى فقط, وإنما الخلاف إذا وقعت دفعة, وقال إلكيا الطبري - وهو من المانعين - إن قيل: لو وجدت العلتان في حكم فماذا يعمل؟ قيل: لا بد وأن تكون إحداهما علة باطلة, أو إحداهما راجحة, لما بينهما من التنافي, ولا يجوز تقدير تساويهما بحيث لا يظهر رجحان انتهى.
ثم الذين منعوا الاجتماع في العلة اختلفوا في المأخذ: فمنهم من قال: لأن المحل لا يفي بمقتضيات العلل, لأن مقتضياتها الأمثال, والأمثال - كالأضداد - لا تجتمع, فعلى هذا يمتنع في المنصوصة والمستنبطة.
ومنهم من قال بل يفي بمقتضياتها ولكن يتعذر شهادة الحكم لكل واحدة, لاحتمال أن يكون المجموع هو العلة, أو يكون العلة بعض المجموع دون بعض, فيتعارض الاحتمالان في الشهادة بالاستقلال لكل واحد, فعلى هذا يجتمع في المنصوصة ويمتنع في المستنبطة.
ثم اختلف المانعون للاجتماع من ناحية مقتضاها في الاعتذار عن مثل الحائض المحرمة الصائمة.
فمنهم من قال: مقتضياتها أحكام عديدة: قيل: حكم ذو وجهين, والتعدد بالجهة كالتعدد بالتعيين. وقيل: الحكم واحد وإنما المجموع علة. والمختار أن العلل لا يتعذر اجتماعها على الحكم الواحد من جهة مقتضياتها ولكن من جهة الشهادة لها أحيانا, فإن التبست الشهادة لأعدادها, كما على صحة الاجتماع أن المصحح عند الانفراد - وهو انتظام المصلحة بترتيب الحكم على الوصف - حاصل بترتيب الحكم على الأوصاف بل لتحصل عند الاجتماع مصالح فهو بالصحة أولى.
وقد أورد المانعون إشكالا وهو أنه لو ثبت الحكم بعلل فإما: [1] أن يثبت بكل

(4/160)


واحدة منها. [2] أو لا شيء. [3] أو بشيء منها دون شيء, والأقسام كلها باطلة:
أما [الأول] فإنه يلزم منه إثبات الثابت.
وأما [الثاني] فلأنه يلزم منه سلب العلة عن الكل. وهو مناقض للغرض.
وأما [الثالث] فيلزم منه الاحتكام بترجيح أحد المتساويات من غير مرجح. ثم يلزم سلب العلة فيما فرضناه علة وهو محال. وأجاب الحذاق باختيار القسم الأول: قولهم يلزم إثبات الثابت قلنا: لا يلزم, فإن العلل الشرعية معرفات ووقفوا هاهنا.
وقال القاضي ابن المنير: وللمانع أن يدير التقسيم مع فرض كونها معرفات فيقول; المعروف هو المثبت للمعرفة, فعلى هذا إنما تكون كل واحدة أثبتت المعرفة بالحكم. أو لم يثبت شيء منها المعرفة, أو أثبتها البعض, فيعود الإشكال وإنما الجواب أن هذا القياس حصل من إلحاق العلة الشرعية بالعقلية, وليس كذلك, فإنه لا معنى لكون الوصف علة إلا أن يكون بحيث إذا نسب الحكم إلى العلة وجدت مصلحة أو اندفعت مفسدة, وبهذا التفسير لا يتخيل عاقل امتناع اجتماع العلل فإن حينئذ يكون الحكم بترتيب الحكم على الأوصاف تحصل مفاسد عديدة.
تنبيهات
الأول: قيل: الخلاف هل يجري في التعليل بعلتين سواء, كانا متعاقبين أم هو مختص بالمعية؟ كلام ابن الحاجب صريح في الأول, وكلام غيره يقتضي الثاني, ويساعده تمثيل الغزالي بمن لمس وبال في وقت واحد, وبه صرح الآمدي في جواب دليل المانعين. قلت: ويشهد له قول الأستاذ أبي منصور البغدادي: وهذا النوع من العلل ضربان متقارنة ومتعاقبة, فالمتعاقبة تجتمع في إيجاب الحكم الواحد, وكل واحد منهما لو انفردت لأوجبت مثل ذلك الحكم, كالأمثلة المذكورة والمتعاقبة لا تجتمع في الوجود, وإنما يخلف بعضها بعضا في حكم واحد, وذلك مثل دم الحيض يوجب تحريم الوطء, ثم يرتفع الدم ويبقى تحريم الوطء, لأجل عدم الطهارة. وقال الصفي الأصفهاني في كتاب النكت: ومن العلماء من يمنع جواز التعليل بعلتين على الجمع, ويجوز التعليل بعلتين على البدل.
الثاني: زعم صاحب المسودة أن الخلاف لفظي, لأن أحدا لا يمنع قيام *
ـــــــ
* انظر المسودة ص "416".

(4/161)


وصفين كل منهما لو انفرد لاستقل بالحكم, لكن هل نقول: الحكم مضاف إليهما أم إلى كل منهما أو في المحل حكمان؟ [قال]: ويجتمع للأصحاب فيها أربعة:
[أحدها] تعليل الحكم الواحد بعلتين مطلقا.
و[الثاني] التفصيل بين المنصوصة والمستنبطة.
و[الثالث] أن يجتمع في المحل الواحد حكما العلتين, وهو قول أبي بكر عبد العزيز في مسألة الأحداث إذا نوى أحدها لم يرتفع ما عداه.
و[الرابع] أنهما إذا اجتمعا كانتا كوصفين, فهما هناك علة وفي ذلك المحل علتان. والثالث إذا قلنا: بالجواز فقال القاضي عبد الوهاب: من شرطه أن لا يتنافيا, لئلا يؤدي إلى تضاد الأحكام بأن تقتضي إحداهما إثبات حكم والأخرى نفيه, بل ويتضادان بالإجماع كتعليل البر أنه مكيل, وبأنه قوت, لأن الإجماع إذا قرر أنه لا يعلل إلا بعلة واحدة وجب التنافي, فإن كانت إحداهما متعدية والأخرى قاصرة فاختلفوا فيه: فقيل: يتنافيان, والصحيح المنع, وهذا إن قلنا: إن التعدي ليس بشرط.
قال الباجي: هذا الخلاف جار سواء كانت العلة متفقة في التعدي وعدمه أو بعضها متعد وبعضها قاصر انتهى ورأيت في كلام بعضهم تعليل الحكم الواحد بعلتين متضادتين وجعل منه قول بعض الحكماء: إذا أقبلت الدنيا عليك فأنفق فإنها لا تبقى, وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى فعلل الإنفاق - وهو حكم واحد - بالإقبال والإدبار. وقال آخر: إن كان رزقك قسم فلا تتعب وإن لم يكن قسم فلا تتعب, فعلل ترك التعب بقسم الرزق وعدمه. فهذه العلة وإن تقابلت وتضادت فكل واحدة منها مناسبة للحكم من وجه.
الرابع أن إمام الحرمين1 مثل المسألة في كتبه بالمرأة يجتمع فيها الإحرام والحيض والصوم, وغلطه الإبياري لاستحالة مجامعة الصوم شرعا للحيض, ورده عليه ابن المنير بإمكان اجتماعهما في حق من انقطع دمها قبل الفجر فثبت الصوم ولم تغتسل, وهذا صوم صحيح وحكم الحيض - باعتبار تحريم الوطء باق حتى تغتسل على الصحيح في صحة الصوم وتحريم الوطء. فإن قلت: الحيض غير موجود حقيقة, قلت: ليس العمل على صورته وإنما هو على استصحابه حكما, كما أن الإحرام علة في إبقاء الحج
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/822".

(4/162)


معقودا لا حكمه. ويحتمل أن يريد الإمام أن المرأة قد يجتمع عليها وصفان ويعتريها حالتان مقتضيان للتحريم, إما إحرام وحيض أو إحرام وصوم ويدل لهذا قوله في البرهان مثل تحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض والإحرام, والصيام والصلاة. فمراده اجتماع وصفين من ذلك كالصيام مع الصلاة, أو الإحرام مع الحيض, لا أن الأربعة تجتمع.
الخامس : القائلون بامتناع اجتماع العلل فإذا اجتمعت كان كل واحدة منها, لا بعينها, علة. حذرا من تحصيل الحاصل إذا جعلنا كل واحدة علة مستقلة. ومن اللطيف عند ذلك أن المفسرين اختلفوا في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]: فقيل: فائدة تخصيص البعض تعظيم قدر الذنب ومعناه أن بعض ذنوبهم كاف في إهلاكهم.
وقيل: فائدته التنبيه على ما يصيبهم في الدنيا من العقوبات فكان بعض ذنوبهم يوجب عقوبات الدنيا, وبعضها يوجب عقوبات الآخرة. فعلى التفسير الأول يكون فيها تمسك للقول بأن الأسباب المستقلة إذا انفردت تكون علة منها إذا اجتمعت واحدة لا بعينها لأن هؤلاء الكفار صدرت منهم أسباب كل سبب منها لو انفرد لاستقل بالهلاك, فلما اجتمعت أخبر الله جل اسمه أن السبب منها في الإصابة بالعقوبات والإهلاك بعضها, لا كلها والباقي فات محل تأثيره, وهذا هو عين القول بأن السبب عند الاجتماع واحد لا بعينه ذكره ابن المنير.
السادس : قال ابن سريج في كتاب إثبات القياس: فإن قيل: إذا استنبط معنيين مختلفين وسبرا فصحا ما السبيل في ذلك؟ قيل: إن كان أحدهما يدخل في الآخر كدخول المأكول المدخر في المأكول غير المدخر نظر في زيادة الزائد فاعتبر, كما ذكرنا في تعليل الربوي. وإن كان المعنيان متضادين احتيج إلى قياسهما على غيرهما ليعلم أيهما أصح وذلك مثل تخيير النبي صلى الله عليه وسلم بريرة لما عتقت. قال بعضهم: خيرها لأن زوجها كان عبدا, وقال بعضهم: بل كان حرا, وقال بعضهم: لا أبالي أكان حرا أو عبدا. وإنما خيرها لحدوث العتق, فأما كونه حرا أو عبدا فيدرك بالخبر.
وأما من قال خيرها لحدوث العتق فهو الذي يحتاج علته وعلة من خالفه إلى قياسهما على نظيرهما, ليعلم أصحهما, ثم ذكر أن العلة فضل الحرية لما فضل الله به الحر على العبد, فإذا حدث الحرية حدث الخيار للنقص والفضل, فيعمل في هذا الباب بالنظر إلى نفس العلة المعارضة وإلى ما يخالفها حتى يعلم أصحهما.

(4/163)


فصل
وأما تعليل الحكمين بعلة واحدة فإن كانت بمعنى "الأمارة" فلا خلاف كما قاله الآمدي في الجواز, كما لو قال الشارع: جعلت طلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم والصلاة. ومنه البلوغ والحيض علامة لأحكام عديدة. وإن كانت بمعنى "الباعث" فاختلفوا فيه على أقوال:
" أحدها " وهو الصحيح - الجواز, إذ لا يمتنع أن يكون الوصف الواحد باعثا على حكمين مختلفين, أي مناسبا لهما بأمر مشترك بينهما, كمناسبة الربا والشرب للحد والتحريم.
و " الثاني ": المنع مطلقا.
و " الثالث ": المنع إن لم يتضادا.
والصحيح الأول, فيجوز تعليل المتماثلين بالعلة الواحدة لكن في محال متعددة, كالقتل الصادر من زيد وعمرو فإنه موجب للقصاص عليهما.
وقد يعلل بهما مختلفان غير متضادين كالحيض يحرم الوطء ومس المصحف ونحوه, وكالإحرام المانع من النكاح والصيد والطيب وأخذ الشعر والأظفار, ذكره الأستاذ أبو إسحاق.
وقد يعلل بها مختلفان متضادان بشرطين متضادين, كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحيز, وعلة الحركة بشرط الانتقال عنه. ومثله إلكيا بما يكون مبطلا لعقد مصححا لآخر: قلت: كالتأبيد في التجارة والبيع. قال: إلكيا: ويمتنع أن يكون لحكمين في شيء واحد في حالة واحدة, لاستحالة حصول الحكم على هذا الوجه. ولا يمتنع كونهما علتين لحكمين مثلين في شيئين. فأما كونهما علة لحكمين مثلين في شيء واحد فمحال, لأن الأحكام الشرعية لا يصح فيها الزائد, وإنما تتماثل الأحكام وتعلل بعلل مختلفة في أحوال, كقطع اليد قصاصا وسرقة فلا يمنع منه, ولكنهما حكمان مختلفان في الآثار وإن تماثلا في الصورة والله أعلم.

(4/164)