البحر المحيط في أصول الفقه، ط العلمية

الإفتاء والاستفتاء
مدخل
...
الإفتاء والاستفتاء
"المفتي" هو الفقيه. وقد تقدم في حد الفقه ما يؤخذ منه اسم الفقيه, لأن من قامت به صفة جاز أن يشتق لها منها اسم فاعل. قال الصيرفي: وموضوع هذا الاسم لمن قام للناس بأمر دينهم, وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه, وناسخه ومنسوخه, وكذلك في السنن والاستنباط, ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. فمن بلغ هذه المرتبة سموه هذا الاسم, ومن استحقه أفتى فيما استفتي.
وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد, والعدالة, والكف عن الترخيص والتساهل. وللمتساهل حالتان:
" إحداهما ": أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادئ النظر وأوائل الفكر, فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى.
" والثانية ": أن يتساهل في طلب الرخص وتأول الشبه, فهذا متجوز في دينه, وهو آثم من الأول. فأما إذا علم المفتي جنسا من العلم بدلائله وأصوله وقصر فيما سواه, كعلم الفرائض وعلم المناسك, لم يجز له أن يفتي في غيره. وهل يجوز له أن يفتي فيه؟ قيل: نعم, لإحاطته بأصوله ودلائله. ومنعه الأكثرون لأن لتناسب الأحكام وتجانس الأدلة امتزاجا لا يتحقق إحكام بعضها إلا بعد الإشراف على جميعها. انتهى.
وتجوز ابن الصباغ فجوزه في الفرائض دون غيره, لأن الفرائض لا تبنى على غيرها, بخلاف ما عداها من الأحكام فإنها يرتبط بعضها ببعض. وهو حسن.
وسواء القاضي وغيره. وقيل: لا يقضي القاضي في المعاملات. وقال ابن السمعاني: ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتي.
وفي فتوى المرأة وجهان حكاهما ابن القطان عن بعض أصحابنا, قال: وخصهما بما عدا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام. والمشهور أن الذكورة لا تشترط, ولا يلزم عليه كون الحكم لا تتولاه امرأة لأنها لا تلي الإمامة فلا تلي الحكم. قال ابن القطان: وهذا التخريج غلط, بل الصواب: القطع بالجواز.
والمستفتي: من ليس بفقيه.
ثم إن قلنا بتجزؤ الاجتهاد فقد يكون الشخص مفتيا بالنسبة إلى أمر مستفتيا بالنسبة إلى الآخر. وإن قلنا بالمنع فالمفتي: من كان عالما بجميع الأحكام الشرعية بالقوة

(4/585)


القريبة من الفعل, والمستفتي: من لا يعرف جميعها.

(4/586)


مسألة
المجتهد يجوز له الإفتاء وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وغيره: ليس له الإفتاء مطلقا. وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها. فذهب الأكثرون إلى أنه إن تحرى مذهب ذلك المجتهد, واطلع على مأخذه, وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى, وإلا فلا. ونقله القاضي حسين عن القفال. قال القاضي: وله أن يخرج على أصوله. إن لم يجد له تلك الواقعة.
قال الروياني: وأصل الخلاف أن تقليد المستفتي هل هو لذلك المفتي, أو لذلك الميت, أي: صاحب المذهب؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: "للميت "فله أن يفتي, وإن قلنا: "للمفتي" فليس له ذلك, لأنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين. وقال العلامة مجد الدين بن دقيق العيد في "التلقيح": توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم, أو استرسال الخلق في أهوائهم. فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به, لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده. وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا. هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك فعل علي - رضي الله عنه - حين أرسل المقداد في قصة المذي1. وفي مسألتنا أظهر, فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة, ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة. وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم. انتهى.
وقال آخرون: إن عدم المجتهد جاز له الإفتاء, وإلا فلا. وقيل: يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله, أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه. ولا يجوز له تقليد الميت. وجعل القاضي في "مختصر التقريب "الخلاف في العالم, قال: وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي. انتهى. قال الماوردي والروياني: إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها, فهل له أن يفتي لغيره؟
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري في صحبحه كتاب العلم باب من استحيا فأرسل غيره بالسؤال حديث "132" عن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلا مذاء فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: "فيه الوضوء" ورواه مسلم حديث "303".

(4/586)


فيه أوجه, ثالثها: إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز, وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز. قال: والأصح: أنه لا يجوز مطلقا, لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها.
وقال الجويني في "شرح الرسالة": من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس, ولا يكون من أهل الفتوى, ولو أفتى به لا يجوز. وكان القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب, لأنه يقلد صاحب المذهب وقوله. ولهذا كان يقول أحيانا: لو اجتهدت وأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول: "مذهب الشافعي كذا, ولكن أقول بمذهب أبي حنيفة", لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره. قال الشيخ أبو محمد: وهذا ليس بصحيح, واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه, ونص الشافعي يدل عليه. وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير, ومن حكى مذهب الغير - والغير ميت - لا يلزمه القبول, لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله, كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا: إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعام مثله. فإن قلت: أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه؟ قلنا: كما زعمتم, لكن هذا الرجل لم يقلده قول هذا الرجل بأن الأمر فيه كيت وكيت, فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده. ويدل على فساد ما قاله أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي. ويلزمه مثله. ولجاز أن يقول: هو مقلد صاحب المقالة. ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا. أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحرا فيه جاز, وإلا فلا.
قال: وكان ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب مالك, وكان متبحرا, لأنه حكى أن أصحاب مالك كانوا يأتونه بمسائل يسألونه إخراجها على أصل مالك فيستخرجها على أصله فدل على أنه من كان بهذه الصفة يجوز, وإلا فيمتنع. وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي. قال: والعلوم أنواع:
أحدها - الفقه: وهو فن على حدة, فمن بلغ فيه غاية ما وصفناه فله أن يفتي, وإن لم يكن معه من أصول التوحيد إلا ما لا بد من اعتقاده ليصح إيمانه.
وثانيها - علم أصول الفقه: وما زال الأستاذ أبو إسحاق يقول: هو علم بين علمين, لا يقوى الفقه دونه, ولا يقوى هو دون أصول التوحيد, فكأنه فرع لأحدهما

(4/587)


أصل للآخر, فيخرج من هذا أن لا نقول: أصول الفقه من جنسه حتى لا بد من ضمه إليه, لكن لا يقوم دليله دونه.
وثالثها - تفسير القرآن: وكل ما تتعلق به الأحكام فليس ذلك من شأن المفسر, بل من وظيفة الفقهاء والعلماء. وما يتعلق بالوعظ والقصص والوعد والوعيد فيقبل من المفسرين.
والرابع - سنن الرسول: لا يقبل من المحدثين ما يتعلق بالأحكام, لأنه يحتاج إلى جمع وترتيب, وتخصيص وتعميم وهم لا يهتدون إليه.
وقد حكي عن بعض أكابر المحدثين أنه سئل عن امرأة حائض, هل يجوز لها أن تغسل زوجها؟ فقال لهم: انصرفوا إلى سويعة أخرى, فانصرفوا وعادوا ثانيا وثالثا حتى قال من كان يتردد إلى الفقهاء: أليس أيها الشيخ رويت لنا عن عائشة أنها غسلت رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حائض؟1 فقال: الله أكبر, ثم أفتى به. انتهى.
وقد سبق آخر الكلام على شروط الاجتهاد كلام لابن دقيق العيد ينبغي استحضاره هنا.
ـــــــ
1 يشير إلى ما رواه البخاري في كتاب الحيض باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله حديث "296" عن عروة قال: أخبرني عائشة أنها كانت ترجل – تعني رأس رسول الله – وهي حائض ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ مجاور في المسجد يدني لها رأسه – وهي في حجرتها – فترجله وهي حائض. ورواه مسلم حديث "316".

(4/588)


مسألة: إنما يسأل من عرف علمه وعدالته
...
مسألة
وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته, بأن يراه منتصبا لذلك, والناس متفقون على سؤاله والرجوع إليه. ولا يجوز لمن عرف بضد ذلك, إجماعا.
والحق منع ذلك ممن جهل حاله, خلافا لقوم. لأنه لا يؤمن كونه جاهلا أو فاسقا, كروايته, بل أولى, لأن الأصل في الناس العدالة, فخبر المجهول يغلب على الظن عند القائل به. وليس الأصل في الناس العلم. وممن حكى الخلاف في استفتاء المجهول الغزالي والآمدي وابن الحاجب. ونقل في المحصول الاتفاق على المنع, فحصل طريقان. وإذا لم يعرف علمه بحث عن حاله. ثم شرط القاضي في التقريب إخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالما في الجملة, ولا يكفي خبر الواحد والاثنين. وخالفه غيره. واكتفى في "المنخول" في "العدالة" خبر عدلين, وفي "العلم" بقوله:

(4/588)


إني مفت, قال: واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهدا - كما قاله الأستاذ - غير سديد, لأن التواتر يعتمد في المحسوسات, وهذا ليس منه. وقال القاضي: يكفيه أن يخبره عدلان بأنه مفت. انتهى.
وشرط القاضي وغيره من المحققين امتحانه, بأن يلفق مسائل متفرقة ويراجعه فيها, فإن أصاب فيها غلب على ظنه كونه مجتهدا وقلده وإلا تركه. وذهب بعض أئمتنا إلى أنه لا يجب, وتكفي الاستفاضة من الناس. وهو الراجح في, الروضة ونقله عن الأصحاب. وقيل: ليس له اعتماد قول المفتي: أنه أهل للفتوى والمختار في "الغياثي "اعتماده بشرط أن يظهر ورعه, كما يحصل باستفاضة الخبر عنه, وسبق مثله عن الغزالي. وقال ابن برهان في "الوجيز": قيل: يقول له: أمجتهد. أنت فأقلدك؟ فإن أجابه قلده. وهذا أصح المذاهب.
وإذا لم يعرف "العدالة" فللغزالي احتمالان. قال الرافعي: وأشبههما الاكتفاء؟ فإن الغالب من حال العلماء العدالة بخلاف البحث عن العلم, فليس الغالب في الناس العلم. ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث فيفتقر إلى عدد التواتر, أم يكفي إخبار عدل أو عدلين؟ قال: وأقربهما: الثاني. قلت: وجزم الشيخ أبو إسحاق بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته, لأن طريقه طريق الإخبار. قال النووي: والاحتمالان في مجهول العدالة هما في المستور, وهو الذي ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه, وهما وجهان ذكرهما غيره وأصحهما الاكتفاء لأن العدالة الباطنة تعسر معرفتها على غير القضاة, فيعسر على العوام تكليفهم. وأما الاحتمالان المذكوران ثانيا فهما محتملان لكن المنقول خلافهما. والذي قال الأصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته, وقيل: لا تكفي الاستفاضة ولا يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى. ويجوز استفتاء من أخبر ثابت الأهلية بأهليته.
قال ابن القطان في كتابه "الأصول": من أسلم وهو قريب العهد فلقيه رجل من المسلمين على ظاهر الإسلام, فأخبره بشيء. فاختلفوا فيه: فقال أبو بكر في كتابه: يجب عليه قبول ما أخبر به ولا يعتبر فيه شرائط المفتي السابقة, وإنما تجب تلك الشرائط فينا, لأنه لا يشق علينا الاعتبار فيها, فأما المسلم الآن فيشق عليه هذا. وقال ابن أبي هريرة: ينظر: فإن كان شيئا وقته موسع فينبغي أن يتوقف حتى يستعلم ذلك من خلق, ولا يبادر حتى يعلم حال من أفتاه ويتابع عليه. وإن كان شيئا وقته مضيق فعلى وجهين: "أحدهما" يقبل قوله, كقول أبي علي. و "الثاني" يتوقف في ذلك, كما

(4/589)


يتوقف الحاكم في العدول وغيرها.

(4/590)


مسألة
قال ابن السمعاني: ويجوز للعامي أن يطالب العالم بدليل الجواب, لأجل احتياطه لنفسه. ويلزم العالم أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به, لإشرافه على العلم بصحته. ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به, لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فهم العامي.

(4/590)


مسألة
إذا لم يكن هناك إلا مفت واحد تعينت مراجعته. وإن كانوا جماعة فهل يلزمه النظر في الأعلم؟ فيه وجهان, بناء على الخلاف السابق في تقليد المفضول: "أحدهما" - وبه قال ابن سريج والقفال - أن عليه اجتهادا آخر في طلبه, لأنه يتوصل إليه بالسماع من الثقات ولا يشق عليه, وصححه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وإلكيا, فإن الأفضل أهدى إلى أسرار الشرع. و "المختار" أنه لا يجب, بل يتخير ويسأل من شاء منهما.
قال الرافعي: وهو الأصح عند عامة الأصحاب, وقال: إنه الأصح, كما لا يلزم الاجتهاد في طلب الدليل. وقد قال الشافعي - رضي الله عنه - في الأعمى: كل من دله من المسلمين على القبلة وسعه اتباعه ولم نأمره بالاجتهاد في الأوثق, وفي خبر العسيف قال والد الزاني: فسألت رجلا من أهل العلم1, وهناك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الكل, ولم ينكر عليه. انتهى. قال إلكيا: ويحتمل أن يقال: إنما يجب عند اختلاف الرأيين, فإن لم يظهر فلا يجب الأفضل.
وقال الشيخ أبو إسحاق: جاء رجل إلى الصيمري الحنفي بفتوى أصحاب الشافعي أنه إذا كان الولي فاسقا فطلقها الزوج ثلاثا لم ينفذ الطلاق, وله تزويجها بعقد جديد, فقال الصيمري: هؤلاء قد أفتوك أنك كنت على فرج حرام, وأنها حلال لك اليوم, وأنا أقول لك: إنها كانت مباحة لك قبل هذا وهي اليوم حرام عليك. وقصد بذلك رد العامي إلى مذهبه, قال أبو إسحاق: فرجعت إلى القاضي أبي الطيب وحكيت له القصة فقال: كنت تقول: إنه كما قلت به, غير أن الله تعالى لم يكلفه
ـــــــ
1 حديث صحيح سبق تخريجه.

(4/590)


مسألة
إذا قلنا: له أن يجتهد في أعيان المفتين, هل له أن يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها؟ بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى وجب عليه تقليده؟ اختلف جواب القاضي أبي الطيب والقدوري, فأوجبه القدوري وقال القاضي: ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء ولا أن يقول: قول فلان أقوى من قول فلان, ولا حكم لما يغلب على ظنه ولا اعتناء به, ولا طريق له إلى الاستحسان كما لا طريق له إلى الصحة. ولو كان يعتقد أن أحدهم أعلم, نقل الرافعي عن الغزالي أنه لا يجوز أن يقلد غيره. وإن قلنا: لا يجب عليه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم, قال النووي: وهذا - وإن كان ظاهرا - ففيه نظر, لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم. ثم قال: "وعلى الجملة فالمختار ما ذكره الغزالي", وفيما قاله نظر, لما سبق من جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل.
وإذا قلنا: يطلب الأعلم, فهل عليه أن يطلب الأورع؟ كذلك اختلفوا: فقيل: عليه, استنباطا. وقيل: لا, إذ لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع, والأصح ترجيح الراجح علما على الراجح ورعا. فإن استويا قدم الأسن, لأنه أقرب إلى الإصابة, لطول الممارسة.
وإذا كان هناك رجلان من أهل مذهبين: أحدهما شافعي مثلا, والآخر حنفي, فهل يجب عليه أن يميز بين أصل المذهبين فيعلم أيهما أصح؟ قيل: يجب عليه ذلك, فإنه لا يشق عليه أن أحدهما بنى مذهبه على القياس والاستحسان والرأي, والآخر على النص. والأصح: أنه لا يجب, لتعذر ذلك عليه, ومن ثم لا يجب طلب الأعلم في الأصح. وقال إلكيا: أما اتباع الشافعي أو أبي حنيفة على التخيير من غير اجتهاد مع اختلاف مذاهبهم فاختلفوا فيه: فقيل: يجوز, كما يتبع مجتهدي العصر في آحاد المسائل. وقيل: لا يجوز من حيث إمكان درك التناقض.
ولو اختلف جواب مجتهدين, فالقصر في حق العاصي بسفره, واجب عند أبي حنيفة رحمه الله, والإتمام واجب عند الشافعي رضي الله عنه. فإن قلنا بقول ابن سريج

(4/591)


اجتهد في الأوثق والأفقه. وإن قلنا بخلافه قال الروياني: ففيه أوجه: "أصحها": في "الرافعي": أنه يتخير ويعمل بقول من شاء منهما, ونقله المحاملي عن أكثر أصحابنا, وصححه الشيخ في اللمع والخطيب البغدادي, واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساويا في نفسه, ونقل عن القاضي, واختاره الآمدي مستدلا بإجماع الصحابة وأنهم لم ينكروا العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل. وأغرب الروياني فقال: إنه غلط. قال ابن المنير: لو لم أجد تخيير العامي عند اختلاف المفتين منصوصا عليه في الحديث لما كان الهجوم على تقريره سائغا, ودل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني قريظة وقال: لا تنزلوا حتى تأتوهم, فحانت صلاة العصر في أثناء الطريق فاختلفوا حينئذ, فمنهم من صلى العصر ثم توجه, ومنهم من تمادى وحمل قوله: "لا تنزلوا على ظاهره". فلما عرضت القصة على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أحدا منهم. ونحن نعلم أن السرية ما خلت عمن لا نظر له ولا مفزع إلا تقليد وجوه القوم وعلمائهم, وكان ذلك المقلد مخيرا, وباختياره قلد ولم يلحقه عتب ولا عيب.
و" الثاني ": يأخذ بالأغلظ, وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر.
و" الثالث ": يأخذ بالأيسر والأخف.
و" الرابع ": يجب عليه تقليد أعلمهما عنده, فإن استويا قلد أيهما شاء. وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تعالى, لأنه قال في الأم في القبلة فيما إذا اختلفوا على الأعمى, عليه أن يقلد أوثقهما وأدينهما عنده. ويفارق ما قبل السؤال حيث لا يلزمه الاجتهاد, لأن في الاجتهاد في أعيانهم مشقة.
و" الخامس ": يأخذ بقول الأول لأنه لزمه حين سأله, حكاه الرافعي عن حكاية الروياني, وقضيته أنهما لو أجاباه في مجلس واحد دفعة أنه يتخير قطعا, لأنه لم يسبق أحدهما فنقول: قد لزمه قول السابق.
و" السادس " حكاه الرافعي: يأخذ بقول من يبني على الأثر دون الرأي.
وحكى ابن السمعاني " سابعا ", وقال: إنه الأولى, أنه يجتهد في قول من يأخذ منهما. وحكى الأستاذ أبو منصور " ثامنا " وهو: التفصيل بين ما في حق الله تعالى وبين حق عباده: فإن كان فيما بينه وبين الله تعالى أخذ بأيسرهما, وما كان في حقوق العباد فبأثقلهما, وبه قال الكعبي.
وحكى الخطيب البغدادي في كتاب "الفقيه والمتفقه " " تاسعا " عن; أبي عبد الله الزبيري, أنه إن اتسع عقله للفهم فعليه أن يسأل المختلفين عن حجتهما فيأخذ بأرجح

(4/592)


الحجتين عنده. وإن قصر عن ذلك أخذ بقول المعتبر عنده.
ويخرج من كلام الماوردي "عاشر" وهو الأخذ بقولهما إن أمكن الجمع, فإنه قال في "باب استقبال القبلة": ولو كانا عنده في العلم سواء فوجهان: أحدهما" يتخير. و "الثاني" يأخذ بقولهما ويصلي إلى جهة كل واحد منهما.
وذكر الغزالي في المسألة تفصيلا بين أن يتساويا فيراجعهما مرة أخرى ويقول: تناقض على جوابكما وتساويتما فما الذي يلزمني؟ فإن خيراه بين الجوابين اختار أحدهما, وإن اتفقا في الأخذ بالاحتياط أو الميل إلى أحدهما فعل, وإن أصرا على الخلاف: فإن كانا سواء في اعتقاده اختار أحدهما, وإن كان أحدهما عنده أرجح فوجهان: اختار القاضي التخيير, واختار الغزالي اتباع الأفضل, لرجحان الظن بالنسبة إليه. وهذا يدل على ترجيح قول الأعلم عند الاختلاف, مع اختياره أنه لا يجب. وكأنه إنما أوجب هنا ما عرض له من الضرورة والإصرار, وقبل ذلك لا ضرورة به تدعو إلى اتباع الأعلم.
والحاصل أن تعريفه إما باعتبار الضرورة وعدمها فلا يلزم من اعتبار حال الضرورة بالنسبة إلى حكم اعتبار ضدها بالنسبة إلى ذلك الحكم, وإما لأن العمل الذي أشاروا إليه في زمن الصحابة وعدم وجوب تقليد الأعلم لا يتناول هذه الصورة. قيل: وكأن الخلاف هنا مخرج على الخلاف في العلتين إذا تعارضتا وإحداهما تقتضي الحظر, وقال الأستاذ أبو منصور: بل من الخلاف في أن المصيب واحد, أو: كل مجتهد مصيب, فمن خير بينهما بناه على أن كل مجتهد مصيب, ومن أوجب تقليد الأعلم قال "المصيب واحد". وهذا كله إذا لم يكن عمل بأحدهما, فلو استفتى عالما فعمل بفتواه ثم أفتاه آخر بخلافه لم يجز الرجوع إليه في ذلك الحكم, قاله في الإحكام.
وقال إلكيا: إن تساويا في ظنه ولا ترجيح اختلف فيه: فقيل: يحكم بخاطره, وهو قول أصحاب "الإلهام".
وقيل: يتعين عليه التعليق بعلم الأدلة العقلية بتلك الواقعة ليكون بانيا على اجتهاد نفسه. وقيل: يتوقف في ذلك. انتهى.
وقال في المحصول: يجتهد, فإن ظن أرجحية في أحدهما عمل به, وإن ظن استواءهما مطلقا فيمكن أن يقال: لا يتصور وقوعه, لتعارض أمارتي الحل والحرمة. ويمكن أن يقال بوقوعه ويسقط التكليف ويتخير بينهما, وإن ظن الاستواء في الدين دون العلم قلد الأعلم. وقيل: يتخير. وبالعكس الأدين, وإن ظن أحدها أعلم والآخر

(4/593)


أدين فالأقرب الأعلم, فإن العلم أصل والدين مكمل.

(4/594)


مسألة
إذا استفتى المتنازعان فقيها مع وجود الحاكم, قال ابن السمعاني: فإن التزما فتياه عملا به, وإلا فالحاكم أحق بالنظر بينهما. ولو لم يجدا حاكما لم يلزمهما فتيا الفقيه حتى يلتزماه. وإن التزما فتيا الفقيه ثم تنازعا إلى الحاكم فحكم بينهما بغيره لزمهما فتيا الفقيه في الباطن, وحكم الحاكم في الظاهر.
وقيل: يلزمهما حكم الحاكم في الظاهر والباطن, ولو اختلفا فدعا أحدهما إلى فتوى الفقهاء, ودعا الآخر إلى حكم الحاكم, أجيب الداعي إلى حكم الحاكم, لأن فتيا الفقيه إخبار وحكم الحاكم إجبار, وإذا دعا الخصم إلى فتاوى الفقهاء لم تجبره, وإن دعا إلى حكم الحاكم أجبره. وإذا كان الفقيه عدلا والحاكم ليس بعدل فأفتاهما الفقيه بحكم وحكم الحاكم بغيره لزمهما في الباطن أن يعملا بحكم الفقيه, ولزمهما في الظاهر أن يعملا بحكم الحاكم.
وحكي عن بعض الأصوليين أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بالحكاية عن غيره, بل إنما يفتي باجتهاده, لأنه إنما سئل قوله. فإن سئل عن حكاية قول غيره جازت حكايته. ولو جاز للمفتي أن يفتي بالحكاية جاز للعامي أن يفتي بما في كتب الفقهاء. قال: وإذا أفتاه باجتهاده ثم تغير اجتهاده فإن كان قد عمل به لم يلزمه أن يعرفه بتغير الاجتهاد, وإلا لزمه.
قال: وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخبر في القبول فيه. وإن كان مختلفا فيه خير بين أن يقبل منه أو من غيره. وهذه الشبهة على قول من قال: كل مجتهد مصيب, وكذا إن قلنا: المصيب واحد, لأنه لا يجب عليه الأخذ بقول واحد من المفتين بغير حجة بأولى من الآخر. فإن كان هذا التخيير معلوما من قصد المفتي لم يجب عليه أن يخيره لفظا, بل يذكر له قوله فقط. وليس كذلك الحكم, لأن الحاكم منصوب لقطع الخصومات.
قال ابن السمعاني: وعندي أنه لا يجب عليه أن يبين له تخييره, لأنا بينا أنه لا بد للمستفتي من الاجتهاد في أعيان المفتين, وإذا وجب عليه ذلك فاختار أحد العلماء باجتهاده فكذلك العامي يلزمه الأخذ بقول هذا العالم ولا يجب تخييره.

(4/594)


مسألة
هل يجوز للمجتهد, وقد سأله العامي على يمين مثلا وكان معتقده الحنث, أن يحيله على آخر يخالف معتقده أو لا؟ الظاهر المنع, لأنه إذا غلب على ظنه شيء فهو حكم الله في حقه وحق من قلده, وكما لا يجوز له العدول عنه لا يجوز له أمر مقلده بذلك. والأحوط أنه لا يؤثر في حق المستفتي لا تشديدا ولا تسهيلا ولا بحيلة. وقد عرف حكم الله تعالى عليه على غيره.
ثم رأيت عن أحمد التصريح بجواز إرشاده إلى آخر معتبر وإن كان يخالف مذهبه. وفي "تعليق "القاضي أبي الطيب, في "باب الإحصار في الحج" أن المحرم لا يتحلل بالمرض وإن كان يعتقد جوازه كالحنفي, نص عليه الشافعي وهذا يرد قول الداركي أن الطلاق في النكاح الفاسد, كالنكاح بلا ولي, يقع على معتقد إباحته, إذ لو كان كذلك لأفتى الشافعي من يرى مذهب أبي حنيفة بجواز التحلل. فلما أفتاه بمذهبه دون مذهب المخالف بطل قول هذا القائل.

(4/595)


مسألة
هل يجوز للعالم أن يفتي في حق نفسه فيما يجري بينه وبين غيره؟ قال بعض شراح اللمع: ذكر بعض أصحابنا المتأخرين أنه لا يجوز, كما لا يحكم نفسه فيما يجري بينه وبين غيره. قال: وقياس هذا أنه لا يجوز فتواه لوالده وولده فيما هذا شأنه. قلت: قد حكى الروياني في "البحر" في هذا احتمالين. فلو رضي الآخر بفتواه فيما بينه وبينه فالظاهر الجواز. ويحتمل أن يقال: إنه إذا أفتى بنص يقبل قطعا, وإن كان قياسا ففيه نظر.
وأما فتوى نفسه مما يعود على أمر دينه فيما بينه وبين الله فالذي يقتضيه له أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك" . وأما فتواه فيما يعود على والده وولده فينبغي أن يجيء فيه ما سبق.

(4/595)


مسألة
لا يجوز عندنا للمفتي أن يفتي بقول بعض السلف وهو لا يعرف علته, خلافا لأصحاب الرأي. قاله الأستاذ أبو منصور.

(4/595)


مسألة
متى يلزم العامي العمل بما يلقنه المجتهد؟ فيه أوجه: " أحدها ": بمجرد الإفتاء. و " الثاني ": إذا وقع في نفسه صدقه وحقيقته. قال ابن السمعاني: إنه أولى الأوجه. قال ابن الصلاح: ولم أجده لغيره. و " الثالث ": ذكره احتمالا: أنه إذا شرع في العمل به, كالكفارات. وهو يقوى على قول من يقول: إن الشروع فيما يلزم ملزم. و " الرابع ": - وهو الأصح - لا يلزمه به إلا بالتزامه, كالنذر, فيصير بالتزامه لازما له, لا بالفتيا. ويؤيده ما سبق من التخيير فيما إذا اختلف عليه جواب المفتين. و " الخامس ": - واختاره ابن الصلاح - أنه إنما يلزمه إذا لم يجد غيره سواء التزم أو لا, أو برجحان أحدهما, أو بحكم حاكم. وإذا قلنا بالأول فكان السؤال مثلا عن يمين فقال له المجتهد: حنثت فهل يقدر الحنث واقعا بقول المجتهد, كحكم الحاكم, أو إنما يقع الحنث بالالتزام بلفظه أو بنية؟ فيه نظر.

(4/596)


مسألة
هل يجب على العامي التزام تقليد معين في كل واقعة؟ فيه وجهان.
قال إلكيا: يلزمه.
- وقال ابن برهان: لا, ورجحه النووي في "أوائل القضاء" وهو الصحيح, فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد. وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها, فلم ير الحجر على الناس, وربما نودي: "لا يفتى أحد ومالك بالمدينة "قال ابن المنير: وهو عندي محمول على أن المراد: لا يفتى أحد حتى يشهد له مالك بالأهلية.
وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد, فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل على مذهبك فيحرجوا, دعهم يترخصوا بمذاهب الناس. وسئل عن مسألة من الطلاق فقال: يقع يقع, فقال له القائل: فإن أفتاني أحد أنه لا يقع, يجوز؟ قال: نعم ودله على حلقة المدنيين في الرصافة. فقال: إن أفتوني جاز؟ قال: نعم. وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب الأربعة, وقد قال النبي الصلاة والسلام عليه "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه" .

(4/596)


- وتوسط ابن المنير فقال: الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأئمة الأربعة, لا قبلهم. والفرق أن الناس كانوا قبل الأئمة الأربعة لم يدونوا مذاهبهم ولا كثرت الوقائع عليهم, حتى عرف مذهب كل واحد منهم في كل الوقائع وفي أكثرها, وكان الذي يستفتي الشافعي - مثلا - لا علم له بما يقوله المفتي, لأنه لم يشتهر مذهبه في تلك الواقع, أو لأنها ما وقعت له قبل ذلك, فلا يتصور أن يعضده إلا سر خاص, وأما بعد أن فهمت المذاهب ودونت واشتهرت وعرف المرخص من المشدد في كل واقعة, فلا ينتقل المستفتي - والحالة هذه - من مذهب إلى مذهب إلا ركونا إلى الانحلال والاستسهال. وحكى الرافعي عن أبي الفتح الهروي أحد أصحاب الإمام أن مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له.

(4/597)


مسألة: فلو التزم مذهبا معينا واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل
...
مسألة
فلو التزم مذهبا معينا, كمالك والشافعي, واعتقد رجحانه من حيث الإجمال فهل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره من مجتهد آخر؟ فيه مذاهب:
" أحدها ": المنع, وبه جزم الجيلي في الإعجاز, لأن قول كل إمام مستقل بآحاد الوقائع, فلا ضرورة إلى الانتقال إلا التشهي, ولما فيه من اتباع الترخص والتلاعب بالدين.
و" الثاني ": يجوز, وهو الأصح في "الرافعي", لأن الصحابة لم يوجبوا على العوام تعيين المجتهدين, لأن السبب - وهو أهلية المقلد للتقليد عام بالنسبة إلى أقواله, وعدم أهلية المقلد مقتض لعموم هذا الجواب. ووجوب الاقتصار على مفت واحد بخلاف سيرة الأولين.
بل يقوى القول بالانتقال في صورتين:
" إحداهما ": إذا كان مذهب غير إمامه يقتضي تشديدا كالحلف بالطلاق الثلاث على فعل شيء ثم فعله ناسيا أو جاهلا, وكان مذهب مقلده عدم الحنث فخرج منه لقول من أوقع الطلاق, فإنه يستحب له الأخذ بالاحتياط والتزام الحنث قطعا. ولهذا قال الشافعي: إن القصر في سفر جاوز ثلاثة أيام أفضل من الإتمام.
و" الثانية ": إذا رأى للقول المخالف لمذهب إمامه دليلا صحيحا ولم يجد في مذهب إمامه دليلا قويا عنه ولا معارضا راجحا عليه, فلا وجه لمنعه من التقليد حينئذ

(4/597)


محافظة على العمل بظاهر الدليل. وأما ما نقله بعض الأصوليين من الإجماع على منع رجوع المقلد عمن قلده فهو - إن صح - محمول على تلك المسألة بعينها بعد أن عمل بقوله فيها.
واعلم أنا حيث قلنا بالجواز فشرطه أن يعتقد رجحان ذلك المذهب الذي قلد في هذه المسألة. وعلى هذا فليس للعامي ذلك مطلقا, إذ لا طريق له إليه. ولهذا قال البغوي: لو أن عاميا شافعيا لمس امرأته وصلى ولم يتوضأ وقال: عند بعض الناس الطهارة بحالها, لا تصح صلاته, لأنه بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي, فأشبه ما إذا اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى جهة فأراد أن يصلي إلى غيرها لا يصح, قال: ولو جوزناه لأدى ذلك إلى أن يرتكب جميع محظورات المذهب, كشرب المثلث, والنكاح بلا ولي ونحوه, ويقول: هذا جائز, ويترك أركان الصلاة ويقول: هذا جائز, ولا سبيل إليه. انتهى.
و" الثالث ": أنه كالعامي الذي لم يلتزم مذهبا معينا, فكل مسألة عمل فيها بقول إمامه ليس له تقليد غيره, وكل مسألة لم يعمل فيها بقوله فلا مانع فيها من تقليد غيره.
و "الرابع": إن كان قبل حدوث الحوادث فلا يجب التخصيص بمذهب, وإن حدث وقلد إماما في حادثة وجب عليه تقليده في الحوادث التي يتوقع وقوعها في حقه. واختاره إمام الحرمين, لأن قبل تقرير المذاهب ممكن, وأما بعد فلا, للخبط وعدم الضبط.
و" الخامس ": إن غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب غير مقلده أقوى من مقلده جاز. قاله القدوري الحنفي.
و" السادس ": واختاره ابن عبد السلام في "القواعد "-: التفصيل بين أن يكون المذهب الذي أراد الانتقال عنه بما ينقض الحكم أو لا, فإن كان الأول فليس [له] الانتقال إلى حكم يجب نقضه, لبطلانه, وإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال, لأن الناس لم يزالوا [كذلك] في عصر الصحابة, إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة, من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره, ولو كان ذلك باطلا لأنكروه.
وقال في "الفتاوى الموصلية "- وقد سئل عن شافعي حضر نكاح صبية لا أب لها ولا جد والشهادة على إذنها له في التزويج - فأجاب: إن قلد المخالف في مذاهب جاز, وإلا فلا. ويوافقه قول النووي في "الروضة "في النكاح بلا ولي ولا شهود أنه

(4/598)


يجب مهر المثل, سواء اعتقد التحريم أو الإباحة, باجتهاد, أو تقليد, أو حسبان, أو مجرد.
و " السابع ": - واختاره ابن دقيق العيد - الجواز بشروط: " أحدها " أن لا يجتمع في صورة يقع الإجماع على بطلانها, كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى. " والثاني " ألا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم لو وقع به. " والثالث " انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين متساهلا فيه. ودليل اعتبار هذا الشرط قوله: " والإثم ما حاك في نفسك" 1 فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم. بل أقول: إن هذا شرط جميع التكاليف وهو ألا يقدم الإنسان على ما يعتقده مخالفا لأمر الله. ولا اشتراط أن يكون الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي, بل إذا كان مخالفا لظاهر النصوص بحيث يكون التأويل مستكرها, فيكفي في ذلك عدم جواز التقليد لقائل القول المخالف لذلك الظاهر. انتهى.
ونقل القرافي عن الزناتي من أصحابهم الجواز بثلاثة شروط: " أحدها " أن لا يجمع بينهما على صورة تخالف إجماع المسلمين, كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود. و " الثاني " أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه ولا يقلده في عمله. و " الثالثة " أن لا يتبع رخص المذاهب. قال: والمذاهب كلها مسلك إلى الجنة, وطرق إلى الخيرات, فمن سلك منها طريقا وصله. انتهى.
وحكى بعض الحنابلة هذا الخلاف في أن الأولى الأخذ بالأخف أو الأثقل. ثم قال: والأولى أن من بلي بوسواس أو شك أو قنوط فالأولى أخذه بالأخف والإباحة والرخص, لئلا يزداد ما به ويخرج عن الشرع, ومن كان قليل الدين كثير التساهل أخذ بالأثقل والعزيمة لئلا يزداد ما به, فيخرج إلى الإباحة. ومر بي أن عبد الله بن المبارك سئل عمن حلف بالطلاق ألا يتزوج ثم بدا له, فهل له أن يأخذ بقول من يجوز له ذلك؟ فقال: إن كان يرى هذا القول حقا أن يبتلى بهذه المسألة فنعم, إلا فلا. وما أحسن هذا الجواب من متورع!
ـــــــ
1 رواه مسلم كتاب تفسير البر والإثم حديث "2553" عن النواس بن سمعان اٍلأنصاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرها أن يطلع غليه الناس" .

(4/599)


وقسم بعضهم الملتزم لمذهب إذا أراد تقليد غيره إلى أحوال:
"إحداها": أن يعتقد - بحسب حاله - رجحان مذهب ذلك الغير في تلك المسألة, فيجوز اتباعا للراجح في ظنه.
" الثانية " أن يعتقد مذهب إمامه, أو لا يعتقد رجحانا أصلا, لكن في كلا الأمرين - أعني اعتقاده رجحان مذهب إمامه, وعدم الاعتقاد - يقصد تقليده احتياطا لدينه, كالحيلة إذا قصد بها الخلاص من الربا, كبيع الجمع بالدراهم وشراء الجنيب بها, فليس بحرام ولا مكروه, بخلاف الحيلة على غير هذا الوجه حيث يحكم بكراهتها.
" الثالثة " أن يقصد بتقليده الرخصة فيما هو محتاج إليه, لحاجة لحقته, أو ضرورة أرهقته, فيجوز أيضا, إلا إن اعتقد رجحان مذهب إمامه ويقصد تقليد الأعلم فيمتنع, وهو صعب. والأولى: الجواز.
" الرابعة " ألا تدعوه إلى ضرورة ولا حاجة, بل مجرد قصد الترخص من غير أن يغلب على ظنه رجحانه, فيمتنع, لأنه حينئذ متبع لهواه لا للدين.
" الخامسة " أن يكثر منه ذلك ويجعل اتباع الرخص ديدنه, فيمتنع, لما قلنا وزيادة فحشه.
" السادسة " أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع, فيمتنع.
" السابعة " أن يعمل بتقليده الأول, كالحنفي يدعي شفعة الجوار فيأخذها بمذهب أبي حنيفة, ثم تستحق عليه فيريد أن يقلد مذهب الشافعي, فيمتنع, لتحقق خطئه إما في الأول وإما في الثاني, وهو شخص واحد مكلف.
تنبيهات:
الأول - ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجوز قبل العمل ولا بعده بالاتفاق. وليس كما قالا, ففي كلام غيرهما ما يقتضي جريان الخلاف بعد العمل أيضا, وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته؟, لكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام مكلف ما لم يظهر له غيره, والعامي لا يظهر له, بخلاف المجتهد, حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة. وفصل بعضهم فقال: التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك, كالحنفي يقلد في الوتر, ومن الحظر إلى الإباحة ليفعل, كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز, والفعل والترك لا ينافي الإباحة, واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج

(4/600)


عن العمل وحاصل قبله, فلا معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد. وإن كان بالعكس فإن كان يعتقد الإباحة فقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد. وليس في العامي إلا هذه الأقسام. نعم, المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه, لأنه حينئذ محض تشه.
والثاني - ظاهر كلامهم جريان هذا الخلاف في تتبع الرخص وغيرها. وربما قيل: اتباع الرخص محبوب, لقوله عليه السلام: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه" 1.
ويشبه جعله في غير المتتبع من الانتقال قطعا, خشية الانحلال. وحكى ابن المنير عن بعض مشايخ الشافعية أنه فاوضه في ذلك وقال: أي مانع يمنع من تتبع الرخص ونحن نقول: كل مجتهد مصيب, وأن المصيب واحد غير معين, والكل دين الله, والعلماء أجمعون دعاة إلى الله, قال: حتى كان هذا الشيخ - رحمه الله - من غلبة شفقته على العامي إذا جاء يستفتيه - مثلا - في حنث ينظر في واقعته, فإن كان يحنث على مذهب الشافعي ولا يحنث على مذهب مالك قال لي: أفته أنت. يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعا. كان ينظر أيضا في فساد الزمان وأن الغالب عدم التقيد, فيرى أنه إن شدد على العامي ربما لا يقبل منه في الباطن, فيوسع على نفسه, فلا مستدرك ولا تقليد, بل جرأة على الله تعالى واجتراء على المحرم. قلت: كما اتفق لمن سأل التوبة وقد قتل تسعا وتسعين.
قال: فإذا علم أنه يئول به إلى هذا الانحلال المحض فرجوعه حينئذ في الرخصة إلى مستند وتقليد الإمام أولى من رجوعه إلى الحرام المحض. قلت: فلا ينبغي حينئذ إطلاق القول بالجواز مطلقا لكل أحد, بل يرجع النظر إلى حال المستفتي وقصده.
قال ابن المنير: في الحكايات المسندة إلى ولد ابن القاسم حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام فاستفتى أباه, فقال له: أفتيك فيها بمذهب الليث كفارة يمين, وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك. يعني بالوفاء, قال: ومحمل ذلك عندي أنه نقل له مذهب الليث لا أنه أفتاه به, وحمله عليه علمه بمشقة المشي على الحالف أو
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده "2/108" حديث "5866" عن ابن عمر قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته" ورواه ابن خزيمة في صحيحه "2/73" حديث "950" ورواه ابن حبان في صحيحه "8/333" حديث "3568" بلفظ " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى عزائمه" وعن ابن غباس بنفس اللفظ "2/69" حديث "354".

(4/601)


خشية ارتكاب مفسدة أخرى, فخلصه من ذلك ثم هدده بما يقتضي تحرزه من العادة. قلت: وربما كان ابن القاسم يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة, وأما بالتشهي فلا. قال: وكانت هذه الوقائع تتفق نوادر, وأما الآن فقد ساءت القصود والظنون وكثر الفجور وتغير إلى فتون, فليس إلا إلجام العوام عن الإقدام على الرخص ألبتة.

(4/602)


مسألة: لو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه
...
مسألة
فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه, ففي تفسيقه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق, وقال ابن أبي هريرة: لا, حكاه الحناطي في فتاويه", وأطلق الإمام أحمد: لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ, وأهل المدينة في السماع, وأهل مكة في المتعة كان فاسقا. وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها, وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد, لإخلاله بغرضه وهو التقليد. فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق, لأنه قلد من يسوغ اجتهاده.
وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص. وقال في فتاو له أخرى وقد سئل عن مقلد مذهب: هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها؟ أجاب: يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقا من غير تلقط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك. وسئل أيضا: هل يجوز أكل ما ولغ فيه الكلب أو شربه تقليدا لمالك؟ فأجاب: ليس له أكله ولا شربه إن نقص عن قلتين إذا كان على مذهب من يعتقد نجاسته. انتهى.
وفي "أمالي "الشيخ عز الدين: إذا كان في المسألة قولان للعلماء, بالحل والحرمة, كشرب النبيذ - مثلا - فشربه شخص ولم يقلد أبا حنيفة ولا غيره, هل يأثم أم لا؟ لأن إضافته لمالك والشافعي ليست بأولى من إضافته لأبي حنيفة. وحاصل ما قال إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف: فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم, وإلا لم يأثم. انتهى.
وعن الحاوي للماوردي أن من شرب من النبيذ ما لا يسكر مع علمه باختلاف العلماء ولم يعتقد الإباحة ولا الحظر حد. وفي "فتاوى القاضي حسين": عامي شافعي لمس امرأة رجل ولم يتوضأ, فقال: عند بعض الأئمة الطهارة بحالها لا

(4/602)


تصح صلاته, لأن بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي فلا يجوز له أن يخالف اجتهاده, كما إذا اجتهد في القبلة وأدى اجتهاده إلى جهة وأراد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لا يصح, ولو جوزنا له ذلك لأدى إلى أن يرتكب محظورات المذاهب وشرب المثلث والنكاح بلا ولي ولا سبيل إليه. انتهى.
وفي "السنن "للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام. وعنه: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف, ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن, ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة, ومن قول أهل الكوفة النبيذ, قال: وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول: سمعت ابن سريج يقول: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم, فقلت: مصنف هذا زنديق, فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة, ومن أباح المتعة لم يبح المسكر, وما من عالم إلا وله زلة, ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه, فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
ومن فروع هذه القاعدة: أنه هل يجوز للشافعي - مثلا - أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به؟ صرح ابن الصباغ بأنه لا يجوز, وهو ظاهر كلام الأصحاب في "كتاب الأقضية". قالوا: ليس له أن يشهد على خط نفسه, والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف. ويدل عليه تصحيح النووي قبول شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار, وحكى الرافعي فيه وجهين بلا ترجيح. ومنها: أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار هل يجوز له؟ وفيه وجهان: أصحهما: الحل. وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في "كتاب الصلاة" أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم.

(4/603)


مسألة
العامي إذا اتبع مجتهدا ثم مات وفي العصر مجتهد آخر, فقيل: عليه اتباع من عاصره, فإن نظره أولى من نظر الميت. قال إلكيا: وهذا ليس مقطوعا به, فإنا نعلم أن محمد بن الحسن من المجتهدين, وما كلف الناس باتباع مذهبه بعد أبي حنيفة, فإذن الاختيار مفوض إلى العامي في القبول. وكأن هذا تفريع على عدم جواز تقليد الميت. والأصح: الجواز.

(4/603)


مسألة
إذا فعل المكلف فعلا مختلفا في تحريمه غير مقلد لأحد, فهل نؤثمه, بناء على القول بالتحريم, أو لا, بناء على التحليل, مع أنه ليس إضافته لأحد المذهبين أولى من الآخر, ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه. قال القرافي: لم أر فيه نصا, وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - يقول إنه آثم, من جهة أن كل أحد يجب عليه أن لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه, وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم. وأما تأثيمه بالفعل نفسه فإن كان مما علم في الشرع قبحه أثمناه, وإلا فلا. والله تعالى أعلم.
تم الكتاب, بعون الملك الوهاب.
[وجدت في آخر المنقول منه ما صورته]
قال مؤلفه [فسح الله في مدته, ونفع المسلمين ببركته]: نجز سابع عشر شوال من سنة سبع وسبعين وسبعمائة بالقاهرة, جعله الله خالصا لوجهه الكريم, مقرونا بالزلفى والقبول إلى جنات النعيم والحمد لله الذي هدانا لهذا, وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, ونسأله المزيد من فضله, إنه الوهاب. وأنا أرغب إلى من وقف عليه أن لا ينسب فوائده إليه فإني أفنيت العمر في استخراجها من المخبآت, واستنتاجها من الأمهات, واطلعت في ذلك على ما يحسر على غيري مرامه, وعز عليه اقتحامه, وتحرزت في النقول من الأصول بالمشافهة لا بالواسطة, ورأيت المتأخرين قد وقع لهم الغلط الكثير بسبب التقليد, فإذا رأيت في كتابي هذا شيئا من النقول, فاعتمده فإنه المحرر المقبول. وإذا تأملته وإسعافه وجدته قد زاد في أصول الفقه بالنسبة إلى كتب المتأخرين أضعافه. وقد أحييت من كلام الأقدمين خصوصا الشافعي وأصحابه, ما قد درس, وأسفر صباحه بعد أن تلبس بالغلس. ولقد كان من أدركت من الأكابر يقول: مسائل أصول الفقه إذا استقصيت تجيء نحو الثمانمائة, وأنت تعلم أنها إلى الثمانية آلاف وأزيد أقرب منها إلى ما ذكره, وتتضاعف عند التوليد والنظر.
والحمد لله أولا وآخرا, وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلواته وسلامه على سيدنا محمد سيد المخلوقين, وعلى آله وصحبه وعترته وذريته الطاهرين. والحمد لله رب العالمين.

(4/604)