البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الأدلة المختلف فيها
الاستدلال على فساد الشيء بعدم
الدليل على صحته
جوزه ابن القطان: قال: وكان شيخنا أبو علي بن أبي هريرة
يستعمله كثيرا, إذا سئل عن مسائل فقيل: ما أنكرت منها؟ يقول:
لأنه لا دلالة تدل على صحته. انتهى. وهذه الطريقة اشتهرت بين
المتأخرين, يستدلون بها في مسائل لا تحصى إلى طرق النفي.
(4/320)
الاستدلال على فساد
الشيء بفساد نظيره
قال الصيرفي: كل دليل دل على صحته شيء بالإثبات أو النفي, فهو
دال على فساد ضده إذا كان لا بد له من ذلك الضد, لاستحالة
اجتماع الشيء وضده.
ولأصحابنا في مثل هذا مغالطة فيما إذا كان للأمة ثلاثة أقاويل,
فيدل على فساد اثنين منها, ثم يقول: إذا فسدت هذه الأقاويل صح
الآخر, والوجه في هذا أن يقال للخصم: عرفت صحة الصحيح منها,
وفساد غيره, فدل على صحتها, فإن الذي أفسد تلك غير صحة هذا.
(4/320)
الاستدلال على عدم
الحكم بعدم الدليل
حق عند البيضاوي وغيره, لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا دليل عليه,
للزم منه تكليف المحال.
(4/320)
الاستقراء
وهو تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات1.
وينقسم إلى: تام, وناقص. فالتام: إثبات الحكم في جزئي لثبوته
في الكلي على الاستغراق. وهذا هو القياس المنطقي المستعمل في
العقليات. وهو حجة بلا خلاف.
ومثاله: كل صلاة فإما أن تكون مفروضة أو نافلة, وأيهما كان فلا
بد وأن تكون مع الطهارة. فكل صلاة فلا بد وأن تكون مع طهارة.
وهو يفيد القطع, لأن الحكم إذا ثبت لكل فرد من أفراد شيء على
التفصيل فهو لا محالة ثابت لكل أفراده على الإجمال.
والناقص: إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته من غير
احتياج إلى جامع. وهو المسمى في اصطلاح الفقهاء ب "الأعم
الأغلب". وهذا النوع2 اختلف فيه, والأصح أنه يفيد الظن الغالب,
ولا يفيد القطع. لاحتمال تخلف بعض الجزئيات عن الحكم, كما
يقال: التمساح يحرك الفك الأعلى عند المضغ. فإنه يخالف سائر
الحيوانات في تحريكها الأسفل. واختاره من المتأخرين صاحب
الحاصل "والمنهاج" والهندي.
ومنهم من رده بأن معرفة جميع الجزئيات مما يعسر الوقوف عليها,
فلا يوثق به إلا إذا تأيد الاستقراء بالإجماع. واختاره الرازي
فقال: الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل, ثم بتقدير
الحصول يكون حجة. واقتضى كلامه أن الخلاف إنما هو في أنه هل
يفيد الظن أم لا؟ لا في أن الظن المستفاد منه هل يكون حجة أم
لا؟. والمذهب الأول, ولهذا لما علمنا اتصاف أغلب من في دار
الحرب أو وصفهم بالكفر غلب على ظننا أن جميع من نشاهده منهم
كذلك, حتى جاز لنا استرقاق الكل ورمي السهام إلى جميع من في
صفهم. ولو لم يكن الأصل ما ذكرنا لما جاز ذلك.
وقد احتج الشافعي بالاستقراء في مواضع كثيرة, كعادة الحيض بتسع
سنين, وفي أقله وأكثره, وجرى عليه الأصحاب وقالوا: فلو وجدنا
المرأة تحيض أو تطهر أقل من
ـــــــ
1 انظر نهاية السول "1/188" مناهج العقول "3/159".
2 انظر شرح تنقيح الفصول ص "448" المستصفى "1/51".
(4/321)
ذلك فهل يتبع؟ فيه أوجه:
أحدها : نعم, وبه أجاب الأستاذ أبو إسحاق. وقد تختلف العادات
باختلاف الأهوية والأعصار.
وأصحها : لا عبرة به, لأن الأولين أعطوا البحث حقه, فلا يلتفت
إلى خلافه.
والثالث : إن وافق ذلك مذهب واحد من السلف صرنا إليه, وإلا
فلا.
وقال في "المستصفى": التام يصلح للقطعيات وغير التام لا يصلح
إلا للفقهيات, لأنه مهما وجد الأكثر على نمط, غلب على الظن أن
الآخر كذلك.
(4/322)
الأصل في المنافع
الإذن, وفي المضار المنع
خلافا لبعضهم. وهذا عندنا من الأدلة فيما بعد ورود الشرع. أعني
أن الدليل السمعي دل على أن الأصل ذلك فيهما إلا ما دل دليل
خاص على خلافهما. أما قبله, فقد سبقت المسألة في أول الكتاب:
"لا حكم للأشياء قبل الشرع", ولم يحكموا هنا قولا بالوقف كما
هناك, لأن الشرع ناقل. وقد خلط بعضهم الصورتين وأجرى الخلاف
هنا أيضا. وكأنه استصحب ما قبل السمع إلى ما بعده ورأى أن ما
لم يشكل أمره ولا دليل فيه خاص يشبه الحادثة قبل الشرع, وسبق
هناك ما فيه.
ثم رأيت القاضي عبد الوهاب حقق المسألة تحقيقا فقال, بعد حكاية
الخلاف في الأفعال قبل الشرع: "مسألة: زعم قوم من الفقهاء أن
الشرع قد قرر الأصل في الأشياء على أنها على الإباحة إلا ما
استثناه الدليل, وفائدة ذلك أنه إذا وقع الخلاف في حكم شيء في
الشرع "هل هو على الإباحة أو المنع؟ "حكم بأنه على الإباحة,
لأن الشرع قد قرر ذلك, فصار كالعقل عند القائلين بالإباحة. وقد
حكى ذلك عن بعض متأخري أصحابنا, وأشار إليه محمد بن عبد الله
بن عبد الحكم.
قال: والباقون على أن الأصل في أنه لا يعلم حكم كل شيء إلا
بقيام دليل يختصه أو يختص نوعه.
ومن ذهب إلى القول الأول احتج بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]
وقوله {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}
[الأنعام: 145] فجعل الأصل الإباحة. والتحريم مستثنى.
(4/322)
قال: ويدل على فساد هذا القول قوله تعالى:
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا
حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] فأخبر أن التحريم
والتحليل ليس إلينا, وإنما هو من عنده, وأن الحلال والحرام لا
يعلم إلا بإذنه. وقال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] وكل هذا يدل على إبطال القول بأن
حكم الأشياء في السمع الإباحة. وأما الجواب عن أدلتهم, فهي
فيما ورد الشرع بإباحته.
والكلام في إباحة الجملة بقوله: {قُلْ لا أَجِدُ} . يصلح أن
يحتج به على أن الأصل في المأكولات الإباحة, وإنما الممتنع
الإباحة المطلقة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما سكت فهو مما
عفي عنه" 1 يريد: من ذلك النوع الذي كان الخطاب متعلقا به. ألا
ترى أنه قال: "الحلال بين, والحرام بين, وبينهما أمور مشتبهات"
2 فشرك بينهما, ولم يجعل الأصل أحدهما.
واحتج غيره للقائلين بأن الأصل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] ذكره في معرض
الامتنان, واللام للاختصاص. وأورد أنها تأتي لغير الانتفاع
كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] ورجح
الأول بالظهور. وكذلك قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
[سورة المائدة: 5], {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] لأنه استفهام
إنكار فيدل على امتناع تحريم مطلق الزينة, ويلزم من امتناع
تحريم مسمى الزينة أن لا يحرم شيء من آحادها, فإذا انتفت
الحرمة بقيت الإباحة, وهو المطلوب. وقوله: {اللَّهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} [الجاثية: 12] إلى قوله {وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
مِنْهُ} [الجاثية: 13] وفي الصحيحين "من حديث سعد بن أبي وقاص
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أعظم المسلمين في
المسلمين جرما من سأل عن شيء [لم] يحرم على السائل فحرم من أجل
ـــــــ
1 رواه الترمذي "4/220" كتاب اللباس باب ما حاء في لبس العزاء
حديث "1726" وابن ماجة "2/1117" كتاب الأطعمة حديث "3367"
كلاهما عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
السمن والحبن والفراء؟ فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه
والحرام ما حرم الله في كتابه. وما سكت عنه فهو مما عفا عنه
فال أبو عثمان عن سليمان قوله. وكان هذا الحديث الموفوف أصح
وسألت البخاري عن هذا الحديث فقال: ما أراه محفوظا والحديث
جسنه الشيخ الألباني.
2 رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه
حديث "52" ورواه مسلم "3/1219" كتاب المساقاة باب أخذ الحلال
وترك الشبهات حديث "1599".
(4/323)
مسألته" 1 وهذا ظاهر في أن الأصل في
الأشياء الإباحة, وأن التحريم عارض. وعن سلمان الفارسي قال:
سئل رسول الله عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل
الله في كتابه, والحرام ما حرمه الله في كتابه, وما سكت عنه
فهو مما عفي عنه" رواه ابن ماجه والترمذي.
ولا يخفى أجوبة ذلك مما سبق عن القاضي. على أن هذا الحديث
يقتضي أنه لا يقال في هذا النوع أن الشرع أذن فيه, بل عفي, ولا
يوصف بإذن ولا منع. وليس في الآيات المستدل بها إلا أنها خلقت
لنا وسخرت لنا, ولا يدل ذلك على أنها أبيحت لنا, إذ يجوز أن
يخلق لنا ولا يباح, بل يتوقف ذلك على إذن من جهته, كذا قاله
ابن برهان في كلام له, قال: فصار هذا بمثابة قول السلطان
لجنده: هذه الأموال التي أجمعها لكم. فلا. يدل على أنه أباحها
لهم وأذن لهم في التناول, بل قد يجوز أن يجمعها لهم وإنما بإذن
في الأخذ بعد زمان آخر, فلا بد إذن من إذن جديد, وزيف قول أبي
زيد إن الأفعال لا حكم لها قبل الشرع, وبعدما ورد الشرع تبينا
بالأدلة الشرعية أنها كانت مباحة. قال: ثم هو معارض بقوله
تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [سورة النازعات: 40]
وأما احتجاج الرازي بأنه انتفاع لا يضر بالمالك قطعا, فليس على
أصلنا, لابتنائه على التحسين العقلي.
وأما الدليل على تحريم المضار, فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
ضرر ولا ضرار" 2 وهو عام. وضعف ابن دقيق العيد الاستدلال [به],
لأن السابق إلى الفهم, النهي عن الإضرار, ولا إضرار بالنفس,
فقد يؤخذ على عمومه فيدخل فيه الإضرار بالنفس, فيتم الدليل.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب ما
يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه حديث "7289" ورواه مسلم
"4/1931" كتاب الفضائل باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك
إكثار سؤاله عما لا ضروررة إليه...., حديث "2358".
2 حديث صحح رواه ابن ماجة "2/784" حديث "2340" عن عبادة بن
الصامتورواه أحمد في مسنده "1/313" حديث "2867" والدارمي في
سننه "4/228" وأبو يعلى في مسنده "4/397" حديث "2520"
والطبراني في الكبير "11/302" عن ابن عباس مرفوعا ورواه الحاكم
في المستدرك "2/66" حديث "2345" والبيهقي في الكبرى "6/69"
حديث "11166" عن أبي سعيد الخدري مرفوعا ورواه الدارقطني في
سننه "4/227" والطبراني في الأوسط "1/193" حديث "270" عن عائشة
مرفوعا.
(4/324)
تنبيهان
الأول: قيل: ينبغي أن يستثنى من المنافع الأموال, فإن الأصل
فيها التحريم, لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم
وأموالكم." الحديث1. وهو أخص من الدليل الذي استدلوا به على
الإباحة فيقضى عليها.
قلت: قد نص الشافعي في الرسالة2 على ذلك فقال: أصل مال كل امرئ
يحرم على غيره إلا بما أحل به وذكر قبله أن النكاح كذلك,
والنساء محرمات الفروج إلا بعقد أو بملك يمين. فجعل الأصل في
الأموال والأبضاع التحريم, ثم قال آخره: وهذا يدخل في عامة
العلم. قال الصيرفي: وهو كلام صحيح لا ينكسر أبدا, وهو أن ينظر
في الأصل إلى الشيء المحظور كائنا ما كان من دم أو مال أو فرج
أو عرض, فلا ينتقل عنه إلى الإباحة إلا بدليل يدل على نقله.
انتهى. وينازع فيه تخريج الماوردي مسألة النهر المشكوك في أنه
مباح أو مملوك على هذا الخلاف. ثم إن سلم فغير محتاج إليه, لأن
وضع المسألة في أصل المنافع التي لم تطرأ عليها يد ملك ولا
اختصاص.
الثاني : من القواعد المترتبة على هذا الأصل القول بالبراءة
الأصلية, واستصحاب حكم النفي في كل دليل مشكوك فيه حتى يدل
دليل على الوجوب, كما في تعميم مسح الرأس في الوضوء. وكلام
القرافي يقتضي أن تلك غير هذه المسألة, وليس كذلك وجعل البراءة
الأصلية هي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام, وليس كما قال,
فإن البراءة تكون في العدم الأصلي, والاستصحاب يكون في الطارئ:
ثبوتا كان أو عدما.
الثالث: ليس المراد بالمنافع هنا مقابل الأعيان بل كل ما ينتفع
به, ولهذا قال الرافعي عن الأصحاب: الأصل في الأعيان الحل, ثم
المراد بالنفع المكنة أو ما يكون وسيلة إليها, وبالمضرة الألم
أو ما يكون وسيلة إليه.
ـــــــ
1 رواه البخاري في مواضع كيرة ومنها كتاب العلم باب قول التبي
صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ ... حديث "67" ورواه مسلم
"3/1305" مالب القسامة والمحاربين باب تفليظ تحريم الدماء
والأعراض والأموال حديث "1679".
2 الرسالة ص "344".
(4/325)
التعلق بالأولى
قال إلكيا: وهذا باب تنازعوا في تعيينه بعد اتفاقهم على أن ما
جمع معنى الشيء وأكثر منه فهو أولى منه, وقد نطق القرآن
بأمثاله. قال تعالى لمن اعتل عن التخلف بشدة الحر: {وَقَالُوا
لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرّاً} [سورة التوبة: 81] يعني: فليتخلفوا عنها. وقال تعالى:
{وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [سورة التوبة: 62] لأن
حقهم أوجب ونعمتهم أعظم. وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ} [سورة البقرة: 217] وقال: {وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ} [سورة الروم: 27] وقال صلى الله عليه وسلم: "فدين
الله أحق أن يقضى" 1 وقال العلماء: إذا حرم التأفيف فالضرب
أولى بالتحريم. وقال الشافعي: إذا جاز السلم مؤجلا فهو حالا
أجوز, وإذا وجبت الكفارة في الخطأ ففي العمد أولى, وإذا قبلت
شهادة الفاسق في أسوأ حاليه - أعني قبل التوبة - فبعد التوبة
أولى. وأبو حنيفة يقول: وطئ الزوج الثاني إذا كان يرفع الثلاث
فلأن يرفع [ما] دونها أولى.
قال الطبري: والذي يجب أن يحصل أن التعلق بعد إيضاح الإجماع في
أصل المعنى, فإن الترجيح زيادة في عين الدليل أو في مأخذه,
وليس الأولى عين الدليل ولا ركنا منه, وإنما يتبين ذلك بشيء,
وهو أنه إذا بان المعنى الحاضر غيره بطل التعلق, كقول أبي
حنيفة رحمه الله: هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونه أولى, فإنا
بينا أن لا هدم, وإذا امتنع القول بالهدم فلا جمع قال: ولسنا
نرى في التعلق كثير فائدة من حيث إثبات الحكم, نعم نبه على
معنى الأصل كما نطق به القرآن, فهو يرجع إلى التنبيه على
العلة, وليس شيئا زائدا.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الصوم باب من مات وعليه صوم حديث
"1953" عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟
قال "نعم, قال: فدين الله أحق أن يقضى" ورواه مسلم كتاب الصوم
باب قضاء الصوم عن الميت. حديث "1148".
(4/326)
استصحاب الحال
لأمر وجودي أو عدمي, عقلي أو شرعي. ومعناه أن ما ثبت في الزمن
الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل, وهو معنى قولهم: الأصل
بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل, فمن ادعاه فعليه
البيان, كما في الحسيات أن الجوهر إذا شغل المكان يبقى شاغلا
إلى أن يوجد المزيل, مأخوذ من المصاحبة, وهو ملازمة ذلك الحكم
ما لم يوجد مغير, فيقال: الحكم الفلاني قد كان فلم نظنن عدمه,
وكل ما كان كذلك فهو مظنون. البقاء1.
قال الخوارزمي في "الكافي": وهو آخر مدار الفتوى, فإن المفتي
إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب, ثم في السنة, ثم في
الإجماع, ثم في القياس, فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب
الحال في النفي والإثبات, فإن كان التردد في زواله فالأصل
بقاؤه, وإن كان في ثبوته فالأصل عدم ثبوته. انتهى.
وهو حجة يفزع إليها المجتهد إذا لم يجد في الحادثة حجة خاصة.
وبه قال الحنابلة والمالكية وأكثر الشافعية والظاهرية, سواء
كان في النفي أو الإثبات. والنفي له حالتان, لأنه إما أن يكون
عقليا أو شرعيا, وليس له في الإثبات إلا حالة واحدة, وهي
النفي, لأن العقل لا يثبت حكما وجوديا عندنا.
والمذهب الثاني: ونقل عن جمهور الحنفية والمتكلمين, كأبي
الحسين البصري رحمه الله, أنه ليس بحجة لأن الثبوت في الزمان
يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني, لأنه يجوز أن يكون
وأن لا يكون, ويخالف الحسيات, لأن الله أجرى العادة فيها بذلك,
ولم تجر العادة في الشرعيات فلا تلحق بها. ثم منهم من نقل عنه
تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل الخلاف مطلقا. قال
الهندي: وهو يقتضي الخلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد,
إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة.
قلت: والمنقول في كتب أكثر الحنفية أنه لا يصح حجة على الغير,
ولكن يصلح للعذر والدفع. وقال صاحب الميزان "من الحنفية: ذهب
بعض أصحابنا إلى أنه ليس
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب وشرح العضد "2/2894" المستصفى "1/218"
إرشاد الفحول ص "237".
(4/327)
بحجة لإبقاء ما كان ولا لإثبات أمر لم يكن.
وقال أكثر المتأخرين: إنه حجة يجب العمل به في نفسه لإبقاء ما
كان, حتى لا يورث ماله, ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن, كحياة
المفقود لما كان الظاهر بقاءها صلحت حجة لإبقاء ما كان حتى لا
يرث من الأقارب, والثابت لا يزول بالشك. وغير الثابت لا يثبت
بالشك قال: ولكن مشايخنا قالوا: إن هذا القسم يصبح حجة على
الخصم في موضع النظر, ويجب العمل به عند عدم الدليل, ولا يجوز
تركه بالقياس, كذا ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي, لأن الحكم
متى ثبت شرعا فالظاهر دوامه ولا يزول إلا بدليل يرجح على
الأول, وإن أوجب في الأول شبهة, ولهذا قالوا: لا ينقض الاجتهاد
بالاجتهاد, لأن الحكم الثابت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ثابت في حق كل من كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مع احتماله
النسخ إذ ذاك, وهذا كمن شك في الحدث بعد الوضوء فإن يبني على
الطهارة مع احتمال الحدث, وكمن شك في طلاق امرأته وعتق أمته
فإنه يباح له الانتفاع بهما مع الاحتمال, لأن الثابت لا يزول
بالشك انتهى.
وما ذكروه من أنه يصلح للدفع لا للرفع يشبه قول أصحابنا في
مسائل كثيرة عملوا فيها بالأصلين, كوجوب الفطرة عن العبد
المنقطع الخبر, وعدم جواز عتقه عن الكفارة, وكما إذا ظهر لبنت
تسع سنين لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها, لأن
احتمال البلوغ قائم والرضاع كالنسب يكفي فيه الاحتمال.
والمذهب الثالث : واختاره القاضي في التقريب "أنه حجة على
المجتهد فيما بينه وبين الله تعالى فإنه لم يكلف إلا أقصى
الداخل في مقدوره على العادة, فإذا فعل ذلك ولم يجد دليلا آخر
يبقى الوجوب ولا يسمع فيه إذا انتصب مسئولا في مجلس المناظرة,
فإن المجتهدين إذا تناظروا وتذكروا طرق الاجتهاد فيما يغني
المجيب قوله: لم أجد دليلا على الوجوب, وهل هو إلا مدع فلا
يسقط عنه عهدة الطلب بالدلالة.
المذهب الرابع: أنه يصلح للدفع لا للرفع. وهو المنقول عن أكثر
الحنفية فيما سبق. قال إلكيا: ويعبرون عن هذا بأن استصحاب
الحال صالح لإبقاء ما كان على ما كان, إحالة على عدم الدليل,
لا لإثبات أمر لم يكن. وبنوا على هذا مسائل: "منها" ما لو شهد
شاهدان أن الملك كان للأب المدعى, والأب ميت, فإنها لا تقبل عن
أبي حنيفة, لأن الملك ثبت لا بهذه الشهادة, والبقاء بعد الثبوت
إنما يكون باستصحاب الحال فيثبت دفعا عن المشهود عليهم بحق
الشهادة, فإنه كان أحد
(4/328)
المدعيين, فأما لإيجاب حكم مبتدأ فلا, وملك
الوارث لم يكن, وعلى هذا قالوا: المفقود لا يرث أباه, وإن كان
الملك ذلك الملك بعينه, لأن الملك غير الأول قال: ونحن نسلم
لهم أن دلالة الثبوت غير دلالة البقاء, لأن أحدهما نص والآخر
ظاهر, ولكن لا نقول: البقاء لعدم المزيل, بل لبقاء الدليل
الظاهر عليه. وهذا لا يجوز أن يكون فيه خلاف. انتهى.
المذهب الخامس: أنه يجوز الترجيح به لا غير. نقله الأستاذ أبو
إسحاق عن الشافعي وقال: إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به, قلت:
ويشهد له قول الشافعي رضي الله عنه: والنساء محرمات الفروج,
فلا يحللن إلا بأحد أمرين: نكاح, أو ملك يمين, والنكاح ببيان
الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الروياني في البحر": وهذا
استدلال من الشافعي باستصحاب الحال في جميع هذه المسائل. وقيل:
إنه نوع من أنواعه وهو من أقواها, قال: وأجمع أصحابنا على أن
الاستصحاب صالح للترجيح, واختلفوا في استصلاحه للدليل فظاهر
كلام الشافعي أنه قصد به الترجيح وهو الظاهر من المذهب. هذا
كلام الروياني, وسيأتي أن هذا الاستدلال من النوع الذي هو محل
وفاق, وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: استقرأت الاستصحاب الذي
يحكم به الأصحاب فوجدت صورا كثيرة وإنما يستصحب فيها أمر
وجودي, كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه. وأما استصحاب عدم
الحكم فيه فلم أعرفه, وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية
لا علم فيها. وإنما يمنع من الحكم بخلافها حتى يقوم دليل عليه.
المذهب السادس: أن المستصحب للحال إن لم يكن غرضه سوى نفي ما
نفاه صح استصحابه, كمن استدل على إبطال بيع الغائب, ونكاح
المحرم, والشغار, بأن الأصل أن لا عقد, فلا يثبت إلا بدلالة.
وإن كان غرضه إثبات خلاف قول خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال
في نفي ما أثبته فليس له الاستدلال به كمن يقول في مسألة
الحرام: إنه يمين توجب الكفارة لم يستدل على إبطال قول خصومه
بأن الأصل أن لا طلاق ولا ظهار ولا لعان, فيتعارض بالأصل أن لا
يمين ولا كفارة, فيتعارض الاستصحابان ويسقطان. حكاه الأستاذ
أبو منصور البغدادي عن بعض أصحابنا.
إذا عرف هذا فلا بد من تنقيح موضع الخلاف, فإن أكثر الناس
يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع بغيره فنقول:
(4/329)
للاستصحاب صور:
إحداها: استصحاب دل العقل أو الشرع على ثبوته ودوامه:
كالملك عند جريان القول المقتضي له, وشغل الذمة عند جريان
إتلاف أو التزام, ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح.
وهذا لا خلاف في وجوب العمل به, إلى أن يثبت معارض له. ومن
صوره تكرر الحكم بتكرر السبب.
الثانية: استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام
الشرعية:
كبراءة الذمة من التكاليف حتى يدل دليل شرعي على تغييره, كنفي
صلاة سادسة.
قال أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع1, أي من القائلين بأنه لا
حكم قبل الشرع. ومن هذا يستشكل القول بهذا من القائلين بأن
هناك حكما. وقال ابن كج في أول كتابه في الأصول: إنه صحيح لا
يختلف أهل العلم فيه, لأنه قد ثبت عندنا أن حجة العقل دليل,
فإذا لم نجد سمعا علمنا أن الله لا يهملنا, وأنه أراد بنا ما
في العقل فصرنا إليه. انتهى. وهذا معنى قوله: إن العقل يدل على
أن ما لم يتعرض الشرع له فهو باق على النفي الأصلي, فلا يدل
إذا إلا على نفي الأحكام. وقولنا لمن يوجب الوتر: الأصل عدم
الوجوب إلا أن يرد السمع, فأتمسك بهذا الأصل حتى يرد دليل شرعي
للوجوب, ولم يثبت.
الثالثة: استصحاب الحكم العقلي:
عند المعتزلة, فإن عندهم أن العقل حكم في بعض الأشياء إلى أن
يرد الدليل السمعي. وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز
العمل به, لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات.
الرابعة: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض:
إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا, أو نسخا إن كان الدليل نصا,
فهذا أمره معمول له بالإجماع. وقد اختلف في تسمية هذا النوع
بالاستصحاب, فأثبته جمهور
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "69" الإحكام للآمدي "4/129" المستصفى "1/222".
(4/330)
الأصوليين ومنعه المحققون, منهم إمام
الحرمين في البرهان "وإلكيا في تعليقه", وابن السمعاني في
القواطع", لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا من ناحية
الاستصحاب. ثم قال إمام الحرمين: إنها مناقشة لفظية, ولو سماه
استصحابا لم يناقش.
وقال أبو زيد: هذا قد يعد من الاستصحاب لأن دليل ثبوت الحكم
عندي غير دليل بقائه فإن النص مثلا أثبت أصله, ثم بقاؤه بدليل
آخر وهو عدم المزيل, لأنه لو كان دليل البقاء دليل الثبوت لما
جاز النسخ, فإن النسخ يرفع البقاء والدوام. قال إلكيا: وهذا
ليس بشيء, لأن الدليل إما أن لا يقتضي الدوام, كالمقيد بالمرة
أو المطلق, وقلنا: لا يقتضي التكرار, فلا يرد على هذا النسخ,
لأنه قد تم بفعل مرة واحدة وإما أن يدل على التقرير والبقاء
نصا, كقوله: افعلوه دائما أبدا, وهو في الاستمرار ظاهر. فهما
دليلان: نص في الثبوت وظاهر في الاستمرار. فهذا هو الذي يرد
عليه النسخ, وأبو زيد أطلق, وأصاب في قوله: دليل الثبوت غير
دليل البقاء, وأخطأ في قوله: دليل البقاء عدم المزيل, فهذا ليس
من الاستصحاب في شيء. "انتهى".
الخامسة: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف:
وهو راجع إلى حكم الشرع, بأن يتفق على حكم في حالة ثم تتغير
صفة المجمع عليه ويختلف المجمعون فيه, فيستدل من لم يغير الحكم
باستصحاب الحال. مثال: إذا استدل من يقول: إن المتيمم إذا رأى
الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته, لأن الإجماع منعقد على
صحتها قبل ذلك, فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء
مبطلة. وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد, لأن الإجماع انعقد
على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد, فنحن على ذلك الإجماع
بعد الاستيلاد.
وهذا النوع هو محل الخلاف, كما قاله في القواطع "وكذا فرض
أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها: فذهب الأكثرون - منهم القاضي,
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي - إلى أنه ليس
بحجة. قال الأستاذ أبو منصور: وهو قول جمهور أهل الحق من
الطوائف, وقال الماوردي والروياني في كتاب القضاء": إنه قول
الشافعي وجمهور العلماء, فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب,
بل إن اقتضى القياس أو غيره إلحاقه بما قبل الصفة ألحق به,
وإلا فلا.
وقال ابن السمعاني: إنه الصحيح من المذهب.
(4/331)
وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج
به, ونقل ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن
خيران, وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي القطني, وأبي
الحسين القطان. قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب": "كان
أبو الحسين بن القطان شديد القول به, حتى أنه لو اقتصر ما كان
يخرج إلى استصحاب الحال. قال: وإنما أخذه أهل الكوفة من
أصحابنا, وأهل ما وراء النهر من أهل سمرقند وغيرهم أيضا شديدو
القول به. انتهى. واختاره الآمدي وابن الحاجب. وقال سليم في
التقريب "إنه الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا, فيستصحب حكم الإجماع
حتى يدل الدليل على ارتفاعه.
وحكي الأول عن الحنفية والظاهرية ومتكلمي الأشعرية. والمعروف
عن الظاهرية إنما هو الثاني. قال الشيخ أبو إسحاق, كان القاضي
أبو الطيب يقول: داود لا يقول بالقياس الصحيح, وهنا يقول بقياس
فاسد, لأنه حمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة
جامعة.
والمختار هو الأول, لأن محل الوفاق غير محل الخلاف, فلا
يتناوله بوجه, وإنما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا يوجد صفة
تغيره, ولأن الدليل إن كان هو الإجماع فهو محال في محل الخلاف,
وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب. قال
أصحابنا: والقول باستصحاب الإجماع في محل الخلاف يؤدي إلى
التكافؤ, لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع في شيء إلا ولخصمه
أن يستصحبه في مقابله. وبيانه: أن في مسألة التيمم أن للخصم أن
يقول: أجمعنا على بطلان التيمم برؤية الماء خارج الصلاة
فنستصحبه برؤيته فيها, وتغير الأحوال لا عبرة به.
ونقل إلكيا عن الأستاذ أبي إسحاق أنه استدل على النكاح بلا ولي
بأن الأصل في الأبضاع التحريم, فمن ادعى ما يبيح فعليه الدليل
"قال": وهذا ليس بشيء, فإنه يقال: الأصل التحريم قبل وجود أصل
النكاح أو بعده؟. إن قلت: قبله, فمسلم, أو بعده, فهو محل
النزاع, ويمكن أن يجعل ذلك معارضة لكلامه.
قلت: قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب": واتفق أن حضرني
أبو علي الهروي يعني الزبيري, وقال أنا أقرر الاستصحاب في موضع
لا يمكن فيه المعارضة, فقلت: هات فقال: إذا قال المستدل في
إبطال الوقف: أن ما وقف قد تقرر بالاتفاق ملك المالك عليه فلا
يزال إلا بدليل. فقلت: العكس فيه من وجوه:
(4/332)
أحدها : أن يقال: ما يحصل من المنافع بعد
الوقف قد حصل الاتفاق على أنها غير مملوكة, لكونها معدومة, فلا
تدخل في ملك الواقف إلا بدليل.
الثاني : أن الأصل أن لا ملك للواقف على الكراء الذي يأخذ بدلا
عن المنافع, فلا يملك إلا بدليل.
الثالث : ما يتصرف فيه بعد الوقف من بيعه وهبته, الأصل أنه لم
يكن ثابتا.
قال الأستاذ: إذا كانت مسائل الاستصحاب هكذا, فلا يجوز أن يجعل
من جملة الأدلة في الأحكام قال: وما ادعوه على الشافعي رضي
الله عنه أنه قال بالاستصحاب فلم يذكره احتجاجا على طريق
الابتداء, وإنما ذكره على سبيل الترجيح بعد تعارض الأدلة.
انتهى.
وقد أنكر ابن السمعاني القول بالاستصحاب جملة, وقال: إنه
الصحيح من مذهبنا. أما في استصحاب العام والنص قبل الخاص
والناسخ فليس ذلك استصحابا, لأن الدليل قائم وهو العام والنص.
وأما استصحاب دليل العقل في براءة الذمة فإنما وجب استصحاب
براءة الذمم لأن دليل العقل في براءة الذمة قائم في موضع
الخلاف أيضا, كما في العام والنص, فوجب الحكم به. وأما في
استصحاب الإجماع فالإجماع الذي كان دليلا على الحكم قد زال في
موضع الخلاف فوجب طلب دليل آخر. وهذه الطريقة حسنة, وقد سبقه
إليها إمام الحرمين.
وبه تبين أن الخلاف فيما عدا استصحاب الإجماع لفظي, وبه صرح
إمام الحرمين. ثم قال ابن السمعاني: إنا لا نثبت براءة الذمة
باستصحاب الحال ولا نحكم لشيء لأجل الاستصحاب, لكن نطلب من
المدعي حجة يقيمها, فإذا لم يقم بقي الأمر على ما كان من غير
أن تحكم بثبوت شيء. والخلاف واقع في ثبوت الحكم باستصحاب
الحال, وهذا لا نقول به في موضع ما. انتهى.
وهذه طريقة أخرى تغاير الأولى, قد ذكرها المتأخرون, وحاصلها
التفصيل بين الدوام والابتداء, ونقول: ليس في الدوام إثبات,
وإنما هناك استمرار ما كان لعدم طريان ما يرفعه. وهي تنبني على
الخلاف الكلامي في أن الباقي في محل البقاء هل يحتاج إلى مؤثر؟
وفيه قولان: فإن قلنا: لا يحتاج وصحت وإلا لم ينتهض, لأنك في
(4/333)
الدوام تريد دليلا وأنت مثبت به فكيف نقول:
لم نحكم لشيء؟ وهذا الخلاف في أن الباقي هل يحتاج إلى مؤثر
ينبني على اختلاف آخر في أن علة الحاجة إلى المؤثر, هل هي
الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما, أو الإمكان بشرط الحدوث, والحق
أن العلة الإمكان, وأن الباقي يحتاج إلى مؤثر, كما تقرر في علم
الكلام, فعلى هذا لا تنتهض هذه الطريقة.
وممن زعم أن الخلاف لفظي ابن برهان فقال في كتابه الكبير: إذا
حقق استصحاب الحال لم يبق خلاف, فإن قول القائل: الأصل يقتضي
كذا, فإنما يتمسك به إلى أن يقوم دليل على خلافه إما أن يريد
بالأصل أصل الشرع, أو أصل العقل, فإن أراد العقل فالخصم لا
يعترف أن العقل يقتضي حكما, ولأن الأحكام العقلية إنما تثبت
بدليل عقلي, فلا يستصحب الحال فيها. وإن أراد أصل الشرع فباطل
أيضا, لأن الأحكام الشرعية إنما. تثبت بأدلة شرعية. وهذه طريقة
أخرى. وقد يقال بالتزام الثاني بدليل شرعي مستقرأ من جزئيات
الشريعة في العمل به.
وبقي من الأنواع ما ذكره القاضي شريح الروياني أحد أئمة
أصحابنا في كتاب "روضة الحكام" أنه إذا كان للشيء أصل معلوم من
الوجوب أو الحل أو الحظر فإنه يرد إليه, ولا يترك بالشك, ولا
يخرج عنه إلا بدليل. فلو أسلم إليه في لحم, فأتاه المسلم إليه
بلحم, فقال المسلم هو لحم ميتة, أو ذكاة مجوسي, فالقول قول
القابض, لأن الأصل تحريم ذلك, لأن الحيوان إن كان محرما يبقى
التحريم ما لم يعلم زواله. ولو اشترى صاعا من ماء بئر فيه
قلتان, ثم قال: أرده بالعيب فإن فأرة وقعت فيها, فالقول قول
الدافع, لأن الأصل طهارة الماء. انتهى.
وجعل ابن القطان القول بالاستصحاب يرجع إلى أن الباقي لا دليل
عليه, وهو أنه متى كنا على حال مجمع عليها فنحن عليها, فمن
ادعى الانفصال عنها احتاج إلى دليل. قال القرطبي: القول
بالاستصحاب لازم لكل أحد, لأنه أصل تنبني عليه النبوة
والشريعة, فإنا إن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل
العلم بشيء من تلك الأمور. انتهى. وقد سبق أن هذا محل وفاق.
وأما الأستاذ أبو منصور فجعل الخلاف معنويا مبنيا على الخلاف
في حكم الأشياء قبل ورود الشرع, فمن زعم أنها مباحة استصحب
الحال في كل ما رآه مباحا فلا يحظره إلا بدليل. ومن زعم أنها
محرمة لم يستصحب شيئا.
(4/334)
السادسة : وتصلح أن تكون قسيما لما سبق:
استصحاب الحاضر في الماضي:
وهو المقلوب فإن القسم الأول ثبوت أمر في الثاني لثبوته في
الأول, لفقدان ما يصلح للتعيين. وهذا القسم في ثبوته في الأول
لثبوته في الثاني, كما إذا وقع النظر في أن زيدا هل كان موجودا
أمس في مكان كذا. ووجدناه موجودا فيه اليوم؟ فيقال: نعم, إذ
الأصل موافقة الماضي للحال. وهذا القسم لم يتعرض له الأصوليون,
وإنما ذكره بعض الجدليين من المتأخرين. فنقول: إذا ثبت استعمال
اللفظ في هذا المدعي فندعي أنه كان مستعملا قبل ذلك, لأنه لو
كان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع,
والأصل عدم تغيره.
قال ابن دقيق العيد: وهذا كلام ظريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى
إنكاره, ويقال: الأصل استقرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا
الزمن, أما أن يقال: الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على
الزمان الماضي فلا. وجوابه أن يقال: هذا الوضع ثابت, فإن كان
هو الذي وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب, وإن لم يكن فالواقع
في الزمن الماضي, فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في
الزمن الماضي. وهذا وإن كان طريقا, كما ذكرنا, إلا أنه طريق
جدل لا جلد, والجدل طريق في التحقيق سالك على محج مضيق, وإنما
تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع, فأما إذا استوى
الأمران فلا بأس.
قلت: وأما الفقهاء فظاهر قولهم إن الأصل في كل حادث تقديره
بأقرب زمن منافاة هذا القسم. وقال بعضهم: لم يقل به أصحابنا
الفقهاء إلا في صورة واحدة, وهي [ما] إذا اشترى شيئا وادعاه
مدع وأخذه منه بحجة مطلقة, فإنه يثبت له الرجوع على البائع.
قالوا: فإن البينة لا توجب الملك ولكنها تظهره, فيجب أن يكون
الملك سابقا على إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة. ومن المحتمل
انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا,
وهو عدم الانتقال فيه فيما مضى, استصحابا للحال. وكذلك قالوا:
إذا وجدنا ركازا ولم ندر هل هو إسلامي أم جاهلي؟ يحكم بأنه
جاهلي على وجه, لأنا استدللنا بوجوده في الإسلام على. أنه كان
موجودا قبل ذلك. قلت: ومثله: إذا أشكل حال القرية التي فيها
الكنيسة هل أحدثها المسلمون أم لا؟ فقال الروياني: تقر,
استصحابا لظاهر الحال. ولم يحك الرافعي غيره. ويقاربها صور
"منها":
(4/335)
لو أحرم بالحج وشك هل أحرم قبل أشهره أو
بعدها؟ كان محرما بالحج قالوا: لأنه على يقين منه هذا الزمن
وفي شك مما تقدمه, ويمكن أن يوجد أيضا, فهذه القاعدة. "ومنها":
إذا اختلف الغاصب والمالك فالصحيح تصديق المالك. فقد استصحبوا
مقلوبا, وهو الحدوث فيما مضى استصحابا للحاضر. ويمكن خلافه,
وكذلك مسائل الانعطاف في استصحاب حكم الصوم على من نوى في
النفل قبل الزوال, والثواب على الوضوء جميعه إذا نوى عند غسل
الوجه على وجه, وتعليق العتق على قدوم زيد, ثم يبيعه, فقدم زيد
ذلك اليوم, ونظائره.
(4/336)
الأخذ بأقل ما قيل
أثبته الشافعي والقاضي. قال القاضي عبد الوهاب: وحكى بعض
الأصوليين إجماع أهل النظر عليه. وحقيقته - كما قال ابن
السمعاني -: أن يختلف المختلفون في مقدر بالاجتهاد على أقاويل,
فيؤخذ بأقلها عند إعواز الحكم, أي إذا لم يدل على الزيادة
دليل.
وقال القفال الشاشي: هو أن يرد الفعل من النبي صلى الله عليه
وسلم مبينا لمجمل ويحتاج إلى تحديده, فيصار إلى أقل ما يؤخذ,
كما قاله الشافعي في أقل الجزية بأنه دينار, لأن الدليل قام
أنه لا بد من توقيت, فصار إلى أقل ما حكى عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه أخذ من الجزية. "قال": وهذا أصل في التوقيت قد
صار إليه الشافعي في مسائل كثيرة, كتحديد مسافة القصر
بمرحلتين, وما لا ينجس من الماء بالملاقاة بقلتين, وأن دية
اليهودي ثلث دية المسلم.
وقال ابن القطان في كتابه: هو أن يختلف الصحابة في تقدير,
فيذهب بعضهم إلى مائة مثلا, وبعضهم إلى خمسين. فإن كانت دلالة
تعضد أحد القولين صير إليها, وإن لم تكن دلالة فقد اختلف فيه
أصحابنا:
فمنهم من قال: نأخذ بأقل ما قيل من حيث كان أقل, ويقول: إن هذا
مذهب الشافعي, لأنه قال: إن دية اليهودي الثلث, وحكى اختلاف
الصحابة فيه, وأن بعضهم قال بالنصف, وبعضهم بالمساواة, وبعضهم
بالثلث, فكان هذا أقلها. ومثله ما ذهب إليه في الدية أنها
أخماس, وروي أنها أرباع, فكانت رواية الأخماس أولى, لأنها أقل
ما روي, فنصير إليه.
(4/336)
ومنهم من احتج على القول بأقل ما قيل من
كلام الشافعي فيما لو سرق رجل متاعا لرجل, فشهد شاهد بألف
دينار, وآخر بألف وخمسمائة, أنه لا يحكم إلا بما اتفقا عليه.
ومنهم من قال: هذا قول حسن إذا كان عليه دلالة, فإن لم يكن معه
دلالة فلا معنى له, لأنه ليس لأحد أن يقول بغير حجة إلا وللآخر
أن يقول بما هو أقل منه أو أكثر بغير حجة, وذلك أن القائلين
أجمعوا على هذا المقدار, واختلفوا فيما سواه فأخذ بما أجمعوا
عليه وترك ما اختلفوا فيه. يلزمه أن يقف في الزيادة ولا يقطع
على أنه لا شيء فيه, لجواز أن يكون فيه دلالة.
وأما ما قالوه في دية اليهودي, فإن الشافعي - رحمه الله تعالى
- سلك فيه غير هذا الطريق, وهو أنه قال: قد دل على أن لا
مساواة بقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ
فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] فإذا بطلت المساواة فليس
للناس إلا قولان, فإذا بطل أحدهما صح الآخر. وأما جعله الدية
أخماسا فبدليل, [لا] لأنه أقل ما قيل. وأما مسألة الشهادة
فإنما حكم فيها بالأقل, لأنه ثبت ذلك بشاهدين, وانفراد الآخر
ليس بحجة, وهذا لا خلاف فيه.
"قال": وقد منع قوم من أهل النظر وقالوا: إن أصلكم هذا ينتقض
بالجمعة, فإن الناس اختلفوا هل تنعقد بأربعين أو باثنين أو
بثلاثة, فوجب أن يؤخذ بأقل ما قيل. فإن قلتم: الأصل هو الظهر
ولا ينتقل عنه إلا بدليل, قيل لكم: وكذلك الأصل شغل ذمته
بالجناية فلا تبرأ إلا بدليل. قالوا: وكذلك الغسل من ولوغ
الكلب يجب أن نأخذ بأقل ما قيل.
ثم أجاب ابن القطان: بأن الكلام في هذه المسألة ليس في الحادثة
التي قام الدليل فيها, وإنما كان هنا في الحادثة إذا وقعت بين
أصول مجتهد فيها بحادثة, فنصير إلى أقل ما قيل, وهذا هو موضع
الخلاف بين أصحابنا المخرج على وجهين. فأما مسألة الجمعة
فدليلنا الخبر. ولو صح السؤال علينا لانقلب لأبي ثور على أبي
حنيفة, لأنه يجيزها بواحد. وأما ولوغ الكلب فقد صرنا إلى ما نص
عليه - رضي الله عنه - قال: وهذه المسألة مبنية على حادثة قد
تقدمت قبلنا وانقرض العصر عليها واختلفوا فيها, وأما اليوم
فالمدار على الدليل. انتهى. وأجاب القفال عن مسألة الجمعة
بأنها أقل ما قيل, لأنه أقل ما روي عنه عليه الصلاة والسلام
أنه جمع فيهم في زمنه ذلك.
(4/337)
وقسم ابن السمعاني المسألة إلى قسمين يخرج
منهما الجواب:
أحدهما : أن يكون ذلك فيما أصله براءة الذمة, فإن كان الاختلاف
في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى, لموافقة براءة الذمة, ما
لم يقم دليل الوجوب, وإن [كان] الاختلاف في قدره بعد الاتفاق
على وجوبه, كدية الذمة إذا وجبت على قاتله, فهل يكون الأخذ
بأقله دليلا؟ اختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين.
والثاني : أن يكون فيما هو ثابت في الذمة, كالجمعة الثابت
فرضها, اختلف العلماء في عدد انعقادها, فلا يكون الأخذ بالأقل
دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرأ الذمة بالشك, وهل يكون الأخذ
بالأكثر دليلا؟ فيه وجهان: أحدهما : يكون دليلا ولا ينتقل عنه
إلا بدليل, لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا, وبالأقل خلافا,
فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين, لأن هذا العدد أكثر ما
قيل. الثاني : لا يكون دليلا, لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل في
حكم, والشافعي إنما اعتبر الأربعين بدليل آخر. قال ابن
السمعاني: وهذا كله كلام بعض أصحابنا, وليس فيه كبير معنى,
انتهى.
وإنما يتم الأخذ بأقل ما قيل بشروط:
أحدها : أن لا يكون أحد قال بعدم وجوب الشيء. وإلا لم يكن
الثلث دية الذمي - مثلا - أقل الواجب. بل لا يكون هناك شيء هو
الأقل.
ثانيها : أن لا يكون أحد قال بوجوب شيء من ذلك النوع, كما لو
قيل: إنه يجب هاهنا فرس, فإن هذا القائل لا يكون موافقا على
وجوب الثلث وإن نقص ذلك عن قيمة الفرس, والقائل بالثلث لا يقول
بالفرس وإن نقصت قيمتها عن ثلث الدية, فلا يكون هناك شيء هو
أقل.
ثالثها : أن لا يوجد دليل أخذ غير الأقل, وإلا كان ثبوته بذلك
الدليل, لا بهذا الطريق.
رابعها : أن لا يوجد دليل يدل على ما هو زائد وإلا وجب العمل
به وكان مبطلا لحكم هذا الأصل. ولهذا لم يقل الشافعي بانعقاد
الجمعة بثلاثة, ولا بالغسل من ولوغ الكلب ثلاثا, وإن كان أقل
ما قيل, لقيام الدليل على اشتراط ما صار إليه.
وقال بعض الفضلاء: الأخذ بأقل ما قيل عبارة عن الأخذ بالمحقق
وطرح المشكوك فيه فيما أصله البراءة, والأخذ بما يخرج عن
العهدة بيقين. فيما أصله اشتغال
(4/338)
الذمة. ولذلك جعل الأخذ بأكثر في الضرب
الثاني - وهو ما أصله اشتغال الذمة بمنزلة الأخذ بالأقل في
الأول. وقد وهم بعضهم فأورد عدد الجمعة سؤالا, ولم يعلم أن
الأخذ فيه بالأكثر بمنزلة الأخذ بالأقل, وبيانه أن المركب من
أجزاء على قسمين: أحدهما: أن يكون بعضها مرتبطا ببعض فلا يعتد
به إلا مع صاحبه, كصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار.
وثانيهما: أن لا يرتبط, كمن وجب عليه لزيد عشرون درهما يؤديها
كل يوم درهما. ونظير الثاني: دية اليهودي, فإن أبعاض [الدية]
من حيث هي لا تعلق لبعضها ببعض, فمن وجب عليه مائة من الإبل
وجب كل واحد منها من غير تعلق له بصاحبها, فإذا خرج ثلثها برئ
قطعا, وبقي ما وراءه, والأصل عدمه, فلم يوجد. ونظير الأول:
الجمعة فإن أبعاض عددها يتعلق ببعض, فمن صلاها في ثلاثة لم
يخرج عن العهدة بيقين ولم يأت بما أسقط عنه شيئا, فأخذنا
بالأصل في الموضعين, وهما في الحقيقة شيء واحد, وحاصله إيجاب
الاحتياط فيما أصله الوجوب دون غيره. والفروع في الموضعين لا
تخفى.
وبهذا يتبين أن الأخذ بأقل ما قيل مركب من الإجماع ومن البراءة
الأصلية, فلا يتجه من القائل المخالفة فيه, ولا يصح التمسك فيه
بالإجماع وحده كما قال القاضي والغزالي وتبعه ابن الحاجب. قال
القاضي: ونقل بعض الفقهاء عن الشافعي أنه تمسك بالإجماع, وهو
خطأ عليه, ولعل الناقل زل في كلامه. وقال الغزالي: هو سوء ظن
به, فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر, ولا مخالفة فيه, والمختلف
فيه سقوط الزيادة, والإجماع عليه. نعم المشكل جعله دليلا
مستقلا مع تركيبه من دليلين, فكيف يتجه ممن يوافق على الدليلين
المذكورين مخالفة الشافعي فيه.
وأما ابن حزم في الإحكام فأنكر الأخذ بأقل ما قيل, وقال: إنما
يصح إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام, ولا سبيل إليه. وحكى
قولا أنه يأخذ بأكثر ما قيل ليخرج عن عهد التكليف بيقين. قال:
وليس الثلث في دية اليهودي بأقل ما قيل, فقد روينا من طريق
يونس بن عبيد, عن الحسن البصري, أن دية اليهودي والنصراني
ثمانمائة درهم, وهو أقل من ثلث دية المسلم, فكان ينبغي أن
تقولوا به, لأنه أقل ما قيل. وعن بعض المتقدمين أنه لا دية
للكتابي أصلا, فليس ثلث الدية أقل ما قيل. قال: ولنا فيه
تفصيل.
وقال القاضي عبد الوهاب: يمكن أن يقال: إن الواجب الوسط من
ذلك.
(4/339)
وأوضح مثال لهذه المسألة قيمة المتلف, بأن
يجني على سلعة يختلف أهل الخبرة في تقويمها, فيقومها. بعضهم
بمائة, وبعضهم بمائتين, وكذلك إذا جرحه جراحة ليس فيها أرش
مقدر.
(4/340)
مسألة في القول بالأخف
هذا, قد يكون بين المذاهب, وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة
أماراتها. وقد صار إليه بعضهم, لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:
185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
[سورة الحج: 78], وقوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بالحنيفية
السمحة" 1 وهذا يخالف الأخذ بالأقل, فإن هناك يشترط الاتفاق
على الأقل, ولا يشترط ذلك هاهنا. وحاصله يرجع إلى أن الأصل في
المضار المنع, إذ الأخف منهما هو ذلك.
وقيل: يجب الأخذ بالأشق, كما قيل هناك: يجب الأخذ بالأكثر.
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده "5/266" حديث "22345" عن أبي أمامة قال:
خرجنا منع رسول لله صلى الله عليه وسلم في سرية منم سرايا قال:
فمر رجل بغار قيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يفيم في ذلك
الغار قيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل
ويتخلى من الدنيا ثم فال لو أني أتيت نبي الله صلى الله عليه
وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل فأتاه فقال:
يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل
فحجثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا قال فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية
ولكن بعثت بالحنيفية السمحة. والذي نفس محمد بيده لغدوة أو
روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في
الصف خير من صلاته ستين سنة" ورواه الطبراني في الكبير "8/216"
برقم "7868".
(4/340)
مسألة: النافي للحكم
هل يلزمه الدليل
المثبت للحكم يحتاج للدليل بلا خلاف.
وأما النافي فهل يلزمه الدليل على دعواه؟ فيه مذاهب:
أحدها : نعم, وجزم به القفال والصيرفي, واختاره ابن الصباغ
وابن السمعاني, ونقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق,
ونقله ابن القطان عن
(4/340)
مسألة ولها تعلق بالاستصحاب
نقل الدبوسي عن الشافعي أن عدم الدليل حجة في إبقاء ما ثبت
بالدليل, لا لما لم يصح ثبوته, قال: ولهذا لم يجز الصلح على
الإنكار, ولم يجز شغل الذمة بالدين فلم يصح الصلح, قال: وعندنا
هو جائز ويقول: قول المنكر ليس بحجة على المدعي, كقول المدعي
ليس بحجة على المنكر, قال: وقال بعضهم: هذا الذي قاله الشافعي
يكون حجة في حق الله تعالى ولا يكون حجة على خصمه بوجه. انتهى.
وأنكر عليه ابن السمعاني ذلك وقال: عدم الدليل ليس بحجة في
موضع. والذي ادعاه على الشافعي من مذهبه لا ندري كيف وقع له.
والمنقول عن الأصحاب ما قدمناه. وأما مسألة الصلح على الإنكار
فقد بينا وجه فساده في الخلافيات".
وذكر أيضا مسألة الشفعة على هذا الأصل, وهي أن من كان في ملكه
شقص وباع شريكه نصيبه وأراد الشريك أخذه بالشفعة, أو كان جارا
على أصولهم فأنكر المشتري الشقص ملكا, قال: عند الشافعي لا
يلتفت إلى إنكاره ويثبت له الأخذ بالشفعة بظاهر ملكه بيده.
وعندنا: ليس له حق الشفعة حتى يقيم البينة أن الشقص ملكه.
قلت: وقال الروياني في البحر " "في باب التيمم": ظاهر كلام
الشافعي - رحمه الله تعالى - أن السكوت وعدم النقل دليل على
عدم الحكم ولهذا قال في الماسح
(4/343)
على الخفين: هل يلزمه إعادة الصلاة؟ إن صح
حديث علي - رضي الله عنه - قلت به في الأمر بالمسح على
الجبائر, لأنه لم يلزمه الإعادة, فإن صح قطعت القول به قال:
فجعل سكوته عن الإعادة دليلا على نفي وجوبها.
قلت: بل ظاهر كلام الشافعي التفصيل بين أن يكون مما تتوفر
الدواعي على نقله أم لا, فإنه قال في تقدير أن خبر ماعز حيث
رجم ولم يجلد ناسخ لحديث الجمع بينهما. قال: فإن قال قائل:
لعله جلده ورجمه.
قيل: كانت قصته من مشاهير القصص, ولو جلد لنقل. فإن قيل: رب
تفصيل في القصص لا يتفق نقله ودواعي النفوس إنما تتوفر على نقل
كليات القصص. فإن صح في الحديث المتقدم التصريح بالجلد فلا
يعارضه التعلق بعدم نقل في حديث مع اتجاه وجه بترك النقل فيه
قال الشافعي مجيبا: الأمر كذلك, والحق أحق أن يتبع, ولولا أن
أبا الزبير روى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم
ماعزا ولم يجلده1. تعارض الحديث الأول بقصة ماعز. انتهى.
أما إذا لم يعلم على الحكم سوى دليل واحد وعلة واحدة فهل يكون
عدم كل واحد منهما دالا على عدم الحكم؟ ينبغي أن يفصل في ذلك
بين الحكم العقلي والشرعي فيقال: إن كان ذلك الحكم عقليا فإن
العكس فيه غير لازم, إذ لا يلزم من نفي دليل معين أو علة معينة
نفي الحكم, لجواز أن يكون ثم دليل آخر أو علة أخرى ولم يعلم
بهما, وعدم علمنا بالشيء لا يدل على عدمه, فلم يحصل القطع
واليقين بعدم ذلك الحكم عند عدم ذلك الدليل أو تلك العلة. وإن
كان ذلك الحكم شرعيا فإن العكس فيه لازم, لأنا مكلفون في
الأمور الأخروية بغلبة الظن, ونحن إذا لم نعلم على الحكم سوى
دليل واحد أو علة واحدة غلب على الظن عدم الحكم من عدم ذلك
الدليل أو عدم تلك العلة, والظن متعبد به في الشرعيات, بخلاف
العقليات فإن المطلوب فيها القطع واليقين, وأنه غير مظنون به
في هذا الموطن.
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "5/96" جديث "20939" عن جابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعز بن مالك ولم يذكر جلدا.
(4/344)
مسألة
إذا قال الفقيه: بحثت وفحصت فلم أظفر بالدليل1, هل يقبل منه
ويكون الاستدلال بعدم الدليل؟ قال البيضاوي: نعم, لأنه يغلب ظن
عدمه. وقال ابن برهان في الأوسط": إن صدر هذا عن المجتهد في
باب الاجتهاد والفتوى قبل منه, أو في محل المناظرة لا يقبل,
لأن قوله: "بحثت فلم أظفر "يصلح أن يكون عذرا بينه وبين الله
تعالى, أما انتهاضه في حق خصمه فلا, لأنه يدعو نفسه إلى مذهب
خصمه. وقوله "لم أظفر به "إظهار عجز ولا يحسن قبوله فيجب على
خصمه إظهار الدليل إن كان. وهذا التفصيل هو حاصل ما ذكره
إلكيا, على طول فيه, بعد أن قيد الجواز عدم التعلق بالدليل
بشرط الإحاطة بمآخذ الأدلة إما من جهة العبارة أو غيرها, كقوله
تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
عَلَى طَاعِمٍ} [سورة الأنعام: 145] فجعل عدم الوحي في الأمر
دليلا, إذ هو عالم بالعدم. وهذه الطريقة اشتهرت بين المتأخرين,
يستدلون بها في مسائل لا تحصى في طرق النفي, وهو أن يقول: هذا
الحكم غير ثابت, لأنه لو ثبت لثبت بدليل, ولا دليل لأنه إما نص
أو إجماع أو قياس, والأول منتف, لأنه لو كان عن نص لنقل ولم
ينقل ولو نقل لعرفناه بعد البحث والفحص التام والإجماع منتف
لوجود الخلاف بيننا, والقياس منتف لقيام الفارق بينه وبين
الأصل الذي هو قياس علة الخصم.
ونازع القاضي نجم الدين القدسي صاحب الركن الطاوسي في كتابه
"الفصول" بأنه يحتاج إلى الاطلاع على جميع النصوص من الكتاب
والسنة, ثم إلى معرفة جميع وجوه الدلالات. وهذا أمر لا يستطاع
للبشر. وأسرار القرآن والسنة كثيرة, ومظانها دقيقة, وعقول
الناس في فهمها مختلفة, حتى إن منهم من يتكلم على الآية
الواحدة أو الحديث الواحد مجلدات كثيرة في فوائدها ودلالتها,
ومع ذلك لا ينتهي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في
القرآن: "هو الذي لا تنقضي عجائبه" 2 فلا يمكن الإنسان علم عدم
النص الدال على
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب "3/263" المستصفى "2/296" المسودة
"426".
2 رواه الترمذي "5/172" كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل
القرآن حديث "2906" ورواه الدارمي في سننه "2/526" حديث "3331"
وهو حديث ضعيف.
(4/345)
نفي الحكم إلا إذا علم ذلك كله, وهو
مستحيل, ولو فرض علمه به لغفل عنه في بعض الأوقات, كما رووا أن
عمر - رضي الله عنه - أنكر المغالاة في المهر حتى قالت له
المرأة: كيف منعناه وقد أعطانا الله ثم قرأت1: {وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً}
[سورة النساء: 20] ولا شك أن عمر - رضي الله عنه - كان حافظا
للآية عالما بها, ولكن ذهبت عنه ذلك الوقت, فعلم أن ذلك عسر
جدا, فكيف يصير قوله: "بحثت فلم أجد "دليلا؟, وقد يكون علمه
قليلا وفهمه ناقصا وقوله غير مقبول, فلعله وجد وكتم, خوفا أو
غيره. وفي تجويز ذلك فساد عظيم. انتهى ملخصا, وقال الحواري في
النهاية": بعض الفقهاء يتكايس ويقول: الدليل على أنه لا نص
هاهنا أنه لو كان لعثر عليه صاحب المذهب مع مبالغته في البحث
وعلمه بموارد النصوص. والظاهر أنه إذا عثر على النص لا يخالفه.
وهذا قريب, لأنه لا يدعي نفي الحكم قطعا بل ظنا, فيكفيه نفي
الدليل ظاهرا إن تمسك بالقياس النافي للحكم.
ـــــــ
1 الفصة رواها عبد الرزاق في مصنفه "6/180".
(4/346)
شرع من قبلنا
ويشتمل على مسألتين.
إحداهما : فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم [متعبدا به] قبل
البعثة:
وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
أحدها : أنه كان متعبدا بشرع قطعا1, ثم اختلفوا: فقيل: كان على
شريعة آدم عليه السلام, لأنه أول الشرائع. وقيل: نوح, لقوله
تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}
[سورة الشورى: 13] قيل: إبراهيم, لقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [سورة آل
عمران: 68], وحكاه الرافعي في "كتاب السير "عن صاحب البيان
"وأقره, وقال الواحدي: إنه الصحيح, قال ابن القشيري في المرشد
"وعزي للشافعي, وقال الأستاذ أبو منصور: وبه نقول, وحكاه صاحب
المصادر "عن أكثر أصحاب أبي حنيفة, وإليه أشار أبو علي
الجبائي. وقيل: على شريعة موسى. وقيل: عيسى, لأنه أقرب
الأنبياء إليه. ولأنه الناسخ
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "4/137" المستصفى "1/246" المنخول ص
"232".
(4/346)
المتأخر. وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق
الإسفراييني فيما حكاه الواحدي عنه. لكن قال ابن القشيري في
المرشد": ميل الأستاذ أبي إسحاق إلى أن نبينا محمدا صلى الله
عليه وسلم كان على شرع من الشرائع ولا يقال كان من أمة ذاك
النبي كما يقال كان على شرعه. انتهى. وقيل: كان متعبدا بشريعة
كل من كان قبله إلا ما نسخ واندرس, حكاه صاحب الملخص", وقيل:
يتعبد لا ملتزما دينا واحدا من المذكورين, حكاه النووي - رحمه
الله تعالى - في زوائد الروضة", وقيل: كان متعبدا بشرع ولكنا
لا ندري بشرع من تعبد, حكاه ابن القشيري.
والمذهب الثاني: أنه لم يكن قبل البعثة متعبدا بشيء منها قطعا,
وحكاه في المنخول" عن إجماع المعتزلة. وقال القاضي في مختصر
التقريب "وابن القشيري: هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين. ثم
اختلفوا فقالت المعتزلة بإحالة ذلك عقلا, إذ لو تعبد باتباع
أحد لكان عصى من مبعثه, بل كان على شريعة العقل. قال ابن
القشيري: وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة. وذهبت عصبة أهل الحق
إلى أنه لم يقع ولكنه ممتنع عقلا. قال القاضي: وهذا نرتضيه
وننصره, لأنه لو كان على دين لنقل, ولذكره عليه السلام, إذ لا
يظن به الكتمان. وعارض ذلك إمام الحرمين وقال: لو لم يكن على
دين أصلا لنقل, فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي قال:
فقد تعارض الأمران, والوجه أن يقال: كانت العادة انخرقت في
أمور الرسول عليه الصلاة والسلام, منها انصراف هم الناس عن أمر
دينه والبحث عنه.
والمذهب الثالث: التوقف, وبه قال إمام الحرمين وابن القشيري
وإلكيا والآمدي والشريف المرتضى في الذريعة "واختاره النووي في
الروضة "إذ ليس فيه دلالة عقل, ولا ثبت فيه نص ولا إجماع.
وقال ابن القشيري في المرشد": كل هذه أقوال متعارضة, وليس فيها
دلالة قاطعة, والعقل يجوز ذلك, لكن أين السمع فيه. ثم الواقفية
انقسموا: فقيل: نعلم أنه كان متعبدا ونتوقف في عين ما كان
متعبدا به. ومنهم من توقف في الأصل, فجوز أن يكون وألا يكون.
تنبيهات
الأول: الخلاف في الفروع. أما في الأصول فدين الأنبياء كلهم
واحد, على التوحيد ومعرفة الله وصفاته.
(4/347)
الثاني: قال العراقي في شرح التنقيح":
المختار في هذه المسألة أن يقال: متعبد "بكسر الباء" على أنه
اسم فاعل, أي إنه عليه السلام كان كما قيل في سيرته: ينظر إلى
ما عليه الناس فيجدهم على طريقة لا تليق بصانع العالم, فكان
يخرج إلى غار حراء يتعبد, حتى بعثه الله. أما "بفتحها" فيقتضي
أن الله تعالى تعبده بشريعة سابقة, وذلك يأباه حكايتهم الخلاف,
هل كان متعبدا بشريعة موسى أو عيسى؟ فإن شرائع بني إسرائيل لم
تتعد إلى بني إسماعيل, بل كان كل نبي بين موسى وعيسى يبعث إلى
قومه فلا تتعدى رسالته قومه. حتى نقل المفسرون أن موسى عليه
السلام لم يبعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل وليأخذهم من القبط
من يد فرعون, ولذلك لما جاوز البحر لم يرجع إلى مصر لتعم فيها
شريعته, بل أعرض عنهم إعراضا كليا. وحينئذ لا يكون الله تعالى
تعبد نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بشريعتهما ألبتة, فبطل
قولنا أنه كان متعبدا "بفتح الباء", بل "بكسرها". وهذا بخلاف
ما بعد نبوته, فإن الله تعالى تعبده بشرع من قبله على الخلاف,
بنصوص خاصة, فيستقيم الفتح بعد النبوة دون ما قبلها. وكلام
الآمدي يقتضي خلاف ذلك, فإنه قال: غير مستبعد في العقول أن
يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في تكليفه شريعة من قبله, وهذا
يقتضي "فتح الباء". ولم نر لغيره تعرضا لذلك. قلت: قد وقع ذلك
في عبارة غيره, كما سبق.
الثالث: قال إمام الحرمين هذه المسألة لا يظهر لها فائدة, بل
تجري مجرى التواريخ المنقولة. ووافقه المازري والإبياري
وغيرهما ويمكن أن يظهر في إطلاق النسخ على ما تعبد به بورود
شريعته المؤيدة.
المسألة الثانية
في أنه هل تعبد بعد النبوة بشرع من قبله صلى الله عليه وسلم أم
كان منهيا عنها؟
والبحث هنا مع القائلين بالتعبد قبله. وأما من نفاه ثم [فقد]
نفاه هاهنا بالأولى. على مذاهب:
أحدها: أنه لم يكن متعبدا, بل كان منهيا عنها, وحكاه ابن
السمعاني عن أكثر المتكلمين وجماعة من أصحابنا ومن الحنفية,
وهو آخر قولي الشيخ أبي إسحاق, كما قاله في اللمع "واختاره
الغزالي في آخر عمره, وقال ابن السمعاني: إنه المذهب الصحيح,
وكذا قال الخوارزمي في الكافي "لأنه لما بعث معاذا إلى اليمن
لم يرشده, بل ذكر له الكتاب والسنة والاجتهاد. ونصره الصيرفي
في "الدلائل" قال:
(4/348)
وأما حديث: "كان يحب موافقة أهل الكتاب
فيما لم ينزل عليه"1, فإن صح فهو محمول على الاختيار لا
الوجوب. انتهى. والحديث رواه البخاري. قال بعضهم: وإنما ذلك
لأنهم كانوا على بقية من دين الرسل, فما تبين أنهم لم يحرفوه
ولا بدلوه فأحب موافقتهم لقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام: 90] ثم قضيته أنه غير متعبد بها ولا
منهي عنها. وقال النووي في زوائده": الأصح أنه ليس بشرع لنا,
لكن نقل ابن الرفعة عن النص خلافه, وقال ابن حزم: إنه الصحيح
قال ولقد قبح إسماعيل بن إسحاق القاضي من المالكية في قوله: إن
رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين تعبد بما في
التوراة قال: وهذا قريب من الكفر. وقال في كتابه الإعراب": لا
يجوز العمل بشيء من شرائعهم, لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [سورة المائدة: 48] واختاره
الإمام الرازي والآمدي.
المذهب الثاني: أنه كان متعبدا باتباعها, إلا ما نسخ منها,
ونقله ابن السمعاني عن أكثر أصحابنا وعن أكثر الحنفية وطائفة
من المتكلمين. وقال ابن القشيري: هو الذي صار إليه الفقهاء.
وقال سليم: أنه قول أكثر أصحابنا, واختاره الشيخ أبو إسحاق
أولا في التبصرة "واختاره ابن برهان وقال: إنه قول أصحابنا,
وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن قال: ولذلك استدل
بقصة صالح النبي عليه السلام وقومه في شرب الناقة على إجازة
المهايأة. وقال الخفاف في شرح الخصال": شرائع من قبلنا واجبة
علينا إلا في خصلتين: إحداهما أن يكون شرعنا ناسخا لها, أو
يكون في شرعنا ذكر لها, فعلينا اتباع ما كان من شرعنا وإن كان
في شرعهم مقدما. انتهى. واختاره ابن الحاجب وهو معنى قوله إذا
وجدنا حكما في شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمه
التعلق به. قال ابن السمعاني: وقد أومأ إليه الشافعي في بعض
كتبه. قلت: وقال ابن الرفعة في المطلب "إن الشافعي نص عليه في
الأم في كتاب الإجارة وأنه أظهر الوجهين في الحاوي", انتهى.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي صلى الله
عليه وسلم حديث "3558" عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
سلم كان يسدل شعره وكان المشركون يفرقون رءوسهم فكان أهل
الكتاب يسدلون رءوسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب
موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم فرق رسول الله صلى
الله عليه وسلم رأسه" ورواه في كتاب اللباس حديث "5917" بلفظ
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم
يؤمر فيه...الحديث ورواه مسلم كتاب الفضائل حديث "1336".
(4/349)
وقال إمام الحرمين: للشافعي ميل إلى هذا,
وبنى عليه أصلا من أصوله في "كتاب الأطعمة", وتابعه معظم
الأصحاب. وقال في النهاية": وقد استأنس الشافعي لصحة الضمان
بقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا
بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف: 72] فكان الحمل في معنى الجعالة لمن
ينادي في العير بالصواع, ولعله كان معلوما عندهم وتعلق الضمان
به, وقال أيضا في "كتاب الضمان "فيمن حلف ليضربن عبده مائة
سوط, فضربه بالعثكول: إنه يبرأ, لقصة أيوب عليه السلام, اتفق
العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملتنا, والسبب فيه أن
الملل لا تختلف في موجب الألفاظ وفيما يقع برا وحنثا. وثبت عن
ابن عباس أنه سجد في "سورة ص" وقرأ قوله تعالى: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة
الأنعام: 90] فاستنبط التشريع من هذه الآية. رواه أحمد وسعيد
بن منصور وقال أبو بكر عبد الوهاب: إنه الذي تقتضيه أصول مالك.
وكذا قال القرطبي: ذهب إليه معظم أصحابنا. وقال ابن العربي في
القبس": نص عليه مالك في "كتاب الديات "من الموطإ", ولا خلاف
عنده فيه.
وإذا قلنا بأنه شرع لنا فقيل: شرع إبراهيم صلوات الله عليه
وحده, وقيل: شرع موسى عليه السلام شرعنا إلا ما نسخ بشريعة
عيسى. وقيل: شريعة عيسى وحده. حكاه الشيخ في اللمع "والقاضي
عبد الوهاب وغيرهما: ونقلا الخلاف بعينه في الملتين. وقال
الماوردي في الحاوي": ما تضمنته شرائع من قبلنا, فيما لم يقصه
الله علينا في كتابه, لا يلزمنا حكمه, لانتقاء العلم بصحته.
وأما ما قصه علينا في كتابه لزمنا فيه شرائع إبراهيم, لقوله
تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ} [سورة النحل: 123]. وفي لزوم ما شرعه غيره من
الأنبياء وجهان: " أحدهما ": يلزمه, لكونه حقا ما لم يقم دليل
على نسخه. و " الثاني ": لا يلزم, لكون أصله منسوخا. انتهى.
وما ذكره من الوفاق على إبراهيم ذكره القاضي ابن كج في أول
كتاب التجريد "فقال: اختلف أصحابنا في شرائع من قبلنا, هل
تلزمنا؟ ولم يختلفوا في أن شريعة إبراهيم لازمة لنا. وقال في
كتابه الأصول": إذا ثبت في شريعة موسى شيء, هل يجوز بعد بعث
محمد صلى الله عليه وسلم التمسك به؟ وجهان: "أحدهما": يجب
علينا الاقتداء بشرائعهم إلى أن يمنع من ذلك شرعنا. "والثاني":
لا اقتداء إلا بشريعة إبراهيم. قال ابن القطان: كان أبو العباس
بن سريج يقول: ما حكى الله في كتابه عنهم فهو حق,
(4/350)
وهو واجب في شريعتنا إلا أن يغير عنه. وقد
كان سائر أصحابنا يقولون: ما حكي لنا عنهم مما تقوم به الحجة
من المستفيض والمتواتر سواء في أنه على وجهين. انتهى.
المذهب الثالث: أنه لم يتعبد فيها بأمر ولا نهي. حكاه ابن
السمعاني.
المذهب الرابع: الوقف. حكاه ابن القشيري. وحكى ابن برهان في
الأوسط "عن أبي زيد, أن ما أخبر الله عن الأنباء المتقدمين,
كقسمة المهايأة في قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [سورة القمر: 28] وقوله: {وَلِمَنْ جَاءَ
بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف: 72]
وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة: 45]. قال: فهذا يكون شرعنا, لأنه
مصون عن التحريف. وهذا لا يصلح جعله مذهبا بالتفصيل, لاقتضائه
أن القائل بأنه شرع بقوله وإن احتمل التبديل, وهو لا يقوله أحد
ويحتمل أن يجعل المنقول عنهم عما في القرآن خاصة كما هو ظاهر
عبارة الماوردي السابقة, فيجيء حينئذ التفصيل, إلا أنه لا وجه
لهذا التخصيص. ولهذا قال القرطبي: فيما إذا بلغنا شرع من
تقدمنا على لسان الرسول, أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام
وكعب الأحبار, ولم يكن ذلك منسوخا ولا مخصوصا بأحد. انتهى.
قلت: ويلحق بهم النجاشي, وقد روى ابن حبان في صحيحه "عن عامر
بن شهر قال: كلمتان سمعتهما, ما أحب أن لي بواحدة منهما الدنيا
وما فيها, إحداهما من النجاشي, والأخرى من النبي صلى الله عليه
وسلم. فأما التي سمعتها من النجاشي فإنا كنا عنده إذ جاءه ابن
له من الكتاب يعرض لوحه قال: وكنت أفهم بعض كلامهم, فمر بأية
فضحكت. فقال: ما الذي أضحكك؟, والذي نفسي بيده لأنزلت من عند
ذي العرش أن عيسى ابن مريم قال: إن اللعنة تكون في الأرض إذا
كانت إمارة الصبيان1. والذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: "اسمعوا من قريش ودعوا فعلهم" 2. قلت: وقد فرقه أبو
داود, فروى أوله في "كتاب الجراح "وباقيه في "كتاب السنة"3,
وقال فيه ابن عبد البر: حديث حسن. وروى عبد الله بن المبارك عن
عبد الرحمن بن يزيد
ـــــــ
1 رواه ابن حبان في صحيحه "10/445" حديث "4585" وإسناده صحيح.
2 رواه أحمد في مسنده "4/260" حديث "18311" عن عامر بن شهر
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خذوا من قول
قريش ودعوا فعلهم" .
3 أبو داود "4/235" كتاب السنة حديث "4736" وهو حديث صحيح.
(4/351)
عن عبد الرحمن: "رجل من أهل صنعاء "قال:
أرسل النجاشي ذات يوم وراء أصحابه فدخلوا عليه وقد جلس على
التراب ولبس الخلقان, فبشرهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم
ببدر, فسألوه عن جلوسه على هذه الحالة, فقال: "إنا نجد في كتاب
الله تعالى الذي أنزله على عيسى صلى الله عليه وسلم: إن حقا
على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند كل ما أحدث لهم من
نعمة". فلما أحدث الله نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع. وروى
الحاكم في المستدرك "عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "مكتوب في التوراة: من سره أن تطول حياته,
ويزداد في رزقه فليصل رحمه" 1. وقال: حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه بهذه السياقة.
والقول بجريان هذا في أخبار من لم يطلع النبي صلى الله عليه
وسلم عليه بعيد. وقال إلكيا ما حاصله: المراد بشرع ما قبلنا ما
حكاه الله ورسوله عنهم أما الموجود بأيديهم فممنوع اتباعه بلا
خلاف. قال: وعلة المنع إما لتهمة التحريف, وإما لتحقق النسخ.
قال ووقع الإجماع على أحد هذين الاحتمالين. وتظهر فائدتهما
فيما حكاه الله لنبيه من شرعهم. فإن قلنا: التهمة التحريف فلا
يتجه. وإن قلنا لتحقق النسخ اطرد ذلك في المحكي وغيره. قلت:
ولهذا فصل أبو زيد والماوردي ما سبق.
تنبيهات
الأول: قال المقترح: هذا الخلاف مبني على أن كل شريعة لما
وردت, كانت خاصة أو كانت عامة, فالذي فصل يقدر أن تكون عامة,
وهل اندرست أم لا؟ والذي يدعي أنها شرع لنا يحتاج إلى إثبات
أنها حيث وردت دامت ولم تندرس. وقال ابن برهان: هو مبني على أن
نفس بعثة الأنبياء لا تصلح أن تكون ناسخة ومغيرة. وعندهم: تصلح
لذلك.
الثاني: قال الأستاذ أبو منصور وغيره: فائدة الخلاف في هذه
المسألة تظهر في حادثة ليس فيها نص ولا إجماع, ولها حكم شرعي
معلوم في شرع قبل هذا الشرع, هل يجوز الأخذ به أم لا؟. ومن
فروعه: ما إذا تعذر الاطلاع على حكم ما يحل أكله ويحرم, وثبت
تحريمه بشرع سابق بنص أو شهادة فقولان: أحدهما: أنا نستصحبه
ـــــــ
1 رواه الحاكم في المستدرك "4/177" حديث "7279" عن ابن عباس
مرفوعا وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا السياقة
وإنما ابفقا على حديث يونس عن الزهري عن أنس وقال الذهبي في
التلخيص حديث صحيح.
(4/352)
حتى يظهر ناسخ وناقل. و "أصحهما": لا, بل
يعمل بظاهر الآية من الحل. وعلى الأول فلو اختلف فيه, ففي
الحاوي "للماوردي: إنما يعتبر حكمه في أقرب الشرائع بالزمن
للإسلام. وإن اختلفوا فوجهها تعارض الأشباه.
الثالث: قال القاضي في التقريب": ليس تحقيق الخلاف أن يقول
المخالف: إنه قد أمر بمثل شرع من تقدم, لأن أحدا لا ينكر هذا,
فإن كان هذا قول المخالفين فإنه ورد عليه أمر مستأنف مبتدأ
موافق لشرع من قبله, فقد وافقوا على المعنى, وإنما الخلاف في
أنه هل يلزمه بعد المبعث العمل بشريعة من قبله على وجه الاتباع
لنبي قبله وفرض لزوم دعوته؟ قال القاضي: فهذا هو الباطل الذي
ننكره.
الرابع: إذا قلنا باستصحاب شرع من قبلنا فله ثلاث شروط:
" أحدها ": أن يصح النقل بطريقة أنه شرعهم. وذلك بأربع طرق:
إما بالقرآن كقوله تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [سورة
البقرة: 67], أو تصحيح السنة, كما استدلوا بحديث الغار على صحة
بيع الفضولي وشرائه, أو ثبت نقل بطريق التواتر الذي لا يمكن
الغلط فيه. ولا يشترط فيه الإيمان على ما سبق في "باب الخبر",
هذا هو الذي يقتضيه القياس, لكن الظاهر خلافه, ولهذا قال
الرافعي في "كتاب الأطعمة": لا يعتمد قول أهل الكتاب. وإما بأن
يشهد به اثنان أسلما منهم ممن يعرف المبدل.
الشرط الثاني: أن لا تختلف في تحريم ذلك وتحليله شريعتان, فإن
اختلفتا كأن كان ذلك حراما في شريعة إبراهيم, وحلالا في شريعة
غيره, فيحتمل أن يؤخذ بالمتأخر, ويحتمل التخيير, وإن لم نقل
بأن الثاني ناسخ للأول, فإن ثبت كون الثاني ناسخا وجهل كونه
حراما في الدين السابق أو اللاحق توقف ويحتمل الرجوع إلى
الإباحة الأصلية.
الشرط الثالث : أن يكون التحريم والتحليل ثابتا قبل تحريفهم
وتبديلهم, فإن استحلوا وحرموا بعد النسخ والتحريف فلا عبرة به
ألبتة.
الخامس هذا كله في فروع الدين, فأما العقائد فهي لازمة لكل
أحد. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام: 90] ويدل لذلك أن
العلماء احتجوا على أن الله خالق لفعل العبد بقوله تعالى حاكيا
عن إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ولم يرد المعتزلة هذا بأنه شرع
سابق.
وألحق بعضهم بالإيمان تحريم القتل والكفر والسرقة والربا
ونحوهما, وقال:
(4/353)
اتفقت الشرائع على تحريمها, وإنما اختلفوا:
هل حرمت في شرعنا بخطاب مستأنف أم بالخطاب الذي أنزل على غيره
وتعبد باستدامته ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما يخالف شرعهم
فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي: كان ذلك بخطاب مستأنف
وطردوا قولهم: لم يتعبد بشريعة من قبله.
السادس ذكر القاضي أبو عبد الله الصيمري من أئمة الحنفية في
كتابه مسائل الخلاف في الأصول خلافا في أنه هل يجوز أن يبعث
الله تعالى نبيا تكون شريعته مثل الذي قبله, أم يجب أن تكون له
شريعة مفردة؟ قال: أما من جهة العقل فهو جائز, ومن الناس من
قال لا بد أن يختص بشريعة [غير شريعة] من قبله. انتهى. ولعل
هذا الخلاف هو أصل الخلاف في مسألتنا. ثم رأيت التصريح بذلك في
كتاب الذريعة "للشريف المرتضى. قال: وقيل: يجوز أن يتعبد الله
نبيا بمثل شريعة النبي الأول بشرطين: أن تندرس الأولى فيجددها
الثاني, أو بأن يزيد فيها ما لم يكن فيها. فأما على غير هذا
الوجه هو عبث, قال: والصحيح الجواز ولا عبث إذا علم الله أنه
ينتفع بالثاني من لا ينتفع بالأول, لتكون النعمة الثانية على
سبيل ترادف الأدلة.
فائدة قال أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: بدء الشرائع
كان في التخفيف, ولا يعرف في شرع نوح وصالح وإبراهيم ثقيل, ثم
جاء موسى بالتشديد والأثقال, وجاء عيسى بنحو من ذلك, وكانت
شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم تنسخ تشديد أهل الكتاب, ولا
تطلق بتسهيل من كان قبلهم, فهي على غاية الاعتدال.
(4/354)
مسألة
يجوز أن يقال لنبي أو مجتهد: احكم بما شئت من غير اجتهاد فهو
صواب, أي فهو حكمي في عبادي, إذا علم أنه لا يختار إلا الصواب
ويكون قوله إذ ذاك من جملة المدارك الشرعية, ويسمى "التفويض"1,
قاله القاضي في التقريب "وتبعه جماعة منهم إلكيا وابن الصباغ,
وقال: إنه قول أكثر أهل العلم.
قال القاضي: وقال أكثر المعتزلة: لا يجوز, بناء على رأيهم أن
الشرع مبني على المصالح, وقد لا يكون في اختياره مصلحة. وقال
الشريف المرتضى في الذريعة:
ـــــــ
1 انظر الإحكام للآمدي "4/170" مختصر ابن الحاجب والعضد عليه
"2/301, 302".
(4/354)
الصحيح السماع, ولا بد في كل حكم من دليل
لا يرجع إلى اختيار الفاعل. وقال: خالف موسى بن عمران في ذلك
وقال: لا فرق بين أن ينص له على الحكم وبين أن يعلم أنه لا
يختار إلا ما هو المصلحة, فيفوض ذلك إلى اختياره. انتهى. وقال
أبو بكر الرازي في أصوله": الصحيح أنه لا يجوز ذلك إلا بطريق
الاجتهاد.
والثالث : وبه قال أبو علي الجبائي في أحد قوليه: يجوز ذلك
للنبي دون العالم, ذكر ذلك في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [سورة آل عمران: 93] قال أبو
الحسين: ثم رجع عن هذا القول. وهذا القول اختاره ابن السمعاني.
قال: وقد ذكر الشافعي في الرسالة "ما يدل عليه.
وقال أبو الحسين في المعتمد: ذكر الشافعي في الرسالة ما يدل
على أن الله تعالى لما علم أن الصواب يتفق من نبيه جعل له ذلك,
ولم يقطع عليه بل جوزه وجوز خلافه. وقال صاحب المصادر: ذكر
الشافعي ما يدل على الجواز, فإنه قال فيها: الحكم يثبت بالوحي,
أو بأن ينفث في روعه. وكأنه يشير بذلك إلى خاطر يلقى إليه, أو
باجتهاد, أو بأن يوفق في الحكم. قال: وهو مذهب موسى بن عمران
بعينه. وقد ردوا عليه بأنه لا بد في الشرعيات من دلالة مميزة
للصلاح من الفساد, واختيار المكلف لا يصلح أن يكون مميزا.
وقال ابن الصباغ في العدة: حكي عن الشافعي أنه قال في كتاب
الرسالة: إن الله تعالى لما علم أن الصواب يتفق من نبيه جعل
ذلك إليه. ولم يقطع بذلك قال: وهذا لا يجيء على قول الشافعي,
فإن مذهبه أن الحق واحد نصبت عليه أمارة. ويحتمل أنه أشار بذلك
إلى أنه جعله إليه بالاجتهاد لما علم أن الصواب يتفق معه
وحينئذ يجب اتباعه مطلقا, بخلاف غيره من المجتهدين. انتهى.
وزعم الآمدي والرازي أن تردد الشافعي في الجواز, وقال غيرهما:
بل في الوقوع مع الجزم بالجواز, وهو الأصح نقلا, وهو المختار
إن لم يقع نقلا. وصرح القاضي في التقريب "بالجواز وتردد في
الوقوع.
قال ابن دقيق العيد: محل الخلاف في هذه المسألة إنما هو في
الحكم بالرأي من غير نظر في مستنداته الشرعية, وإلا كان
اجتهادا جائزا للعلماء من غير خلاف والنبي صلى الله عليه وسلم
على قول. وهي المسألة الآتية في الاجتهاد.
(4/355)
وقال ابن السمعاني: هذه المسألة وإن أوردها
متكلمو الأصوليين فليست بمعروفة بين الفقهاء, وليس فيها كبير
فائدة, لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد, ولا يتوهم وجوده في
المستقبل, فأما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجد, وسبق
في كلام آخر يتعلق بهذه المسألة, عند الكلام في أن الأحكام لا
بد لها من علة.
(4/356)
إطباق الناس من غير
نكير
هذا الدليل يستعمله الفقهاء في مواضع, كاستدلال أصحابنا على
طهارة الإنفحة بإطباق الناس على أكل الجبن, واستدلالهم على
جواز قرض الخبز. واستدلال الحنفية على جواز الاستصناع لمشاهدة
السلف له من غير إنكار مع ظهوره واستفاضته, ودخول الحمام من
غير شرط أجرة ولا تقدير انتفاع وغير ذلك.
وهو يقرب من الإجماع السكوتي من غير تقرير النبي صلى الله عليه
وسلم على الفعل, من غير نكير يقوم مقام التصريح بالتجويز, لأن
النهي عن المنكر لازم للأمة, بل قال إمام الحرمين في الكلام
على وجوب ركعتي الطواف: وقد يستدل الشافعي على وجوب الشيء
بإطباق الناس على العمل, وما كان مقطوعا به فالعادة لا تقتضي
تردد الناس فيه. انتهى.
وينبغي أن يقال: هذا لا يتم إلا إذا اتفق في عصره عليه السلام
أو في عصر الصحابة والتابعين. وأما بعد ذلك فتزايد الحال إلى
هذا الزمان الذي كم فيه من بدعة, وقد تواطئوا على عدم الإنكار
لها, فلا ينبغي أن يجعل الإطباق على الفعل مع عدم النكير دليلا
على الإباحة على الإطلاق. وقد كان عبد الله بن الحسن يكثر
الجلوس على ربيعة, فتذاكرا يوما, فقال رجل: ليس العمل على هذا.
فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحطام فهم
الحجة على الناس. قال ربيعة: أشهد أن هذا الكلام لا يقبله إلا
الأنبياء عليهم السلام.
وقال الصيرفي في كتاب الدلائل": والأعلام المعتادة بين الناس
ضربان:
أحدهما ": ما يعتادونه في أكلهم وشربهم ولباسهم ونحوه, فلا
كلام فيه, لأن هذا تابع للمقاصد لا حجر فيه.
" والثاني ": ما اعتادوه في دياناتهم. وهذا إما أن يكون عادة
لقوم دون قوم, فليس هؤلاء حجة على غيرهم إلا بدليل, كقوم ألفوا
مذهب مالك في بلدة. وإما
(4/356)
أن يكون عادة لجميع الناس في جميع الأمصار
مستفيضا فهذا لا يجوز خلافه, لأنه لا يستفيض بينهم فعل شيء من
الأشياء إلا وهو مباح أو موجب, على حسب ما يلزمونه أنفسهم, فإن
كان ذلك موجودا في الأغلب فليس حجة. قال: ومن زعم أن الأحكام
وقعت على العادات فغلط, بل هي مبتدأة مستأنفة.
(4/357)
دلالة السياق
أنكرها بعضهم, ومن جهل شيئا أنكره.
وقال بعضهم: إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى. وقد
احتج بها أحمد على الشافعي في أن الواهب ليس له الرجوع من حديث
"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" 1 حيث قال الشافعي: هذا
يدل على جواز الرجوع. إذ قيء الكلب ليس محرما عليه, فقال أحمد:
ألا تراه يقول فيه: ليس لنا مثل السوء, "العائد في هبته"
الحديث. و هذا مثل سوء فلا يكون لنا, واحتج بها في أن المراد
بأنه استيعابهم واجب, وسياق الآية يدل على الأول بقوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ
يَسْخَطُونَ} [سورة التوبة:58] فإن الله تعالى لما رأى بعض من
لا يستحق الصدقة يحاول أن يأخذ منها, ويسخط إذا لم يعط يقطع
طمعه ببيان أن المستحق لها غيره, وهم الأصناف الثمانية.
وقال الشيخ عز الدين في كتاب الإمام": السياق يرشد إلى تبيين
المجملات, وترجيح المحتملات, وتقرير الواضحات. وكل ذلك بعرف
الاستعمال. فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا, وإن كانت
ذما بالوضع. وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما وإن كانت مدحا
بالوضع, كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ} [سورة الدخان:44].
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الهبة باب لا يحل لأحد أن يرجع في
هبته وصدقته حديث "2621" ورواه مسلم كتاب الهبات باب تحريم
الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض حديث "1622" كلاهما عن ابن
عباس مرفوعا.
(4/357)
قول الصحابي
اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على
صحابي آخر مجتهد, إماما أو حاكما أو مفتيا. نقله القاضي, وتبعه
المتأخرون, منهم الآمدي وابن الحاجب وغيرهما1. فإن قيل: يقدح
فيه قول إمام الحرمين: قال الشافعي رضي الله عنه في بعض
أقواله: إذا اختلف الصحابة فالتمسك بقول الخلفاء أولى. قال
الإمام: وهذا كالدليل على أنه لم يسقط الاحتجاج بأقوال الصحابة
من أجل الاختلاف.
قلنا: مراده أنه حجة علينا, لا على من عاصره من الصحابة. نعم,
هنا مسألتان: "إحداهما": بالنسبة إلى وجوب التقليد, و
"الثانية": بالنسبة إلى جوازه, والقاضي إنما حكى الاتفاق في
الأولى, وحكى الخلاف في الثانية فقال: وقد اتفق على أنه لا يجب
على الصحابي تقليد مثله من الصحابة, فبذلك لا يجب تقليد غيرهم
من العلماء لهم, لتساوي أحوالهم. قال: وقد أجاز بعضهم تقليد
بعض الصحابة بعضا, واحتجوا بإجابة عثمان إلى تقليد أبي بكر
وعمر في الأحكام, وإن لم نعتبر وجوب ذلك. انتهى. وقد يدعي أنها
مسألة واحدة. و يلزم من القول بالجواز الوجوب, وكلام الشيخ في
اللمع "يقتضي ذلك, فإنه قال: إذا أجمعوا بين الصحابة على قولين
بنى على القولين في أنه حجة أم لا. فإن قلنا ليس بحجة لم يكن
قول بعضهم حجة على بعض, ولم يجز تقليد واحد منهما, بل يرجع إلى
الدليل. وإن قلنا إنه حجة فهاهنا دليلان تعارضا فيرجح أحدهما
على الآخر بكثرة العدد من الجانبين, أو يكون فيه إمام. انتهى.
ثم هذا الاتفاق صحيح بالنسبة إلى زمنهم. أما بالنسبة إلى من
بعدهم إذا اختلفوا فقد ظن قوم أن حجية قول الصحابي تزول إذا
خالفه غيره من الصحابة, لأنه ليس اتباع قول أحدهما أولى من
الآخر, وتعلقوا بما تقدم من نقل الإجماع. وهذا ضعيف, لأن ذلك
إنما هو بالنسبة إلى غيره من الصحابة, وإنما الخلاف المشهور في
أنه هل هو حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين؟ وفيه
أقوال.
الأول : أنه ليس بحجة مطلقا, كغيره من المجتهدين, وهو قول
الشافعي في الجديد, وإليه ذهب جمهور الأصوليين من أصحابنا
والمعتزلة. و يومئ إليه الإمام أحمد, واختاره أبو الخطاب من
أصحابه. وزعم عبد الوهاب أنه الصحيح الذي يقتضيه
ـــــــ
1 انظر مختصر ابن الحاجب "2/287" الإحكام للآمدي "4/149" أصول
السرخسي "2/109".
(4/358)
مذهب مالك, لأنه نص على وجوب الاجتهاد
واتباع ما يؤدي إليه صحيح النظر فقال: وليس في اختلاف الصحابة
سعة, إنما هو خطأ أو صواب.
الثاني : أنه حجة شرعية مقدمة على القياس, وهو قوله في القديم.
ونقل عن مالك وأكثر الحنفية. قال صاحب "التقويم": قال أبو سعيد
البردعي: تقليد الصحابة واجب, يترك بقوله القياس, وعليه أدركنا
مشايخنا. وذكر محمد بن الحسن: إن شرى ما باع بأقل مما باع قبل
نقد الثمن لا يجوز. واحتج بأثر عائشة - رضي الله عنها -
والقياس, وقال: وليس عن أصحابنا المتقدمين مذهب ثابت والمروي
عن أبي حنيفة: "إذا أجمعت الصحابة سلمنا لهم, وإذا جاء
التابعون زاحمناهم, لأنه كان منهم, فلا يثبت لهم بدون إجماع.
انتهى.
ومن كلام الشافعي في القديم, لما ذكر الصحابة رضوان الله
عليهم: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك فيه
علم أو استنبط, وآراؤهم لنا أجمل وأولى بنا من آرائنا عندنا
لأنفسنا. ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا
فيما لم يعلم للرسول صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن
أجمعوا, وقول بعضهم إن تفرقوا. فهكذا نقول: إذا اجتمعوا أخذنا
باجتماعهم, وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله, وإن
اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم.
وقال في موضع آخر منه: فإن لم يكن على قول أحدهم دلالة من كتاب
ولا سنة كان قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -
أحب إلي أن أقول من غيرهم أن أخالفهم, من قبل أنهم أهل علم
وحكاية. ثم قال: وإن اختلف المفتون بعد الأئمة - يعني من
الصحابة - ولا دليل فيما اختلفوا فيه, نظرنا إلى الأكثر, فإن
تكافئوا نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجا عندنا.
واعلم أن هذا القول اشتهر نقله عن القديم, وقد نص عليه الشافعي
في الجديد أيضا, وقد نقله البيهقي, وهو موجود في كتاب الأم1,
في باب خلافه مع مالك, وهو من الكتب الجديدة فلنذكره بلفظه,
لما فيه من الفائدة:
قال الشافعي رحمه الله: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر
على من سمعهما مقطوع إلا باتباعهما, فإذا لم يكن كذلك صرنا إلى
أقاويل أصحاب الرسول أو واحدهم, وكان قول الأئمة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي - رضوان الله عليهم – أحب
ـــــــ
1 الأم "7/265".
(4/359)
إلينا إذا صرنا إلى التقليد, ولكن إذا لم
نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة
فنتبع القول الذي معه الدلالة, لأن قول الإمام مشهور فإنه يلزم
الناس ومن لزم قوله الناس كان أظهر ممن يفتي الرجل والنفر, وقد
يأخذ بفتياه وقد يدعها, وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم
ومجالسهم, ولا يعني الخاصة بما قالوا: عنايتهم بما قال الإمام.
ثم قال: فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الدين في موضع الأمانة أخذنا بقولهم, وكان
اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم. والعلم طبقات: الأولى:
الكتاب, والسنة إذا ثبتت السنة.
والثانية : الإجماع مما ليس في كتاب ولا سنة.
والثالثة : أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا
نعلم له مخالفا فيهم.
والرابعة : اختلاف أصحاب الرسول.
والخامسة : القياس على بعض هذه الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير
الكتاب والسنة وهما موجودان, وإنما يؤخذ العلم من أعلى. هذا
نصه بحروفه. وقد رواه البيهقي عن شيوخه عن الأصم عن الربيع
عنه. وهذا صريح منه في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على
القياس, كما نقله عنه إمام الحرمين, فيكون له قولان في الجديد,
وأحدهما موافق للقديم وإن كان قد غفل عن نقله أكثر الأصحاب.
ويقتضي أيضا أن الصحابة إذا اختلفوا كان الحجة في قول الخلفاء
الأربعة إذا وجد عنهم, للمعنى الذي أشار إليه الشافعي, وهو
اشتهار قولهم ورجوع الناس إليهم, وقد استعمل الشافعي ذلك في
الأم في مواضع كثيرة "منها" قال في كتاب الحكم في قتال
المشركين ما نصه1: وكل من يحبس نفسه بالترهب تركنا قتله,
اتباعا لأبي بكر رضي الله عنه, ثم قال: وإنما قلنا هذا اتباعا
لا قياسا, وقال في كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى "في
باب الغصب: أن عثمان قضى فيما إذا شرط البراءة في العيوب في
الحيوان. قال: وهذا يذهب إليه, وإنما ذهبنا إلى هذا تقليدا.
وإنما كان القياس عدم البراءة. وقال ابن الصباغ: إنما احتج
الشافعي بقول عثمان في الجديد لأن مذهبه إذا لم ينتشر ولم يظهر
له مخالف كان حجة. انتهى. وقال في عتق أمهات الأولاد: لا يجوز
بيعها تقليدا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ـــــــ
1 انظر الأم "4/240".
(4/360)
الثالث : أنه حجة إذا انضم إليه قياس.
فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي.
نص عليه الشافعي - رحمه الله - في كتاب الرسالة "فقال1: وأقوال
أصحاب النبي - عليه السلام - إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق
الكتاب أو السنة أو الإجماع, أو كان أصح في القياس. وإذا قال
واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له موافقة ولا خلافا صرت
إلى اتباع قول واحدهم. وإذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا
ولا شيئا يحكم له بحكمه, أو وجد معه قياس. هذا نصه بحروفه.
وقال ابن الرفعة في المطلب": حكى القاضي الحسين وغيره من
أصحابنا عن الشافعي أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا
عضده القياس. وكذا حكاه ابن القطان في كتابه فقال: نقول بقول
الصحابي إذا كان معه قياس. انتهى. وكذا قال القفال الشاشي في
كتابه, فقال: قال في الجديد: إنه حجة إذا اعتضد بضرب من القياس
يقوى بموافقته إياه. وقال القاضي في التقريب في باب القول في
منع تقليد العالم للعالم: إن الذي قاله الشافعي في الجديد,
واستقر عليه مذهبه, وحكاه عنه المزني فقال في الجديد: أقول
بقول الصحابي إذا كان معه قياس. وقال ابن أبي هريرة في تعليقه
"في باب الربا: عندنا أن الصحابي إذا كان له قول وكان معه قياس
وإن كان ضعيفا فالمضي إلى قوله أولى, خصوصا إذا كان إماما,
ولهذا منع الشافعي بيع اللحم بالحيوان المأكول بجنسه وغيره,
لأثر أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قلت: ويشهد له أن الشافعي استدل في الجديد على عدم وجوب
الموالاة في الوضوء بفعل ابن عمر رضي الله عنهما, ثم قال: وفي
مذهب كثير من أهل العلم أن الرجل إذا رمى الجمرة الأولى ثم
الأخيرة ثم الوسطى أعاد الوسطى ولم يعد الأولى, وهو دليل في
قولهم على أن تقطيع الوضوء لا يمنع أن يجزئ عنه, كما في
الجمرة. انتهى. فاستدل بفعل الصحابي المعتضد للقياس, وهو رمي
الجمار, وعلى الغسل أيضا, كما وقع في أول كلامه.
نعم, المشكل على هذا القول أن القياس نفسه حجة, فلا معنى حينئذ
لاعتبار قول الصحابي فيه, ويؤول حينئذ هذا إلى القول بأنه ليس
بحجة على انفراده. ولهذا حكى ابن السمعاني وجهين لأصحابنا أن
الحجة في القياس, أو في قوله, بعد أن
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "597".
(4/361)
قطع أنه حجة إذا وافق القياس. ولأجل هذا
الإشكال قال ابن القطان: أجاب أصحابنا بجوابين:
" أحدهما ": أن الشافعي أراد بالقياس أن يكون في المسألة
قياسان, فيكون قول الصحابة مع أحد القياسين أولى من القياس
المجرد. قال: وهذا كالبراءة من العيوب, فإنه اجتذبه قياسان:
أحدهما يشبه. وذلك أن البراءة إنما تجوز فيما علمه, فأما
البراءة مما لا يعلمه فممتنعة. وهذا الذي يوجبه القياس على غير
الحيوان أن يوجب قياسا آخر, وهو أن الحيوان مخصوص بما سواه من
حيث يغتذى بالصحة والسقم ويخفي عيوبه, صار إلى تقليد عثمان مع
هذا القياس.
والثاني : كان الشافعي يتحرج أن يقال عنه: إنه لا يقول بقول
الصحابة فاستحسن العبارة فقال بقول الصحابي إذا كان معه
القياس. انتهى.
وقال ابن فورك: إن قيل: كيف قال الشافعي إنه حجة إذا كان معه
قياس, والقياس في نفسه حجة وحده؟ قيل: اجتذب المسألة وجهان من
القياس قوي وضعيف, فقوي القياس الضعيف بقول عثمان. فإن قيل:
كيف ترك أقوى القياسين بقول صحابي واحد فإنه لو انفرد القياسان
عن قول الصحابي كان إما أن يتساويا فيسقطا, أو يصح أحدهما
فيبطل الآخر. وإن كان قول الصحابي مع الصحيح فهو تأكيد له.
قيل له: إن قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف له قوة على قول
الصحابي الذي ظهر خلافه كما نقول: إن قول الصحابي إذا انتشر
قوله ولم يعلم له مخالف أقوى من قول من لم ينشر ولم يعلم له
مخالف فكان أدون هذه المنازل إذا عضده بعض الأشياء ملحقة
بمنزلة الشبه وإن كان ذلك الشبه لو انفرد لم يكن حجة. فأما
أولى القياسين فلا يسلم من معارضة ما تبطل معه دلالته وهو قول
الصحابي الذي لا مخالف له مقترنا بالشبه الذي ذكرناه.
وقال الصيرفي في الدلائل": معنى قول الشافعي في الجديد أنه ليس
بحجة, أنه إذا تجاذب المسألة أصلان محتملان يوافق أحدهما قول
الصحابي, فيكون الدليل الذي معه قول الصحابي أولى في هذا على
التقوية وأنه أقوى المذهبين فلا يغلط على الشافعي. هذا وجه
قوله: إن تقليده لا يلزم إلا أن يوجد في الكتاب أو السنة ما
يخالفه ويعضده ضرب من القياس. وعلى هذا فهو مقو للقياس ومغلب
له كما يغلب بكثرة الأشباه.
(4/362)
وظاهر نص الرسالة المذكورة يقتضي تساوي
القياسين, لأنه لم يفرق بين قياس وقياس. نعم, قوله: ولا شيئا
في معناه يحكم له بحكمه ظاهر في تقديم القياس الجلي على قول
الصحابي, وهو مستند إمام الحرمين في قوله: إن الشافعي قال في
بعض أقواله: القياس الجلي. ولما حكى الروياني في البحر
"القولين الأولين قال: ومن أصحابنا من قال: القولان إذا لم يكن
معه قياس أصلا, فإن كان مع قوله قياس ضعيف فقوله معه يقدم على
القياس القوي وهو اختيار القفال وجماعة وهو ضعيف عندي, لأنه لا
يجب الرجوع لقول الصحابي بانفراده, وكذلك القياس الضعيف, فكيف
إذا اجتمع. ضعيفان غلبا القوي؟ انتهى. وما حكاه عن القفال حكاه
الشيخ في اللمع "عن الصيرفي, ثم خطأه, وحكاه ابن الصباغ في
العدة "عن حكاية بعض الأصحاب عن الشافعي أنه إذا كان مع قول
الصحابي قياس ضعيف فهو أولى من القياس الصحيح قولا واحدا, ثم
ضعفه ابن الصباغ. وحكاه الماوردي في كتاب الأقضية من الحاوي
"عن القديم. لكنه قال: ذلك في القياس الخفي مع الجلي, وأن
الخفي يقدم على الجلي إذا كان مع الأول قول الصحابي. قال: ثم
رجع الشافعي عنه في الجديد, وقال: العمل بالقياس الجلي أولى.
وقال الماوردي أيضا في الحاوي "في مسألة البيع بشرط البراءة من
العيوب: مذهب الشافعي في الجديد أن قياس التقريب إذا انضم إلى
قول الصحابي أولى من قياس التحقيق. وكذلك قال أبو الحسن الجوري
في شرح مختصر المزني", قلت: وهو ظاهر إطلاقه في الرسالة", وقال
ابن كج في كتابه: إذا قال الصحابي قولا وعارضه القياس القوي
نظر: فإن كان مع الصحابي قياس خفي كان المصير إلى قول الصحابي
أولى, لقضية عثمان في بيع اللحم بالحيوان. وإن كان قول الصحابي
فقط وقد عارضه القياس فقال الشافعي في القديم: إن قوله يقدم,
لعلمه بظواهر الكتاب, وقال في الجديد: أولى, ولأن الله أمر
بالرجوع عند التنازع إلى الكتاب, ولأن الصحابي يجوز عليه
السهو.
الرابع : أنه حجة إذا خالف القياس.
لأنه لا محمل له إلا التوقف, وذلك أن القياس والتحكم في دين
الله باطل فيعلم أنه ما قاله إلا توقيفا. قال ابن برهان في
الوجيز": وهذا هو الحق المبين. قال: ومسائل الإمامين أبي حنيفة
والشافعي - رضي الله عنهما - تدل عليه. فإن الشافعي غلظ الدية
بالأسباب الثلاثة بأقضية الصحابة, وقدر دية المجوسي بقول عمر,
وأبا
(4/363)
حنيفة قدر الجعل في رد الآبق بأربعين درهما
لأثر ابن مسعود.
وقال الإبياري في شرحه "هو أشبه المذاهب. وقال ابن المنير: هذا
المذهب لا يختص الصحابي, فكل عالم عدل إذا خالف القياس ظن به
المخالفة للتوقيف. والظاهر إصابته في شروطه. قلت: وقد طرده ابن
السمعاني فيه كما سيأتي. ثم قال: ثم هو لا يختص غير الصحابي
إذا كان المخالف صحابيا, فيجب إذا على الصحابي الاقتداء
بالصحابي المخالف للقياس.
والحاصل عن الشافعي أقوال:
أحدها: أنه حجة مقدمة على القياس, كما نص عليه في اختلافه مع
مالك, وهو من الجديد.
والثاني : أنه ليس بحجة مطلقا, وهو المشهور بين الأصحاب أنه
الجديد.
والثالث : أنه حجة إذا انضم إليه قياس, فيقدم حينئذ على قياس
ليس معه قول صحابي, كما أشار إليه في الرسالة", ثم ظاهر كلامه
فيها أن يكون القياسان متساويين.
وتقدم في نقل إمام الحرمين عنه في قول تخصيص القياس الجلي
بتقديمه على قول الصحابي. فعلى هذا يكون المراد ب "القياس
يعتضد بقول الصحابي "القياس الخفي, ويكون فيما نقله الإمام قول
رابع في المسألة من أصلها.
وتقدم أيضا عن الماوردي: إذا اعتضد بقياس التقريب فهو أولى من
قياس التحقيق.
وعن حكاية ابن الصلاح: إذا اعتضد بقياس ضعيف فهو أولى من
القياس القوي, فيتخرج من هذا قولان للشافعي إن جعلنا القياس
الضعيف أعم من قياس التقريب وغيره, وإلا فقول خامس. وخص
الماوردي القولين الأولين بما إذا كان موافقا لقياس جلي, فإن
لم يكن معه قياس جلي قدم القياس الجلي قطعا وخص القديم بما إذا
لم يظهر له مخالف, فإن ظهر خلافه من صحابي آخر فلا يكون حجة
على القديم.
وفي كتاب الرضاع, في الكلام على اعتبار العدد, حكاية حكاها
الماوردي تقتضي أن قول الشيخين بخصوصهما حجة, فإنه حكى عن
الشافعي أنه قال: من سألني عن شيء أجبته من القرآن, فسأله رجل
عن محرم قتل زنبورا. فقال: لا شيء عليه, فقال: أين هذا في كتاب
الله؟ فذكر قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
[سورة
(4/364)
الحشر: 7] وقوله عليه السلام: "اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 1 وقد سئل عمر عن محرم قتل
زنبورا فقال: لا شيء عليه. قال ابن الرفعة: فإن صحت هذه
الحكاية عن الشافعي لزم منها أن يكون قول كل من الشيخين عنده
حجة. ومذهبه الجديد أنه ليس بحجة. انتهى.
وقال السنجي في أول شرح التلخيص": قول الواحد من الصحابة إذا
انتشر ولم يعلم له مخالف وانقرض العصر عليه كان عندنا حجة
مقطوعا بصحتها. وهل يسمى إجماعا؟ على وجهين: فقيل: لا, لقول
الشافعي: لا ينسب إلى ساكت قول. والصحيح من المذهب أنه إجماع
مقطوع على الله بصحته وهو مذهب كافة المتكلمين, ولم يخالف فيه
إلا الجعل ومن تابعه فقالوا: لا يكون حجة. قال: فأما إذا لم
ينتشر ولم يعرف له مخالف فللشافعي فيه قولان: القديم أنه حجة,
والجديد أن القياس أولى منه.
وقال في القواطع": إذا لم ينتشر ولم يعرف له مخالف نظر: فإن
كان موافقا للقياس فهو حجة. إلا أن أصحابنا اختلفوا: هل الحجة
في القياس أو في قوله؟ على وجهين: وأما إذا خالف القياس أو كان
مع الصحابي قياس خفي, والجلي مخالف مثله, فهذا موضع قولي
الشافعي ففي القديم: قول الصحابي أولى من القياس, وفي الجديد:
القياس أولى.
وقال السهيلي في أدب الجدل": إن انتشر ورضوا به فهو حجة مقطوع
بها, وهل يسمى إجماعا؟ وجهان. وإن انتشر ولم يعلم منهم الرضا
به فوجهان. وإن لم ينتشر فاختلف أصحابنا فيه على طريقين:
"إحداهما": أن المسألة على قولين: أحدهما: وهو الجديد - أنه
ليس بحجة. و "الثانية": أنه إن لن ينتشر في الباقين فهو حجة
بلا خلاف, وإنما الخلاف إذا عارضه قياس جلي فحينئذ قول خفي.
انتهى.
وقال إلكيا: إن لم يعرف له مخالف فهو موضع الخلاف. فإذا
اختلفوا فلا شك أنه لا حجة فيه. وقيل: يحتج بأقوالهم وإن
اختلفت على تقدير اتباع قول الأعلم منهم, وبه قال الشافعي في
رسالته القديمة", لأنه جوز تقليد الصحابي وقال: إن اختلفوا أخذ
بقول الأئمة أو بقول أعلمهم بذلك, ورجحه على القياس المخالف
له. قال إلكيا: وإن لم يكن بد من تقليد الصحابة فالواجب أن لا
يفصل بين أن يختلفوا أو لا, لأن
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي "5/609" كتاب المناقب باب في منافب أبي
بكر وعمر حديث "3662" ورواه ابن ماحة "1/37" حديث "97" وهو
حديث صحيح.
(4/365)
فقد معرفة الخلاف لا ينتهض إجماعا. وفي
جواز تقليد العالم من هو أعلم منه, خلاف, رأى محمد بن الحسن
جوازه وإن لم ينقل عنه وجوب ذلك.
قال: ثم مذهب الشافعي قديما وجديدا اتباع قضاء عمر - رضي الله
عنه - في تقدير دية المجوسي بثمانمائة درهم, وتغليظ الدية
بالأسباب الثلاثة اتباعا لآثار الصحابة واختلف الأصحاب في سبب
ذلك, فقيل: لأن الواقعة اشتهرت وسكتوا وذلك دليل الإجماع.
وقيل: لأنه يرى الاحتجاج بقول الصحابي إذا خالف القياس من حيث
لا محمل له سوى التوقيف. قال: ويظهر هذا في التابعي إذا علم
مسالك الأحكام وكان مشهورا بالورع لا يميل إلى الأهواء, إلا أن
يلوح لنا في مجاري نظره فساد في أصل له عليه بنى ما بنى.
ويخرج من هذا قول آخر أنه حجة إذا لم يكن مدركا بالقياس دون ما
للقياس فيه مجال, وهذا القول هو المختار. وبه تجمع نصوص
الشافعي رضي الله عنه, وهذا حكاه القاضي في التقريب والغزالي
استنباطا من قول الشافعي في كتاب اختلاف الحديث "أنه روي عن
علي - كرم الله وجهه - أنه صلى في ليلة ست ركعات, كل ركعة بست
سجدات, ثم قال: إن ثبت ذلك عن علي قلت به, فإنه لا مجال للقياس
فيه, فالظاهر أنه جعله توقيفا. هذا لفظه. قال القاضي: وهذا من
قوله يدل على أنه كان يعتقد أن الصحابي إذا قال قولا ليس
للاجتهاد فيه مدخل فإنه لا يقوله إلا سمعا وتوقيفا وأنه يجب
اتباعه عليه, لأنه لا يقول ذلك إلا عن خبر. انتهى.
لكن الغزالي جعله من تفاريع القديم. وهو مردود, لأن اختلاف
الحديث من الكتب الجديدة قطعا, رواه عنه الربيع بن سليمان
بمصر, وبهذا جزم ابن الصباغ في كتاب الكامل في الخلاف "وقال
إلكيا في التلويح" إنه الصحيح, وكذا صاحب المحصول" في باب
الأخبار. وعلى هذا ينزل كل ما وقع في الجديد من التصريح فيه
بالتقليد, كاتباعه الصديق في عدم قتل الراهب, وتقليده عثمان في
البراءة, وعمر في أمهات الأولاد. قال في الأم1: إذا أصاب الرجل
بمكة حماما من حمامها فعليه شاة, اتباعا لعمر وعثمان وابن عباس
وابن عمر وغيرهم. وقال في "اختلاف الحديث": أخذت بقول عمر في
اليربوع والضبع حمل. وحكى في القديم هذا القول عن الكرخي,
واختاره البزدوي وابن الساعاتي وغيرهم من الحنفية. وهذا هو
الذي يعبر عنه
ـــــــ
1 انظر الأم "7/147".
(4/366)
ابن الحاجب بقوله: إنه حجة إذا خالف
القياس.
نعم, تصرفات الشافعي في الجديد تقتضي أن قوله حجة بشرطين:
" أحدهما ": أن لا يكون للاجتهاد فيه مجال.
" الثاني ": أن يرد في موافقة قوله نص, وإن كان للاجتهاد فيه
مجال كما فعل في مسائل الفرائض مقلدا زيدا فيها, لقوله صلى
الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد" 1 قال إمام الحرمين في النهاية":
اختار الشافعي أن يتبع مذهب زيد ولم يضع لذلك كتابا في الفرائض
لعلمه بعلم الناس بمذهب زيد, وإنما نص في مسائل متفرقة في
الكتاب فجمعها المزني وضم إليها مذهب زيد في المسائل, ولم يقل:
"تحريت مذهب الشافعي "كقوله في أواخر كتب مضت, فإن التحري
اجتهاد, ولا اجتهاد في النقل. وقد تحقق اتباع الشافعي زيدا,
وتردد قول الشافعي حيث تردد قول زيد, وقرب مذهب زيد إلى القياس
أن جعل الأم دون الأب في النصيب, قياس ميراث الذكر والأنثى.
وكذا قوله: أولاد الأبوين يشاركون ولد الأم لاشتراكهم في
القرابة, وجعل الأبوين مانعين الأخوة في رد الأم إلى السدس
قياسا على جعل البنين في معنى البنات في استحقاق الثلثين. وقد
أورد على هذا أنه خالف القياس في مسائل الجد والإخوة,
والمعادة, وإعطاء الأم ثلث. ما يبقى, وليس فيه كتاب ولا سنة
ولا قياس, لأنا سوينا بين الأبوين مع الابن ومشاركة أولاد الأم
خارجة عن القياس, لأنا نعطي العشرة من إخوة الأبوين نصف السدس
مثلا, ونعطي الأخت الواحدة للأم السدس, فأي مراعاة لاتخاذ
القرابة؟
فإن قيل: إذا كان دليل التقليد الحديث السابق فينبغي أن يتبع
عليا رضي الله عنه في قضائه ومعاذا في الحلال والحرام لقوله:
"أقضاكم علي, وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ" , والجواب - كما
قال - إن القضاء يتسع, ويتعلق بما لا يسوغ التقليد فيه, وكذلك
الحلال والحرام.
قال: وعندنا أن المذهب لا يستقل بتقليد زيد: وما انتحل مذهبه
إلا عن أصل يجوز فيه الرأي, ولهذا خالف الصحابة. والشافعي لم
يخل بمسألة عن احتجاج, وإنما اعتصم بشهادة النبي صلى الله عليه
وسلم ترجيحا وبهذا تبين. انتهى. وجرى على ذلك
ـــــــ
1 رواه الترمذي "5/665" كتاب المناقب باب منافب معاذ بن جبل
وزيد بن ثابت ...حديث "3917" وابن ماجة "1/55" في المفدمة حديث
"155" وهو حديث صحيح.
(4/367)
الرافعي.
وأما ابن الرفعة فقال: الظاهر أن اختيار الشافعي لمذهب زيد
اختيار تقليد, كما يقتضيه ظاهر لفظ الأم إذ قال الشافعي: وقلنا
إذا ورث الجد مع الإخوة قاسمهم ما كانت المقاسمة خيرا له من
الثلث, فإذا كان الثلث خيرا له منها أعطيه. وهذا قول زيد بن
ثابت, وعنه قبلنا أكثر الفرائض وهي التي لا نص فيها ولا
إجماع1.
وجعل الرافعي موضع القولين ما إذا لم ينتشر فيهم, قال: ثم عن
الصيرفي والقفال أن القول فيما إذا لم يكن معه قياس أصلا, فإن
كان مع قوله قياس ضعيف احتج به وترجح على القياس القوي. قال:
والأكثرون على أنه لا فرق. قال: وإن انتشر فإما أن يخالفه غيره
أو يوافقه سائر أصحابه أو يسكتوا. فإن خالفه فعلى قوله الجديد
هو كاختلاف المجتهدين. وعلى. القديم هما حجتان تعارضتا, فترجح
من خارج, وإن وافقه جميع الصحابة فهو إجماع منهم.
ـــــــ
1 انظر الأم "4/81".
(4/368)
التفريع على أن قول
الصحابي حجة
...
واحد منهم وفاقه لا خلافه فقد اختلف فيه. والواجب عندنا المصير
إليه, لأنه في المعنى راجع إلى أن العصر قد انخرم والحق معدوم,
وهذا مع اختصاص الصحابة بمشاهدة الرسول ومعرفة الخطاب منه, إذ
الشاهد يعرف بالحال ما يخفى على من بعده. انتهى.
فائدة : قال ابن عبد السلام في فتاويه الموصلية: إذا صح عن بعض
الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح
من دليله, ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل
الخلاف, ولا يحل لهم ذلك مع ظهور أدلتهم على أدلة الصحابة, لأن
الله تعالى أمرنا باتباع الأدلة ولم يوجب تقليد العلماء إلا
على العامة الذين لا يعرفون أدلة الأحكام.
فائدة أخرى : ذكر الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه عن
الشافعي أنه قال: إذا جاء اختلاف عن الصحابة نظر أتبعهم للقياس
إذا لم يوجد أصل يخالفه. فقد خالف علي عمر في ثلاث مسائل
القياس فيها مع علي, وبقوله أخذ.
- منها: المفقود, قال عمر: يضرب له أجل أربع سنين ثم تعتد, ثم
تنكح. وقال علي: لا تنكح أبدا. وقد اختلف فيه عن علي حتى يصح
موت أو فراق.
- وقال عمر في الرجل يطلق امرأته في سفره ثم يرتجعها فيبلغها
الطلاق, ولا تبلغها الرجعة حتى تحل وتنكح: أن زوجها الآخر أولى
إذا دخل بها وقال علي: هي للأول أبدا, وهو أحق بها.
- وقال عمر في الذي ينكح المرأة في العدة ويدخل بها: أنه يفرق
بينهما ثم لا ينكحها أبدا. وقال علي: ينكحها بعده.
مسألة
قال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب الأصول الخمسة عشر":
أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه, وهم: علي وزيد
وابن عباس وابن مسعود. وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا على مسألة
على قول فالأمة فيها مجمعة على قولهم غير مبتدع لا يعتد
بخلافه. وكل مسألة انفرد فيها علي بقول عن سائر الصحابة تبعه
فيها ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني, وكل مسألة انفرد
فيها زيد بقول تبعه الشافعي ومالك في أكثره. وتبعه خارجة بن
زيد لا محالة. وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة
والأسود وأبو أيوب.
(4/272)
فصل [التفريع على أن قول الصحابي ليس
بحجة].
وإن قلنا: ليس بحجة فلا يكون قول بعضهم حجة على البعض, ولا
يجوز لأحد الفريقين تقليد الآخر, ولا يمنع من تقليدهم من ليس
بمجتهد, لكن الذي صرف الناس عن تقليدهم أنهم اشتغلوا بالجهاد
وفتح البلاد ونشر الدين وإعلامه فلم يتفرغوا لتفريع الفروع
وتدوينها, ولا انتشر لهم مذاهب يعرف آحادهم بها, كما جرى ذلك
لمن بعدهم.
وأما تقليد المجتهد لهم ففيه ثلاثه أقوال للشافعي, ثالثها:
يجوز إن انتشر قوله ولم يخالف, وإلا فلا. وقد أفرد الغزالي
رحمه الله هذه المسألة بالذكر بعد الكلام في أن قول الصحابة
حجة أم لا؟ فقال في المستصفى": إن قال قائل: إذا لم يجب
تقليدهم, هل يجوز تقليدهم؟ قلنا: أما العامي فيقلدهم. وأما
العالم فإن جاز له تقليد العالم جاز له أن يقلدهم, وإن حرمنا
تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي في تقليد الصحابة,
فقال في القديم: يجوز إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف.
وقال في موضع آخر: يقلد وإن لم ينتشر. وقال: ورجع في الجديد
إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد العالم عالما آخر.
نقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي فيها يجوز
للصحابي الفتوى, وهو الصحيح المختار عندنا1. انتهى.
وقد تبعه على إفراد هذه المسألة وجعلها فرعا لما قبلها ابن
السمعاني والرازي وأتباعه والآمدي. ويوافقه حكاية ابن القطان
في كتابه قولين في الصحابي إذا قال قولا ولم ينتشر: " أحدهما
": أن تقليده واجب, وليس للتابعي مخالفته. و " الثاني ": أن له
مخالفته والنظر في الأدلة. وأعرض ابن الحاجب عن إفراد هذه
المسألة بالذكر, لأنها عين ما قبلها, وهو الحق, لأن الظاهر أن
الشافعي حيث صرح بتقليد الصحابي لم يرد به التقليد المشهور,
وهو قبول قول غيره ممن لا يجب عليه اتباعه من غير حجة, بل
مراده بذلك الاحتجاج فإنه استعمله في موضع الحجة فقال في مختصر
المزني, في
ـــــــ
1 انظرالمستصفى "2/267, 268".
(4/373)
باب القضاء في الكلام على المشاور: ولا
يقبل وإن كان أعلم منه حتى يعلم كعلمه أن ذلك لازم له, فأما أن
يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد الرسول. هذا نصه. فأطلق اسم
التقليد على الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم, ولا سيما
مع ما استقر من قوله المتكرر في غير موضع بالنهي عن التقليد
والمنع منه. ويدل على ذلك قول الماوردي والجوري: إن مذهب
الشافعي في القديم أن قول الصحابي حجة بمفرده إذا اشتهر ولم
يظهر له مخالف. قال الماوردي: لا سيما إذا كان الصحابي إماما,
وأغرب ابن الصباغ فحكى ذلك عن الجديد وقد سبق.
ثم قول الغزالي أنه رجع عنه في الجديد معارض بما نص عليه في
كتاب الأم في غير موضع بتقليد الصحابة, كما سبق في البيع بشرط
البراءة. وقوله: "قلته تقليدا لعثمان"1 نقله المزني في مختصره,
والربيع في اختلاف العراقيين "فإن كان أراد الشافعي بالتقليد
للصحابي في القديم معناه المعروف فهو كذلك هنا أيضا في الجديد.
والأظهر أنه أراد به الاحتجاج بقول الصحابي, وأطلق اسم التقليد
عليه مجازا كما أطلقه في الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه
وسلم.
وقد قال الغزالي في "المستصفى"2 بعدما سبق: فإن قيل: فقد ترك
الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم لقول عثمان.
ولذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة لقول عثمان. قلنا
له: في مسألة شرط البراءة أقوال, فلعل هذا مرجوع عنه. انتهى.
وهذا مردود بأنا قد بينا أنه نص عليه في غير موضع من كتبه
الجديدة وقال: إنه الذي ذهب إليه, وبه قطع أبو إسحاق المروزي
وابن خيران وغيرهما, ولم يجعلا للشافعي قولا في المسألة غيره,
وهو الذي صححه المتأخرون. وأما مسألة تغليظ الدية فقد احتج
الشافعي فيها بما روي عن عثمان أنه قضى في امرأة قتلت بالدية
وثلث الدية, وروي نحوه عن عمر وابن عباس, ولا مخالف لهم من
الصحابة, فيكون اعتمد ذلك بناء على أنه إجماع سكوتي, أو لأنه
قضى به عثمان, وهو قد نص في الجديد على الرجوع إلى قول أحد
الخلفاء الأربعة لأنه يشتهر غالبا بخلاف قول المفتى.
وقد حكى الغزالي أيضا في الموضع المشار إليه أيضا أن الشافعي
اختلف قوله فيما إذا اختلف الإفتاء والحكم من الصحابة, فقال
مرة: الحكم أولى, لأن العناية به أشد
ـــــــ
1 انظر الأم "7/99".
2 انظر المستصفى ص "171".
(4/374)
والمشورة فيه أبلغ. وقال مرة: الفتوى أولى,
لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة لأولي الأمر. وعزا هذا
الاختلاف للقديم وجعله مرجوعا عنه. وفيه من النظر ما سلف نصه
في كتبه الجديدة.
تنبيه:
ظهر مما ذكرناه أن ذكر المنهاج هذا القول الثالث في أصل مسألة
الحجية ليس بغلط, كما زعم شراحه, بل هو الصواب.
(4/375)
فصل:
أما إذا انضم إلى قول الصحابي القياس ففيه مسألتان:
إحداهما : إذا تعارض قول صحابيين واعتضد أحدهما بالقياس. وقد
سبقت عن النص.
الثانية : إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بقول الصحابي, فحكى
الرافعي عن الغزالي أنه قد قيل تميل نفس المجتهد إلى ما يوافق
قول الصحابي ويرجح عنده. قال النووي: وقد صرح الشيخ في اللمع
"وغيره من الأصحاب بالجزم بالموافق انتهى. وأنا أقول: من يرى
أن قول الصحابي بمفرده حجة مقدمة على القياس يكون احتجاجه هنا
بقول الصحابة بطريق الأولى. ومن يرى أنه ليس بحجة فإما أن يكون
القياسان صحيحين متساويين أو لا, فإن كانا كذلك ولم يترجح
أحدهما على الآخر بمرجح في الأصل أو حكمه, أو في العلة, أو
دليلها, أو في الفرع, فالظاهر أن القياس المعتضد بقول الصحابي
مقدم, ويكون ذلك من الترجيحات بالأمور الخارجية, كما ترجح أحد
الخبرين المعارضين بعمل بعض الصحابة دون الآخر. وأما إذا كان
أحد القياسين مرجحا على الآخر في شيء مما ذكرنا, ومع المرجوح
قول بعض الصحابة فهذا محل النظر على القول بأن قوله ليس بحجة,
والاحتمال منقدح.
وقد تقدم حكاية ابن الصباغ عن بعض أصحابنا أن القياس الضعيف
إذا اعتضد بقول الصحابي يقدم على القياس القوي, وذاك هنا بطريق
الأولى, وتقدم نقل الماوردي عن الشافعي أن رأيه في الجديد أن
قياس التقريب إذا انضم إلى قول الصحابي كان أولى من قياس
التحقيق, ومثل الماوردي قياس التقريب بما ذكره الشافعي في
مسألة البيع بشرط البراءة من العيوب أن الحيوان يفارقه ما
سواه, لأنه يغتذى بالصحة والسقم, وتحول طبائعه, وقلما يخلو من
عيب وإن خفي فلا يمكن الإخبار عن عيوبه الخفية بالإشارة إليها
والوقوف عليها, وليس كذلك غير الحيوان, لأنه قد يخلو من العيوب
ويمكن الإخبار فيها بالإشارة إليها لظهورها, فدل على افتراق
الحيوان وغيره من جهة المعنى, مع ما روي معه من قصة عثمان.
وحاصله - على ما نقله الماوردي عن الجديد من مذهب الشافعي - أن
القياس المرجوح إذا اعتضد بقول الصحابي كان مقدما على القياس
الراجح, فيحتمل أن
(4/376)
يكون هذا تفريعا منه على أن قول الصحابي
حجة, كما تقدم عنه في "الرسالة الجديدة" ويحتمل أن يكون على
القول الآخر الذي اشتهر عند الأصحاب عن الجديد أنه ليس بحجة.
وهو ظاهر كلام الماوردي, وقد ترجم القاضي في التقريب لهذه
المسألة, وحكى خلاف القياس, وأنه هل يترجح قول الصحابي بذلك
القياس الضعيف على القياس القوي, أو يجب العمل بأقوى القياسين؟
ثم رجح هذا الثاني.
مسألة
فإن قال التابعي قولا لا مجال للقياس فيه لم يلتحق بالصحابي
عندنا, خلافا للسمعاني كما سبق. قال صاحب الغاية من الحنابلة:
"من قام من نوم الليل فغمس يده في إناء قبل أن يغسلها ذهب
الحسن البصري [إلى] زوال طهوريته, وهو يخالف القياس. والتابعي
إذا قال مثل ذلك كان حجة, لأن الظاهر أنه قال توقيفا عن
الصحابة, أو عن نص ثبت عنده. قال صاحب المسودة": وظاهر كلام
أحمد وأصحابنا أنه لا اعتبار بذلك, بل يجعل كمجتهداته.
(4/377)
المصالح المرسلة.
قد مر الكلام في القياس, في المناسب الذي اعتبره الشارع أو
ألغاه, والكلام فيما جهل, أي سكت الشرع عن اعتباره وإهداره,
وهو المعبر عنه ب "المصالح المرسلة", ويلقب ب "الاستدلال
المرسل", ولهذا سميت "مرسلة "أي لم تعتبر ولم تلغ. وأطلق إمام
الحرمين وابن السمعاني عليه اسم "الاستدلال", وعبر عنه
الخوارزمي في "الكافي "ب "الاستصلاح", قال: والمراد بالمصلحة:
المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد على الخلق. وفسره
الإمام والغزالي بأن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب له عقلا, ولا
يوجد أصل متفق عليه, والتعليل المصور جار فيه. وفسره ابن برهان
في الأوسط "بأن لا يستند إلى أصل كلي ولا جزئي. وفيه مذاهب1.
أحدها : منع التمسك به مطلقا, وهو قول الأكثرين, منهم القاضي
وأتباعه, وحكاه ابن برهان عن الشافعي. قال الإمام: وبه قال
طوائف من متكلمي
ـــــــ
1 انظر المستصفى "1/284" الإحكام للآمدي "4/160" مختصر ابن
الحاجب "2/289".
(4/377)
الأصحاب.
الثاني : الجواز مطلقا, وهو المحكي عن مالك رحمه الله, قال
الإمام في البرهان": وأفرط في القول به حتى جره إلى استحلال
القتل وأخذ المال لمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها
مستندا, وحكاه غيره قولا قديما عن الشافعي.
وقال أبو العز المقترح في حواشيه على البرهان: إن هذا القول لم
يصح نقله عن مالك, هكذا قاله أصحابه, وأنكره ابن شاس أيضا في
التحرير على الإمام وقال: أقواله تؤخذ من كتبه وكتب أصحابه, لا
من نقل الناقلين. وكذلك استنكره القرطبي في كتابه فقال: ذهب
الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى الاعتماد عليه, وهو مذهب
مالك. قال: وقد اجترأ إمام الحرمين وجازف فيما نسبه إلى مالك
من الإفراط في هذا الأصل. وهذا لا يوجد في كتاب مالك, ولا في
شيء من كتب أصحابه.
وهذا تحامل من القرطبي, فإن الإمام قد حمل كلام مالك على ما
يصح. وسيأتي. وقد قال ابن دقيق العيد: نعم, الذي لا شك فيه أن
لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع, ويليه أحمد بن
حنبل. ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة, ولكن لهذين
ترجيح في الاستعمال على غيرهما. انتهى.
وقال القرافي: هي عند التحقيق في جميع المذاهب, لأنهم يعقدون
ويقومون بالمناسبة, ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار, ولا يعني
بالمصلحة المرسلة إلا ذلك. قال: وإمام الحرمين قد عمل في كتابه
الغياثي "أمورا وحررها وأفتى بها, والمالكية بعيدون عنها, وحث
عليها وقالها للمصلحة المطلقة. وكذلك الغزالي في "شفاء الغليل"
مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة. قلت:
وسيأتي تحقيق مذهب الرجلين.
وقال البغدادي في جنة الناظر": لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك
في المصالح, فإن مالكا يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد
الشرع ومصادره أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياتها
وكلياتها وأن لا مصلحة. إلا وهي معتبرة في جنسها, لكنه استثنى
من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة قال: وما
حكاه أصحاب الشافعي عنه لا يعدو هذه المقالة إذ لا أخص منها
إلا الأخذ بالمصلحة المعتبرة بأصل معين, وذلك مغاير للاسترسال
الذي اعتقدوه مذهبا, فبان أن من
(4/378)
أخذ بالمصلحة غير المعتبرة فقد أخذ
بالمرسلة التي قال بها مالك, إذ لا واسطة بين المذهبين.
والثالث : إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع, أو
لأصل جزئي جاز بناء الأحكام. وإلا فلا. ونسبه ابن برهان في
الوجيز "للشافعي وقال: إنه الحق المختار, ومثله بقوله في
المطلقة الرجعية: إنه لا يحل وطؤها, لأن العدة شرعت لبراءة
الرحم, والوطء سبب الشغل, فلو جوزناه في العدة لاجتمع الضدان.
فليس لهذا الأصل جزئي, وإنما أصله كلي مهدر, وهو أن الضدين لا
يجتمعان.
وقال إمام الحرمين: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى
اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة, بشرط ملائمته للمصالح
المعتبرة المشهود لها بالأصول. وهذا قريب من نقل ابن برهان.
وينبغي أن ينزل على ذلك قول الخوارزمي في "الكافي": إن ظاهر
كلام الشافعي يقتضي اعتبارها وتعليق أحكام الشرع بها. لكن إذا
قيدناه بهذا انسلخت المسألة من المصالح المرسلة, فإنه إذا شرط
التقريب من الأصول الممهدة, وفسره بالملاءمة كان من باب القياس
في الأسباب, فيكون من قسم المعتبر, وبه يخرج عن الإرسال, ويعود
النزاع لفظيا. ولهذا قال ابن برهان في الأوسط": لا يظن بمالك -
على جلالته - أن يرسل النفس على سجيتها وطبيعتها, فيتبع
المصالح الجامدة التي لا تستند إلى أصول الشرع بحال, لا على
كلي ولا على جزئي. إلا أن أصحابه سمعوا أنه بنى الأحكام على
المصالح المطلقة فأطلقوا النقل عنه في ذلك. ومثله قول إمام
الحرمين, في باب ترجيح الأقيسة: ولا نرى التعليق عنده بكل
مصلحة, ولم ير ذلك أحد من العلماء قال: ومن ظن ذلك بمالك فقد
أخطأ.
وقال ابن المنير في الخلاف: من العلماء من رأى أن ورود الحكم
المعين على الوفق نازل منزلة البينة, ثم الملائمة نازلة منزلة
تزكية البينة بالشهود المقررة عند التهمة, فهذا يرد الاستدلال
المرسل, لأن صاحبه ما أقام على صحته بينة غير دعواه, فلا يتوقع
للتزكية, ولا بينة. ومنهم من نزل الملائمة منزلة البينة على
صدق الدعوى في صدق الوصف, وجعل ورود الحكم المعين على الوفق
كالاستظهار, فلم يضره فواته في أصل الاعتبار.
والرابع : اختيار الغزالي والبيضاوي وغيرهما تخصيص الاعتبار
بما إذا كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية, فإن فات أحد هذه
الثلاثة لم يعتبر.
(4/379)
والمراد ب "الضرورية "ما يكون من الضروريات
الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها و "الكلية "لفائدة تعم
جميع المسلمين احترازا عن المصلحة الجزئية لبعض الناس, أو في
حالة مخصوصة, كمن أجاز للمسافر إذا أعجله السفر أن يدفع التبر
لدار الضرب وينظر مقدار ما يخلص منه فيأخذ بقدره بعد طرح
المئونة, فهذه مصلحة لضرورة الانقطاع من الرفقة لكنها جزئية
بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة.
ومثل الغزالي لاستجماعه الشرائط بمسألة التترس, وهي ما إذا
تترس الكفار بجماعة المسلمين, ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من
دون جريمة صدرت منه. قال الغزالي: فلا يبعد أن يقول المجتهد:
هذا الأسير مقتول بكل حال, لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا
الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا,
فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع, لأنا نقطع أن الشارع يقصد
تقليل القتل كما يقصد حسمه عند الإمكان, فحيث لم يقدر على
الحسم فقد قدرنا على التقليل, وكان هذا التفاتا على مصلحة علم
بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد, بل بأدلة خارجة
عن الحصر, ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم
يذنب لم يشهد له أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف
الثلاثة وهو كونها ضرورية كلية قطعية.
فخرج ب "الكلية "ما إذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق, ولو
غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض. وب "القطعية" ما إذا
شككنا في أن الكفار يتسلطون عند عدم رمي الترس, وب "الضرورية"
ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم, فلا يحل رمي الترس, إذ لا ضرورة
بنا إلى أخذ القلعة.
وهذا من الغزالي تصريح باعتبار القطع بحصول المصلحة لكن
الأصحاب حكوا في مسألة التترس وجهين, ولم يصرحوا باشتراط
القطع.
وقد يقال: إن هذا التفصيل يؤول إلى ما نقل عن الشافعي, ولهذا
قال إمام الحرمين: هو لا يستجيز التأني والإفراط في البعد,
وإنما يسوغ تعليق الأحكام لمصالح رآها شبيهة بالمصالح المعتبرة
وفاء بالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول. واختاره إمام
الحرمين أو نحوا منه. وقال القرطبي: هي بهذه القيود لا ينبغي
أن يختلف في اعتبارها.
وأما ابن المنير فقال: هو احتكام من قائله, ثم هو تصوير بما لا
يمكن عادة ولا
(4/380)
شرعا: أما عادة فلأن القطع في الحوادث
المستقبلة لا سبيل إليه, إذ هو غيب عنها. وأما شرعا فلأن
الصادق المعصوم أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدو عليها ليستأصل
شأفتها قال: وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال, لتضييقه في
قبوله باشتراط ما لا يتصور وجوده. انتهى. وهذا تحامل منه, فإن
الفقيه يفرض المسائل النادرة لاحتمال وقوعها, بل المستحيلة
للرياضة. ولا حجة له في الحديث, لأن المراد كافة الخلق, وصورة
الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليهم الكفار, لا
جميع العالم. وهذا واضح.
وقال ابن دقيق العيد: لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح, لكن
الاسترسال فيها. وتحقيقها يحتاج إلى نظر شديد ربما خرج عن الحد
المعتبر. وقد نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة
بسبب الهجو, فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة,
فحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة
القطع للمصلحة وهذا نحو النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة.
قال: وقد شاورني بعض القضاة في؟ قطع أنملة شاهد, والغرض منعه
عن الكتابة بسبب قطعها, وكل هذه منكرات عظيمة الوقع في الدين,
واسترسال قبيح في أذى المسلمين.
تنبيه
حيث اعتبرت المصالح عندنا بالمعنى السابق فذاك حيث لم يعارضها
قياس, فإن عارضها خرج للشافعي رحمه الله تعالى فيه قولان, من
القولين فيما إذا وقع في الماء القليل ما لا نفس له سائلة.
ولهذا قال الشيخ في التنبيه": تنجسه في أحد القولين, وهو
القياس, ولم تنجسه في الآخر, وهو الأصلح للناس. وقال الشيخ أبو
محمد الجويني في كتاب القراض من السلسلة": إذا تاجر العامل
بغير إذن المالك, أو اشترى بغير المال وربح فوجهان:
" أحدهما ": أن تلك العقود باطلة.
و " الثاني ": أن المالك مخير بين إجازة العقود وبين فسخها.
"قال": والقياس مع القول الأول, والمصلحة مع الثاني.
(4/381)
سد الذرائع.
قال الباجي: ذهب مالك إلى المنع من سد الذرائع, وهي المسألة
التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور, مثل أن يبيع
السلعة بمائة إلى أجل, ويشتريها بخمسين نقدا, فهذا قد توصل إلى
خمسين بذكر السلعة. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز المنع من
سد الذرائع. قلنا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [سورة البقرة: 104] وقوله:
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ
الْبَحْرِ} [سورة الأعراف: 163] وقوله عليه السلام: "لعن الله
اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها" 1,
وقوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2 وقوله
عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات" 3.
انتهى.
وقال القرطبي: وسد الذرائع
ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلا, وعملوا عليه
في أكثر فروعهم تفصيلا, ثم حرر موضع الخلاف فقال: اعلم أن ما
يفضي إلى الوقوع في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع قطعا أو
لا, والأول ليس من هذا الباب, بل من باب ما لا خلاص من الحرام
إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو
واجب. والذي لا يلزم إما أن يفضي إلى المحظور غالبا أو ينفك
عنه غالبا أو يتساوى الأمران وهو المسمى ب "الذرائع "عندنا:
فالأول لا بد من مراعاته, والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه,
فمنهم من يراعيه, ومنهم من لا يراعيه, وربما يسميه التهمة
البعيدة والذرائع الضعيفة.
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب البيوع باب لا يذاب شحم الميتة ولا
يباع ودكه حديث "2233" ورواه مسلم كتاب المساقاة حديث "1582".
2 سبق تخريحه وهو حديث صحيح.
3 رواه مالك في الموطأ بلاغا "2/720" عن عمر بن الخطاب مرفوعا
عليه أنه قال: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين وروي مرفوعا بلفظ
"لا تقبل شهادة خصم على خصم" قال الحافظ: ليس له إسناد صحيج
لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض فروى أبو داود في المراسيل من
حديث طلخة بن عبد الله بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ورواه أيضا
البيهقي "10/201" حديث "20646" منن طريق الأعرج مرسلا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة"
يعني الذي بينك وبينه عداوة رواه الحاكم "4/111" حديث
"10/7049" من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله وفي
إسناده نظر وقال البيهقي في سننه "10/202" لا يصح من هذا شيء
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(4/382)
وقريب من هذا التقرير قول القرافي في
"القواعد": إن مالكا لم ينفرد بذلك, بل كل واحد يقول بها, ولا
خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادته فيها. قال: فإن من
الذرائع ما هو معتبر إجماعا, كالمنع من حفر الآبار في طريق
المسلمين, وإلقاء السم في طعامهم, وسب الأصنام عند من يعلم من
حاله أنه يسب الله. و "منها" ما هو ملغي إجماعا, كزراعة العنب,
فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كان وسيلة إلى المحرم, و "منها"
ما هو مختلف فيه, كبيوع الآجال, فنحن نعتبر الذريعة فيها
وخالفنا غيرنا. فحاصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من
غيرنا, لا أنها خاصة.
قال: وبهذا نعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه
المسألة بقوله {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً} [سورة الأنعام: 108]
وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ
فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم
السبت المحرم. عليهم بحبس الصيد يوم الجمعة. وقوله عليه
السلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم" الحديث.
وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين, وتحريمهما مجتمعين
للذريعة إليها. وبقوله عليه السلام: "لا تقبل شهادة خصم وظنين"
خشية الشهادة بالباطل, ومنع شهادة الآباء للأبناء.
وإنما قلنا: إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل
على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة, وهذا أمر مجمع عليه,
وإنما النزاع في ذريعة خاصة, وهي بيوع الآجال ونحوها, فينبغي
أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع. وإن قصدوا القياس على هذه
الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس, وحينئذ
فليذكروا الجامع حتى يتعرض الخصم لرفعه بالفارق.
وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس, فإن من أدلة محل النزاع حديث
زيد بن أرقم أن أمة قالت لعائشة: إني بعت منه عبدا بثمانمائة
إلى العطاء واشتريته نقدا بستمائة فقالت عائشة: بئس ما اشتريت,
وأخبري زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا أن يتوب1.
قال أبو الوليد بن رشد: وهذه المبالغة كانت من أم ولد زيد بن
أرقم ومولاها قبل العتق, فيتخرج قول عائشة على تحريم الربا بين
السيد وعبده, مع القول بتحريم
ـــــــ
1 رواه الدارقطني في سننه "3/52" والبيهقي في الكبير "5/230"
حديث "10580" وابن الجعد في مسنده ص "80" حديث "451".
(4/383)
هذه الذرائع ولعل زيدا لا يعتقد تحريم
الربا بين السيد وعبده قال: ولا يحل لأحد أن يعتقد في زيد أنه
واطأ أم ولده على الذهب بالذهب متفاضلا إلى أجل. وقول عائشة:
أحبط عمله. مع أن الإحباط لا يكون إلا بالشرك, لم ترد إحباط
الإسقاط بل إحباط الموازنة, وهو وزن العمل الصالح بشيء, كقوله:
" من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" 1 والقصد ثم المبالغة في
الإنكار لا التحقيق, وأن مجموع الثواب المتحصل من الجهاد ليس
باقيا بعد هذه السيئة, بل بعضه, فيكون الإحباط في المجموع من
حيث هو مجموع, بحيث لو اقتدى به الناس انفتح باب الربا نسيئة.
"قال: ووافقنا أبو حنيفة وأحمد في سد ذرائع بيوع الآجال".
وخالف الشافعي واحتج بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] وفي الصحيح أنه
عليه الصلاة والسلام أتى بتمر جنيب, فقال: "لا تفعلوا ولكن
بيعوا تمر الجمع بالدراهم واشتروا بالدراهم جنيبا" 2. فهذا بيع
صاع بصاعين وإنما توسط بينهما عقد الدراهم. وليس في الحديث أن
العقد الثاني مع البائع الأول والكلام فيه.
قلت: وأجاب أصحابنا بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها,
واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع, كما
سبق نقله عن القاضي. ثم قولها معارض لفعل زيد بن أرقم. ثم إنما
أنكرت ذلك لفساد البيعين فإن الأول فاسد لجهالة الأجل, فإن وقت
العطاء غير معلوم, والثاني بناء على الأول, فيكون أيضا فاسدا.
واعلم أن أبا العباس بن الرفعة رحمه الله - حاول تخريج قول
الشافعي في الذرائع من نصه في باب إحياء الموات من الأم إذ قال
بعدما ذكر النهي عن بيع الماء ليمنع به الكلأ, وإنما يحتمل
إنما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل, وكذا ما كان ذريعة
إلى إحلال ما حرم الله ما نصه: وإذا كان هكذا ففي هذا ما يثبت
أن الذرائع إلى الحلال والحرام يشبه معاني الحلال والحرام3.
انتهى.
ونازعه بعض المتأخرين وقال: إنما أراد الشافعي - رحمه الله -
تحريم الوسائل لا سد الذرائع, والوسائل مستلزمة المتوسل إليه.
ومن هذا بيع الماء فإنه مستلزم عادة
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب من ترك صلاة العصر حديث
"553".
2 رواه البخاري كتاب البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه
حديث "2202" ورواه مسلم كتاب المساقاة حديث "1593".
3 اتظر الأم "4/49".
(4/384)
لمنع الكلأ الذي هو حرام. ونحن لا ننازع
فيما يستلزم من الوسائل. قال: وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا
في سدها. والنزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها.
ثم قال: الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها : ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعندهم.
والثاني : ما يقطع بأنها لا توصل ولكن اختلطت بما يوصل, فكان
من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا
توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه. وهذا غلو في القول
بسد الذرائع.
والثالث : ما يحتمل ويحتمل. وفيه مراتب متفاوتة ويختلف الترجيح
عندهم بسبب تفاوتها.
قال: ونحن نخالفهم في جميعها إلا القسم الأول, لانضباطه وقيام
الدليل. انتهى.
وقيل: أما القسم الأول فواضح, بل نقول به في الواجبات كما
نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما مخالفتهم في
الثاني فكذلك. وأما الثالث فلعله الذي حاول ابن الرفعة تخريج
قول منه بما ذكره عن النص, وقد عرف ما فيه. واستشهد له أيضا
بالوصي يبيع شقصا على اليتيم فلا يأخذ بالشفعة على الأصح عند
الرافعي. وبالمريض يبيع الشقص بدون ثمن المثل أن الوارث لا
يأخذ بالشفعة على وجه, سدا لذريعة الشرع. وحاول ابن الرفعة
بذلك تخريج وجه في مسألة العينة ولا يتأتى له هذا, فتلك عقود
قائمة بشروطها ولا خلل فيها وإن منعها الأئمة الثلاثة. وقد
يقول بالقسم الثالث في مسائل: "منها" إقرار المريض للوارث على
قول الإبطال, وليس ذلك من سد الذرائع, بل لأن المريض محجور
عليه. ثم هو قول ضعيف. و "منها" إذا ادعت المجبرة محرمية أو
رضاعا بعد العقد. قال ابن الحداد: يقبل قولها, لأنه من الأمور
الخفية, وربما انفردت بعلمه. وقال ابن سريج: لا يقبل. وهو
الصحيح, لأن النكاح معلوم والأصل عدم المحرمية. وفتح هذا الباب
طريق الفساد, وليس هذا من سد الذرائع بل اعتماد على الأصل.
قلت: ونص الشافعي - رحمه الله تعالى - في البويطي على كراهية
التجميع بالصلاة في مسجد قد صليت فيه تلك الصلاة إذا كان له
إمام راتب قال: وإنما كرهته لئلا يعمد قوم لا يرضون إماما
فيصلون بإمام غيره. انتهى. وقال في الأم في منع
(4/385)
قرض الجارية التي يحل للمستقرض وطؤها:
وتجويز ذلك يفضي إلى أن يصير ذريعة أن يطأها وهو يملك ردها.
قال المحاملي: يعني أنه يستبيح بالقرض وطء الجارية ثم يردها
على المقرض, فيستبيح الوطء من غير عوض. قيل: وفيه منع الذرائع.
(4/386)
الاستحسان
وقد نوزع في ذكره في جملة الأدلة بأن الاستحسان العقلي لا مجال
له في الشرع, والاستحسان الشرعي لا يخرج عما ذكرناه, فما وجه
ذكره؟
وهو لغة: اعتماد الشيء حسنا1, سواء كان علما أو جهلا, ولهذا
قال الشافعي: القول بالاستحسان باطل, فإنه لا ينبئ عن انتحال
مذهب بحجة شرعية, وما اقتضته الحجة الشرعية هو الدين سواء
استحسنه نفسه أم لا. ونسب القول به إلى أبي حنيفة, وعن أصحابه
أنه أحد القياسين, وقد حكاه عنه الشافعي وبشر المريسي. قال
الماوردي: وأنكر أصحابه ما حكى الشافعي عنه, ونسبه إمام
الحرمين إلى مالك, وأنكره القرطبي وقال: ليس معروفا من مذهبه.
وقد أنكره الجمهور, حتى قال الشافعي: "من استحسن فقد شرع", وهي
من محاسن كلامه. قال الروياني: ومعناه أن ينصب من جهة نفسه
شرعا غير شرع المصطفى.
قال أصحابنا: ومن شرع فقد كفر. وسكت الشافعي عن المقدمة
الثانية لوضوحها. قال السنجي في شرح التلخيص": مراده لو جاز
الاستحسان بالرأي على خلاف الدليل لكان هذا بعث شريعة أخرى على
خلاف ما أمر الله, والدليل عليه أن أكثر الشريعة مبني على خلاف
العادات, وعلى أن النفوس لا تميل إليها. ولهذا قال عليه
السلام: "حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات" 2 وحينئذ
فلا يجوز استحسان ما في العادات على خلاف الدليل.
وقال الشافعي في الرسالة3: الاستحسان تلذذ, ولو جاز لأحد
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "3/275" العمد "3/838" المستصفى "1/275" أصول
السرخسي "2/294".
2 رواه مسلم "4/2174" كتاب الجنة حديث "2823".
3 انظر الرسالة ص "507".
(4/386)
الاستحسان في الدين جاز ذلك لأهل العقول من
غير أهل العلم, ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب, وأن يخرج كل
واحد لنفسه شرعا, وأي استحسان في سفك دم امرئ مسلم. وأشار بذلك
إلى إيجاب الحد على المشهود عليه بالزنى في الزوايا. قال أبو
حنيفة: القياس أنه لا رجم عليه ولكنا نرجمه استحسانا. وقال في
آخر الرسالة: "تلذذ "وإنما قال ذلك لأنه قد اشتهر عنهم أن
المراد به حكم المجتهد بما يقع في خاطره من غير دليل. وقال ابن
القطان: قد كان أهل العراق على طريقة في القول بالاستحسان, وهو
ما استحسنته عقولهم وإن لم يكن على أصل, فقالوا به في كثير من
مسائلهم حتى قالوا في الجزاء: إن القياس أن فيه القيمة,
والاستحسان: شاة, وقالوا في الشهود بالزوايا: الحد استحسانا.
قال: وقد تكلم الشافعي وأصحابه عن بطلانه بقوله عليه السلام,
حين بعث معاذا ودله على الاجتهاد عند فقد النص, ولم يذكر له
الاستحسان. وقد نهى الله عن اتباع الهوى وممن أنكروا الاستحسان
من الحنفية الطحطاوي, حكاه ابن حزم.
واعلم أنه إذا حرر المراد بالاستحسان زال التشنيع, وأبو حنيفة
بريء إلى الله من إثبات حكم بلا حجة. قال الفارض المعتزلي في
النكت": وقد جرت لفظة "الاستحسان" لإياس بن معاوية, ولمالك بن
أنس في كتابه, وللشافعي في مواضع. انتهى.
وعن ابن القاسم, قال مالك: تسعة أعشار العلم الاستحسان. قال
أصبغ بن الفرج: الاستحسان في العلم يكون أبلغ من القياس. ذكره
في كتاب أمهات الأولاد من "المستخرجة "نقله ابن حزم في
الأحكام".
وقال الباجي: ذكر محمد بن خويز منداد معنى الاستحسان الذي ذهب
إليه أصحاب مالك: هو القول بأقوى الدليلين, كتخصيص بيع العرايا
من بيع الرطب بالتمر1, وتخصيص الرعاف دون القيء بالبناء,
للحديث فيه, وذلك لأنه لو لم ترد سنة بالبناء في الرعاف لكان
في حكم القيء في أنه لا يصح البناء, لأن القياس يقتضي تتابع
الصلاة, فإذا وردت السنة في الرخصة بترك التتابع في بعض
المواضع صرنا إليه,
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري في صحيحه كتاب البيوع باب بيع
التمر على رءوس النخل.... حديث "2189" عن جابر رضي الله عنه
ورواه مسلم كتاب البوع باب النهي عن المحافلة والمزابنة....
حديث "1536".
(4/387)
وأبقينا الباقي على الأصل. قال: وهذا الذي
ذهب إليه هو الدليل, فإن سماه استحسانا فلا مشاحة في التسمية.
انتهى.
وقال الإبياري: الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان, لا
على ما سبق, بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي,
فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس. ومثاله: لو اشترى سلعة
بالخيار ثم مات وله ورثة. فقيل: يرد, وقيل: يختار الإمضاء. قال
أشهب: القياس الفسخ, ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء أن يأخذ من
لم يمض إذا امتنع البائع من قبول نصيب الراد. وقال ابن القاسم:
قلت لمالك: لم يقض بالشاهد واليمين في جراح العمد وليس بمال؟
فقال: إنه لشيء استحسناه. والظاهر أنه قاسه على الأموال.
وقال بعض محققي المالكية: بحثت عن موارد الاستحسان في مذهبنا
فإذا هو يرجع إلى ترك الدليل بمعارضة ما يعارضه بعض مقتضاه,
كترك الدليل للعرف في رد الأيمان إلى العرف أو المصالحة, كما
في تضمين الأجير المشترك, ولإجماع أهل المدينة كما في إيجاب
غرم القيمة على من قط ذنب بغلة الحاكم, أو في اليسير, كرفع
المشقة وإيثار التوسعة كما جاز التفاضل اليسير في المراطلة,
وإجازة بيع وصرف في اليسير. وقال بعضهم: هو معنى ليس في سلوكه
إبطال القواعد, ولا يجري عليها جريا مخلصا, كما في مسألة خيار
الرؤية.
وقال ابن السمعاني: إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه
الإنسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل, ولا أحد يقول به. ثم
حكى كلام أبي زيد أنه اسم لضرب دليل يعارض القياس الجلي, حتى
كان القياس غير الاستحسان على سبيل المعارضة, وكأنهم سموه بهذا
الاسم لاستحسانهم ترك القياس أو الوقوف عن العمل به بدليل آخر
فوقه في المعنى المؤثر أو مثله, ولم يكن لهم من هذه التسمية
إلا التمييز بين حكم الأصل الذي يبنى على الأصل قياسا, والذي
قال استحسانا وهذا كما ميز أهل النحو بين وجوه النصب فقالوا:
هذا نصب على الظرف, وهذا نصب على المصدر.
ثم نبه ابن السمعاني على أن الخلاف بيننا وبينهم لفظي, فإن
تفسير الاستحسان بما يشنع عليهم لا يقولون به. والذي يقولون به
إنه العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه. فهذا مما
لم ينكره. لكن هذا الاسم لا نعرفه اسما لما يقال به بمثل هذا
الدليل. وقريب منه قول القفال: إن كان المراد بالاستحسان ما دل
عليه الأصول
(4/388)
لمعانيها فهو حسن, لقيام الحجة له وتحسين
الدلائل, فهذا لا ننكره ونقول به. وإن كان ما يقبح في الوهم من
استقباح الشيء واستحسانه بحجة دلت عليه من أصل ونظير فهو محظور
والقول به غير سائغ.
وقال السنجي: الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم, وهي على ضربين:
أحدهما : واجب بالإجماع, وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي
على حسنه, كالقول بحدوث العالم, وقدم المحدث, وبعثه الرسل
وإثبات صدقهم, وكون المعجزة حجة عليهم, ومثل مسائل الفقه, لهذا
الضرب يجب تحسينه, لأن الحسن ما حسنه الشرع, والقبح ما قبحه.
والثاني : أن يكون على مخالفة الدليل مثل أن يكون الشيء محظورا
بدليل شرعي وفي عادات الناس إباحته, ويكون في الشرع دليل
يغلظه, وفي عادات الناس التخفيف, فهذا عندنا يحرم القول به
ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي. وسواء كان ذلك الدليل
نصا أو إجماعا أو قياسا. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك
الدليل إن كان خبر واحد أو قياسا استحسن تركهما والأخذ
بالعادات, كقوله في خبر المتبايعين1: أرأيت لو كانا في سفينة,
فرد الخبر بالاستحسان وعادة الناس2. وكقوله في شهود الزوايا3.
انتهى.
إذا علمت هذا فاعلم أنه قد اختلفت الحنفية في حقيقة الاستحسان
على أقوال:
ـــــــ
1 يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه كتاب البيوع باب
كم يجوز الخيار حديث "2108" عن حكم بن حزام عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" ورواه مسلم في
صحيحه "3/1164" كمتاب البيوع باب الصدقة في البيع حديث "1532".
2 مذهب الحنفية: أنه وقع الإيحاب والقبول في البيع فقد لزم
البائع والمشتري إتمام الصفقة ولو لم يفترقا من مجلسهما وهو
مذهب المالكية أيضا انظر المبسوط "12/108" مختصر اختلاف
العلماء "3/46" بدائع الصنائع "5/338" فتج القدير لابن الهمام
"5/78" المدونة "3/22" الكافي لابن عبد البر ص "343" تداية
المجتهد لابن رشد "2/169".
3 مذهب الحنفية: أنه لو عين كل شاهد – في حناية الزنا- ظاوية
غير الني عينها الآخر وكانت الزاوية بعيدة فلا يقام الحد على
المشهود عليهما أما ٍإن كانت قريبة فيقام الحد عليهما وهو مذهب
الحنابلة أيضا وقال زفر كلتا المسألتين: لا يقام على المشسهود
عليه حد انظر المبسوط "9/61" الهداية "2/394" فتح القدير
"5/186" تبيين الحقائق شرح كنظ الدقائق "3/190" ملتقى الأبحر
"1/337" المقنع لابن قدامة "298" المبدع "9/79" المغني لابن
قدامة "8/205".
(4/389)
أحدها : أنه العمل بأقوى القياسين: وعلى
هذا يرتفع الخلاف, كما قال الماوردي والروياني, لأنا نوافقهم
عليه, لأنه الأحسن.
والثاني : أنه تخصيص العلة, كما خص خروج الجص والنورة من علة
الربا في البر وإن كان مكيلا, وجزم به صاحب "العنوان", قال
شارحه: وفي حصره في هذا المعنى نظر عندي, وعلى هذا التفسير قال
القفال والماوردي: نحن نخالفهم بناء على أنه لا يجوز تخصيص
العلة عندنا. قال ابن الصباغ: ولو كان هذا التخصيص لما جاز
تركه إلى القياس, كما لا يجوز التمسك بالعام مع قيام دليل
المخصص.
الثالث : أنه ترك أقوى القياسين بأضعفهما إذا كان حتما, كما
قال في شهود الزنى: القياس أنه لا يحد, ولكن أحده استحسانا.
قال الماوردي والروياني: وهو بهذا التفسير يخالف فيه, لأن أقوى
القياسين عندنا أحسن من أضعفهما, ولأن في مسألة الزوايا لا
قياس أصلا ولا خبرا.
الرابع : أنه تخصيص القياس بالسنة, حكاه القاضي الحسين, ولأجله
قال إمام الحرمين أنهم ربما يسندون لما يرونه إلى خبر, كمصيرهم
إلى أن الناسي بالأكل لا يفطر, لخبر أبي هريرة.
الخامس : قال إلكيا: وهو أحسن ما قيل في تفسيره, ما قاله أبو
الحسن الكرخي أنه قطع المسائل عن نظائرها لدليل خاص يقتضي
العدول عن الحكم الأول فيه إلى الثاني, سواء كان قياسا أو نصا,
يعني أن المجتهد يعدل عن الحكم من مسألة بما يحكم في نظائرها
إن الحكم بخلافه, لوجه يقتضي العدول عنه, كتخصيص أبي حنيفة قول
القائل: ما لي صدقة على الزكاة. فإن هذا القول منه عام في
التصديق بجميع ماله. وقال أبو حنيفة: يختص بمال الزكاة, لقوله
تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]
والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة, فعدل عن الحكم
في مسألة المال الذي ليس هو بزكوي بما حكم به في نظائرها من
الأموال الزكوية إلى خلاف ذلك الحكم, لدليل اقتضى العدول وهو
الآية.
وقال عبد الوهاب: هو قول المحصلين من الحنفية, قال: ويجب أن
يكون هو الذي قال به أصحابنا, فقال القاضي أبو الطيب: يجب أن
يكون ذلك الدليل أقوى من القياس الذي اقتضى إلحاقها بنظائرها,
لأنه لا يجوز ترك القياس ولا غيره من الأدلة إلا لما هو أقوى
منه, وحينئذ فيكون مذهبه كله استحسانا, لأنه عدول بالخاص عن
(4/390)
بقية أفراد العام لدليل. وحكى ابن القطان
عن الكرخي أنه فسره بأدق القياسين.
وقال في المنخول": الصحيح في ضبطه قول الكرخي. وقد قسمه أربعة
أقسام:
أحدها : اتباع الحديث وترك القياس, كما فعلوا في مسألة القهقهة
ونبيذ التمر.
الثاني : اتباع قول الصحابي إذا خالف القياس, كما قالوا في
أجرة العبد الآبق بأربعين, اتباعا لابن عباس.
الثالث : اتباع العادة المطردة, كالمعاطاة, فإن استمرارها يشهد
بصحة نقلها خلفا عن سلف, ويغلب على الظن أنه في عصر الرسول.
الرابع: اتباع معنى خفي هو أخص بالمقصود, كما في إيجاب الحد
بشهود الزوايا, لإمكان أن يكون فعلة واحدة كأن يزحف فيها. قال
الغزالي: وتقديم الخبر على القياس وجب عندنا, لكن الخبر
الصحيح. وكذلك قول الصحابي إذا خالف القياس يتبع عندنا. وأما
أن الأعصار. لا تتفاوت فمردود, لأن العقود الفاسدة في الكثرة
حدثت بعد عصر الصحابة والسلف. فأما المعنى الخفي إذا كان أخص
فهو متبع. ولكن أبا حنيفة لم يكتف بموجبه حتى أتى بالعجب فقال:
يجب الحد على من شهد عليه أربعة بالزنى أربع زوايا, كل واحد
يشهد على زاوية. قال: ولعله كان يتزحف في زنية واحدة. وأي
استحسان في سفك دم امرئ مسلم بهذا الخيال. انتهى. وقضية كلام
الرافعي أن الخلاف في الثالث, فقال: المنقول عن أبي حنيفة أنه
يتبع ما استحسن بالعادة ويترك الكتاب والسنة المتواترة. ومثله
بشهود الزنى1. انتهى.
وذكر أبو بكر محمد بن أحمد البلعمي الحنفي في كتاب الغرر في
"الأصول" أنه تعليق الحكم بالمعنى الخفي قال: ولا عيب إذن في
إطلاقه, بل العيب على من جهل حقيقته وقال به من حيث عيب عن
قائله.
قال: وذكر أبو بكر الرازي في كتابه قال: حدثني بعض قضاة مدينة
السلام ممن كان يلي القضاء في زمان المستعين بالله, قال: سمعت
إبراهيم بن جابر, وكان رجلا كثير العلم, صنف في اختلاف
الفقهاء, وكان يقول بنفي القياس بعد أن أثبته.
ـــــــ
1 انظر المنخول ص "374".
(4/391)
قلت له: ما الذي أوجب عندك القول بنفي
القياس بعد القول به؟ قال: قرأت كتاب إبطال الاستحسان
"للشافعي, فرأيته صحيحا في معناه, إلا أن جميع ما احتج به هو
بعينه يبطل القياس, وصح به عندي بطلانه. قال: فهذه حكاية تنادي
على الخصم أنه يقول بما يعود عليه بالنقض.
قلت: إن كان الاستحسان كما نقول فهو نوع من القياس, فلا وجه
لتسميتك به باسم آخر. ولئن قلت: لا مشاحة في الاصطلاح قلنا:
هنا يوهم أنه دليل غير القياس, فقل: هو قياس في المعنى. وله
اسم آخر في اللفظ, وهو أحد أنواع القياس, وحينئذ فيرتفع
الخلاف.
السادس : أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تقتصر عنه عبارته, فلا
يقدر أن يتفوه به. قال الغزالي رحمه الله: وهذا هو بين, لأن ما
يقدر على التعبير عنه لا يدري هو وهم أو تحقيق. ورد عليه
القرطبي: بأن ما يحصل في النفس من مجموع قرائن الأقوال من علم
أو ظن, لا يتأتى عن دليله عبارة مطابقة له. ثم لا يلزم من
الاختلال بالعبارة الإخلال بالمعبر عنه, فإن تصحيح المعاني
بالعلم اليقيني لا بالنطق اللفظي, قال: ويظهر لي أن هذا أشبه
ما يفسر به الاستحسان.
قلت: وعلى هذا ينبغي أن يتمسك به المجتهد فيما غلب على ظنه.
أما المناظر فلا يسمع منه, بل لا بد من بيانه ليظهر خطؤه من
صوابه. وقال الخوارزمي في "الكافي": ينبغي أن يكون هذا هو محل
الخلاف ولا ينبغي أن يكون حجة, إذ لا شاهد له.
السابع : أنه مما يستحسنه المجتهد برأي نفسه وحديثه من غير
دليل. وهذا هو ظاهر لفظ الاستحسان, وهو الذي حكاه الشافعي عن
أبي حنيفة كما قال القاضي أبو الطيب في تعليقه", قال: وأنكره
أصحاب أبي حنيفة, وقال الشيخ الشيرازي: إنه الذي يصح عنه.
وإليه أشار الشافعي بقوله: "من استحسن فقد شرع", وهذا مردود,
لأنه قول في الشريعة بمجرد التشهي, ومخالف لقوله تعالى: {وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}
لكن الحنفية ينكرون هذا التفسير لما فيه من الشناعة.
قلت: وهو الصواب في النقل عن أبي حنيفة. وفد صنف الشافعي كتابا
في الأم في الرد على أبي حنيفة في الاستحسان, وقال من جملته:
قال أبو حنيفة لما رد خيار المجلس بين المتتابعين: أرأيت لو
كانا في سفينة, فترك الحديث الصحيح بهذا
(4/392)
التخمين. وقال في مسألة شهود الزوايا:
القياس أنهم قذفة يحدون وترد شهادتهم, لكن استحسن قبولها. ورجم
المشهود عليه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وأي استحسان في
قتل مسلمين؟, وقال في الزوجين إذا تقاذفا, قال لها: يا زانية,
فقالت: بل أنت زان, لا حد ولا لعان, لأني أستقبح أن ألاعن
بينهما ثم أحدها. قال الشافعي: وأقبح منه تعليل حكم الله
عليهما. انتهى. وهذا صريح في أن الشافعي فهم عن أبي حنيفة أن
مراده بالاستحسان هذا, فلا وجه لإنكار أصحابه ذلك.
وقد احتج أصحابنا على بطلانه بقوله تعالى: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إلى {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً} [النساء: 59] فجعل الأحسن ما كان كذلك, وقوله:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} ولم يقل: إلى الاستحسان.
ولأن القياس أقوى من الاستحسان بدليل جواز تخصيص العموم به دون
الاستحسان, فلم يجز أن يتقدم عليه الاستحسان. وقد استدل الخصم
بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} , وقوله عليه السلام: "ما رآه
المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" 1, ولأن المسلمين أجمعوا على
أحكام عدلوا عن الأصول فيها إلى الاستحسان: "منها" دخول الواحد
إلى الحمام ليستعمل ماء غير مقدر. ويشتري المأكول بالمساومة من
غير عقد يتلفظ به, فدل على أن استحسان المسلمين حجة وإن لم
يقترن بحجة.
وأجاب أصحابنا عن الآية بأنها تتضمن الأخذ بالأحسن دون
المستحسن, وهو ما جاء به الكتاب والسنة لا غيرهما. والحديث
موقوف على ابن مسعود. وعن الإجماع بأن المصير إليه بالإجماع لا
بالاستحسان.
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "1/379" حديث "3600" موقوفا على
ابن مسعود أنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد
صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه
برسالته ثم نظر في فلوب العباد بعد محمد صلى الله عليه وسلم
فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون
على دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله جسن وما رأوا
سيئا فهو عند الله سيء" ورواه في فضائل الصحابة "1/367" حديث
"541" وأبو داود الطيالسي قي مسنده "33" حديث "246" والطبري في
الكبير "9/112" حديث "8583".
(4/393)
فصل [ما استحسنه الشافعي, والمراد منه]
قال ابن القاص: لم يقل الشافعي بالاستحسان إلا في ثلاثة
مواضع1: قال: وأستحسن في المتعة أن تقدر ثلاثين درهما وقال:
رأيت بعض الحكام يحلف على المصحف وذلك حسن وقال في مدة الشفعة:
وأستحسن ثلاثة أيام.
وقال الخفاف في الخصال": قال الشافعي بالاستحسان في ستة مواضع,
فذكر هذه الثلاثة وزاد قوله في باب الصداق: من أعطاها بالخلوة
فذاك ضرب من الاستحسان يعني قوله القديم وكذلك في الشهادات:
كتب قاض إلى قاض ذلك استحسان ومراسيل سعيد حسن وقد أجاب
الأصحاب منهم: الإصطخري, وابن القاص, والقفال, والسنجي,
والماوردي, والروياني, وغيرهم أن الشافعي إنما استحسن ذلك
بدليل يدل عليه, وهو "الاستحسان حجة" أي أنه حسن, لأن كل ما
ثبتت حجته كان حسنا
- أما الأول: فرواه عن ابن عمر, وهو صحابي فاستحسنه على قول
غيره وقال القفال; إنما ذكره في القديم, بناء على قوله في
تقليد الصحابة وقال الصيرفي في شرح الرسالة": إنما استحب الفضل
ولم يوجبه وإنما ينكر القضاء بالاستحسان, فأما أن يستحب الكرم
والزيادة فلا ينكر
- وأما الثاني: فإن ابن عباس وابن الزبير فعلاه, وأن الشرع ورد
باعتبار ما فيه إرهاب وزجر عن اليمين الفاجرة, والتحليف
بالمصحف تعظيم فكأنه من باب القياس تغليظا باليمين كما غلظت
بالزمان والمكان الشريفين وقال القفال: هذا مما لا يتعلق به
حكم, لأنه لا يجب ألبتة.
وأما الثالث: فلأن الناس أجمعوا على تأجيل الشفعة في قريب من
الزمان, فجعله هو مقدرا بثلاثة, لقوله تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي
دَارِكُمْ ثَلاثَةَ} [هود: 65] فهي حد القرب, ولأنها مدة
مضروبة في خيار الشرط, وفي مقام المسافر, وفي
ـــــــ
1 انظر الأم "5/62", "7/235,362,364" أحكام القرآن للشافعي
"1/201" مغني المحتاج "3/242".
(4/394)
أكثر مدة المسح
- وكذلك القول في البواقي, فإنه استحسن مراسيل سعيد, لأنه
وجدها مسندة وأنه لا يرسل إلا عن صحابي فظهر بذلك أن الشافعي
حيث قال به كان لدليل, لا باعتبار ميل النفس قال الإصطخري: ولا
يجوز عندنا أن يستحسن أحد القولين إلا من باب المماثلة
بالاجتهاد والنظر إلى الأولى وإنما المذموم من الاستحسان هو
الذي يحدثه الإنسان عن نفسه بلا مثال, كما في إيجاب الحد بشهود
الزوايا.
قلت: لكن رأيت في سنن الشافعي "التي يرويها المزني عنه. قال
الطحاوي: سمعت المزني يقول: قال الشافعي: إذا علم صاحب الشفعة
فأكثر ما يجوز له طلب الشفعة في ثلاثه أيام, فإذا كان في ثلاثه
أيام لم يجز طلبه هذا استحسان مني وليس بأصل انتهى والمشكل فيه
قوله: "وليس بأصل" وينبغي تأويله على أن المراد ليس بأصل خاص
يدل عليه, لا نفي الدليل ألبتة وقال الغزالي في البسيط "قال
الشافعي: لو كان برأس المحرم هوام فنحاها تصدق بشيء؟, ثم قال:
لا أدري من أين قلت ما قلت قال الإمام في النهاية "والغزالي في
البسيط": هذا من قبيل استحسان أبي حنيفة وهو مشكل فالصحيح أن
ذلك من الشافعي استحسان, فإنه بين أنه لا أصل له.
قلت: ليس هذا من الاستحسان, بل مراد الشافعي أني لا أذكر دليل
ما قلته لأجله, لا أنه قاله من غير دليل بهوى نفسه.
وقد وقع الاستحسان في كلام الشافعي وأصحابه بالمعنى السابق في
مواضع أخرى:
"منها": قال: وحسن أن يضع المؤذن إصبعه في أذنيه, لأن حديث
بلال اشتمل على ذلك.
و "منها": قال في الوسيط": إن الشافعي ذهب في أحد قوليه لمنع
قرض الجواري ممن هي حلال له, استحسانا.
و "منها": قال في التغليظ على المعطل: أستحسن إذا حلف أن يسأل
بالله الذي خلقك ورزقك.
و "منها": قال الشافعي: أستحسن أن يترك شيء من نجوم الكتابة.
و "منها": إذا قالا: نشهد أنه لا وارث له قال الشافعي: سألتهما
عن ذلك, فإن قالا: هو لا نعلم, فذا, وإن قالوا: تيقناه قطعا
فقد أخطئوا, لكن لا ترد بذلك
(4/395)
شهادتهما ولكن أردها استحسانا حكاه ابن
الصباغ من باب الإقرار من الشامل".
و "منها": قال أبو زيد, بعد ذكر الأوجه في الجارية المغنية: كل
هذا استحسان والقياس الصحة.
و "منها": قال الرافعي في الإيلاء في ولي المجنونة: وحسن أن
يقول الحاكم للزوج.
و "منها": استحسان الشافعي تقدير نفقة الخادم.
و "منها": قال في الوسيط": إذا أخرج السارق يده اليسرى بدل
اليمنى فالاستحسان أن لا تقطع وقالوا في تعين الرمي في النضال.
ومنها: قال الروياني فيما إذا قال: أمهلوني لأسأل الفقهاء -
أعني المدعي في اليمين المردودة - استحسن فيها قلوبنا إمهاله
يوما.
وذكر ابن دقيق العيد في كتاب اقتناص السوانح "ثلاث صور ترجع
إلى الاستحسان أو المصالح قال بها الأصحاب:
إحداها : الحصر الوقف ونحوه إذا بلي قيل: إنه يباع ويصرف في
مصالح المسجد ومثله الجذع المنكسر والدار المنهدمة وهذا
استحسان وقيل: إنه يحفظ فإنه عين الوقف فلا يباع, وهذا القياس.
الثانية : حق التولية على الوقف قيل: إنه للواقف وعلل بأنه
المتقرب بصدقته, فهو أحق من يقوم بإمضائها وهذا استحسان.
الثالثة : إذا أعار أرضا للبناء والغراس, فبنى المستعير أو
غرس, ثم رجع واتفقا على أن يبيع الأرض والبناء لثالث بثمن واحد
فقيل: هو كما لو كان لهذا عبد ولهذا عبد فباعاهما بثمن واحد
والمذهب القطع بالجواز, للحاجة وهذا مخالف للقياس, فهو استحسان
أو استصلاح.
فائدة : قيد الطبري في العدة "محل الخلاف في الاستحسان
بالمخالف للقياس, فإن لم يكن مخالفا للقياس فهو جائز, كما
استحسن الشافعي الحلف بالمصحف ونظائره, وهو راجع لما سبق.
(4/396)
دلالة الاقتران
قال بها المزني وابن أبي هريرة والصيرفي منا, وأبو يوسف من
الحنفية, ونقله الباجي عن نص المالكية قال: ورأيت ابن نصر
يستعملها كثيرا وقيل: إن مالكا احتج في سقوط الزكاة عن الخيل
بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ
لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فقرن في الذكر بين الخيل
والبغال والحمير, والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا, فكذلك
الخيل.
وأنكرها الجمهور فيقولون: القران في النظم لا يوجب القران في
الحكم, وصورته أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين كل منهما
مبتدأ وخبر, أو فعل وفاعل, بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو
المعموم في الجميع, ولا مشاركة بينهما في العلة, ولم يدل دليل
على التسوية بينهما, كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا
أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]
وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً
وَآتُوهُمْ} [النور: 33], وكاستدلال المخالف في أن استعمال
الماء ينجسه بقوله عليه السلام: "لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة" 1 لكونه مقرونا بالنهي عن
البول فيه, والبول فيه يفسده, فكذلك الاغتسال فيه وهو غير مرضي
عند المحققين, لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى
غير المعنى الذي منع من البول فيه لأجله ولعل المعنى في النهي
عن الاغتسال لا ترتفع جنابته, كما هو مذهب الحصري من أصحابنا.
واحتج القائلون بها بأن العطف يقتضي المشاركة, وقياسا على
الجملة الناقصة إذا عطفت على الكاملة.
وأجيب بأن الشركة إنما وجبت في الناقصة لافتقارها إلى ما تتم
به, فإذا تمت بنفسها لا تجب المشاركة إلا فيما يفتقر إليه.
ويدل على فساد هذا المذهب قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}
[الفتح: 29] فإن هذه الجملة معطوفة على ما قبلها, ولا تجب
للثانية الشركة في الرسالة وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
ـــــــ
1 رواه البخاري كاب الوضوء باب "البول في الماء الدائم" حديث
"239" بلفظ " لا يبولن أحد في الماء الدائم الذي لا يجري ثم
يغاسل فيه" ورواه مسلم كتاب الطهارة باب النهي ن البول في
الماء الراكد حديث "282".
(4/397)
إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} والإيتاء واجب دون الأكل, والأكل يجوز في القليل
والكثير, والإيتاء لا يجب إلا في خمسة أوسق, ولأن الأصل في كل
كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه فيه الأول, فمن ادعى خلاف
هذا في بعض المواضع فلدليل من خارج لا من نفس النظم أما إذا
كان المعطوف ناقصا, بأن لم يذكر فيه الخبر فلا خلاف في مشاركته
للأول, كقولك: زينب طالق وعمرة, لأن العطف يوجب المشاركة, وأما
إذا كان بينهما مشاركة في العلة فيثبت التساوي من هذه الحيثية,
لا من جهة القران, احتجاج أصحابنا أن اللمس حدث بقوله تعالى:
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ
النِّسَاءَ} [النساء: 43] ومثله عطف المفردات, واحتجاج الشافعي
على إيجاب العمرة بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال البيهقي: قال الشافعي رضي الله
عنه: الوجوب أشبه بظاهر القرآن, لأنه قرنها بالحج, وقال القاضي
أبو الطيب: قول ابن عباس إنها لقرينتها "إنما أراد بها لقرينة
الحج في الأمر, وهو قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ} والأمر يقتضي الوجوب, فكان احتجاجه بالأمر دون
الاقتران.
وقال الصيرفي في شرح الرسالة", في حديث أبي سعيد: "غسل الجمعة
على كل محتلم, والسواك, وأن تمس الطيب" 1 فيه دلالة على أن
الغسل غير واجب, لأنه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين
بالاتفاق وقال غيره: احتج الشافعي على أن الصلاة الوسطى الصبح
من حيث قرانها بالقنوت في قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. ولم يحرم
الأصحاب خطبة النكاح على المحرم مع أنها مقارنة للنكاح لقوله
صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا يخطب" 2 قال صاحب
الوافي": ولأصحابنا في الأصول وجه أن ما ثبت من الحكم لشيء ثبت
لقرينه, ولا يبعد أن قائله يحرم الخطبة.
والمذهب أنه لا يثبت الحكم للقرين إلا بأن يساويه في اللفظ أو
يشاركه في العلة. وقد بينا مفارقة الخطبة للعقد وهكذا إذا قرن
بينهما في اللفظ ثم ثبت لأحدهما
ـــــــ
1 الحديث رواه البخاري كتاب الجمعة باب الطيب للجمعة حديث
"880" عن أبي سعيد الخدري قال: أشهد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن
وأن يمس طيبا إن وجد" ورواه مسلم كتاب الجمعة حديث "846".
2 رواه مسلم "2/1030" كتاب النكاح باب تحرم مكاح المحرم
وكراهية خطبته حديث "1409".
(4/398)
حكم بالإجماع, لم يثبت أيضا للآخر ذلك
الحكم إلا بدليل يدل على التسوية, كاستدلال المخالف بأنه لا
يجب غسل النجاسة بالماء, بل يجوز بالخل ونحوه بقوله: "حتيه ثم
اقرصيه بالماء" 1 فقرن بين الحت والقرص والغسل بالماء, وأجمعنا
على أن الحت والقرص لا يجبان, فكذلك الغسل بالماء.
وقال بعضهم: يقوي القول به إذا وقعت حادثة لا نص فيها, كان
ردها إلى ما قرن معها من الأعيان في بعض الأحوال أولى من ردها
إلى غير شيء أصلا.
هذا ما يمكن خروجه على أصل أصحابنا, وأما الحنفية فقالوا:
إذا عطف جملة على جملة, فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل
الحكم لا في جميع صفاته, وقد لا يقتضي مشاركة أصلا وهي التي
تسمى "واو الاستئناف", كقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}
[الشورى: 24] فإن قوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} جملة
مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها, ولا هي داخلة في جواب الشرط,
وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه فإذا
قال: هذه طالق ثلاثا وهذه, طلقت الثانية ثلاثا, بخلاف ما إذا
قال: وهذه طالق, لا تطلق إلا واحدة, لاستقلال الجملة بتمامها.
وعلى هذا بنوا بحثهم المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يقتل مؤمن بكافر" 2 وسبق في باب العموم. وقد التزم ابن الحاجب,
في أثناء كلام له في "مختصره": أن قول القائل: ضرب زيدا يوم
الجمعة وعمرا, يتقيد بيوم الجمعة أيضا وهي تقتضي أن عطف الجملة
الناقصة عنده على الكاملة يقتضي مشاركتها في أصل الحكم
وتفاصيله, وحكي ذلك عن ابن عصفور من النحويين.
ـــــــ
1 الحديث رواه الترمذي "1/254" كتاب الطهارة باب ما جاء في غسل
دم الحيض من الثوب حديث "138" عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه الجم من الحيضة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم
رشيه وصلي فيه" ورواه أبو داود في سننه "1/99" كتاب الطهارة
حديث "361" والحديث أصله في البخاري كتاب الوضوء باب غسل الدم
حديث "227" بلفظ "تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه"
ورواه مسلم كتاب الطهارة حديث "291".
2 الحديث رواه البخاري في مواضع كثيرة ومنها كتاب العلم حديث
"111" بلفظ "ولا يفتل مسلم بكافر".
(4/399)
وأما أصحابنا فكلامهم مختلف, فقالوا: إذا
قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة, أن الثانية تتقيد أيضا
بالشرط وكذا لو قدم الجزاء, وقالوا فيما إذا قال لفلان: علي
ألف ودرهم: إنه لا يكون الدرهم مفسرا للألف, بل له تفسيرها بما
شاء وهو مذهب ولو قال: أنت طالق وهذه, وأشار إلى أخرى, فهل
تطلق أو تفتقر إلى النية؟ وجهان ولو قال: كل امرأة أتزوجها فهي
طالق وأنت يا أم أولادي فقال العبادي: لا تطلق.
فرع :
حجة الإسلام من رأس المال, وتصح الوصية بها من الثلث فلو قرنها
بأشياء تخرج من الثلث, كصدقة التطوع وسقي الماء, فقال ابن أبي
هريرة: تعتبر من الثلث, لأن الاقتران قرينة تفيد أنه قصد كونه
من الثلث والمذهب خلافه, لأن اقتران الشيئين في اللفظ لا يوجب
اقترانهما في الحكم.
(4/400)
دلالة الإلهام
ذكرها بعض الصوفية وقال: ما وقع في القلب من عمل الخير فهو
إلهام, أو الشر فهو وسواس وقال بها بعض الشيعة فيما حكاه صاحب
اللباب "قال القفال: ولو ثبتت العلوم بالإلهام لم يكن للنظر
معنى, ولم يكن في شيء من العالم دلالة ولا عبرة, وقد قال
تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
[سورة فصلت: 53] فلو كانت المعارف إلهاما لم يكن لإرادة
الأمارات وجه.
قال: ويسأل القاتل بهذا عن دليله, فإن احتج بغير الإلهام فقد
ناقض قوله, وإن احتج به أبطل بمن ادعى إلهاما في إبطال
الإلهام. وحكى الماوردي والروياني في باب القضاء في حجية
الإلهام خلافا, وفرعا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن
دليل؟ فإن قلنا: لم يصح جعله دليلا شرعيا جوزنا الانعقاد لا عن
دليل, وإلا فلا قال الماوردي: والقائل بانعقاده لا عن دليل هو
قول من جعل الإلهام دليلا.
قلت: وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام, منهم
الإمام في تفسيره "في أدلة القبلة, وابن الصلاح في فتاويه
"فقال: إلهام خاطر حق من الحق, قال: ومن علاماته أن يشرح له
الصدر ولا يعارضه معارض من خاطر آخر. وقال أبو علي التميمي في
كتاب التذكرة في أصول الدين": ذهب بعض
(4/400)
الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارا للعباد
على سبيل الإلهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى,
واحتج بقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَاناً} [سورة الأنفال: 29] أي تفرقون به بين الحق
والباطل, {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}
[سورة الطلاق: 2] أي مخرجا على كل ما التبس على الناس وجه
الحكم فيه, {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}
[البقرة: 282] فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم
وسلمت قلوبهم لله تعالى, بترك المنهيات وامتثال المأمورات, إذ
خبره صدق, ووعده حق, فتزكية النفس بعد القلب لحصول المعارضة
فيه بطريق الإلهام بحكم وعد الله تعالى وذلك كإعداده بإحضار
المقدمتين فيه مع التفطن لوجوه لزوم النتيجة عقيب النظر لقدرة
الله اضطرارا, ولا مدخل للقدرة الحادثة فيه.
وأما حصول هذه المعارف على سبيل إلهام المبتدأ من غير استعداد
يكون من العبد, فأحد هذين الوجهين غير ممكن في العقل ويمتنع في
العادة وما ذكر من أن مدارك العلوم الإلهام يحتاج إلى هذا
التفصيل, وهو غلط في الحصر إذ ليس هو جميع المدارك, بل مدرك
واحد على ما بيناه وتأول بعض العلماء قولهم, وقال: يمكن أن
يريدوا أن العلوم كلها ضرورية مخترعة لله تعالى.
وقال الإمام شهاب الدين السهروردي - رحمه الله - في بعض أماليه
محتجا على الإلهام بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ
مُوسَى} [القصص: 7] وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ} [النحل: 68] فهذا الوحي مجرد الإلهام, ثم إن من
الإلهام علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال عليه
السلام: "إن من أمتي لمحدثين ومكلمين, وإن عمر لمنهم" 1 وقال
تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]. فأخبر أن النفوس ملهمة, فالنفس
الملهمة علوم لدنية هي التي تبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت
أمارة.
قال: وهذا النوع لا تتعلق به المصالح العامة من عالم الملك
والشهادة, بل تختص فائدته بصاحبه دون غيره, إذ لم تكن له ثمرة
السراية إلى الغير على طريق العموم, وإن كانت له فائدة تتعلق
بالاعتبار على وجه خاص, قال: وإنما لم تكن له السراية إلى
الغير على طريق العموم عن مفاتيح الملك لكون محلها النفس,
وقربها من
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء حديث "3469" عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه قد كان فيما مضى قبلكم
من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه ممنهم فإنه عمر بن
الخطاب" .
(4/401)
الأرض والعالم السفلي, بخلاف المرتبة
الأولى, وهو الوحي الذي قام [بنقله] الملك الملقى, لأن محله
القلب المجانس للروح الروحاني العلوي.
قال: وبينهما ثالثة وهي النفث في الروع يزداد بها القلب علما
بالله وبإدراك المغيبات, وهي رحمة خاصة تكون للأولياء فيها
نصيب, وإنما يكون بعثا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يتصل بروح القدس, وترد عليه كموجة ترد على البحر, فيكشف لرسول
الله صلى الله عليه وسلم جبريل عقب ورودها على جبريل عليه
السلام, فتصير الرحمة بواسطة جبريل واصلة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بنفث في روعه. انتهى.
واحتج غيره بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "قد كان
في الأمم محدثون, فإن يكن في أمتي أحد فعمر" قال ابن وهيب:
يعني ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب": جاء في الحديث
تفسيره أنهم الملهمون, والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء
فيخبر به حدسا وفراسة, وهو نوع يخص الله به من يشاء من عباده,
كأنهم حدثوا بشيء فقالوه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس" 1
فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الشبه والريب قال الغزالي:
واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح الشيء, أما حيث حرم فيجب
الامتناع, ثم لا يعول على كل قلب, فرب موسوس ينفي كل شيء, ورب
مساهل نظر إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين, وإنما
الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال, فهو
المحك الذي تمتحن به حقائق الصور, وما أعز هذا القلب.
وقال البيهقي في شعب الإيمان": هذا محمول على أنه يعرف في شأنه
من علم الغيب ما عسى يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من
ذلك, كما ورد في بعض طرق الحديث: "وكيف يحدث؟ قال: يتكلم الملك
على لسانه" وقد روي عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث:
يعني يلقى في روعه.
تنبيه:
لا يخفى أن المراد بهذا في غير الأنبياء عليهم السلام, وإلا
فمن جملة طرق الوحي الإلهام.
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في سننه "4/227" حديث "18028" ورواه
الدارمي "2/320" في كتاب البيوع باب دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك حديث "2533".
(4/402)
الهاتف الذي يعلم
أنه حق
مثل الذي سمعوه يأمر بغسل النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه
كذا أورده صاحب المسودة "في ذيل الأدلة المختلف فيها قال: لكنه
من باب الفضائل.
وكذلك ما استخاره الله تعالى لنبيه, كقول العباس في حدو
الصارخ: اللهم خر لنبيك1, وهي بمنزلة القرعة فعله تكريما له
قلت: وقد صنف ابن أبي الدنيا كتابا في الهواتف, وصدره بحديث
"هتف جبريل بين السماء والأرض".
ـــــــ
1 الحديث رواه أحمد في مسنده "1/292" حديث "2661" عن ابن عباس
قال: "كان بالمدينة رجلان يحفران القبور أبو عبيدة بن الجراح
يحفر لأهل مكة وأبو طيحة يحفر للأنصار ويلحد لهم فال" فلما فبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعق العباي رحلين إليهما فقال:
اللهم خر لنبيك فوجدوا أبا طلحة ولم يجدوا أبا عبيدة فحفر له
ولحد" والحديث رواه ابن ماجة "1/496" برقم "1557" عن أنس بن
مالك وهو حديث حسن صحيح وفوله "اللهم خر لنبيك" يعني اختر له
من يحفر له فبره ويدفنه.
(4/403)
رؤيا النبي صلى الله
عليه وسلم
في النوم, على وجه حكاه الأستاذ أبو إسحاق, يكون حجة ويلزمه
العمل به, وقد سبق فيه مزيد بيان في صدر الكتاب والصحيح أن
المنام لا يثبت حكما شرعيا ولا بينة, وإن كانت رؤيا النبي صلى
الله عليه وسلم حقا, والشيطان لا يتمثل به2, ولكن النائم ليس
من أهل التحمل والرواية لعدم تحفظه.
وأما المنام الذي روي في الأذان3, وأمر النبي صلى الله عليه
وسلم بالعمل به, فليس الحجة فيه المنام, بل الحجة فيه أمره
بذلك في مدارك العلم.
ـــــــ
2 يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري كتاب العلم باب إثم من
كذب على النبي صلى الله عليه وسلم حديث "110" ولفظه "ومن رآني
في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" ورواه مسلم
كتاب الرؤيا حديث "22669".
3 يشير إلى الحديث الذي رواه أبو دود في سننه "1/135"كتاب
الصلاة باب كيف الأذان حديث "499" عن عبد الله بن زيد الصحابي
فال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب
به للناس لجمع الصلاى طاف بي –وأنانائم- رجل يحمل ناقوسا في
يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ فقلت
ندعو به إلى الصلاى قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت
لع بلى قال: فقال: الله أكير الله أكير ابلله أكير ...وفيه أن
النبي صلى الله عليه وسلم فال لههعندما قصها عليه: "إنها لرؤيا
حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإن
أندى صوتا منك ...الحديث ورواه الترمذي كتاب الصلاة باب ما جاء
في بدء الأذان حديث "189" وهو حديث حسن صحيح.
(4/403)
|