البحر المحيط في أصول الفقه، ط الكتبي [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَسْتَقِرُّ
بِهِ الْإِجْمَاعُ] [الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ]
ُ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ
اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِمْ عَمَلٌ أَمْ لَا، وَقِيلَ لَا بُدَّ
أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَمَلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُحَقِّقٌ
لِلْقَوْلِ. قَالَ: وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ حُجَجَ
الْأَقْوَالِ آكَدُ مِنْ الْأَفْعَالِ. نَعَمْ، إنْ أَجْمَعُوا
عَلَى الْقَوْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ، يُبْطِلُ
الْإِجْمَاعَ. ثَانِيهَا: أَنْ يَسْتَدِيمُوا مَا كَانُوا
عَلَيْهِ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَحْدُثُ مِنْ أَحَدِهِمْ
خِلَافٌ، فَإِنْ خَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ
بَطَلَ الْإِجْمَاعُ، وَسَاغَ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا
جَازَ حُدُوثُ إجْمَاعٍ بَعْدَ خِلَافٍ، جَازَ حُدُوثُ خِلَافٍ
بَعْدَ إجْمَاعٍ كَمَا وَقَعَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. قُلْت: هَذَا
رَأْيٌ مَرْجُوحٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ رُجُوعَ الْوَاحِدِ
بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَا يَقْدَحُ فِي
الْإِجْمَاعِ، بَلْ يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِ،
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ.
وَقَدْ وَافَقَ هُوَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبَحْرِ "،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَنْقَرِضَ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُؤْمَنَ
الْخِلَافُ مِنْهُمْ، فَإِنْ بَقِيَ الْعَصْرُ رُبَّمَا
أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ خِلَافًا، كَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ
بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا قُلْته فِي
أَيَّامِهِ؟ قَالَ: كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا، فَهِبْتُهُ.
(6/490)
الْمُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ]
قَالَ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْتُ
جَمِيعِ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ، وَقَدْ
تَتَدَاخَلُ الْأَعْصَارُ. وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي
انْقِرَاضِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى
الْعَصْرِ الثَّانِي غَيْرُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْقَضِيَ فِيهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ
الْعَصْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَاشَا إلَى عَصْرِ التَّابِعِينَ،
وَتَطَاوَلَا إلَى أَنْ جَمَعَا بَيْنَ عَصْرَيْنِ، فَلَمْ
يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ.
قَالَ: ثُمَّ إذَا كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي
اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي
الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إتْلَافٌ
وَاسْتِهْلَاكٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ. قَالَ:
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، هَلْ هُوَ
شَرْطٌ فِي الْإِجْمَاعِ انْعِقَادًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
قُلْت: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِانْقِرَاضَ شَرْطٌ فِي
اسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ قَطْعًا، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي
انْعِقَادِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. رَابِعُهَا: أَنْ
لَا يَلْحَقَ بِالْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَنْ يُنَازِعُهُمْ مِنْ
أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي، فَإِنْ لَحِقَ بِعَصْرِ
الصَّحَابَةِ بَعْضُ التَّابِعِينَ، فَخَالَفَ فِي
إجْمَاعِهِمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَفَصَّلَ فِي مَوَاضِعَ
أُخَرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ
حُدُوثِ الْوَاقِعَةِ فَيُعْتَبَرُ، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ:
إنَّهُ الْمَذْهَبُ.
(6/491)
|