البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية مسالك العلة أي
الطرق الدالة على العلة
اعلم أنه لا يكتفى في القياس بمجرد وجود الجامع في الأصل
والفرع, بل لا بد من دليل يشهد له في الاعتبار. والأدلة ثلاثة
أنواع: إجماع, ونص, واستنباط ومنهم من أضاف إليه دليل العقل.
[وجعله] القاضي عبد الوهاب في الملخص وجها. والمشهور طريقة
السمع فقط1.
[المسلك] الأول الإجماع على كون الوصف علة
وهو مقدم في الرتبة على الظواهر من النصوص, لأنه لا يتطرق إليه
احتمال النسخ. ومنهم من قدم الكلام على النص, لشرفه.
وهو نوعان: إجماع على علة معينة, كتعليل ولاية المال بالصغر.
وإجماع على أصل التعليل وإن اختلفوا في عين العلة, كإجماع
السلف على أن الربا في الأوصاف الأربعة معلل, واختلفوا في أن
العلة ماذا؟.
ومثال القياس فيه أن الأخ للأبوين مقدم على الأخ من الأب في
الميراث, لامتزاج النسبين, فقياس عليه ولاية النكاح وغيرها
فإنها أثرت في الإرث إجماعا ولكن في غيره لوجود العلة فيه.
ومن ذلك: إجماعهم على أن الغصب هو علة ضمان الأموال, فيقاس
عليه السارق وجميع الأيدي الغاصبة, وإجماعهم على أن البكر
الصغيرة مولى عليها في النكاح, فقاس عليها أبو حنيفة الثيب
الصغيرة.
قال القاضي أبو الطيب الطبري: وكذلك قوله: "لا يقضي القاضي وهو
غضبان" وقال: وأجمعوا على أنه ليس لنا علة تعود على أصلها
بالتعميم إلا هذا المثال, وذلك جائز بالإجماع. وفيما قاله نظر.
وقد سبق تعدي الاستنجاء بالجامد القالع من
ـــــــ
1 انظر في هذه المسألة اللمع ص "62" المستصفى "2/293" شرح
الكوكب المنير "4/115" إرشاد الفحول للشوكاني ص "210".
(4/165)
النص على الأحجار, نظرا لمعنى الإزالة.
ومثله غيره بقول عمر رضي الله عنه في السواد, لو قسمته بينكم
لصارت دولا بين أغنيائكم. ولم يخالفه أحد. وقول علي رضي الله
عنه, في شارب الخمر: إذا شرب سكر, وإذا سكر هذى, وإذا هذى
افترى فإنه يجب عليه حد المفتري. ولم يخالف وفيه نظر, فقد منع
بعض أصحابنا القياس على أصل مجمع على حكمه, لما فيه من
الافتيات على الصحابة, إذ قد يجوز أن يكون إجماعهم لنطق خاص,
أو لمعنى لا يتعدى. ولكن الجمهور على الجواز طردا أوجب دليل
العمل بالقياس إذا ظهر التساوي في المناسبة وإن لم يتجانس
الحكمان من كل وجه, ولعله شطر المسائل القياسية عندهم.
واعلم أن كون الإجماع من طرق العلة, حكاه القاضي في مختصر
التقريب عن معظم الأصوليين, ثم قال: وهذا لا يصح عندنا, فإن
القائسين ليسوا كل الأمة ولا تقوم الحجة بقولهم ثم ردد القاضي
جوابه في أثناء الكلام فقال لو جعلنا القائسين أمارة لخبر غلبة
الظن في المقاييس لكان محتملا, وإن لم نقل: إنه يفضي إلى
القطع. والذي استقر عليه جوابه أنه لا أثر لإجماع القائسين إلا
أن يقدر رجوع منكري القياس عن الإنكار, ثم يجمع الكافة على علة
فتثبت حينئذ قطعا.
ورد إمام الحرمين في البرهان هذا بأن المحققين على أن منكري
القياس ليسوا من علماء الأمة ولا حملة الشريعة, فإن معظم
الشريعة صدرت عن الاجتهاد, والنصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة.
وحكى ابن السمعاني وجها ثالثا عن بعض أصحابنا أنه لا يجوز
القياس على الحكم المجمع عليه ما لم يعرف النص الذي أجمعوا
لأجله وهاهنا أمور:
أحدها : أن هذا الإجماع ليس من شرطه أن يكون قطعيا, بل يكفي
فيه الظن.
ثانيها : أنه إذا كان قطعيا امتنع وروده في الطردي, فإن كان
ظنيا ورد فيه لكن يتعين تأويله.
ثالثها : أن المستدل إذا قاس على علة إجماعية فليس للمعترض
المطالبة بتأثير تلك العلة في الأصل ولا في الفرع, فإن تأثيرها
في الفرع ثابت بالإجماع, وأما المطالبة بتأثيرها في الفرع
فلاطراد المطالبة في كل قياس, إذ القياس هو تعدية حكم الأصل
إلى الفرع بالجامع المشترك. وما من قياس إلا ويتجه عليه سؤال
المطالبة بتأثير الوصف في الأصل والفرع على المعترض, فيقال
مثلا: إنا قد نثبت العلة مؤثرة في الأصل بالاتفاق
(4/166)
ويثبت وجودها في الفرع فتمم لي القياس, فإن
ثبت عدم تأثيرها امتنع قياسك, فعليك بيانه. فإن بين المعترض
الفرق بين الأصل والفرع لزم المستدل جوابه وإلا انقطع. أما فتح
باب المطالبة بالتأثير ابتداء فلا يمكن منه, لما ذكرنا.
[المسلك] الثاني النص على العلة
قال الشافعي رضي الله عنه: متى وجدنا في كلام الشارع ما يدل
على نصبه أدلة أو أعلاما ابتدرنا إليه, وهو أولى ما يسلك.
ثم المشهور أن إلحاق المسكوت عنه بالعلة المنصوصة قياس, وقال
ابن فورك: ليس قياسا, وإنما هو استمساك بنص لفظ الشارع, فإن
لفظ التعليل إذا لم يقبل التأويل عن كل ما تجري العلة فيه كان
المتعلق به مستدلا بلفظ ناص في العموم, حكاه في البرهان1 عند
الكلام على مراتب الأقيسة.
واعلم أن التعليل معنى من المعاني, وأصله أن تدل عليه الحروف
كبقية المعاني, لكن تدل الأسماء والأفعال على الحروف, في إفادة
المعاني.
فمن حروف التعليل: كي, واللام, وإذن, ومن, والباء, والفاء, ومن
أسمائه: أجل, وجراء, وعلة, وسبب, ومقتضى, ونحو ذلك, ومن
أفعاله: عللت بكذا, ونظرت كذا بكذا.
ثم قد يدل السياق في الدلالة على العلية, كما دل على غير
العلية. وقد يكون محتملا فيعين السياق أحد المحتملين. وقد خلط
المصنفون الشروط بالعلل, وعمدوا إلى أمثلة يتلقى التعليل فيها
من شيء فظنوه يتلقى من شيء آخر, وربما التبس عليهم موضوع
الحروف لكونها مشتركة فظنوه للتعليل في محل ليس هو فيه
للتعليل, كتمثيلهم التعليل بالفاء بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وليس
كذلك فيما سيأتي تحقيقه.
وقد قسموا النص على العلة إلى صريح وظاهر.
[الأول: الصريح]: قال الآمدي: فالصريح هو الذي لا يحتاج فيه
إلى نظر
ـــــــ
1 انظر البرهان "2/847".
(4/167)
واستدلال, بل يكون اللفظ موضوعا في اللغة
له. وقال صاحب التنقيح: هو ما يدل عليه اللفظ سواء كان موضوعا
له أو لمعنى يتضمنه. فدخل الحروف المتصلة بغيرها.
وقال الإبياري: ليس المراد بالصريح المعنى الذي لا يقبل
التأويل, بل المنطوق بالتعليل فيه على حسب دلالة اللفظ الظاهر
على المعنى. وقد قال القاضي إنه للتعليل إلا أن يدل على غير
ذلك, وهو بمثابة قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
[الاسراء: 78] قال: لا يصلح الدلوك لكونه علة, فهو معنى عند
الدلوك, وإنما قال ذلك لأن عنده أن العلل الشرعية لا بد فيها
من المناسبة, وليس ميل الشمس من هذا القبيل.
ثم الدال على الصريح أقسام:
أحدها - التصريح بلفظ الحكم: كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ
بَالِغَةٌ} [القمر: 5] وهذا أهمله الأصوليون, وهو أعلاها رتبة.
وثانيها - لعلة كذا, أو لسبب كذا.
وثالثها - من أجل, أو لأجل : وهو دون ما قبله, قاله ابن
السمعاني, يعني: لأن لفظ العلة تعلم به العلة من غير واسطة من
قوله لأجل يفيد معرفتها بواسطة معرفة أن العلة ما لأجلها
الحكم, والدال بلا واسطة أقوى. وكذا قاله الصفي الأصفهاني في
النكت. كقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرائيلَ} [الآية] [المائدة: 32] على أن المشهور في أن
"من أجل" متعلق ب "كتبنا", أي كتبنا على بني آدم القصاص من أجل
قتل ابن آدم أخاه, بمعنى السبب في شرعية القصاص حراسة الدنيا.
وظن بعضهم أنه تعليل لقوله: {مِنَ النَّادِمِينَ} أي من أجل
قتل أخيه. وليس كذلك, وإنما هو علة لحكمه سبحانه على باقي
الأمم بذلك الحكم.
فإن قلت: فكيف يكون قتل واحد بمثابة قتل الناس كلهم؟ قلت:
تفخيما لشأن القتل, وأنه وصل في أنواع الظلم والفساد إلى هذه
الحالة, ولا يلزم من المتشابهين التساوي من كل الوجوه
لاختلافهما في مقدار الإثم واستوائهما في أصله لا وصفه.
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الاستئذان من أجل
البصر" 1, وقوله: " نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة"
2.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الإستئذان من أجل البصر حديث
"6241" ورواه مسلم "3/1698" كتاب الآداب حديث "2156".
2 الحديث رواه مسلم "3/1561" كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من
النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وبيان نسخه..........حديث
"1971".
(4/168)
رابعها - كي: كذا جعلها الإمام في البرهان
من الصريح, وخالفه الرازي. والأول أصوب. كقوله تعالى: {كَيْ لا
يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]
فعلل سبحانه قسمة الفيء بين الأصناف بتداوله بين الأغنياء دون
الفقراء. وقوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}
[الحديد: 23] فأخبر أنه قدر ما يصيبهم من البلاء قبل أن تبرأ
الأنفس, أو المصيبة, أو الأرض, أو المجموع; وهو الأحسن. ثم
أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وحكمته البالغة التي فيها أن لا
يحزن عباده على ما فاتهم ولا يفرحهم بما آتاهم إذا علموا أن
المصيبة مقدرة كائنة ولا بد, كتبت قبل خلقهم, فهون عليهم.
خامسها - إذن: كقوله عليه الصلاة والسلام: "أينقص الرطب إذا
جف؟ قالوا: نعم, قال: فلا إذن" 1 كذا جعله الشيخ أبو إسحاق
والغزالي من الصريح, وجعله في البرهان والمحصول من الظاهر. قال
الشيخ أبو حامد الإسفراييني: ولم يسأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك لأنه لم يعلمه, لأن ذلك معلوم لكل أحد بالحس,
وإنما سأل عنه ليبين أنه إنما منع من بيعه لأجل أنه ينقص, لئلا
يظن ظان أنه لغير هذه العلة.
وزعم بعض الحنفية أن المقصود النهي عن البيع عند النقصان, لأن
إذا لا تتناول إلا المستقبل. ورد عليه إمام الحرمين بأن
المسئول عنه إنما هو فعل الحال, ولم يجر لفعل مستقبل ذكر,
وإنما يجري السؤال بصيغة المصدر. قال ابن المنير: وهذا مخالف
للقواعد, فإن "إذا" أبدا لا يتناول إلا المستقبل, والفعل
المسئول عنه مستقبل قطعا, لأن الماضي والحال الحقيقي, - أي
الذي حدث, لا يسأل عنه, وإنما يسأل عن فعل مستقبل غير أنا لا
نقول: إن المستقبل هو البيع في حالة النقصان متفاضلا, بل
المستقبل المسئول عنه حقيقة: هذا رطب وهذا تمر.
وسادسها - ذكر المفعول له: فإنه علة للفعل المعلل, كقوله
تعالى: {وَنَزَّلْنَا
ـــــــ
1 رواه أبو داود "3/251" كتاب البيوع باب التمر بالتمر حديث
"3359" عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسأل عن شراء التمر بالرطب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم, فنهاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك . ورواية "فلا إذن" رواها أحمد في مسنده
"1/179" حديث "1544" ورواه ابن ماجة "2/761" حديث "2264" وابن
حبان "11/378" حديث "5003" والحاكم في المستدرك "2/50" حديث
"2283" وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه
الذهبي.
(4/169)
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ
شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} [النحل: 89] ونصب ذلك على المفعول
له أحسن من غيره, كما صرح به في قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44], وفي قوله: {وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:
150] فإتمام النعمة هي الرحمة. وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] أي
لأجل الذكر, كما قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58] وقوله:
{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} [المرسلات:6]
للإعذار والإنذار.
[الثاني: الظاهر] وأما الظاهر فهو كل ما ينقدح حمله على غيره
التعليل أو الاعتبار إلا على بعد. وهو أقسام:
أحدها - اللام: وهي إما مقدرة, كما سيأتي في مذهب الكوفيين,
وإما ظاهرة, لقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء:
78], {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56], {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] {وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] والقرآن محشو من هذا.
فإن قلت: اللام فيه للعاقبة, كقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]
وقوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} [الحج:
53] قلت: لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهلها, كقوله:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ} . أو يعجز عن
دفعها, كقول الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
وأما من هو بكل شيء عليم فيستحيل في حقه معنى هذه اللام, وإنما
اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكم والغاية المطلوبة
من الحكمة. وقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} هو
تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره له, فإن التقاطهم إنما كان
لقضائه, وذكر فضلهم دون قضائه لأنه أبلغ في كونه جزاء لهم
وحسرة عليهم وعن البصريين إنكار لام العاقبة.
قال الزمخشري: والتحقيق لام العلة, فإن التعليل فيها وارد على
طريق المجاز دون الحقيقة, لأن داعيهم للالتقاط لم يكن لكونه
عدوا وحزنا, بل المحبة والتبني, غير أن ذلك لما كان نتيجة
التقاطهم له وثمرة, شبه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله, فاللام
مستعارة لما يشبه التعليل, كما استعير الأسد لمن يشبه الأسد.
ونقل ابن خالويه في كتابه المبتدأ عن البصريين أنها لام
الصيرورة, وعن
(4/170)
الكوفيين أنها لام التعليل. ونقل ابن فورك
عن الأشعري أن كل لام نسبها الله لنفسه فهي للعاقبة والصيرورة
دون التعليل, لاستحالة الغرض, فكأن المخبر في "لام الصيرورة
"قال: فعلت هذا بعد هذا, لا أنه غرض لي. واستشكله الشيخ عز
الدين بقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِيَاءِ} [الحشر: 7], وبقوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ} [الفتح: 1] فقد صرح فيه
بالتعليل, ولا مانع من ذلك, إذ هو على وجه التفضل. وقال صاحب
التنقيح: اللام في اللغة تأتي للتعليل, وتستعمل للملك, وإذا
أضيفت إلى الوصف تعينت للتعليل.
وجعل الرازي في المحصول اللام من الصرائح. وقال في الرسالة
البهائية عن الغزالي أنه قال في شفاء العليل إنها صريحة في
التعليل, وكذلك الباء والفاء ثم استشكل ذلك بأنه إما أن يكون
المراد بالصريح ما لا يستعمل إلا في التعليل أو ما يكون
استعماله في التعليل أظهر.
فإن كان الأول فليست اللام صريحة في التعليل لأنها تستعمل في
غيره كقوله:
....... لدوا للموت .........
وقول المصلي: أصلي لله. فإن كان الثاني فلا يبقى بين الصريح
والإيماء فرق, لأن الإيماء إنما يجوز التمسك به إذا كانت
دلالته على العلية راجحة على دلالته على غير العلية, وحينئذ
فلا بد من الفرق بين ما يصير فيه اللفظ صريحا في العلة, وعند
عدمه يصير إيماء, ولم يثبت ذلك.
الثاني - أن "المفتوحة المخففة" فإنها بمعنى "لأجل", والفعل
المستقبل بعدها تعليل لما قبله, نحو أن كان كذا, ومنه: {أَنْ
تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ
مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] فإنه مفعول لأجله, قدره
البصريون; كراهة أن تقولوا والكوفيون: لئلا تقولوا, أو: لأجل
أن تقولوا. وكذلك قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا
حَسْرَتَى} [الزمر: 56], وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
فالكوفيون في هذا كله يقدرون اللام, أي: لئلا تضل, و: لئلا
تقول. والبصريون يقدرون المفعول محذوفا, أي: كراهة أن تقولوا.
أو: حذرا أن تقولوا.
فإن قيل: كيف يستقيم الطريقان في قوله: {أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا} ؟ فإنك إن قدرت: "لئلا تضل إحداهما "لم يستقم"
عطف "فتذكر إحداهما" عليه, وإن قدرت: "حذرا أن تضل إحداهما" لم
يستقم العطف أيضا. وكذلك إن قدرت "إرادة
(4/171)
أن تضل", قيل: المقصود إذ كان إحداهما
تنسى, إذا نسيت أو ضلت, فلما كان الضلال سببا للادكار جعل موضع
العلة, كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحيط فأدعمه بها,
فإنما أعددتها للدعم لا للميل. هذا قول سيبويه والبصريين,
وقدره الكوفيون في تذكير إحداهما الأخرى إن ضلت, فلما تقدم
الجزاء اتصل بما قبله فصحت "أن".
الثالث - إن "المكسورة ساكنة النون "الشرطية. بناء على أن
الشروط اللغوية أسباب, فلا معنى لإنكار من أنكر عدها من ذلك.
نعم, التعليق من الموانع, فيترتب على ما ترتب على الأسباب,
وعليه الخلاف من الشافعية والحنفية: هل الأسباب المعلقة بشرط
انعقدت وتأخر ترتب حكمها إلى غاية, أو لم تنعقد أسبابا؟ لكن من
جعل وجود المانع علة لانتفاء الحكم يصح على قوله إن الشرائط
موانع, وهي علل لانتفاء الحكم.
الرابع - إن: كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين
عليكم" قال صاحب التنقيح: كذا عدوها من هذا القسم, والحق أنها
لتحقيق الفعل, ولا حظ لها من التعليل, والتعليل في الحديث
مفهوم من سياق الكلام وتعينه فائدة للذكر.
وكذلك أنكر كونها للتعليل الكمال بن الأنباري من نحاة
المتأخرين, ونقل إجماع النحاة على أنها لا ترد للتعليل قال:
وهي في قوله: "إنها من الطوافين عليكم" للتأكيد, لا لأن علة
الطهارة هي الطواف, ولو قدرنا مجيء قوله: "هي من الطوافين"
بغير إن لأفاد التعليل, فلو كانت "إن" للتعليل لعدمت العلة
بعدمها, ولا يمكن أن يكون التقدير "لأنها" وإلا لوجب فتحها ولا
ستفيد التعليل من اللام. وتابعه جماعة من الحنابلة, منهم الفخر
إسماعيل البغدادي في كتابه المسمى ب جنة المناظر, وأبو محمد
يوسف بن الجوزي في كتابه الإيضاح في الجدل. ولكن ممن صرح
بمجيئها للتعليل أبو الفتح بن جني.
ونقل القاضي نجم الدين المقدسي في فصوله قولين للعلماء فيه,
وأن الأكثرين على إثباته. وليس مع النافي إلا عدم العلم, وكفى
بابن جني حجة في ذلك.
الخامس - الباء: قال ابن مالك: وضابطه أن يصلح غالبا في موضعها
اللام, كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13], وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160],
{فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40], وقوله عليه
الصلاة والسلام: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" ,
(4/172)
وجعل منه الآمدي والهندي {جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الاحقاف: 14] ونسبه بعضهم إلى المعتزلة
وقال: إنما هي للمقابلة, كقولهم: هذا بذلك, لأن المعطي هو من
قد يعطي مجانا, وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب.
وتقدم في الحروف الفرق بين باء السببية وباء العلة و "إن
"تشارك الباء في التعليل وتمتاز عنها بشيئين:
أحدهما : أن ما يليها في حكم من رجع إليه فيما يتكلم فيه فقال
موسعا كالجواب: لأنه كذا.
والثاني : أن خبرها غير معلوم للمخاطب. أو منزل منزلة غير
المعلوم لما لم يعمل بمقتضاه.
وزعم الإمام فخر الدين أن دلالة الباء على التعليل مجاز من جهة
أن ذات العلة لما اقتضت وجود المعلول دخل الإلصاق هناك, فحسن
استعمالها فيه مجازا. قال الهندي: وهذا يخالف ما ذكره غيره.
ولما أشعر به كلامه هنا من أن دلالة اللام والباء قائمة على
التعليل ظاهرة من غير فرق.
ثم ذكر أنها في اللام حقيقة وقال الأصفهاني في نكته: الباء دون
اللام في العلية, لأن محامل اللام أقل من محامل الباء. واللام
وإن جاءت للاختصاص فالتعليل لا يخلو عن الاختصاص فكانت دلالة
اللام أخص بالعلة.
السادس - الفاء: إذا علق بها الحكم على الوصف ولا بد فيها من
تأخرها وهي نوعان.
أحدهما : أن تدخل على السبب والعلة, ويكون الحكم متقدما. كقوله
عليه الصلاة والسلام في المحرم وقصته ناقته: "لا تخمروا رأسه
فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" 1.
والثاني: أن تدخل على الحكم وتكون العلة متقدمة, كقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38].
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6].
فالفاء للجزاء, والجزاء مستحق بالمذكور السابق, وهو السرقة
مثلا, لأن التقدير: إن سرق فاقطعوه. ومن هذا القبيل قوله
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الجنائز باب كيف يكفن المحرم حديث
"1267" ورواه مسلم "2/865" كتاب الحج حديث "1206".
(4/173)
تعالى: {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ظاهر
الخطاب يدل على أن العلة من قيام الولي بالإملاء أن موليه لا
يستطيعه, فصار ذلك موجبا قيام الولي بكل ما عجز عنه موليه
ضرورة طرد العلة.
قال الإمام الرازي: ويشبه أن يكون هذا في الإشعار بالعلة أقوى
من عكسه, يعني: لقوة إشعار العلة بالمعلول, لوجوب الطرد في
العلل دون العكس, ونازعه النقشواني. وهو ضربان:
أحدهما : أن يدخل على كلام الله ورسوله, إما في الوصف, كالحديث
السابق, أو في الحكم, كالآيات السابقة.
والثاني : أن يدخل في كلام الراوي, كقوله: سها فسجد, وزنى ماعز
فرجم. وسواء في ذلك الراوي الفقيه وغيره, لأن الظاهر أنه لو لم
يفهم لم يعاقب.
قيل: والفاء إذا امتنع كونها للعطف تعين للسبب. والمانع للعطف
أنها متى قدرت له الواو اختل الكلام, كقوله عليه السلام: "من
أحيا أرضا ميتة فهي له" 1 لأنها لو كانت عاطفة بمعنى الواو
لتضمنت الجملة معنى الشرط بلا جواب, وهذا مبني على حصر الفاء
للتعليل والعطف, وهو ممنوع, بل هي في هذه المواضع جواب, أي
رابطة بين الشرط وجوابه, ولا يلزم من كون الأول شرطا كونه علة.
وقد جعل في المحصول - تبعا للغزالي - الباء والفاء من صرائح
التعليل, ثم خالف الرازي في رسالته البهائية ورد على الغزالي
وقال: الباء قد تستعمل لغير التعليل, ومنه: باسم الله, والفاء
للتعقيب لا للتعليل.
وقال ابن الأنباري من النحويين: الفاء إنما يكون فيها إيماء
إلى العلة إذا كان المبتدأ اسما موصولا بجملة فعلية أو نكرة
موصوفة:
فالاسم الموصول نحو: الذي يأتيني فله درهم وقوله تعالى:
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ}
[البقرة: 274] فما بعد الفاء, من حصول الأجر, ونفي الخوف
والحزن, مستحق بما قبلها, من الإنفاق على ذلك الوصف. ويجري
مجرى "الذي" الألف واللام إذا وصلت باسم الفاعل, كقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38], و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
ـــــــ
1 رواه أبو داود "3/178" كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في
إحياء الموتى حديث "3073" ورواه الترمذي كتاب الأحكام خديث
"1378". وهو حديث صحيح.
(4/174)
[النور: 2], أي: لسرقتهما ولزناهما.
فاستحقاق القطع والجلد إنما كان للسرقة والزنى لا لغيرهما,
ولولا الفاء جاز أن يكون لهما ولغيرهما.
والنكرة الموصوفة نحو: كل إنسان يفعل كذا فله درهم, فيدل على
استحقاق الدرهم بالفعل المتقدم, فإذا لم تدخل لم يدل على ذلك,
وجاز أن يكون به وبغيره, لأن في الكلام معنى الشرط, إذا
المعنى: إن يأتني رجل فله درهم.
والشرط سبب في الجزاء وعلة له, ولهذا دخلت الفاء, لأنها
للتعقيب, والمسبب في الرتبة عقب السبب, فكان في دخولها إيماء
إلى العلة, وإذا حذفت لم يقتض اللفظ أن يكون الدرهم مستحقا
بالفعل المتقدم, بل به وبغيره لعدم الفاء المفيدة للتنبيه على
العلة الموجبة للاستحقاق.
وهنا أمران:
أحدهما : أن دخول فاء التعقيب على المعلوم واضح, لوجوب تأخره
عن العلة. وأما دخولها على العلة نحو "فإنه يبعث" فوجهه أن
العلة الغائبة لها تقدم في الذهن وتأخر في الوجود, كما تقول:
أكل فشبع, فالشبع متأخر في الوجود متقدم في الذهن.
وبهذا يجاب عن الاعتراض على القول باستفادة التعليل من الفاء
بترتيب الوضوء على القيام إلى الصلاة, ولو كانت للتعليل لزم أن
يكون القيام إلى الصلاة علة الوضوء, وذلك ممتنع, بل علة وجوب
الوضوء وجود الحدث. ولقد اعتاص الجواب على الغزالي حتى انتهى
فيه إلى الإسهاب. وجوابه يعلم مما ذكرنا أن العلة تنقسم إلى ما
يتقدم تصورها وإلى ما ينعدم تصورها. والصلاة بالنسبة إلى
الوضوء لك أن تجعلها من الأول بأنها حكمة الوضوء ولها شرط يصح
ترتيبه عليها بالفاء, كما رتب بعث الشهيد المحرم على هيئته,
وأن تجعلها من الثاني فإنه قد أمكن جعل القيام إلى الصلاة مظنة
وسببا, ويكون الحدث شرطا من شرائط السبب أو من شرائط الحكم
وإلحاق شرط بالوصف المومأ إليه لا يستكثر.
وقال بعضهم: الأولى أن تدخل الفاء على الأحكام, لأنها مترتبة
على العلل, ولا تدخل على العلل لاستحالة تأخر العلة عن
المعلول, إلا أنها قد تدخل على العلل على خلاف الأصل بشرط أن
يكون لها دوام, لأنها إذا كانت دائمة كانت في حالة الدوام
متراخية عن ابتداء الحكم, فصح دخول الفاء عليها بهذا الاعتبار,
كما
(4/175)
يقال لمن هو في حبس ظالم إذا ظهر آثار
الفرج: أبشر فقد أتاك الغوث, وقد نجوت.
الثاني : ما ذكر من أن الفاء للتعليل في آية السرقة من جهة أنه
رتب القطع على السرقة بها, فدل على أن السرقة هي السبب لا يأتي
على مذهب سيبويه, لأنه يرى أن قوله; {فَاقْطَعُوا} جواب لما في
الألف واللام من معنى الشرط, إنما الكلام عنده على معنى; فيما
يتلى عليكم حكم السارق والسارقة, فهذه ترجمة سيقت للتشوف إلى
ما بعدها, فلما كان في مضمون الترجمة منتظرا قيل: فاقطعوا
أيديهما فالفاء إذن للاستئناف لا للجواب. وإنما حمل سيبويه على
ذلك أن الفاء لو كانت جوابا لقوله: {وَالسَّارِقُ} وكان الكلام
مبتدأ أو خبرا لكانت القواعد تقتضي النصب في {وَالسَّارِقُ}
لأن الأمر بالفعل أولى, كقوله: زيدا اضربه. فلما رأى العامة
مطبقة على الرفع تفطن, لأنها لا تجمع على خلاف الأولى, فاستدل
بذلك على أنه خارج على معنى الاستئناف وذكر مثل قوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقةُ} كالترجمة والعنوان.
السابع - لعل: على رأي الكوفيين من النحاة, وقالوا: إنها في
كلام الله تعالى للتعليل المحض مجردة عن معنى الترجي لاستحالته
عليه, فإنه إنما يكون فيما تجهل عاقبته. كقوله تعالى:
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] قيل: هو
تعليل لقوله: {اعْبُدُوا} , وقيل: لقوله: {خَلَقَكُمْ} , وقيل:
لهما. وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 183], {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]
ف "لعل" في هذا اختصت للتعليل والرجاء الذي فيهما متعلق
المخاطبين.
الثامن - إذ: ذكر ابن مالك, نحو {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ
وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ}
[الكهف: 16], {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ
هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الاحقاف: 11] {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ} [الزخرف: 39]. وقد أشار
إليه سيبويه, ونازعه أبو حيان.
التاسع - حتى: أثبته ابن مالك أيضا. قال: وعلامتها أن يحسن في
موضعها "كي", نحو: خذ حتى تعطي الجود. ومن مثلها قوله تعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ
مِنْكُمْ} [محمد: 31] وقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193], ويحتملها {حَتَّى تَفِيءَ}
[الحجرات: 9]. وزعم صاحب التنقيح أن منها "لا جرم" بعد الوصف,
كقوله تعالى: {لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النَّارَ} وجميع أدوات
الشرط والجزاء كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً
فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6], {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185],
"من أحيا أرضا ميتة فهي
(4/176)
له". وكذا حرف "إذا" فإن فيها معنى
الشرطية, كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] وجعل الآمدي منها "من" أيضا.
تنبيه :
هذه الألفاظ كما تختلف مراتبها في أنفسها في الدلالة على
التعليل كذلك تختلف بحسب وقوعها في كلام القائلين, فهي في كلام
الشارع أقوى منها في كلام الراوي, وفي كلام الراوي الفقيه أقوى
منها في غير الفقيه, مع صحة الاحتجاج بها في الكل, خلافا لمن
توهم أنه لا يحتج بها إلا في كلام الراوي الفقيه, وهذا بحث
توهمه بعض المتأخرين, وليس قولا. وزعم الآمدي أن الوارد في
كلام الله أقوى من الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والحق تساويهما, وبه صرح الهندي, لعدم احتمال تطرق الخطأ
إليهما.
(4/177)
[المسلك الثالث] الإيماء والتنبيه
وهو يدل على العلية بالالتزام, لأنه يفهمها من جهة المعنى لا
اللفظ, وإلا لكان صريحا, ووجه دلالته أن ذكره مع الحكم يمنع أن
يكون لا لفائدة, لأنه عبث, فتعين أن يكون لفائدة, وهي إما كونه
علة أو جزء علة أو شرطا, والأظهر كونه علة لأنه الأكثر في تصرف
الشارح. وهو أنواع.
أحدها: ذكر الحكم السكوتي أو الشرعي عقب الوصف المناسب له,
وتارة يقترن ب "أن", وتارة بالفاء, وتارة يذكر مجردا. فالأول
كقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا
تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} - إلى قوله:
{خَاشِعِينَ} [الانبياء: 90] وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذريات:15]. الآية والثاني كقوله
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]. و
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]. والثالث:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54],
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ} [البقرة:277].
والذي بعد الفاء تارة يكون حكما, نحو {قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [البقرة: 222], وتارة يكون علة, نحو
"فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" فإنه علة تجنيبه الطيب. ثم منه
ما صرح فيه بالحكم والوصف معا فهو إيماء بلا خلاف, كقوله عليه
السلام: "من أحيا أرضا ميتة فهي له" , "من ملك ذا رحم محرم عتق
عليه" 1, فقد صرح في الأول بالإحياء, وهو الوصف, والحكم وهو
الملك. وفي الثاني بالملك وهو الوصف, وبالعتق وهو الحكم. ومنه
ما لم يصرح بهما:
فإن صرح بالحكم - والوصف مستنبط - كتحريم الربا في البر
المستخرج منه علة الكيل أو الطعم أو الوزن, فليس بإيماء قطعا.
وقيل: على الخلاف في عكسه, وهو ما
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "4/26" كتاب العتق باب فيمن ملك ذا رحم
محرم حدبث "3949" بلفظ: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" ورواه
الترمذي كتاب الأحكام حديث "1365" وهو حديث صحيح.
(4/178)
حكاه ابن الحاجب واستبعده الهندي. وإن صرح
بالوصف - والحكم مستنبط - كالصحة المستنبطة من حل البيع
والنكاح, فهل النص الدال على ثبوت الحل إيماء أو ثبوت الصحة؟
اختلفوا فيه: فذهب قوم إلى إثباته, ورجحه الهندي, لأن الصحة
لازمة للحل, إذ لولا الصحة لم يكن للإحلال فائدة. وذهب قوم إلى
أنه ليس بإيماء إليها, لأنها غير مصرح بها, فهو كما لو صرح
بالحكم واستخرجنا العلة قياسا لأحدهما على عكسه.
وجمع ابن الحاجب في الصورتين ثلاثة أقوال: والنزاع لفظي يلتفت
إلى تفسير "الإيماء" هل هو اقتران الحكم والوصف, سواء كانا
مذكورين أو أحدهما مذكورا والآخر مقدرا, أو بشرط أن يكونا
مذكورين؟ وإن إثبات مستلزم الشيء نقيض إثباته.
الثاني - أن يذكر الشارع مع الحكمة وصفا لو لم يكن علة لعري عن
الفائدة, إما مع سؤال في محله, أو سؤال في نظيره.
فالأول : كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان, فقال: "أعتق
رقبة" فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق, والسؤال مقدر في
الجواب, كأنه قال: إذا واقعت فكفر. وقد مر أن مثل هذا للتعليل
فكذا هنا, لأن المقدر كالمحقق, فإن حذفت من ذلك بعض الأوصاف
وعللت بالباقي سمي "تنقيح مناط", مثاله: أن يقول: كونه أعرابيا
لا مدخل له في العلة, إذ الأعرابي وغيره حكمهما سواء. وكذا كون
المحل أهلا, فإن الزنى أجدر به.
" والثاني " كقوله, وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة
وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه؟ قال: "أرأيت لو كان على
أبيك دين فقضيته أكان ينفعه"؟ قالت: نعم1 , فذكر نظيره وهو دين
الآدمي, فنبه على كونه علة في النفع وإلا لزم العبث.
وجعل إمام الحرمين وغيره منه قوله عليه السلام للسائل عن
القبلة: "أرأيت
ـــــــ
1 الحديث أخرجه ابن ماجة "2/971" كتاب المناسك باب الحج عن
الحي إذا لم يستطيع حديث "2909" أن امرأة من خثعم أتت النبي
صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج
على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يركب أفأحج عنه؟
قال: "نعم فإنه لو كان على أبيك دين قضيته" وهو حدبث صحيح
والحديث رواه البخاري مختصرا كتاب الحج باب حج المرأة عن الرجل
حدبث "1855" بلفظ "إن فريصة الله أدركت أبي شيخا كيرا لا يثبت
على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم" .
(4/179)
لو تمضمضت بماء" 1 فقال: نبهه عليه الصلاة
والسلام على قياس القبلة على المضمضة في صحة الصوم معها. وقال
المحققون غير ذلك, وهو أنه عليه الصلاة والسلام إنما نبه على
نقيض قياس يختلج في صدر السائل, وذلك أن الإشكال الذي عند
القائل إنما نشأ من اعتقاده أن القبلة مقدمة الجماع, والجماع
مفسد ومقدمة الشيء ينبغي أن تنزل منزلة الشيء, لما بين المقدمة
والغاية من التناسب, فنبه عليه الصلاة والسلام أن تعليل تنزيل
القبلة منزلة الجماع في الإفساد بكونها مقدمة منقوض بالمضمضة
في الوضوء وإن كان صائما, فإن المقدمة وجدت من المضمضة ولم
يوجد الإفساد, وإلا فكيف تقاس القبلة على المضمضة في عدم
الإفساد بجامع كونهما مقدمتين للمفسد, ولا مناسبة بين كون
الشيء مقدمة لفساد الصوم وبين كون الصوم صحيحا معه, بل هذا
قريب من فساد الوضع.
أما إذا علم الشارع فعلا مجردا تكلم عقيبه بحكم فهل يكون علمه
كإعلامه حتى يكون الفعل المجرد المعلوم سببا؟ فيه خلاف حكاه
الإبياري. وقال: الصحيح أنه لا يصح استناد التعليل إليه,
لاحتمال أنه حكم مبتدأ وجرى ذكر الواقعة اتفاقا, ويحتمل الربط
لقربه من القرينة. وقال صاحب جنة الناظر: من أنواع الإيماء
الحكم عند رفع الحادثة إليه, كقوله عليه الصلاة والسلام: "كفر"
لمن قال: واقعت.
وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا النوع
أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جوابا لما رفع إليه, إذ من
الممكن أن يكون الحكم استئنافا لا جوابا, وهذا كمن تصدى
للتدريس فأخبره تلميذ بموت السلطان مثلا, فأمره عقب الإخبار
بقراءة درسه, فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر, بل
الأمر بالاشتغال بما هو بصدده وبترك ما لا يعنيه. وإذا ثبت
افتقار فهم التعليل إلى الدليل فليس إلا انتفاء القرائن
الصارفة, إذ السؤال يستدعي الجواب, فتأخيره عنه يكون تأخيرا
للبيان عن وقت الحاجة, وذلك على خلاف الدليل. واعلم أن اعتراف
هؤلاء بكون السؤال يستدعي الجواب اعتراف بكون السؤال قرينة على
كون الواقع جوابا, فيكون مناقضا لقولهم: إن فهم التعليل يفتقر
إلى الدليل, والقرائن الصارفة ترشد
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "2/311" كتاب الصوم باب القبلة للصائم
حديث "2385"عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت فقبلت
وأنا صائم فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا
صائم!!! قال: أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس
به قال: فمه؟ وهو حدبث صحبح وسبق تخريجه بفصيلا.
(4/180)
المعارض لدلالة الدليل على تعيين الواقع
جوابا, فلا يؤخذ انتفاؤها في حد الدليل. نعم يقف العمل بالدليل
على انتفائها, وذلك لا يخص هذا النوع من الإيماء, بل هو جار في
جميع الأنواع, لأن انتقاء المعارض مشترط في العمل بجميع
الدلائل.
والثالث: أن يفرق بين حكمين لوصف.
إما مع ذكرهما معا, نحو: "للراجل سهم وللفارس سهمان", وقوله:
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] فإنه تنبيه على أن ما جعله غاية
للحكم يكون علة, قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ}
[المائدة: 89] فإنه يدل على أن المؤثر في حكم المؤاخذ والتفصيل
ما وقع به الفرق.
وإما مع ذكر أحدهما, نحو: القاتل لا يرث, فإنه لم يتعرض لغير
القاتل وإرثه, فدل على أن العلة في المنع من الإرث القتل.
وأيضا: إما بالغاية, مثل {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} أو بالاستثناء, كقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237].
والرابع: منعه ما قد يفوت المطلوب, بأن يذكر عقيب الكلام أو في
سياقه شيئا لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام,
كقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] لأن الآية سيقت
لبيان وقت الجمعة وأحكامها, فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه
مانعا من الصلاة أو شاغلا عن المشي إليها لكان ذكره عبثا, لأن
البيع لا يمنع منه مطلقا. كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي
القاضي وهو غضبان" 1 فلو لم يعلل [النهي] عن القضاء عند الغضب
بكونه يتضمن تشويش الفكر لكان ذكره لاغيا. إذ القضاء لا يمنع
مطلقا كما مر.
والخامس: ربط الحكم باسم مشتق بما منه الاشتقاق ينتهض علة فيه.
وإلى هذا صار الشافعي في مسألة الربا, وأول القاضي مذهبه وقال:
لعله تمسك بالحديث في إثبات حكم الربا لا في إثبات علته. قال
الغزالي: ليس كما ظنه القاضي, لأنه أثبت علية الطعم. وقال إمام
الحرمين: تعلق أئمتنا في تعليل ربا الفضل بالطعم بقوله: "لا
تبيعوا الطعام بالطعام" وهو موقوف على إثبات كون الطعام مشعرا
بتحريم التفاضل,
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الأحكام باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو
غضبان حديث "7158" بلفظ "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان"
ورواه مسلم "2/1342" كتاب الأقضية حديث "1717".
(4/181)
وإلا فالطعام والبر سواء في تعليق الحكم
به.
والسادس: ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء, كقوله
تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}
[الطلاق: 2] أي لأجل تقواه. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي لأجل توكله, لأن الجزاء يتعقب
الشرط, والسبب ما ثبت الحكم عقبه, فإذا الشرط في مثل هذا سبب
الجزاء, فيكون الشرط اللغوي سببا وعلة. ومنه قوله صلى الله
عليه وسلم: "من اتبع جنازة فله من الأجر قيراط" 1, و"من أحيا
أرضا ميتة فهي له".
وهذا القسم لا يكون ما بعد الفاء إلا حكما, وما قبلها إلا
سببا, لأن جواب الشرط متأخر بالوضع عن الشرط تحقيقا, نحو: إن
كنت مؤمنا فاتق الله, أو تقديرا, نحو: اتق الله إن كنت مؤمنا,
لأن جواب الشرط لازم, والشرط ملزوم, واللازم إنما يكون بعد
الملزوم, وثبوته فرع عن ثبوته. بخلاف الأقسام السابقة. فإذا ما
بعد الفاء قد يكون حكما وقد يكون علة.
وزعم بعضهم رجوعه إلى باب الشرط والجزاء لأن الأمر والنهي قد
يقتضيان الشرط فيجزم جوابهما, كقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5-6] أي: هب لي, فإنك إن
تهب لي وليا يرثني. وقولك: لا تقرب الشر تنج: أي: لا تقربه,
فإنك إن لا تقربه تنج, وتدخل الفاء في جوابهما, كقوله صلى الله
عليه وسلم: "لا تقربوه طيبا, فإنه يبعث" أي إنه مات محرما فإنه
يبعث ملبيا فلا تقربوه طيبا. فالظاهر استواء الصيغ كلها في
تأخر الحكم على الوصف والحكم إما مسبب أو مشروط وهو مسبب أيضا,
وكلاهما متأخر, نعم بعض ذلك متأخر تحقيقا, وبعضه متأخر تقديرا.
السابع: تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه, كقوله تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} . {وَلَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27], {وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} [الاسراء: 59]. أي: آيات
الاقتراح لا الآيات الدالة على صدق الرسل, وقوله: {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ} [فصلت: 44] وقوله: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8]
فأخبر سبحانه عن المانع
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الجنائز باب فضل اتباع الجنائز حديث
"1342" رواه مسلم "2/652" كتاب الجنائز حديث "945".
(4/182)
الذي منع من إنزال الملك عيانا بحيث
يشاهدونه, وأن لطفه بخلقه منعه, فإنه لو أنزل عليه ملكا
وعاينوه ولم يؤمنوا فعجلوا العقوبة, وجعل الرسول بشرا ليمكنهم
التلقي عنه والرجوع إليه.
الثامن : إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية
ولا لحكمة. بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ
عَبَثاً} [المؤمنون: 115] وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ
أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36] وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا
خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38-39].
التاسع : إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين, ويفرق بين
المتماثلين.
"فالأول" كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:
35-36] وقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ:28] وقوله: {أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21].
و "الثاني" كقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}
[النساء: 69] وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71], وقوله:
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}
[التوبة: 67].
مسألة
في اشتراط الوصف المومأ إليه للحكم في الأقسام السابقة مذاهب.
أحدها ". اشتراطه. وهو قول إمام الحرمين والغزالي, كالزنى
والسرقة والصوم. فإن لم يكن مناسبا فهو كالتعليل بالقلب.
و "الثاني" - وهو قول الأكثرين - عدم اشتراطه, بل يكفي مجرد
التعلق مع ترتيب الحكم عليه, وحكاه في البرهان "عن إطلاق
الأصوليين, واختاره إلكيا, وإلا لم يكن لذكره معنى وتعطل
الكلام.
و "الثالث" - واختاره ابن الحاجب - إن كان التعليل فهم من
المناسبة, كما في قوله: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" اشترط.
وأما غيره فلا, لأن التعليل يفهم من غيرها.
وحكى الهندي قولا باشتراطه في ترتب الحكم على الاسم دون غيره.
وفصل ابن المنير بين أن يكون الاسم المشتق يتناول معهودا معينا
فلا يتعين للتعليل ولو كان مناسبا,
(4/183)
بل يحتمل أن يكون تعريفا. وأما إذا علق
بعام أو منكر فهو تعليل ولو لم تظهر المناسبة, كما لو قال:
لعلة كذا, ولم تظهر المناسبة.
تنبيهات
الأول: الإيماءات بأنواعها تدل على أن المشرع اعتبر الشيء
الفلاني ولم يلغه. وأما أنه علة تامة, أو جزء علة, أو شرط علة,
فكل ذلك لا يدل عليه الدال على اعتباره, وقد يدل بقرينة. وإن
شئت فقل: هل التنصيص أو التنبيه على العلة نص صريح في أن هذا
المنصوص أو المنبه على علته مقصود بعينه, أو جزئي أقيم مقام
كلي, والعلة المنصوص عليها أو المنبه عليها هو المعنى الكلي
الذي أقيم هذا الجزئي مقامه؟ قلنا: الظاهر أنه مقصود لعينه.
ويحتمل أن يكون جزئيا أقيم مقام كلي, كقوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" . وهذا السؤال وقع في
المستصفى "مجا وصوابه ما ذكرنا.
الثاني : دلالة هذه الأقسام في الإيماءات على العلية إنما هي
ظاهرة إلا فيما كان منها بصيغة الشرط.
الثالث : لو ظفرنا في الوصف بمناسبة تعين لحاظها, وجاز للناظر
الزيادة عليها, والنقص:
فالأول : كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي وهو
غضبان" فإنه فهم أن المنع لعلة تشويش الفكر فألحق به الجوع
والعطش وغيرهما من المعاني الموجبة لاختلاف الفكر.
والثاني : كالنهي عن بيع ما لم يقبض, فإنه إضافة المنع إلى عدم
القبض ليست لصورته. واضطرب أصحابنا في معناه, فقيل: لتوالي
الضمانين, فيخرج منه البيع من البائع. وقيل: لضعف الملك فلا
يخرج, لكن يخرج منه الاستبدال عن بدل الثلاثمائة بمائة جائز
وإن كان قبل القبض.
وقال أبو حنيفة: هو لتضمنه غررا من حيث يتوقع انقلاب الملك إلى
البائع الأول بالتلف قبل القبض تبين بالآخرة أن البائع الثاني
باع ملك الغير فيكون غررا, فيخرج منه بيع العقار فإن تلفه غير
متصور على ما عرف من أصولهم.
وأيضا كقوله عليه السلام: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 1 فإنه ينبه
على كون
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي "4/221" كتاب اللباس باب ما جاء في جلود
الميتة إذا دبغت, حديث "1728"بلفظ المصنف ورواه مسلم "1/277"
كتاب الحيض باب طهارة جلود الميتة بالدباغ حديث "366" بلفظ
"إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
(4/184)
الدباغ يطهر الجلد مطلقا. وخرج به عندنا
جلد الكلب, وكان المعنى منه أنا وجدنا المناسبة خاصة بجلد ما
كان طاهرا قبل الممات, لأن تأثير الدباغ في رد الجلد إلى ما
كان عليه فيعود طاهرا, وهو مفقود في حق الكلب. وقضى أبو حنيفة
بطهارته بالدباغ لأنه يقول بطهارته حال الحياة. فإن قيل: إدارة
الحكم على المناسبة في الوصف المومأ إليه حتى سار القول
بالزيادة والنقصان يناقض أصلكم في منع إرث كل قاتل, بناء على
ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" 1 مع أن
المناسبة خاصة, وهي المعارضة له بنقيض قصده في استعجال
الميراث, فيخرج القتل المباح والواجب, وأنتم لا تقولون به.
قلنا: المناسبة خاصة - كما ذكرتم - لكنها معارضة بقول من منع
القاتل مطلقا أن الإرث اضطراري, ولو حصل بالقتل لكان كسبيا,
وذلك ممتنع.
ومنهم من يقول: القتل يمنع الموالاة فيمنع الإرث كالرق والكفر.
وإذا تعارضت المناسبات تساقطن ولم يعمل بإحداها, ورجع إلى عموم
الحديث مع قطع النظر عن المناسبات. على أن أصل الزيادة والنقص
وإن ذكره الغزالي في الشفاء "فقد خالفه غيره. ويشكل ما سماه
زيادة, في مسألة القاضي, من قياس التمثيل, وما سماه نقصانا عن
عموم الخبر فهو بناء على معارض أما لعدم المناسبة فلا.
[المسلك] الرابع الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى الله
عليه وسلم
وهذا مما أهمله أكثر الأصوليين. وقد ذكره القاضي في التقريب",
وصورته أن يفعل فعلا بعد وقوع شيء, فيعلم أن ذلك الفعل إنما
كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع. ووقوع ذلك إما أن يكون من النبي
صلى الله عليه وسلم كأن يرى أنه سها في الصلاة فسجد, فيعلم أن
ذلك السجود لذلك السهو. وإما أن يكون من غيره ويكون منه شيء
آخر, كما روي أن ماعزا زنى فرجم. قال القاضي: إنما يجب مثل ذلك
الحكم في غير ذلك المحكوم عليه بعد نقله بالقياس إذ قوله صلى
الله عليه وسلم: "حكمي على الواحد حكمي على
ـــــــ
1 رواه الترمذي "4/425" كتاب الفرائض باب ما جاء في إبطال
ميراث القاتل حديث "2109" ورواه ابن ماجة كتاب الديات حديث
"2645" كلاهما بلفظ المصنف والحديث صححه الشيخ الألباني.
(4/185)
الجماعة" 1 ونحوه مما يحل الفعل فيه محل
القول العام, لأنا قد قلنا: إن قضاءه على المعين لعلة وصفية لا
تقتضي وجوب عموم ذلك الحكم, ولا يمتنع اختلاف الأحكام في ذلك,
وإنما يتعدى لغيره بدليل يقترن به قال: وكذلك اجتنابه الطيب
وما يجتنبه المحرمون عند إحرامهم إذ عقل من ذلك شاهد الحال أنه
إنما اجتنبه لأجل الإحرام. ومن أمثاله المنبهة على علة الحكم
تخييره بريرة لما عتقت تحت زوجها.
[المسلك] الخامس في إثبات العلية [المناسبة]
وهي من الطرق المعقولة, ويعبر عنها ب "الإخالة "وب "المصلحة
"وب "الاستدلال" وب "رعاية المقاصد", ويسمى استخراجها "تخريج
المناط" لأنه إبداء مناط الحكم.
وهي عمدة كتاب القياس وغمرته ومحل غموضه ووضوحه. وهو تعيين
العلة بمجرد إبداء المناسبة, أي: المناسبة اللغوية التي هي
الملاءمة. فلا دور من ذات الأصل, لا بنص ولا غيره, مع السلامة
عن القوادح. كالإسكار في تحريم الخمر.
والمناسب - لغة: الملائم, وأما في الاصطلاح فقال من لم يعلل
أفعال الله بالغرض: إنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات, أي
ما يكون بحيث يقصد العقلاء لفعله على مجاري العادة تحصيل مقصود
مخصوص.
وقال من يعللها: هو ما يجلب للإنسان نفعا, أو يدفع عنه ضرا.
وهو قول الدبوسي: ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول. قيل:
وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر, لأنه ربما يقول: عقلي لا
يتلقى هذا بالقول. ومن ثم قال أبو زيد الدبوسي: هو حجة للناظر
لأنه لا يكابر نفسه, دون المناظر.
قال الغزالي "رحمه الله": والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد
بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط, فإذا أبداه المعلل فلا
يلتفت إلى جحده. وقيل: إن التفسير الأول بني على جواز تخصيص
العلة, وأن المناسب لا ينخرم بالمعارض. والتفسير الثاني
ـــــــ
1 موضوع أورده الهروي في الموضوعات الكبرى "1/178" والفتني في
تذكرة الموضوعات "1/186" والشوكاني في الفوائد "1/578" والبشير
في تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة "1/133" والهلالي في
سلسلة الأحاديث التي لا أصل لها "1/13".
(4/186)
بني على منع التخصيص ويأخذ انتفاء العارض
في حد المناسب. وقال الخلافيون: المناسبة مباشرة الفعل الصالح
لحكمة ومصلحة. أو: صلاحية الفعل لحكمة ومصلحة.
وقال ابن الحاجب وغيره: هو وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتب
الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة
دينية أو دنيوية, أو دفع مفسدة. فإن كان الوصف خفيا أو ظاهرا
غير منضبط فالمعتبر ما يلازمه, وهو المظنة, كالمشقة, فإنها
للمقصود ولا يمكن اعتبارها بنفسها, لأنها غير منضبطة, فتعتبر
بما يلازمه وهو السفر. قال الهندي: وهو ضعيف, لأنه اعتبر في
ماهية المناسبة ما هو خارج عنه, وهو اقتران الحكم للوصف, وهو
خارج عن ماهية المناسبة, بدليل أنه يقال: المناسبة مع الاقتران
دليل العلية, ولو كان الاقتران داخلا في الماهية لما صح هذا.
وأيضا فهو غير جامع, لأن التعليل بالظاهرة المنضبطة جائز, على
ما اختاره قائل هذا الحد, والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق
المناسبة.
وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها العلية بتمسك الصحابة بها,
فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص إذا غلب على ظنهم أنه
يضاهيه لمعنى أو يشبهه. ورده في الرسالة البهائية "بأنه ما نقل
إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب, فلا يبعد التعبد من نوع
الظن الغالب, ونحن لا نعلم ذلك النوع. ثم قال: الأولى الاعتماد
على العمومات الدالة على الأمر بالقياس. وقد أورد على اعتبار
الفقهاء "المناسبة" في الأحكام بأنه يقتضي تعليل أحكام الله
بالغرض, كما يقوله المعتزلة, وقد سبق تحرير هذا في الكلام على
العلل. والحق أن استقراء أحكام الشرع دل على ضبط هذه الأحكام
بالمصالح, وهذا كاف فيما نرومه, وذلك بفضل الله "جل اسمه" لا
وجوبا, خلافا للمعتزلة في وجوب رعاية الأصلح.
واعلم أن الأصل عدم "التعبد" لندرته في الأحكام بالنسبة إلى
"ما يعقل معناه", والأغلب على الظن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب,
وإنما يحكم بالتعبد فيما لا تظهر فيه مناسبة إلا عند من يعلل
بالوصف الشبهي, فإنه غير مناسب بنفسه ولا معلوم اشتماله على
المناسب, ولا يصار إلى التعبد معه عند القائلين به.
(4/187)
ثم النظر في "المناسب" في مواضع:
الموضع الأول [أقسام المناسب من حيث اليقين والظن]
إنه قد يحصل المقصود به من شرع الحكم يقينا, كمصلحة البيع للحل
أو ظنا, كالقصاص لحفظ النفس. وقد يحتملها على السواء, كحد
الخمر لحفظ العقل, لأن الميل والإقدام مساو للإحجام. وقد يكون
نفي الحصول أوضح, كنكاح الآيسة لتحصيل التناسل. ويجوز التعليل
بجميع هذه الأقسام.
وأنكر بعضهم صحة التعليل بالثالث والرابع, بناء على أن حصول
المقصود منها غير ظاهر, للمساواة في الثالث, والمرجوحية في
الرابع. والأصح خلافه, لأن انتفاء ظهور حصول المقصود لا يقدح
في صحة التعليل. وقال الهندي: يجوز إن كان في آحاد الصور
الشاذة وكان ذلك في أغلب الصور من الجنس مفضيا إلى المقصود,
وإلا فلا. أما إذا حصل القطع بأن المقصود من شرع الحكم ثابت
فقالت الحنفية: يعتبر التعليل به. والأصح لا يعتبر, سواء ما لا
تعبد فيه, كلحوق نسب المشرقي بالمغربية, وما فيه تعبد,
كاستبراء جارية اشتراها بائعها في المجلس.
الموضع الثاني [أقسام المناسب من حيث الحقيقة والإقناع]
إنه ينقسم إلى حقيقي وإقناعي. والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع
في محل الضرورة, ومحل الحاجة, ومحل التحسين.
الأول - الضروري: وهو المتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي
لم تختلف فيها الشرائع, بل هي مطبقة على حفظها, وهي خمسة:
أحدها - حفظ النفس: بشرعية القصاص, فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق
واختل نظام المصالح.
ثانيها - حفظ المال: بأمرين: "أحدهما" إيجاب الضمان على
المعتدي فيه فإن المال قوام العيش. "وثانيهما" بالقطع بالسرقة.
ثالثها - حفظ النسل: بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه, فإن
الأسباب
(4/188)
داعية إلى التناصر والتعاضد والتعاون الذي
لا يتأتى العيش إلا به عادة.
رابعها : حفظ الدين: بشرعية القتل والقتال, فالقتل للردة
وغيرها من موجبات القتل, لأجل مصلحة الدين, والقتال في جهاد
أهل الحرب.
خامسها - حفظ العقل: بشرعية الحد على شرب المسكر, فإن العقل هو
قوام كل فعل تتعلق به مصلحة, فاختلاله مؤد إلى مفسدة عظمى.
هذا ما أطبق عليه الأصوليون. وهو لا يخلو من نزاع, فدعواهم
إطباق الشرائع على ذلك ممنوع.
أما من حيث الجملة فلأنه مبني على أنه ما خلا شرع عن استصلاح,
وفيه خلاف سبق في الكلام على أن الحكم لا بد له من علة.
والأقرب فيه الوقف.
وأما من حيث التفصيل: فأما ما ذكروه من القصاص فيرده أن القصاص
إنما علم وجوبه في شريعة موسى عليه السلام بدليل قوله تعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
[المائدة: 45] وذلك لا يوافق قولهم: يلزم من عدم مشروعية
القصاص بطلان العالم.
فأما ما ذكروه في الخمر فليس كذلك, فإنها كانت مباحة في صدر
الإسلام, ثم حرمت في السنة الثالثة بعد غزوة أحد: قيل: بل كان
المباح شرب القليل الذي لا يسكر, لا ما ينتهي إلى السكر المزيل
للعقل, فإنه يحرم في كل ملة. قاله الغزالي في شفاء العليل",
وحكاه ابن القشيري في تفسيره "عن القفال الشاشي ثم نازعه وقال:
تواتر الخبر حيث كانت مباحة بالإطلاق, ولم يثبت أن الإباحة
كانت إلى حد لا يزيل العقل. وكذا قال النووي في شرح مسلم",
فأما ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما
فباطل لا أصل له. انتهى.
وقد ناقشهم الأصفهاني صاحب النكت "من جهة أخرى, وهي أن
المحافظة على مقصود الشرع إنما تحصل بإيجاب القصاص والحد, لا
بالقتل والسرقة, لأن هذه الأشياء تخل بمقصود الشرع فيكون
المناسب هو الحكم المتضمن للمحافظة على المقصود, لا الوصف وهو
السرقة والقتل والردة. وهذا باطل, لأن المناسبة صفة السرقة
والردة. وغيرها, لأنه يقال: السرقة تناسب القطع, والقتل يناسب
القصاص, ولا يقال: إيجاب القصاص مناسب.
وقد زاد بعض المتأخرين "سادسا" وهو: حفظ الأعراض, فإن عادة
العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم, وما فدي بالضروري
أولى أن يكون ضروريا. وقد
(4/189)
شرع في الجناية عليه بالقذف الحد, وهو أحق
بالحفظ من غيره, فإن الإنسان قد يتجاوز من جنى على نفسه وماله,
ولا يكاد أحد يتجاوز عن الجناية على عرضه, ولهذا كان أهل
الجناية يتوقعون الحرب العوان المبيدة للفرسان لأجل كلمة,
فهؤلاء عبس وذبيان استمرت الحرب بينهم أربعين سنة لأجل سبق فرس
فرسا, وهما داحس والغبراء, وإليهما تضاف هذه الحرب, وذلك لأن
المسبوق, وهو حذيفة بن بدر, اعتقد مسبوقيته عارا يقبح عرضه.
ويلتحق بهذا القسم مشكل الضروري, كحد قليل المسكر ووجوب الحد
فيه, وتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع الداعي إليها,
وفي حفظ النسب بتحريم النظر والمس, والتعزير على ذلك.
الثاني - الحاجي:
وهو ما يقع في محل الحاجة, لا الضرورة, كالإجارة فإنها مبنية
على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضن مالكها
ببذلها عارية. وكذلك المساقاة لاشتغال بعض الملاك عن تعهد
أشجاره. وكذلك القراض.
وذكر بعضهم في هذا القسم البيع. وقال إمام الحرمين: تصحيح
البيع آيل إلى الضرورة. والإجارة دونه, لأن كل أحد لا يستغني
عن البيع, فالضرورة إليه عامة, وفي الآحاد من يستغني عن
الإجارة, فالحاجة إليها ليست عامة. ونازعه ابن المنير وقال:
وقوع الإجارات أكثر من المبايعات.
ومنه: نصب الولي للصغير, لأنه أكمل نظرا من المرأة, لكمال
عقله, فلو فوض نكاحها إليها أوقعت نفسها في معرة, لقصور نظرها,
ولأن توليها النكاح يستقبح عند العقلاء, لإشعاره ببذاءتها.
ثم قد يكون من هذا ما هو ضروري, كالإجارة لتربية الطفل.
وتكميلا كخيار البيع, ورعاية الكفاءة, ومهر المثل في تزويج
الصغير فإنه أفضى إلى دوام النكاح.
ثم اعلم أن "المناسبة" قد تكون جلية حتى تنتهي إلى القطع,
كالضروريات. وقد تكون خفية, كالمعاني التي استنبطها الفقهاء
وليس لهم إلا مجرد احتمال اعتبار الشرع لها.
وقد يشتبه كون "المناسبة" واقعة في مرتبة الضرورة أو الحاجة
لتقاربهما. وقد قال بعض الأكابر: إن مشروعية الإجارة على خلاف
القياس فنازعه بعض الفضلاء
(4/190)
وقال: إنها في مرتبة الضرورة, لأنه ليس كل
الناس قادرا على المساكن بالملك ولا أكثرهم, والسكن ما يكن من
الحر والبرد من مرتبة الضرورة. وقد يختلف التأثير بالنسبة إلى
الجلاء والخفاء.
الثالث - التحسيني:
وهو قسمان: منه ما هو غير معارض للقواعد, كتحريم القاذورات,
فإن نفرة الطباع عنها لقذارتها معنى يناسب حرمة تناولها, حثا
على مكارم الأخلاق, كما قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وحمله الشافعي على المستحب عادة
على تفصيل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق" 1 رواه البيهقي في سننه.
و"منه": إزالة النجاسة, فإنها مستقذرة في الجبلات, واجتنابها
أهم في المكارم والمروآت, ولذا يحرم التضمخ بها على الصحيح من
غير حاجة. قال الإمام في البرهان: والشافعي نص على هذا في
الكثير. ثم إنه في النهاية في الكلام على وطء الأمة في دبرها
قال: لا يحرم.
و"منه": إيجاب الوضوء, لما فيه من إفادة النظافة, إذ الأمر بها
في استغراق الأوقات مما يعسر فوظف الوضوء في الأوقات وبنى
الأمر على إفادته المقصود, وعلم الشارع أن أرباب العقول لا
يعتمدون فعل الأوساخ والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فكان
ذلك النهاية في الاستصلاح.
قال الإمام: وإزالة النجاسة أظهر في هذا من النظافة الكلية
المرتبة على الوضوء من حيث إن الجملة تستقذرها, والمروءة تقتضي
اجتنابها, فهي أظهر من اجتناب الشعث والغمرات. "قال": ولهذا
جعل الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالعادات العرية عن
الأعراض وضاهى العبادات الدينية.
و "منه" سلب العبد أهلية الشهادة, لأنها منصب شريف, والعبد
نازل القدر, والجمع بينهما غير ملائم. وهذا استشكله ابن دقيق
العيد, لأن الحكم بالحق بعد ظهور الشاهد واتصاله إلى مستحقه
ودفع اليد الظالمة عنه من مراتب الضرورة, واعتبار نقصان العبد
في الرتبة والمنصب من مراتب التحسين, وترك مرتبة الضرورة رعاية
لمرتبة التحسين بعيدا جدا. نعم, لو وجد لفظ يستند إليه في رد
شهادته ويعلل
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
(4/191)
هذا التعليل لكان له وجه. فأما مع
الاستدلال بهذا التعليل ففيه هذا الإشكال. وقد تنبه بعض أصحاب
الشافعي لإشكال المسألة فذكر أنه لا يعلم لمن رد شهادة العبد
مستندا أو وجها. وأما سلب ولايته فهو في محل الحاجة إذ ولاية
الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا, والعبد مستغرق بخدمة سيده,
فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل. أما الشهادة فتتفق
أحيانا, كالرواية والفتوى.
و "منه" ما هو معارض كالكتابة, فإنها من حيث كونها مكرمة في
العوائد ما احتمل الشرع فيها خرم قاعدة ممهدة, وهي امتناع
معاملة السيد عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على سبيل
المعاوضة. نعم, هي جارية على قياس المالكية في أن العبد يملك.
وزعم إمام الحرمين أنها خرجت عن قياس الوسائل عندهم, لأنهم
أوجبوها مع أنها وسيلة إلى العتق الذي لا يجب. وهو غير مستقيم,
لأنها عندهم غير واجبة. لكنهم مع ذلك يقدرون خروجها عن القياس
واشتمالها على شائبتي معاوضة وتعليق, على خلاف قياسهما.
وهذا القسم كله يتعلق بالدنيا, وقد يتعلق بالآخرة, كتزكية
النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدية إلى امتثال الأمر
واجتناب النهي. وقد يتعلق بالدارين, كإيجاب الكفارات, إذ يحصل
بها الزجر عن تعاطي الأفعال الموجبة لها, وتحصيل تلافي الذنب
الكبير.
وفائدة مراعاة هذا الترتيب أنه إذا تعارض مصلحتان وجب إعمال
الضرورة المهمة وإلغاء التتمة.
وأما الإقناعي فهو الذي يظهر منه في بادئ الأمر أنه مناسب, لكن
إذا بحث عنه حق البحث ظهر بخلافه, كقولهم, في منع بيع الكلب
قياسا على الخمر والميتة: إذ كون الشيء نجسا يناسب إذلاله.
ومقابلته بالمال في البيع إعزاز له, والجمع بينهما تناقض, فإذا
كان هذا الوصف يناسب عدم جواز البيع لأن المناسبة مع الاقتران
دليل العلية فهذا - وإن كان مخيلا - فهو عند النظر غير مناسب,
إذ, لا معنى لكون الشيء نجسا إلا عدم جواز الصلاة معه, ولا
مناسبة بينه وبين عدم جواز البيع. كذا قال الرازي وتبعه
الهندي. وقد ينازع في أن المراد بكونه نجسا منع الصلاة معه, بل
ذلك من جملة أحكام النجس, وحينئذ فالتعليل بكون النجاسة يناسب
الإذلال ليس بإقناعي.
(4/192)
الموضع الثالث [تقسيم المناسبة من حيث
الاعتبار الشرعي وعدمه]
المناسبة تنقسم باعتبار شهادة الشرع لها بالملائمة والتأثير
وعدمها إلى ثلاثة أقسام, لأنه إما أن يعلم أن الشارع اعتبره,
أو يعلم أنه ألغاه, أو لا يعلم واحد منهما.
القسم الأول ما علم اعتبار الشرع له
والمراد بالعلم الرجحان, والمراد بالاعتبار إيراد الحكم على
وفقه, لا التنصيص عليه ولا الإيماء إليه, وإلا لم تكن العلية
مستفادة من المناسبة, وهو المراد بقولهم: شهد له أصل معين. قال
الغزالي في شفاء العليل: المعنى بشهادة أصل معين للوصف أنه
مستنبط منه, من حيث إن الحكم أثبت شرعا على وفقه.
وله أربعة أحوال, لأنه إما أن يعتبر نوعه في نوعه أو في جنسه,
أو جنسه في نوعه أو جنسه.
الحالة الأولى: أن يعتبر نوعه في نوعه:
من خصوص الوصف في خصوص الحكم, وعمومه في عمومه, كقياس القتل
بالجارح على المثقل في وجوب القصاص, بجامع كونه قتلا عمدا
عدوانيا, فإنه قد عرف تأثير خصوص كونه قتلا عمدا عدوانا في
خصوص الحكم, وهو وجوب القصاص في النفس في المحدد. وهذا القسم
يسمى بالمناسب الملائم, وهو متفق عليه بين القياسيين.
الحالة الثانية: أن يعتبر نوعه في جنسه:
كقياس تقديم الإخوة الأشقاء على الإخوة من الأب في النكاح على
تقديمهم عليهم في الإرث والصلاة, فإن الإخوة من الأب والأم نوع
واحد في الصورتين, ولم يعرف تأثيره في التقديم في ولاية
النكاح, لكن عرف تأثيره في جنسه وهو التقدم عليهم فيما يثبت
لكل واحد منهم عن عدم الأمر, كما في الإرث والصلاة. وهذا القسم
دون ما قبله, لأن المقارنة بين المسألتين بحسب اختلاف المحلين
أقل من المقارنة بين نوعين مختلفين.
(4/193)
الحالة الثالثة: أن يعتبر جنسه في نوعه:
كقياس إسقاط القضاء عن الحائض على إسقاط قضاء الركعتين
الساقطتين عن المسافر, بتعليل المشقة والمشقة جنس, وإسقاط قضاء
الصلاة نوع واحد يستعمل على صنفين: إسقاط قضاء الكل, وإسقاط
قضاء البعض, وقد ظهر تأثيرها في هذا النوع ضرورة تأثيرها في
إسقاط قضاء الركعتين. وهذا والذي قبله متقاربان, لكن هذا أولى,
لأن الإيهام في العلة أكثر محذورا من الإيهام في المعلول.
الحالة الرابعة: اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم:
وهو كتعليل كون حد الشرب ثمانين, فإنه مظنة القذف ضرورة أنه
مظنة الافتراء, فوجب أن يقام مقامه, قياسا على الخلوة, فإنها
لما كانت مظنة الوطء أقيمت مقامه في الحرمة. وهذا القسم
كالأول. ولقائل أن يقول: كان الوفاء بإقامة المظنة مقام
المظنون وجوب الحد بالخلوة, ولا قائل به.
القسم الثاني ما علم إلغاء الشرع له
كما نقل عن بعضهم إيجاب الصوم ابتداء في كفارة من واقع في
رمضان, لأن القصد منها الانزجار, وهو لا ينزجر بالعتق, فهذا
وإن كان قياسا لكن الشرع ألغاه, حيث أوجب الكفارة مرتبة من غير
فصل بين المكلفين, والقول به مخالف للنهي فيكون باطلا. فإن
قيل: قد خصصوا العموم بالمعنى فيما هو قريب من ذلك. قلنا: حيث
لم يعكر على النص بالإبطال, وهو هنا يعكر, فإن اعتباره يؤدي
إلى الشرع إليه وهو العتق.
القسم الثالث ألا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه
وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار, وهو
المسمى ب "المصالح المرسلة", وسيأتي الكلام فيه, والمشهور
اختصاص المالكية بها وليس كذلك, فإن العلماء في جميع المذاهب
يكتفون بمطلق المناسبة, ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك.
قال الغزالي في كتاب أساس القياس": قد جعل الشافعي استيلاد
الأب جارية الابن سعيا لنقل الملك من غير ورود نص فيه, ولا
وجود أصل معين يشهد بنقل الملك, والقدر المصلح فيه استحقاق
الإعفاف على ولده, وقد مست حاجته إليه
(4/194)
فينقل ملكه إليه. وهذا كأنه اتباع مصلحة
مرسلة. وكذا قال في الغاصب تكثر تصرفاته في المال المغصوب أن
لمالكه إجازة تصرفاته إذ يعتبر اتباع مصلحة وكذا قال في
العاملين مع أن الملك شرط لصحة العقد والإجازة عند بطلانه من
الفضولي, ولكن إذا كثرت التصرفات وظهر العسر اقتضت المصلحة
ذلك.
الموضع الرابع [تقسيم المناسبة من حيث التأثير, والملاءمة]
المناسب إما مؤثر أو غير مؤثر, وغير المؤثر إما ملائم أو غير
ملائم, وغير الملائم إما غريب أو مرسل أو ملغي.
الأول: [المؤثر]: وهو أن يدل النص أو الإجماع على كونه علة
بشرط دلالتها على تأثير غير الوصف في عين الحكم, أو نوعه في
نوعه, بنص أو إجماع. قال في "المستصفى": هو تقسيم حاصر. وسمي
مؤثرا لظهور تأثير الوصف في الحكم فالنص كمس المتوضئ ذكره,
فإنه اعتبر عين مس المتوضئ ذكره في عين الحدث بنصه عليه.
والإجماع: كالصغر, فإنه اعتبر عينه في عين الحكم وهو الولاية
في المال بالإجماع. ثم قال الأصفهاني وغيره: قد يكون الوصف
مناسبا, كالصغر المناسب للولاية على الصغير, وقد لا يكون
مناسبا, كخروج المني لإيجاب الغسل. وقال الإمام الرازي: إنما
يتم بالمناسبة أو التغير. وهذا القسم أقل الأقسام, ولهذا قبله
أبو زيد دون أنواع المناسبات, كما قاله صاحب التنقيحات.
وقال صاحب "جنة الناظر": إطلاق لفظ العين هنا تجوز, لأن
الأعيان هي المشخصات, وهي لا تقبل التعداد ليمكن وجودها في
محلين متغايرين وإنما يراد بالعين هاهنا ما هو أخص من الجنس,
كالنوع والصنف.
الثاني: [الملائم]: وهو أن يعتبر الشارع عينه في عين الحكم
بترتب الحكم على وفق النص, لا بنص ولا إجماع. سمي ملائما لكونه
موافقا لما اعتبره الشارع. وهذه المرتبة دون ما قبلها, وإنما
تأخرت عنها لبعد مرتبة النوع بدرجة, فإنه كلما تأخرت المرتبة
له أمكن المزاحمة, كتعليل الوصف بعينه, وإذا كثر المزاحم ضعف
الظن.
الثالث: [الغريب]: وهو أن يعتبر عينه في عين الحكم, فترتب
الحكم وفق الوصف فقط, ولا يعتبر عين الوصف في جنس الحكم, ولا
عينه ولا جنسه في جنسه بنص أو إجماع, كالإسكار في تحريم الخمر,
فإنه اعتبر عين الإسكار في عين الحكم
(4/195)
بترتيب التحريم على الإسكار فقط, ومنع
السهروردي في التنقيحات وجود المناسب الغريب ورد أمثلته إلى
الملائم, وإليه أشار الغزالي في شفاء العليل " وقال: قلما يوجد
في الشرع اعتبار مصلحة خاصة إلا وللشرع التفات إلى جنسها, وعلى
الأصولي التقسيم, وعلى الفقيه الأمثلة. وكذا قال غيره: هذا لا
يحسن جعله قسما برأسه, بل إن شهد له أصل بعينه دخل فيما سبق,
وإلا كان مرسلا. ومثله ابن الحاجب بنظر الصديق وعمر رضي الله
عنهما في التفضيل في العطاء.
وقال الإبياري في شرح البرهان: إذا ظهرت المعاني فيبعد أن لا
يوجد له نظير ولا مدار, بل لا يكاد المعنى المناسب ينفك عن نظر
بحال. وقد قلت أمثلة الغريب, ومنها توريث المبتوتة في مرض
الموت, إلحاقا بالقاتل الممنوع من الميراث, تعليلا بالمعارضة
بنقيض القصد, فإن المناسبة ظاهرة. لكن هذا النوع من المصلحة لم
يعهد اعتباره في غير هذا الخاص, فكان غريبا لذلك. هكذا قاله,
وفيه نظر: ثم اختار تفصيلا, وقال: إنه الذي يقتضيه مذهب مالك
رحمه الله أن الغريب إذا ظهر فيه المعنى المناسب اعتبر,
كالمتعلقة بالبيع والنكاح وفصل الخصومات والقصاص والحدود, وبين
أن لا يظهر - وهي العبادات - قال: فلا تعليل بها, كالمعاني
الغريبة وإن كانت ظاهرة, لأنا لم نعتمد على نفس المعنى, بخلاف
المعاملات.
هذا كله فيما اعتبره الشرع. فإن لم يعتبره نظر: فإن دل الدليل
على إلغائه لم يعلل به بالاتفاق, وإلا فهو المرسل, ومنهم من
قسمه إلى غريب وملائم, وقبله مالك مطلقا, وصرح إمام الحرمين
بقبوله أيضا مع تشديده الإنكار على مالك في ذلك, ونقل عن
الشافعي أيضا, وكذا صرح به الغزالي, لكنه شرط في اعتبار القطع
فيه كون المصلحة ضرورية قطعية كلية, ولم يشترط ذلك لأصل القول
به قال: والظن القريب من القطع كالقطع, وتابعه البيضاوي في
"المنهاج". والأكثرون على أنه مردود مطلقا. ونقل ابن الحاجب
الاتفاق على رد المرسل غير الملائم الذي لم يعتبره الشرع. وفصل
قوم بين العبادات.
وقال إمام الحرمين في ترجيح الأقيسة ولا نرى التعلق بكل مصلحة,
ولم ير ذلك أحد من العلماء قال: ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ.
ويتحصل في أقسام المناسبات أن يقال: إن المؤثر - وهو ما دل
النص أو الإجماع على اعتباره - مقبول بالاتفاق, وحاصله يرجع
إلى القياس, وما دل على الغاية مردود بالاتفاق, وما لم يشهد
الشرع باعتباره ولا إلغائه فهو موضع الخلاف وفيه
(4/196)
ثلاثة مذاهب:
أحدها : المنع منه مطلقا, وهو الذي عليه الأكثرون, منهم
القاضي, إذ لا تدل عليها دلالة العقول, ولا يشهد لها أصل من
الأصول, ولأن في اعتبارها رد الشريعة إلى السياسة.
والثاني : يقبل مطلقا, وهو المنقول عن مالك.
والثالث : تقبل ما لم يصادفها أصل من الأصول, طردا لدليل العمل
بالقياس. ونقل عن الشافعي أنه عضده بأن قال: الأصول منحصرة,
والأحكام غير منحصرة, ولما كانوا مع ذلك يسترسلون في الأحكام
استرسال من لم يطلب الأصول احتفاء, فلم يكن بد من مرد, ولا مرد
إلا إلى صحيح استدلال, وصار هؤلاء في ضبط ما يصح به الاستدلال
إلى أنه كل معنى مناسب للمحل مطرد في أحكام الشرع لا يرده أصل
مقطوع به بعموم علته. ونقل ابن الحاجب وغيره عن الشافعي موافقة
مالك, ولم يصح عنه. والذي نقله إمام الحرمين أنه لا يستجيز
التأني والإفراد في البعد, وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح
يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة, وفاقا بالمصالح المستندة إلى
أحكام ثابتة الأصول, فإنه في الشريعة واجب. واختار إمام
الحرمين نحوه.
والرابع : يشترط اقتران الحكم بها وصلاحيتها للاعتبار؟ وأراد
آخرون انضمام السبب إليها في اشتراط تعيينها, إذ لا يمتنع
مساوقتها لمناسب آخر, وهذا على رأي من منع التعليل بعلتين.
والخامس : يمتنع في العبادات, دون ما عداه.
تنبيهان
الأول: قال الصفي الأصفهاني في نكته: أعلى الأقسام ما يكون
الأصل شاهدا باعتبار عينه في عين الحكم وجنسه في جنسه, لأن
اعتباره بأحد الشاهدين يكفي في الاستدلال, لأنه يفيد الظن
بالحكم, فإذا تقوى بوجهي الاعتبار كان اعتباره أحرى, وذلك
كاعتبار القتل العمد العدوان في قتل الذمي والعبد فإن عينه
معتبرة في عين الحكم في حق المسلم والحر, وهو مشهود له باعتبار
جنس الجناية في جنس العقوبة. ويليه: ما يعتبر عينه في عين
الحكم, كتعليل تحريم السكر بالإسكار.
ويليه: ما تؤثر عينه في جنس الحكم, كتأثير الصغر في ولاية
النكاح, لظهور تأثير الصغر في جنس ولاية النكاح, وهو ولاية
المال.
(4/197)
ويليه: ما يؤثر جنسه في جنس الحكم, كتعليل
نفي قضاء الصلاة عن الحائض بعلة الحرج.
ويليه: المناسب الغريب, كالمطلقة في مرض الموت. وليس بعده إلا
المناسب العاري عن الأصل, وهو المرسل, هو حجة عند مالك - وليس
بحجة عندنا. انتهى.
وقال غيره: المناسبة مراتب متفاوتة: أما في جانب الحكم فأعم
مراتب الحكم كونه حكما, ثم ينقسم إلى الأقسام الخمسة من الوجوب
والندب وغيرهما. ثم الواجب منها إلى عبادة, وغيرها, ثم العبادة
إلى: بدنية, وغيرها. ثم البدنية إلى: الصلاة وغيرها. ثم الصلاة
إلى: فرض عين, وإلى فرض كفاية. فما ظهر تأثيره في فرض العين
أخص مما ظهر تأثيره في مطلق الفرض. وما ظهر تأثيره في مطلق
الفرض أخص مما ظهر تأثيره في جنس الفرض - وهو الصلاة - وما ظهر
تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في جنسها - وهو العبادة -
وما ظهر تأثيره في جنسها - وهو الواجب - أخص مما ظهر في جنسه
وهو الحكم.
التنبيه الثاني:
حيث أطلقوا اعتبار الجنس في الحكم وفي الوصف فلا يريدون به جنس
الأجناس, وهو كون الوصف مصلحة, وكون الحكم خطابا. ولو أرادوا
ذلك لكان كل وصف مشهودا له, فعلى هذا جنس الأجناس لا يعتبر,
ونوع الأنواع لا يشترط, والمعتبر ما بين هذين الطرفين نعم
الشأن في ضبط ذلك وقال الغزالي: من مارس الفقه وترقى عن رتبة
الشادين فيه ونظر في مسائل الاعتبار تبين له أن المعنى المخيل
لا يعم وجوده المسائل, بل لو قيل: لا يطرد على الإخالة
المعتبرة عشر المسائل لم يكن القائل مجازفا. والله أعلم.
مسألة المناسبة هل تنخرم بالمعارضة؟
هذا على قسمين:
أحدهما : أن يأتي بمعارض يدل على انتفاء المصلحة فهو قادح بلا
خلاف.
الثاني : أن يأتي بمعارض يدل على وجود مفسدة أو فوات مصلحة
تساوي المصلحة أو ترجح عليها, كما لو قيل في معارضة كون الوطء
إذلالا بأن فيه إمتاعا ومدفعا لضرر الشبق, فهل تبطل المناسبة؟
فيه مذهبان: أحدهما: نعم, وعزي للأكثرين
(4/198)
واختاره ابن الحاجب والصيدلاني, لأن دفع
المفاسد مقدم على جلب المصالح, ولأن المناسبة أمر عرفي,
والمصلحة إذا عارضها ما يساويها لم تعد عند أهل العرف مصلحة.
والثاني: اختاره الرازي والبيضاوي - أنها لا تبطل, واختاره
الشريف في جدله, وربما نقل عن ظاهر كلام الشافعي. والمعنى من
انخرامها وبطلانها هو أنه لا يقتضي العقل مناسبتها للحكم إذ
ذاك, فلا يكون لها أثر في اقتضاء الحكم, لا أنه يلزم خلو الوصف
عن استلزام المصلحة وذهابها عنه, فإن ذلك لا يكون معارضا.
واعلم أن النزاع إنما هو في اختلال المناسب المصلحي بمعارضة
مثله أو أرجح منه في المفسدة, أما العمل به فممنوع ممن أثبت
اختلال المناسبة. وأما من لم يثبته تصرف في العمل به على ما
سبق بالترجيح بينهما. والواجب هاهنا امتناع العمل به للزوم
الترجيح بلا مرجح أو التزام المفسدة الراجحة, فيستوي الفريقان
في ترك العمل به, لكن اختلفا في المأخذ, فالأول يتركه لاختلال
مناسبة الوصف والآخر يتركه لمعارضة المقاوم أو الراجح, فترك
العمل متفق عليه لكن طريقه مختلف فيه, كذا قاله بعضهم.
وقد حقق الأصفهاني الخلاف فقال: اعلم أن ذات الوصف مغايرة
للمناسبة قطعا, فإن كان المدعي أن ذات الوصف المصلحي تبطل إذا
عارضتها مفسدة فليس كذلك, فإن ذات الوصف أمر حقيقي لا تبطل
بالمعارضة. وإن كان المدعي أن مناسبته تبطل ومعنى المناسبة
اقتضاؤها للحكم واستدعاؤها له فالحق أنها تبطل. وإن شئت قلت:
العمل بمقتضى المناسبة يستدعي سلامتها عن المعارض, والمعنى
بالمناسبة على هذا كون الوصف مصلحيا.
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة إنما يتجه من القائلين بعدم
تخصيص العلة. أما من قال بتخصيصها فيقول ببقاء المناسبتين أو
اجتماع جهتي المصلحة والمفسدة.
التفريع: إن قلنا: إنها تبطل التحق الوصف بالطرديات ولا يجوز
التعليل به إلا بترجيح المصلحة على المفسدة, كأن يقال: الحكم
في الأصل مضاف إلى المصلحة الفلانية وهي راجحة على ما عارضها
من المفسدة, وإلا لزم الحكم مضافا إلى غير تلك المصلحة
المرجوحة أو إلى مصلحة أخرى غيرها. أو لا يكون مضافا إلى شيء
أصلا, والكل باطل.
وإن قلنا: لا تبطل بقي الوصف على مناسبته ويصح التعليل به,
ويحتاج المعارض إلى أصل يشهد له بالاعتبار.
(4/199)
المسلك السادس السبر والتقسيم
ويسميه المنطقيون "القياس الشرطي المنفصل" فإن لم يكن تقسيما
سموه بالمتصل. وهو لغة: الاختبار, ومنه الميل الذي يختبر به
الجرح الذي يقال له المسبار, وسمي هذا به لأن المناظر في العلة
يقسم الصفات ويختبر كل واحد منها في أنه هل يصلح للعلية أم لا؟
وقد أشير إليه في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ
وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ
إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] وقوله تعالى: {أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}
[الطور:35] فإن هذا تقسيم حاصر, لأنه ممتنع خلقهم من غير خالق
خلقهم, وكونه يخلقون أنفسهم أشد امتناعا, فعلم أن لهم خالقا
خلقهم, وهو سبحانه, ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن
هذه الصيغة المستدل بها بطريقة بديهية لا يمكن إنكارها. وفي
قوله صلى الله عليه وسلم لعمر, في ابن صياد. "إن يكن هو فلن
تسلط عليه, وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله" 1.
وهو قسمان:
أحدهما : أن يدور بين النفي والإثبات وهو المنحصر. والثاني: أن
لا يكون كذلك وهو المنتشر. فالأول: أن يحصر الأوصاف التي يمكن
التعليل بها للمقيس عليه ثم اختبارها وإبطال ما لا يصلح منها,
بدليله: إما بكونه طردا, أو ملغى, أو نقض الوصف أو كسره أو
خفائه واضطرابه, فيتعين الباقي للعلية, وهو قطعي لإفادة العلة,
ويجوز التمسك به في القطعيات والظنيات, فالأول كقولنا: العالم
إما أن يكون قديما أو حادثا, بطل أن يكون قديما فثبت أنه حادث.
والثاني كقولنا: ولاية الإجبار إما أن لا تعلل أو تعلل
بالبكارة أو الصغر أو الأبوة أو غيرها. والكل باطل سوى الثاني,
فالأول بالإجماع. والثالث والرابع لقوله عليه السلام: "الثيب
أحق بنفسها" 2 فيتعين الثاني. قال الهندي: وحصول هذا القسم في
الشرعيات عسر جدا, أي على وجه التنقيب.
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب الأدب باب تول الرجل للرجل أخا حديث
"6173" ورواه مسلم "4/2244" كتاب الفتن وأشراط الساعة باب ذكر
ابن صياد حديث "2931".
2 رواه مسلم "2/1037" كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح
بالنطق......... حديث "1421".
(4/200)
ويشترط أن يكون الحكم في الأصل معللا
بمناسب, خلافا للغزالي, ويلتحق به الطردي إذا قام الإجماع على
أصل تعليله, كما لو قام الإجماع على تعليل حكم بأحد أوصاف ثم
قام الدليل على إبطالها كلها خلا واحدا, فيتعين للتعليل وإن
كان طرديا وإلا اختلف الإجماع. وهو ملخص ما اختاره إمام
الحرمين.
وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها, كما في مسألة
الربا, وأما في غيرها فلا يكفي, فإنه وإن بطل كونه علة مستقلة
جاز أن يكون جزءا من أجزائها. وإذا انضم إلى غيره صار علة
مستقلة, وحينئذ فلا يكفي في إبطال سائر الأقسام الاستدلال على
أنه ليس واحد منها علة مستقلة, بل لا بد من إبطال كون المجموع
علة أو جزءا من العلة, وأن يكون حاصرا لجميع الأوصاف. وطريقه
أن يوافقه الخصم على انحصارها فيما ذكر أو يعجز عن إظهار زائد,
وإلا فيكفي المستدل أن يقول: بحثت عن الأوصاف فلم أجد معنى سوى
ما ذكرته, أو الأصل عدم ما سواها, واكتفوا في حصر الأوصاف بعدم
الوجدان. وهذا إذا كان أهلا للبحث, ونازع في ذلك بعض
المتأخرين, فإن ذلك يحتاج إلى الاطلاع على جميع النصوص, ثم إلى
معرفة جميع وجوه الدلالات, وهذا عسر جدا.
وقد يكون علمه قليلا وفهمه ناقصا. وكذلك قال الصفي الأصفهاني
في نكته: من الفاسد قول المعلل في جواب طالب الحصر: بحثت وسبرت
فلم أجد غير هذه الأشياء, فإن ظفرت بعلة أخرى فأبرزها وإلا
يلزمك ما يلزمني قال: وهذا فاسد, لأن سبره لا يصلح دليلا, لأن
الدليل ما يعلم به المدلول, ومحال أن يعلم طالب الحصر الانحصار
ببحثه ونظره, وجهله لا يوجب على خصمه أمرا, واختار ابن برهان
في الأوسط التفصيل بين المجتهد وغيره. ثم إن كان مجتهدا رجع
إلى ما يغلب على ظنه, وإن كان مناظرا ولم يساعده الخصم فهل
يلزمه إبداء كيفية السبر؟ اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: لا,
لأنه لا يستقل درء قوله, لاحتمال أن يكون وراءه تقسيم متوجه لم
يذكره, و "أصحهما", واختاره في المنخول, أنه لا بد من إبداء
كيفية السبر, ليكون دليلا غير مقتصر على مجرد الدعوى, وليس
للخصم أن يقول: لم يبحث, أو يسبر, أو هو غريب, ولا أن يقول:
بقي وصف آخر ولا أبرزه.
تنبيه :
لم يحكوا خلافا في هذا القسم, ورأيت في كتاب ابن فورك: إذا
كانت في المسألة علل ففسدت إلا واحدة, هل ذلك دليل على صحتها؟
وجهان, الصحيح:
(4/201)
نعم, إذا ثبت أنه لا بد أن يكون الحق في
واحد منها, وثبت أن ما عداها فاسد, فعلم أن الحق فيها أو لا
يجوز خروج الحق عن جماعتها. انتهى.
القسم الثاني : وهو المنتشر, بأن لا يدور بين النفي والإثبات
أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه
ظنا, فاختلفوا فيه على مذاهب:
الأول : أنه ليس بحجة مطلقا, لا في القطعيات ولا في الظنيات,
وحكاه في البرهان عن بعض الأصوليين.
الثاني : أنه حجة في العمليات فقط لأنه يثير غلبة الظن,
واختاره إمام الحرمين وابن برهان, وقال الهندي: إنه الصحيح.
ومثل ابن برهان استعماله في القطعي هنا بقول أصحابنا: الله
سبحانه يرى لأنه موجود, وكل موجود يصح أن يرى. وفي الظني
بقولهم: الإيلاء إما أن يكون طلاقا أو يمينا, فإذا بطل أن يكون
طلاقا ثبت أنه يمين. فإن قيل: يجوز أن يكون لا طلاقا ولا يمينا
وله حكم آخر. قلنا: نحن لا نمنع أن يكون له في الشرع حكم آخر
فلا يكون طلاقا ولا يمينا, ولكن الذي يغلب على ظننا هو هذا
القدر, والمقصود إظهار غلبة الظن, وهي حاصلة. "انتهى".
والثالث : أنه حجة للناظر دون المناظر, واختاره الآمدي, وقال
إمام الحرمين في الأساليب: بقيد تضمن إبطال مذهب الخصم دون
تصحيح مذهب المستدل, إذ لا يمنع أن يقال: ما أبطلته باطل, وما
اخترته باطل, والحكم في الأصل الذي وقع البحث فيه غير معقول
المعنى, فلا يصلح السبر لإثبات معنى الأصل, وإنما يصلح لإبطال
مذهب الخصم.
وحكى القاضي ابن العربي في القبس قولا آخر أنه دليل قطعي,
وعزاه للشيخ أبي الحسن والقاضي وسائر الأصحاب.
قال: وهو الصحيح فقد نطق به القرآن ضمنا وتصريحا في مواضع
كثيرة, فمن الضمن قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ
الْأَنْعَامِ} [الأنعام: 139] إلى قوله: {حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
[الأنعام: 139], ومن التصريح قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}
إلى قوله: {الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143 144].
تنبيهات
الأول: ما ذكرناه أن هذا النوع من المسالك هو المشهور ونازع
فيه جماعة من المتأخرين, منهم أبو العباس القرطبي في جدله
فقال: إنه شرط لا دليل, لأن الوصف
(4/202)
الذي ينفيه السبر إما أن يقطع بمناسبته فهو
التخريج, أو يعرو عنها فهو الطردي ولا يصح أن يعلل به, أو لا
يقطع بوجوده فيه ولا عدمها فهو الشبه, فلا بد في العلة من
اعتبار وجود المصلحة أو صلاحيتها لذلك. ويلزم منه ما ذكرناه.
إلا أن التقسيم إذا كان دائرا بين النفي والإثبات فأبطل أحد
القسمين مثلا تعين المطلوب في الثاني قطعا, كقولنا: العالم إما
قديم وإما حادث, محال أن يكون قديما لكذا, فلزم أن يكون حادثا,
فإن هذا ونحوه برهان قطعي, وهو المسمى عند المنطقي ب "الشرطي
المتصل", وقال في "أصوله": أكثر النظار عدوا هذا المسلك دليلا
على التعليل, وفيه نظر. وذلك أن ما ينفيه السبر لا بد وأن يكون
ظاهر المناسبة, وهو قياس العلة, أو صالحا لها, وهو الشبه,
فالتحقيق أن يقال على التعليل هنا هو المناسبة, غير أن السبر
عين دليل الوصف, فالسبر إذن شرط, لا دليل, وكذلك في سائر
المسالك النظرية, فليس مسلكا بنفسه, بل هو شرط المسالك
النظرية. وقد حكي عن قوم من الأصوليين في الدوران أنه شرط
للعلة لا تثبت مع دليل عليها, وهو يتمشى مع ما ذكرناه في
السبر, وهو الصحيح. انتهى.
وقد جزم الغزالي في المستصفى بأنه إذا استقام لم يحتج إلى
مناسبة, ونازعه شارحه العبدري أيضا, لاعتقاده بأن السبر ليس من
مسائل العلة, وإنما هو خادم للوصف المناسب, أي به يتقيد الوصف
المناسب المختلط بغيره.
وقال الإبياري في شرح البرهان: السبر يرجع إلى اختبار في أوصاف
المحل وضبطها, والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله فيها,
فإذن لا يكون من الأدلة بحال. وإنما تسامح الأصوليون بذلك لأن
المراد بالدليل هو الذي دل على أن العلة في جملة الأوصاف,
والدليل الثاني دل على التعيين. وإلا فالسبر والتقسيم ليس هو
دليلا قال: ولا بد فيه من ثلاثة أمور: إحداها: أن يتبين
المطلوب في الجملة: وثانيها: سبر خاص. وثالثها: إبطال ما عدا
المختار. فإن كانت هذه معلومة حصل العلم بالمطلوب وإلا فلا, بل
تحصل غلبة الظن. ثم إن كان الموضع مما يكتفى فيه بغلبة الظن
اكتفي به وإلا فلا قال: وهذا لا يتصور فيه خلاف وليس كما قال.
وقال ابن المنير في شرحه: زعم بعض المتأخرين أن السبر إذا دار
بين النفي والإثبات فهو التقسيم, وعليه المعول في العقليات,
وإلا فهو السبر, وليس كما زعم, بل السبر والتقسيم متغايران
متلازمان في الدلالة في العقليات وفي الفقهيات سواء دارت
القسمة بين النفي والإثبات أم لا. فالسبر إذن في العقليات:
اختبار المقدرات لينظر
(4/203)
أيها الحق. والتقسيم أن يقسم الصحة
والبطلان بينهما فيعتبر ما هو العلة, ويلغي ما ليس بعلة. وقد
بان لك بهذا أن الدليل ليس نفس السبر والتقسيم, وإنما الدليل
هو الذي أوجب إضافة العلية إلى العلة, وهو الإجماع على أن أحد
الأوصاف علة مع دليل إلغاء سائر الأوصاف إلا المبقى فيتعين,
وتقرير الإجماع على أن أحد الأوصاف علة الاستقراء من سبر
الأولين فإنهم عللوا الأحكام بجملتها, أو عللوا أكثرها,
والأكثرية ملحقة بالعموم, وحكموا بأن العلة لا تعدو أوصاف
المحل, فيجب إلحاق كل صورة بالعام أو بالأغلب. وتقرير إبطال ما
عدا المبقى يكون بأدلة الإبطال, كبيان أن الأوصاف طردية, أو لا
مناسبة فيها, أو يقول: بحثت فلم تظهر لي مناسبة قال: وفي
الاكتفاء بالثاني إشكال, فإن المبقى لم تظهر مناسبته أيضا,
وإلا بطلت فائدة السبر وخصوصيته. وكبيان الإلغاء في الأوصاف
لوجود الحكم في غير محل النزاع بالمبقى منفردا عن غيره من
الأوصاف, فيندفع احتمال أن يكون المبقى جزء علة مع بقية
الأوصاف.
"قال": ومن الأسئلة العاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المبقى لا
يخلو في نفس الأمر أن يكون مناسبا, أو شبها, أو طردا خاليا,
لأنه إما أن يشتمل على مصلحة أو لا, فإن اشتمل على مصلحة فإما
أن تكون منضبطة للفهم, أو كلية لا تنضبط.
فالأول: المناسب. والثاني: الشبه. وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا
فهو الطرد المردود. فإن كان ثم مناسبة أو شبه لغا السبر
والتقسيم. فإن كان عريا عن المناسبة قطعا لم ينفع السبر
والتقسيم أيضا.
فإن قلت: ينفع في حمل النظر في المناسبة على المجتهد. قلت: لا
يحمل ذلك عنه, لأن المناسبة عندنا أمر وجودي مكشوف, حتى يقال:
إنه ذوقي أو ضروري كالمحسوس, فالمجتهد إذا يعلمه إذا لم يذق
فيه مصلحة منضبطة ولا غيرها أنه لا مناسب ولا شبه فتعين أنه
طرد.
التنبيه الثاني:
نقل إمام الحرمين عن القاضي أن السبر والتقسيم من أقوى ما تثبت
به العلل, واستشكله, ووجهه الإبياري بأن مثبت العلة بالمناسبة
أو الشبه يكتفى منه في النظر بذلك وإن أمكن أن يبدي الخصم
معارضا راجحا. وأما إذا أسند إلى السبر والتقسيم فقد وفى
الوظيفة من أول الأمر ولم يبق متوقعا ظهور ما يقدح أو يضر,
ونازعه ابن المنير وقال: نحن ندفع أصل كونه مسلكا, فضلا عن
كونه متميزا. وقوله سلف إبطال المعارضات غير مستقيم, لأنه وضع
النظر في غير موضعه إذا لم يقدر على دفع
(4/204)
المعارضات, وجعل ذلك كافيا في التصحيح فأين
الدليل الذي ذب المعارضات عنه. وأما التمسك بالمناسبات فإنه
وجه الدليل, وهي المعارضات بالأصل, فإنا ما نلحق به من اشتغل
بدفع المعارضات وقنع بذلك دليلا.
التنبيه الثالث:
إن أبدى المعترض وصفا زائدا لم يكلف ببيان صلاحيته للتعليل,
ولا ينقطع المستدل بمجرد ذلك حتى يعجز عن إبطاله, بل له عدم
اعتباره بطرق:
أحدها : بيان بقاء الحكم مع عدم الوصف المذكور في بعض الصور,
كقولنا: يصح أمان العبد, لأنه عاقل مسلم غير متهم, كالحر.
فيقول الحنفي: العلة ثم وصف زائد, وهو الحرية, مفقود في العبد.
فيقول المستدل: وصف الحرية ملغى في العبد المأذون له, فإن
أمانه يصح باتفاق عدم الحرية فصار وصفا لاغيا لا تأثير له في
الحكم.
ثانيها : أن يبين كونه وصفا طرديا ولو في ذلك الحكم كقولنا:
سرى العتق في الأمة, كالعبد, بجامع الرق, إذ لا علة غيره, فإن
قال: في الأصل وصف زائد, وهو الذكورة المحصلة للكسب, فنقول: هو
وصف لم يعتبره الشرع في باب العتق. وقد يتفقان على إبطال ما
عدا وصفين فيكفي المستدل الترديد بينهما.
ثالثهما : أن لا تظهر مناسبة المحذوف. وقد سبق الاكتفاء بقول
المناظر: بحثت فلم أجد مناسبة, على أحد الرأيين. فإن ادعى
المعترض أن الوصف المستبقى كذلك فليس للمستدل بيان مناسبته,
لأنه انتقال, ولكن يرجح سبره لموافقته لتعدية الحكم على سبر
المعترض لعدمها, فإن التعدي أولى.
التنبيه الرابع:
قسم إلكيا السبر إلى ما يستعمل في القطعيات وهو المفضي إلى
اليقين بأن يكون حاصرا يقينا, بالدور بين النفي والإثبات.
"قال": وهو الملقب ب "برهان الخلف "وكان العقل دالا على أن
الحق أحدهما, فإذا بان بطلان أحدهما تعين الثاني للصحة, فقد
قام دليل الثاني على الخصوص ببطلان ضده, وإلى ما يستعمل في
الظنيات, ولا يخلو إما أن يكون المقصود إثبات حكمه أو دليله.
والأول يكفي فيه انتهاء السبر إلى حد الظن, سواء كان في شيئين
أو أشياء, لأن الظن لا يختص بالنفي والإثبات, بل قد يقع بين
شيئين متعاقبين, كقولنا: الإيلاء لا يخلو إما أن يوجب التوقف
عند انقضاء المدة أو البينونة, فلما قام الدليل على أن مضي
المدة لا يوجب البينونة دل على أنه يوجب التوقف, إذ لا حكم
بينهما. ثم
(4/205)
طريق إبطال أحدهما بين. ومسألة اتفاق
العلماء على قولين تقتضي أن الحكم لا يخرج عنهما, فإذا بطل
أحدهما ثبت الآخر.
والثاني ما علم أن بطلان دليل الحكم دليل على صحة العلل, إلا
أن يتفق على كونه معللا ثم يسبر ما عدا العلة التي يذهب إليها
ويبطله فتصح علته, وعند ذلك لا يشترط الدليل عليه, بل يكفي ذكر
مجرد الوصف. وقيل: إذا لم يكن مقطوعا به فلا بد من النظر إلى
تلك العلة فعساها تبطل هذا فينظر في غيرها. وهذا بعيد فإن
السبر لا يفيد على هذا التقدير. ومقصودنا أن الظن يحصل عند ذلك
بمجرد السبر, وإذا بطل ذلك فقد ظن قوم أن هذا يعسر وجوده ولا
بعد عندنا في تقديره فإن العلماء يتفقون على تعليل الربا, وإذا
ثبت سبرا غير الطعم والكيل ثبت ما بقي.
التنبيه الخامس : السبر بالبحث وعدم العثور يدخل في جميع
المسالك الاجتهادية, ولا خصوص له بما نحن فيه.
مسألة
قال ابن القطان: اختلف أصحابنا فيما إذا كان في المسألة علل
ففسدت جميعها إلا واحدة, هل يكون فسادها دليلا على صحة هذه؟
فقيل: لا حتى يقوم دليل على صحتها. وقيل: نعم, لأنه ثبت أنه لا
بد من أن تكون إحدى العلل صحيحة, فإذا بطل ما عداها وقد علمنا
أن الحق لا يخرج عنها ثبت أن تلك صحيحة, ونصره ابن القطان.
مسألة
يلتحق بالسبر قولهم: حكم حادث فلا بد له من سبب حادث, ولا حادث
إلا هذا فيتعين إسناده, وهو معنى قول أصحابنا: الأصل في كل
حادث تقديره بأقرب زمن إلا أن فيما سبق سبرا في جميع أوصاف
المحل, وهذا في الأوصاف الحادثة خاصة. وقد قيل: على هذه
الطريقة لا يلزم من أن يكون الحكم حادثا أن يكون سببه حادثا,
بل قد يكون الحكم حادثا وسببه متقدما, كإباحة الوطء في الزوجة
عند عدم الحيض وانقطاعه, فإنه يستند إلى عقد النكاح المتقدم.
وكذا تحريم الميتة عند زوال الضرورة مستند إلى السبب الأول.
وأمثلته كثيرة, فالسر فيه أن الحكم تارة ينتفي لانتقاء المقتضى
(4/206)
بكماله, أو لانتفاء جزء من أجزائه, وتارة
ينتفي لفوات شرط أو وجود مانع, فإذا كان انتفاء الحكم لانتفاء
المقتضى بحاله فحدوث الحكم لا يكون إلا لانتفاء سببه, وإذا كان
الانتفاء لغير ذلك, فحدوث الحكم لا يكون لحدوث سببه, بل يكون
لحدوث جزء السبب, أو لحدوث الشرط, أو لانتفاء المانع. وجوابه:
أنا لو قدرنا حدوث الحكم مع تقدم سببه كان ذلك على خلاف الأصل,
لأن الأصل المقدر أن ثبوت السبب يلزم منه ثبوت الحكم, ولهذا صح
الاستدلال بثبوت السبب على ثبوت الحكم.
المسلك السابع الشبه
ويسميه بعض الفقهاء "الاستدلال بالشيء على مثله "وهو عام أريد
به خاص, إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس, لأن كل قياس لا
بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل, بجامع بينهما. إلا أن
الأصوليين اصطلحوا على تخصيص هذا الاسم بنوع من الأقيسة, وهو
من أهم ما يجب الاعتناء به. والفرق بينه وبين الطرد, ولهذا قال
الإبياري: لست أرى في مسائل الأصول مسألة أغمض من هذه. وفيه
مقامان:
[المقام] الأول: في تعريفه
وقد اختلفوا, فقال إمام الحرمين: لا يمكن تحديده. والصحيح
إمكانه. واختلفوا فيه فقيل: هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف
يوهم اشتماله على الحكمة المفضية للحكم من غير تعيين. كقول
الشافعي في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان؟
قال الخوارزمي في الكافي. قال: ففي القياس المعنوي تعيين
المعنى المؤثر المناسب لثبوت الحكم, وفي قياس الشبه لا تعيين,
بل الجمع بينهما بوصف يوهم المناسب. وأما الطرد فهو الجمع
بينهما بمجرد الطرد, وهو السلامة عن النقض. ونحوه قوله في
المستصفى: الشبه لا بد أن يزيد على الطرد بمناسبة الوصف الجامع
لعلة الحكم, وإن لم يناسب الحكم بأن يقرر بأن لله في كل حكم
سرا, وهو مصلحة مناسبة للحكم لم نطلع على عين تلك العلة ولكن
نطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة قال: وإن لم
يريدوا بقياس الشبه هذا فلا أدري ما أرادوا به وبماذا فصلوه من
الطرد المحض.
والحاصل أن الشبهي والطردي يجتمعان في عدم الظهور المناسب,
ويتخالفان
(4/207)
في أن الطردي عهد من الشارع عدم الالتفات
إليه, وسمي شبها لأنه باعتبار عدم الوقوف على المناسبة يجزم
المجتهد بعدم مناسبته, ومن حيث اعتبار الشرع له في بعض الصور
يشبه المناسب, فهو بين المناسب والطردي.
وقال إمام الحرمين: يتعذر حد الشبه بأن يقول هو يقرب الأصل من
الفرع ويمتاز عن الطرد أنه يغلب على الظن الاشتراك في الحكمة,
والطرد لا يغلبه على الظن, ومن خواص الطرد أنه يعلق نقيض الحكم
عليه بقوله: طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية, كإزالة
النجاسة, فيقال: طهارة ما تفتقر إلى النية. وفيه نظر, لأنه لا
بد من مقيس عليه, وهو التيمم, وقوله: طهارة بالماء ليس بجامع
بين الأصل والفرع.
وهذا الذي قاله الإمام الغزالي أصله كلام القاضي أبي بكر, فإنه
فسر قياس الدلالة المورد على بعض تعريفات القياس, وهو الجمع
بين الفرع والأصل بما لا يناسب, ولكن يستلزم المناسب, فيقال:
إنه الوصف المقارن للحكم الثابت له بالتبع وبالالتزام دون
الذات, كالطهارة لاشتراط النية, فإن الطهارة من حيث هي لا
تناسب اشتراط النية, لكن تناسبها من حيث إنها عبادة والعبادة
مناسبة لاشتراط النية, أما ما يناسب بالذات فهو المناسب, أو لا
يناسب مطلقا فهو الطردي, فالشبه حينئذ منزلة بين المناسبة
والطردي, فلهذا سمي "شبها", هكذا قال الآمدي والرازي. وحكى
الإبياري في شرح البرهان عن القاضي أنه ما يوهم الاشتمال على
وصف مخيل. ثم قال: وفيه نظر من جهة أن الخصم قد ينازع في إيهام
الاشتمال على مخيل إما حقا, أو عنادا, ولا يمكن التقرير عليه.
وقال بعد ذلك: إن ما اختاره الغزالي هو خلاصة كلام القاضي حيث
قال: هو الذي يوهم الاشتراك في محل.
قلت: وهو ظاهر كلام الغزالي في الشفاء وعليه اقتصر صاحب
العنوان فيه. والذي في مختصر التقريب من كلام القاضي أن قياس
الشبه هو إلحاق فرع بأصل لكثرة إشباهه بالأصل في الأوصاف من
غير أن يعتقد أن الأوصاف التي شابه الفرع بها الأصل علة حكم
الأصل. وقيل: الشبه هو الذي لا يكون مناسبا للحكم, ولكن عرف
اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب, وذلك لأنه يظن أنه لا
يعتبر في ذلك الحكم لعدم مناسبته له, فيظن أنه يمكن اعتباره في
ذلك الحكم لتأثير جنسه في جنس ذلك الحكم. واختاره الرازي في
الرسالة البهائية, كإيجاب المهر بالخلوة, فإنه لا يناسب وجوبه,
لأنه في مقابلة الوطء, إلا أن جنس هذا الوصف, وهو كون الخلوة
مظنة الوطء, يعتبر في جنس الوجوب, وهو الحكم بتحريم الخلوة
بالأجنبية.
(4/208)
وقيل: هو الذي لا تثبت مناسبته إلا بدليل,
حكاه ابن الحاجب, وجعله والذي قبله مفرعا على أن الشبه غير
مستقل بالعلية, بل يحتاج إلى مسلك آخر, وأحسن ابن السمعاني
فقال: قياس المعنى تحقيق, والشبه تقريب, والطرد تحكم "ثم قال":
قياس المعنى: ما يناسب الحكم ويستدعيه ويؤثر فيه, والطرد عكسه,
والشبه أن يكون فرع يحاذيه أصلان فيلحق بأحدهما بنوع شبه مقرب,
أي يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب من غير تعرض لبيان
المعنى "انتهى".
وقيل: هو الذي يلائم الأوصاف التي عهد من الشارع إناطة الحكم
بها. وقال إمام الحرمين: إن الناظر إذا فقد المعنى نظر في
الأشباه, وهو أوسع الأبواب, وذلك لأن الشبه ينقدح عند إمكان
المعنى وعند عدم فهمه, ولا يتحتم الأشباه في التعبدات الجامدة.
وفرق بين الشبه والطرد بأن الطرد نسبة ثبوت الحكم إليه ونفيه
على السواء. والشبه نسبة الثبوت مترجحة على النفي فافترقا.
وقال ابن المنير: اضطرب رأي الإمام في حده فقال مرة: هو المشير
إلى معنى كلي لا يتحرر التعبير عنه. وقال مرة: هو الذي يناسب
تشابه الفرع والأصل في أي حكم كان, لا في حكم معين, حتى لو
نسبنا وجود الحكم المعين إليه لكان على حد نسبة عدمه إليه.
وقال ابن رحال: فسره أكثر الأصوليين بما لا تثبت نسبته إلا
بدليل منفصل عنه: وقيل: ما يوهم المناسبة من غير تحقيق, وهما
متقاربان. وقال القاضي: ما يوهم الاجتماع في مخيل, وهذا
التفسير أليق بالمظنة لا بالشبه, لأنه مناسب في نفسه.
وقال القرطبي في أصوله: قد تسامح علماؤنا في جعل الشبه من
مسالك العلة, فإن البحث فيه نظر في تيقن العلة لا في ذاتها.
وكذلك نفي الفارق. وقد اختلفت عباراتهم فيه. وحاصلها يرجع إلى
عبارتين:
إحداهما: أنه هو الذي يكون الفرع فيه دائرا بين أصلين فأكثر
لتعارض الأشياء فيه, فيلحق بأولاها, كالعبد المتلف فإنه آدمي
ومال, ولا شك أنه مضمون بالقيمة, لكن هل تؤخذ قيمته بالغة ما
بلغت ولو زادت على دية الحر, وهو مذهب الشافعي ومالك, تغليبا
لحكم المالية, أو لا تؤخذ قيمة زيادة على دية الحر تغليبا لحكم
الآدمية وهو مذهب أبي حنيفة.
وسمى الشافعي هذا قياس غلبة الأشباه. قال: وهذا لا ينبغي أن
يخص باسم الشبه, لأنه قياس علة مناسب غير أنه تعارض فيه العلل,
فهو من باب المعارضة في
(4/209)
الفرع ولا خلاف في هذا بعد, ولا مشاحة في
الاسم بعد فهم المعنى.
الثانية : أنه الوصف الذي يظن به صلاحيته للمناسبة من جهة
ذاته, فخرج منه المناسب بأنه معلوم المناسبة, والطردي لأنه
معلوم نفيها. واحترزنا بقولنا "من جهة ذاته" عن المظنة, فإنها
لا تناسب بذاتها, بل ما اشتملت عليه. وهذا معنى ما قاله القاضي
أبو بكر وجرى عليه الجمهور, وهو المفهوم من قول الشافعي في
الوضوء: طهارتان فكيف تفترقان؟ يعني: في نفي اشتراط النية,
لكنا إذا تأملنا وجدنا لقول الشافعي طهارة حكمية من دون العلل
ما لا نجد من قول الحنفي: طهارة بالماء. وذلك راجع إلى قوله
"حكمية "يصلح للمناسبة, ولم ينكشف لنا, ولم نقدر على القطع
بكونه عريا عنها, وليس كذلك طهارة ما, فإنه لا مناسب ولا صالح.
ومثله أيضا قول الشافعية: طهارة موجبها في غير محل موجبها,
فشرط فيها النية كالتيمم. وهذا أصح ما قيل في الشبه. انتهى.
هذا ما يتعلق بتعريفه.
المقام الثاني: في حكمه
ولا يصار إليه مع إمكان قياس العلة بالإجماع, كما ذكره القاضي
وغيره. وإنما الكلام فيه إذا تعذرت. وقد اختلفوا فيه على
مذاهب.
أحدها : أنه حجة, وحكاه القرطبي عن أصحابنا وأصحابهم. وقال
شارح العنوان: إنه قول أكثر الفقهاء. وقال في القواطع: إنه
ظاهر مذهب الشافعي. وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من
كتبه, منها قوله في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم: طهارتان
فكيف تفترقان. وتابعه على ذلك أكثر الأصحاب. وقال الشافعي في
أواخر الأم في باب اجتهاد الحاكم والقياس قياسان: أحدهما: أن
يكون في معنى الأصل, فذاك الذي لا يحل لأحد خلافا. والثاني أن
يشبه الشيء بالشيء من أصل, ويشبه من أصل غيره. ثم قال: وموضع
الصواب عندنا في ذلك أن ينظر: فأيهما كان أولى بشبهه صير إليه,
فإن اشتبه أحدهما في خصلتين, والآخر في خصلة ألحقه بالذي أشبه
في خصلتين. انتهى.
حكى هذا النص الأصحاب في كتبهم, والماوردي والروياني وابن
السمعاني. قال: واختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم: إن قوله هذا
يدل على أنه حكم بكثرة الأشباه من غير أن يجعلها علة لحكم.
وقال بعضهم: إنما حكم بترجيح إحدى العلتين في الفرع
(4/210)
بكثرة الشبه. وقال الروياني في البحر: وقول
الشافعي "فموضع الصواب". إلى آخره, يريد إذا كانت كل خصلة علة
مستقلة بنفسها مستغنية عن صاحبتها مثل الأخ يتردد بين أن يكون
كالأب, وبين أن يكون كابن العم, وهو يشبه الأب من وجه وهو محرم
له بالقرابة, ويشبه ابن العم من وجوه كثيرة من قبول الشهادة,
وسقوط النفقة, وجريان القصاص من الطرفين معهما, وجريان حد
القذف فإلحاقه بابن العم حتى لا يعتق عليه إذا ملكه أولى. ونقل
الغزالي في شفاء العليل عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك القول
بالشبه بطريق تمسكهم به. قال في المستصفى: ولعل أكثر أقيسة
الفقهاء قياس الشبه. قال: ومنه قول الشافعي: طهارتان فأنى
تفترقان؟ فإنه يوهم الاجتماع في مناسب, وهو مأخذ الشبه وإن لم
يطلع على ذلك المناسب. وقول أبي حنيفة: مسح الرأس لا يتكرر
ولأنه مسح لا يتكرر, قياسا على الخف. وقال الخوارزمي في
الكافي: قياس الشبه عندنا حجة, فإن القياس المعنوي إنما صار
حجة لأنه يفيد غلبة الظن, والشبه يفيدها أيضا. ومن أنكرها في
الشبه كان منكرها في قياس المعنى. انتهى.
وقد أنكر جماعة نسبة القول بالشبه إلى الشافعي, منهم أبو إسحاق
المروزي, ونقل عنه أنه قال: ليس بحجة, كما حكاه ابن السمعاني.
وقال القاضي أبو بكر: لا يكاد يصح القول بالشبه عن الشافعي مع
علو رتبته في الأصول. وكذلك قال الشيخ في اللمع أن كلام
الشافعي متأول محمول على قياس العلة, فإنه يرجح بكثرة الأشباه
ويجوز ترجيح العلل بكثرة الأشباه. قلت: وعبارة الشافعي رحمه
الله في الرسالة: أن يكون الله ورسوله حرم الشيء منصوصا, أو
أحل لمعنى, فإذا وجدنا ذلك المعنى فيما لم ينص فيه بعينه كتاب
ولا سنة أحللناه أو حرمناه, لأنه في معنى الحلال والحرام. أو
تجد الشيء يشبه منه الشيء من غيره ولا نجد شيئا أقرب منه شبها
من أحدهما فنلحقه بأولى الأشياء شبها به, كما قلنا في الصيد.
انتهى. وقال في موضع آخر: القياس على قسمين: أحدهما: أن يكون
الشيء في معنى الأصل ولا يختلف القياس فيه. والثاني: أن يكون
الشيء له الأصول أشباها بذلك, فيلتحق بأولاها به وأكثرها شبها
به. وقد يختلف القائسون في هذا. انتهى.
المذهب الثاني: أنه ليس بحجة. قال ابن السمعاني: وبه قال أكثر
الحنفية, وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم, وصار إليه أبو زيد
ومن تبعه, وذهب إليه أيضا أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي
انتهى. وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي والشيرازي والقاضي أبو
الطيب, كما نقل في البحر, وأبو بكر الصيرفي والقاضي ابن
الباقلاني,
(4/211)
لكن هو عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي
إسحاق صالح لأن يرجح به, وبه جزم القاضي أبو بكر في باب "ترجيح
العلل" من كتاب التقريب. وقال إلكيا: وربما تردد القاضي أبو
بكر في تصانيفه في إبطال الشبه فقال: إن لم يبين مستند ظنه كان
متحكما, وإن بين كان مخيلا. وربما قال: الإشباه لا بد وأن
يستند إلى معنى كلي. قال: وقد بينا تصورها لا على هذا الوجه.
ثم اختلف القائلون بحجيته في أنه بماذا يعتبر, على مذاهب:
أحدها : اعتباره مطلقا.
والثاني : بشرط ذهاب الصورة إلى الحكم في واقعة لا يوجد منها
إلا الوصف الشبهي.
والثالث : بشرط أن يجتذب الفرع أصلان, وليس أصل سواهما, فيلحق
بأحدهما بغلبة الأشباه. حكاه القاضي, وهو ظاهر نص الشافعي
السابق.
والرابع : بشرط أن لا يثبت للحكم علة بعينه, وإلا كان الرجوع
إليها أولى من الرجوع إلى أشباه وصفات لم يتعين كونها علة
للحكم. حكاه القاضي وقال: إنه راجع إلى الذي قبله.
ثم اختلفوا في الأشباه التي يغلب بها, على مذاهب:
أحدها : المعتبر المشابهة في الحكم فقط دون الصورة, وحكاه
الرازي والبيضاوي عن الشافعي, ولهذا ألحق العبد المقتول بسائر
المملوكات في لزوم قيمته على القاتل, بجامع أن كلا منهما يباع
ويشترى. وحكاه ابن السمعاني عن أصحابنا, كوطء الشبهة مردود إلى
النكاح في شرط الحد, ووجوب المهر بشبهة, بالوطء في النكاح في
الأحكام.
والثاني : اعتبار المشابهة في الصورة, كقياس الخيل على البغال
والحمير وسقوط الزكاة بصورة شبه, أو كقياس الخيل على البغال
والحمير في حرمة اللحم لقول القائل: ذو حافر أهلي, حكاه ابن
السمعاني عن بعضهم معتلا بوجود الشبه قال: وإذا جاز تعليل
الأصل بصفة من ذاته جاز تعليله بصفة من صفاته, ولأن العلل
أمارات, فيجوز أن يكون الشبه في الصورة أمارة على الحكم, كما
يجوز أن يكون الشبه في المعنى أو في الحكم أمارة على الحكم.
قال: وهذا ليس بصحيح, إنما الصحيح أن مجرد الشبه في الصورة لا
يجوز التعليل به, لأن التعليل ما كان لها تأثير في الحكم وليس
هو مما يفيد قوة في الظن حتى يوجب حكما. انتهى.
(4/212)
وقال الأستاذ أبو منصور: ذهب قوم من أهل
البدع إلى اعتبار المشابهة في الصورة, وهو قول الأصم, ولهذا
زعم أن ترك الجلسة الأخيرة من الصلاة لا يضر, كالجلسة الأولى.
ولا يعتد بخلافه. وهذا ما نقله الإمام في البرهان عن أبي حنيفة
وعن أحمد أيضا في إلحاقه الجلوس الأول بالثاني في الوجوب.
واختار إلكيا اعتبار الشبه في الصورة إذا دل دليل على اعتباره,
كالمعتبر في جزاء الصيد قال: وهذا أضعف الأنواع إذ لا يعرف له
نظير. قال: وأما الشبه في الحكم, وهو دلالة الحكم على الحكم
فقط, كقول الشافعي: العبد أشبه بالحر في القصاص والكفارة
للحرمة, وتحمل العقل مثله. فإن أوجب لاحترام المحل والشبه في
المقصود, كاعتبار خيار الشرط بخيار العيب إذا ثبت استواؤهما في
المقصود, وهو دفع الغبن فمعتبران. واعلم أن الشافعي اعتبر
الشبه في مواضع:
"منها" إلحاق الهرة الوحشية بالإنسية على الصحيح, دون الحمر
الوحشية, لاختلاف ألوان الوحشية كالأهلية, بخلاف الحمر الوحشية
فإنها ألوانها متحدة دون الحمر الأهلية فإن ألوانها مختلفة.
و "منها" حيوانات البحر: الصحيح حل أكلها مطلقا. وقيل: ما أكل
شبهه من البر أكل شبهه من البحر, فصاحب هذا الوجه اعتبر الشبه
الصوري. وعلى هذا فقال البغوي وابن الصباغ وغيرهما: حمار البحر
لا يؤكل, فألحقوه بشبه الحمار الأهلي دون الوحشي. وفيه نظر,
فإنه لا نزاع في أن الأصل في حيوان البحر الحل
"ومنها" جزاء الصيد كإيجاب البقرة الإنسية في الوحشية.
و"منها" إقراض الحيوان, ففي رد بدله وجهان أشبههما بالحديث
المثل, والقياس القيمة.
و"منها" السلت, وهو يشابه الحنطة في صورته الشعير بطبعه, فهل
يلحق بالحنطة أو الشعير أو هو جنس مستقل؟ أوجه.
و"منها" إذا كان الربوي لا يكال ولا يوزن, فيعتبر بأقرب
الأشياء شبها به على أحد الأوجه, وقس على هذا نظائره.
والثالث : اعتباره في الحكم ثم الأشباه الراجعة إلى الصورة.
والرابع : اعتباره فيها على حد سواء. حكاه القاضي.
والخامس : اعتبار حصول المشابهة فيما غلب على الظن أنه مناط
الحكم, بأن يظن أنه مستلزم لعلة الحكم, أو علة للحكم. فمتى كان
كذلك صح القياس, سواء كانت
(4/213)
المشابهة في الصورة أو المعنى. وهو قول
الإمام الرازي, وحكاه القاضي في التقريب عن ابن سريج "قال":
وكان ينكر القياس على شبه لم يتعين كونه علة للحكم, إما تعينا
لا احتمال فيه ولا يسوغ لأحد خلافه, أو تعينا ظاهرا وإن أمكن
أن تكون العلة غيره قال: وكذلك كان يقول أبو بكر الصيرفي وأبطل
القياس على غير علة, وذكر أن أبا بكر القفال قال بالحكم بغلبة
الأشباه, وزعم أن الأشباه تنظم الأصل والفرع وإن لم تكن أوصاف
علة حكم الأصل فإنها علة حكم الفرع, لأن ما زاد عليها في حكم
المعدوم, وشبه ذلك بغلبة الماء على المائع الطاهر أو النجس,
فجعل ما اختلط وغلب عليه في حكم المعدوم, وهذا تصريح منه بأنه
يحكم في الفرع بحكم الأصل لمشاركته فيما ليس بعلة للحكم في
الأصل. وهو عجيب, إذ كيف يجب رد الفرع على الأصل فيما ليس علة
فيه.
والسادس : أن لا يوجد شيء أشبه به منه, وهو قول القاضي أبي
حامد المروزي.
المذهب الثالث: في أصل المسألة : إن تمسك به الناظر, أي
المجتهد, كان حجة في حقه إن حصل غلبة الظن, وإلا فلا. أما
المناظر فيقبل منه مطلقا, واختاره في المستصفى. وقد نص في
القواطع القول بقياس الشبه وبين أنه يفيد غلبة الظن وقال: لا
ينكره إلا معاند.
"ثم قال": والحاصل أن التأثير لا بد منه, إلا أن التأثير قد
يكون بمعنى, وقد يكون بحكم, وقد يكون بغلبة شبه, فإنه رب شبه
أقوى من شبه آخر, وأولى بتعليق الحكم به, لقوة أمارته, والشبه
يعارضه شبه آخر, وربما ظهر فضل قوة أحدهما على الآخر, وربما
يخفى. ويجوز رجوع الشبهين إلى أصل واحد ويجوز إلى أصلين, فلا
بد من قوة نظر المجتهد في هذه المواضع. وكذا قال القاضي أبو
حامد المروزي في أصوله: إنا لا نعني بقياس الشبه أن يشبه الشيء
بالشيء من وجه أو أكثر من وجه, لأنه ليس في العالم شيء إلا وهو
يشبه شيئا آخر من وجه أو أكثر من وجه, لكن يعتبر أن لا يوجد
شيء أشبه به منه, فلا يوجد شيء من الوضوء بالتيمم, وكذا القصاص
في الطرف بالقصاص في النفس, أو على العكس.
وهذا لأن إلحاق الشيء بنظائره وإدخاله في سلكه أصل عظيم, فإذا
لم يكن شيء أشبه منه به لم يكن بد من إلحاقه به. قال: وهذا
الذي قاله القاضي أبو حامد, تقريب حسن وهو عائد إلى ما ذكرناه.
قال: وينبغي الاعتناء أولا بالمعاني, فإن تعذرت وأعوزت فحينئذ
ينبغي الرجوع إلى قياس الشبه على الطريقة السابقة فلا بأس
(4/214)
بذلك. انتهى. وهذا الذي قاله محل وفاق بين
القائلين بقياس الشبه في أنه لا يرجع إليه إلا عند تعذر قياس
العلة, وهو في الحقيقة قول من قال: إنه لا يرجع إليه إلا عند
الضرورة.
وقال إلكيا: شرطوا لقياس الشبه شروطا:
منها: أن يلوح في الأصل المردود إليه معنى, فإنه إذا كان كذلك
يقطع نظام الشبه, وغاية من يدعي الشبه إيهام اجتماع الفرع
والأصل في مقصود الشارع, فإذا لاح في الأصل معنى انقطع نظام
الجمع. قال: هكذا أطلقوه, وإنما يستقيم إذا لاح في أحدهما معنى
جزئي وفقد في الثاني, أما إذا كان استناد الأصل إلى معنى كلي
لا يتصور اطراده في آحاد الصور ولكن القياس سبق لإبانة المحل,
فتعليل الأصل لا يضر في مثله, على ما قدمناه, وقد ضرب الشافعي
له مثالا فقال: بدأ عليه بيمين المدعي في القسامة في القصة
المشهورة, فكان فيه خيال اللوث, فاختصها بتلك الصورة وإن كانت
المشابهة بين الدعويين حالة اللوث وحالة عدمها ظاهرة, ولكن
أمكن فهم تخصيص الحكم بتلك الصورة, أما عند اللوث فلا يعتبر به
غير تلك الحالة, وهذا بين.
ومنها: أن الشبه إذا لاح كان من ضرورته أن يكون الأصل مبطلا
معاني الخصم, فإنه لا يكون خاصا إلا على هذا الوجه, ولا يكون
للخصم في مقابلته إلا معنى عام بنهي من الأصل نقضا له.
وله نظائر: "منها" أن التيمم إذا صار أصلا فالمعنى الذي يتعلق
به منقوض بالتيمم, وهو أن الوضوء ليس مقصودا فلم يكن عبادة.
"انتهى".
وقد أكثر أصحابنا في الاحتجاج لقياس الشبه. وأصح ما ذكروه
مسالك:
أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام نبه عليه في قوله: "لعل عرقا
نزعه" 1 ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه حال هذا السائل
في نزع العرق من أصوله بنزع العرق من أصول الفحل.
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي "4/439" كتاب الولاء والهبة باب ما جاء
في الرجل ينتفي من ولده حديث "2128" عن أبي هريرة قال: جاء رجل
من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
إن امرأتي ولدت غلاما أسود!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما لونها؟ قال: حمر قال: فهل
فيها أورق؟ قال: نعم إن فيها لورقا قال: أنى أتاها ذلك؟ قال:
لعل عرقا نزعها قال: "فهذا لعل عرقا نزعه" والحديث رواه
البخاري كتاب الطلاق باب إذا عرض بنفي الولد حديث "5305" بلفظ
"فلعل ابنك هذا نزعه" ورواه مسلم "4/737" أيضا كتاب اللعان
حديث "1500".
(4/215)
وثانيها : أن قياس المعنى إنما صير إليه
لإفادته الظن, وهذا يفيده, فوجب القول به. واعترض الإبياري:
أولا : بأنه قياس المعنى في الأصول فلا يسمع.
وثانيا : بمنع إفادة الظن.
وثالثا : أنه لم تخل واقعة من حكم, قالوا: ومن مارس مسائل
الفقه وترقى عن رتبة البادئ فيها علم أن المعنى المخيل لا يعم
المسائل, وكثير من أصول الشرع تخلو من المعاني خصوصا في
العبادات وهيئاتها والسياسات ومقاديرها, وشرائط المناكحات
والمعاملات إلى قياس الشبه, ولا يلزمنا الطرد لأنا في غنية عنه
إذ هو منسحب على جميع الحوادث, فلم يكن من داع إليه, فوضح أن
القول بالشبه عن محل الضرورة, ولولا الضرورات لما شرع أصل
القياس.
تنبيهات
الأول : بنى القاضي الخلاف في قياس الشبه على أن المصيب واحد
أو كل مجتهد؟ فإن قلت: المصيب واحد فالأولى بك إبطال قياس
الشبه, وإن قلت بتصويبهم, فلو غلب على ظن المجتهد حكم من قضية
اعتبار الشبه فهو مأمور به قطعا, ووافقه إمام الحرمين على
البناء على هذا الأصل على تقرير ثبوت كونها ظنية, لكن خالف في
أن المسألة ظنية وقال: الأليق بما مهده من الأصول أن يقال; كل
ما آل إلى إثبات دليل من الأدلة فيطلب فيه القطع, وربما يقول:
إن المجتهد المتمسك بضرب من القياس إذا غلب على ظنه شيء وفي
الحادثة نص لم يبلغه فهو مأمور قطعا بما أدى إليه اجتهاده وإن
كان القياس في مخالفه مردودا.
الثاني : قال الروياني في البحر: اعلم أن كثرة الأشباه إنما
تقوي أحد جانبي القياس إذا أمكن إثبات الحكم بكل واحد من
الأوصاف. فأما إذا لم يقم الحكم إلا لمجموع أوصاف حتى يرد بها
إلى أصل, فيرد إلى أصل آخر بوصف واحد, فإن كان ذلك الوصف من
جملة الأوصاف فتعلق الحكم بالوصف الواحد أولى, وإن كان وصفا
آخر سوى الأوصاف المجموعة فيما سواه, مثل علة الطعم في الربا
أولى من علة القوت لأنه ما من قوت إلا وهو طعام, فكان من علل
به علل الطعام وزيادة وعلة "الطعام والكيل" مستويتان, فتقدم
إحداهما على الآخر بالترجيح, وليس أحدهما داخلا في جملة الآخر
إذا كان الأصل المردود إليه واحدا غير أن أحد القياسيين يرد
الفرع إليه
(4/216)
بوصف, والآخر يرده إليه بذلك الوصف وبغيره
من الأوصاف, فضمها إليه بالوصف الواحد أولى.
الثالث : هل يستعمل "الشبه" مرسلا كما استعمل المناسب مرسلا؟
قال الإبياري في شرح البرهان: هذا شيء غامض ولم أقف فيه على
نص, ولو قيل به لم يبعد. انتهى.
وقد صرح إمام الحرمين بالمنع منه, بخلاف المناسب, ورتب ذلك على
أحد تفسيريه في الشبه وهو أن يناسب تشابه الأصل والفرع مطلقا
في حكم معين, فعلى هذا لا يتحقق الشبه إلا بأصل. وإن قلنا في
تفسيره: ما يوهم مناسبة للحكم الخاص أو ملاءمة لأوصاف نص
الشارع عليها ولم تظهر مناسبتها. أو غير ذلك من التفاسير
السابقة جاز استعماله مرسلا.
المسلك الثامن الدوران
ويعبر عنه الأقدمون ب "الجريان "وب "الطرد والعكس "وهو: أن
يوجد الحكم عند وجود وصف ويرتفع عند ارتفاعه في صورة واحدة,
كالتحريم مع السكر في العصير, فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن
حراما, فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر
بصيرورته خلا زال التحريم, فدل على أن العلة "السكر".
وأما في صورتين, كوجوب الزكاة مع ملك نصاب قام في صورة أحد
النقدين, وعدمه مع عدم شيء منها, كما في ثياب البذلة حيث لا
تجب فيها الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه. ومن أمثلته قوله عليه
الصلاة والسلام في حديث ابن اللتبية حين استعمله النبي صلى
الله عليه وسلم وقال: "ما بالنا نستعمل أقواما فيجيء أحدهم
فيقول: هذا لكم وهذا لي, ألا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه
هديته إن كان صادقا" 1 وهذا إثبات العلة بالدوران, وهو ثبوت
الحكم عند ثبوت الوصف وانتفاؤه عند انتفائه.
واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية على مذاهب:
أحدها : أنه يفيد القطع بالعلية, ونقل عن بعض المعتزلة وربما
قيل: لا دليل
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الأحكام باب هدايا العمال حديث
"7174" ورواه مسلم "3/1463" كتاب الإمارة حديث "1832".
(4/217)
فوقه, حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا.
والثاني : أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم, لأن العلة
الشرعية لا توجب الحكم بذاتها وإنما هي علامة منصوبة, فإذا دار
الوصف مع الحكم غلب على الظن كونه معرفا له وينزل بمنزلة الوصف
المومأ إليه بأن يكون علة وإن خلا عن المناسبة. وهو قول
الجمهور, منهم "إمام الحرمين", ونقله عن القاضي. وممن حكاه عن
الأكثرين إلكيا.
وقال ابن السمعاني: وإليه ذهب كثير من أصحابنا. قال: ولأصحابنا
العراقيين شغف به, وقال الهندي: إنه المختار, وحكاه الأستاذ
أبو منصور عن أبي علي بن أبي هريرة, وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن
أبي بكر الصيرفي. قال إمام الحرمين: ذهب كل من يعزى إلى الجدل
إلى أنه أقوى ما تثبت به العلل. وذكر القاضي أبو الطيب الطبري
أن هذا المسلك من أقوى المسالك وكاد يدعي إفضاءه إلى القطع.
وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة وإعلاقه طرفا من
كلامه, ومن عداه حياله.
قلت: والذي رأيته في "شرح الكفاية" للقاضي أبي الطيب ما لفظه:
وأما الطرد فإنه شرط في صحتها, وليس بدليل على صحتها, ولا يجوز
إذا اطرد معنى أن يحكم بصحته حتى يدل التأثير أو شهادة الأصول
عليه. وكذا قال الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة": الطرد والجريان
شرط في صحة العلة, وليس بدليل صحتها. وقيل: دليل على الصحة,
وبه قال الصيرفي, وقال: إذا لم يرد بها نص ولا أصل دل على
صحتها, وكذا قال ابن الصباغ: هو يدل على صحة العلة.
وقال ابن برهان: الطرد عندنا شرط صحة العلة وليس دليلا على
صحتها. وذهب بعض القدماء منا ومن الحنفية إلى أنه دليل على
صحتها. وقال ابن السمعاني: الاطراد ليس بدليل لصحة العلة ولكن
شرط لصحتها. وأما الانعكاس فليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر
الأصحاب, وهو قول جمهور الأصوليين من الفقهاء, وبه قال بعض
المتكلمين قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أن الانعكاس شرط, فإذا
ثبت الحكم بوجود العلة ولم يرتفع بارتفاعها بطلت العلة, وهو
قول بعض المعتزلة تعلقا بالعلل العقلية, فإنه يجب انعكاسها,
فكذلك السمعية. ولنا أن العلة منصوبة للإثبات فلا تدل على
النفي.
والثالث : أنه لا يدل بمجرده لا قطعا ولا ظنا. وهو اختيار
الأستاذ أبي منصور وابن السمعاني والغزالي والشيخ أبي إسحاق
واختاره الآمدي وابن الحاجب.
(4/218)
وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب "الحدود" إنه
قول المحصلين. قال إلكيا: وهو الذي يميل إليه القاضي, ونقله
ابن برهان عنه أيضا. واحتجوا بأنه قد وجد مع عدم العلية فلا
يكون دليلا عليها. ألا ترى أن المعلول دائر مع العلة وجودا
وعدما, مع أن المعلول ليس بعلة لعلته قطعا, والجوهر والعرض
متلازمان مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقا, والمتضايفان
- كالأبوة والبنوة - متلازمان وجودا وعدما, مع أن أحدهما ليس
بعلة في الآخر لوجوب تقدم العلة على المعلول ووجوب مصاحبة
المتضايفين وإلا لما كانا متضايفين.
وقد ضعف هذا القول, أعني تجويز أن تكون العلة أمرا وراء
المذكور, فإن هذا لو صح لجرى في غيره من المسائل, كالإيماء
ونحوه. ومن العجيب أن جماعة من القائلين بهذا المذهب اعترفوا
بصحة السبر والتقسيم وإن لم تقترن به مناسبة, وهو راجع للطرد,
فإن غايته أن الأوصاف المقارنة للحكم قام الدليل على خروج
بعضها عن صلاحية التعليل, فعلم صحة التعليل بالباقي, ولا تجد
النصف الباقي سوى مقارنته الحكم في الوجود مع انتقاء الظفر
بدليل انتفاء صلاحيته للتعليل, وذلك مجرد طرد لا عكس فيه, واذا
كان السبر والتقسيم لا يدل إلا على اقتران الحكم بالوصف وجودا
علم أن من أخذ به وأنكر الطرد والعكس كمن أخذ بالمقدمة الواحدة
وأنكر دلالة المقدمتين, وكمن أخذ بالكثرة في الألف وأنكرها في
الألفين.
التفريع :
إن اعتبرناه فشرط ابن القطان في صحته أن يصح اقتضاؤه من الأصل,
كالشدة المطربة في الخمر.
قال: وكان بعض أصحابنا إذا لم تقم الدلالة على أن التحريم
والتحليل كان لأجله لم يكن دالا على صحة العلية, لأن العلية هي
الموجبة للحكم, فلا يجوز أن يكون الفرع دالا على الأصل.
قال: وكان أبو بكر الصيرفي يقول: اختلف أصحابنا في الجريان هل
هو دال على صحة العلية أم لا؟ على مذاهب: أحدها: أنه دال
عليها. والثاني: أنه بانفراده لا يكون علة حتى لا تدفعه
الأصول, فإن دفعته لم يكن علة. والثالث: أنه علة حتى يقوم دليل
على صحته.
قال: ولا فرق بين الأول والثاني. وقال غيره: إنه يفيد ظن علية
المدار للدائر بشروط ثلاثة:
(4/219)
الأول : أن لا يكون المدار مقطوعا بعدم
عليته, كالرائحة الفائحة للخمر, فإنا نقطع بأنها ليست علة
للحرمة.
الثاني : أن يكون المدار متقدما على الدائر, بحيث أن يقال: وجد
الدائر فحينئذ لا يرد دوران المتضايفين ولا دوران الوصف مع
الحكم, لأن أحد المتضايفين ليس مقدما على الآخر, ولا الحكم على
الوصف.
الثالث : أن لا يقطع بوجود مزاحم يلزم من كون المدار علة
إلغاؤه بالكلية, فحينئذ لا يرد أجزاء العلة, لأنه وإن كان
المعلول كما دار مع العلة دار مع كل جزء من أجزائها لكن الحكم
بأي جزء كان يوجب إلغاء سائر الأجزاء, أو إلغاء المجموع
بالكلية فيوجد لكل جزء مزاحم يمنع من الحكم بعليته, وهذا بخلاف
المجموع, فإن كون المجموع علة ليس بموجب إلغاء الجزء بالكلية
عن اعتبار الثاني, بل لكل جزء مدخل في التأثير.
وأما القائلون بعدم اعتباره فشرطوا شرطين:
أحدهما : أن يكون الوصف غير مناسب, فإنه متى كان مناسبا كانت
العلة صحيحة من جهة المناسبة, صرح به الغزالي في "شفاء العليل"
وإلكيا وابن برهان وغيرهم.
قلت: وأما من يدعي القطع فيه فالظاهر أنه يشترط ظهور المناسبة,
ولا يكتفي بالدوران بمجرده, فإذا انضم المناسبة ارتقى إلى
القطع. ثم قال إلكيا: والحق أن الأمارة لا تطرد ولا تنعكس إلا
إذا كانت اجتماع الفرع والأصل في مقصود خاص في حكم خاص, فإن
الأحكام إذا تباعد ما حدها لا يتصور أن تكون الأمارة الواحدة
جارية فيها على نسق الإطراد والانعكاس, كقول القائل في
الطهارة: إنها وظيفة تشطر في وقت فافتقرت إلى النية, كالصلاة,
فهذا لا يتصور انعكاسه, وقد تطرد وتنعكس بعض الأمارات فإنها
مجرى الحدود العقلية. فالحاصل أن الاطراد والانعكاس من باب
الأشباه الظاهرة ومن قبيل تنبيه الشرع على نصبه ضابطا لخاصة
فعلقت به.
ومما يتنبه له أن ما يوجد الحكم بوجودها وينعدم بعدمها,
كالإحصان, فليس بتعليل اتفاقا من حيث إن الطرد والعكس إنما كان
تعليلا للإشعار باجتماع الفرع والأصل في معنى مؤثر أو مصلحة لا
يعلمها إلا الله, فكان الاطراد من الشارع تنبيها على وجود معنى
جملي اقتضى الاجتماع ولا يتحقق ذلك مع وجود المعنى الظاهر, فإن
الإيهام لا ميزان له مع وجود المعنى المصرح به.
(4/220)
الثاني : أن يتجرد الوصف, فأما إذا انضم
إليه سبر وتقسيم قال في "المستصفى": يكون حينئذ حجة, كما لو
قال: هذا الحكم لا بد [له] من علة, لأنه حدث بحدوث حادث, ولا
حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا, وقد بطل الكل إلا هذا فهو
العلة. ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض, وإن لم ينضم إليه
العكس.
فائدة :
الدور يستلزم المدار والدائر, فالمدار هو المدعى عليته, كالقتل
الموصوف, والدائر هو المدعى معلوليته كوجوب القصاص.
المسلك التاسع الطرد
وليس المراد به كون العلة لا تنتقض فذاك مقال العكس, بل المراد
أن لا تكون علته مناسبة ولا مؤثرة. والفرق بينه وبين الدوران
أن ذلك عبارة عن المقارنة وجوبا وعدما. وهذا مقارن في الوجود
دون العدم. وقال القاضي الحسين - فيما حكاه البغوي عنه في
تعليقه: الطرد شيء أحدثه المتأخرون, وهو حمل الفرع على الأصل
بغير أوصاف الأصل من غير أن يكون لذلك الوصف تأثير في إثبات
الحكم, كقول بعض أصحابنا في نية الوضوء: عبادة يبطلها الحدث
وتشطر بعذر السفر, فيشترط فيها النية كالصلاة, ولا تأثير للشطر
بعذر السفر في إثبات النية. وكقول الحنفية في مس الذكر: معلق
منكوس, فلا ينتقض الوضوء بمسه دليله الدبوس. أو قالوا: طويل
مشقوق, فلا ينتقض بمسه كالقلم والبوق. قال: وهذا سخف يتحاشى
الطفل عن ذكره, فضلا عن الفقيه. انتهى.
وقال ابن السمعاني: هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به. وقال
الإمام وأتباعه: هو الوصف الذي لا يكون مناسبا ولا مستلزما
للمناسب وإلا لم تكن حاجة إلى الطرد, ويكون الحكم حاصلا معه في
جميع صور حصوله غير صورة النزاع, فإن حصل في صورة النزاع كان
دورانا. قال الهندي: هذا قول الأكثرين. ومنهم من قال: لا يشترط
ذلك, بل يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنا له
ولو في صورة واحدة. والصحيح الأول.
وقد اختلفوا في كونه حجة, والقائلون بأن الطرد [و] العكس ليس
بحجة, ففي كون الطرد ليس بحجة من طريق الأولى, فأما القائلون
بحجية ذلك فقد اختلفوا في
(4/221)
حجية الطرد, فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة
مطلقا, وذهب بعضهم إلى أنه حجة مطلقا, ومنهم من فصل وقال
بحجيته بالتفسير الأول دون الثاني. والمعتبرون من النظار على
أن التمسك به باطل, لأنه من باب الهذيان.
قال إمام الحرمين: وتناهى القاضي في تغليط من يعتقد ربط حكم
الله عز وجل به, ونقله إلكيا عن الأكثرين من الأصوليين, لأنه
يجب تصحيح العلة في نفسها أولا ثم تعليق الحكم عليها, فإنه
ثمرة العلة, فالاستثمار بعد التصحيح, فلا يجوز أن يجعل ما حقه
في الرتبة الثانية علما على ثبوت الأصل. قال: وقد رأينا في
الطرد صورا لا يتخيل عاقل صحتها, كتشبيه الصلاة بالطواف, ونقله
القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" عن المحصلين من أصحابنا
وأكثر الفقهاء والمتكلمين. وقال القاضي الحسين - فيما نقله
البغوي في "تعليقه" عنه: - لا يجوز أن يدان الله به. وقال ابن
الصباغ في "العدة": الطرد جريان العلة في معلولاتها وسلامتها
من أصل يردها وينفيها. والأكثرون على أنه لا يدل على صحتها.
وذهب طوائف من الحنفية إلى أنه حجة, ومال إليه الإمام الرازي,
وجزم به البيضاوي. قال ابن السمعاني: وحكاه الشيخ في التبصرة
عن الصيرفي. وهذا فيه نظر. فإن ذاك في الاطراد الذي هو
الدوران. وقال الكرخي: هو مقبول جدلا, ولا يسوغ التعويل عليه
عملا, ولا الفتوى به.
وقال القاضي أبو الطيب: ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل
على صحة العلية, واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق,
فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم ويقولون. إنها قد صحت,
كقولهم في مس الذكر: مس آلة الحرث فلا ينتقض الوضوء, كما إذا
مس الفدان. وإنه طويل مشقوق فأشبه البوق. وفي السعي بين الصفا
والمروة: إنه سعي بين جبلين, فلا يكون ركنا في الحج. كالسعي
بين جبلين بنيسابور. ولا يشك عاقل أن هذا سخف. قال ابن
السمعاني: وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة, والاطراد
دليلا على صحة العلية "حشوية أهل القياس" قال: ولا يعد هؤلاء
من جملة الفقهاء. قال ابن السمعاني: ويجوز للشارع نصب الطرد
علما عليه لكنه لا يكون علة بل تقريب للحكم وتحديد له. قال:
وذكر القاضي أبو الطيب أن الاطراد زيادة دعوى على دعوى,
والدعوى لا تثبت بزيادة دعوى, ولأن القياس الفاسد قد يطرد, ولو
كان الاطراد دليل صحة العلية لم يقم هذا الدليل على الأقيسة
الفاسدة المطردة, مثل قول من يقول في إزالة النجاسة بغير
الماء: مائع لا تبنى عليه
(4/222)
القناطر, ولا يصاد منه السمك, فأشبه الدهن
والمرقة. وفي المضمضة: اصطكاك الأجرام العلوية فوجب أن لا ينقض
الطهارة, كالرعد ولا يلزم الضراط لأنه اصطكاك الأجرام السفلية.
قال القاضي: هذا مع سخفه ينتقض بما لو صفع امرأته وصفعته.
والاشتغال بهذا هزأة ولعب في الدين. انتهى. وقال الكرخي: هو
مقبول جدلا, ولا يسوغ التعويل عليه عملا. وهو ظاهر كلام
الغزالي. وقال: إنه رأي المشايخ المتقدمين, وقال: هو مصلحة
للمناظر في حق من أثبت الشبه ورآه معتمدا, بل لا طريق سواه,
فإما أن يصار إلى إبطال الشبه رأسا, وقصر الجامع على المخيل,
وإما أن يقبل من المناظر الجميع على الإطلاق.
وهاهنا أمور ذكرها إلكيا:
أحدها : أن هذا كله في غير المحسوسات. أما المحسوسات فقد تكون
صحيحة مثل ما نعلمه أن البرق يستعقب صوت الرعد فلهذا اطرد وغلب
على الظن به.
الثاني : أن الخلاف في هذه المسألة لفظي, فإن أحدا لا ينكره
إذا غلب على الظن, وأحدا لا يتبع كل وصف لا يغلب على الظن, وإن
أحالوا اطرادا لا ينفك عن غلبة الظن.
الثالث : إذا قلنا بأنه ليس بحجة, فهل يجوز التعلق به لدفع
النقض أم لا؟ قال إلكيا: فيه تفصيل: فإن كان يرجع ما قيد
الكلام به إلى تخصيص العلة بحكمها فالكلام في تخصيص العلة سبق,
وإن كان التقييد كما قيد به تقييدا بما يظهر تقيد من الشرع
الحكم به. وصورة النقض آيلة إلى استثناء الشرع, فلا يمنع من
هذا التخصيص كما إذا علل إيجاب القصاص على القاتل فنقض بالأب
فلا يمنع من هذا التخصيص, وإن كان يدل على معنى في عرف الفقهاء
إلا اللغة وذلك المعنى صالح لأن يجعل وصفا ومناطا للحكم, فيجوز
دفع النقض به, كقولنا: ما لا يتجزأ في الطلاق فذكر بعضه كذكر
كله, فلا يلزم عليها النكاح, فإن كان النكاح ينبئ في الشرع عن
خصائص ومزايا في القوة لا يلغى في غيره فيندفع النقض.
(4/223)
فصل
ساق الغزالي في "شفاء العليل" من كلام الشافعي وأصحابه هنا
أمرا حسنا ينبغي للفقيه الإحاطة به فقال: قياس الطرد صحيح,
والمعني به التعليل بالوصف الذي لا يناسب, وقال به كافة
العلماء كمالك وأبي حنيفة والشافعي. ومن شنع على القائلين به
من علماء العصر القريب كأبي زيد وأستاذي إمام الحرمين, فهم من
جملة القائلين به, إلا أن الإمام يعبر عن الطرد الذي لا يناسب
ب "الشبه" ويقول: الطرد باطل والشبه صحيح, وأبو زيد يعبر عن
الطرد ب "المخيل", وعن الشبه ب "المؤثر", ويقول: المخيل باطل
والمؤثر صحيح. وقد بينا بأصله أنه أراد بالمؤثر ما أردناه
بالمخيل, وسنبين أن القائلين بالشبه المنكرين للطرد مرادهم
بالشبه ما أردناه بالطرد, وأن الوصف ينقسم إلى قسمين: مناسب
كما ذكرنا, وهو حجة وفاقا, ومنهم من يلقبه بالمؤثر وينكر
المخيل. وغير المناسب أيضا حجة إذا دل عليه الدليل, ومنهم من
يلقبه بالشبه, حتى يخيل أنه غير الطرد وليس كذلك. "قال": ولقد
عز على بسيط الأرض من يحقق الشبه.
ثم قال: فنقول: اختلف الناس في الطرد والعكس, والشبه, فمنهم من
قال بهما, ومنهم من أنكرهما, ومنهم من قال بأحدهما دون الآخر.
ونحن نقول: مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي القول بهما جميعا,
فإنهم قالوا بالشبه وهو أضعف من القول بالطرد والعكس. "قال":
وقد علل [به] الفقهاء كافة سقوط التكرار في مسح الخف, وشرعيته
في غسل الأعضاء فقال أبو حنيفة رحمه الله في مسح الرأس: إنه
مسح فلا يكون كمسح الخف. وقال الشافعي: أصل في الطهارة فكرر
كالغسل, وكل منهما طرد محض. وكذلك قوله: طهارتان فأنى تفترقان؟
"قال": والذي يدل على أن الشافعي لم يذهب في التعليل مسلك
الإخالة فصل ذكره في كتاب الرسالة, وقد نقلناه بلفظه قال
الشافعي رحمه الله: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] الآية وأمر النبي صلى الله عليه
وسلم هندا أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها1, فكان
الولد من الوالد, فأجبر على
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب النفقات باب إذا لم ينفق الرجل
فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف حديث
"5364" عن عائشة أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا
سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أحذت منه
وهو لا يعلم؟ فقال "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" ورواه مسلم
"3/13389" كتاب الأقضية حديث "1714".
(4/224)
صلاحه في الحال التي لا يغني فيها عن نفسه,
وكان الأب إذا بلغ أن لا يغني عن نفسه بكسب ولا مال فعلى ولده
صلاحه في نفقته وكسوته, قياسا على الوالد, ولم يضع شيئا هو
منه, كما لم يكن للوالد ذلك, والوالد وإن بعد, والولد وإن سفل
في هذا المعنى, فقلنا: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف, وله
النفقة على الغني المحترف.
وذكر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الغلة بالضمان
فقال: وكأن الغلة لم تقع عليها صفقة البيع فيكون لها حصة في
الثمن, فكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو فات فيه العقد
فات في ماله, فدل أنه إنما جعلها له لأنه حادثة في ملكه
وضمانه, فقلنا كذلك في ثمر النخيل ولبن الماشية وصوفها
وأولادها وولد الجارية وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه.
وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب, والورق
بالورق, والتمر بالتمر, والبر بالبر, والشعير بالشعير, والملح
بالملح إلا مثلا بمثل, يدا بيد1, فلما حرم النبي عليه الصلاة
والسلام هذه الأصناف المأكولة التي يشح الناس عليها حين باعوها
كيلا لمعنيين:
أحدهما : أن يباع منها شيء بمثله دينا, والآخر: زيادة أحدهما
على الآخر نقدا, كان كما كان في معناها, فحرمنا قياسا عليهما,
فكذلك كل ما أكل مما ابتيع موزونا, والوزن والكيل في ذلك سواء,
وذلك كالعسل والزبيب والسمن والسكر وغيره مما يكال ويوزن ويباع
موزونا, ولم يقس الموزون على الموزون من الذهب والورق, لأن
يجوز أن يشتري بالدراهم والدنانير نقدا عسلا وسمنا إلى أجل,
ولو قيس عليه لم يجز إلا يدا بيد, كالدنانير والدراهم. ويقاس
به ما كان في معناه من المأكول والموزون لأنه يعتاد الكيل
والوزن.
قال الغزالي: هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي فليتأمل المنصف
ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف [ما] لا يناسب, ذاهبا إلى أن
المشارك له في هذه الأوصاف في معناه غير معرج على المناسبة
والإيماء.
ونقل أبو بكر الفارسي من لفظ ابن سريج, في سياق كلام له في
تصحيح التعليل بالاطراد والسلامة عن النواقض فصلا وهو قوله:
قلت: فإن قال قائل: إذا ادعيتم أن العلل تستخرج وتصح بالسبر
والتقسيم والاطراد في معلولاتها, فإن عارضها أصل يدفعها علم
فساده, وإن لم يعارضها أصل صحت فأخبروني: إذا انتزعتم علة من
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب المساقات باب الصرف وبيع الذهب
بالورق نقدا حديث "1587".
(4/225)
أصل, فانتزع مخالفوكم علة أخرى فخبرونا: ما
جعل علتكم أولى؟ فإن أحلتم ذلك أريناكم زعم العراقي علة البر
أنه مكيل, فإن ذلك لا ينكر, وزعم الشافعي أنها الأكل دون
الكيل, فنقول: إنا تركنا جعل كل واحد من هذين الأمرين علة لأنه
يخرجنا من قول العلماء الذي احتجنا إلى ترجيح قول بعضهم على
بعض, لأن الشافعي اقتصر على الأكل, والعراقي على الكيل, فرجحنا
هذه على تلك, فإنا وجدنا الكيل معناه معنى الوزن, ووجدنا ما
حرم من الذهب والفضة لا يدل على تحريم الموزونات, وذلك لأن
الذهب لا يجوز بالورق نسيئة, ويجوز الذهب بالموزونات نسيئة,
وقرر هذا الكلام ثم قال: دل هذا على أن الشيء حرام لمعنى فيه,
كالذهب والورق وأنها أصل النقدين وقيم المستهلكات ومنهما فرض
الزكوات, فلم يحرما لأن هاهنا أمرا يعرف به مقدارهما وهو
الوزن, بل لما فيهما من منافع الناس التي يعد لهما [فيها شيء]
سواهما من التقلب والنقد الذي إليه ترجع المعاملة الدائرة بين
الناس. وكذلك البر والشعير إنما حرما لأنهما الأقوات والمعاش
والغذاء والطعام. ثم جرد من ذلك كله الأكل كان أعم الأمور. وقد
ضم إليها في قول لأصحابنا أجزاء الكيل والوزن.
قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب "البيوع القديم": وروي عن
ابن عباس أنه قال: لا ربا إلا في ذهب أو ورق وما يكال أو يوزن
مما يؤكل أو يشرب, وقول ابن المسيب في هذا أصح الأقاويل.
قال الغزالي: فهذا جملة ما أردنا نقله من لفظ الشافعي وابن
سريج لنبين أن أرباب المذاهب بأجمعهم ذهبوا إلى جواز التعليل
بالوصف الذي لا يناسب من غير استناد إلى إيماء ونص ومناسبة:
"قال": والفرض الآن أن نبين نقلا عن علماء الشرع كمالك وأبي
حنيفة والشافعي رحمهم الله القول بالوصف الذي لا يناسب,
وتسميتهم ذلك علة. وكذلك تعليل النقدين بالنقدية القاصرة تدل
على أن الشافعي لا يقتصر على التشبيه, إذ التشبيه إنما يقوم من
فرع وأصل, ولا فرع لهذا الأصل.
(4/226)
المسلك العاشر تنقيح المناط
والتنقيح: هو التهذيب والتمييز, وكلام منقح, أي: لا حشو فيه.
والمناط: هو العلة. قال ابن دقيق العيد: وتعبيرهم بالمناط عن
العلة من باب المجاز اللغوي, لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء
المحسوس الذي تعلق بغيره, فهو مجاز من باب تشبيه المعقول
بالمحسوس, وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء بحيث لا يفهم عند
الإطلاق غيره.
ولما كانت هذه العلة منصوصا عليها ولكنها تختلط بغيرها محتاجة
إلى ما يميزها لقبوه بهذا اللقب. وهو أن يدل ظاهر على التعليل
بوصف مذكور مع غيره مما لا مدخل له في التأثير لكونه طرديا أو
ملغى, فينقح حتى يميز المعتبر, ويجتهد في تعيين السبب الذي
أناط الشارع الحكم به وأضافه إليه بحذف غيره من الأوصاف عن
درجة الاعتبار. وحاصله: إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفرق, بأن
يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا, وذلك لا مدخل له
في الحكم ألبتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب
له, كقياس الأمة على العبد في السراية, فإنه لا فارق بينهما
إلا الذكورة, وهو ملغى بالإجماع, إذ لا مدخل له في العلية.
وسماه الحنفية "الاستدلال" وأجروه في الكفارات, وفرقوا بينه
وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه بذكر "الجامع" الذي لا
يفيد إلا غلبة الظن. و "الاستدلال" ما يكون الإلحاق فيه بإلغاء
الفارق الذي يفيد القطع, حتى أجروه مجرى القطعيات في النسخ
وجوزوا الزيادة على النص ولم يجوزوا نسخه بخبر الواحد.
قال الهندي: والحق أن تنقيح المناط قياس خاص مندرج تحت مطلق
القياس, وهو عام يتناوله وغيره, وكل منهما قد يكون ظنيا - وهو
الأكثر - وقطعيا. لكن حصول القطع فيما فيه الإلحاق بإلغاء
الفارق أكثر من الذي الإلحاق فيه بذكر الجامع, لكن ليس ذلك
فرقا في المعنى بل في الوقوع, وحينئذ لا فرق بينهما في المعنى.
وقال الغزالي: تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس, ولا
نعرف بين الأمة خلافا في جوازه. ونازعه العبدري بأن الخلاف فيه
ثابت بين من يثبت القياس وينكره, لرجوعه إلى القياس. وقال
الإبياري: هو خارج عن القياس, وكأنه يرجع إلى تأويل الظواهر,
ولهذا أنكر أبو حنيفة القياس في الكفارات وقال: إن الكفارة
خرجت
(4/227)
على الأصل.
وقال ابن رحال: إن كان المقصود بالتنقيح تعليل الحكم في حق
شخص, كما في حديث المجامع, فالأمر كما قال الحنفية, ولا يكون
إثبات الحكم بطريق القياس, لأن القياس لا يستعمل في حق الأشخاص
بل تكون التعدية بقوله عليه الصلاة والسلام: "حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة" 1. وإن كان المقصود تعليلا في واقعة فليس
كما قالوا, بل هو من قبيل القياس, كما في قوله صلى الله عليه
وسلم: "لا يقضي القاضي وهو غضبان "2 والفرق أن الحكم لا يتعدى
من واقعة إلى واقعة بغير القياس, ويتعدى من شخص إلى شخص بغير
القياس.
[تحقيق المناط]
أما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بنص أو إجماع,
فيجتهد في وجودها في صورة النزاع, كتحقيق أن النباش سارق. وكأن
يعلم وجوب الصلاة إلى جهة القبلة ولكن لا يدرك جهتها إلا بنوع
نظر واجتهاد.
سمي به لأن المناط, وهو الوصف, علم أنه مناط وبقي النظر في
تحقيق وجوده في الصورة المعينة. قال الغزالي: وهذا النوع من
الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأئمة. والقياس مختلف فيه. فكيف
يكون قياسا؟, ونازعه العبدري بما تقدم في نظيره.
[تخريج المناط]
وأما تخريج المناط فهو الاجتهاد في استخراج علة الحكم الذي دل
النص أو الإجماع عليه من غير تعرض لبيان علته أصلا.
وهو مشتق من الإخراج, فكأنه راجع إلى أن اللفظ لم يتعرض للمناط
بحال, فكأنه مستور أخرج بالبحث والنظر, كتعليل تحريم الربا
بالطعم, فكأن المجتهد أخرج العلة, ولهذا سمي تخريجا. بخلاف
"التنقيح" فإنه لم يستخرج, لكونه مذكورا في النص, بل نقح
المنصوص وأخذ منه ما يصلح للعلية وترك ما لا يصلح.
قال الغزالي: وهذا الاجتهاد, القياس الذي وقع الخلاف فيه. وقال
البزدوي: هو الأغلب في مناظراتهم, لأنه به يظهر فقه المسألة,
وتوجه عليه سائر الأسئلة.
ـــــــ
1 موضوع وسبق بيان وضعه.
2 حديث صحيح وسبق تخريجه.
(4/228)
والحاصل أن بيان العلة في الأصل "تخريج
المناط" وإثباته في الفرع "تحقيق المناط", أي إذا ظننا أو
علمنا العلة ثم نظرنا وجودها في الفرع وظننا تحقيق المناط فهو
تحقيق المناط.
[أمور تتصل بتنقيح المناط] وهاهنا أمور:
أحدها : أن تنقيح المناط ليس دالا على العلية بعينه, بل هو دال
على اشتراك الصورتين في الحكم, بخلاف تخريج المناط فإنه لا بد
فيه من تعيين العلة والدلالة على عليتها. فلا يكون الأول من
طرق إثبات العلة بعينها أصلا, بل هو من طرق إلحاق المسكوت عنه
بالمنطوق. قاله الأصفهاني في "شرح المحصول".
الثاني : ذكر بعض الجدليين أن تنقيح المناط لا يكون من قبيل
المؤثر, لأن الظاهر لا يستقر بالدلالة على كونه علة, بل ينضم
إليه دليل الحذف. والصحيح أنه من قبيل المؤثر. واختاره الشريف
في جدله, لأن دليل الحذف إنما أفادنا كون الحذف غير مراد, فأما
كون الباقي مرادا فإنما استفدناه من الظاهر فكان مؤثرا إلا أنه
دون المؤثر في الرتبة.
الثالث : أن الإمام فخر الدين زعم أن هذا المسلك هو مسلك السبر
والتقسيم, فلا يحسن عده نوعا آخر, وليس كما قال, بل الفرق
بينهما أن الحصر في دلالة السبر لتعيين العلة إما استقلالا أو
اعتبارا. وفي نفي الفارق لتعيين الفارق وإبطاله, لا لتعيين
العلة, بل هو نقيض قياس العلة, لأن القياس هناك عين جامعا بين
الفرع والأصل, وعين هنا الفارق بينهما.
تنبيه : عد صاحب "المقترح "من المسالك "نفي الفارق" بأن يبين
أن الفرع لم يفارق الأصل إلا فيما لا يؤثر, فيلزم اشتراكهما في
المؤثر, كالسراية في الأمة, قياسا على العبد. وهو عجيب, فإنه
لا يدل على أن الوصف المعين علة, وإنما يدل على أن علة الأصل
من حيث الجملة متحققة في الفرع من غير تعيين, ولهذا لم يعده
أحد من الجدليين من مسالك التعليل. وهو قريب من "السبر", إلا
أنه في السبر يبطل الجمع إلا واحدا. وفي نفي الفارق يبطل واحد
فتتعين العلة بين الباقي, والباقي موجود في الفرع, فيلزم
اشتماله على العلة ثم على أصله. ولا بد فيه من تفصيل: فإن كانت
مقدماته قطعية فهو صحيح, أو ظنية لم يصح, لأن القطع بتحقيق
المناط في الفرع لم يحصل, وهو شرط عنده.
(4/229)
وعد الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني من طرق
العلة أن لا يجد الدليل على عدم علية الوصف, فقال: ليس على
القائس إذا لم يجد شيئا مما قدمناه إلا أن يعرض العلة التي
استنبطها على مبطلات التعليل, فإن لم يجد قادحا, وعرضها على
أصول الشريعة فلم يجد فيها ما ينافي علته, فيحكم بسلامة العلة
حينئذ. وأطنب القاضي أبو بكر في تغليطه, وقال: هذا باطل لا أصل
له, وقصاراه الاكتفاء بدعوى مجردة, والاكتفاء على صحة العلة
بعدم الدليل على فسادها, فلم ينكر على القائل أنها تفسد بعدم
الدلالة على صحتها. فإن قال: عدم دلالة الفساد دلالة صحتها,
قيل: عدم الدلالة على صحتها دلالة على فسادها. فتقابل القولان
وتجدد دعوى الخصم.
وقد عد بعضهم من طرق العلة أن يقال: هذا الوصف على تقدير عدم
عليته لا يأتي معه ذلك, فوجب أن يكون علة ليمكن الإتيان معه
بالمأمور به, وهو دور, لأن تأتي القياس يتوقف على ثبوت العلة,
فلو أثبتنا العلة به لتوقف ثبوت العلة عليه ولزم الدور.
(4/230)
|