البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الاعتراضات: الأول: النقض
...
الاعتراضات
اعلم أن كل ما يورده المعترض على كلام المستدل يسمى "اعتراضا" لأنه اعترض لكلامه ومنعه من الجريان. قال صاحب "خلاصة المآخذ": الاعتراض عبارة عن معنى لازمه, [هدم] قاعدة المستدل, وهو جامع مانع. ثم حصره في عشرة أنواع: وقال: ما عداه داخل فيه: فساد الوضع, فساد الاعتبار, عدم التأثير, القول بالموجب, النقض, القلب, المنع, التقسيم, المطالبة, المعارضة. قال: والكل مختلف فيه إلا المنع والمطالبة, مع أن فيه خلافا شاذا, وخالف في المنع غير واحد من الأئمة, وهو الشيخ أبو إسحاق العنبري, على حسب ما سمعته من القاضي الإمام فخر الدين أحمد الخطابي. انتهى.
وتنقسم في الأصل إلى ثلاثة أقسام: مطالبات, وقوادح, ومعارضة, لأنه إما أن يتضمن تسليم مقدمات الدليل أو لا, والأول: المعارضة, والثاني: إما أن يكون جوابه ذلك الدليل أو لا, والأول المطالبة, والثاني القادح.
وقد أطنب الجدليون فيها, لاعتمادهم إياها. ومنهم من أنهاها إلى الثلاثين, وغالبها يتداخل. وأعرض الغزالي وغيره عن ذكرها في أصول الفقه وزعم أنها كالعلاوة عليه, وأن موضع ذكرها علم الجدل. وذكرها جمهور الأصوليين لأنها من مكملات القياس الذي هو من أصول الفقه, ومكمل الشيء من ذلك الشيء, ولهذه الشبهة أكثر قوم من ذكر المنطق والعربية والأحكام الكلامية, لأنها من مواده ومكملاته.
واعلم أنه ليس المراد من ورودها على القياس أنها ترد على كل قياس, لأن من الأقيسة ما لا يرد عليه بعضها, كالقياس مع عدم النص والإجماع, لا يتجه عليه فساد الاعتبار إلا من ظاهري ونحوه ممن ينكر القياس, واللفظ البين لا يرد عليه الاستفسار, وعلى هذا يمكن تخلف كل واحد من الأسئلة على البدل عن بعض الأقيسة. وإنما المراد أن المسألة الواردة على القياس لا تخرج عن هذه الطرق. ونظير هذا قول أهل التصريف: إن حروف الزيادة هي سألتمونيها, على معنى أن الحروف الزائدة على أصول مواد الكلمة لا تزيد على هذه, لا أن هذه الحروف حيث وقعت كانت زائدة, لأن كثيرا منها وقع أصولا, فاعرفه وما ذكرناه من انقسامها إلى ثلاثة أقسام, ذكره المتقدمون, وقال المتأخرون: ترجع إلى اثنين: المنع, والمعارضة, لأنه

(4/231)


متى حصل الجواب عن المنع والمعارضة تم الدليل ولم يبق للمعترض مجال. فإن قيل: القول برجوعها إلى المنع والمعارضة ممنوع, لأن المعارضة من جملة الاعتراضات, فيؤدي إلى انقسام الشيء إلى نفسه وإلى غيره, وإلى أن الشيء يكون داخلا تحت نفسه ضرورة لزوم اندراج المعارضة تحت المعارضة.
قلنا: إذا كان المنقسم إلى هذه الأقسام هو مطلق المعارضة ومطلق المنع لا يلزم ذلك, لأن الأعم لا يستلزم الأخص.
الأول النقض
وقدمناه وإن كان من آخر الأسئلة لكثرة جريانه في المناظرات, وبالجواب عنه يبين الجمع بين الأحكام المتضادة ويندفع تعارضها وهو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة. فإن كان في المناظرة اشترط في صحته اعتراف المستدل بذلك. وتسميته نقضا صحيح عند من رآه قادحا. وأما من لم يره قدحا فلا يسميه نقضا بل يقول بتخصيص العلة. وقد بالغ أبو زيد في الرد على من يسميه نقضا, كقولنا فيمن لم يبيت النية: صوم تعرى أوله عن النية فلا يصح, فيقال: فينتقض بصوم التطوع.
واعلم أولا أن العلة إما منصوصة قطعا أو ظنا أو مستنبطة وتخلف الحكم عنها إما لمانع أو فوات شرط أو دونهما. فصارت الصور تسعا, من ضرب ثلاثة في ثلاثة وقد اختلفوا فيه على بضعة عشر مذهبا: طرفان, والباقي أوساط.
أحدها : أنه يقدح في الوصف المدعى عليته مطلقا, سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة, وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع وهو مذهب المتكلمين منهم الأستاذ أبو إسحاق كما حكاه إمام الحرمين. وهو اختيار أبي الحسين البصري والإمام الرازي, وعليه أكثر أصحابنا, ونسبوه إلى الشافعي, ورجحوا أنه مذهب الشافعي على غيره, لأن علله سليمة عن الانتقاض جارية على مقتضاها, وأن النقض يشبه تجريح البينة المعدلة, واختاره القاضيان أبو بكر وعبد الوهاب من المالكية.
والثاني : لا يقدح مطلقا في كونها علة فيما وراء محل النقض, ويتعين تقدير مانع أو تخلف شرط. وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد. وقال الباجي: حكاه القاضي والشافعية عن أصحاب مالك ولم أر أحدا من أصحابنا أقر به ولا نصره. ووجهه أن العلة بالنسبة إلى محالها ومواردها كالعموم اللفظي بالنسبة إلى موضوعاتها, فكما جاز تخصيص العموم اللفظي وإخراج بعض ما تناوله فكذلك في العلة, وفرق الأولون

(4/232)


بينه وبين العام بأن العلة مستلزمة للمعلول, إذ هو معناها, فإذا انتفى الاستلزام فقد انتفى لازم العلة فتنتفي العلية. وهذا مفارق العام, لأن العام إما أن ينظر فيه إلى الدلالة الوضعية وتلك لا تنتفي بالتخصيص, وإما أن ينظر فيه إلى الإرادة للباقي.
والثالث : لا يقدح في المنصوصة, ويقدح في المستنبطة. واختاره القرطبي, وحكاه إمام الحرمين عن المعظم فقال: ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة. ثم قال: مسألة: علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها؟ ذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع, لأنه لا يعرض له في التخصيص بخلاف المستنبطة, فإن مستنده ظني. وإذا تباعد ما استنبطه عن الجريان ضعفت مسالك ظنه, وليس له أن يحكم بتخصيص العلة. وقال في المحصول: زعم الأكثرون أن علية الوصف إذا ثبتت بالنص لم يقدح التخصيص في عليته. والمراد بالمنصوصة عند هؤلاء أن تكون منصوصة بالصريح أو بالإيماء أو بالإجماع, كما نقله صاحب "التنقيح" وحكى بعض المناظرين قولا أنه لا يقدح في المنصوصة بنص قطعي ويقدح فيما عدا ذلك.
والرابع : يبطل المنصوصة دون المستنبطة, عكس ما قبله. حكاه ابن رحال في "شرح المقترح", وينبغي حمله على المنصوصة بغير قطعي.
والخامس : لا يقدح في المستنبطة إذا كان لمانع أو شرط, ويقدح في المنصوصة حكاه ابن الحاجب. وقد أنكروه عليه وقالوا: لعله فهم من كلام الآمدي, وعند التأمل يندفع من كلامه وقد حكاه ابن رحال أيضا في "شرح المقترح".
والسادس : لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا, سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة. فإن لم يكن مانع قدح. واختاره البيضاوي والهندي. وفقد الشرط ملحق بالمانع.
والسابع : يجوز في المستنبطة في صورتين ولا يقدح فيهما, وهما ما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط, ولا يجوز في صورة واحدة ويقدح فيها, وهي ما إذا كان التخلف دونهما. وأما المنصوصة فإن كان النص ظنيا وقدر مانع أو فوات شرط جاز. وإن كان قطعيا لم يجز, أي لم يمكن وقوعه, لأن الحكم لو تخلف لتخلف الدليل, وهو لا يمكن أن يكون قطعيا, لاستحالة تعارض القطعيين إلا أن يكون أحدهما ناسخا لا ظنيا, لأن الظني لا يعارض القطعي. وهذا اختيار ابن الحاجب, وهو قريب من تفصيل الآمدي. وحاصله أنه لا يقدح في المنصوصة إلا بظاهر عام, ولا في المستنبطة إلا لمانع أو فقد شرط, والمنع ظاهر في النص القطعي إذا لم يكن مانع ولا فوات شرط,

(4/233)


فإن كان فلا وجه للمنع إذا كان ذلك المانع أو الشرط عليه دليل, لأنه حينئذ يكون مخصصا للنص القطعي إلا أن يقدروا أن دلالة النص على جميع أفراده قطعية, لأنه حينئذ لا يمكن التخلف.
والثامن : حكاه القاضي عن بعض المعتزلة, أنه يجوز تخصيص علة الحل والوجوب ونحوها مما لا يكون حظرا "قال": وحملهم على ذلك قولهم: لا تصح التوبة عن قبيح مع الإصرار على قبيح, ويصح الإقدام على عبادة مع ترك أخرى.
والتاسع : إن انتقضت على أصل من نصب عليته لم يلزمه بها الحكم, وإن اطردت على أصل من أوردها ألزم حكاه الأستاذ أبو إسحاق عن بعض المتأخرين "قال": وهو حشو من الكلام لولا أنه أودع كتابا مستعملا لكان تركه أولى.
والعاشر : أنه يمنع المستدل من الاستدلال بالمنقوض, ولا يدل على فساده, لأن الدليل قد يكون صحيحا وينقضه المستدل به على نفسه, ولا يكون انتقاضه على أصله دليلا على فساد دليله في نفسه. حكاه الأستاذ أبو منصور.
والحادي عشر: إن كانت العلة مؤثرة لم يرد النقض عليها, لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه. ومثله لا ينقض, وإنما تجيء المناقضة على الطرد. حكاه ابن السمعاني عن أبي زيد, ورده بأن النقض يثير فقد تأثير العلة.
والثاني عشر: وهو اختيار إمام الحرمين: إن كانت العلة مستنبطة, فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته, لكون المذكور أولا جزءا من العلة وليست علة تامة. وإن لم يتجه فرق بينهما, فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا فإنه مناقض بها وتارك للوفاء بحكم العلة. وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهو موضع التوقف, فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علية العلل تعللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها تقصير, وهي آكد في الإبطال من المعارضة, فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها.
هذا رأيه في المستنبطة. وحاصله أن النقض قادح فيما إذا لم يقدح فرق, أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه, أو لم يكن ثابتا بقطعي, أو كان ثابتا بإجماع وفي محل النقض يعني تعارض العلة التي ذكرها المستدل ومنعها من الجريان. وإن لم يكن كذلك فالتوقف. وقال ابن عطاء الله في "مختصر البرهان": الصواب في هذا أن ينظر: فإن كانت العلة المعارضة لعلة المعلل في الصورة المناقضة أقوى في المناسبة لم تبطل علته,

(4/234)


لأن تخلف الحكم لعارض راجح. وإن كانت أدنى بطلت, وإن تساوتا فالوقف "انتهى".
وأما المنصوصة فإن كانت بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل بأن ظهر ذلك من مقتضى لفظه, فتخصيص الظاهر وإن كان بنص لا يقبل التأويل فإن عم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص فلا مطمع في تخصيصها, لقيام القطع على العلية وجريانها على اطراد, ونص الشارع لا يصادم, وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة فلا يمنع من ذلك.
وقال إلكيا: ميل الإمام إلى أنه إن كان لا يتجه في صورة النقض معنى أمكن تقدير مشابهة محل النزاع إياها في ذلك المعنى فلا يعد نقضا, فإن منشأ النقض عنده أن يبين كون محل النزاع نازعا إلى أصلين متنافيين وليس أحدهما بأولى من الآخر. فإنه إذا كانت شهادة الأصل متأيدة بالمعنى فلا شهادة بصورة النقض من حيث لا مشابهة فاعتبار وجه الشهادة أولى. قال إلكيا: وهذا حسن بين, فلو كان يتجه معه ولو على بعد فإن ذلك يعد نقضا. وحاصله أن النقض لا يبطل أصل الدلالة ولكن يقدح في ثبوتها فلا يتبين به انعدامه. قال إلكيا: والذي عندنا أن ما لا يبين به معين ولا يتأتى فيه وجه تشبيه فهو لا ينفك عن ظهور استثناء في مقصود الشرع. هذا في العلل المخيلة, أما الأشباه فستأتي مراتبها. ثم قال: والحاصل أن شهادة العلة إن ترجحت قطعا على شهادة صورة النقض لمحل النزاع فلا نقض به. فعلى هذا النقض ليس أصلا بنفسه ولكن هو من قبيل المعارضة, وفيها مزيد قوة لما تقدم.
والثالث عشر: وهو اختيار الغزالي فقال: تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور:
إحداها : أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها, وهو ينقسم إلى: ما يظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استيفاء قاعدة القياس, فلا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى, فيكون علة في غير محل الاستثناء, ولا فرق بين أن يرد على علة مقطوعة, كإيجاب صاع من التمر في المصراة وضرب الدية على العاقلة, أو مظنونة, كالعرايا, فإنها لا تقتضي التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا. ودليل كونه يستثنى أنه يرد على كل علة, كالكيل وغيره.
وأما إذا لم يرد مورد الاستثناء فإن كانت منصوصة قدح, لأنه تبين بعد النقض أن النص إنما فيه بعض العلة وجزؤها, فإن قيده في العلة تمت, كقولنا: خارج

(4/235)


فتنتقض الطهارة, أخذا من قوله: "الوضوء مما خرج"1 ثم بان أنه لم يتوضأ عن الحجامة, فيعلم أن العلة بتمامها لم تذكر في الحديث وأن العلة إنما هي الخارج من السبيلين فكان مطلق الخروج بعض العلة. وإن لم يكن كذلك وجب تأويل التعليل وأنه غير مراد, لقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ثم علل ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ومعلوم أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب فتكون العلة منصوصة ولا يقال: إنه علة في حقهم خاصة لأنه يعد تهافتا في الكلام, فثبت أن الحكم المعلل بذلك ليس هو التخريب المذكور, بل هو لازمه أو جزؤه الأعم, وهو كونه عذابا, ولا شك أن كل من يشاقق الله ورسوله فإنه يعذب بخراب البيت أو بغيره.
وإن كانت العلة مستنبطة فإن انقدح جواب عن محل النقض تبين أن ما ذكرناه ليس تمام العلة. وإن لم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأن يكون معرفا لتخصيصها, فهذا يجب الاحتراز عنه بينهم في الجدل للمناظر. وأما المجتهد المناظر فيحتمل إلحاقه به, فيجب عليه اعتقاد فسادها, ويحتمل أن يعتقد استناده رخصة.
الثانية : أن تنتفي العلة, لا لخلل في نفسها, لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى, فهذا لا يرد نقضا لأن الحكم حاصل فيه تقديرا. كقولنا: إن علة رق الولد ملك الأم ثم وجدنا المغرور بحرية أمه ينعقد ولده حرا, فقد وجد رق الأم وانتفى رق الولد. لكن عارضته علة أخرى وهي وجوب الغرم على المغرور, ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لم تجب قيمة الولد. الثالثة: أن يميل النقض عن صوب جريان العلة ويتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها وشرطها وأهلها. كقولنا: السرقة علة القطع, وقد وجدت في حق النباش, فينتقض بسرقة الصبي ونحوه, أو دون النصاب, أو من غير حرز. فهذا لا يلتفت إليه المجتهد, لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها, فهو مائل عن صوب نظره. أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أم يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر, وليس البحث عن المحل والشرط. واختلف فيه الجدليون, والخطب فيه سهل, وتكليف الاحتراز جمع لنشر
ـــــــ
1 هذا الأثر عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما رواه البيهقي في سننه "1/116" "1/157" وقال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت.

(4/236)


الكلام, وهو تفصيل حسن.
وقسم ابن القطان النقض إلى أربعة أقسام:
أحدها : أن تكون العلة منتقضة على أصل السائل والمسئول, فلا خلاف أنه ليس للسائل أن يسأل عنها, لأنهما قد اتفقا على إبطالها.
ثانيها : أن تكون صحيحة على أصلهما جميعا, فلا خلاف أنه يلزم المسئول المصير إليها, إلا أن يدفعها بوجه من وجوه الإبطال. كقول العراقي يسأل الشافعي عن المتكلم في الصلاة ساهيا فقال: لم تبطل صلاته قياسا على من وطئ في حجه ناسيا. لأنا قد اتفقنا على بطلانه, لأنه لو تعمد بطل. فللشافعي أن يقول: هذا لا يلزم, لأنه لا يصح على أصلي, لأن من أصلي أن من وطئ في صومه وأكل ناسيا لم يبطل. ولو وطئ عامدا يبطل. وليس المقصود غير هذه العلة. فإن قال السائل: إني ألزمتك هذا لتقول به في كل فروعك, فللمسئول أن يقول: لا يلزمني - لأن من شرط السائل أن يسلم للمسئول أصوله كلها ما خلا المسألة المختلف فيها.
وثالثها : أن تكون العلة جارية على أصل المسئول منتقضة على أصل السائل, كالعراقي يسأل الشافعي عن الحائض إذا انقطع دمها هل يجوز للزوج أن يقربها؟ فقال: لا. فقال له السائل: لم قلت بالجواز؟ ويكون دليل ذلك أنا قد اتفقنا على أن يجوز لزوجها أن يقربها, وكان المعنى في ذلك جواز الصوم لها, وكل من جاز له الصوم جاز له القربان. فللشافعي أن يقول: لا يلزم, لأن هذه العلة وإن كانت جارية على أصلي فهي باطلة على أصلك فلا يجوز لك إلزامها. وذلك أن دمها لو انقطع دون العشر عندك لجاز لها أن تصوم ولم يجز لزوجها أن يقربها. وقال القاضي أبو الطيب الطبري: لا يجوز للمسئول أن ينقض علة السائل بأصل نفسه, وأجازه بعض الحنفية, وكان الجرجاني منهم يستعمله. وذكره في تصنيفه المسمى ب "التهذيب", قال القاضي: وسألت القاضي أبا بكر الأشعري عن ذلك فقال: له وجه في الاحتمال, مثل أن يقول: مهر المثل يتنصف بالطلاق قبل الدخول, لأنه يستقر بالدخول, فوجب أن يتنصف بالطلاق قبله أصله المسمى في العقد, فيقول المسئول من أصحاب أبي حنيفة: هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد, فإنه يستقر بالوطء ولا يتنصف بالطلاق قبله وإنما يسقط جميعه كما يسقط جميع مهر المثل. أو يقول المخالف: لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى, لأنه لا نفقة لها, قياسا على المعتدة من وطء الشبهة, فيقول الشافعي: هذا ينتقض بالمطلقة البائن الحائل, فإنه لا نفقة لها ويجب السكنى.

(4/237)


تنبيهات:
الأول: كما يجري الخلاف في العلل الشرعية فكذلك يجري في العلل العقلية, وأنه يتخلف عنها معلولها, فأجازه الفلاسفة ومنعه المتكلمون. حكاه ابن دقيق العيد رحمه الله. لكن الأستاذ حكى إجماع الجدليين على أن الدليل العقلي لا يخصص, وعلى أن تخصيصه نقض له, وعلى أن نقضه يمنع عن التعلق به, ولذا قال ابن فورك: العلل العقلية لا يجوز تخصيصها بلا خلاف.
الثاني : أن هذه المسألة من فروع القول بتخصيص العلة, فإن جوزنا تخصيصها لم يتجه القدح بالنقض, وإلا اتجه.
الثالث : ادعى إمام الحرمين في "البرهان "أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا معنوي, وهو ظاهر كلام ابن الحاجب والبيضاوي أيضا, وكذلك الغزالي. وأنه يلتفت إلى تفسير العلة بماذا؟ إن فسرت بالموجبة فلا تتصور عليتها مع الانتقاض, أو المعرفة فتصورت وليس كذلك فليس الخلاف بلفظي. وله فوائد: "إحداها" جواز التعليل بعلتين أم لا "الثانية" أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه إلى نص الشارع على التعليل به. وإن أومئ إليه تبين أن ذلك لم يكن إيماء إلى التعليل لورود التخصيص. والمجوز للتخصيص يقول: يبقى ذلك علة في محله. ذكرها الغزالي في "المنخول", "الثالثة": انقطاع المستدل, إن قلنا: يقدح, وعدم انقطاعه إن منعناه.
الرابع : هل يسمع من الجدلي قولنا: أردت بالعموم الخصوص أو لا؟ فالقائلون بتخصيص العلة يسمعونه, والمانعون لا يسمعونه. وقد نقل إمام الحرمين في "تدريسه في أصول الفقه "علقه عنه بعض تلامذته, أن الأستاذ أبا إسحاق قال: إطلاق اللفظ العام والمراد به البعض سائغ. وأما المعلل بلفظ عام فلا يقبل منه إذا نقض عليه كلامه وقال: إنما أردت كذا, إذ لو جوزنا ذلك لما تصور إبطال علة أصلا. والفرق أن الواحد منا إنما يخاطب ليفهم صاحبه ويفهم عنه, وصاحب الشرع له أن يبين ويؤخر البيان إلى وقت الحاجة ويخاطب بمحتمل, ولا يجوز لواحد منا أن يعلل العلة مجملة ويفسرها. "قال": ومن العلماء من جوز ذلك "قال": ومجوزه لا يميز. انتهى.
وهذا الذي نقله عن الأستاذ قد يستشكل بما حكاه في "البرهان "عن الأستاذ أيضا أنه قال في علة الشارع: يجب اطرادها ولا يجوز أن يرد عليها ما يخالف طردها.

(4/238)


وقد يجاب بأن ورودها في كلام الشارع يبين أنه لم يرد محل النقض وأنه إنما جعلها علة فيما وراءه, وذلك مقبول منه, بخلاف غيره فإنه لا يسمع منه قوله بعد الإطلاق: إنما أردت أنها علة فيما وراء ذلك المخرج. والحق أنه لا يسمع لأنه كالدعوى بعد الإقرار.
وقال صاحب المحصول: قولهم: إن الخلاف لفظي مردود, لأنه إذا فسرنا العلة بالداعي أو بالموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة, بل كاشفا عن حدوث العلة, ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك. وإن فسرنا بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى, لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي, فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها.
ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد. وما ذكروا من تكرر وجود الغيم ولا مطر مع أن كونها أمارة لم يزل, قد رده ابن السمعاني فقال: الأمارة وإن لم تزل إلا أنه لا بد أن تضعف, ولا بد في الأمارة من توفر القوة من كل وجه, لأن هذا ظن يثير حكما شرعيا, فلا بد من بلوغه نهاية القوة, وأن لا يتوهم قوة من الظن وراء قوته حتى يعلق به الحكم الشرعي, وذلك لوجود الاطراد حتى لا تتخلف هذه الأمارة في موضع ما, فإذا تخلفت لم تتوفر القوة من كل وجه "قال": وهذا جواب حسن اعتمدته, وهو محل الاعتماد.
الخامس : إذا ذكر علة فنقض عليه بما خص به النبي صلى الله عليه وسلم, فهل يلزم ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق. أحدهما: لا, لأن المخصوص في حكم المنسوخ فلا تنقض العلة به. والثاني: نعم, لأن نقض العلة بحكم في الشرع, فأشبه النقض بما لا يخص به.

(4/239)


فصل
إذا فرعنا على أن التخلف لا يقدح في العلية فواضح, وطريقه في الدفع أن يبين أن صورة النقض مستثناة بالنص أو بالإجماع, أو يظهر المعلل مانعا من ثبوت الحكم في صورة النقض, كما لو قال: يجب القصاص في المثقل قياسا على المحدد, فإن نقض بقتل الوالد فإن الوصف فيه مع تخلف الحكم, قلنا: تخلف لمانع, وهو أن الوالد سبب لوجود الولد, فلا يكون سببا لانعدامه. وإن فرعنا على أنه يقدح فلا بد من منعه, وله طرق:
أحدها: - منع وجود العلة بتمامها في صورة النقض, لا عنادا, بل بناء على وجود قيد مناسب أو مؤثر في العلة, وهو غير حاصل في صورة النقض, كقولنا: طهارة عن حدث فشرط فيها النية, كالتيمم. فإن نقض بالطهارة عن النجاسة, قلنا: ليس الحدث كالنجاسة. وقولنا فيمن لم ينو في رمضان ليلا: تعرى أول صومه عن النية فلا يصح. فإن نقض بالتطوع قلنا: العلة عدا أول الصوم الواجب لا مطلق الصوم.
وقال القاضي عبد الوهاب: سألت بعض شيوخ الشافعية عن الترتيب في الوضوء, فقال: لأنها عبادة ترجع إلى شطرها لعذر فكان الترتيب من شرطها. أصله الصلاة. فينقضه بغسل الجنابة, فقال: إنما عللت لإلحاق أحد النوعين بالآخر, وهو نوع طهارة الحدث بنوع الصلاة في أنه يجب أن يكون في طهارة فيها ترتيب واجب. فأما تعيين الموضع الذي يجب فيه فلم أقصد.
واعلم أنه إذا قال المعترض: ما ذكرت من العلة منقوض بكذا فللمستدل أن يقول: لا نسلم, ويطالبه بالدليل على وجودها في محل النقض. وهذه المطالبة ممنوعة بالاتفاق. ثم بعد ذلك إما أن يكون وجودها في صورة النقض ظاهرا أم لا, فإن كان كقولهم: طهارة تفتقر إلى النية, فإن تحقق الطهارة في إزالة النجاسة معلوم فلا يحتاج إلى دليل يدل على وجود العلة في صورة التخلف. وإن لم يكن كقوله: الطعم علة الربا, فيقول: هو منقوض بالطين أو الماء, فيمنع المعلل وجود الطعم في الماء فهل للمعترض الاستدلال على وجودها؟ قال الأكثرون: لا يمكن ذلك, لأنه انتقال من مسألة قبل تمامها إلى أخرى, لأنه انتقل من دعوى وجود العلة في صورة النقض إلى دعوى وجود الدليل على ذلك, ولأن فيه قلب القاعدة, إذ يصير المعترض مستدلا

(4/240)


والمستدل معترضا. وقيل: يمكن منه تحقيقا للنقض.
وقال الآمدي: إن تعين طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل وجب قبوله منه, تحقيقا لفائدة المناظرة, وإن أمكنه القدح بطريق آخر فلا يمكن المعترض ما لم تكن العلة حكما شرعيا. كذا حكاه ابن الحاجب. وقال القطب الشيرازي: لم أجده في سواه. وتبعه الشارحون, وهو عجب, فلم يذكر الإمام أبو منصور البروي تلميذ محمد بن يحيى في كتابه "المقترح" غيره, وفرق بين الشرعي وغيره بنشر الكلام فيه جدا بخلاف غيره, وبأن الأمر فيه قريب.
وجزم القاضي أبو الطيب بالمنع ثم قال: لكن إذا أراد كشفه عن أصل العلل يمكن من ذلك ولم يجز للمعلل منعه. و[أورد] الأصفهاني شارح المحصول القولين الأولين ثم قال: والصواب أنه ليس بانتقال "قال": ويعود مناط الخلاف إلى أن وجود العلة في صورة النقض: هل يشترط فيه استغناؤه عن الدليل أم لا؟ ويلزم القائل بأنه لا يسمع إثبات وجود العلة في صورة النقض بالدليل أن لا يسمع من المعلل إثبات العلة في الفرع بالدليل, فإن قال: أقوله ولا أسمع مثله فهو باطل باتفاق الجدليين, فإنهم اتفقوا على أن ما لا يسمع اقتراحا لا يقوله استدلالا, فلو قال المعترض: ما ذكرت من الدليل على وجود العلة في الفرع دال بعينه على وجودها في محل النقض فهو انتقال من نقض للعلة إلى نقض دليلها فلا يسمع, وبه جزم الآمدي. وقيل: يسمع, لأن نقض دليل العلة نقض العلة نعم لو قال ذلك ابتداء وقال يلزمك إما نقض العلة أو نقض الدليل الدال على وجودها في الفرع كان مسموعا يحتاج المستدل إلى الجواب عنه.
مسألة
قال الأصفهاني: لا يشترط في القيد الدافع للنقض أن يكون مناسبا, بل غير المناسب مقبول مسموع اتفاقا, والمانعون من التعليل بالشبه يوافقون على ذلك. وقال في المحصول: هل يجوز دفع النقض بقيد طردي؟ أما الطاردون فقد جوزوه, وأما منكرو الطرد فمنهم من جوزه, والحق أنه لا يجوز, لأن أحد أجزاء العلة إذا لم يكن مؤثرا لم يكن مجموع العلة مؤثرا, وكذا حكى الخلاف إمام الحرمين في البرهان ثم اختار التفصيل بين أن يكون القيد الطردي يشير إلى مسألة تفارق مسألة النزاع بفقه فلا يجوز نقض العلة, وإلا فلا يفيد الاحتراز عنه "قال": ولو فرض التقييد باسم غير مشعر بفقه ولكن مباينة المسمى به لما عداه مشهور بين النظار, فهل يكون التقييد بمثله

(4/241)


تخصيصا للعلة؟ اختلف فيه الجدليون, والأقرب تصحيحه لأنه اصطلاح.
[الطريق] الثاني: منع تخلف الحكم عن العلة في صورة النقض ويدعي ثبوته فيها. وهو إما تحقيقي مثل: السلم عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل, كالبيع, فإن نقض بالإجارة قلنا: الأجل ليس شرطا لصحة عقد الإجارة وإنما جاء فيها لتقرير المعقود عليه, وهو الانتفاع بالعين. أو تقديري, وهو دافع للنقض على الأظهر, تنزيلا للمقدر منزلة المحقق, كقولنا: رق الأم علة لرق الولد, فيكون هذا الولد رقيقا. فإن نقض بولد المغرور بحرية أمه حيث كان رق الأم موجودا مع انعقاد الولد حرا, قلنا: رق الأم موجود, وتقدير وجوده أنه ينعقد رقيقا ثم يعتق على المغرور, إذ لا قيمة للحر.
قال في المحصول: والتحقيقي دافع للنقض إذا كان الحكم متفقا عليه بين المستدل وخصمه, أو كان مذهبا للمستدل فقط, لأنه إذا لم يف بطرد علته فلأن لا يجب على غيره أولى, فإن كان مذهبا لخصمه فقط لم يتوجه لأن خلافه كخلافه في الصورة المتنازع فيها. ولو منع المستدل تخلف الحكم ففي تمكين المعترض من الاستدلال على عدم الحكم الخلاف السابق في منع وجود العلة في صورة النقض.
وهنا فرع حسن: لو نقض المعترض فقال المستدل المنتصر لمذهب إمام: لا أعرف في هذه المسألة نصا, ولا يلزمني النقض, فهل يدفع بذلك النقض؟ ذكره الشيخ أبو إسحاق في "الملخص في الجدل", ومثله باستدلال الحنفي على القارن أنه إذا قتل صيدا أنه يلزمه جزاءان, لأنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة فلزمه جزاءان, كما لو أحرم بالحج فقتل صيدا, ثم أحرم بالعمرة فقتل صيدا. فقال له: هذا ينتقض بما إذا أحرم المتمتع بالعمرة فجرح صيدا, ثم أحرم بالحج فجرحه ثم مات, فإنه أدخل النقض على إحرام الحج والعمرة ثم لا يلزمه جزاءان. فيقول المخالف: لا أعرف نصا في هذه المسألة.
ثم قال: رأيت القاضي أبا الطيب يقول في مثل هذا: إذا جوزت أن يكون مذهبك على ما ألزمته وجب أن لا يحتج بهذا القياس, قال: وعندي أنه يلزمه النقض, لأنه وإن احتمل ما قاله إلا أن القياس يقتضي أنه يلزمه كفارتان فيعمل به ما لم يمنع مانع, كالعموم قبل ظهور المخصص. انتهى.
وحاصله أن المعلل له أن يلزم بصورة النقض عند الشيخ, وعند القاضي ليس له ذلك مع احتمال أن لا يكون مذهب إمامه, وهو أمر راجع إليه في نفسه, ولا خلاف بينهما أنه لا يكتفي منه بأن يقول: لا أعرف نصا في هذه المسألة.

(4/242)


وذكر القاضي أبو يعلى من الحنابلة جوابين آخرين عن النقض:
أحدهما : أن نفس اللفظ مما يحتمله ليظهر أن المراد غير ما ظنه المعترض فأورد نقضا.
الثاني : أن يبين التسوية بين الفرع والأصل في ذلك الحكم, مثل أن يقول في المسح على العمامة: عضو سقط في التيمم فجاز المسح على حائل كالقدم, فيقول الخصم: هذا ينتقض بغسل الجنابة, فإنه لا يجوز المسح عليه فيها مع أنه يسقط في التيمم, فيقول المستدل: إنما تعذر التسوية بين الفرع والأصل وقد اتفقا في حكم الجنابة. قلت: وينبغي البداءة بما ذكره أولا في ترتيب الأجوبة.
ويزاد جواب "خامس": وهو أن نسلم ورود النقض ونتعذر عنه بإبداء أمر في صورة النقض يصلح استناد انتفاء الحكم إليه, ليبقى دليل ثبوت العلة سليما عن معارض.
مسألة
إذا ألزم النقض فزاد في العلة وصفا, فهل يقبل منه؟ فيه أقوال:
أحدها : نعم, وحكي عن أبي إسحاق المروزي.
والثاني : لا يقبل, وعليه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والباجي. وقال ابن برهان: إنه الصحيح, لأنه يؤدي إلى إسقاط النقض بما شاء.
والثالث : وحكاه أبو علي الطبري في جدله عن بعض أصحابنا - إن كانت الزيادة معهودة بين المناظرين كالجنس المضموم إلى الوصف الآخر في علة الربا وغير ذلك من الأوصاف المعروفة قبل منه. وإن لم تكن معهودة فلا. والفرق أن المعهودة كالمذكورة, فيستغنى عن ذكرها بالعهد فيها. وحكاه ابن برهان والباجي أيضا ثم ضعفاه بأنه لا عهد, واللفظ ظاهر في التعميم. وقال في "المنخول" إذا أراد المعلل وصفا يستقل الحكم بدونه ولكنه رام به درء النقض فقد يطرح إذا لم يبين كونه علة في الأصل.
مسألة
قيل: الفرق بين النقض لا يقبل. قال الشيخ أبو إسحاق: هذا يقوله المتفقهة, وليس بصحيح بل هو مقبول, وإنما شرطه أن يأتي بفرق من جهة اللفظ والمعنى جميعا, كقوله في الإجارة: لا تنفسخ بالموت, لأنه عقد لازم, فلا يبطل بالموت مع

(4/243)


سلامة المعقود عليه. فهذا في الحقيقة فرق بين مسألة النقض وبين موضع الخلاف, وهو صحيح. فأما إذا فرق بينهما من جهة المعنى لم يصح, لأنه بان عدم تعلق الحكم بالعلة, بل بعلة أخرى.
مسألة
القائلون بتخصيص العلة اختلفوا في أنه هل يجب على المستدل ابتداء التعرض لنفي المانع, بأن يذكر قيدا يخرج به محل النقض؟ فيه مذاهب:
أحدها : أنه يلزمه مطلقا, لئلا تنقض العلة.
والثاني : لا يلزمه مطلقا, واختاره ابن الحاجب, ونقله الهندي في النهاية عن الأكثرين. وقال: إنه الحق, كما في سائر المعارض.
والثالث : إن كان سببا, وهو ما يرد على كل علة, كالعرايا, لم يلزمه, وإلا كالتطوع في مسألة تبييت النية لزمه, إذ لا يبقى إلا الدعوى المجردة في خروجه عن القاعدة. واختاره الغزالي في "شفاء العليل" ولم يقف ابن دقيق على هذا المذهب فقال: لو قيل به لم يكن له وجه.
الرابع: إن كان مناظرا وجب الاحتراز عنه مطلقا, وإن كان ناظرا مجتهدا فكذلك, إلا فيما اشتهر من المستثنيات فصار كالمذكورة. وقال في "شفاء العليل": أنه إذا لم يستثن وجب على الناظر. وأما المجتهد فهل ينقطع ظنه عن العلة التي ظنها؟ وهل يجوز أن يبقى الظن مع ورود النقض؟ تردد القاضي في هذا, بناء على القول ببطلان العلة بمثل هذا النقض, هل هو معلوم أو مظنون؟ قال: والمختار عندي: إن قدح الاعتذار عن مسألة النقض بفرق فقهي, فلا شك في انقطاع الظن, وإن لم يقدح عذر ففي انقطاع الظن نظر.
تنبيه :
المراد بالاحتراز عنه ذكره إما في أول الدليل, أو بعد توجه النقض عليه, ولا يعد منقطعا. هذا اصطلاح متأخري الجدليين. وأما المتقدمون منهم فاعتبروه أول الدليل, وقالوا: إن أخذ القيد للنقض في الدليل أولا قبل منه, وإن لم يأخذه أولا وأورده عليه فأخذه قيدا لم يقبل, ويعد منقطعا, وعليه جرى في "المستصفى" وبه تصير المذاهب خمسة, وصاحب المحصول حكى الخلاف في الاحتراز عنه في الدليل قولين ولم يرجح شيئا, ثم حكاه أيضا في الوارد استثناء فقال: وهل يجب الاحتراز عنه في

(4/244)


اللفظ؟ اختلفوا فيه, والأولى الاحتراز. انتهى.
وقال صاحب "المقترح": يضره الاحتراز, لأنه يكون اعترافا منه بأن النقض لا يدل على التعليل. وفيما قاله نظر, لأن غايته أن تعرض لما يلزم, ونبه المعترض على أن النقض لا يرد عليه, وليس فيه ما يدل على اعترافه.
فرع:
ذهب بعضهم إلى أن بطلان العلة بالنقض من القطعيات. قال القاضي: وليس الأمر كذلك عندي, بل هي من المجتهدات. وكل مأمور بما غلب على ظنه. وجعل إمام الحرمين بعضه قطعيا وبعضه ظنيا بناء على تفصيله السابق.
مسألة
قال أبو الحسين في المعتمد, وتبعه في المحصول: اعلم أن نقض العلة أن يوجد في موضع دون حكمها, وحكمها ضربان: مجمل ومفصل, والمجمل ضربان: إثبات ونفي, فالإثبات المجمل لا ينتقض بنفي مفصل, والنفي المجمل ينتقض بإثبات مفصل.
مثال الأول: أن تعليل قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم فيتقاصان كالمسلمين, فينتقض بما إذا قتله خطأ, وذلك أن نفي القصاص بينهما في قتل الخطأ لا يمنع من صدق القول أن بينهما قصاصا. وإذا صدق الفرق بذلك علم أن ثبوت القصاص لم يرتفع, فلم ينتف حكم العلة. ومثال الثاني: أن يقول: لأنهما مكلفان, فلم يثبت بينهما قصاص, فإذا نقض بالمسلمين يثبت بينهما قصاص في قتل العمد انتقضت العلة, لأن ثبوت القصاص بين شخصين في موضع لا يفيد معه القول بأنه لا قصاص بينهما على الإطلاق.
وأما الحكم المفصل فإما أن يكون إثباتا أو نفيا, فالإثبات ينتقض بالنفي المجمل, مثاله أن يقول: موجبان يثبت بينهما جميعا قصاص في قتل العمد, وذلك ينتقض بالحر, لأنه إذا قتل العبد لم يثبت بينهما قصاص, لأن انتفاء القصاص على الإطلاق يزول ثبوته في بعض الصور.
وأما النفي المفصل فلا ينتقض بالإثبات المجمل, كما نقول: فلم يثبت بينهما قصاص في قتل الخطأ, لأنه ينتقض بثبوت القصاص بين المسلمين, لأن ثبوت القصاص في الجملة لا يمنع من انتفائه عنهما في بعض الصور.

(4/245)


الثاني الكسر
وهو عند الأكثرين من الأصوليين والجدليين عبارة عن إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة. ومنهم من فسره بأنه يستدل بعلة على حكم يوجد معنى تلك العلة في موضع آخر, ولا يوجد معها ذلك الحكم.
مثاله أن يكون له ولد, وله ولد, فيهب لولده شيئا ويقول: وهبت له لأنه ولدي, فيقال له: فينكسر عليك بولد ولدك, لأن معنى الولد موجود فيه.
والدليل على أن الاعتراض به صحيح ما رواه البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار فأجاب, ودعي إلى دار أخرى فلم يجب, فقيل له في ذلك فقال: "إن في دار فلان كلبا" فقيل: وفي هذه الدار سنور, فقال: "السنور سبع" 1. وجه الدلالة أنهم ظنوا أن الهرة تكسر المعنى, وهو الاحتياج إليه في البيت كالكلب, فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على اعتراضهم وأجاب بالفرق وهو أن الهرة سبع, أي ليست بنجسة فدل على أن الكلب نجس.
وهو ضربان:
أحدهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاص بوصف عام ثم ينقضه عليه, كقولنا في إثبات صلاة الخوف: صلاة يجب قضاؤها فيجب أداؤها كصلاة الأمن. فيعترض أن كونها صلاة لا أثر لها, لأن الحج كذلك, فلم يبق إلا الوصف العام وهو كونه عبادة, فينكسر بصوم الحائض.
والثاني : أن لا يفعل ذلك, بل يعرض عن ذلك الذي أسقطه بالكلية, ويذكر صورة النقض, كما لو أسقط في المثال قولنا: فيجب أداؤها, إذ ليس كل ما يجب أداؤه يجب قضاؤه بدليل الحائض. قال الشيخ أبو إسحاق: وهذا القسم أكثر وقوعه في الوصف الذي لا يؤثر. وحاصله أن هذا الاعتراض راجع إلى عدم التأثير والنقض, كقولنا في بيع الغائب مثلا: بيع مجهول الصفة عند العقد فلا يصح, كما لو
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "2/327" حديث "8324" ورواه الدارقطني في سننه "1/63" والبيهقي في الكبير "1/251" حديث "1121".

(4/246)


قال: بعتك عبدا. فيقول على الصورة الأولى: خصوص كونه بيعا لا أثر له, لأن المرهون كذلك, فبقي كونه عقدا الذي هو وصف يعمهما, وهو منقوض بالنكاح. وعلى الثانية: لا أثر لكونه بيعا بدليل المرهون, فسقط هذا الجزء ولم يبق إلا مجهولة الصفة. آخره. وهو منقوض بالنكاح.
وأما الآمدي وابن الحاجب فعرفا الكسر بوجود الحكمة المقصودة من شرع الحكم مع تخلف الحكم عنه, فالنقض حينئذ تخلف الحكم عن العلة, والكسر تخلفه عن حكمتها, فهو نقض على معنى العلة دون لفظها, أي الحكمة دون المظنة, بخلاف النقض. كقول الحنفي في العاصي بسفره: مسافر فوجب أن يترخص, كالطائع في سفره. ويتبين وجه مناسبة السفر بما فيه من المشقة فيقال: ما ذكرته من الحكمة, وهي المشقة, منتقضة بمشقة الحمالين وأرباب الصنائع الشاقة في الحضر, ولا رخصة لهم.
ثم ذكرا بعد ذلك النقض المكسور وهو النقض على بعض أوصاف العلة. ثم قالوا: واختلفوا في إبطالهما للعلية. والأكثرون على أنه غير مبطل. وقال ابن الحاجب: إنه المختار. وأما صاحب "المنهاج "فذكر الكسر فقط وعرفه بعدم تأثير أحدي المركب الذي ادعى المستدل عليته ونقض الآخر وهو ظاهر كلامه في المحصول, وعدوه من قوادح العلية. قال الهندي: وهو مردود عند الجماهير إلا إذا بين الخصم إلغاء القيد, ونحن لا نعني بالكسر إلا إذا بين, أما إذا لم يبين فلا خلاف أنه مردود, وأما إذا بين موضع النزاع فالأكثرون على أنه قادح. وقول الآمدي: والأكثرون على أنه غير قادح مردود.
قال الشيخ أبو إسحاق في "التلخيص": اعلم أن الكسر سؤال مليح, والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة. وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به, ويسمونه: النقض من طريق المعنى, والإلزام من طريق الفقه. وأنكره طائفة من الخراسانيين. قلت: وابن الصباغ - وقالوا: لا يبطل العلية: لأنه لا يمكن إلا بأن يغير العلة أو يبدل لفظها بغيره, أو يسقط وصفا من أوصافها. وهذا لا يلزم, لجواز تعلق الحكم بالمعنى المذكور ولا يتعلق بما غيره السائل وبدله, بدليل أن العلة شرعية, وله أن يجعل معنى على صفة علة في حكم صحيح, لأن الكسر نقض, ولا يجعل علة على صفة أخرى, فلا يجوز إلزام أحد الأمرين على الآخر.
قال الشيخ: وهذا غير صحيح, لأن الكسر نقض من حيث المعنى, فهو بمنزلة النقض من طريق اللفظ. وأيضا فإن ما أوجده من المعنى مثل المعنى الذي علل به,

(4/247)


وإذا لم يتعلق بذلك المعنى الموجد دل على عدم تعلقه بالمعنى الذي ذكره. ثم ذكر أنه لا بد في سؤال الكسر من حذف وصف من الأصل, أو إبداله بغيره. كما في مسألة بيع الغائب, فإنه حذف خصوص كونه بيعا وإبداله في النكاح, والنظر في خصوص الأوصاف وحذف ما حذف منها وإبداله موضعه الفقه. وعلى هذا فلا يتوجه السؤال إلا إذا كان المحذوف غير مؤثر, وإلا لم يجز حذفه. وإذا كان الحذف غير مؤثر فالمجموع من حيث هو مجموع غير مؤثر. وإذا حذف وصفا اعتقده غير مؤثر لم يرد النقض إلا على الباقي.
قال ابن برهان: الكسر سؤال صحيح عند العراقيين. وقال الخراسانيون: باطل وقال في "المنخول": قال الجدليون: الكسر يفارق النقض فإنه يرد على إخالة لا على عبارته, والنقض يرد على العبارة "قال": وعندنا لا معنى للكسر, فإن كل عبارة لا إخالة فيها فهي طرد محذوف, والوارد على الإخالة نقض. ولو أورد على أحد الوصفين مع كونهما مخيلين فهو باطل لا يقبل. نعم, تردد القاضي في أن المعلل هل يجوز له الاحتراز عن المسألة المستثناة عن القياس بطرد أم لا؟ قال: ويحتمل أن يقال: لا يحتاج إليه أصلا, فإنه ليس بنقض, ولو فعله استبان به فكان أحسن. ومذهبنا أن العلة منتقضة به, فلا معنى للاحتراز بالطرد.
تنبيهان:
الأول: ذكر الشيخ رحمه الله في "المهذب "فيما لو ماتت الأمهات كلها والفروع زكى بحول الأمهات. وقال الأنماطي: يشترط بقاء نصاب من الأمهات, فلو نقص عن النصاب انقطعت التبعية "قال": وما قاله ينكسر عليه بولد أم الولد, أي فإنه يثبت له حق الحرية, لثبوته للأم, ثم يسقط حق الأم بموتها, ولا يسقط حق الولد, بل يعتق بموت السيد كما كانت الأم تعتق بموته.
وقال الأصحاب في باب القراض: إذا مات المالك انفسخ القراض, فلو أراد الوارث تقرير العقد والباقي ناض جاز قطعا, وإن كان عروضا قال أبو إسحاق المروزي: يجوز, لأنه إنما امتنع القراض في العروض ابتداء, وهذا ليس بابتداء, بل بناء على أصل عند المالك. وقال الجمهور: لا يجوز, لأن القراض الأول بطل بالموت, وما قاله أبو إسحاق ينكسر بما لو دفع مالا قراضا يعمل فيه عامل, وحصل المال عروضا ثم تفاسخا القراض ثم أرادا أن يعقدا القراض لا يجوز بالاتفاق وإن كان مبنيا على ما

(4/248)


سبق.
الثاني : قيل: الخلاف في سؤال الكسر ينبني على الخلاف في القياس في الأسباب, فمن جوزه قبل سؤال الكسر, ومن لم يجوزه لم يسمع الكسر, وذلك لأن المستدل إذا قال: وصف السرقة كان مناسبا لمعنى كذا وهو موجود في النبش, فيكون سببا, فإن بين أنهما اشتركا في خاصة بين النبش والسرقة يفارقها غيرها فيها صح الجميع, وإن لم يذكر خاصة فقال: يبطل بالزنى وقطع الطريق وغير ذلك فإن المعنى الذي وجد في السرقة وجد في قطع الطريق, وهو الحاجة إلى الزجر, ولم ينتهض سببا لمثل حكم السرقة, فيحتاج المستدل أن يذكر بين النبش والسرقة خاصة تجمعهما, فكأن صحة الكسر موضوعة على صحة القياس في الأسباب, فكل من لم يجوز ذلك يلزمه أن لا يصحح الكسر ولا طريق لتصحيح الكسر إلا بما ذكرنا, وكل من لم يبن صحة الكسر على هذا الطريق لم يعرف حقيقته.

(4/249)


فصل
جواب الكسر نحو ما سبق من الأجوبة في النقض, لأنه نقض في المعنى. قيل إلا أن منع وجود العلة هنا أظهر منه في النقض, لأن الحكمة قد تتفاوت, فقد لا يحصل ما هو مناط الحكم منه في الأصل والفرع, ومنع انتقال الحكم هاهنا, فاندفع بوجه آخر, وهو أنه لم لا يجوز أن يثبت حكم هو أولى بالحكمة.
وقال الشيخ أبو إسحاق رحمه الله: الجواب المعتمد في الكسر الفرق من طريق المعنى على وجه الدفع, ولا يكفي رده بأن في الأصل ما يوافق هذه المسألة, وأنت لا تقول به فلا يلزمني, كما في النقض, ولا يكفي الفرق بعد لزوم الكسر بما لا يدفع عن العلة, وهو الفرق مع وجود المعنى الذي علل به, كما لو فرق بعد النقض من طريق اللفظ.

(4/250)


الثالث - عدم العكس
وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى بعلة أخرى, كاستدلال الحنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: صلاة لا تقصر فلا يجوز تقديم أذانها على وقتها, كالمغرب, فنقول: هذا الوصف لا ينعكس, لأن الحكم الذي هو منع تقديم الأذان على الوقت موجود فيما قصر من الصلوات بعلة أخرى.
وعد هذا من القوادح مبني على مسألتين:
إحداهما : أن العكس هل هو شرط في العلة؟ وفيه خلاف سبق.
والثانية : امتناع تعليل الحكم الواحد بالنوع بعلتين, لأن النوع باق فيه. فإن جوزناه - وهو المختار - لم يقدح, فإن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضا. قال إمام الحرمين: إذا قلنا: إن اجتماع العلل على معلول واحد غير واقع أي كما هو اختياره فالعكس لازم ما لم يثبت الحكم عند انتفاء العلة بتوقيف. لكن لا يلزم المستدل بيانه. بخلاف ما ألزمناه مثله في النقض, لأن ذاك داع إلى الانتشار. وسببه أن إشعار النفي بالنفي منحط عن إشعار الثبوت بالثبوت, ولهذا لو فرضنا عللا لكان إشعار كل واحدة بنفي الحكم كإشعار جزء العلة بالحكم, لا كإشعار العلة المستقلة به, وزوالها لزوال الترجيح. والذي أبطل العلة إذا امتنع الطرد بتوقيف لا يبطلها إذا امتنع العكس

(4/250)


بتوقيف, فليتلمح الطالب تفاوت المراتب, وقال الآمدي: لا يرد سؤال العكس إلا أن يتفق المناظران على اتحاد العلة.

(4/251)


الرابع - عدم التأثير
قال ابن الصباغ: وهو من أصح ما يعترض به على العلة, وهو عدم إفادة الوصف أثره, بأن يكون غير مناسب, فيبقى الحكم بدونه. ومن ثم اختص بقياس المعنى, وبالعلة المستنبطة المختلف فيها. ولا بد من التزام عدم الحكم عند عدم العلة, وهو معنى قول الفقهاء: إن الحكم إذا تعلق بعلة زال بزوالها, ولهذا التزموا الطرد والعكس في باب الربا, بأن حكم الربا لا يثبت اتفاقا دون علة الربا وقد استعمله الشافعي في مباحثة له مع محمد بن الحسن, كما سيأتي.
قال إلكيا: وعلى هذا فلا معنى لقولهم: إن العلل الشرعية أمارات منصوبة على الحكم, ومن أثبت علامة على حكم فليس له أن ينصب ضدها, فإنا بينا أن الحكم إذا تعلق بعلة وثبت بها فذلك الحكم الذي صار نتيجة العلة لا يبقى دون العلة, فإن النتيجة لا تبقى دون الناتج.
وقال ابن السمعاني: ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم التأثير ولست أرى له وجها بعد أن يبين المعلل التأثير لعلته. وقد ذكرنا أن العلة الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها بالتأثير. وقد ذكر مشايخ أصحابنا في سؤال عدم التأثير وتصحيحه كلاما طويلا وعدوه سؤالا قويا, وقالوا: إذا أورد السائل هذا السؤال فينبغي أن ينظر المعلل, فإن وجد له تأثيرا في طرد العلة والمأخوذ على الطرد والعكس, وعلل الشارع شرطها الاطراد دون الانعكاس, بل إذا كانت مطردة منعكسة ترجح صحة العلة.
وقد قسم أهل النظر عدم التأثير إلى أقسام:
أحدها : عدم التأثير في الوصف بكونه طرديا, وهو راجع إلى عدم العكس السابق, كقولنا: صلاة الصبح لا تقصر فلا تقدم على وقتها, كالمغرب. فقوله: "لا تقصر" وصف طردي بالنسبة إلى وصف التقديم, وحاصله يرجع إلى طلب المناسبة.
وقد تناظر الشافعي رضي الله عنه مع محمد بن الحسن في مسألة نكاح المرأة في عدة نكاح أختها البائنة, فإن محمدا قال: النكاح كان محرما وقد زال النكاح ولم يبق تحريم, فسلم الشافعي أن الذي بقي من العلة غير النكاح ولم ير العدة علقة من علائق النكاح, لكنه قال: يثبت التحريم بعلة أخرى وهي توقع جمع الماء في رحم أختين. فقال

(4/251)


الشافعي رحمه الله: إن صح ذلك فإذا خلاها وطلقها وشرعت في العدة فهلا جاز نكاح أختها, إذ لا جمع في الماء, وليس هذا من قبيل العكس المردود, فلا يتجه أن يقال في غير الممسوسة: معللة بعلة أخرى, إذ التحريم إنما يتعلق بالنكاح أو الجمع, ولا ثالث, فلا يبقى بعدها إلا صورة العدة, ولا نظر إليها.
الثاني : عدم التأثير في الأصل بكونه مستغنى عنه في الأصل, لوجود معنى آخر مستقل بالغرض. كقولنا في بيع الغائب: مبيع غير مرئي فلا يصح, كالطير في الهواء. فنقول: لا أثر لكونه غير مرئي, فإن العجز عن التسليم كاف, لأن بيع الطير لا يصح إن كان مرئيا. وحاصله معارضة في الأصل, لأن المعترض يلغي من العلة وصفا ثم يعارض المستدل بما بقي.
قال إمام الحرمين: والذي صار إليه المحققون فساد العلة لما ذكرناه, وقيل: بل يصح, لأن ذلك القيد له أثر في الجملة وإن كان مستغنى عنه, كالشاهد الثالث بعد شهادة عدلين. وهو مردود لأن ذلك القيد ليس محله ولا وصفا له فذكره لغو, بخلاف الشاهد الثالث, فإنه يتهيأ لأن يصير عند ذلك أحد الشاهدين ركنا. "قال": وأما الوصف الذي لا أثر له إما أن يذكر لدفع نقض ما لولاه لورد أولا. فإن لم يكن لدفع النقض فهو هدر, وإلا فالطاردون جوزوا ذكره لدفع النقض. وغيرهم اختلفوا فيه. والمختار أنه إذا كان النقض من مسائل الاستثناء فذكر هذا الوصف في الدليل للتنبيه على محل الاستثناء لا تأثير فيه, وإلا فلا. وجعل البيضاوي في منهاجه كون عدم التأثير من القوادح مبنيا على منع تعليل الحكم الواحد بالشخص بعلتين. فإن جوزنا وهو المختار, لم يقدح. وسبقه إلى البناء إمام الحرمين. وقال ابن الحاجب: كل ما فرض جعله وصفا في العلة من طردي إن كان المستدل معترفا به, فقيل: مردود والمختار أنه يكون غير مردود, لجواز أن يكون فيه غرض صحيح لدفع النقض الصحيح إلى النقض المكسور, وهذا صعب بخلاف الأول فإنه معترف بأنه غير مؤثر.
الثالث : عدم التأثير في الأصل والفرع جميعا, بأن تكون له فائدة في الحكم, إما ضرورية كقول من اعتبر الاستنجاء بالأحجار: عبادة متعلقة بالأحجار لم تتقدمها معصية فاشترط فيها العدد كالجمار. وإما غير ضرورية. فإن لم يعتبر الضرورية لم يعتبرها من طريق أولى. وإلا فترد. مثاله قولنا: الجمعة صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام, كالظهر, فإن قولنا: "مفروضة" حشو, إذ لو حذف لم ينتقض بشيء, لكن ذكر لتقريب الفرع من الأصل بتقوية الشبه بينهما, إذ الفرض بالفرض أشبه.

(4/252)


واعلم أنا إذا قلنا: إن عدم التأثير في الأصل فقط قادح كان هذا قادحا بطريق أولى. وقال الشيخ أبو إسحاق في الملخص: هذا القسم أصعب ما نحن فيه. وعندي أنه لا يجوز تعليق الحكم عليه.
الرابع : عدم التأثير في الفرع, كقولهم, زوجت نفسها فلا يصح, كما لو تزوجت من غير كفء, فنقول: "غير كفء "لا أثر له, فإن النزاع في الكفء ونحوه سواء. وحاصله يرجع إلى الثاني, ويرجع أيضا إلى المناقشة في الفرض وهو تخصيص بعض صور النزاع بالحجاج, وقد اختلف فيه على مذاهب: الجواز, وهو الأصح. والمنع, قاله الأستاذ أبو بكر. وقال إمام الحرمين: إن كان مبينا لمحل السؤال لم يجز, كما إذا سئل الشافعي عن ضمان الضيف المغرور فقال: يبرأ, وفرض في المكره. فهذا لا يجوز, إذ براءة المكره لأنه آلة, وبراءة الضيف لأنه مغرور, ففي كل مسألة علة مباينة فتقاطعتا. وإن لم يكن, بأن وقع في طريق يشتمل عليه سؤال السائل جاز, كما لو سئل عن عتق الراهن فأبطله, وفرض في المعسر.
والخامس : عدم التأثير في الحكم: وهو أن يذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل به, كقولنا في المرتدين يتلفون الأموال: مشركون أتلفوا في دار الحرب فلا ضمان, كالحربي. فإن دار الحرب لا مدخل لها في الحكمة, فلا فائدة لذكرها, إذ من أوجب الضمان أوجبه وإن لم يكن في دار الحرب.
وكذا من نفاه نفاه مطلقا ويرجع إلى الضرب الأول, لأنه يطالب بأمر كونه في دار الحرب. والفرق بين هذا و "الثالث" أن هذا أعم وذاك أخص, فإنه يلزم من أن يكون له تأثير في الحكم أن لا يكون له تأثير في الأصل والفرع من غير عكس, ولهذا لم يذكر الآمدي وابن الحاجب "الثالث". وقال الآمدي: حاصل هذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف فلم يبق غير عدم التأثير في الوصف وفي الأصل. قلت: ولهذا اقتصر على إيرادها في "المنهاج "وهو من محاسنه.
تنبيه :
عدم العكس وعدم التأثير من باب واحد. وقد بان مما سبق أن عدم التأثير أعم من عدم العكس, وهو الذي نقله إمام الحرمين عن الجدليين أنهم قسموا عدم التأثير إلى ما يقع في وصف العلة, وإلى ما يقع في أصلها. وجعلوا الواقع في الأصل معللا بعلل, فالعلة الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم. وهذا منشؤه من تعدد

(4/253)


العلة في الأصل, وإن اتحدت العلة جر ذلك إلى الانعكاس, وهو يوضح أن تقسيمه إلى الأصل والوصف لا حاصل له.
وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب الحدود: "إن القاضي أبا الطيب يذهب إلى أن التأثير والعكس لا فرق بينهما". والصحيح أن العكس: عدم العلة لعدم الحكمة, والتأثير: زوال الحكم لزوال العلة في موضع ما. قال: ومن أصحابنا من قال: يجب زوال الحكم لزوال العلة في موضع من أصل العلة ومنهم من قال: لا فرق بين أن يزول الحكم لزوال العلة في موضع من أصل العلة. أو من سائر الأصول وهذا هو الصحيح, وإليه رجع القاضي. فعلى هذا: الفرق بين العكس والتأثير ظاهر, لأن العكس هو زوال لزوال العلة في جميع المواضع, أو في أي موضع كانت. والتأثير: زواله لزوال العلة في موضع. انتهى.
فرع :
ذكر إمام الحرمين: ليس للمستدل إلزام المعترض نفي الحكم عند نفي علته بمجرد إقامة الدليل على علته, فإن أراد أن يدعوه إلى إلزام العكس فعليه حينئذ أن يضم إلى تصحيح علته إبطال علة خصمه, فإذا تم له ذلك دعاه إلى العكس, فإن بين الخصم ثبوت الحكم حينئذ مع نفي العلة فعلى المستدل حينئذ أن يبين التوقيف الذي منع العكس.
ثم طرد الإمام هذا في العلة القاصرة إذا عارضها الخصم بمتعدية, فعلى المعلل بالقاصرة إبطال المتعدية, فإذا تم له إبطالها ألزم خصمه حينئذ نفي الحكم في محل التعدي لانتفاء العلة القاصرة عنه.
تنبيه :
قد يبقى الحكم بعد زوال علته في صور على أحد القولين للشافعي رضي الله عنه - كلمس المحارم, وتحريم الادخار في زماننا لأجل من دف, ومنع ثبوت الخيار للجلب إن لم يغبن, ولمن لم يعلم بالعيب إلا بعد زواله, ولمن عتقت تحت عبد ولم تعلم عتقها حتى عتق, وإسقاط الشفعة لمن باع حصته قبل العلم بها. والمرجح فيها زوال الحكم عند زوال العلة.
وشذ عن هذا وطء الراهن المرهونة, فإنه حرام إن كانت ممن لا تحبل. ومدركه أن المظنة تقام مقام المظنون

(4/254)


الخامس – القلب
ويتعلق به مباحث:
الأول - في حقيقته:
وقد اختلف في تعريفه. فقال الآمدي: هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل يدل عليه, لا له. أو يدل عليه وله. "قال": والأول قلما يتفق في الأقيسة, ومثله في المنصوص باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله: صلى الله عليه وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" 1 فأثبت إرثه عند عدم الوارث. فيقول المعترض: هذا يدل عليك لا لك, لأن معناه نفي توريث الخال بطريق المبالغة, أي: الخال لا يرث. كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له, والصبر حيلة من لا حيلة له. أي ليس الجوع [زادا], ولا الصبر حيلة.
والذي يدل على المستدل, وله: محل التقسيم. وقال الإمام الرازي: هو إن تعلق على العلة المذكورة في قياس يقتضي الحكم المذكور فيه ويرد إلى ذلك الأصل بعينه. وإنما اشترطنا اتحاد الأصل لأنه لو رد إلى أصل آخر لكان حكم ذلك الأصل الآخر إما حاصلا في الأصل الأول فمرده إليه, أو غير حاصل بأصل القياس الأول نقض على تلك العلة.
قال الهندي: وهو غير جامع لخروج ما يكون من القلب في غير القياس. ومعلوم أن القلب لا يختص بالقياس قال: والتحقيق أنه دعوى لأن ما ذكره المستدل عليه لا له, في تلك المسألة على ذلك الوجه.
الثاني - [في اعتباره]:
وقد أنكره بعضهم من جهة أن الحكمين, أعني ما يثبته المستدل وما يثبته القالب, إن لم يتنافيا فلا قلب, إذ لا منع من اقتضاء العلة الواحدة لحكمين غير متنافيين, فلا يفسد به. وإن استحال اجتماعهما في صورة واحدة فلم يمكن الرد إلى ذلك الأصل بعينه, فلا يكون قلبا, إذ لا بد فيه من الرد إلى
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي "4/422" كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الخال حديث "2104" عن عائشة وراه الجاكم في المستدرك "4/383" حديث "8004" وفال:هذا حديث صجيج على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ورواه البيهقي في الكبير "6/215" حديث "11995".

(4/255)


ذلك الأصل. والجمهور على إمكانه. وأجابوا عن هذا بأن الحكمين غير متنافيين لذاتهما, فلا جرم يصح اجتماعهما في الأصل, لكن قام الدليل على امتناع اجتماعهما في الفرع, فإذا أثبت القالب الحكم الآخر في الفرع بالرد إلى الأصل وشهادة اعتباره امتنع ثبوت الحكم الأول فيه. وأحال إمام الحرمين إشعار الوصف الواحد بحكمين متناقضين, فمنع الشارح الإبياري التناقض بين حكمي العلة وقلبها في الثاني, واستدل على عدم التناقض باجتماع الحكمين في الأصل. قال ابن المنير: والصواب منع الإمام بالنسبة إلى مواضع المستدل والقالب, لأنهما تواضعا على أنهما لا يجتمعان في الفرع ولا يرتفعان عنه, فهي مناقضة بالمواضعة, لا بالحقيقة. لكن لا أصوب قوله: إن الوصف الواحد لا يشعر بمتناقضين, فإنه قد يشعر بهما, بدليل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] غاية ما في الباب أن الوفاء بالحكمين لا يتصور, فتعين أحدهما بالترجيح, كما قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فنبه على رجحان المفسدة.
الثالث - في أنه قادح أم لا: وقد اختلفوا فيه:
فقيل: هو إفساد العلة مطلقا, فلا يصح التعليق بها لواحد منهما. ونقل تسليم الصحة مطلقا لأن الجامع دليل, والخلاف في أنه دليل للمستدل أو عليه, وهذا ظاهر قول من يسميه "معارضة", فإن المعارضة لا تفسد العلة, فلا يمنع من التعلق بها حتى يثبت رجحانها من خارج. وهو قول الشيخ أبي إسحاق.
وقيل: إنه تسليم للصحة, على تقدير الصحة.
وظاهر كلام إمام الحرمين أنه لازم جدلا لا دينا, ولهذا قال: تلتبس فيه الحظوظ المعنوية بالمراسم الجدلية, بخلاف المعارضة فإنها مناقضة دينا وجدلا.
والمختار عند الجمهور أنه حجة قادحة في العلة. قال الشيخ أبو إسحاق: وذكر الشيخ أبو علي الطبري من أئمة أصحابنا أنه من ألطف ما يستعمله الناظر. وسمعت القاضي أبا الطيب الطبري يقول: إن هذا القلب إنما ذكره المتأخرون من أصحابنا حيث استدل أبو حنيفة رحمه الله بقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" 1 في مسألة الساحة, قال: في هدم البناء ضرر بالغاصب, فقال له أصحابنا: وفي منع صاحب
ـــــــ
1 سبق تخريجه.

(4/256)


الساحة من ساحته, إضرار. فقال: يجب أن يذكر مثل هذا في القياس.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح سؤال القلب. قال: وهو شاهد زور, يشهد لك ويشهد عليك, لأنه لا يمكن إلا فرض مسألة على المستدل, وليس للسائل ذلك لأنه انتقال, وهذا باطل, لأن القالب عارض المستدل بما لا يمكن الجمع بينه وبين دليله, فصار كما لو عارضه بدليل آخر. وقيل: هو باطل, إذ لا يتصور إلا في الأوصاف الطردية.
وقال أبو الوليد الباجي: القلب سؤال صحيح يوقف الاستدلال بالعلة ويفسدها, وإليه ذهب القاضي أبو بكر وكان القاضي أبو الطيب الطبري وشيخنا أبو إسحاق الشيرازي يقولان: هو معارضة وأنه لا يفسد العلة. قال: وعندي فيه تفصيل وهو أن القلب ضربان:
أحدهما : قلب بجميع أوصاف العلة.
فهذا يفسد العلة المقول بها, لأنه يجب أن يكون للعلة تعلق بالحكم الذي تعلق عليها واختصاص بحيث لا يصح تعلق الضد بها, فإذا بين السائل صحة أن يعلق عليها ضده خرجت عن أن تكون علة, كقولنا في أن الخيار في المبيع يورث, فإن الموت معنى يزيل التكليف فوجب أن لا يبطل الخيار, كالجنون والإغماء.
فيقول الحنفي: أقلب هذه العلة فأقول: إن الموت معنى يبطل التكليف فوجب أن لا ينقل الخيار إلى الوارث, كالجنون والإغماء. ثانيهما: القلب ببعض الأوصاف: فهذا هو معارضة على ما ذكره شيخنا لأن للمستدل أن يقول: إنما جعلت العلة جميع الأوصاف, فإذا قلب ببعضها فلم تفسد العلة إنما جئت بأخرى. كقول المالكي في ضم الذهب والفضة في الزكاة: مالان زكاتهما ربع العشر بكل حال, فيضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة, كالصحاح والمكسرة, فيقول الشافعي: أقلب العلة وأقول: مالان زكاتهما ربع العشر بكل حال فلم يضم أحدهما إلى الآخر بالقيمة, كالصحاح والمكسرة.
ونقل في "المنخول" عن المحققين أنه مردود وليس معارضة, فإن شرطهما التعارض في نفس الحكم والمشهور أنه نوع معارضة, إذ محال أن يدل على المذهبين من جهة واحدة بل من جهتين, لاشتراك الأصل والجامع, فكان أولى بالقبول, ولأن المعارضة هي أبدا معنى في الأصل أو الفرع, أو دليل مستقل يقتضي خلاف ما ادعاه المستدل. وهذا الوصف كذلك. فعلى هذا للمستدل أن يمنع حكم القالب في الأصل,

(4/257)


وأن يقدح في العلة بالنقض وعدم التأثير والقول بالموجب إذا أمكنه.
وفي جواز قلب قلبه وجهان لأصحابنا, حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: الجواز, بناء على أنه معارضة, فإذا قلبه على القالب صار شاهدا له من وجهين, وللقالب من وجه واحد, فيترجح عليه.
والثاني : المنع, ورجحه الباجي, لأنه نقض, والنقض لا يصح أن ينقض, وكذلك القلب لا يقلب. ورجح في المحصول الجواز بشرط أن لا يكون مناقضا للحكم, لأن قلب القالب إذا فسد بالقلب سلم أصل القياس من القلب. وإن قلنا: إنه ليس بمعارضة بل هو إفساد العلة فليس للمستدل أن يتكلم على قلبه بكل ما للقالب أن يتكلم على دليل المستدل, لما تقدم في النقض.
نعم, يفترق القلب والمعارضة في صور:
أحدها : أن القلب معارضة مبنية على إجماع الخصمين, سواء انضم إليهما إجماع الأمة أم لا. والمناقضة في المعارضة حقيقية, وفي القلب وضعية. أي تواضع الخصمان أو المجمعون على المناقضة.
ثانيها : أن علة المعارضة وأصلها قد يكون مغايرا لعلة المستدل وأصله, بخلاف القلب فإن علته وأصله هما علتا المستدل وأصله, ذكره إمام الحرمين وغيره.
ثالثها : أنه لا يحتاج إلى أصل ولا إثبات الوصف. وكل قلب معارضة, بخلاف العكس.
رابعها : أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وفي سائر المعارضات يمكن.
خامسها : أنه لا يمنع منه وجود العلة في الأصل والفرع, لأن أصل القالب وفرعه هو أصل المعلل وفرعه. ويمكن ذلك في بقية المعارضات. ذكر هذين الأخيرين صاحب المحصول, وتبعه الهندي. وقال السهيلي وغيره من الجدليين: القسم الأول من القلب, وهو الذي يتبين فيه أن دليل المستدل عليه, لا له, هو من قبيل الاعتراضات, ولا يتجه في قبوله خلاف. وأما الثاني, وهو ما يدل على المستدل من وجه آخر, كمثال الاعتكاف ومسح الرأس وبيع الغائب, فاختلفوا فيه, هل هو اعتراض أو معارضة؟ فزعم قوم أنه معارضة, لأن المعترض يعارض دلالة المستدل بدلالة أخرى.
"قال": ولهذا الخلاف فوائد:
منها: أنه إن قيل: إنه معارضة جازت الزيادة عليه, مثل أن يقول في بيع

(4/258)


الغائب: عقد معاوضة مقتضاه التأبيد, فلا ينعقد على خيار الرؤية, كالنكاح, وإن قيل: هو اعتراض لم تجز فيه الزيادة. انتهى. وهذا يخالف ما سبق عن المحصول,
والفرق بينهما أن المعارضة كدليل مستقل فلا يتعذر بدليل المستدل, بخلاف الاعتراض فإنه منع للدليل, فلا تجوز الزيادة ويكون كالكذب على المستدل حيث يقول ما لم يقل.
ومنها: إن قلنا: إنه معارضة جاز قلبه من المستدل كما يعارض العلة, مثل أن يقول المستدل في بيع الفضولي: لا يصح لأنه تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة, فلا يصح قياسا على الشراء, فيقول المستدل: أنا أقلب هذا الدليل وأقول: تصرف في مال الغير بلا ولاية ولا نيابة, فلا يقع لمن أضافه إليه, كالشراء, فإن الشراء يصلح لمن أضيف إليه وهو المشتري له, بل صح للمشتري وهو الفضولي, ومن قال: إنه اعتراض لم يجز ذلك, لأنه منع, والمنع لا يمنع.
ومنها: أنه إن قلنا: إنه معارضة جاز أن يتأخر عن المعارضة, لأنه كالجزء منها. وإن كان اعتراضا لم يجز ووجب تقديمه عليها, لأن المنع مقدم على المعارضة.
ومنها: أن من جعله معارضة قبل فيه الترجيح, ومن قال: إنه اعتراض منع من ذلك, لأن المعارضة تقبل الترجيح, كالدليل المبتدأ, والمنع لا يقبل الترجيح.
الرابع - في أقسامه:
أحدها: قلب الحكم المطلوب:
وهو ما يدل على تصحيح مذهب المعترض, مع إبطال مذهب المستدل. إما صريحا كقولنا في بيع الفضولي: عقد في حق الغير بلا ولاية ولا نيابة فلا يصح, كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه. فيقول: الخصم: عقد في حق الغير بلا ولاية فيصح, كما إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فإنه يصح: بالإجماع في حق العاقد. قال الشيخ أبو إسحاق رحمه الله: وهذا على أقسام القلب.
وإما ضمنا كقول الحنفي في الاعتكاف: لبث فلا يكون بنفسه قربة, كالوقوف بعرفة, وغرضه اشتراط الصوم وإنما لم يصرح به; لأنه لم يجد أصلا يلحقه به فيقول: لبث فلا يشترط فيه الصوم, كالوقوف.
وجوابه إما بمنع صحة القلب إن كان لا يقبله, وإما أن يتكلم عليه بكل ما يتكلم على العلل المبتدأة من المنع وعدم التأثير والنقض على ما سبق فيه من الخلاف.

(4/259)


وكذا القلب على أحد الوجهين فيقول: هذه الأوصاف التي ذكرت فيها لا تؤثر في حكم القلب, وهي مؤثرة في حكم علتي, أو يقول: هذه العلة لا تصلح للحكم الذي علقت عليها وتصلح للحكم الذي علقت عليها فيقول في صورة البيع: هذه الأوصاف لا يحتاج إليها في حكم علتك, لأنك لو اقتصرت على قولك: عقد عقده في حق الغير فيصح, لم ينقض, أو يقول: هذه الأوصاف التي ذكرتها تقتضي إفساد البيع وقد علقت عليها صحة العقد, وهذا خلاف مقتضى العلة لم يصح.
الثاني: ما يدل على إبطال مذهب المستدل:
- إما صريحا, كقولهم: مسح الرأس ركن فلا يكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم, كالوجه. فيقال: فلا يتقدر بالربع, كالوجه.
- وإما بالالتزام, كقولهم في بيع الغائب: صحيح, كنكاح الغائب, بجامع أن كلا عقد معاوضة, فنقول: فلا تثبت الرؤية في بيع الغائب, قياسا على النكاح, بالجامع المذكور. ومن هذا القسم: قلب التسوية, لتضمنه التسوية بين الفرع والأصل. وهو أن يكون في الأصل حكمان واحد منهما منتف في الفرع بالاتفاق بين الخصمين, والآخر منازع فيه, فإذا أراد إثباته في الفرع بالقياس على الأصل اعترض بوجوب التسوية بينهما في الفرع على الأصل. فيلزم عدم ثبوته فيه, كقولهم في طلاق المكره: مكلف مالك للطلاق فيقع طلاقه, كالمختار, ويلزم منه أن لا يقع طلاقه ضمنا, ولأنه إذا ثبت المساواة بين إقراره وإيقاعه, وإقراره غير معتبر بالاتفاق, فيكون إيقاعه أيضا غير معتبر. كقولهم في الوضوء: طهارة بالمائع, فلا تجب فيها النية, كالنجاسة. فنقول: فيستوي جامدها ومائعها كالنجاسة في النية.
وفي قبول هذا النوع وجهان لأصحابنا حكاهما القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق:
أحدهما : لا يقبل. واختاره أبو القاسم بن كج. لأن القياس إنما يحتج به في الأحكام الشرعية, والتسوية ليست من الأحكام الشرعية, ولأن القالب يريد في الأصل غير ما يريد في الفرع, فلا يجوز أن يؤخذ حكم الشيء من ضده واختاره القاضي والأستاذ أبو منصور وابن السمعاني وطائفة ممن قبل أصل القلب, لأنه لا يمكن التصريح فيه بحكم العلة, فإن الحاصل في الأصل نفي, وفي الفرع إثبات.
والثاني : وحكاه إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق, وصححه الشيخ أبو إسحاق رحمه الله والباجي وغيرهما, أن الشارع لو نص على ذلك فقال: أقصد التسوية

(4/260)


بين الإقرار والإيقاع كان صحيحا. وكل ما جاز أن ينص عليه جاز أن يستنبط ويعلق عليه الحكم.
وجوابه: إما بإمكان صحة القلب أو بالكلام عليه بما يتكلم على العلل المبتدأة فنقول: التسوية بين المائع والجامد لا تصح بالإجماع. ألا ترى أن عندك المائع في الوضوء لا يفتقر إلى تعيين النية, فلا يمكن التسوية بينهما.
وقيل: من أجوبته: أن يقول: هذا الحكم الذي ذكرته مصرح به, والذي عارضتني به غير مصرح به, والمصرح به أولى من غيره وهذا باطل, لأن حكمهما واحد.
الثالث: القلب المكسور:
وهو أن يستعمل جميع أوصاف المستدل, كاستدلال المالكي على صحة ضم الذهب والفضة في الزكاة, فإنهما مالان زكاتهما ربع العشر بكل حال فضم أحدهما إلى الآخر, كالصحاح والمكسرة. فيقول الشافعي: أقلب هذه العلة فأقول: مالان زكاتهما ربع العشر, وهما من وصف واحد, فلم يضم أحدهما إلى الآخر بالقيمة, كالصحاح والمكسرة.
الرابع القلب المبهم:
وهو أن لا يتضمن تسوية, كقولهم في الكسوف: صلاة مسنونة فلا يثنى فيها الركوع, كالعيدين. فيقلبه ويقول: صلاة مسنونة تختص بزيادة, كصلاة العيدين. من غير تعرض لخصوص الزيادة هل هي ركوع أو غيره, لأنه لو تعرض لخصوصها في الركوع لم يشهد له الأصل المذكور.
ومن أنواع القلب:
جعل المعلول علة والعلة معلولا. وإذا أمكن ذلك تبين أن لا علة, فإن العلة هي الموجبة, والمعلول هو الحكم الواجب به, كالفرع مع الأصل, فلم يجز أن يكون الحكم علة والعلة حكما. فلما احتمل الانقلاب دل على بطلان التعليل, كقولنا في ظهار الذمي: إنه يصح لأنه يصح طلاقه, كالمسلم, فيقول الحنفي: المسلم لم يصح ظهاره لأنه صح طلاقه, وإنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره. ومن جعل الظهار علة للطلاق لم يثبت ظهار الذمي.
قال الشيخ أبو إسحاق رحمه الله: هذا النوع اختلف فيه: فقال بعض أصحابنا

(4/261)


وبعض الحنفية: إنه صحيح يمنع صحة الدليل, لأنه يتوقف ثبوت كل منهما على ثبوت الآخر, فلا يثبت واحد منهما. للدور. وقيل: لا يمنع, لأن العلل الشرعية أمارات بجعل الشارع, ويجوز أن يجعل كل من الحكمين أمارة للآخر. قال الباجي: وهذا هو الصحيح. وقال الشيخ في موضع آخر: ذهب ابن الباقلاني إلى أنه سؤال صحيح يوقف العلة. والذي عليه عامة أصحابنا أنه لا يعترض على العلة ولا يوجب وقفها, وهو اختيار شيخنا أبي الطيب رحمه الله, ونصره في كتاب "التبصرة", وقال ابن الصباغ رحمه الله في "العدة": قيل: لا يعارض العلة. والصحيح أنهما يتعارضان. وجواب هذا: الترجيح, إن قلنا به.

(4/262)


السادس القول بالموجب
"بفتح الجيم", أي: القول بما أوجبه دليل المستدل. أي الموجب بكسرها" فهو الدليل المقتضي للحكم, وهو تسليم مقتضى ما نصبه المستدل موجبا لعلته, مع بقاء الخلاف بينهما فيه. وذلك بأن يظن المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها, مع كونه غير مستلزم, فلا ينقطع النزاع بتسليمه, وهذا أولى من تعريف الإمام الرازي له بموجب العلة, لأنه لا يختص بالقياس, أي: أن يكون دليله لا يشعر بحكم المسألة المتنازع فيها. وهذا فيه إشكال, لأن الاستدلال على غير محل النزاع لا يعتد به, والاستدلال على محل النزاع لا يمكن القول بموجبه.
وأجيب بأن المستدل قد يتخيل من الخصم مانعا لحكم المسألة بحيث لو بطل ذلك المانع تقرر أن الخصم يسلم له الحكم, فيجعل المستدل عمدته في الاستدلال لإبطال ما تخيله ظنا منه أنه إذا بطل كونه مانعا سلم الحكم, فكأنه قد استدل على غير الحكم المسئول, أو استدل على أن الأمر المذكور غير مانع من الحكم, وإذا لم يكن مانعا لزم الحكم.
وقال ابن المنير: حدوه بتسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع فيه وهو غير مستقيم, لأنه يدخل فيه ما ليس منه, وهو بيان غلط المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله: "في أربعين شاة شاة" 1 فقال المعترض: أقول بموجب هذا الدليل,
ـــــــ
1 الحديث رواه أبو داود "2/98" كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة حديث "1568" بلفظ "وفي الغنم في كل أربعين شاة شاة" ورواه الترمذي حديث "621" وابن ماجة "1798" وهو حديث صحيج.

(4/262)


لكنه لا يتناول محل النزاع فهذا ينطبق عليه الحد وليس قولا بالموجب, لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل في الغلط, فتمام الحد أن يقال: هو تسليم نقيض الدليل مع بقاء النزاع حيث يكون للمستدل عذر معتبر. انتهى.
وكان الشيخ محيي الدين القرميسي من أئمة الأصول والجدل بالإسكندرية يذهب إلى أنه تقرير التسليم وليس بتسليم حقيقة. وحقيقته بيان انحراف الدليل عن محل النزاع, وعلى هذا فلا يلزم منه الانقطاع, بل إن ثبت انحراف الدليل فقد انقطع المستدل, وإن ثبت أنه غير منحرف لم ينقطع المعترض, بل ينزل على أنه في مسألة النزاع ويورد عليه ما يليق به.
وينبني على هذا الخلاف فرعان:
" أحدهما ": أنه هل يجب تأخير القول بالموجب عن بقية الأسئلة؟
" الثاني ": أنه حيث لزم فهل هو انقطاع؟ فإن قلنا بالأول فإذا سلم المعترض ذلك حقيقة وتبين أنه محل النزاع فقد سلم المسألة وكان منقطعا. وإن قلنا بالثاني: إنه عبارة عن انحراف الدليل عن محل النزاع وأنه بين ذلك بأن سلم مدلول الدليل تقديرا لا تحقيقا مع بقاء النزاع, فعلى هذا إن لزم ذلك فقد انقطع المستدل, وإن لم يلزمه لم يحكم بانقطاع المعترض. بل له أن يورد بعد ذلك ما شاء من الأسئلة. وهذا هو الذي كان يختاره القرميسي.
ومن أعذاره:
أن يبني المستدل على أن الخصم يوافق على المقتضي, وإنما يمنعه من العمل ثم تخيل ما ليس بمانع مانعا, فيعمد المستدل إلى ذلك المانع فيبطله ليسلم المقتضي فيلزم الخصم الموافقة. هذا ظن المستدل, ويكون المعترض مثلا لا يوافقه على المقتضي, أو يوافقه ولكن المانع عنده أجنبي عما يخيل المستدل, أنه المانع عنده, أو غير أجنبي ولكنه جزء المانع, فلا يلزم من سلب الماهية عن الجزء سلب الماهية عن الكل, أو مانع مستقل ولكن يجوز أن يكون هناك مانع آخر. وإذا جاز تعدد العلل جاز تعدد الموانع.
ومنها: أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين ويسكت عن الأخرى ظنا أنها مسلمة, فيقول الخصم بموجب المقدمة المذكورة, ويبقى على المنع, لأنه يتجه على منع السكوت عنها.

(4/263)


ومنها: أن يعتقد تلازما بين محل النزاع وبين محل آخر, فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أنه ما ثبت الحكم في ذلك المحل لزم أن يثبت في محل النزاع, فيقول المعترض بالموجب ويمنع الملازمة. انتهى.
والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر, ومنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8]. في جواب {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم وبالأذل عن فريق المؤمنين, وأثبتوا للأعز الإخراج, فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صنف العزة لله ولرسوله وللمؤمنين, أي: فإذا كان الأعز يخرج الأذل فأنتم المخرجون "بفتح الراء" وهو من أحسن وجوه الاعتراضات, وأكثر الاعتراضات الواردة على النصوص ترجع إليه, لأن النص إذا ثبت فلا يمكن رده, فلا يرد عليه سؤال إلا وحاصله يرجع إلى تسليم النص ومنع لزوم الحكم منه.
والفرق بينه وبين المعارضة أن حاصله يرجع إلى حيد الدليل الصحيح عن محل النزاع, والمعارضة فيها اعتراف بمساس الدليل لمحل النزاع. قال إلكيا: وإنما يتصور القول بالموجب إذا لم يأت المعلل بما يؤثر في نفس الحكم المتنازع فيه, بل يعترض لإبطال ما ظنه موجبا ومؤثرا عند الخصم والمؤثر غيره, ولو صرح بنفس الحكم فلا يتصور توجه القول بالموجب.
وقال ابن السمعاني, تبعا للإمام: هو سؤال صحيح إذا خرج مخرج الممانعة, ولا بد في توجهه من شرط, وهو أن يسند الحكم الذي تنصب له العلة إلى شيء, مثل قول الحنفي في ماء الزعفران: ماء خالطه طاهر, والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء, فيقول السائل: المخالط لا يمنع الماء, مع أنه ليس بماء مطلق.
وشرط في "المنخول" لصحته أن يبقى الخلاف معه في محل النزاع, "قال": ولا ينافي القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي أثبت النزاع فإنه يرتفع الخلاف. وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم, وقال: إن كان كذا فجاز أن يكون كذا, فيقول بموجبه في بعض الصور, أو يتعرض لنفي علة الخصم.
وما ذكرناه من جعله من قوادح العلة صرح به إلكيا والإمام الرازي والآمدي وغيرهم, ووجهه أنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإجماع, ولا تكون متناولة لموضع الخلاف, ولأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي قصد إثباته.
وظاهر كلام, الجدليين أنه ليس من قوادح العلة, لأن القول بموجب الدليل

(4/264)


تسليم, فكيف يكون مفسدا؟ وحكى في "المنخول" أن القول بالموجب لا يسمى اعتراضا; لأنه مطابقة للعلة, والخلاف لفظي.
وقد عده إمام الحرمين في "البرهان "من الاعتراضات الصحيحة, ثم قال: ثم الأصوليون تارة يقولون: القول بالموجب ليس اعتراضا, وهو لعمري كذلك, فإنه لا يبطل العلة, لأنه إذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى قال المقترح في تعليله: إن أرادوا بقولهم: لا يبطل العلة مطلقا فمسلم, فإنها لا تبطل في جميع مجاريها, وإن أرادوا لا تبطل في محل النزاع فغير صحيح, فإنه يلزم من القول بالموجب إبطال العلة في محل النزاع, وهذا هو الذي تصدى المعترض له, وهو إبطال علة المستدل في المحل المتنازع فيه, فلم يصح قولهم: إنه ليس مبطلا للعلة إلا على تقدير إرادة أنه لا يبطلها في جميع مجاريها.
وقال الخوارزمي في النهاية: إذا توجه القول بالموجب انقطع أحد الخصمين: إن بقي النزاع انقطع المستدل, وإن لم يبق النزاع انقطع السائل "انتهى"
واختلفوا في أنه هل يجب على المعترض إبداء سند القول بالموجب أم لا؟ فقيل: يجب لقربه إلى ضبط الكلام وصونه عن الخبط, وإلا فقد يقول بالموجب على سبيل العناد. وقيل: لا يجب, لأنه وفى بما عليه, وعلى المستدل الجواب وهو أعرف بمأخذ مذهبه, فيصدق فيما يقوله لغيره من الأخبار. قال الآمدي: وهو المختار.
ثم هو إما أن يرد من المعترض دفعا عن مذهبه, أو إبطالا لمذهب المستدل باستيفاء الخلاف مع تسليم نقيض دليله, وذلك أن الحكم المرتب على دليل المستدل إما أن يكون إبطال مدرك الخصم إثبات مذهبه هو أو لا؟ فإن كان الأول فالقول بالموجب يكون من المعترض دفعا عن مأخذه لئلا يفسد, وإن كان الثاني كان إبطالا لمذهب المستدل, لأنهما كالمتحاربين كل منهم يقصد الدفع عن نفسه وتعطيل صاحبه.
فالأول: كقولهم في إيجاب الزكاة في الخيل: يسابق عليها فتجب فيها الزكاة, كالإبل. فيقول: مسلم في زكاة التجارة, والنزاع إنما هو في زكاة العين. ودليلكم إنما يقتضي وجوب الزكاة في الجملة.
والثاني : كقولنا في إيجاب القصاص في المثقل: المتفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص, كالتفاوت في المتوسل إليه وهو القتل, فإنه لو ذبحه أو ضرب عنقه أو طعنه لم يمنع القصاص. وهذا فيه إبطال مذهب الخصم, إذ الحنفي يرى أن التفاوت في الآلة يمنع القصاص فيقول الحنفي: تسليم التفاوت في الآلة لا يمنع, لكن لا يلزم من إبطال

(4/265)


المنع للقصاص ثبوته, بل إنما يلزم ثبوته من وجود مقتضيه وهو السبب الصالح لإثباته, والنزاع فيه. وجوابه بأن يبين المستدل لزوم الحكم محل النزاع بوجود نقيضه بما ذكر في دليله إن أمكن مثل أن يقول في المثالين المذكورين: يلزم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص وجود مقتضى القصاص, بناء على أن وجود المانع وعدمه قيام المقتضي, إذ لا يكون الوصف تابعا بالفعل إلا لمعارضة المقتضي, وذلك يستدعي وجوده.
أو يبين المستدل أن النزاع إنما هو فيما يعرض له بإقرار أو اعتراض من المعترض بدليل. مثل أن يقول: إنما فرضنا الكلام في صحة بيع الغائب, لا في ثبوت خيار الرؤية, ويستدل على ذلك.

(4/266)


السابع: الفرق
ويسمى "سؤال المعارضة" و "سؤال المزاحمة", فله ثلاثة ألقاب. وهو: إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة للحكم أو جزء علة, وهو معدوم في الفرع, سواء كان مناسبا أو شبها إن كانت العلة شبيهة بأن يجمع المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك بينهما, فيبدي المعترض وصفا فارقا بينه وبين الفرع.
وقد اشترطوا فيه أمرين:
أحدهما: أن يكون بين الأصل والفرع فرق بوجه من الوجوه, وإلا لكان هو هو, وليس كل ما انفرد به الأصل من الأوصاف يكون مؤثرا مقتضيا للحكم, بل قد يكون ملغى بالاعتبار بغيره, فلا بد أن يكون الوصف الفارق قادحا والثاني : أن يكون قاطعا للجمع, بأن يكون أخص من الجمع ليقدم عليه, أو مثله ليعارضه.
قال بعضهم: اختلف الجدليون في حده, فقال الجمهور, ومنهم الإمام: إن حقيقة الفرق قطع الجمع بين الأصل والفرع إذ اللفظ أشعر به وهو الذي يقصد منه. وقال بعض الجدليين: حقيقته المنع من الإلحاق بذكر وصف في الفرع أو في الأصل.
وينبني على هذه الخلاف مسألة, وهي أن الفارق إذا ذكر فرقا في الأصل هل يجب عليه أن يعكسه في الفرع؟ اختلفوا فيه: فما عليه الحذاق من أهل النظر أنه يشترط, لأنه عبارة عن قطع الجمع, وإنما ينقطع الجمع إذا عكسه, لأن المقصود الفرق, والافتراق له ركنان: "أحدهما" وجود الوصف في الأصل, و "الثاني" انتفاؤه في الفرع, لأن المستدل يقول: وجود معنى آخر لا يضرني, لأنه يؤكد الحكم في الأصل, وذلك لا يمنع تعليلي, وصار غيرهم إلى أنه لا يلزم المعترض عكسه لأنه ادعى

(4/266)


أن العلة في الأصل وصف كذا, فإذا أبدى المعترض وصفا آخر امتنع التعليل في الأصل به, وإذا امتنع التعليل امتنعت التعدية.
وقد اختلفوا في قبوله وقدحه في العلة على مذاهب:
أحدها : - أنه ليس بمقبول, لأن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع والأصل في جميع القضايا, وإنما سوى بينهما في وجه, ولا يتضمن الجمع بين أسئلة متفرقة, ولأن المعترض ذكر معنى في جانب الأصل, وذلك لا يمنع تعليل المعلل بجواز تعليل الحكم بعلتين, وحكاه في "البرهان "عن طوائف من الجدليين والأصوليين "قال": وإنما يستمر هذا مع القول برد المعارضة في جانب الأصل والفرع جميعا "قال": وهو عند المحصلين ساقط مردود.
وأما ابن السمعاني فقال: وعند المحققين أنه أضعف سؤال يذكر, وليس مما يمس العلة التي نصبها المعلل بوجه ما, لكن نهاية ما في الباب أن الفارق يدعي معنى في الأصل معدوما في الفرع ولم يتعرض للمعنى الذي نصبه المعلل. ويجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين مستقلتين ووجدت إحداهما في الفرع وعدمت الأخرى, وإحداهما كافية لوجوب الحكم, وانتفاء إحدى العلتين لا يقتضي انتفاء حكمها إذا خلفتها علة أخرى.
والثاني : - قال إمام الحرمين, واختاره ابن سريج والأستاذ أبو إسحاق أن الفرق ليس سؤالا على حياله, وإنما هو معنى معارضة الأصل بمعنى, ومعارضة العلة التي نصبها المستدل في الفرع بعلة مستقلة, والمقصود منه المعارضة.
والثالث : قال إمام الحرمين, وهو المختار عندنا, وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين: "إنه صحيح مقبول, وهو إن اشتمل على معنى معارضة الأصل وعلى معارضة علة الفرع بعلة فليس المقصود منه المعارضة, بل مناقضة الجمع وقال قبل ذلك: ذهب جماهير الفقهاء إلى أنه أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به. هكذا حكاه في "المنخول" عن الجمهور.
وقال الشيخ أبو إسحاق في الملخص: إنه أفقه شيء يجري في النظر, وبه يعرف فقه المسألة. قال الإمام: لأن شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة, وحقيقته أن المعلل لا يستقر ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به, فإذا علل ولم يسبر فعورض بمعنى في الأصل, فكأنه طولب بالوفاء بالسبر.
ثم ذكر أنه راجع إلى معنى التعليل, وذكر أن القاضي استدل على قبوله بأن السلف كانوا يجمعون ويفرقون, ويتعلقون بالفرق كما يتعلقون بالجمع, كما في قضية

(4/267)


الجارية المرسية التي أجهضت الجنين وقد أرسل إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهددها, فإن عمر رضي الله عنه استشار في ذلك فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إنما أنت مؤدب, ولا أرى عليك شيئا. وقال علي رضي الله عنه: إن لم يجتهد فقد غشك, وإن اجتهد فقد أخطأ, أرى عليك الغرة.
وكان عبد الرحمن بن عوف حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا, وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله, فاعترضه علي رضي الله عنه بالفرق, وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست كالتعزيرات التي يجب الوقوف عليها دون ما يؤدي إلى الإتلاف قال: ولو تتبعنا معظم ما يخوض فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وجدناه كذلك.
وقد بالغ ابن السمعاني في الرد على الإمام في هذا الكلام, وقال: قوله: شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة ليس بشيء, لأن المعارضة إنما تقدح في حكمين متضادين, أما إذا ذكرت علتان بحكم واحد فلا يقدح, ولا يسمى معارضة. وقوله لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كلامه ما عدا علته يقال: من قال هذا؟ ولأي معنى يجب؟ وإنما يجب عليه أن يذكر مخيلة في الحكم مناسبة له إذا وجد فيها ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلة. وأما السبر والتقسيم وإبطال ما عدا الوصف الذي ذكره فليس بشيء "قال": وقد نسب هذا إلى الباقلاني رحمه الله "قال": وكل من كلف المعلل هذا أو رام تصحيح العلة بهذا الطريق فقد أعلمنا من نفسه أن الفقه ليس من بابه ولا من شأنه, وأنه دخيل فيه مدع له. "قال": وقد بان بطلان طريق السبر وقوله: إنه التزام كذلك ليس كذلك, بل في تعليل المعلل التزام إبطال كل علة سوى علته, فهذه من الترهات والخرافات. وكذلك قول من يقول: إن تعليل الأصل بعلتين لا يجوز.
قلت: ولم يتوارد ابن السمعاني مع الإمام على محل واحد, لأن إمام الحرمين منع اجتماع علتين, وابن السمعاني يجوزه. ثم قال ابن السمعاني: وأما الذي حكاه عن ابن الباقلاني فقد حاول شيئا بعيدا, لأن الفرق والجمع على الذي يخوض فيه لم ينقل عن الصحابة أصلا, وإنما كانوا يتبعون التأثيرات. والذي نقل عن عبد الرحمن بن عوف معنى صحيح, والذي أشار إليه علي رضي الله عنه في معنى الضمان ألطف منه, والمراد منه أنه وإن كان يباح له التأديب ولكنه مشروط بالسلامة, لأنه أمر ليس بحتم بل يجوز فعله وتركه, فيطلق فعله بشرط السلامة. "قال": وليس هذا الكلام من الفرق والجمع الذي نحن فيه بشيء, فلا يدرى كيف وقع هذا الخبط من هذا القائل.

(4/268)


وإن وقع الفرق فنحن لا ننكر الفرق بالمعاني المؤثرة وترجيح المعنى على المعنى, وإنما الكلام في شيء وراء هذا, وهو أن المعلل لما ذكر علة قام له الدليل على صحتها, ففرق الفارق بين الأصل والفرع بمعنى, فإن كان فرقا لا يقدح في التأثير الذي لوصف المعلل في الحكم فهو فرق صورة, ولا يلتفت إليه, وإن فرق بمعنى مؤثر في حكم الأصل فغايته التعليل بعلتين. وإن بين الفارق معنى مؤثرا في التفريق بين الأصل والفرع فالقادح بيان معنى يؤثر في الفرع يفيد خلاف الحكم الذي أفاده المعنى الأول, فلا بد لهذا من إسناده إلى أصل, وحينئذ يكون معارضة, ولا يكون الفرق الذي يقصد بالسؤال, ونحن بينا أن المعارضة قادحة. "انتهى"
وحاصله أن المعارضة في الفرع لا تسمى فرقا, ويصير النزاع لفظيا. وأما المعارضة في الأصل فهي مبنية على مسألة التعليل بعلتين.
ونقل إلكيا ما حكاه الإمام في استدلال القاضي عن عامة الأصوليين ثم قال: والحق عندنا أن الفرق إنما يقدح إذا كان أخص من جميع العلل, فإذ ذاك يتبين به فساد الجمع, إلا أن الفرق ابتداء تعليل في الأصل, وعكسه في الفرق. ورب فرق يظهر فتخرج علة المعلل عن اعتبارها شرعا, وحينئذ فيلحق تعليل المعلل بالطرد, فإنه أخص من الجمع على كل حال, فإن كان الجمع مثلا للفرق أو أخص فلا نبالي به, كقول المالكي في الهبة: عقد تمليك ترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك بالمعاوضة, فيقول الفارق: المعاوضة يتضمنها النزول عن العوض والرضا بالمعوض, وذلك يحصل بنفس العقد, والهبة قد عارت بها. فالمعلل يقول: تلك الصيغة مطرحة فيضطرب النظر فيها.
قال" وحرف المسألة أن نكتة الفرق كونه أخص من الجمع, والجمع أعم, فإذا في الفرق ثلاثة مذاهب أصحها أن الفرق يرجع إلى قطع الجمع من حيث الخصوصية.
و " الثاني " إبطال الفرق من جهة كونه معارضة في جانب الأصل والفرع, والمعارضة باطلة.
و " الثالث " أنه مقبول من جهة كونه قدحا في غرض الجمع.
وهذا ملخص من كلام إمام الحرمين, فإنه ذكر ما حاصله أن الفرق إما أن يلحق الجامع بوصف طردي, أو لا.
و "الأول" مقبول بالاتفاق. ومن علامته أن يقيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره, كقول الحنفي في البيع الفاسد: معاوضة عن تراض فتفيد

(4/269)


الملك, كالصحيح. فيقول المعترض: المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت الملك بالشرع, بخلاف المعاوضة الفاسدة.
و " الثاني " هو محل الخلاف, كقول المالكي في الهبة, يحصل فيها الملك فيه بالصيغة بلا قبض, لأنه عقد تملك, فيحصل الملك فيه بالصيغة كالبيع, فيقول الفارق: المعاوضة تتضمن النزول عن الشيء بعوض, فتضمن الإيجاب والقبول الرضا من الجانبين بخلاف الهبة فإنه نزول بغير عوض فافتقر إلى القبض ليدل على الرضا. فهذا النوع هو موضع الخلاف. فمن رد المعاوضة في الأصل أو في الفرع أو أحدهما رده. وقيل بقبوله على أنه معارضة, والمختار قبوله لحاجة. وهي مناقضة فقهية للجمع.
ثم أتى الإمام بعد ذلك بكلام جامع فقال: الفرع والجمع إن ازدحما على أصل وفرع في محل النزاع, فالمختار فيه عندنا اتباع الإحالة. فإن كان الفرق أصلا علل الجمع وعكسه, وإن استويا أمكن أن يقال هنا بالعلتين المتناقضتين وإذا بنينا على صيغة التساوي أمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له "قال": وهذا كله إذا كان الفرق لا يحيط فيه الجمع بالكلية. فإن أبطله فقد تبين أن ما ذكره المستدل من الجمع ليس بصحيح, فيكون مقبولا قطعا.
والحاصل أنه إن أبان الفرق أن الجامع طردي فلا خلاف في قبوله. وينبغي أن يأتي فيه خلاف من القائلين برد الطردي. وإن لم يبين ذلك ففيه مذهبان: "أحدهما" أنه مردود مطلقا. و "ثانيهما" أنه مقبول. ثم اختلف القائلون به: فقيل: لا من جهة كونه فرقا, بل من جهة كونه معارضة, وهو مذهب ابن سريج, والمختار أنه لنفسه وليس القصد منه المعارضة.
ثم قيل: هو أضعف سؤال يذكر, وحكاه ابن السمعاني عن المحققين. والمختار أنه من أقوى الأسئلة.
ثم قيل: هو سؤالان وهو مذهب ابن سريج, لاشتماله على معارضة علته للأصل بعلة, ثم معارضة علته للفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع. والمختار - كما قاله في "المنخول" - أنه سؤال واحد, لاشتماله على اتحاد المقصود وهو الفرق وإن تضمن الإشعار بمنع العلة في الأصل ودعوى علة أخرى فيه ومعارضة في الفرع بعكس المدعي في الأصل. إلا أن يريد الفارق وصفا آخر في جانب الفرع عند عكسه فيكون معارضا وتتعدد.
والمختار على القول بجواز القياس على أصول متعددة, قبول فروق متعددة,

(4/270)


إذ قد لا يساعد الفارق في الفرق الإتيان بمعنى واحد متناول لجميع الأصول. وقد ذكر جمهور الأصوليين أن الخلاف في قبول الفرق مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين مستنبطتين. فمن جوزه قال: لا يقدح الفرق في العلية فلا يفسد قياسه ولا جمعه بعلية الفرق لجواز ثبوت الحكم بعلة أخرى. ومن منعه فهو قائل بالعكس فيقدح الفرق حينئذ ويبطل القياس. وقال إمام الحرمين: القائل بأن الحكم يعلل بعلتين لا يلزم من ذلك أن يجعل جوابا عن الفرق بل عليه أن يبين عدم إشعاره بإثارة الفرق ويرجح مسلك الجامع من طريق الفقه.
مسألة
إذا فرق المفرق بين مسألتين في المعنى الذي لأجله ثبت الحكم في الأصل ثم أراد أن يعكس ذلك في الفرع فإنه يجوز أن يثبت الحكم في الفرع بذلك المعنى وبغيره, لأن الحكم الشرعي يجوز ثبوته بعلتين, قال أبو الخير بن جماعة المقدسي في "الفروق "ومثله بقياس الحنفية في أن التشهد الأخير ليس بواجب, حتى قالوا: ذكر لا يجهر به في حال من الأحوال فلم يجب, كتسبيح الركوع والسجود, وفرق أصحابنا فقالوا: التسبيح يشرع في ركن هو مقصود في نفسه, فلهذا كان واجبا.
مسألة
ومن فوائد الخلاف في أن "الفرق معارضة أو مقبول لنفسه "أنه إذا أبدى الفارق معنى في الأصل مغايرا لمعنى المعلل وعكسه في الفرع, وربط به الحكم مناقضا لحكم العلة الجامعة. ففي اشتراط رد معنى الفرع إلى الأصل أقوال:
أحدها : أنه يحتاج أن يرد علة الأصل إلى الأصل, وعلة الفرع إلى أصل. وذهب إليه طوائف من الجدليين. ونقل عن الأستاذ, بناء منهم على أنه معارضة فينبغي اشتمالها على علة مستقلة, وعلى أن الاستدلال المرسل مردود. فقال القاضي: مذهبي قبول الاستدلال, ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على أنه فرق, بناء على القول الصحيح أنه يقبل لخاصيته وهو المناقضة, وهذا يحصل من غير رد إلى أصل. وما أظهره الفارق لا أصل له.
والثاني : لا يحتاج إلى ذلك, لا في الأصل ولا في الفرع, ونسب للجمهور, وهو اختيار الإمام والغزالي, وبناه الإمام على أن المقصود قطع الجمع, وذلك حاصل

(4/271)


من غير أصل, وبناه الغزالي على أن الاستدلال المرسل مقبول, ونقل عن الشافعي ذلك في تفاصيل ذكرها في "المنخول".
والثالث : يحتاج إلى ذلك في علة الفرع دون الأصل, وهذا ما اختاره الشيخ أبو إسحاق, أي إن كان الفرق بذكر وصف في الفرع انقطع, فلا بد من أصل, وإن كان في الأصل إذا عكسه في الفرع انقطع الجمع ولم يبق عليه الظن.
والرابع : التفصيل بين أن يرد الفرق على قياس الشبه فلا يحتاج إلى أصل, وإن كان على قياس المعنى احتاج إليه.
والخامس : أن الفرق في الفرع إن كان يخل بحكمة السبب لا يفتقر إلى أصل, وإن لم يخل افتقر إلى أصل, لأن المقصود من إثبات الحكم تحصيل المصلحة. وقال الباجي: الأول هو الصحيح, لأنه متى لم يرد كلا منها إلى أصل كان مدعيا في الأصل والفرع علتين واقفتين, ومسلما لعلة المسئول, وهي متعدية, والمتعدية أولى من الواقفة, فكأنه عارض المستدل بدون دليله, وذلك لا يكفي في المعارضة, لأن المستدل لو رجح دليله على معارضة السائل ببعض أنواع الترجيح لحكم له بالسبق. وممن حكى هذه المذاهب الباجي وأبو الخير بن جماعة في كتابه "الوسائل".
فرع : فإن شرطنا رد معنى الفرع في الفرق إلى أصل, فلو أبداه في الأصل فقيل: يلزمه رده إلى أصل آخر, فيحتاج الفرع والأصل إلى أصلين, لأنهما معنيان. وقيل: لا يلزمه, بناء على ما سبق, لأن الغرض مضادة الجامع فيهما كالمعنى الواحد, ولو قلنا بالاحتياج إلى أصل لقبلنا المعارضة في ذلك الأصل بأصل آخر ويستمر الأمر كذلك, وهو باطل. هذا إذا أبدى معنى في الأصل وعكسه في الفرع. فلو عكس الفارق في الفرع معنى الأصل فلم يناقض فقه العكس فقه الجمع, أو ناقضه على بعد, فاحتاج إلى مزيد في الفرع, فاختلف الجدليون فيه: فمن اعتقد الفرق معارضة لم يمنع الزيادة. ومن قال: إنما هو معنى يضاد الجامع اكتفى بثبوته في الأصل ونفيه في الفرع, وهذه الزيادة في الفرع ليس لها في جانب الأصل ثبوت, فلا حاجة إليها.
مسألة
القائلون بأنه من القوادح اختلفوا في أنه هل من تمامه ولوازمه نفيه عن الفرع أم لا؟ منهم من أوجبه على الفارق, لأن قصده افتراق الصورتين. وقيل: لا يجب: وقيل بالتفصيل: إن صرح في إيراد الفرق بالافتراق بين الأصل والفرع فلا بد من نفيه

(4/272)


الثامن: الاستفسار
وهو مقدم الاعتراضات, وبه بدأ ابن الحاجب في جمع. ومعناه: طلب شرح معنى اللفظ إذا كان غريبا أو مجملا. ويقع ب "هل", وبالهمزة ونحوها مما يسأل به عن التصور. فيستفسر عن صورة المسألة. ومعنى المقدمات حتى يتفقا على موضع العلة. ومن الفقهاء من لم يسمع الاستفسار وهو غلط, فإن محل النزاع إذا لم يكن متحققا فربما لم يكن بينهما خلاف, وربما يسلم المعاند ويرجع إلى الموافقة عند تحقيق المدعي. والأصح أن بيان اشتمال اللفظ على الإجمال والقرابة على المعترض. وقيل: بل على المستدل,

(4/278)


لأن شرط ظهور الدليل انتفاؤها عنه. والأصح الأول, لأن الأصل عدم تفاوتهما, فيبين المستدل عدمها أو يفسر بمحتمل. وفي دعواه الظهور في مقصوده دفعا للإجمال لعدم الظهور في الآخر خلاف. فإن اشتهر بالإجمال, كالعين والقرء, فلا يصح فيه دعوى الظهور قطعا. قاله الشريف. وذكر الخوارزمي في النهاية أنه إذا لم يكن في اللفظ احتمال أصلا وعني به شيئا لا يحتمله لفظه, فقيل: لا يسمع العناية لأن اللفظ غير محتمل له فكيف يكون تفسيرا لكلامه؟ والحق أنه يسمع, لأن غايته أنه ناطق بلغة غير معلومة ولكن بعدما عرف المراد وعرف اللغة فلا يلجأ إلى الناظر بالعربية. ورجح ابن الحاجب وغيره الأول. وقال العميدي: لا يلزمه التفسير.
واعلم أن في عد هذا من الاعتراضات نظرا, لأنه طليعة جيشها وليس من أقسامها, إذ الاعتراض عبارة عما يخدش به كلام المستدل, والاستفسار ليس من هذا القبيل, بل هو يعرف المراد ويبين له ليتوجه عليه السؤال, فإذا هو طليعة السؤال, فليس بسؤال. بل حكى الهندي أن بعض الجدليين أنكر كونه اعتراضا, لأن التصديق فرع دلالة الدليل على المنازع.
تنبيه : أطلقوا أن علته البيان. وهذا حيث لا يكون المعترض متعنتا يقصد تغليط خصمه, فإن كان اكتفى منه بالجواب المجمل. وهذا كما حكي عن اليهود أنهم سألوا عن الروح, وهو لفظ مشترك بين القرآن, وجبريل, وعيسى, وملك يقال له "الروح", وروح الإنسان. وأضمروا أنه إن قال لهم: الروح ملك قالوا: بل هو روح الإنسان. وإن قال: روح الإنسان قالوا: بل هو ملك أو غير ذلك من مسميات الروح, فعلم الله مكرهم فأجابهم مجملا كسؤالهم بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] وهو يتناول المسميات الخمسة وغيرها. هكذا ذكره صاحب "الإيضاح في خلق الإنسان "وقال: هذا هو السبب في الإجمال, لا أن حقيقتها غير معلومة للبشر, إذ قد دلت قواطع الشرع على تعيينها, فقد يجمل المستدل لفظا احتياطا لنفسه في ميدان النظر, بحيث إن توجه سؤال المعترض على أحد معنيي اللفظ تخلص منه بتعيين كلامه بالمعنى الآخر.

(4/279)


التاسع: فساد الاعتبار
وهو بيان أن القياس لا يمكن اعتباره في هذا الحكم, لا لفساد فيه, بل لمخالفته النص أو الإجماع, أو كان إحدى مقدماته كذلك, أو كان الحكم مما لا يمكن إثباته بالقياس, كإلحاق المصراة بغيرها من العيوب في حكم الرد وعدمه ووجوب بدل

(4/279)


لبنها الموجود في الضرع, أو كان تركيبه مشعرا بنقيض الحكم المطلوب, وهو أعم من فساد الوضع, وإنما ينقدح جعله اعتراضا إذا قلنا بتقديم خبر الواحد على القياس, وهو الصحيح, وعن طائفة من الحنفية والمالكية تقديم القياس, وعن القاضي وقوف الاستدلال بكل واحد منهما. فعلى هذا لا يكون القياس فاسد الوضع. والصحيح الأول. وجوابه: للطعن في مستنده أو منع ظهوره أو التأويل أو القول بالموجب أو المعارضة بنص آخر ليسلم القياس أو يتبين أن هذا القياس مما يجب ترجيحه على النص بوجوه الترجيح.

(4/280)


العاشر: فساد الوضع
بأن لا يكون الدليل على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم, كترتيب الحكم من وضع يقتضي ضده, كالضيق من التوسع, والتخفيف من التغليظ, والإثبات من النفي, كقولهم في النكاح بلفظ الهبة: لفظ ينعقد به غير النكاح ولا ينعقد به النكاح كلفظ الإجارة, فإن كونه ينعقد به غير مناسب أن ينعقد هو به, لا عدم الانعقاد وكل فاسد الوضع فاسد الاعتبار, ولا ينعكس. ومنهم من جعلهما واحدا, وهي طريقة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وقال ابن برهان: هما سيان من حيث المعنى لكن الفقهاء فرقوا بينهما وقالوا: فساد الوضع هو أن يعلق على العلة ضد ما يقتضيه. وفساد الاعتبار هو أن يعلق على العلة خلاف ما يقتضيه. "انتهى".
وقيل: فساد الوضع هو إظهار كون الوصف ملائما لنقيض الحكم بالإجماع مع اتحاد الجهة. ومنه الاحتراز عن تعدد الجهات لتنزلها منزلة تعدد الأوصاف, وعن ترك حكم العلة بمجرد ملاءمة الوصف للنقيض دون دلالة الدليل, إذ هو عند فرض اتحاد الجهة خروج عن فساد الوضع إلى القدح في المناسبة. وربما عبر عنه القاضي بتعليق ضد المقتضي.
وقال إلكيا: هو تقدم العلة على ما يجب تأخرها عنه, كالجمع في محل فرق الشرع, أو على العكس. كما يقال للحنفية: جمعتم في محل فرق الشرع, إذ قستم النفقة على السكنى في وجوبها للمبتوتة مع قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] مطلقا, وقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ففرق وجمعتم.
وقد عد القاضي هذا الاعتراض من القطعيات. وقال أبو زيد: هو يجري من

(4/280)


الشهادة مجرى فساد الأداء. قال ابن السمعاني: ويمكن إيراده على الطرود, ويضطر به المعلل إلى إظهار التأثير وإذا ظهر التأثير بطل السؤال وهذا طريق سلكه كثير من أصحابنا المتقدمين, وأورده كثير من الأصوليين. ويرد عنده اختلاف موضوع الأصل والفرع, وذلك مثل أن يكون الأصل مبنيا على التخفيف, كالتيمم والمسح على الخف, ويكون الفرع مبنيا على التغليظ, كوجوب غسل الرجلين, ويروم القائس أن يثبت في الفرع حكما مخففا, وقد بان من اختلاف موضوع العلة والحكم مما ذكرنا.
وهو مثل النقض, لأنه إنما يستفيد به طرده بعد صحة علته, كالشهادة إنما يشتغل بتعديل الشهادة بعد صحة الأداء.
وهو أقوى من النقض, لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا الانتقال. والنقض يمكن الاحتراز عنه. قال ابن السمعاني: وذكر أبو زيد وغيره أن هذا السؤال لا يرد إلا على الطرد, والطرد ليس بحجة. وأما العلة التي ظهر تأثيرها فلا يرد هذا السؤال. ونحن نقول: نعم, وإن كان الطرد ليس بحجة, وإظهار التأثير لا بد منه, ولكن السؤال يبقى, وهو أن يقول السائل: لا يجوز أن يدل الدليل على صحة مثل هذه العلة, أو يقول: لا يجوز أن يظهر له تأثير, فلا بد في الجواب من نقل الكلام إلى ذلك وبأن الدليل قد قام على صحة هذه العلة. فبهذا الوجه صححنا السؤال. وقال الأصفهاني في "شرح المحصول": فساد الوضع عبارة عن كون الدليل دالا على محل النزاع, وهو مقبول عند المتقدمين. ومنعه المتأخرون, إذ لا توجه له, لكونه خارجا عن المنع والمعارضة.
تنبيهات
الأول: ما ذكرناه من تغاير فساد الوضع وفساد الاعتبار, وأن الأول بيان مناسبة الوصف لنقيض الحكم, والثاني استعمال القياس على مناقضة النص أو الإجماع فهو أعم وهو اصطلاح المتأخرين. وأما المتقدمون فعندهم أنهما مترادفان. ذكره ابن المنير ثم قال: وعندي أنهما ليس باعتراضين زائدين, فإن المناسبة للنقيض إن كان المعترض رد الاستشهاد إلى أصل المستدل فهو "قلب", وإن رده لأصل آخر فإن كانت جهتا المناسبة للنقيض مختلفين فهو "معارضة", وإن اتحدت الجهة فهو "قدح في المناسبة". وإن لم يرد المعترض إلى أصل والجهة مختلفة فهو "معارضة لمعاني الأصول بالمرسلات" فلا تسمع. وأما فساد الاعتبار فحاصله "معارضة". فإن كان التوقيف أقوى

(4/281)


أو تساويا تمت المعارضة, أو أضعف قدم, على طريقة الإمام.
الثاني : نقل خلاف في استعمال السؤال على موافقة النص, هل يكون فساد وضع أم لا؟ قال ابن المنير: فلا حاصل عندي لهذا الخلاف, فلا يتصور الجمع بين دليلين إلا على تفسير واحد, وهو أن يكون الدليل أحدهما, أما إذا سبق إلى الفكر الظن بأحدهما استحال أن تظن بالآخر ظنا آخر مجامعا للأولى. انتهى. وهذا خلاف طريقة الناس المشهورة وأول إطلاق العلماء باجتماع العلة على أنه إذا انفرد واحد كفى في حصول الغرض.
الثالث : قد يورد هذا السؤال على قواعد أصحابنا في قياس العامد على الناسي في ترك التسمية, وفي جبر الصلاة بالسجود, وفي قضائها عند الترك, وفي إيجاب الكفارة في اليمين الغموس وغير ذلك. فيقال: كيف يصح الإلحاق مع أن الشرع عذر الناسي ورفع التكليف عنه, ولم يعذر العامد, فلا يلزم من إعذار الناسي إعذار العامد. وقد كثر التشنيع علينا في هذا, ويمكن الجواب بأن العمد يفارق النسيان فيما يتعلق بالإثم وعدمه. فأما ما يتعلق بالصحة والبطلان, أو التحليل والتحريم, والإيجاب وعدمه فلا فرق بينهما, بدليل أن من ترك الطهارة عمدا فصلاته باطلة, وكذلك ناسيا. وكذلك ترك النية في الصلاة والصوم وغيرهما من المأمورات. وإنما يختلف حكمها في المنهيات.
وقد يورد أيضا قياس المخطئ على العامد في إيجاب كفارة الصيد ونحوه. وجوابه أن فيه تنبيها على وجوبها فيما دون ذلك, كقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] الآية فذكر الجلد في إحصانهن الذي هو أعلى ليبين أن ما دون ذلك يكفي فيه الجلد. وقيل: فيه وجهان: "أحدهما" أن التنصيص على العمد لينبه على قتل الآدمي عمدا في إيجاب الكفارة, والتنصيص في قتل الآدمي على الخطأ لينبه على خطأ العمد. و "الثاني" أنه إنما ذكر العمد لأنه رتب عليه العقوبة في العود فقال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ولا يمكن العقوبة إلا في حق العامد.

(4/282)


الحادي عشر: المنع
قال ابن السمعاني: الممانعة أرفع سؤال على العلل. وقيل: إنها أساس المناظرة وبه يتبين العوار "انتهى". ويتوجه على الأصل والفرع:

(4/282)


أما الأصل فمن وجوه:
أحدها - منع كون الأصل معللا: بأن الأحكام تنقسم بالاتفاق إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل, فمن ادعى تعليل شيء كلف بيانه. وقد اختلف في هذا فقال إمام الحرمين: إنما يتجه على من لم يذكر تحريرا, فإن الفرع في العلة المجردة يرتبط بالأصل بمعنى الأصل. قال إلكيا: هذا الاعتراض باطل, لأن المعلل إذا أتى بالعلة لم يكن لهذا السؤال معنى, وقبل العلة لا يكون آتيا بالدليل إلا أن يبقى "تقسيما وسبرا".
وقال المقترح: التحقيق أن المنع كون الأصل معللا لا يرد, لأنه لا يخلو إما أن يحرر المستدل العبارة أم لا, فإن لم يحررها لم يرد عليه المنع, لأن المنع إنما يرد على مذكور, وهو لم يذكر شيئا, بل قوله: أجمعنا على تحريم الخمر فليحرم النبيذ, فهذا ليس بدليل, فلا يتجه منع كون الأصل معللا, بل لا يخاطب حتى يصرح بالجامع. وإن حرر فلا يخلو: إما أن يسلم له كون ما ادعاه علة أو لا. فإن سلم لزم من ذلك كون الأصل معللا, وإن لم يسلم لم يرد عليه, فيرد عليه منع كون الوصف علة لا منع كون الأصل معللا.
وقال ابن المنير في منع كون الأصل معللا: هل يقبل أم لا؟ مبني على قاعدة مختلف فيها, وهي أنا: هل نحتاج في كل صورة إلى دليل خاص على أن الحكم فيها معلل؟ أو يكتفى بالدليل العام على أن الأحكام معللة. والحق هو الثاني, لاستقرار الإجماع على أن الأصل في الأحكام التعليل, فالمطالبة بكون الحكم معللا على هذا القول كالمطالبة بكون القياس الصحيح حجة, فهذه القاعدة هي المسقطة لهذا الاعتراض. لا ما ذكره الإمام أن المسقطة له الكفاية عنه بتصحيح العلة المعينة, فمتى صحت لزم كون الحكم معللا ضرورة لزوم المطلق المقيد, لأنا نقول: المصحح لكون الوصف علة مثلا, المناسبة والجريان, لا بالذات, ولكن بالشرع ولا يلزم من المناسبة والجريان كون المناسبة علة, فلا يلزم حينئذ كون الحكم معللا لولا قيام الإجماع على تعليل الأحكام بالأوصاف المقارنة لها بشرطها.
الثاني - منع ما يدعيه الخصم أنه علة كونه علة, بعد تسليم التعليل, ويسمى المطالبة أي بتصحيح العلة. وإذا أطلقت المطالبة في عرف الجدليين فمرادهم هذا, وحيث أريد غيرها ذكرت مقيدة, فيقال: المطالبة بوجود الوصف أو ثبوت الحكم في الأصل, ونحوه. ووجه الاعتراض به أن من الناس من يتمسك بما لا يصلح كونه علة, فيجعله كالتمسك بالطرد أو بالنفي. قال ابن السمعاني: وهي عائدة إلى محض

(4/283)


الفقه, وبها يتبين المحقق من الفقهاء وغيرهم. وقال الآمدي: هو أعظم الأسئلة الواردة على القياس, لعموم وروده على كل وصف, واتساع طرق إثباته وتشعبها.
وقد اختلف فيه. والمختار قبوله, فإن الحكم لا بد له من جامع هو علة. واحتج الآخرون بأنه لو قبل لاستدل عليه بما يمكن منع المناسبة فيه, ويتسلسل وبأنا لو لم نجد إلا هذه العلة فعلى المعترض القدح فيها وبأن الاقتران دليل العلية. وأجيب عن "الأول" بأنه إذا ذكر ما يفيد ظن التعليل وجب التسليم ولا يتسلسل. وعن "الثاني" الطعن بالاستقراء. وعن "الثالث" منع الاكتفاء بالاقتران, بل لا بد من المناسبة.
تنبيهان
الأول: أطلق الجدليون هذا المنع, وينبغي تقييده - كما قاله ابن المنير - بما إذا لم تكن العلة حكما شرعيا, فإن كانت وجوزنا بها, فمنع المعترض وجود الحكم المنصوب علة اتجه في قبول الاستدلال عليه الخلاف الآتي في الاستدلال على حكم الأصل إذا منعه.
والثاني : أن المعترض لا يمكن من تقرير العلة بالاستدلال على نقيض ما ادعاه المستدل, ولا يجري فيه الخلاف السابق في المنع. والفرق أن صيغة المطالبة بتصحيح الوصف لا تتضمن إنكارا ولا تسليما, بخلاف المنع فإن المانع جازم ينفي ما ادعاه المستدل, فكان لتقريره وجه, نعم, لو أورد هذا السؤال بصيغة المنع كقوله: لا أسلم أن هذا الوصف علة, جاء الخلاف, فيمكن من التقرير على أحد القولين, وهو أمر اصطلاحي لا يتعلق به فقه والقياس أن المنع والمطالبة متساويان, لأن المقصود لكل منهما التماس, فما جرى في أحدهما جرى في الآخر.

(4/284)


فصل
قال الغزالي: مجموع ما رأيت أهل الزمان يقولون عليه على دفع هذا السؤال سبعة مسالك:
الأول - قول بعضهم: القياس رد فرع منازع فيه إلى أصل متفق عليه بجامع, وقد حصل. قلنا: لكن بشرط أن يغلب الجامع ظن صحته, إما بإخالة أو شبه معتبر, ولم يوجد.
الثاني - قولهم: عجز المعترض عن إبطال العلة دليل على صحتها, وهو باطل للزومه صحة كل دليل وجد فيه عجز المعترض.
الثالث - قول بعضهم: إني بحثت وسبرت فلم أجد غير هذا الوصف علة. قلنا: ذلك لا يوجب علما ولا ظنا بالعلية.
الرابع - قول بعضهم: لو قبل سؤال المطالبة لتسلسل, فإنه ما من دليل يذكره المستدل إلا ويتوجه عليه المطالبة. قلنا: إذا بين أن أصل قياسه مجمع عليه, وأن علته ثابتة بطريق معتبر انقطعت عنه المطالبة, أما ما دام متحكما بالدعوى فلا.
الخامس - قول بعضهم: حاصل هذا السؤال يرجع إلى منازعة في علة الأصل, وعلة الأصل ينبغي أن تكون متنازعا فيها, حتى يتصور الخلاف في الفرع. قلنا: لسنا نطالبك بعلة متفق عليها, بل بأن تنصب دليلا على مدعاك ولا تقتصر على التحكم.
السادس - قول بعضهم: الذي ذكرته شبه, والشبه حجة. قلنا: فعليك بيان الشبه.
السابع - قول بعضهم: الدليل على علية الجامع اطرادها وسلامتها عن النقض. قلنا: لا نسلم أن الطرد حجة "انتهى". وإنما الطريق في جوابه الاستدلال على تصحيح العلة بطريق من طرقها.
الثالث - منع الحكم في الأصل:
كقولنا في إزالة النجاسة: مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل حكم النجاسة, كالدهن. فيقول: لا نسلم أن الدهن لا يزيل النجاسة بل يزيلها عندي. واختلف في أنه انقطاع للمستدل على مذاهب:

(4/285)


أحدها - أنه انقطاع: لأنه إن شرع في الدلالة على حكم الأصل كان انتقالا لمسألة أخرى, وإن لم يشرع لم يتم دليله.
والثاني - أنه لا ينقطع إذا دل على محل المنع: جزم به إمام الحرمين إلكيا الطبري والبروي. وقال ابن برهان: إنه المذهب الصحيح المشهور بين النظار. واختاره الآمدي وابن الحاجب, لأن دلالته تتميم لمقصوده لا رجوع عنه, بل هو تثبيت ركن قياسه, فهو حكم الأصل, كما يبحث في تحقيق علة الأصل, وبالقياس على منع سائر أركان القياس.
والثالث - إن كان المنع جليا فهو انقطاع, أو خفيا, أي يخفى على أكثر الفقهاء فلا, لأنه معذور. وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق, ونقل ابن برهان عنه في المنع: الظاهر أن يتقدم منه في صدر الاستدلال هذه الشريطة بأن يقول: إن سلمت وإلا نقلت الكلام إليه فلا ينقطع.
والرابع - يتبع عرف ذلك البلد الذي فيه المناظرة: فإن الجدل مراسيم, فيجب اتباع العرف, وهو اختيار الغزالي.
والخامس - إن لم يكن له مدرك غيره جاز القياس, وإلا إن كان المنع خفيا لم ينقطع, وإلا انقطع. واختاره الآمدي في غاية الأمل", ثم إذا قلنا: لا ينقطع, فهل يلزم إقامة الدليل على حكم الأصل؟ قال الشيخ أبو إسحاق: لا, فإنه يقول: إنما قست على أصلي وهو بعيد, لأنه إن قصد إثباته لنفسه فلا وجه للمناظرة, وإن قصد إثباته على خصمه فلا يستقيم منع منعه على حكم الأصل.
ووهم ابن الحاجب فحكى عن الشيخ أبي إسحاق أنه لا يسمع ولا يفتقر إلى دلالة على محل المنع. والموجود في الملخص" وغيره للشيخ سماع المنع.
ثم إذا قلنا: يلزمه الدليل, فإن استدل بنص أو إجماع فذاك, أو بقياس فإن كان بعين الجامع الأول, فقيل: لا يصير منقطعا, لأنه طول من غير فائدة.
والصحيح خلافه, لأنه قد يكون قصده إظهار فقه المسائل والتدريب فيها وتكثير الأصول الدالة على اعتبار الوصف. وإن كان بغيره فقال البروي: يصير منقطعا, لأنه إن حققه في الفرع فقد انتقل إلى علة أخرى, وإن لم يحققه فقد اعترف بالفرق بين الأصل والفرع. وذهب أبو الوليد الباجي وجماعة إلى أنه لا ينقطع, لأن أكثر ما فيه أنه اعترف بأن الأصل الأول قد اجتمع فيه علتان, ولا امتناع فيه. نعم, يلزمه إثبات كل واحدة من العلتين: فإن أثبت ذلك تم له مقصوده, وإن عجز

(4/286)


انقطع حينئذ.
ثم إذا قلنا: لا يعد منقطعا وله أن يقيم الدليل, فإذا أقامه فاختلفوا في انقطاع المعترض, فقيل: ينقطع حتى يسوغ له بعد ذلك الكلام لأنه يبين فساد المنع, وحسما لباب التطويل. والمذهب الصحيح ما قاله ابن برهان وغيره: إنه لا ينقطع, فإن قبول المنع إنما كان يدل المستدل الدليل على محل المنع, فكيف يقنع منه بما يدعيه دليلا فيجب تمكين الخصم من الكلام عليه, فإن عجز فعند ذلك ينقطع "قال": فأما إذا أقام المستدل الدليل على إثبات الحكم الممنوع في الأصل فعدل المعترض عنه وأخذ يعترض ثانيا على الدليل المنصوب على الحكم في الفرع, فهاهنا أجمعوا على أنه يعد منقطعا.
تنبيهان
الأول: هذا المنع إنما يكون فيما إذا قاس المستدل على مسألة خلافية فإنه لو قاس على مسألة إجماعية لم يمكن المعترض منع حكم الأصل, لكونه على خلاف الإجماع ثم ليس كل خلافية يتوجه عليها هذا السؤال, بل يختص بكل موضع لا يخرج المعترض بالمنع فيه عن مذهب إمامه, لأن طريقة الجدليين أن كل واحد من المتناظرين لا بد أن ينتمي إلى مذهب معين حذرا من الانتشار. وفي المحصول: إن كان انتفاؤه مذهبا للمعلل والمعترض كان متوجها, وكذا إن كان مذهب المعلل وحده. وإن كان مذهبا للمعترض وحده لم يقبل.
وقسم ابن برهان المنع الصحيح إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول - يعلم أنه لا يختلف مذهب صاحب تلك المقالة في تلك المسألة.
وله في الجواب طرق:
أحدها - أن يفسر كلامه بما يكون مسلما عند الخصم, كاستدلال الحنفي في الإجارة تنفسخ بالموت, لأنه عقد معاوضة, فوجب أن يبطل: وأصله عقد النكاح - فيقول الشافعي: الحكم في الأصل ممنوع, فإن عندي النكاح لا يبطل بالموت بل ينتهي. وليس كل ما ينتهي يبطل, بدليل عقد الإجارة إذا انقضت مدته ينتهي ولا يبطل, فإن قال المستدل: عنيت بقولي: فوجب أن يبطل, أي يرتفع ولا يبقى قبل.
الثاني - أن يبين موضعا متفقا عليه, كاستدلالنا في فرضية الترتيب في الوضوء: عبادة مشتملة على أفعال متغايرة فوجب أن يجب فيها الترتيب, كالصلاة. فيقول

(4/287)


الحنفي: الحكم في الأصل ممنوع, فإن الترتيب عندي في الصلاة لا يجب, بدليل أنه إذا ترك أربع سجدات في أربع ركعات يأتي بها دفعة واحدة بلا ترتيب. فطريقه أن يقول: أبين موضعا متفقا عليه من الصلاة يجب فيه الترتيب فأقيس عليه.
فأقول: أجمعنا أنه لو قدم السجود على الركوع لم يجز فأقيس عليه. الثالث - أن ينقل الكلام إليه, كاستدلالنا في التعفير من ولوغ الخنزير بأن هذا حيوان نجس العين, فيجب غسل الإناء من ولوغه, قياسا على الكلب. فيقول الحنفي: الحكم في الأصل ممنوع, فإن عندي لا يجب التسبيع في غسل الكلب وجوابه أن ينتقل الكلام إليه ويبين أن هذا الحكم في الأصل منصوص عليه.
القسم الثاني - أن يعلم أن مذهبه مخالف:
كاستدلالنا في الصرورة إذا حج عن غيره, كما إذا أطلق الإحرام. فيقول الحنفي: الحكم في الأصل ممنوع, فإن عن أبي حنيفة رواية أنه إذا أطلق لا ينصرف إليه.
القسم الثالث - أن لا يعرف المعترض مذهب صاحب المقالة في تلك المسألة:
كاستدلال الحنفية في المشرك يسلم على خمس: أن هذا جمع محرم فوجب أن لا يتخير, قياسا على ما إذا أسلمت المرأة تحت رجلين. فيقول الشافعي: أمنع الحكم في الأصل, فإنه لا نص للشافعي في إسلامها عن زوجين "قال" ومن المنع الفاسد أن يمنع المعترض الحكم على وجه بعيد للأصحاب كاستدلالنا في جلد الكلب لا يدبغ, لأنه نجس العين فلا يطهر بالدباغ على مذهب أبي يوسف.
التنبيه الثاني
قال إلكيا الطبري: حق السائل أن يكون منكرا غير مدع, وليس له أن يدل, فإنه ليس على المنكر إقامة البينة شرعا, وعلى مثله بنيت المناظرة صونا للمقام عن الاختلاط "قال": ويجوز للمستدل الانتقال من حكم إلى آخر بالعلة الأولى, فإن العلة كافية في إثبات الحكم. نعم, الانتقال من علة إلى علة أخرى فسخ لا يتعلق بمصلحة النظر. "قال": وأجمعوا على أنه ليس للمسئول أن يدل على النقض, فإن به ينتقل إلى مسألة أخرى خارجة عن مقصود السؤال. ونقل عن القاضي أبي بكر أنه جوز ذلك, لأنه إذا ثبت النقض ثبت مطلوبه, فالاختيار يدل على أنه خارج عن مصلحة المناظرة.
وأما المنع في الفرع فلا يتوجه عليه إلا سؤال واحد, وهو منع وجود علة

(4/288)


الأصل فيه, ويسمى "منع الوصف", فإن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه, كقول الحنفي في مسألة الإيداع من الصبي: إنه مسلط على الاستهلاك, فيمنع, وقال: ليس بمسلط, إذ الإيداع ليس بتسليط. قال إلكيا: وهذا غير معنى الاعتبار, لأن معنى الاعتبار مطالبة ترجع إلى الأصل لا إلى الفرع "قال": وتبطل به المطالبة بالإخالة وإيضاح وجه الدلالة, وهو من أقسام المنع. وقيل: إنه لا يتحقق بعد وجود التعليل, وما يفرض قبله التعليل فليس باعتراض عليه.
قال إمام الحرمين: ومن الاعتراضات الصحيحة: طلب الإخالة, وهو من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية, فمن ادعى معنى فعليه تبيين مناسبته للحكم واقتضائه له, فإن عجز عن ذلك انقطع. وقال القاضي أبو بكر: ليس هذا من الأسئلة, بل حق على المسئول أن يبدأ بإظهار الإخالة قبل المطالبة, وإلا لم يكن آتيا بصورة القياس, وسكوته عنه اقتصار على بعض العلة. نعم, لو ضم إلى تعليله لفظا يشعر بالإخالة كفاه ذلك, فإن وجه السائل طلبا كان قاصرا عن درك لفظ التعليل.
وقال ابن المنير: الخلاف في عد هذا من الاعتراضات مبني على أنه: هل يلزم المستدل بيان الإخالة قبل أن يسألها؟ فالقاضي ألزمه ذلك ابتداء فسقط هذا السؤال, وغير القاضي قنع منه بذكر المعنى المختل, فإن لم يقررها توجه عليه. والحق مع القاضي, بل لو شرع الخصم في سؤالها قبل بيانها كان جاهلا بحقه, إلا أن القاضي طرد قوله فألزم المستدل دفع الاعتراضات المتوقعة, ونحن لا نختار ذلك, كما لا يلزم المدعي في الخصومة إذا عدل بينته أن تتعرض لنفي القوادح المتوقعة إلا إذا أتى الخصم بقادح كان للمدعي أن يدفعه فكذلك هاهنا. "انتهى".
والمختار أن المطالبة باعتبار كون الوصف علة تتضمن تسليم تحقيق الوصف ومناسبته, ومقصوده استنطاق المسئول في تصحيح شهادة الاعتبار بما يعتمده من المسالك المتقدمة في إثبات العلة, ليعترض على كل مسلك منها بما يليق به.
وقد منع قوم صحة الجمع بين المطالبة والممانعة, لما فيها من منع كون الوصف علة بعد تسليم الممانعة ضمنا. وفيه بعد, إذ المعترض مطالب هادم غير معترض للحكم بإثبات أو نفي. وللسائل أن يجمع المنوع فيمنع حكم الأصل ويمنع الوصف في الفرع وفي الأصل. ويمنع كون الوصف علة أو يعكسه فيقول: لا أسلم الوصف في الفرع ولا في الأصل ولا الحكم في الأصل. وللمسئول دفعها بإبداء موضع مسلم في الأصل أو بإظهار المناسبة على شرطها, وله النقل إلى الأصل إذا منع, أو افتتاح الكلام فيه ابتداء إذا توقع المنع.

(4/289)


الثاني عشر: التقسيم
وهو كون اللفظ مترددا بين أمرين: أحدهما ممنوع, والآخر مسلم, واللفظ محتمل لهما غير ظاهر في أحدهما, مثل البيع بشرط الخيار, وهو تثبيت الملك للمشتري, فيثبت له. فيقول المقسم: السبب هو مطلق البيع, أو البيع المطلق الذي لا شرط فيه؟ الأول ممنوع, والثاني مسلم ولكن لم قلت بوجوده؟
قال الآمدي: وليس من شرطه أن يكون أحدهما ممنوعا والآخر مسلما, بل يكونان مسلمين لكن الذي يرد على أحدهما غير ما يرد على الآخر, إذ لو اتحد ما يرد لم يكن للتقسيم معنى. ولا خلاف أنه لا يجوز كونهما ممنوعين, لأن التقسيم لا يفيد. وعلى هذا فلو أراد المعترض تصحيح تقسيمه اكتفى بإطلاق اللفظ بإزاء احتمالين من غير تكلف بيان التساوي في دلالة اللفظ عليهما. وجوابه أن يعين المستدل أن اللفظ موضوع له ولو عرفا, أو ظاهرا ولو بقرينة في المراد أو بين احتمالا لم يتعرض له المعترض.

(4/290)


الثالث عشر: اختلاف الضابط
[اختلاف الضابط] بين الأصل والفرع لعدم الثقة بالجامع, كقوله في شهود القصاص. تسببوا للقتل عمدا فلزمهم القصاص زجرا لهم عن السبب, كالمكره. فالمشترك بين الأصل والفرع إنما هي الحكمة وهي الزجر. والضابط في الفرع الشهادة, وفي الأصل الإكراه, ولا يمكن التعدية بالحكمة وحدها. وضابط الفرع يحتمل أن يكون مساويا لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود وأن لا يكون. وجوابه بأن يبين أن التعليل بالقدر المشترك بينهما من السبب المضبوط عرفا, أو يبين المساواة في الضابط, أو إفضاء الضابط في الفرع أكثر.

(4/290)


الرابع عشر: اختلاف حكمي الأصل والفرع
قيل: إنه قادح, لأن شرط القياس مماثلة الفرع الأصل في علته وحكمه. فإذا اختلف الحكم لم تتحقق المساواة. وقيل: لا, لأن الحكمين وإن اختلف في الخصوص فقد يشتركان في أمر عام ويكون المقصود إثبات ذلك العام والقدر المشترك بينهما وتكون العلة تناسب ذلك القدر المشترك, وهو كإثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها, قياسا على الولاية في مالها.

(4/290)


الخامس عشر: المعارضة
وهي من أقوى الاعتراضات. قال الأستاذ أبو منصور: وقيل: هي إلزام الجمع بين شيئين والتسوية بينهما في الحكم نفيا أو إثباتا. وقيل: إلزام الخصم أن يقول قولا قال بنظيره
والفرق بينه وبين المناقضة من حيث إن كلا نقض معارضة, بخلاف العكس. وأيضا فالنقض لا يكون بالدليل, والمعارضة بالدليل على الدليل صحيحة.
"قال": وهي ترجع إلى الاستفهام "قال" وقد اختلفوا فيها: فأثبتها أكثر أهل النظر, وزعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح. واختلف مثبوتها في الثابت منها, فقيل: إنها تصح معارضة الدلالة بالدلالة والعلة, ولا تجوز معارضة الدعوى بالدعوى. وهو اختيار أبي هاشم بن الجبائي, وحكاه أصحابه عن الجبائي, ووجدنا في كتابه خلافه. وذكر الكعبي في جدله "جواز معارضة الدعوى بالدعوى. وقال إلكيا الطبري: المعارضة إظهار علة معارضة لعلة, أو لعلل, في نقيض مقتضاها. هذا أصل الباب, ولا يجري إلا في الظنيات ثم يرجح أحد الظنين على الآخر بوجه من وجوه الترجيح. وكذلك المعارضة بعد العجز عن كل اعتراض قدمناه, فإن فساد الوضع والمنع لا يصلح على حياله اقتضاء الحكم حتى يعارض به. وإنما المعارضة حيث لو لم يقدر لاستقلت العلة في نفسها أو جنسها باقتضاء الحكم لوجود أصل الظن المعتبر, ولكن المعارض منع اعتبارها دون ترجيح. فالحرف: المعارضة تبين أنه لا بد من زيادة على أصل الظن المعتبر في هذا المجال على الخصوص.
واحتج أبو بكر الصيرفي على علة صحة الحجاج بالمعارضة بأن الله تعالى أثبتها على الكفار فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الاسراء:42] يعني أن بطلان الوصول إلى ذي العرش علة عجزهم, ومن صح عجزه ثبت نقصه واستحال وصفه بما وصفتم.
واعلم أن المعارضة إما في الأصل أو في الفرع أو في الوصف:
أما المعارضة في الأصل فإن ذكر علة أخرى في الأصل سوى علة المعلل وتكون تلك العلة معدومة في الفرع, ونقول: إن الحكم في الأصل نشأ بهذه العلة التي ذكرتها لا بالعلة التي ذكرها الحنفي في تبييت النية: صوم عين فتأدى بالنية قبل الزوال, كالنفل. فيقال: ليس المعنى في الأصل ما ذكرت, بل المعنى فيه أن النفل من عمل السهولة

(4/291)


والخفة, فجاز أداؤه بنية متأخرة عن الشروع, بخلاف الفرض.
قال ابن السمعاني والصفي الهندي: وهذا هو سؤال الفرق, فسيأتي فيه ما سبق وذكره غيرهم أنه لا فرق بين أن تكون العلة يبديها المعترض مستقلة بالحكم كمعارضة الكيل بالطعم, أو غير مستقلة على أنها جزء العلة, كزيادة الجارح إلى القتل العمد العدوان في مسألة القتل بالمثقل.
وقد اختلف الجدليون في قبوله, فقيل: لا يقبل, بناء على منع التعليل بعلتين. قال ابن عقيل: ولأنها ليست مسألة ولا جوابا, وبه جزم أبو بكر محمد بن أحمد البلعمي الحنفي في كتابه الغرر في "الأصول" قال: لأن للمستدل أن يقول: لا تنافي بينهما, بل أقول بالعلتين جميعا. قال: وليست مناقضة لأنها سد مجرى العلة ولم يسد عليه المجيب مناقضة من العلة. وقيل: يقبل, وبه جزم ابن القطان وغيره بناء على جواز ذلك, وعليه جمهور الجدليين "قالوا" لأنه إذا ظهر في الأصل وصفان كل واحد منهما صالح للاستقلال فإنه يتعارض عند النظر ثلاثة احتمالات:
أحدها - أن تكون العلة وصف المستدل خاصة.
والثاني - أن تكون وصف المعترض خاصة.
والثالث - أن تكون مجموع الوصفين.
وإذا تعارضت الاحتمالات فالقول بتعيين واحد منها من غير مرجح تحكم محض, وهل يقتضي إبطال الدليل؟ فيه قولان - حكاهما الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب:
أحدهما - أنه يتم دليل المسئول بالمعارضة, لأنه إن كان صحيحا فما يعارضه به خصمه يستحيل دليلا. وإن لم يكن صحيحا فعليه أن يرى المستدل فساده. فإن لم يقدر بان عجزه.
والثاني - أنه ما لم يفسد المسئول تلك المعارضة لا يتم دليله - لجواز أن تكون المعارضة هي الصحيحة ودليل المسئول يشبهه, غير أن السائل عجز عن إيراد ما يفسده.
واعلم أن بناء الخلاف في قبول هذا السؤال ورده على تعليل الحكم بعلتين. فإن جوزنا لم يقبل, وإلا قبل: ذكره إمام الحرمين في "البرهان "وإلكيا الطبري, ونازعه شارحه ابن المنير فقال: نحن وإن فرضنا جواز اجتماع العلل المستقلة فإنه يتجه ذلك إذا شهدت الأصول بالاستقلال والتعداد. وإنما يتحقق ذلك إذا شهد لكل علة أصل انفردت فيه ثم اجتمعت في محل آخر, كاجتماع الحيض والإحرام, فإن استقلال كل

(4/292)


منهما بجميع علته حيث ينفرد ثم يقع الآخر حيث يجتمع, فقائل يقول: أجمعنا على الحكم الواحد, وآخر يقول: لكل حكم علة فاجتمع علتان وحكمان.
أما إذا فرضنا إبداء السؤال علة, فعارضه السائل بعلة أخرى ففرضهما علتين مستقلتين يستدعي انفراد كل منهما في أصل سوى محل الاجتماع, فإذا لم يظفر الانفراد فالمعارضة واردة, بناء على خلل شهادة الأصل, لأن المسئول إن قال: الباعث هو المعنى الذي أبديته قال السائل: الباعث معناه, أو الأمران معا, بحيث يكون كل منهما جزء علة. فهذه احتمالات متساوية, والمستدل في تعيين مقصوده بالدعوى متحكم. ولهذا لو لم نعتبر شهادة الأصول وأجزنا المرسلات لم يرد هذا السؤال.
وهل يجب على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع؟ فيه مذاهب:
" أحدها " وهو المختار, أنه لا يجب, لأنه إن كان في الفرع افتقر المستدل إلى بيانه فيه ليصح الإلحاق, وإن لم يبين ذلك بطل الجمع.
و " الثاني " يجب نفيه, لأن الفرق لا يتم إلا بذلك.
و " الثالث " وبه أجاب الآمدي وابن الحاجب, إن قصد الفرق فلا بد من نفيه, وإلا فلا, لأنه يقول: إن لم يكن موجودا فيه فهو فرق, وإلا فالمستدل لم يذكر إلا بعض العلة. وعلى التقديرين فلا بد من إشكال.
هذا إذا كان المقيس عليه أصلا واحدا, فإن كان أصولا فقيل: لا يرد, لأن الاكتفاء بأصل آخر عن هذا حاصل. وقيل: يرد, لأنه أقوى في إفادة الظن.
والقائلون بالرد اختلفوا في الاقتصار في المعارضة على أصل واحد, فقيل: يكفي لأن المستدل قصد جمع الأصول, فإذا ذهب واحد ذهب غرضه وقيل: لا بد من الجمع لأن المستقل يكتفي بأصل واحد.
والقائلون بالتعميم اختلفوا, فمنهم من شرط اتحاد المعارض في الكل, دفعا لانتشار الكلام, وقيل: لا يلزم, لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة.
ثم اختلف هؤلاء, فقيل: يقتصر المستدل في الجواب على أصل واحد, لأنه به يتم مقصوده. وقيل: لا بد من الجواب عن الكل, لأنه التزم القياس على الكل.
وجواب المعارضة من وجوه:
أحدهما - منع وجود الوصف المعارض به, بأن يقول: لا أسلم وجود

(4/293)


الوصف في الأصل.
" الثاني " - منع المناسبة, أو منع الشبه إن أثبته بهما لأن من شرط المعارض أن يكون صالحا للتعليل, ولا يصلح إلا إذا كان مناسبا أو شبها, إذ لو كان طردا لم يكن صالحا. وإنما لم يكتف من المعترض بالوصف الشبهي في قياس الإخالة, لأن الوصف الشبهي أدنى من المناسب, فلا يعارضه. فإن كان أثبته بطريق السبر والتقسيم فليس له أن يطالب المعترض بالتأثير, فإن مجرد الاحتمالات كاف, فمن دفع السبر فعليه دفعه ليتم له طريق السبر.
الثالث, والرابع - أن يقول: ما ذكروه من الوصف خفي فلا يعلل به أمر غير منضبط أو غير ظاهر أو غير وجودي ونحوه من قوادح العلة. كذا ذكره الجدليون. قال ابن رحال: وهو ضعيف, لأن الظهور والانضباط إنما يشترط في صحة نصبه أمارة, أما في ثبوت الحكم لأجله فلا, لأن الحكم يصح ثبوته للخفي والمضطرب, ولكن إذا أريد نصبه أمارة تعين النظر إلى مظنته. والمعارض هاهنا ليس مقصوده نصب الأمارة, وإنما مقصوده ما ثبت الحكم لأجله, فلا معنى لتكليفه إثبات الظهور والانضباط. فإن قيل: فقد جعلتم من الأسئلة النزاع في ظهور الوصف وانضباطه, وإذا صحت مطالبة المستدل بذلك لكونه شرطا في صحة التعليل صحت مطالبة المعترض به, قلنا: الفرق بينهما أن المستدل جمع بين الأصل والفرع بوصف ادعى أنه منصوب أمارة, فظهوره وانضباطه شرط في صحة نصبه أمارة, وليس كذلك المعترض, فإنه لم يدع الأمارة وإنما مقصوده طريق الإجمال لشهادة الأصل مما ثبت الحكم لأجله, والظهور والانضباط ليس شرطا في ذلك, فافترقا.
الخامس - بيان أنه راجع إلى عدم وصف موجود في الفرع, لا إلى ثبوت معارض في الأصل المتقدم, وهذا إنما يكفي إذا قلنا: لا يصح التعليل بالعدم, فإن جوزناه لم يكف هذا في الجواب, بل لا بد أن يقدح فيه لوجه آخر غير كونه عدما. هذا كله إذا تحقق أن الوصف عدم في الأصل ثبوت في الفرع.
السادس - إلغاء الوصف الذي وقعت به المعارضة وقد استشكل هذا بأن الإلغاء ضربان: "أحدهما" إلغاء بإيماء النص. و "الثاني" إلغاء بتبديل الأصل.
فالأول فيه انتقال من مسلك اجتهادي إلى مسلك نقلي, والانتقال من أقبح الانقطاع, ولأنه لو استدل بإيماء النص أولا لأغناه ذلك عن المسالك الاجتهادية, فأي فائدة في هذا التطويل؟ فينبغي أن لا يقبل استدلاله أولا. كما قالوا فيما إذا استدل

(4/294)


بقياس على وجه لا بد له من الترجيح بالنص.
وأما الثاني ففيه انتقال من محل إلى محل, مع بقاء مسلك المناسبة والاقتران, مع أن في [ذلك] تطويل الطريق بلا فائدة.
إذا علمت ذلك فالإلغاء ضربان:
أحدهما: بإيماء النص, وهو قسمان:
أحدهما : ما لا يتصور الجمع بينه وبين وصف المستدل, لقيام الإجماع على أن العلة في الأصل غير مركبة, بل لا يكون إلا وصفا واحدا, كقول الشافعي فيما لا يكال ولا يوزن من القثاء والبطيخ إنه يجري فيه الربا, لأنه مطعوم, فالتحق بالأشياء الأربعة. فعارض الحنفي في الأصل بالكيل. فيقول الشافعي: وصف الكيل ملغى بإيماء قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام, إلا سواء بسواء" فإنه يدل على التحريم على هذه الصفة, وترتيب الحكم على الوصف المشتق يدل على كونه علة مستقلة. فإن قيل للشافعي: تركت النص أولا: فلم تستدل به, واستدللت بغيره على وجه لا بد لك معه من النص, وهذا تطويل. فالجواب أنه لو استدل أولا بالنص لاحتاج أن يثبت أن الاسم المفرد يقتضي الاستغراق, وهي مسألة أخرى فكان الأقرب إلى مقصوده أن يستدل بغير النص ويدخر النص لمقصوده الإلغاء, وهذا مقصود صحيح. فإن كان هذا العذر مطردا في جميع صور الإلغاء كان السؤال السابق مندفعا. وثانيهما ما يتصور فيه الجمع بين الوصفين, كقول الشافعي في المرتدة: يجب قتلها, لأنه شخص كفر بعد إيمانه, كالرجل. فيقول الحنفي: أعارض في الأصل: الوصف في الرجولية فإنه مناسب لما فيه من الإضرار الناجز بالمسلمين, وذلك مفقود في المرأة. فيقول الشافعي: وصف الرجولية ملغى بإيماء قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 1 فإنه يدل على قتل جميع المرتدين من جهة تعليقه بصيغة العموم بوصف "التبديل".
الثاني: إلغاء بتبديل الأصل:
وصورته أن يبين المستدل صورة ثالثة يثبت فيها الحكم المتنازع فيه بالإجماع على وفق علته بدون ما عارض به المعترض في الأصل الثاني, إذ لا يتصور أن يكون معتبرا فيه مع كونه معدوما.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب استتابة المرتد باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم حديث "6922".

(4/295)


وأما المعارضة في الفرع:
فهي أن يعارض حكم الفرع بما يقتضي نقيضه أو ضده, بنص أو إجماع, أو بوجود مانع, أو بفوات شرط. فيقول: ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه, فتوقف دليلك. مثال النقيض: إذا باع الجارية إلا حملها صح في وجه, كما لو باع هذه الصيعان إلا صاعا. فنقول: لا يصح, كما لو باع الجارية إلا يدها. ومثال الضد: الوتر واجب, قياسا على التشهد في الصلاة, بجامع مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم, فنقول: فيستحب قياسا على الفجر, بجامع أن كلا منهما يفعل في وقت معين لفرض معين من فروض الصلاة, فإن الوتر في وقت العشاء والفجر في وقت الصبح, ولم يعهد من الشرع وضع صلاتي فرض في وقت واحد.
وقال ابن السمعاني: أما المعارضة في حكم الفرع فالصحيح أنه إذا ذكر المعلل علة في إثبات حكم الفرع ونفي حكمه, فيعارضه خصمه بعلة أخرى توجب ما توجبه علة المعلل, فتعارض العلتان فتمنعان من العمل إلا بترجيح إحداهما على الأخرى.
وقد اختلف في قبول هذا الاعتراض:
فرده بعضهم لا سيما المتأخرون من الجدليين, محتجين بأن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت. قال الهندي: وهو ظاهر إلا فيما إذا كانت المعارضة بفوات الشرط فإنا نبين عدم تمام دلالته إذ ذاك, وإذا تمت دلالته فقد وفى بما التزم في الاستدلال, فهو بعد ذلك مخير: إن شاء سمع المعارضة, وإن شاء لم يسمع - كاستدلال مستأنف. وأيضا فإن حق المعترض أن يكون هادما لا بانيا, والمعارضة في حكم الفرع بناء لا هدم, بخلاف المعارضة في الأصل, فإن حاصلها يرجع إلى منع المقدمة, وهي كون الحكم معللا بما ذكر من الوصف فلا يلزم من قبولها ثم قبولها هنا.
وقبله الأكثرون, لقيام الإجماع على أن الدليل مع وجود المعارض عطل, ولأن المستدل عند ورودها متحكم, والتحكم باطل إجماعا, ولأنه طريق للهدم, وقد يتعين طريقا للهدم, فلو لم يقبل لبطل مقصود المناظرة والبحث والاجتهاد, ولأنها إنما تكون غصبا لمنصب التعليل أن لو ذكرها المعترض لإثبات مذهبه. وهو لا يذكرها لذلك, لاتفاق دليل خصمه.
وهذا القول صححه الغزالي في "المنخول" وقد رأيت ابن برهان في "الأوسط" نقل عنه إبطال المعارضة ثم رأيت إلكيا الطبري سبقه إلى نقل ذلك عنه فقال في كتاب

(4/296)


"التلويح": صار الغزالي إلى بطلان المعارضة على ما سمعنا الإمام ينقله عنه وكان الحامل له على ذلك امتناع التناقض في أدلة الشرع, فإذا اعترف السائل بصحة علة المعلل واستقلالها بالحكم, والمسئول ينكر صحة تعليله. وإن هو أراد إظهاره فقد تناقض وقال بتعارض النصوص, ولأن حق السائل أن يكون هادما غير بان, والمعارضة تقتضي البناء إن كان الترجيح لتعليل السائل أو ساقطة إن كان الترجيح لعلة المسئول, فلا يخلو من طرفي نقيض ووجهي فساد. ونحن نقول: السائل لم يقصد البناء, وإنما يقصد الهدم, فإن مقصوده إعانة المسئول على إتمام غرضه بإيضاح الترجيح, ولا ينال هذه إلا بالمعارضة. "قال": ولا خلاف أن المعلل لو استدل بظاهر فللسائل أن يؤول ويعتضد بالقياس, وإذا صحت المعارضة فالسائل لا يرجح, فإنه يكون بانيا, هذا إذا أمكنه قطع الترجيح عن الدليل. فأما إذا كان الدليل في وضعه أرجح فلا وجه لمنعه على قول من قبل المعارضة, فإنه ربما لا يجد غيره. فإن رجح المسئول مكن السائل من معارضة الترجيح "انتهى".
ثم لا يجب على المعترض أن يبين أن ما عارض به مساو لدليل المستدل, بل يكفي منه بيان مطلق المعارض. وهذا بخلاف المستدل فإنه لا يكتفى منه في دفعها إلا ببيان أن دليله راجح على ما عارض به المعترض, لأن المستدل مدع لاستقلال دليله بالحكم, والمعارض منكر له, والمنكر يكفيه مطلق الإنكار, بخلاف المدعي.
وإذا تمت المعارضة من السائل فهل ينقطع المستدل أم يسمع منه الترجيح؟ فقيل: ينقطع. والصحيح أنه ينقطع إن عجز عن ترجيح دليله. وجوابه بالقدح بما يرد على ذلك إن كان من جهة المستدل.
واختلفوا في مسألتين:
إحداهما: في دفعه بالترجيح بمرجح أقوى من مرجحه:
فقيل: يمنع, لأنه وإن كان مرجوحا فلا يخرج عن كونه اعتراضا والمختار - ورجحه المحققون - جوازه لأنه موطن تعارض, وقد لا يجد السائل غيره مرجحا. وقضية كلام إمام الحرمين أن السائل إذا عارض المستدل بترجيح أقوى, وهو قادر على ترجيح مساو فقد تعدى. وليس كذلك, بل له المعارضة بالأقوى مع وجود المساوي, لأنه لم يذكر الأقوى من جهة كونه أقوى, بل من جهة كونه معارضا, ومزية القوة مصادفة. وقال ابن المنير: الأولى أن يذكر الأقوى, لأنه إذا ساغ له الترجيح المساوي فالأقوى

(4/297)


أولى. وفيه لطيفة, وهي أنه يوقف المستدل عن نوبة أخرى من الترجيح, لأنه قد اختلف مثلها, فيحتاج المستدل حينئذ إلى ترجيحين أو ترجيح أقوى من ذلك الأقوى فيضيق عليه نطاق الكلام وهو غرض المناظرة وفي ذكر الأقوى اختصار "انتهى". ولا خلاف أنه لو قابل ترجيح المستدل لا يقبل الاستغناء به عن أحدهما, فإن في الواحد كفاية, والزيادة توجب الإثبات, لأن ذلك غير منصبه.
الثانية: هل يقبل معارضة المعارضة بدليل مستقل؟
اختلفوا على مذاهب:
أحدها: نعم, لأنه دليل كالأول, فجاز أن يعارض. وعلى هذا يتساقطان ويسلم الدليل الأول من المعارض, قال المقترح: وكلام إمام الحرمين في تعارض النصين يقتضي اختياره.
والثاني : لا يقبل وإن قبلنا أصل المعارضة, لانتشار الكلام وأدائه إلى الانتقال, وإذا قبلنا ترجيح المستدل لدليله على ما عارض به السائل, فهل يشترط أن يكون منشأ الترجيح مذكورا في الدليل؟ قيل: يجب, لأنه لو تركه أولا لكان ذاكرا لبعض الدليل. وقيل: لا يجب, لأن مراتب المعارضة لا يعرفها المستدل في بدء استدلاله, فيؤدي إلى المشقة, بخلاف الاحتراز لدفع النقض, بدليل أنه إذا تعارض النصان سمع الترجيح من المستدل بالاتفاق, مع أنه لا يشترط أن يكون في نص المستدل ما يشير إلى الترجيح.
والثالث : وهو اختيار الآمدي التفصيل: فإن كان التفصيل وصفا من أوصاف العلة تعين ذكره, وإلا فلا, لأنه قد أتى بكمال الدليل, والترجيح أجنبي عنه.
تنبيه :
قسم ابن السمعاني المعارضة إلى ما تكون بعلة أخرى, وإلى ما هي بعلة المعلل بعينها, فالمعارضة بعلة أخرى تارة تكون في حكم الفرع, وتارة في علة الأصل - وقد سبقا - وأما المعارضة بعلل المعلل فتسمى "قلبا" وقد سبق حكمه.
وقال إلكيا الطبري: قسم الجدليون المعارضة إلى ثلاثة أقسام: معارضة الدعوى بالدعوى والخبر بالخبر, والقياس بالقياس:
فأما معارضة الدعوى بالدعوى فلا معنى لها إلا على تقدير وقع التشنيع.

(4/298)


وأما معارضة الخبر بالخبر فصحيحة, مثل أن يسأل عن قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عنها, فيقول: لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "من نام عن صلاة أو نسيها" 1 الحديث, فيرجع الكلام بعده إلى الترجيح.
وأما معارضة المعنى بالمعنى فعلى قسمين: "أحدهما" بين أصلين مختلفين. و "الثاني" من أصل واحد. ثم يتنوع نوعين: "أحدهما" في ضد حكمه فيكون معارضة صحيحة و "الثاني" في عين حكمه ولكن يتعذر الجمع بينهما.
فما كان بين أصلين مختلفين فهو الأصل في المعارضات. مثاله: طهارة الوضوء حكمية فتفتقر إلى النية, قياسا على التيمم. فيقول المعارض: طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية, قياسا على إزالة النجاسة فلا بد عند ذلك من الترجيح.
وأما ما كان من أصل واحد على الضد فضربان: "أحدهما" أن يجعل الأصل الواحد بينهما معنيين مختلفين. و "الثاني" أن يجعل نفس ما علل به معنى له.
فالأول كقوله: لما كان عدد الأقراء معتبرا بالمرأة وجب أن يعتبر بها عدد الطلاق, لأن البينونة متعلقة بها. فيعارضه بأنه يجب أن يعتبر بالفاعل قياسا على العدة. وفي الثاني يقول: نفس هذا المعنى يدل على أن الاعتبار بالفاعل, كالعدة.
قال: وأما معارضة الفاسد بالفاسد فهل تجوز؟ إن أمكنه إيضاح الفساد فلا يمنع منها. ومثلها بقول بعضهم: لا يصير مفرطا بتأخير الزكاة, فلا يلزم إخراجها إذا تلف المال أو مات. فيقال: ولا يجب عليه الزكاة بحال من حيث إنه بتأخيرها ولا تركها أصلا.
"قال": وقد يعارض المحال بالمحال: كقول الحنفي: ما أدركه المأموم من صلاة الإمام فهو آخر صلاته. فيقال له: لو جاز أن يكون آخر بلا أول جاز أن يكون أول بلا آخر, ولو جاز أن يكون ماء لا نجس ولا طاهر جاز أن يكون ماء نجس وطاهر بناء على أن القابل للضدين لا يخلو عن أحدهما.
"قال": وهذا النوع ليس بمعارضة حقيقة ولكن قصد به امتحان المذاهب. "انتهى".
ـــــــ
1 بهذا اللفظ لم أجده, وروى البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب من نسي صلاة فليصليها إذا ذكره......, حديث "597" عن النبي ثلى الله عليهةسلم قال: "من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذالك {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ورواه مسلم "4778" حديث "684".

(4/299)


ومسألة معارضة الدعوى بالدعوى سبقت في كلام الأستاذ أبي منصور وحكاية الخلاف فيها. وصرح الصيرفي في كتاب "الدلائل والأعلام" بمنعها, لعدم فائدتها, إذ لا يلزم أحد بدعوى الآخر. قال الإمام: إلا أن يكون قد أخرج دعواه مخرج الحجة فيعارض بمثلها. كقول المالكي: المستحاضة تستظهر ثلاثة أيام. فقيل له: فما الفصل بينك وبين من قال: لا تستظهر, أو تستظهر بيومين أو أكثر أو أقل؟ فإن لم يكن هذا فالقول ساقط.

(4/300)


السادس عشر: سؤال التعدية
وأدرجه الهندي في سؤال المعارضة في الأصل, وهي أن يعين المعترض في الأصل معنى غير ما عينه, ويعارض به, ثم يقول للمستدل: ما عللت به وإن تعدى إلى الفرع المختلف فيه, فكذا ما عللت به يتعدى إلى فرع آخر مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر. كقولنا: بكر فجاز إجبارها كالصغيرة.
فيقال: والبكارة وإن تعدت للبكر البالغ فالصغر متعد إلى الثيب الصغيرة. وهذا أيضا اختلف فيه, والحق أنه لا يخرج عن سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية في التعدية.
وجوابه إبطال ما عارض به, وحذفه عن درجة الاعتبار, وهل على المستدل أن يبين أنه لا أثر لما أشار إليه المعترض من التسوية في التعدية أو لا يجب؟.
قال الأكثرون: لا يجب. وقال أبو القاسم الداركي رحمه الله: بل للتسوية في التعدية أثر في المعارضة فلا بد من التعرض لإبطاله.
ولخص الإبياري شارح "البرهان "سر التعدية فحمل الأمر إلى أن سرها التبري من عهدة النسبة إلى العناد بإيراد وصف لا يعتقد اعتباره, فعداه المعترض إلى فروعه حتى يبين أنه يعتقد ذلك ويفرعه عليه. "قال": وهذا أمر أجنبي عن غرض الجدل, فإن الاعتناء به دفع لسوء الاعتقاد الذي يدفعه ظاهر الإسلام من غير حاجة خاصة بالجدل, قال ابن المنير: ولعمري إنه كما قال لو لم يكن لها سر سوى هذا, وليس الأمر كذلك, بل سرها عند واضعها أن المعترض إذا عارض معنى الأصل بمعنى أمكن أن يقول له المستدل: معناي أولى, لأني قد حققت تعديته إلى الفرع, وإنه يفيد حكما لولاه ما استفدناه. وغاية ما صنعت أنك أبديت معنى في الأصل, فلعله قاصر فلا يتعدى إلى فرع يتحقق به كونه مفيدا, فيبين المعترض حينئذ أنه يساوي المستدل. فإن

(4/300)


عدى معناه إلى فرع من فروعه تحقق كونه مفيدا متعديا. وحاصل الأمر طلب تساوي الانعدام بين المستدل والمعترض, ودفع احتمال القصور الذي هو إما قادح إن بنينا على أن العلة قاصرة مردودة, أو مرجوح إن بنينا على أنها مقبولة ولكن التعدية أولى.
مسألة
القول بالموجب والمعارضة, والقلب, والنقض, والمنع لا يختص بالقياس, بل يتوجه على سائر الأدلة من قياس وغيره, إلا المنع فإنه لا يتوجه على متن الكتاب. وفساد الوضع, والفرق, والمطالبة ببيان التأثير, والتركيب, والكسر, وكون محل النزاع لا يجري فيه القياس مختص بالقياس.

(4/301)


فصل
اختلفوا في ترتيب الأسئلة على مذاهب:
أحدها : لا يجب ترتيبها, ولا حجر على المعترض فيما يورده منها على أي وجه اتفق.
الثاني : يجب الترتيب, إذ لو جاوزنا إيرادها على أي وجه اتفق لأدى إلى التناقض من حيث إنه قد يوجد المنع بعد المعارضة, أو يوجد النقض أو المطالبة قبل المنع ثم يمنع بعد ذلك. وهو ممتنع لما فيه من المنع بعد التسليم والإنكار بعد الإقرار. قال الآمدي: وهذا هو المختار, ولكن بشرط كونه عارفا, وإلا فيفوت عليه أكثر مقصوده في الاسترشاد.
الثالث : إن اتحد جنس السؤال, كالنقض والمطالبة والمعارضة في الأصل والفرع جاز إيرادها من غير ترتيب, لأنه لا تناقض. وهي بمنزلة سؤال واحد وحكى الآمدي في هذا القسم اتفاق الجدليين.
فإن تعددت أجناسها, كالمنع من المطالبة والنقض والمعارضة ونحوه نظر: فإن كانت الأسئلة غير مرتبة قال الآمدي: فأجمعوا على جواز الجمع بينها إلا أهل سمرقند, فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط. وإن كانت مرتبة, كالمنع والمعارضة, فيقدم المنع ثم المعارضة ولا يعكس هذا الترتيب, وإلا لزم الإنكار بعد الإقرار, ونقله الآمدي عن أكثر الجدليين. وقيل: لا يمنع ذلك بعد تسليم وجود الوصف وإن سلم عن المنع تقديرا فلا يسلم عن المطالبة وغيرها. وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق. والمختار أنه لا بد من ترتيب الأسئلة إذا لزم من تقديم بعضها على بعض منع بعد التسليم. فإن لم يلزم ذلك كان الترتيب مستحسنا لا لازما.
فعلى هذا اختلفوا:
قال المحققون من المتأخرين: الترتيب المستحسن أن يبدأ بالمطالبات أولا, لأنه إذا لم يثبت أركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة. ثم بالقوادح لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحا. ثم بالمعارضة إذ لا يلزم من صحته وجوب العمل. ثم إذا بدأ بالمنوع فالأولى يمنع وجود الوصف في الفرع, لأنه دليل الدعوى, ثم يمنع ظهوره وانضباطه, لأن ذلك شرط كونه دليلا, ثم يمنع كونه علة في الأصل, لأنه

(4/302)


دليل الدليل.
فإذا نقض المنوع شرع في القوادح, فيبدأ بالقول الموجب لوضوح مأخذه, ثم بفساد الوضع واختصاصه بالشرع, ثم بالقدح في المناسبة كأنه يتبين به فوات شرط كونه علة, ثم بالمعارضة في الأصل, لأنه يرجع إلى تطريق الإكمال لشهادة الأصل, ثم بالنقض والكسر لأنه معارضة لدليل الاعتبار بدليل الإهدار, ثم بالمعارضة في الفرع. وليس في هذا الترتيب شيء لازم سوى تأخير المعارضة.
وذهب الأكثرون من القدماء, كما قاله أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل [إلى أنه] يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل, لأنه إذا كان ممنوعا لم يجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعا أو مسلما, ولا كون الأصل معللا بتلك العلة أو بغيرها, ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع بأن الأصل معلل بتلك العلة, ثم باطراد العلة, ثم بتأثيرها, ثم بكونها موضوعة ومحلها غير فاسد الوضع, ثم بالمحاماة عن مخالفة الإجماع والنص, ثم بالقلب, ثم بالمعارضة.
"قال" هذا هو الترتيب الصحيح. وكذا جعل إمام الحرمين المعارضة آخر الأسئلة, لأنه إذا سلم الدليل خاليا عن القوادح كلها فإذ ذاك يرد عليه سؤال المعارضة. وقال أكثر الجدليين - وارتضاه متأخرو الأصوليين: أول ما يبدأ به الاستفسار, ثم فساد الاعتبار, ثم فساد الوضع, ثم يمنع حكم الأصل, لأن الحكم مقدم على العلة, لأن استنباط العلة بعده, ثم منع وجود العلة في الأصل, ثم النظر في علية الوصف, كالمطالبة, وعدم التأثير, والقدح في المناسبة, والتقسيم, وعدم ظهور الوصف وانضباطه, وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك المقصود, ثم النقض والكسر, لكونهما معارضة للدليل, ثم المعارضة في الأصل لأنها معارضة للعلة فكان متأخرا عن تعارض دليل العلة والمتعدية والتركيب, لأن حاصلها يرجع إلى المعارضة في الأصل, ثم بعده ما يتعلق بالفرع لمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه بحكم الأصل, ومخالفته للأصل في الضابط في الحكم, والمعارضة في الفرع, وسؤال القلب, ثم بعده القول بالموجب, لتضمنه لتسليم كل ما يتعلق بالدليل في الجملة, مع بقاء النزاع. ثم بعد ذلك المعارضة لأنها تسليم الدليل بخلاف القول بالموجب فإنه نزاع في دلالة الدليل على الحكم مع الاعتراف به.
وقد أورد على هذا الترتيب إشكالان:
أحدهما : أنه أخل بذكر الفرق, والقلب, فإن كان ذلك لأجل أنهما

(4/303)


مندرجان تحت المعارضة وجب أن لا يذكر النقض, لأنه معارضة للدليل على العلية, فهو مندرج تحت المعارضة, وأن لا يذكر المطالبة, ولا القول بالموجب, لأنهما يرجعان إلى المنع.
الثاني : أنه أخر القول بالموجب عن النقض وعن غيره من الاعتراضات, وقدمه على المعارضة. فإن كان ذلك لأجل الدليل إذا لم يسلم من القوادح, كالنقض وغيره لا يقال بموجبه لزم أن يتأخر أيضا القول بالموجب عن المعارضة, لأن المعارضة أيضا من جملة القوادح, لأنها مضادة للدليل, وما لم يسلم الدليل عن القوادح لا يقال بموجبه, وإن كان سبب تقدمه على المعارضة كون الدليل لم ينصب في موضعه توجه عليه القول بالموجب كذلك, فليقدم القول بالموجب على سائر الأسئلة المتأخرة عن فساد الوضع لأنه صار شبيها بفساد الوضع فيظهر أن حق القول بالموجب أن يتقدم على جميعها أو أن يتأخر عن جميعها.
وحكى ابن السمعاني عن أصحابنا العراقيين أنهم قالوا: أول ما يبدأ السائل من الاعتراض أن ينظر في المختلف فيه هل يجوز إثباته بالقياس, فيمنع من القياس إن كان لا يجوز, ثم ينظر في الأصل هل يجوز أن يعلل, ثم ينظر في العلة هل يجوز أن يكون مثلها علة, ثم يذكر الممانعة في الأصل إن لم يكن مسلما, ثم يطالب بتصحيح العلة في الأصل, ثم يقول بموجب العلة إن أمكنه, ثم ينقض. ومنهم من يقدم النقض على القول بالموجب ثم يأتي على ما بقي من عدم التأثير والكسر وفساد الوضع. ثم يأتي بالقلب والمعارضة. "قالوا": وإن خالف ما ذكرناه وبدأ بغيره جاز, وإن كان قد ترك الأحسن إلا في الممانعة والنقض فإنه يجوز أن ينقض ثم يمانع. لأن الناقض يعترف بوجود العلة وأما المانع فيمنع وجود العلة, فإذا مانع بعد المناقضة فقد رجع فيما سلم, وهذا لا يجوز.
مسألة
قال الخوارزمي في النهاية: صار جماعة من أئمة العصر إلى أن الجمع بين سؤالين لا يتصور, لأنه إذا منع ثم سلم يكون أيضا منع بعد التسليم, وهو غير مسموح جدلا, وهو فاسد, لأن المطالبة بعد المنع اعتراف بعد إنكار وهو مسموح في مجلس القضاء في أمر الفروج والدماء فلأن يسمع ذلك هاهنا أولى.

(4/304)


فصل :
ذكروا أن جميع الأسئلة ترجع إلى المنع والمعارضة, لأنه متى حصل الجواب عن المنع والمعارضة تم الدليل وحصل الغرض من إثبات المدعى ولم يبق للمعترض مجال, فيكون ما سواها من الأسئلة باطلا فلا يسمع, لأنه لا يحصل الجواب عن جميع المنوع إلا بإقامة الدليل على جميع المقدمات وبيان لزوم الحكم فيها وإلا لاتجه المنع. وكذلك لا يحصل الجواب عن المعارضة إلا ببيان انتفاء المعارض عن كلها وبيان كيفية رجوعها إلى ذلك:
أما الاستفسار فلأن الكلام إذا كان محتملا لا يحصل غرض المستدل إلا بتفسيره, فالمطالبة بتفسيره تستلزم منع تحقيق الوصف ومنع لزوم الحكم عنه, فهو راجع إلى المنع.
وأما التقسيم فهو راجع إلى المنع أو المعارضة, لأن الكلام إذا كان محتملا لأمرين فيضطره المنع إلى اختيار القسمين, وحينئذ يتجه عليه المنع أو المعارضة.
وأما المطالبة فهي مع لزوم الحكم عن الوصف فهي داخلة في النقض.
وأما النقض فمعارضة, لأنه يبطل العلة.
وأما الفرق فكذلك, لأنه ما يكون بدا معنى في الأصل أو في الفرع عن المعنى الذي علل به المستدل.
وأما الكسر فهو نوع من النقض, والنقض معارضة. وأما القول بالموجب فهو راجع إلى المنع, لأنه عبارة عن تسليم الدليل مع استيفاء النزاع في الحكم, وذلك منع لزوم الحكم مما ادعاه المستدل.
وأما القلب فمعارضة في الحكم, وقيل: إنه راجع إلى المنع.
وأما عدم التأثير فمعارضة في المقدمة, وذلك لأن المستدل إذا احتج بالقياس فقال له المعترض: ما ذكرته من المعنى الجامع غير صالح للعلية لثبوت الحكم بدونه كان ذلك معارضة في المقدمة, لأن ثبوت علية الوصف الجامع مقدمة في القياس.
وحاصله راجع إلى القدح في كون الجامع علة ببيان ثبوت الحكم بدون جزء من أجزاء العلة, وهو في الحقيقة معارضة في العلة, لأن المستدل يدعي كون المجموع المركب علة, والمعترض لعدم التأثير يبين كون بعض المجموع علة لا ذلك المجموع كله,

(4/305)


وذلك معارضة للكل بالبعض, وهو لطيف غامض.
وأما الترجيح فهو معارضة في حكم المسألة, وكيفية توجيهه أن يقال: موجب ما ذكرنا من الدليل راجح على ما ذكرتم ويبينه بطريقه, فلو لم يثبت موجبه للزم الترك بالدليل الراجح, وإنه ممتنع. وللخصم أن يمنع أنه غير الأول, لأنه شرط الغير أن يكون مغايرا له ذاتا, بمعنى أنه يمكن وجود كل منهما بدون الآخر, احترازا من المطلق والمقيد, فإن كان من المستدل فهو معارضته لما اعترض به المعترض, كان المعارضة عبارة عن إقامة دليل يوقف به دليل خصمه. والترجيح كذلك. لأنه يقتضي ثبوت الراجح, فيدفع ما أبداه المعترض لكونه مرجوحا. وأما فساد الوضع فهو منع لزوم الحكم عن الدليل, لأن ثبوت الحكم بالقياس بشرط أن لا يكون النص موجودا لكن النص موجود.
وأما فساد الاعتبار فيرجع إلى المنع, لأنه مع ثبوت القياس على مخالفة النص وقد وجد النص واعتبار القياس على وجوده اعتبار فاسد, فلا يترتب عليه الحكم, فإذا فساد الاعتبار راجع إلى منع لزوم الحكم, وأما دعوى كون محل النزاع لا يجوز فيه القياس فهو راجع إلى المعارضة في العلة أو في الحكم.
وإذا علمت رجوع جميع الاعتراضات إلى المنع والمعارضة فاعلم أن بعضهم زعم أن المعارضة راجعة إلى المنع.
فائدة :
قال بعضهم: حال المتناظرين, أو الناظر مع نفسه, في طلب وجه الحكم الشرعي كحال الخصمين بين يدي الحاكم, فالمستدل كالمدعي, والسائل كالمدعى عليه, والحكم المطلوب كالحق المدعى به. وأصل القياس في الشاهد. وعلة الأصل كنطق الشاهد بأداء شهادته. والشرع الذي هو الكتاب والسنة الحاكم الذي ينفذ الحكم أو يرد, بالتصديق أو بالتكذيب. ورد السائل القياس لوجود النظر كتزييف الشهود وردهم بأمر لازم لا خلاف فيه. والممانعة في حكم الأصل ووصفه كإنكار حضور الشهود. والممانعة في وجود علة الأصل كإنكار شهادتهم, ومثله إنكار وجود العلة في الفرع, والوضع الفاسد كتنافي الشهادة وتوافقها. والمطالبة بالدليل على صحة العلة كتكليف المدعي تعديل الشهود. والنقض كإظهار كذب الشهود في مثل ما شهدوا به عليه. والقول بالموجب كتفسير الشهادة بما يحتملها ليخرج من عهدتها بالشيء المدعى به. والمعارضة

(4/306)


كمقابلة الشهود ببينة تشهد بخلافها, فتتهافت الشهادتان, وكلها مفسدة للقياس, وإذا سلم منها كان معمولا به.
مسألة
قال البلعمي: الانقطاع كاسمه, وحكمه مقتضب من لفظه, وهو قصوره عن بلوغ مغزاه, وعجزه عن إظهار مراده ومبتغاه. وقال الصيرفي: الانقطاع من المجيب ما دام السائل مطالبا يكون إما بالخروج من مسألة إلى مسألة عن جواب ما سأل عنه, أو الاعتراف بأن لا جواب عنه, أو كون ما يدفعه عدله على نفسه إما جحد الضرورة أو سمع أو غير ذلك من الأصول, أو السكوت عن الجواب بعد أن أخذ فيه.
وانقطاع السائل بأن لا يكون معه زيادة في سؤاله, وقد يتهيأ للسائل أن يقول: هذا مذهب صحيح وإليه كنت أدعوك اللهم إلا أن يكون ما قد ظهر من الخلاف يدل على خلاف هذا. والخروج من مسألة إلى أخرى لا يتصل لمناقضة الخصم أو السكوت بعد أن يقع الجواب.
قال الأستاذ أبو منصور: الانقطاع عبارة عن العجز عن بلوغ الغرض المقصود إما بانتقاله من دليل لم يصححه إلى دليل آخر. واختلفوا فيمن سئل عن مسألة فأجاب بالدليل, فقيل: انقطاع, والتحقيق: إن كان فيه تنبيه على الحكم لم يكن انقطاعا ولا انتقالا. وهذا كما سأل إسحاق الحنظلي الشافعي عن بيع دور مكة فقال: "هل ترك لنا عقيل من رباع؟" 1 وهذا إنما هو دليل استدل به على جواز البيع.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الحج باب توريث دور مكة وبيعها.... حديث "1558" ورواه مسلم "3/1233" برقم "1614" مختصرا.

(4/307)


فصل في الانتقال
وقد منعه الجمهور. وقال الشاعر:
وإذا تنقل في الجواب مجادل ... دل العقول على انقطاع حاصر
ولأنا لو جوزناه لم بات إفحام الخصم ولا إظهار الحق, وذلك لأنه يشرع في كلام وينتقل إلى غيره قبل تمام الأول وهكذا إلى ما لا نهاية له, فلا يحصل المقصود من المناظرة وهو إظهار الحق وإفحام الخصم.
واستثنوا من ذلك ما إذا استفاد من الكلام المتنقل عنه فائدة لو لم يذكره أولا لم تحصل له تلك الفائدة. ذكره صاحب "الإرشاد".
فأما السائل لو انتقل من السؤال قبل تمامه وقال: ظننت أنه لازم فبان خلافه فمكنوني من سؤال آخر ففيه خلاف حكاه بعضهم, وقال الأصح أنه يمكن منه إذا كان انحدارا من الأعلى إلى الأدنى. فإن كان ترقيا من الأدنى إلى الأعلى, كما لو أراد الترقي من المعارضة إلى المنع فقيل: لا يمكن لأنه مكذب لنفسه. وقيل: يمكن, لأن مقصوده الإرشاد.
وأما المسئول فيمكن من الغرض كما سيأتي. ولو أراد العدول من دليل إلى دليل لا يؤيد الأول كان منقطعا. فإن ترك الدليل الأول لعجز السائل عن فهمه لا يعد انقطاعا. وعلى ذلك حملت قضية إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. وجوز بعضهم الانتقال مطلقا. محتجا بالاحتجاج على الكافر {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] بعد الاحتجاج عليه بأن الله يحيي ويميت. قال الأصفهاني: وهذا ليس بانتقال, بل هو في غاية الحسن والكمال في صنعة الجدل وبيانه أنه لما وضع الاحتجاج على الملحد بما يعجز هو عنه ويعترف به. وذلك بأن الله يحيي ويميت, أورد الملحد شبهة خيالية عليه فبدل ذلك المثال المعجوز عنه بمثال لا يقدر على إيراد شبهة خيالية عليه, وهو قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: 258]. وهذا لأن كل واحد من المثالين يعجز عنه الملحد قطعا, إلا أن المثال الثاني لا قدرة له ولا لغيره على إيراد شبهة خيالية عليه, فإذن الدليل على أن الله قادر على ما

(4/308)


يعجز مدعي الإلهية عنه, والمثالان مشتركان في ذلك, إلا أن المثال الأول أمكنه أن يبدي خيالا فاسدا عليه, والثاني ليس كذلك. والاستدلال بالمشترك بين المثالين وليس انتقالا أصلا.
وقال الأستاذ أبو منصور: ليس هذا انتقالا, لأن خصمه لم يفهم دليله الأول, وعارضه على إحياء الموتى بتركه قتل من يمكنه قتله. والحجة عليه باقية لعجزه عن إحياء من قد مات, فلما تقررت هذه الحجة ألزمه حجة أخرى هي إلى فهم خصمه أقرب فقال: إن كنت إلها فاقلب الشمس في سيرها إلى طلوعها من مغربها إن كنت مجريها, فاعترف خصمه عن جوابه في الحجة الثانية وكان في التحقيق منقطعا عن الجواب في الأولى قبل الثانية لو أنصف من نفسه. وقال الإمام في الأربعين": الدليل كان شيئا واحدا وهو حدوث ما لا يقدر الإنسان على إحداثه, فهو يدل على قادر آخر غير الخلق. ثم هذا المعنى له أمثلة الإحياء والإماتة وطلوع الشمس من مشرقها. فهذا كان انتقالا من مثال إلى مثال. أما الدليل فشيء واحد في الحالين.

(4/309)


فصل في الفرض والبناء
اعلم أن للمسئول في الدلالة ثلاثة طرق:
أحدها : أن يدل على المسألة بعينها.
والثاني : أن يفرض الدلالة في بعض شعبها وفصولها.
والثالث : أن يبني المسألة على غيرها, فإن استدل عليها بعينها فواضح. وإن أراد أن يفرض الكلام في بعض أحوالها جاز, لأنه إذا كان الخلاف في الكل وثبت الدليل في بعضها ثبت الباقي بالإجماع. وإن أراد أن يفرض الدلالة في غير فرد من أفراد المسألة لم يجز. وأما إذا أراد أن يبني المسألة على غيرها فيجوز, لأنه طريق من طرق المسألة. وإما أن يبنيها على مسألة أصولية, كقول الظاهري في الغسل لا. بناء على منع القياس, وإما أن يبنيها على مسألة أخرى فرعية, كالخلاف في الشعر هل ينجس بالموت؟ بناء على أنه هل تحله الحياة أم لا؟ هذا إذا كان طريقهما واحدا. فإن اختلف لم يجز بناء بعضها على بعض. كما لو سئل الحنفي عن قتل المسلم بالكافر فقال: أنا أبنيه على أن الحر يقتل بالعبد, فهذا لا يصح فيه البناء, لأنهما مسألتان مختلفتان.
واعلم أنه قد كثر في عباراتهم "والفرض والبناء" من غير تحقيق. ومعناه: أن يسأل المستدل عاما فيجيبه خاصا, مثل أن تكون المسألة ذات صور, فيسأل السائل عنه سؤالا لا يقتضي الجواب على جميع صورها, فيجيب المستدل عن صورة أو صورتين منها, لأن الفرض هو القطع والتقدير, فكأن المستدل اقتطع تلك الصورة عن أخواتها فأجاب عنها. وهو إما فرض في الفتوى, كما لو سئل في البيع الفاسد, هل ينعقد أم لا؟ فيقول: لا ينعقد بيع درهم بدرهمين, لورود النهي, فإن بيع الدرهم بالدرهمين من صور البيع الفاسد لا عينه. وإما فرض في الدليل بأن يبني عاما ويدل خاصا, مثل أن يقول: لا ينعقد البيع الفاسد, لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع درهم بدرهمين. والضابط أن يكون المستدل يساعده الدليل عليها, فإذا تم له فيها الدليل بنى الباقي من الصور عليها, ولذلك يسمى الفرض والبناء.
وإذا عرفت هذا فقد اختلف في جوازه: فذهب ابن فورك إلى أنه لا يجوز, لأن حق الجواب أن يطابق السؤال.

(4/310)


وذهب غيره من الجدليين إلى الجواز, لأن المسئول قد لا يجد دليلا إلا على بعض صور السؤال, ولأنه قد يرد على جوابه العام إشكال لا يندفع, فيتخلص منه بالفرض الخاص. وقال إمام الحرمين: إنما يجوز إذا كانت علة الفرض شاملة لسائر الأطراف. "قال": والمستحسن منه هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل, وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها. وحاصله: إن ظهر انتظام العلة العامة في الصورتين كان مستحسنا وإلا كان مستهجنا. وفائدته كون العلة قد تخفى في بعض الصور, وفي بعضها أظهر. فالتفاوت بالأولوية خاصة والعلة واحدة. وهذا بمثابة توجه النهي إلى جميع أذيات الأب إلى التأفيف. ويشبه الفرق بين التواطؤ والمشترك, فإن نسبة الآحاد إلى التواطؤ متساوية, بخلاف المشكل.
قال ابن المنير: وأعجبني من الشيخ عز الدين بن عبد السلام كلام أورده في استبعاد مذهب الشافعي في
مسألة
الوصية بجزء من ماله, أو سهم, فإن مذهب الشافعي حمل الوصية على الأقل: فمهما سلمه الورثة خرجوا به عن العهدة. فكان يستبعد هذا ويفرض فيما لو احتضر متمول واسع المال فعطفه الحاضرون على ولد ولد توفي في حياته وقيل له: إن ولد ولدك لا ميراث له مع غيره, فلو وصلت رحمه وأغنيت فقره بعدك بأن توصي له بشيء من مالك ليكون له مع ولدك مدخل. فقال المحتضر: قد أوصيت له بسهم من مالي, وأوصى عمه به حين توفي هذا المحتضر, فعمد ولده إلى سفرجلة أو تمرة فسلمها لولد الولد زاعما أن هذا مراد أبيه لقطع كل عاقل بأن هذا الوارث مدافع للوصية مراد. وكان الشيخ يستصوب مذهب مالك في حمله "السهم" على إلحاق الموصى له بسهمان الورثة. لكن يرجع إلى أقلهم سهما فيعطى مثله جمعا بين المعرف وبين الأصل في الحمل على الأقل. ومثل هذا الفرض يستحسن لا باعتبار تعدد العلل, ولكن باعتبار تمكن الصورة المفروضة من الدليل وإن كان شاملا للجميع ولكن شمولا متفاوتا.
قال: ثم وقع لي بعد ذلك أن الشيخ في فرضه إيقاف للأذهان في مباديها, وإذا تؤمل اندفع التشنيع من الفقيه المفتي بأقل شمول لا الموصي الذي هو الحقيق باللوم وآية ذلك أن الموصي لو قال في السياق المذكور: ادفعوا له أقل متمول لم يكن بد من

(4/311)


قبول السفرجلة ونحوها على سائر المذاهب. وكذا لو صرح بها, ولا لوم على الفقيه إذا قال: لا يستحق الموصى به أكثر من ذلك, فكذلك إذا عدل الموصي عن التعيين وقال: ادفعوا له سهما أو جزءا. وقد اتفقنا على أن "الأكثر" لا ينضبط. وكذلك الأوسط" لتعدد حال الوسائط, فلم يبق من الأطراف الثلاثة إلا "الأقل" فكان كما لو صرح, فاللائمة حينئذ على الموصي لا على المفتي. واعلم أن بناء مسألة على أخرى إن كان قبل الشروع في الاستدلال فلا خلاف في جوازه, وإن كان بعده فإن ابتدأ الدلالة ولم يذكر أنه يريد البناء فلا يخلو: إما أن يكون من الأصول, كاستدلال المالكي على الحنفي بإجماع أهل المدينة في مسألة الأذان. فإن سلم الحنفي تسليما جدليا عدل إلى غيره من الأسئلة, وإلا قال له المسئول: هذا أصل من أصولي, وأنا أبني فرعي على أصلي, فإن سلمت وإلا نقلت الكلام, فإن نقل جاز, وإن قال: لا أسلم ولا أنقل الكلام إليه لم يكن له ذلك.
وإن كان الذي بنى عليه فرعا يمانعه السائل, فإن أراد نقل الكلام إلى مسألة البناء فهل يجوز ذلك؟ قال أبو علي الطبري: ليس له ذلك, لأنه انتقال. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: له ذلك, وهو الصحيح عندي, اعتبارا ببنائها على أصل من الأصول الظاهرة.

(4/312)


فصل: من ألطف حيل المتناظرين
...
فصل
قال البلعمي في الغرر": ألطف حيل المتناظرين ثلاثة أصناف:
أحدها : نقل السائل عن سؤال: وإنما يكون عند استشهاده على المجيب بما يلزمه ويقطعه. فإذا أراد المجيب نقله جحد بعض ما استشهد به عليه وإن كان واضحا, فإذا بينه اختلط الكلامان, وبه ينقله من المسألة الأولى إلى غيرها, فيجب على السائل إمعان النظر في مثل هذا.
والثاني : تقسيم السؤال: وهو أن ينظر المجيب إلى أحواله, فإن كان محتملا لوجوه شتى قسمه على وجوهه ليطيل مناظرة السائل ويشغل قلبه عن قوة المناظرة, فيبطل غرض السائل في الجدل. فالواجب على السائل أن لا يمكنه من التقسيم, لئلا يلتبس عليه غرضه.
الثالث : ضرب الأمثال: وهو أن يقصد تكثير الأمثال المضروبة في القرآن ليجبن خصمه, مثل أن يقول في جواب دعواه: قوله تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [ابراهيم: 18] فإذا أراد الخصم إلزامه فتعذر عليه وانقطع دونه تلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101]

(4/313)


فصل في التعلق بمناقضات الخصوم
لخصته من كلام إلكيا: لا خلاف أنه لا يجوز إثبات المذاهب إلا بدليل إجماعي أو مستقل من أوضاع الشرع وفاقا. ولكن اختلفوا في التعلق بمناقضات الخصوم في المناظرة:
- فذهب جماعة إلى جوازه من حيث إن المقصود من الجدل تضييق الأمر على الخصم وإبانة استقامة أصله.
- وفصل القاضي تفصيلا حسنا لا غبار عليه فقال: إن كانت المناقضة عائدة إلى تفاصيل أصل لا يرتبط فسادها وصحتها بفساد الأصل بحال, بل الأصل إذا ثبت استصحب حكمه على الفرع فلا يجوز التعلق بها من حيث إنه لا يعود على المقصود, ولئن قيل: فيها مقصود صحيح وهو اضطرار الخصم إلى إبانة الحجة التي يعول الخصم عليها فبه يتم النظر, ثم تكلم على المأخذ على هذا التدريج وحينئذ فيجوز التعلق به, ولكن كلامنا فيما إذا علم أن الفرع فاسد لفساد نظر الخصم فيه على الخصوص لا في الأصل, وهذا يعز وجوده, ولكن إذا وجد كان حكمه ما ذكرنا.
وإن كان التعلق بالفرع من قبل امتحان الأصل بسياقه وعلم أن الفرع من ضرورات الأصل, فيجوز التعلق به وفاقا.
وسبب هذا التفصيل أن الذي يسأل عن مسألة فيفتى فيها فلا بد له من نصب دليل على ما أفتى به, ولن يتحقق نصب الدليل على ذلك إلا بوجهين: "أحدهما" الهجوم على ذكر الدليل والبحث عن المعنى, وهذا هو الأصل. و "الثاني" أن ينقدح بإبطال مذهب الخصم إلى إثبات مذهبه إذا لم يكن في المسألة إلا مذهبان, أو اعترافا بأن ما عدا المذهبين باطل. وإقرارهما على أنفسهما حجة.
مسألة
قال: إذا ذكر المعلل وصفا وقاس على أصل فهل عليه إثبات علة الأصل بطريق من مسالك العلة أم لا يجب عليه ويقال للسائل: إن أنت أثبت أنه ليس بصالح لإثبات الحكم بطل تعليله؟ قال إلكيا: فيه خلاف:

(4/314)


فصار صائرون إلى أن ذلك على السائل من حيث إن المعلل ذكر وصفا أصلا, فقد وجد فيه حد القياس وركنه. والأصل أن القياس حجة, وأن كل وصف يربط الفرع بالأصل فهو حجة, وإنما يفسد لاختلال الشرائط, وهذا ليس بالعري عن التحصيل. ولو فرض التواطؤ عليه لم يكن هذا.
ولكن الصحيح مع هذا أن ذلك على المعلل, فإن عليه أن يأتي بما يظهر من مقصوده, ليخرج الكلام عن حد الدعوى بظهور مخيل. ثم القوادح على المعترض.
وإذا عرف هذا فلو ذكر معنى مناسبا كفاه, وإن كانت المعاني منقسمة إلى صحيح وفاسد, لأن الأصل اعتبار المعاني التي لها أصول, والبطلان معارض فإن ثبت أن للأصل اعتبار أوصاف لها أصول فإن لم تتحقق المناسبة فالأمر في الوصف كذلك, وإنما يمكن ذلك بإثبات الطرد حجة وراء الذي يقال فيه: إن الحكم يدل على الحكم, والأوصاف تدل على الاجتماع في الطرد, والوصف عند مثبته يدل على الحكم في الفرع والأصل على السواء فإن ثبت هذا فالوصف المطلق كالمخيل. وقيل: لا بد من إبراز الإخالة والعرض على الأصول, تحقيقا لشرطه.

(4/315)


فصل في الاحتجاج بالمختلف فيه بين الخصمين
قال الصيرفي: يصلح لمثبتي الخبر والقياس الاحتجاج به على مخالفيهم في المسائل التي دليلها من هذين الوجهين. فإن قال قائل: إني أخالفك في الخبر والقياس, قيل له: إن أنت خالفتني فيهما فوجه دلالتي منه كذا, فإن خالفتني فيه بينته عليك, وإن سلمته فحجتي بينة, وليس علي أن أدلك على الأواخر من غير إثبات الوسائط. فإما أن يسلم أو يشك في الأصل, فهذا موضع المطالبة على الدليل بالدليل, إذ قد كان الدليل يسوغ فيه الخلاف.
وهذا يفسر قول بعض الجدليين إنه إذا سئل عن الدليل قال: الدليل لا يحتاج إلى الدليل. ولو ساغ ذلك لأدى إلى ما لا نهاية له. فيقال له: لا نسلم صيرورته إلى ما لا نهاية له, لأن الأسئلة منحصرة وشواهد العقل تمنعه. ولهذا لما زعم الكفار أن هذا قول البشر وأساطير الأولين ردهم الله تعالى إلى ما في عقولهم, أي: أيها البلغاء الفصحاء إن كان كما تقولون فأتوا بسورة من مثله فإذا عجزتم مع ما اجتمع فيكم من الصفة فاعلموا أنه ليس من عند الأمي الذي نشأ بينكم, وأنه من عند الله.
وقال القاضي أبو الطيب: لا يجوز لأحد أن يلزم خصمه ما لا يقول به إلا النقض, فأما غيره, كدليل الخطاب أو القياس أو المرسل ونحوه, فلأنه استشهاد الخصوم على صواب مذهبهم بخطأ غيرهم.
قال الصيرفي: رأيت جماعة من الحذاق يسمون هذا الاعتلال حدا, وهو قولهم: قلت كذا ولم أقل كذا كما قلت, وهذا القول غير مرضي عند المخالف. وحاصله: أنه استدل على صواب قوله في ترك ما تركه واختيار ما اختاره بخطأ خصمه في ترك ما يدعيه مع اختياره لنظيره. مثاله: لو سأل الشافعي مالكيا في المصلي تطوعا إذا قطعه لعذر ولم يعد, أو مختارا أعاد, وقد قلت: من دخل في صلاة تطوع فقد وجبت عليه, وقد سويت في الواجب من الفرض بين من اختار الخروج من الصلاة الواجبة ومن اضطر في الإعادة, فلم لا جعلت الإعادة فيهما سواء؟ فيقول له: قلت في هذا كما قلت أنت في صلاة التطوع والفرض: لا يجوز إلا بطهارة وأن من أحدث في الواجب أعاد ومن أحدث في التطوع لم يعد. فهذا الاعتلال من المالكي خطأ. لأن الواجب عنده الإعادة فيهما فليقله, وهو لا يقول.

(4/316)


فصل في السؤال والجواب
قال الصيرفي: السؤال إما استفهام مجرد وهو الاستخبار عن المذهب أو العلة, وإما استفهام عن الدلالة, أي التماس وجه دلالة البرهان ثم المطالبة بنفوذ الدليل وجريانه. وسبيل الجواب: هكذا أختار: مجرد, ثم الاعتلال, ثم طرد الدليل. ثم السائل في الابتداء إما أن يكون غير عالم بمذهب من يسأله أو يكون عالما به. ثم إما أن لا يعلم صحته فسؤاله لا معنى له. وإما أن يعلم فسؤاله راجع إلى الدليل.
والحاصل أن من أنكر الأصل الذي يستشهد به المجيب فسؤاله عنه أولى, لأن الذي أحوجه إلى المسألة الخلاف, فإذا كان الخلاف في الشاهد فالسؤال عنه أولى. قال أبو بكر: وينبغي للسائل أن لا يسأل المناظرة إلا بعد فهم ما يسأل عنه. وكذا لا ينبغي للمجيب أن يجيب عن شيء حتى يعلمه, وبسبب هذا يقع الخبط في المناظرات. وليس للمجيب أن يرجع على السائل بالجواب قبل أن يجيب هو أو يعترف بالعجز عنه أو يضرب عنه.
فإن سأل السائل الجواب أجاب. فإن قيل له: هذا يلزمك في مذهبك كما سألت, فإن هذا ربما فعل للحيلة, فالوجه أن يقول السائل: عن حجتك لنفسك ثم إن شئت فعد بعد ذلك سائلا, فإما أن تجيب أو تعترف بأن لا جواب. ثم تقبل سؤاله إن شئت. وإن كان إذا سئلت عن شيء يرجع على خصمك فقل: إنما أجيبك عن هذا بشرط أن تصبر لقلبنا عليك السؤال, فإن سؤالك راجع عليك فهو كما تسأل عن نفسك.
ولا يترك الجواب عما يسأل ويرجع سائلا إلا أحد رجلين: إما جاهل يجد السؤال والجواب فلا يناظر, أو يقدر أن يحتال على خصمه من أن يظهر الانقطاع أو العجز عن الجواب. فإن لم يقدر على ذلك فهو غبي. وليحذر المجيب تكرار اللفظ المختلف على المعنى الواحد, فربما ظنه بعضهم زيادة.
"قال": وما رأيت أحسن من صبر الخصم على الخصم حتى إذا فرغ من هذيانه قال له: لم أفهم ما كنت فيه فأعد علي كلامك في مهل وأرني موضع النكتة لأفهمها عنك وأفهمك الجواب, فهذا أقطع من الحديد للخصوم.

(4/317)


وإياك أن تستصغر خصما, فإن استصغرته فالوجه أن لا تكلمه, فلربما هجم من استصغاره الانقطاع لقلة التحفظ منه والاهتمام به, فقد رأيت ذلك مشاهدة. وإن كنت في محفل فيه عامة فمتى ذهبت تراعيهم بطل ما يحتاج إلى تدبره وتفهمه, ولا يغرنك ميل بعض الناس إلى الخصم, أو تفضيل العامة لصياح الخصم فالعمل على أهل التمييز.
ومتى سبقت منك كلمة ليست بصواب فلا تقف عليها واعترف بها, فإنها سبق لسان, فإنك إن أخذت في تصحيحها ذهب عنك صحيح الكلام.
واعترف بالحق إذا وضح, فإن لم يضح فالزم بالبرهان, فإنه عسر جدا. وامنع خصمك من الإقبال على غيرك إذا كان مناظرا واستعمل مثله معه ولا يكن همك إلا ما قام به مذهبك ولا تشتغل بسواه.
ولا يعطفنك أناس من خاطر, فربما بان وجاء وأنت في حال الفكر وهذا علامة الطبع الجيد.
ولا تتكلم في موضع العصبية عليك, أو في مجلس تخاف منه صاحبه فإنه يميت الفكر.
ولا تخاطب من لا يفهم عنك إلا أن يكون مرشدا وهذه سياسة فاستوص بها. "انتهى".
وعن ابن سريج: كل خاطر يجيئك بعد المناظرة فاحبس عليه, حكاه ابن الصلاح في "الرحلة "وكان الإمام محمد بن يحيى إذا أفحمه خصمه في المناظرة قال: ما ألزمت لازم, فأنا فيه ناظر {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
فائدة:
إذا قلت للمستدل: "قولك لا يصح "احتمل معنيين: "أحدهما" الحكم بعدم الصحة و "الثاني" أنك لا تحكم بالصحة. وفرق بين الحكم بعدم الشيء وبين عدم الحكم بالشيء, لأن الحكم بالعدم لا يكون إلا من عالم بذلك العدم, وعدم الحكم بالشيء يكون من الشاك في ذلك الشيء والمتردد فيه. فتفطن بمعاني العبارات.

(4/318)