البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية التقليد
التقليد
...
التقليد
مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها, ومنه: قلدت الهدي: فكأن
الحكم في تلك الحادثة قد جعل كالقلادة في عنق من قلد فيه.
واختلفوا في حقيقته1, هل هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من
أين قاله؟, أي من كتاب أو سنة أو قياس. أو قبول القول من غير
حجة تظهر على قوله؟ وجزم القفال في "شرح التلخيص" بالأول,
والشيخ أبو حامد في تعليقه "والأستاذ أبو منصور بالثاني, وعليه
ابن الحاجب وغيره. وتنبني عليهما مسألتان:
المسألة الأولى: أن العمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم هل
يسمى تقليدا؟ وفيه وجهان, فإن قلنا بالثاني فلا يسمى تقليدا,
لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم نفس الحجة, كذا قال ابن
القطان وغيره, وتردد فيه ابن دقيق العيد, لأنه إن أريد بالسبب
الذي قيل فيه خصوص ذلك السبب وعينه فهذا متوجه يقتضي أن يكون
اتباعهم تقليدا. وإن أريد به أمر أعم من هذا, فإن قلنا: إن
الأنبياء لا يجتهدون فقد علمنا أن سبب أقوالهم الوحي فلا يكون
تقليدا أيضا على الأول. وإن قلنا: إنهم يجتهدون فقد علمنا أن
السبب أحد الأمرين: إما الوحي أو الاجتهاد. وعلى كل تقدير فقد
علمنا السبب, واجتهادهم معلوم العصمة.
قلت: ويشهد له أن القفال بنى الخلاف في تسميته مقلدا على
الخلاف في أنه هل كان عليه السلام يقول عن قياس؟ فإن كان يقوله
- وهو الأصح - فيقلد, لأنه لا يدرى أقاله عن وحي أو قياس, وإن
قلنا بالمنع فليس بتقليد. وقال القاضي الحسين في التعليق": لا
خلاف أن قبول قول غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة
والتابعين يسمى تقليدا. وأما قبول قوله عليه السلام فهل يسمى
تقليدا؟ وجهان ينبنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا؟
قلت: وذكر الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة في أول السلسلة
"أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليدا, فإنه قال في حق
الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ بقوله ما نصه: فإما أن
يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "70" المنخول ص "472" المستصقى "2/387".
(4/554)
انتهى. وخطأ الماوردي من قال إنه ليس
بتقليد, ولكن قال الروياني في البحر": أطلق الشافعي على جعل
القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدا ولم يرد حقيقة
التقليد, وإنما أراد القبول من السؤال عن وجهه. وفي وقوع اسم
التقليد عليه وجهان, قال: والصحيح من المذهب أنه يتناوله هذا
الاسم, وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ, وبه صرح إمام
الحرمين في "التلخيص" وقال: هو اختلاف في عبارة يهون موقعها
عند ذوي التحقيق.
واختار ابن السمعاني أنه لا يسمى تقليدا, بل هو اتباع شخص, لأن
الدليل قد قام في أن له حجة, فلا يكون قبول قوله قبول قول في
الدين من قائله بلا حجة. وأغرب القاضي في التقريب "فنقل
الإجماع على أن الآخذ بقول النبي عليه الصلاة والسلام, والراجع
إليه ليس بمقلد, بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين. فأما كونه
صائرا إلى دليل وعلم يقين فلا ريب فيه, وأما كونه لا يسمى
تقليدا فمردود بالخلاف السابق. وقد قال الشافعي رحمه الله: ولا
يجوز تقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا نص في أن
الرسول صلى الله عليه وسلم يقلد, بل وفي أنه لا يقلد سواه.
وأما القاضي فإنه أول كلام الشافعي وقال: لعله أراد بتقليده
عليه الصلاة والسلام أنه ليس لأحد أن يقول له: من أين قلت؟
ولا: لم قلت؟ ثم قال: فإن كان أراد هكذا فكذا أيضا جاء في
العامي مع المجتهد, فإنه لا يسأله: من أين قلت؟ وإذا لم يكن
العامي عنه مقلدا فلا يكون أيضا. هذا كذلك. وهذا الذي قاله
القاضي ممنوع. بل الأصحاب اختلفوا في كلام الشافعي على طرق:
" أحدها " تأويل من اعتقد أنه لا تقليد في اتباع الرسول, ولا
في اتباع العامي المجتهد. ورأس هذه الطائفة القاضي, وقد أوله
كما رأيت, وتبعه الغزالي. واتفقت هذه الطائفة على الاعتضاد
بهذا النص من الشافعي على أن اتباع العامي المجتهد ليس بتقليد,
فجرت على ظاهر قول الشافعي في المستثنى دون المستثنى منه,
وتصرفت في المستثنى بالتأويل إما مع الاعتراض, كالقاضي, أو لا
معه, كالغزالي.
و" ثانيها " فرقة اعتقدت أن العامي مقلد, وأن الأخذ بقول النبي
عليه السلام مقبول ليس بتقليد, وهذه الطائفة لم تجر على ظاهر
النص, لا في المستثنى ولا في المستثنى منه, ومنهم ابن السمعاني
فقال: هذا مذكور على طريق التوسع لا على طريق الحقيقة, ورأس
هذه الطائفة الشيخ أبو حامد الإسفراييني, فقال في أول "تعليقه"
إذا قلنا بقوله الجديد فلا يجوز تقليد أحد بحال. وأما قول
الشافعي في أدب القضاء": إنه
(4/555)
لا يجوز لأحد أن يقلد أحدا إلا الرسول. فمن
فهم منه أن قبول قوله يسمى تقليدا فقد غلط, وتقليد الرسول لا
يجوز. وإنما صورته صورة التقليد, وليس في الحقيقة تقليد, وذلك
أنه إن سئل عن شيء فأجاب كان جوابه في الصورة مثل أن يسأل
الشافعي فيجيب, لكن حقيقة التقليد قبول قول المجيب بغير دليل,
فجواب الشافعي لا يمكن هنا فلا بد فيه من الدليل, وجواب الرسول
بعينه حجة ودليل, فلا يكون مثله في الجواب. انتهى.
وذكر بعضهم للنص تأويلين:
" أحدهما " أن المعنى أنه لا يجوز لكل أحد تقليد أحد بعد
الرسول, بل يفترقون, فعالمهم لا يقلد, وعاميهم يقلد. وأما
الرسول فنسبة العالم والجاهل إليه سواء, والكل بالنسبة إليه
بمنزلة الجاهل عند المجتهد يأخذ بقوله تقليدا, بل لأنا قد
قلنا: إن للعامي سؤال العالم عن مأخذه, ولا كذلك الرسول [فليس]
لعامي ولا للعالم أن يقول له: لم؟ ولا: من أين؟ وهذا التأويل
أبقى لكلام الشافعي في المستثنى والمستثنى منه على ظاهره, وليس
فيه عمل إلا في تعميم قوله "أحد "على أن المعنى: كل أحد.
و" ثانيهما " إبقاء الكلام على ظاهره من كل وجه, وهو مبني على
أنه لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما المجتهد فلا
يقلد. وذلك أن معنى التقليد أن يلقي المرء المقاليد ويطرح كله
ويجعل اعتماده فيما يقع له من الحوادث وفي تفرق حملها على
الرسول والرجوع إليه في كل نائبة ندرة. وإنما تطمئن فيمن لا
يخطئ, وذلك هو من قوله حجة, وهو الرسول صلوات الله وسلامه
عليه.
فإن قلت: والرجوع إلى المجتهد رجوع إليه. قيل: ولكن لا وثوق
بصواب المجتهد. فإذا لا يقلد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل نهي الشافعي عن التقليد حيث قال
المزني: هذا مختصر اختصرته من علم الشافعي ومن معنى قوله, مع
علمه نهيه عن تقليده وتقليد غيره. انتهى. فعلى التأويل الأول :
يقلد, وعلى الثاني: لا يقلد فتواه. وأما دعوى القاضي الاتفاق
على أن الرسول لا يقلد فكان الحامل له على ذلك اعتقاده أن
المقلد شاك فيمن يقلده, وليس ذلك عندنا بل المقلد لا شك عنده,
لوثوقه بالمقلد الذي ألقى بتقاليده إليه, ولما تقارب الخلاف
زعم إمام الحرمين أنه لفظي, ولما اعتقد القاضي أن اتباع العامي
تقليد, وأن المقلد شاك مع التقليد, تبعا للشيخ أبي الحسن
الأشعري, وهي مسألة "إيمان المقلد" التي تعزى لأبي الحسن,
ولذلك أطلقنا الكلام في بيان معنى التقليد, ليخرج منه هذه
المسألة. ومن ثم عقد القاضي في
(4/556)
"التقريب" بابا في إمكان التقليد في جملة
أصوله وفروعه. ثم لما فرغ عقد بابا في أنه لا يجوز التقليد في
فروع الأحكام, كما لا يجوز في أصولها.
المسألة الثانية: في أن أخذ العامي بقول المجتهد, هل يسمى
تقليدا أم لا؟ فقيل: ليس بتقليد, لأنه لا بد له من نوع اجتهاد,
وبه جزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب. وحكاه العبادي
في زيادته "عن الأستاذ أبي إسحاق, لأنه بذل مجهوده في الأخذ
بقول الأعلم. وقال القاضي في مختصر التقريب": الذي نختاره أن
ذلك ليس بتقليد أصلا, فإن قول العالم حجة في حق المستفتي. نصبه
الرب علما في حق العامي, فأوجب عليه العمل به, كما أوجب على
المجتهد العمل باجتهاده, واجتهاده علم عليه.
ويتخرج من هذا أنه لا يتصور تقليد مباح في الشريعة, لا في
الأصول ولا في الفروع. إذ التقليد على ما عرفه القاضي: اتباع
من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند إلى علم. قال: ولو ساغ تسمية
العامي مقلدا مع [أن] قول العالم في حقه واجب الاتباع جاز أن
يسمى المتمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلدا. قال القاضي:
ولأنه يستند إلى حجة قطعية وهو الإجماع, فلا يكون تقليدا. وهذا
بناء منه على أحد تفسيري التقليد.
وذهب معظم الأصوليين - قاله إمام الحرمين - إلى أنه مقلد له
فيما يأخذه, لأنا إن فسرناه بقبول القول بلا حجة فقد تحقق ذلك,
إذ قوله في نفسه ليس بحجة, وإن فسرناه بقبول القول مع الجهل
بمأخذه فهو متحقق في قول المفتي أيضا. قال ابن السمعاني: ولعله
الأولى, لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه من الحكم قبل, والإجماع
سبق القاضي. على أن العوام يقلدون المجتهدين, ولو لم يكن
تقليدا فليس في الدنيا تقليد. ومن نظر كتب العلماء والخلافيين
وجدها طافحة بجعل العوام مقلدين, ولهذا قال في "المستصفى"
بعدما ذكر أن العامي إذا أخذ بقول المجتهد فهو ظان صدقه, والظن
معلوم, ووجوب الحكم عند الظن, وهذا علم قاطع, والتقليد جهل.
فإن قيل: قد رفعتم التقليد من البين. وقال الشافعي: لا يحل
لأحد تقليد أحد سوى الرسول, فقد أثبت تقليدا. قلنا: قد صرح
بإبطال التقليد إلا ما استثنى, فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء,
وقبول خبر الواحد, وشهادة العدول تقليدا. نعم, يجوز تسمية قول
الرسول تقليدا توسعا واستثناء من غير جنسه. ووجه التجوز أن
يقول: قوله وإن كان حجة دلت على صدقه جملة فلا يطلب منه حجة
على غير تلك المسألة, فكان
(4/557)
تصديقا بغير حجة خاصة, ويجوز أن يسمى ذلك
تقليدا مجازا. انتهى. وهذا أخذه من كلام القاضي, ولا يوافق على
أن رجوع العامي ليس بتقليد, والقاضي إنما قال ذلك بناء على أن
المقلد شاك. ولم يقتصر الآمدي وابن الحاجب على ما فعل القاضي
والغزالي بل زادا: لو سمى مسم الرجوع إلى من قوله حجة تقليدا
فلا مشاحة في التسمية. قلت: وبذلك صرح القاضي في التقريب
"أيضا. وهذا صحيح على قولنا. أما على قول القاضي والآمدي أن
المقلد شاك فيمن يقلده فلا تنبغي هذه التسمية, لخروجها عن وضع
اللسان. ومن اعتقد أن المقلد شاك فينبغي أن يمنع من تسمية
الرسول مقلدا, وإذا عرفت المدارك هانت المسالك.
واعلم أن القاضي والغزالي يقولان: لا تقليد في الدنيا. وأما
الآمدي فيقول: لا تقليد في رجوع المرء إلى قول العامي,
والمجتهد إلى قول مثله, يعني حيث لا يجوز له الأخذ به. وإنما
قلنا ذلك ليخرج الأخذ بقوله عند ضيق الوقت ونحوه, مما جوزه
قوم. واعترض الآمدي - تبعا للغزالي - بأنه لو سمى مسم الرجوع
إلى الرسول وإلى الإجماع والمفتي والشهود تقليدا بعرف
الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ, وابن الحاجب تبع الآمدي, وكذا
ابن الصلاح صرح بما يوافقهم حكما. غير أنه أتى بغير تعريفهم
للتقليد. وما صرح به من أن رجوع العامي إلى المفتي ليس بتقليد
مع دعواه في كتاب أدب الفتيا "من منازعة الشيخ أبي علي وأمثاله
من كونهم ليسوا مقلدين للشافعي فعجب, إذ كيف يقضى على أبي علي
- وهو الحبر - بالتقليد, ولا يقضى بذلك على العامي الصرف, وما
ذاك إلا أنه وقت التعريف مع الغزالي, وعند الانفصال جرى على ما
هو مقرر عند الفقهاء من أن رجوع العامي إلى المجتهد تقليد.
وقد يأخذ المجتهد بقول مجتهد, ولكن تسمية ذلك أخذا مجاز, لأنه
إنما أخذه منه لما أداه إليه نظره, لا لكون ذلك قاله, وإنما
سمي القول قوله - إن سمي - لسبقه إليه كما نقول أخذ الشافعي
بقول مالك, أو بقول أبي حنيفة في مسائل سبقاه إلى القول بها.
ومن تبحر في مذهب إمام ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فأفتى على مذهب
ذلك الإمام كان المستفتي مقلدا لذلك الإمام, لا للمفتي. حكاه
القاضي الحسين عن شيخه القفال. ذكره في الكافي, وجزم به إمام
الحرمين في الغياثي.
وقال الرافعي إنه المشهور للأصحاب, إلا أن أبا الفتح الهروي
أحد أصحاب الإمام صرح بأنه يقلد المتبحر في نفسه. وقال ابن
الصلاح: ينبغي تخريج هذا على
(4/558)
الخلاف في أن ما يخرجه أصحابنا على مذهب
الشافعي هل يجوز أن ينسب إليه؟ وفيه خلاف, والمختار أنه لا
يجوز.
مسألة
قال ابن فورك: أقمنا الدلالة على أن التقليد ليس من طرق العلم
بوجه, لأن الرجوع إلى الدعوى لا يثمر علما, لأن صورة دعوى
المحق صورة دعوى المبطل, وإنما يثمر بالدليل.
مسألة
قال الروياني في "البحر": قيل: من يجوز تقليدهم أربعة أصناف:
أحدها - النبي عليه الصلاة والسلام, بناء على أن قوله يسمى
تقليدا, وهو الأصح, لقيام الدليل على صدقه, والثاني - المخبر
عن الرسول. والثالث - المجمعون على حكم, فتقليدهم فيما أجمعوا
عليه واجب. والرابع الصحابة على أحد القولين. وحكى ابن
السمعاني وجهين في تسمية خبر الواحد تقليدا, قال: وأولاهما أنه
لا يسمى تقليدا, لأنه لا يقع التسليم لقوله إلا بعد الاجتهاد
في عدالته فصار قوله مقبولا بدليل. قال: وأما تقليد الأمة إذا
قالت قولا عن إجماع فهو حجة. وقال المتأخرون: الرجوع إلى قول
الرسول والإجماع, والقاضي إلى البينة, ليس بتقليد. قلت:
والخلاف يرجع إلى عبارة كما سبق1.
ـــــــ
1 اتظر المنخول ص "472" مختصر ابن الحاجب "2/305" الإحكام لابن
حزم "1/37" الإحكام للآمدي "4/221" المسودة ص "553".
(4/559)
فصل: أقسام التقليد
...
فصل
التقليد ينقسم إلى قسمين:
أحدهما : أن يكون المقلد عالما بأن الذي يقلده لا يخطئ, فيما
قلده فيه, فيلزمه القبول بمجرده, كقبول الأئمة عن الرسول
الأحكام, وقبول قول المجمعين.
قال الأستاذ: وأجمع أصحابنا على وجوب هذا القول, وإنما اختلفوا
في تسميته تقليدا.
والثاني : قبوله على احتمال الصواب والخطأ. والعلوم نوعان:
عقلي وشرعي. الأول: العقلي وهو المسائل المتعلقة بوجود الباري
وصفاته, واختلفوا فيها, والمختار أنه لا يجوز التقليد, بل يجب
تحصيلها بالنظر, وجزم به الأستاذ أبو منصور, والشيخ أبو حامد
الإسفراييني في تعليقه, وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح
الترتيب "عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف.
وقال أبو الحسين بن القطان في كتابه: لا نعلم خلافا في امتناع
التقليد في التوحيد.
وقال بعضهم: لو خشى المكلف أن يموت لم يجز التقليد. وحكاه ابن
السمعاني عن جميع المتكلمين, وطائفة من الفقهاء وقالوا: لا
يجوز للعامي التقليد فيها, ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل.
وقالوا: العقائد الأصولية عقلية, والناس مشتركون في العقل.
وقال: وأكثر الفقهاء على خلاف هذا, وقالوا: لا يجوز أن يكلف
العوام لاعتقاد الأصول بدلائلها, لما في ذلك من المشقة, ومثله
ما نقله صاحب العنوان "عن الفقهاء من جواز التقليد فيها, تأسيا
بالسلف, إذ لم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أجلاف العرب
بالنظر, ونازعه ابن دقيق العيد في هذا الاستدلال بأنه إذا أريد
بالنظر المصطلح, من ترتيب المقدمات فلا يعتبر اتفاقا وإن أراد
أنه لم يحصل لهم النظر في نفس الأمر, من غير هذا الترتيب
والاصطلاح ممنوع, وكيف وقد شاهدوا المعجزة, وأحوال الرسول,
والقرائن التي شاهدوها أفادتهم القطع.
وقيل: بل يجب التقليد, والاجتهاد فيه حرام, ونقله صاحب
"الأحوذي" عن الأئمة الأربعة وقال إمام الحرمين في الشامل": لم
يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة, وقال الإسفراييني: لم
يخالف فيه إلا أهل الظاهر. وقال القرافي: وسألت
(4/560)
الحنابلة فقالوا: مشهور مذهبنا منع التقليد
والغزالي يميل إليه, وحكاه القاضي عياض في "الشفاء" عن غيره.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: ذهب قوم من كتبة الحديث, أن طلب
الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب, وإنما الغرض هو الرجوع
إلى قول الله ورسوله, ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا, وإن
الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه, وإنما وهو طريق إلى
حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد, فمن حصل له هذا الاعتقاد
الذي لا شك فيه, من غير دلالة, فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة
طلب الأدلة, ومن أحسن الله إليه, أنعم عليه بالاعتقاد الصافي
من الشبهة والشكوك, فقد أنعم عليه بأكل أنواع النعم وأحلها,
حتى لم يكله إلى النظر والاستدلال, لا سيما العوام, فإن كثيرا
منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن شاهد ذلك بالأدلة.
ومن كان هذا وصفه, كان مقلدا في الدليل, غير أن أصحابنا
أجمعوا, على أن هذا الاعتقاد يجب أن يكون في النيات, بحيث لا
يرد عليه من الشبهة. إلا ما يرد على صاحب الاستدلال, وجزم
الأستاذ أبو منصور بوجوب النظر, ثم قال: فلو اعتقد من غير
معرفة بالدليل, فاختلفوا فيه, فقال أكثر الأئمة: إنه مؤمن من
أهل الشفاعة, وإن فسق بترك الاستدلال, وبه قال أئمة الحديث,
وقال الأشعري وجمهور المعتزلة: لا يكون مؤمنا, حتى يخرج فيها
عن جملة المقلدين. انتهى.
وقد اشتهرت هذه المقالة عن الأشعري, أن إيمان المقلد لا يصح,
وقد أنكر أبو القاسم القشيري, والشيخ أبو محمد الجويني,
وغيرهما من المحققين صحته عنه, وقيل: لعله أراد به قبول قول
الغير بغير حجة, فإن التقليد بهذا المعنى قد يكون ظنا, وقد
يكون وهما, فهذا لا يكفي في الإيمان.
أما التقليد بمعنى الاعتقاد الجازم لا الموجب, فلم يقل أحد أنه
لا يكفي في الإيمان, إلا أبو هاشم من المعتزلة وإذا منعنا
التقليد في ذلك قال الأستاذ أبو إسحاق: فاتفقوا على أنه لا يجب
أن يبلغ فيه رتبة الاجتهاد, بحيث يحل له الفتوى في الحكم.
وقال ابن السمعاني: إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله
المتكلمون, بعيد جدا عن الصواب, ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من
العوام من يعرف ذلك؟ ويصدر عقيدته عنه؟ كيف وهم لو عرضت عليهم
تلك الأدلة لم يفهموها, وإنما غاية العامي, أن يتلقى ما يريد -
أن يعتقده ويلقى [به] ربه - من العلماء, ويتبعهم في ذلك
ويقلدهم, ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والإدخال, ثم يعض
عليها بالنواجذ,
(4/561)
فلا يحول, ولا يزول, ولو قطع إربا, فهنيئا
لهم السلامة, والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام,
والورطات التي تغولها, حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك,
ودخلت عليهم الشبهات العظيمة وصاروا متجرئين, ولا يوجد فيهم
متورع عفيف إلا القليل, فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة, وأرسلوها
في صفات الله تعالى بجرأة وعدم مهابة وحرمة, ففاتهم ورع سائر
الجوارح, وذهب عنهم بذلك ورع اللسان, والإنسان كالبنيان يشد
بعضهم بعضا, فإذا خرب جانب منه, تداعى سائره إلى الخراب, ولأنه
ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه, إلا ولخصومهم عليه من
الشبهة القوية.
ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به رد
الخاطر, وإنما المنكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول,
بالطريق الذي اعتقدوا, وساموا به الخلق, وزعموا أن من لم يفعل
ذلك لم يعرف الله تعالى, ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام
أجمع, وهذا هو الخطيئة الشنعاء, والداء العضال, وإذا كان
السواد الأعظم هم العوام, وبهم قوام الدين, وعليهم مدار رحى
الإسلام, ولعل لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة
ألف, من يقوم بالشرائط التي تعتبرونها, إلا العدد القليل الشاذ
الشارد النادر, ولعله لا يبلغ عقد العشرة, فمن يجد المسلم من
قبله, أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع, ويعتقد أنهم لا عقيدة
لهم في أصول أصلا, وإنهم أمثال البهائم. انتهى.
الثاني : الشرعي: وهو المتعلق بالفروع والمذاهب وفيه ثلاثة:
فرقة أوجبت التقليد وفرقة حرمته وفرقة توسطت.
[الأول] فذهب بعض المعتزلة إلى تحريم التقليد مطلقا, كالتقليد
في الأصول, ووافقهم ابن حزم, وكاد يدعي الإجماع على النهي عن
التقليد, قال ونقل عن مالك أنه قال: "أنا بشر أخطئ وأصيب,
فانظروا في رأيي, فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به, وما لم
يوافق فاتركوه" وقال عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت
فيها برأي سوطا, على أنه لا صبر لي على السياط قال: فهذا مالك
ينهى عن تقليده, وكذلك الشافعي وأبو حنيفة, وقد ذكر الشافعي عن
النبي صلى الله عليه وسلم حديثا, فقال بعض جلسائه: يا أبا عبد
الله, أتأخذ به؟ فقال له: أرأيت علي زنارا؟ أرأيتني خارجا من
كنيسة؟ حتى تقول لي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أتأخذ
بهذا"؟ ولم يزل رحمه الله في كتبه ينهى عن تقليده وتقليد غيره,
هكذا رواه المزني في أول "مختصره "عنه.
وهذا الذي قاله ممنوع, وإنما نهوا المجتهد خاصة عن تقليدهم,
دون من لم يبلغ
(4/562)
هذه الرتبة, قال القرافي: مذهب مالك وجمهور
العلماء وجوب الاجتهاد, وإبطال التقليد لقوله: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] واستثنى مالك أربع
عشرة صورة للضرورة: وجوب التقليد على العوام, وتقليد القائف,
إلى آخر ما ذكره.
والثاني يجب مطلقا, ويحرم النظر, ونسب إلى بعض الحشوية.
والثالث : وهو الحق, وعليه الأئمة الأربعة وغيرهم يجب على
العامي, ويحرم على المجتهد, وقول الشافعي وغيره: "لا يحل تقليد
أحد" مرادهم على المجتهد, قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي,
الرجل يكون عنده الكتب المصنفة, فيها قول الرسول واختلاف
الصحابة والتابعين, وليس له بصيرة بالحديث الضعيف المتروك ولا
الإسناد القوي من الضعيف, هل يجوز أن يعمل بما شاء ويفتي به؟
قال: لا يعمل حتى يسأل أهل العلم عما يؤخذ به منها. قال القاضي
أبو يعلى: ظاهر هذا أن فرضه التقليد والسؤال إذا لم يكن له
معرفة بالكتاب والسنة. انتهى.
وأما تحريمه على المجتهد, فلقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:
59] يعني كتاب الله وسنة رسوله بالاستنباط وفي حديث معاذ
المتلقى بالقبول لما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "بم
تحكم"؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد, قال أجتهد رأيي ولا آلو فقال: "الحمد لله
الذي وفق رسول رسوله, إلى ما يرضاه رسول الله" . قالوا فصوبه
في ذلك, ولم يذكر من جملته التقليد, فدل ذلك على أن التقليد
يحرم على العلماء الذين هم من أهل الاجتهاد والاستنباط, ولهذا
قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
[النساء: 83].
قال المزني في كتابه فساد التأويل: توفيق الله تعالى لمعاذ في
اجتهاده لما يرضاه رسوله عندنا إنما هو لنظر الكتاب والسنة ولو
كان تأويله أفرض ما رأيت في الحادثة, لوجب فرض ذلك على جميع
الناس.
قال: وقد ذم الله التقليد في غير ما آية كقوله: {إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] وقوله:
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا
وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] وقال
تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً
مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وفي الحديث "إن الله لا يقبض
العلم انتزاعا وإنما يقبض العلم بقبض
(4/563)
العلماء" 1 قال: ويقال لمن حكم بالتقليد:
هل لك من حجة فإن قال: نعم, أبطل التقليد, لأن الحجة أوجبت ذلك
عنده لا التقليد وإن قال بغير علم, قيل له: فلم أرقت الدماء,
وأبحت الفروج والأموال, وقد حرم الله ذلك إلا بحجة. فإن قال:
أنا أعلم أني قد أصبت, وإن لم أعرف الحجة, لأن معلمي من كبار
العلماء. قيل له: تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك, لأنه
لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمه كما لم يقل معلمك إلا بحجة قد
خفيت عنك, فإن قال: نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه,
وكذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة, فإن أبى ذلك نقض قوله,
وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما, ولا يجوز تقليد
من هو أكبر وأغزر علما وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أنه حذر من زلة العالم2. وعن ابن مسعود. رضي الله عنه
أنه قال "لا يقلدن أحدكم دينه, رجلا, فإن آمن آمن وإن كفر كفر
فإنه لا أسوة في الشر"3.
وأما وجوبه على العامة, فلقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وقوله:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}
[التوبة: 122] فأمر بقبول قول أهل العلم فيما كان من أمر
دينهم, ولولا أنه يجب الرجوع إليهم لما كان للنذارة معنى,
ولقضية الذي شج, فأمروه أن يغتسل, وقالوا: لسنا نجد لك رخصة
فاغتسل ومات فقال النبي عليه السلام: "قتلوه قتلهم الله, إنما
كان شفاء العي السؤال" 4 فبان بذلك جواز التقليد.
ـــــــ
1 رواه البخاري كتاب العلم باب كيف يقبض العلم حديث "100" عن
عبد الله بن عمر بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس
رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" ورواه مسلم
حديث "2673".
2 روي ذلك من قول عمر رضي الله عنه موقوفا رواه الدارمي في
سننه "1/82" في المقدمة باب في كراهة أخذ الرأي حديث "214" عن
زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال:
قلت: لا قال: "يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم
الأئمة المضلين".
3 رواه الطبراني في الكبير "9/152" حديث "8764" موقوفا على ابن
مسعود كما قال المصنف ورواه البيهقي في الكبير "2/10" حديث
"2070" وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد "1/181" وقال: رواه
الطبراني في الكبير وفيه المسعود وقد اختلط وبقية رجاله ثقات.
4 الحديث رواه أبو داود "1/93" كتاب الطهارة باب في المجروح
يتيمم حديث "336" عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا
حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة
في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل
فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال:
"قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي
السؤال..." الحديث وهذا القدر منه صحيح.
(4/564)
قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن طلب
العلم من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض, سقط عن
الباقين, ولو منعنا التقليد, لأفضى إلى أن يكون من فروض
الأعيان. ونقل غير واحد إجماع الصحابة فمن بعدهم عليه, فإنهم
كانوا يفتون العوام, ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد, ولأن
الذي يذكره المجتهد له من الدليل, إن كان بحيث لا يكفي في
الحكم فلا عبرة به, وإن كان يذكر له ما يكفي, فأسند إليه الحكم
في مثل ذلك, التزمه قطعا وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد
الملك, في بعض مؤلفاته: لو وجب على الكافة التحقيق دون التقليد
أدى ذلك إلى تعطيل المعاش, وخراب الدنيا, فجاز أن يكون بعضهم
مقلدا, وبعضهم معلما, وبعضهم متعلما, ولم ترفع درجة أحد في
الجنان لدرجة العلماء والمتعلمين ثم درجة المحبين وقال: المصير
في الموجب لتقليد العامي للعالم, عدم آلة الاستنباط وتعذرها
عليه في الحال, والتماس أصول ذلك, فلو تركه حتى يعلم جميعها,
ويستنبط منها لتعطلت الفرائض من العالم حتى يصيروا كلهم علماء,
وهذا فاسد, فرخص له في قبول قول العالم الباحث. ولا يجوز له
قبول قول من هو مثله, ومن هذا امتنع تقليد المجتهد لمثله, لأن
المعنى الموجب لدفع التقليد وجود الأدلة وهو متمكن منها.
قلت: والفرق بينه وبين العقائد, أن المطلوب في العقائد العلم,
والمطلوب في الفروع الظن, والتقليد قريب من الظن, ولأن العقائد
أهم من الفروع والمخطئ فيها كافر.
وأورد الإمام فخر الدين شبهة للمانعين من التقليد, قال: إنهم
يمنعون العمل بالإجماع وخبر الواحد والقياس, ويتمسكون
بالظواهر, ويقولون: حكم العقل في المنافع الإباحة, وفي المضار
الحرمة, ولا يترك هذا إلا لنص قاطع المتن والدلالة والعامي
الذكي يعلم ذلك وإلا نبهه المفتي عليه, وعلى النص القاطع في
الواقعة إن جهله, ولا يقال معرفة ذلك تمنعه من المعاش والمصالح
التي الاشتغال عنها يفضي إلى خراب العالم, لأنه يقتضي إيجاب
معرفة أصول الدين, ولا يجاب بأن الواجب معرفة أدلة النبوة
والتوحيد جملة وهي سهلة, بخلاف الفروع لكثرتها وتشعبها, لأنه
إن لم يعلم جميع مقدمات الدليل الجلي, فقد قلد في بعضها, فيكون
مقلدا في النتيجة, وإن علمها وما يرد فقد حصل الاشتغال. وجوابه
على تقدير تسليم تقليل الأدلة, فذلك يحتاج إلى تأمل وممارسة,
وهو مفقود في العامي. إذا علمت هذا فلا بد من تقسيم يجمع أفراد
المسألة, ويضبط شعبها, فنقول: العلوم نوعان:
(4/565)
نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة, ويعلم
من الدين بالضرورة, كالمتواتر, فلا يجوز التقليد فيه لأحد,
كعدد الركعات, وتعيين الصلاة, وتحريم الأمهات والبنات, والزنى,
واللواط, فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته, ولا يشغله عن
أعماله, وكذا في أهلية المفتي.
ونوع مختص معرفته بالخاصة, والناس فيه ثلاثة ضروب: مجتهد,
وعامي, وعالم لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
أحدها: العامي الصرف:
والجمهور على أنه يجوز له الاستفتاء, ويجب عليه التقليد في
فروع الشريعة جميعها, ولا ينفعه ما عنده من العلوم لا تؤدي إلى
اجتهاد, وحكى ابن عبد البر فيه الإجماع, ولم يختلف العلماء أن
العامة عليها تقليد علمائها, وأنهم المرادون بقوله:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
قال: وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره في القبلة,
نقل لك من لا علم له ولا بغيره بمعنى ما يدين به. انتهى.
ومنع منه بعض معتزلة بغداد, كالتقليد في الأصول, وقالوا: يجب
عليه الوقوف على طريق الحكم وعلته, ولا يرجع إلى العالم, إلا
لتنبيهه على أصولها, ونقله القاضي عبد الوهاب, عن الجعفر بن
مبشر, وابن حرب منهم عن الجبائي: يجوز في المسائل الاجتهادية
دون ما طريقه القطع, فإنه يصير مثل العقليات ونحوه.
قول الأستاذ: يجب عليه تحصيل علم كل مسألة في الفقه يدركها
القطع, ويجوز له التقليد في ظنياته إلى القطعيات, الفروع
بالأصول.
وحكى ابن برهان الخلاف على وجه آخر, فقال: من صار له التقليد,
لم يجب عليه السؤال عن الدليل, ونقل عن أبي علي الجبائي أنه
قال: يجب عليه أن يعلم كل مسألة بدليلها. وصار بعض الناس إلى
أن المسائل الظاهرة يجب عليه معرفتها دون الخفية. انتهى.
وإذا قلنا بأن وظيفة العامي التقليد جاء الخلاف السابق أنه هل
هو تقليد حقيقة؟ فالقاضي يمنعه ويقول إنما مستدل, لأن الله
تعالى أوجب عليه اتباع العالم, وهو خلاف يرجع إلى العبارة, لأن
القائل بالتقليد لم ير إلا هذا, ولكن لسان حملة الشريعة جرى
على صحة إطلاق التقليد للعامي, والنهي عن إطلاق الاجتهاد عليه.
الثاني : العالم الذي حصل بعض العلوم المعتبرة ولم يبلغ رتبة
الاجتهاد:
فاختار ابن الحاجب وغيره أنه كالعامي الصرف, لعجزه عن
الاجتهاد. وقال
(4/566)
قوم: لا يجوز ذلك ويجب عليه معرفة الحكم
بطريقه, لأن صلاحية معرفة الأحكام بخلاف غيره. ويجيء عليه
الخلاف السابق عن الجبائي والأستاذ هنا من باب الأولى.
وما أطلقوه من إلحاقه هنا بالعامي فيه نظر. لا سيما أتباع
المذاهب المتبحرين, فإنهم لم ينصبوا أنفسهم نصبة المقلدين. وقد
سبق قول الشيخ أبي علي وغيره من أصحابنا: لسنا مقلدين للشافعي
وكذلك الإشكال في إلحاقهم بالمجتهدين, إذ لا يقلد مجتهد
مجتهدا. ولا يمكن أن يكون واسطة بينهما. لأنه ليس لنا سوى
حالتين.
قال ابن المنير: والمختار أنهم مجتهدون ملتزمون أن لا يحدثوا
مذهبا. أما كونهم مجتهدين فلأن الأوصاف قائمة بهم. وأما كونهم
ملتزمين أن لا يحدثوا مذهبا فلأن إحداث مذهب زائد بحيث يكون
لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر
الوجود, لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب. نعم, لا يمتنع
عليهم تقليد إمام في قاعدة, إذا ظهر له صحة مذهب غير إمامه في
واقعة لم يجز له أن يقلد إمامه, لكن وقوع ذلك مستبعد, لكمال
نظر من قبله. وسبق في آخر الكلام على شروط المجتهد كلام لابن
دقيق العيد يتعلق بما نحن فيه.
الثالث: أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد:
فإن كان اجتهد في الواقعة فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين
فيها, خلاف ما ظنه, بلا خلاف, لأن ظنه لا يساوي الظن المستفاد
من غيره, والعمل بأقوى الظنين واجب. و [لو] خالف وحكم بخلاف
ظنه فقد أثم, وإن كان مذهبا لغيره. وهل ينتقض حكمه؟ فيه وجهان
للحنابلة, ذكره صاحب المستوعب", وهو يقدح في نقل ابن الحاجب
الاتفاق على بطلان حكمه. واستثنى القاضي أبو الطيب من هذا
القسم ما إذا كان حكما يجب هل أو عليه يحتاج في فصله إلى حاكم
بينهما باجتهاده, فيجوز له تقليده في هذه الصورة.
وإن لم يكن قد اجتهد ففيه بضعة عشر مذهبا1:
الأول - المنع منه مطلقا, وإليه ذهب الأكثرون, منهم القاضي أبو
الطيب وابن الصباغ, واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب. قال
الباجي: وهو قول أكثر أصحابنا, وهو الأشبه بمذهب مالك, وسواء
كان الوقت موسعا أو مضيقا, ونقله الروياني عن عامة الأصحاب,
وظاهر نص الشافعي, ذكره في أول البحر "وكذا نقله
ـــــــ
1 انظر الرسالة ص "115" المنخول ص "477" الإحكام للآمدي
"4/402".
(4/567)
الشيخ أبو حامد عن عامة الأصحاب خلا ابن
سريج, قال: وقال أبو إسحاق إنه مذهب الشافعي, ونقله الأستاذ
أبو منصور وأبو بكر الرازي عن أبي يوسف ومحمد, وهو النص لأحمد
بن حنبل.
والثاني: يجوز مطلقا, وعليه سفيان الثوري وإسحاق, وحكاه الشيخ
أبو حامد عن أبي حنيفة. وقال الأستاذ أبو منصور قال الكرخي:
يجوز في قول أبي حنيفة, وكذا حكاه عنه أبو بكر الرازي في أصوله
قال: ولهذا جوز تقليد القاضي فيما ابتلي به من الحكم. قال
القرطبي: وهو الذي ظهر من تمسكات مالك في الموطأ. وقال بعض
الحنابلة: حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن مذهبنا ذلك, ولا
نعرف.
والثالث - يجوز تقليد الصحابة فقط, ونقل عن الشافعي في القديم,
وكأنه أخذه من تقليده زيد بن ثابت وعثمان وغيرهما. وقد أجاب
الروياني بأن ذلك ليس تقليدا وإنما هو اتفاق رأيه لرأيهم وفيه
نظر, لأنه صرح في عثمان بالتقليد. ونقل الأستاذ أبو منصور
وإمام الحرمين عن أحمد أنه يجوز تقليد الصحابة ولا يقلد أحد
بعدهم غير عمر بن عبد العزيز. واستغربه بعض أئمة الحنابلة.
والرابع : يجوز تقليد الصحابة بشرط أن يكون أرجح في نظره من
غيره, فإن استووا في نظره فيها تخير في التقليد لمن شاء منهم,
ولا يجوز له تقليد من عداهم. وعزاه ابن الحاجب إلى الشافعي.
والخامس - يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم.
والسادس - يقلد من هو أعلم منه, ولا يقلد من هو مثله. ونقله
أبو بكر الرازي عن الكرخي وقال: إنه ضرب من الاجتهاد, ومن
يقويه رأي الآخر في نفسه على رأيه لفضل عليه فلم يخل في تقليده
إياه من استعمال الاجتهاد. ونقله القاضي في التقريب "والروياني
عن محمد بن الحسن, وكذا إلكيا. قال, وربما قال: إنهما سواء,
وعن هذا أوجب قوم تقليد الصحابة لأنهم أعلم, ونقله صاحب
المعتمد عن ابن سريج وشرط معه ضيق الوقت.
والسابع - يجوز التقليد فيما يتعلق بنفسه دون ما يفتي به, حكاه
ابن القاص عن ابن سريج, وهو يقتضي أنه لا يجوز له الحكم به من
باب أولى, وهو مبني على تصويب المجتهدين.
والثامن - يجوز تقليد مثله فيما يخصه إذا خشى فوات الوقت فيها
باشتغاله بالحادثة, وهو رأي ابن سريج, قال الشيخ أبو حامد: حكى
عنه أنه قال: إنهم إذا
(4/568)
كانوا في سفينة وخفيت عليهم جهة القبلة
قلدوا الملاحين. قال أبو العباس: وهذا مذهب الشافعي, لأنه قال
في الصلاة: فإن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى, وقد ثبت أن
الأعمى يقلد. ورد عليه أبو إسحاق بأنه جعله كالأعمى في الصلاة
يصلي على حسب حاله ثم يعيد, ليس في أنه يجوز له التقليد. وقد
حكى الروياني في البحر "هذا المذهب عن ابن سريج ثم غلطه. وقال
ابن دقيق العيد: وقيل, إن ضاق الوقت عن الاجتهاد فله ذلك. وهذا
قريب لأن المكنة التي جعلناها سببا لوجوب الاجتهاد قد تعذرت
بسبب تضيق الوقت. وقد نفى القفال الخلاف بين الأصحاب في المنع
من التقليد مع التمكن من الاجتهاد, ولكن المحكي عن ابن سريج
نقله عن صاحب "التلخيص" سماعا منه.
والتاسع - أنه لا يجوز لغير القاضي والمفتي في المشكل عليه.
حكاه القفال الشاشي عن بعض أصحابنا قال: لأنه في المشكل عليه
كالعامي, ولكن الحاكم لا ضرورة له إلى التقليد بما عنده من
الأقاويل وتولي غيره الحكم فيه. وكذلك المفتي يفوض ذلك إلى
غيره من أهل العلم, بخلاف المجتهد إذا حلت به نازلة, فإنه مضطر
إلى تعريف الحكم, فإذا اشتبه عليه ولم يصل إلى تعريف الحكم إلا
بتقليد غيره وجب عليه. وهو قريب من السابع.
والعاشر - أنه يجوز للقاضي دون غيره. وهذا ظاهر ما نقله
الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج, فإنه نصب الخلاف في حاكم تحضره
الحادثة ويضيق الوقت عن الاجتهاد. ونقل عن ابن سريج أنه يجوز
له أن يحكم بالتقليد ولا يفتي به إلا بعد اجتهاده, قال: وقال
أكثر أصحابنا: ليس له الحكم بالتقليد, كما ليس له الإفتاء,
وعليه أن يؤخر حتى يجتهد أو يستخلف من اجتهد فيه قبله. انتهى.
وقضيته أن المنع من الإفتاء محل وفاق. وجعل ابن كج في كتابه في
الأصول والشيخ أبو علي السنجي الخلاف في تقليده في حق نفسه,
فإن أراد أن يقلده ليفتي غيره أو يحكم به على غيره ولم يجز له
بالاتفاق.
وحكى الماوردي وابن الصباغ والبغوي والرافعي عن ابن سريج: إن
حضر ما ينوبه, كالحكم بين المسافرين وهم على الخروج جاز أن
يقلد غيره ويحكم. قال الرافعي: وينبغي أن يطرده في الفتوى.
وخالف ابن الرفعة وفرق بأن المستفتي بسبيل من تقليد المجتهد.
ولا ضرورة إذا ولا حاجة بإفتاء المقلد, ولا كذلك الحاكم, خصوصا
إذا منع من الاستخلاف.
(4/569)
الحادي عشر - الوقف. وبه يشعر كلام إمام
الحرمين, فإنه قال: يجوز في العقل ورود التعبد به, ولكن لم يقم
الدليل على وجوده. والأمران يسوغان في العقل وقد تبين في الشرع
وجوب أحدهما, وهو الإجماع على أن للمجتهد الاجتهاد, فهذا
الواجب لا يزول إلا بدليل, ونوزع في الإجماع فإن المجوز يقول:
الواجب إما الاجتهاد وإما التقليد, فحقيقة قوله الوقف.
فرع :
لو كان لمجتهد حكومة, فحكم حاكما فيها يخالف اجتهاده, فإنه
يتدين في الباطن بحكم الحاكم وبترك اجتهاده, سواء كان الحكم له
أو عليه, وليس هذا من موضع الخلاف, ذكره ابن برهان وغيره.
وقيل: يعمل في الباطن بنقيض اجتهاده, ذكره أبو الخطاب في
الانتصار "وعليه يتخرج أنه: هل يحل له أخذ ما كان حراما في
نظره؟ وينبغي أن يكون على الخلاف في أن حكم الحاكم هل يغير ما
في الباطن؟ فيه وجهان, ولهما التفات إلى أن المصيب واحد أم
لا؟.
(4/570)
مسألة: مجتهد
الصحابة إذا لم يجعل قوله حجة ففي تقليده في هذه الأعصار خلاف
...
مسألة :
مجتهد الصحابة إذا لم يجعل قوله حجة ففي جواز تقليده في هذه
الأعصار خلاف: ذهب إمام الحرمين وغيره أن العامي لا يقلده,
ونقله عن إجماع المحققين1, قالوا: وليس هذا لأن دون المجتهدين
دون الصحابة, معاذ الله: فهم أعظم وأجل قدرا, بل لأن مذهبهم لم
يثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع قد
طبقوا الأرض, ولأنهم لم يعتنوا بتهذيب مسائل الاجتهاد ولم
يقرروا لأنفسهم أصولا تفي بأحكام الحوادث كلها, بخلاف من بعدهم
فإنهم كفوا النظر في ذلك وسبروا ونظروا وأكثروا أوضاع المسائل.
ونازع المقترح وقال: لا يلزم من سبر الأئمة الأربعة وجوب
تقليدهم, لأن من بعدهم جمع سبرا أكثر منهم. وينبغي أن يتبع
المتأخرين منهم على قضية هذا. قال: إنما الظاهر في التعليل في
العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابة لكان فيه من المشقة عليهم
ما لا يطيقون من تعطيل معاشهم وغير ذلك, فلهذا سقط عنهم تقليد
الصحابة.
ـــــــ
1 انظر المنخول ص "474" الإحكام للآمدي "4/209" البرهان
"2/1146".
(4/570)
قلت: وسئل محمد بن سيرين فأحسن فيها
الجواب, فقال له السائل ما معناه: ما كانت الصحابة لتحسن أكثر
من هذا, فقال محمد: لو أردنا فقههم لما أدركه عقولنا. رواه أبو
نعيم في الحلية", ومال ابن المنير إلى ما قاله الإمام ولكن
لغير هذا المأخذ فقال ما حاصله: إنه يتطرق إلى مذهب الصحابة
احتمالات لا يتمكن العامي معها من التقليد:
من قوة عباراتهم واستصعابها على أفهام العامة.
ومنها: احتمال رجوع الصحابي عن ذلك المذهب, كما وقع لعلي وابن
عباس وغيرهما.
- ومنها: أن يكون الإجماع قد انعقد بعد ذلك القول على قول آخر.
- ومنها: أن لا يكون إسناد ذلك إلى الصحابة على شرط الصحة.
وهذا بخلاف مذاهب المصنفين فإنها مدونة في كتبهم وهي متواترة
عنهم بنقلها عن الأئمة, فلهذه الغوائل حجرنا على العامي أن
يتعلق بمذهب الصحابي.
ثم وراء ذلك غائلة هائلة, وهي أنه يمكن أن الواقعة التي وقعت
له هي الواقعة التي أفتى فيها الصحابي ويكون غلطا, لأن تنزيل
الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها للغلط.
وبالجملة فالقول بأن العامي لا يتأهل لتقليد الصحابة قريب من
القول بأنه لا يتأهل للعمل بأدلة الشرع ونصوصه وظواهره. إما
لأن قول الصحابي حجة على أحد القولين فهو ملحق بقول الشارع,
وإما لأنه في علو المرتبة يكاد يكون حجة, فامتناع تقليده لعلو
قدره لا لنزوله.
وأما ابن الصلاح فجزم في كتاب الفتيا "بما قاله الإمام وزاد
أنه لا يقلد التابعين أيضا ولا من لم يدون مذهبه, وإنما يقلد
الذين دونت مذاهبهم وانتشرت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص
عامها, بخلاف غيرهم فإنه نقلت عنهم الفتاوى مجردة, فلعل لها
مكملا أو مقيدا أو مخصصا, أو أنيط كلام قائله, فامتناع التقليد
إنما هو لتعذر نقل حقيقة مذهبهم.
وعلى هذا فينحصر التقليد في الأئمة الأربعة والأوزاعي وسفيان.
وإسحاق وداود على خلاف في داود حكاه ابن الصلاح وغيره, لأن
هؤلاء هم ذوو الأتباع. ولأبي ثور وابن جرير أتباع قليلة جدا.
وذهب غيرهم إلى [أن] الصحابة يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة
الاجتهاد, وهم بالصحبة يزدادون رفعة. وهذا هو الصحيح إن علم
دليله. وقد قال الشيخ عز الدين
(4/571)
في فتاويه "إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في
حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله". وقد
قال: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة, بل إن تحقق ثبوت مذهب
عن واحد منهم جاز تقليده وفاقا, وإلا فلا, [لا] لكونه لا يقلد,
بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت.
وقال ابن برهان: تقليد الصحابة ينبني على جواز الانتقال في
المذاهب فمن منعه قال: مذاهب الصحابة لم تكثر فروعها حتى يمكن
المكلف الاكتفاء بها فيؤديه ذلك إلى الانتقال, وهو ممنوع,
ومذاهب المتأخرين ضبطت, فيكفي المذهب الواحد المكلف طول عمره,
فيكمل هذا الحكم وهو منع تقليد الصحابة. وقال إلكيا, بعد أن
قرر منع الانتقال: الواحد منا لا يأخذ بمذهب الصحابة إذا كان
مقلدا, بل يأخذ بمذهب الشافعي أو غيره من أرباب المذاهب, من
حيث إن الأصول التي وضعها أبو بكر لا تفي بمجامع المسائل. وأما
الأصول التي وضعها الشافعي وأبو حنيفة فهي وافية بها. فلو قلنا
بتقليد الصديق في حكم لزم أن يرجع إليه في حكم آخر, وقد لا
يجده.
(4/572)
مسألة
القائلون بالتقليد أوجبوا التقليد في هذه الأعصار ومستندهم فيه
أنهم استوعبوا الأساليب الشرعية فلم يبق لمن بعدهم أسلوب
متماسك على السبر. ولهذا لما أحدثت الظاهرية والجدلية بعدهم
خلاف أساليبهم قطع كل محقق أنها بدع ومخارق لا حقائق.
لكن الجدلية يعترفون بأن الشريعة لا تثبت بتلك الأساليب
الجدلية, وإنما عمدتهم في استحداثها تمرين الأذهان وتفتيح
الأفكار. وأما كونهم يعتقدون أنها مستندات وحجج عند الله يلقى
بها فلا.
وأما الظاهرية فلما أحدثوا قواعد تخالف قواعد الأولين أفضت به
إلى المناقضة لمجلس الشريعة, ولما اجترءوا على دعوى أنهم على
الحق وأن غيرهم على الباطل أخرجوا من أهل الحل والعقد, ولم
يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء, وسبق في باب الإجماع الكلام
على أنه هل يعتد بخلافهم؟
وهذا كله يوضح أن الضرورة دعت المتأخرين إلى اتباع المتقدمين,
لأنهم سبقوهم بالبرهان حتى لم يبقوا لهم باقية يستبدون بها,
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, ولكن الفضل للمتقدم, وظهر بهذا
تعذر إثبات مذهب مستقل بقواعد.
(4/572)
مسألة: قال الجويني:
إذا أراد أن ينتحل نحلة الشافعي أو غيره فلا بد له من نوع
اجتهاد
...
مسألة :
قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب المحيط": إذا أراد أن
ينتحل نحلة الشافعي أو غيره فلا بد له من نوع اجتهاد, وسهل ذلك
على العامي, فإنه إذا قيل له: فلان يتبع السنن وفلان يخالفها
بالرأي والاستحسان ثم قال بعد كلام له: خرج لنا من هذا أن
الجهال ممنوعون من التقليد في شيئين: "أحدهما" أصل التوحيد, و
"الثاني" أصل المذهب.
وقال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب": اختلف الناس فيما
اختلف فيه العلماء أنه ما الذي أوجب على قوم اختيار مذهب من
المذاهب دون غيره؟ فذهب أصحاب داود ومالك وأحمد وأكثر أصحاب
أبي حنيفة إلى أنا إنما رجعنا إلى مذاهبهم والأخذ بأقاويلهم
والعمل بفتاواهم تقليدا له, ولا يجب الفحص والبحث عن الأدلة.
ومنهم من قال بصحة قولهم دون قول غيرهم. وهذا لا يصح, لأنه لا
يمكن أن يدعي لأحد منهم العصمة في جميع ما ذهب إليه وقاله, فإن
هذه مرتبة الأنبياء.
قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا أنا
إنما صرنا إلى مذهب الشافعي لا على طريق التقليد, وإنما هو من
طريق الدليل, وذلك أنا وجدناه أهدى الناس في الاجتهاد, وأكملهم
آلة وهداية فيه, فلما كانت طريقته أسد الطرق سلكناه في
الاجتهاد والنظر في الأحكام والفتاوى, لا أنا قلدناه: أما في
اللغة ومقتضيات الألفاظ فلأنه كان أعلم الأئمة بذلك, بل قوله
حجة في اللغة. وهو أول من صنف في الأصول. قال أحمد: لم نكن
نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي.
وأما في الحديث فقد فزع أصحابنا من أن يذكروا فضله على غيره
مخافة أن لا يقبل منهم لأجل مالك, ومنه أخذ الشافعي, وليس كما
زعموا بل جميع ما عول عليه مالك حفظه الشافعي وزاد عليه
بروايته عن غيره. فهذا يدل على أنه كان أقدم في هذه الصنعة من
مالك وكذلك أحمد. وأما الآي والسنن والآثار فكان أعلمهم بها.
انتهى.
قال ابن الصلاح: ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقا ممنوع, إلا
أن يكونوا قد أحاطوا بعلوم الاجتهاد المطلق. وذلك خلاف المعلوم
من أحوالهم.
وذهب الإمام والغزالي إلى أن الشافعي هو الذي يجب على كل مخلوق
عامي تقليده, وتابعهما على ذلك طائفة.
(4/573)
وذهب ابن حزم إلى أنه لا يقلد إلا الصحابة
والتابعون, فإن كان لا بد من غيرهم تقليدا فيتعين محمد بن نصر
المروزي من أصحاب الشافعي وأطنب في وصف محمد بن نصر, وهذا لا
يخرج من مذهب الشافعي, فكأن ابن حزم يدعي أنه إن كان لا بد من
تقليد فليقلد مذهب الشافعي.
قال: والتقليد إنما ابتدئ به بعد المائة والأربعين من الهجرة,
ولم يكن في الإسلام قبل ذلك مسلم واحد فصاعدا يقلد عالما بعينه
لا يخالفه.
قال ابن المنير: وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل
أئمتهم. وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها:
ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل كالحلقة المفرغة لا يدرى أين
طرفاها. فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويفنى
الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره.
وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين لأجل غلبة العادة, فلا
يكاد يسع ذهن أحد من أصحابه لتفضيل غير مقلده إلى ضيق الأذهان
عن استيعاب خصائص المفضلين جاءت الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}
[الزخرف: 48] يريد - والله أعلم - أن كل آية إذا جرد النظر
إليها قال الناظر حينئذ: هذه أكبر الآيات, وإلا فما يتصور في
آيتين أن تكون كل واحدة أكبر من الأخرى بكل اعتبار, لتناقض
الأفضلية والمفضولية. والحاصل أن هؤلاء الأربعة انخرقت بهم
العادة, على معنى الكرامة, عناية من الله بهم, فإذا قيس
أحوالهم بأحوال أقرانهم كانت خارقة لعوائد أشكالهم.
مسألة: من قلد بعض الأئمة ثم ارتفع قليلا إلى درجة الفهم
والاستبصار, فإذا رأى حديثا محتجا به يخالف رأي إمامه وقال به
قوم, فهل له الاجتهاد؟ وفي ذلك أطلق إلكيا الطبري, وابن برهان
في الوجيز "أنه يجب عليه الأخذ بالحديث, لأنه مذهب الشافعي,
فقد قال: إذا رأيتم قولي بخلاف قول النبي عليه الصلاة والسلام,
فخذوا به, ودعوا قولي.
وقال القرافي: قد اعتمد كثير من فقهاء الشافعية على هذا, وهو
غلط, فإنه لا بد من انتفاء المعارض, والعلم بعدم المعارض يتوقف
على من له أهلية استقراء الشريعة, حتى يحسن أن يقال: لا معارض
لهذا الحديث, أما استقراء غير المجتهد المطلق, فلا عبرة به,
وهذا الذي قاله القرافي تحجير, وما يريد ب "انتفاء" المعارض إن
كان في نفس الأمر فباطل. أما على قول المصوبة فباطل وأما على
قول "أن المصيب
(4/574)
واحد" فلأنه غير مأمور بما في نفس الأمر بل
بما أدى إليه اجتهاده, وإن كان المراد به في نظر المجتهد,
فكذلك أيضا, لأن مثل هذا القول إذا كان له الحكم المؤدي إليه
اجتهاده دليل, ثم يقول: "إذا صح حديث أقوى مما عندي, فذلك
مذهبي, فخذوا به, واتركوا قولي "فكيف يصح هذا مع عدم المعارض؟,
قال ابن الصلاح: وقد عمل بهذا جمع من الأصحاب, كالبويطي
والداركي, وغيرهما من الأصحاب, وليس هذا بالهين, فليس كل فقيه
يسوغ أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من المذهب, وقد عمل أبو
الوليد بن الجارود بحديث تركه الشافعي, وأجاب عنه, وهو حديث
"أفطر الحاجم والمحجوم" 1, وعن ابن خزيمة أنه قيل له: هل تعرف
سنة للرسول في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ قال:
لا.
قال أبو عمرو: وعند هذا نقول: إن كان فيه آلات الاجتهاد مطلقا,
أو في ذلك الباب, أو في تلك المسألة, كان له الاستقلال بالعمل
بذلك الحديث, وإن لم تكتمل آلته, ووجد في قلبه حزازة من
الحديث, ولم يجد له معارضا بعد البحث, فإن كان قد عمل بذلك
الحديث إمام مستقل فله التمذهب به, ويكون ذلك عذرا له في ترك
قول إمامه, وقال أبو زكريا النووي إنما يكون هذا لمن له رتبة
الاجتهاد في المذهب, أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه, أن
الشافعي لم يقف على هذا الحديث, أو لم يعلم صحته, وهذا إنما
يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها, ونحوها من كتب أصحاب
الآخذين عنه, وهذا شرط صعب, قل من يتصف به.
وقال ابن الزملكاني: إن كانت له قوة للاستنباط, لمعرفته
بالقواعد, وكيفية استثمار الأحكام من الأدلة الشرعية, ثم استقل
بالمنقول, بحيث عرف ما في المسألة من إجماع أو اختلاف, وجمع
الأحاديث التي فيها, والأدلة, ورجحان العمل ببعضها, فهذا هو
المجتهد في الجزئي, والمتجه أنه يجب عليه العمل بما قام عنده
على الدليل, ولا يسوغ له التقليد.
وإذا تأمل الباحث عن حال الأئمة المنقول أقاويلهم, وعدوا من
أهل الاجتهاد, ثم أنهم إنما عدوا لذلك لاستجماعهم شروط
الاجتهاد الكلية المشتركة بين جميع المسائل, وأحاطوا بأدلة
جملة غالب من الأحكام, وقد علم من حال جمع منهم
ـــــــ
1 رواه أبو داود "2/308" كتاب الصوم باب الصائم يحتجم ححديث
"2367" ورواه ابن ماجة حديث "1680" وهو حديث صحيح.
(4/575)
في بعض المسائل عدم الاطلاع على ما ورد في
تلك المسألة, ومنهم من يعلق القول على صحة حديث لم يكن قد صح
عنده, ومنهم من يقول: إن صح هذا الحديث, كذا, وإن صح قلت به,
ثم يجد تلك الزيادة قد صحت, وهذا الحديث المعلق عليه قد صح, أو
يعلل رد الحديث بعلة ظهرت له يظهر انتفاؤها, ومثل ذلك في قول
الأئمة كثير, ولا سيما من كثر أخذه بالرأي وترجيح الأقيسة.
فإذا كان هذا الموصوف يقلد الإمام في مسائل يسوغ له التقليد
فيها, وقع له في مسألة هذه الأهلية, تعين عليه الرجوع إلى
الدليل والعمل به, وامتنع عليه التقليد, وأما من لم يبلغ هذه
الدرجة, بل له أهلية النظر والترجيح, وفيه قصور عن جميع أهلية
الاجتهاد المشتركة, ولكن جمع أدلة تلك المسائل كلها, وعرف مذهب
العلماء فيها, لهذا لا يتعين عليه العمل بقول إمامه, ولا بهذا
الدليل, بل يجوز له التقليد, وينبغي له تقليد من الحديث في
جانبه إذا لم يعلم اطلاع إمامه عليه وتركه لعلة فيه, أو لوجود
أقوى منه.
أما إن كان قد جمع أهلية الاجتهاد المشتركة بين جميع المسائل,
ولم يجمع أدلة هذه المسائل, بل رأى فيها حديثا يقوم بمثله
الحجة فهذا له أحوال:
أحدها : أن يعلم حجة إمامه, كمخالفة مالك لعمل أهل المدينة على
خلافه, فإن كان ممن يعتقد رجحان مذهب إمامه بطريقه فليعمل
بقوله, وهو أولى, وإن لم يتعين.
الثانية : أن يعلم إجمالا, أن لإمامه أو لمن خالف العمل بهذا
الحديث أدلة, يجوز معها المخالفة أو يقوى, فلا يتعين عليه, بل
لا يترجح مخالفة إمامه, وله تقليد القائل بالحديث من
المجتهدين.
الثالثة : أن لا يعلم الحجة المقتضية لمخالفة الحديث إجمالا
ولا تفصيلا, ولكن يجوز أن يكون للمخالف حجة تسوغ معها
المخالفة, وأن لا يكون لكونه لم يجمع أدلة تلك المسألة نقلا
واستدلالا, فالأولى بهذا تتبع المآخذ, فإذا لم يتبين له ما
يعارض الحديث من أدلة القرآن والسنة, فالعمل بالحديث أولى
تقليدا لمن عمل به, وله البقاء على تقليد إمامه. ويدل لهذا ما
استقرئ من أصول الصحابة ومقلديهم, فإنهم لم ينكروا على من
استفتاهم في مسألة, وسأل غيرهم عن أخرى, أمر بالعود إلى من قلد
قبل ذلك.
(4/576)
مسألة
البارع في المذهب ومآخذه, هل له أن يفتي أو يحكم بالوجوه
المرجوحة إذا قوي مدركها؟ لم أر فيه نصا, ويحتمل أوجها.
"منها" التفصيل بين أن يكون قائل ذلك الوجه أفتى به, فيجوز. أو
قاله على سبيل التجويز, والاحتمال, وتبين المأخذ فلا.
و "منها" وهو الأقرب, التفصيل بين أن يكون ذلك من باب الاحتياط
في الدين, كجريان الربا في الفلوس إذا راجت رواج النقود,
وبطلان بيع العينة أن يكون لمن اتخذه عادة, ونحوه فيجوز, وبين
أن يكون من باب الترخيص والتخفيف فممتنع, وهذا كله بعد تبحر
ذلك المفتي أو الحاكم في المذهب وإلا فيمتنع قطعا.
وحيث جاز فلا ينسب ذلك إلى الشافعي لأنه إذا لم يثبت له القول
المخرج فالوجه أولى, وهو فيما إذا كان له نص بخلافها أولى,
ولهذا قال القفال في "فتاويه": لو قال بعتك صاعا من هذه
الصبرة, نص الشافعي أنه يجوز, وعندي أنه لا يجوز. فقيل له: كيف
تفتي في هذه المسألة؟ فقال: على مذهب الشافعي فإن من يسألني
إنما يسألني عن مذهب الشافعي, لا عن مذهبي. انتهى.
وهذا كله فيما يتعلق بفتوى غيره, أما في حق نفسه وقوي عنده
مذهب غير إمامه لم يجز له تقليده, لكن وقوع هذا نادر, لأن نظر
الأئمة, كان نظرا متناسبا مفرعا في كل مذهب على قواعد لا
تنخرم.
(4/577)
مسألة
في تقليد المفضول مذاهب: أحدها : امتناعه, ونقل عن أحمد وابن
شريح, لأن اعتقاد المفضول كاعتقاد المجتهد الدليل المرجوح مع
وجود الأرجح.
الثاني : وهو أصحها واختاره ابن الحاجب وغيره1, الجواز لإجماع
الصحابة على تفاوتهم في الفهم, ثم إجماعهم على تسويغ تقليد
المفضول مع وجود الأفضل.
والثالث : يجوز لمن يعتقده فاضلا أو مساويا, والخلاف بالنسبة
للنظر الواحد, ولا خلاف أنه لا يجب عليه تقليد أفضل أهل
الدنيا, وإن كان نائبا عن إقليمه, فهذه الصورة لا تحتمل
الخلاف, فعلى هذا لا يجب على أحد الاشتغال بترجيح إمام على
ـــــــ
1 انظر النخول ص "479" مختصر ابن الحاجب "2/309" المسنصفى
"2/390".
(4/577)
إمام, بعد اجتماع شرائط الفتوى, ومن فروع
المسألة اجتهاد العامي في النظر في الأعلم وسيأتي.
(4/578)
مسألة
غير المجتهد يجوز له تقليد المجتهد الحي باتفاق, كذا قالوا,
لكن منعه ابن حزم الظاهري, وروى بسنده إلى ابن مسعود رضي الله
عنه النهي عن تقليد الأحياء لأنه لا يؤمن عليه الفتنة, قال:
وإن كان [لا] محالة مقلدا فليقلد الميت. انتهى.
فإن قلد ميتا ففيه مذاهب:
أحدها : وهو الأصح وعليه أكثر أصحابنا كما قاله الروياني,
الجواز, وقد قال الشافعي: المذاهب لا تموت بموت أربابها, ولا
بفقد أصحابها, وربما حكي فيه الإجماع, وأيده الرافعي بموت
الشاهد بعدما يؤدي شهادته عند الحاكم, فإن شهادته لا تبطل.
قلت: ولقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي
بكر وعمر" 1 وقوله: "بأيهم اقتديتم اهتديتم" 2, ولهذا يعتد
بأقوالهم بعد موتهم في الإجماع والخلاف.
واحتج الأصوليون عليه بانعقاد الإجماع في زماننا, على جواز
العمل بفتاوى الموتى, والإجماع حجة. قال الهندي: وهذا فيه نظر,
لأن الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد, وهم المجتهدون,
والمجمعون ليسوا مجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال, أو نقول
بعبارة أخرى, إنما يعتبر اتفاقهم على جواز إفتاء غير المجتهد,
فلو أثبت جواز إفتائه بهذا لزم الدور. انتهى.
والظاهر أن المراد إجماع المجتهدين قاطبة.
ثم قال: والأولى في ذلك التمسك بالضرورة, فإنا لو لم نجوز ذلك,
لأدى إلى فساد أحوال الناس, وهذا شيء سبقه إليه الرافعي وغيره,
فقالوا: لو منعنا من تقليد الماضين, لتركنا الناس حيارى,
وقضيته أن الخلاف يجري وإن لم يكن في العصر مجتهد, وذلك هو
صريح قول المحصول": "إنه لا يجتهد اليوم", مع قوله قبله "لا
يقلد الميت".
وهذا بعيد جدا, وإنما الخلاف, فيما إذا كان في القطر مجتهد
ومجتهدون: فمن
ـــــــ
1 رواه الترمذي "5/609" كتاب المناقب حديث "3662" وابن ماجة
"97" ورواه أحمد في مسنده "5/399" حديث "23434" والحاكم في
المستدرك "3/79" حديث "4453" وهو حديث صحيح.
2 موضوع وسبق بيان وضعه وانظر السلسلة الضعيفة والموضوعات
للألباني "1/58".
(4/578)
قائل موت المجتهد لا يميت قوله, فكأنه أحد
الأحياء, فيقلد, ولا ينعقد الإجماع بخلاف قوله, ومن قائل, بل
يبطل قوله, ويتعين الأخذ بقول الحي, وقد كان يمكن أن يفصل بين
أن يكون الميت أرجح من الحي, فلا يترك قوله, لا سيما إذا
أوجبنا تقليد الأعلم, أو يفصل بين أن يطلع المجتهد الحي على
مأخذ الميت ثم يخالفه, فلا يقلد الميت حينئذ, أو لا يطلع
فيقلد, فيه نظر واحتمال.
والثاني : المنع المطلق, إما لأنه ليس من أهل الاجتهاد, كمن
تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته, وإما لأن قوله وصفه,
وبقاء الوصف مع زوال الأصل محال, وإما لأنه لو كان حيا لوجب
عليه تجديد الاجتهاد, وعلى تقدير تجديده, لا يتحقق بقاؤه على
القول الأول, فتقليده بناء على وهم أو تردد, والقول بذلك غير
جائز.
وهذا الوجه نقله ابن حزم عن القاضي. قال: ولا نعلم أحدا قاله
قبله. ونصره ابن الفارض المعتزلي في كتاب النكت "وحكى الغزالي
في المنخول "فيه إجماع الأصوليين.
وقال الروياني في البحر": إنه القياس, واختاره صاحب المحصول
فيه فقال: اختلفوا في غير المجتهد, هل يجوز له الفتوى بما
يحكيه عن المفتين؟ فنقول: لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أو عن
حي, فإن حكى عن ميت, لم يجز له الأخذ بقوله, لأنه لا قول
للميت, بدليل أن الإجماع لا ينعقد مع خلافه حيا, وينعقد مع
موته, وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته.
فإن قلت: لم صنفت كتب الفقه مع فناء أصحابها؟ قلت: لفائدتين: "
إحداهما ": استبانة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث, وكيف
بني بعضها على بعض. " والثانية ": معرفة المتفق عليه من
المختلف, فلا يفتى بغير المتفق عليه.
ثم قال: ولقائل أن يقول: إذا كان الراوي عدلا ثقة متمكنا من
فهم كلام المجتهد الذي مات, ثم روى للعامي قوله حصل للعامي ظن
صدقه, ثم إذا كان المجتهد عدلا ثقة عالما, فذلك يوجب ظن صدقه
في تلك الفتوى, فحينئذ يتولد من هاتين الطبقتين للعامي أن حكم
الله نفس ما روى له هذا الراوي الحي عن ذلك المجتهد الميت,
والعمل بالظن واجب, فوجب أن يجب على العامي العمل بذلك, وأيضا
فقد انعقد الإجماع في زماننا هذا على جواز العمل بهذا النوع من
الفتوى, لأنه ليس في هذا الزمان مجتهد, والإجماع حجة.
(4/579)
قال النقشواني: في قول الإمام: "ليس في
الزمان مجتهد "مع قوله: "انعقد الإجماع "مناقضة, وقد سلم في
المنتخب "منها, ولم يقل فيه أنه لا يجتهد في زمننا. واختصره
صاحب التحصيل", إلا أنه لم يقل: والإجماع حجة, ولكن قال:
وانعقد الإجماع في زماننا, وكل ذلك سعي في دفع التناقض, والذي
فعله في المنتخب", هو الذي فعله صاحب "الحاصل" تلميذ الإمام,
وهو أعرف أصحابه بكلامه. فقال: وأيضا فقد انعقد الإجماع في
زماننا على جواز العمل بفتاوى الموتى, والإجماع حجة, وتبعه
البيضاوي فقال في المنهاج": واختلف في تقليد الميت, والمختار
جوازه للإجماع عليه في زماننا.
فهؤلاء الذين تصرفوا في كلام الإمام بالزيادة والنقصان, والذين
نقلوا كلامه, اعترضوا عليه بالمناقضة كالنقشواني, والذي يدفع
التناقض, أن قول الإمام: لا مجتهد في الزمان لا يعارضه قوله
"انعقد الإجماع في زماننا", لأن المعنى به إجماع السابقين على
حكم أهل هذا الزمان فيه, كما أنا نحكم الآن على أهل الزمان
الذي تندرس فيه أعلام الشريعة, وقد عقد إمام الحرمين في
الغياثي "بابا عظيما في ذلك, وفيه وجه آخر سيأتي.
والثالث : الجواز بشرط فقد الحي, وجزم إلكيا وابن برهان.
والرابع : التفصيل بين أن يكون الناقل له أهل للمناظرة, مجتهدا
في ذلك المجتهد الذي يحكى عنه, فيجوز, وإلا فلا قاله الآمدي
والهندي, ويمكن أن يكون هذا مأخوذا من وجه حكاه الرافعي في
مسألة ما إذا عرف العامي مسألة, أو مسائل بدلائلها, أنه إن كان
الدليل نقليا جاز, أو قياسيا فلا, وعلى هذا فينبغي للهندي أن
يقيد تفصيله بما إذا كان المنقول قياسيا, وأن لا يجوزه إذا كان
نقليا, لكنه مخالف للمذهب الصحيح, فإن الصحيح أنه لا يجوز
تقليده ولا فتياه مطلقا, لأنه بهذا القدر من المعرفة لا يخرج
عن كونه عاما, والظاهر أن الهندي إنما أخذ تفصيله, من بناء
الأصحاب جواز. فتيا متبحر المذهب بمذهب الميت على جواز تقليد
الميت, فإن فرض أن الناقل بحيث لا يوثق بنقله فهما, وإن وثق به
نقلا تطرق عدم الوثوق بفهمه إلى عدم الوثوق بنقله, وصار عدم
قبوله لعدم حجة المذهب المنقول إليه, لا لأن الميت لا يقلد,
فليس التفصيل واقفا, غير أن عذر الهندي أنه لم يعقد المسألة
لتقليد الميت, كما فعل الإمام.
(4/580)
تنبيهان:
الأول: قيل: الخلاف هنا مخرج من الخلاف في إعادة الاجتهاد عند
حدوث الحادثة مرة أخرى.
الثاني: قيد بعضهم الخلاف في هذه المسألة, بما إذا كان في
العصر مجتهد أو مجتهدون, فإن لم يكن فلا خلاف في تقليد الميت,
لئلا تضيع الشريعة, قال: وإطلاق من أطلق محمول عليه.
إنما النظر في شيئين:
أحدهما : إذا لم يخل عن مجتهد, ففي ظن كثير من الناس أنه يقلد
الميت حينئذ, والمنقول عن الغزالي, وابن عبد السلام, أنه يجب
تقليد مجتهد العصر, ولا يجوز تقليد الميت, وبهذا تبين أنه لا
يمكن الإجماع على تقليد الموتى إلا من غير المجتهدين, فاجتمع
قول الإمام: "انعقد الإجماع "وقوله: "لا مجتهد في الزمان", إذا
تبينا أنه لو كان في الزمان مجتهد, لم ينعقد الإجماع على
تقليد, بل إما أن تختلف في ذلك إن كان في تقليد الميت عند وجود
مجتهد حي خلاف, وإما أن يتفق على أن الميت لا يقلد حينئذ
للاستغناء عنه بالمجتهد الحي, وهذه طريقة الغزالي, وابن عبد
السلام.
وثانيهما : إذا خلا عن مجتهد, ونقل عن المجتهدين ناقلون, هل
يؤخذ بنقل كل عدل, أم لا يؤخذ إلا بنقل عارف مجتهد في مذهب من
ينقل عنه؟ هذا موضع الخلاف. وقول الإمام: "فتيا غير المجتهد
بقول الميت لا يجوز", إن أراد روايته, فهي مقبولة قطعا إذا كان
عدلا, وأما العمل بالمروي, فإن كان حيا فلا شك في جوازه, وإن
كان ميتا فهي مسألة تقليد الميت.
ولا يخفى أن محل هذا إذا كان ناقلا محضا عن نص, أما إذا كان
مخرجا فليس مما نحن فيه, لأن العامي الصرف لا قدرة له على
التخريج, فلا يمكنه, فعلى هذا فالخلاف في الناقل المحض, والذي
رجحه الهندي أنه لا يؤخذ إلا بنقل مجتهد في المذهب, قادر على
النظر في المناظرة, ورجح غيره أنه يؤخذ بنقل كل عدل, ولا يخفى
في أن ذلك عند التعارض في النقل.
فرع :
لو استفتى مجتهدا فأجابه, ولم يعمل بفتواه حتى مات المجتهد.
فهل يجوز له العمل بفتواه؟ يحتمل وجهين,: والجواز هنا أقرب من
التي قبلها.
(4/581)
مسألة غريبة تعم بها البلوى:
من عاصر مفتيا أفتى بشيء, وصادف فتواه مخالفة لمذهب الإمام
الذي تقلده, فهل يتبع المفتي, لأنه لا يخالفه إلا بعد اعتقاد
تأويله, أو الإمام المتقدم, لظهور كلامه؟ وهذه المسألة ذكرها
إمام الحرمين في الغياثي وقال: فيه تردد, ثم قال: والاختيار
اتباع مفتي الزمان, من حيث إنه بتأخره سبر مذاهب من كان قبله,
ونظره في التفاصيل أشد من نظر المقلد على الجملة, قال: ولا
يجيء ذلك في اتباع مذاهب الأئمة المتأخرين عن الشافعي, لتفاوت
مراتبهم وعسر الوقوف عليها.
قلت: وقد عمل بذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة, وقدم فتوى ابن
عبد السلام في تزويج الصغيرة على ظاهر نص الشافعي, وصنف فيه
تصنيفا, قال الإمام: وهذا إذا كان الإمام المقلد نص في
المسألة, فأما إذا لم يصح فيه مذهب, فليس إلا تقليد مفتي
الزمان.
(4/582)
مسألة
إذا اجتهد مجتهد في حادثة, فله ثلاث حالات:
أحدهما : أن يغلب على ظنه شيء, فيعمل به, ثم لا يتبين له
خلافه.
الثانية : أن يتبين خلافه, فإن كان مستند الثاني - أيضا - ظنا,
فإن كان في حكم لم ينقضه, إذ لا ينقض بالاجتهاد, وإن كان في
العبادات والمعاملات أخذ بالثاني الذي رجح عنده, وإن كان مستند
الثاني أيضا يقينا أخذ به.
الثالثة : أن لا يظهر للمجتهد فيه شيء ففيه الخلاف السابق,
والأصح الامتناع, وعلى هذا فيجيء خلاف التخيير أو الوقف.
(4/582)
مسألة
إذا اجتهد مجتهد في حكم واقعة, وبلغ إلى حكمها, ثم تكررت تلك
الواقعة, وتجدد ما يقتضي الرجوع, ولم يكن ذاكرا للدليل الأول,
وجب تجديد الاجتهاد1, وكذا إن لم يتجدد, لا إن كان ذاكرا على
المختار. وقيل: يلزمه تجديد النظر, لعله يظفر بخطأ أو زيادة
لمقتض. ذكر بعض هذا التفصيل الإمام الرازي وأتباعه, وفصل
ـــــــ
1 انظر اللمع ص "72" مختصر ابن الحاجب "2/307" المعتمد "2/932"
المسودة ص "467".
(4/582)
مسألة
إذا اجتهد في حادثة, وأفتى فيها, ثم تغير اجتهاده. لزم إعلام
المستفتي بالرجوع قبل العمل, وكذا بعده, حيث يجب النقض, ذكره
النووي, ونقل في, القواطع "أنه إن كان عمل به لم يلزمه, وإن لم
يكن عمل به يلزمه, لأن العامي إنما يعمل به, لأنه قول المفتي,
ومعلوم أنه ليس قوله من تلك الحالة التي يريد أن يعمل به, وهل
يجب نقض ما عمل؟ ينظر: فإن كان الثاني في محل الاجتهاد لم
ينقضه, وإن كان بدليل قاطع وجب نقضه لا محالة.
(4/584)
مسألة
إذا رجع المجتهد عن قول تقدم له, ولم يقطع بخطأ نفسه, فهل يسوغ
تقليده في ذلك القول المرجوع عنه؟ كلام الشافعي يقتضي المنع,
فإنه قال: "ليس في حل من روى عني القديم.
(4/584)
|