البرهان في أصول الفقه

ج / 1 ص -7-            بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد واله
1- قال الشيخ الإمام1 أبو المعالي إمام الحرمين رضي الله عنه حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه وبالمواد التي منها يستمد [ذلك] الفن وبحقيقته [وفنه] وحده2 إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد وإن عسر فعليه أن يحاول الدرك بمسلك التقاسيم والغرض من ذلك أن يكون الإقدام على تعلمه مع حفظ من العلم الجملى بالعلم الذي يحاول الخوض فيه. فأصول الفقه مستمدة من الكلام والعربية والفقه.
2- والكلام نعني به معرفة العالم وأقسامه وحقائقه وحدثه والعلم بمحدثة وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه وما يجوز في حقه والعلم بالنبوات وتميزها بالمعجزات عن دعاوى المبطلين وأحكام النبوات والقول فيما يجوز ويمتنع من كليات الشرائع ولا يندرج المطلوب من الكلام تحت حد وهو يستمد من الإحاطة بالميز بين العلم وما عداه من الاعتقادات والعلم بالفرق بين البراهين والشبهات ودرك مسالك النظر.
3- ومن مواد أصول الفقه العربية فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ [ولن] يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة والعربية.
4- ومن مواد الأصول الفقه فإنه مدلول الأصول ولا يتصور درك3 الدليل دون درك المدلول ثم يكتفي الأصولي بأمثلة من الفقه [يتمثل بها] في كل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام: المقتدى به في الأمور.
2 حدة: تعرفه.
3 درك: معرفة

 

ج / 1 ص -8-            باب من أصول الفقه فإن قيل فما الفقه قلنا هو في اصطلاح علماء الشريعة العلم بأحكام التكليف فإن قيل معظم متضمن مسائل الشريعة ظنون قلنا ليست الظنون فقها وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون ولذلك قال المحققون أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملا لذواتها وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهي الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة.
5- فإن قيل فما أصول الفقه قلنا هي أدلته وأدلة الفقه هي الأدلة السمعية وأقسامها نص الكتاب ونص السنة المتواترة والإجماع ومستند.
جميعها قول الله تعالى:.
ومن هذه الجهة تستمد أصول الفقه من الكلام.
6- فإن قيل تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول وليست قواطع قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به.
فصل.
7- قد ذكرنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية ونحن نذكر الآن معنى الأحكام ذكرا جمليا ثم نفصلها بعد ذلك.
8- فليس الحكم المضاف إلى متعلقه صفة فيه ثابتة فإذا قلنا شرب الخمر محرم لم يكن التحريم صفة ذاتية للشرب وإذا أوجبنا الشرب عند الضرورة فهو كالشرب المحرم عند الاختيار والمعنى بكونه محرما أنه متعلق النهى وبكونه واجبا متعلق الأمر وليس لما يتعلق به قول قائل على جهة صفة حقيقية من ذلك القول وهو كتسميتنا الشيء معلوما مع القطع بأنه ليس له من تعلق العلم به صفة حقيقية.
9-  ثم من أحكام الشرع التقبيح والتحسين وهما راجعان إلى الأمر والنهي فلا يقبح شيء في حكم الله تعالى لعينه كما لا يحسن شيء لعينه.
10- وقسمت [المعتزلة الأفعال] قسمين فقالوا يثبت حكم القبح والحسن في أحدهما مستدركا بالعقل غير متوقف على ورود الأمر والنهي ثم قسموا هذا القسم قسمين فزعموا أن أحدهما يدرك القبح والحسن فيه ضرورة ببديهة العقل.

 

ج / 1 ص -9-            والثاني: يدرك الأمران فيه بالنظر العقلي الجامع بينه وبين الضروري ومثلوا ذلك في التقبيح بالكذب الذي لا فائدة فيه والكذب المفيد فقالوا ما لا يفيد من الكذب يدرك قبحه ببديهة العقل والمفيد ملحق بغير المفيد بمسلك [لهم] نظري سنذكره في شبههم وكذلك قولهم في الظلم الذي لا يفيد مع المفيد منه فهذا أحد القسمين.
والقسم الثاني: ما يقضي الشرع بالتقبيح فيه والتحسين والعقول لا تستدركها وزعموا أن معظم تفاصيل الشريعة في المأمورات والمنهيات تنحصر في هذا القسم ثم قالوا إنما يرسم الشارع عليه السلام منها ما يرسم لوقوعها في المعلوم ألطافا داعية إلى الخير والشارع إنما يأمر بما يعلم أن امتثال أمره فيه يدعو إلى المثابرة على المستحسنات العقلية وكذلك القول في نقيضها من النهي في التفصيل.
واضطرب1 النقلة عنهم في قولهم يقبح الشيء لعينه أو يحسن فنقل عنهم أن القبح والحسن في المعقولات من صفات أنفسها ونقل عنهم أن القبح صفة النفس وأن الحسن ليس كذلك ونقل ضد هذا عن الجبائي2 وكل ذلك جهل بمذهبهم فمعنى قولهم يقبح ويحسن الشيء لعينه أنه يدرك ذلك عقلا من غير إخبار مخبر.
11 - وقد سلك القاضي [أبو بكر3 - رحمه الله] في الرد عليهم مسلكين:.
أحدهما أنه قال ما ادعيتم الضرورة فيه فأنتم منازعون فيه ويتبين ذلك بمخالفة عددنا لهم وافترائهم في دعوى الضرورة فإن ما يدرك بمبادئ العقول لا يجوز في استمرار العرف مخالفة الجمع العظيم فيه وإنما ينشأ الخلاف في النظريات لانقسام الناس إلى الناظرين والمضربين ثم ينقسمون بعد افتتاح النظر لاختلاف القرائح4 والطبائع ولهذا لا يجوز اتفاق العقلاء في نظري عقلي كما لا يسوغ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اضطرب: اختلف.
2 الجبائي: هو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمدان البصري. أخذ عن أبي يوسف يعقوب الشحام البصري وغيره أخذ عنه ابنه أبو هاشم والشيخ أبو الحسن الأشعري ثم اعرض الأشعري عن طريق الاعتزال وتاب منه. مات سنة "303" له ترجمة في: البداية والنهاية "11/125" والنجوم الزاهرة "3/189" ووفيات الأعيان "3/398"
3 القاضي أبو بكر هو: محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي وهو من أكثر الناس كلاما وتصنيفا فيه له مصنفات كثيرة أهمها الرد على الباطنية الذي سماه "كشف الأسرار" مات سنة "403". له ترجمة في: البداية والناهية "11/350".
4 القرائح: جمع قريحة وهي الطبيعة التي جبل عليها الإنسان فالعطف هنا للتفسير "المعجم الوجيز" ص "496".

 

ج / 1 ص -10-         اختلافهم في ضروري ثم إذا ظهر النزاع وبطل دعوى الضرورة في الأصل بطل النظر المستند إليه فإن قيل أنتم توافقوننا في تقبيح ما نقبحه وتحسين ما نحسنه ولكنكم تنسبون ذلك إلى السمع فيئول الخلاف إلى المأخذ وليس ذلك بدعا قلنا نحن نريكم من أصلنا تحسين ما تقبحونه ادعاء منكم وذلك أنا نقول إيلام البهائم والأطفال لا أعواض لها وليس مترتبا على استحقاق سابق حسن والإيلام على هذا الوجه قبيح بضرورة العقل عندكم.
والمسلك الثاني للقاضي: أنه قال: نرى كذبة تنجى أمما والكف عنها 1ذريعة إلى هلاكهم فما وجه قبحها؟ ومعتمدكم الرجوع إلى [تعاقل] العقلاء فلئن جاز لكم تحسين ألم لنفع يبر قدره عليه فما المانع من مثل ذلك في الكذب ؟وهذا لا جواب عنه حتى استجرأ بعض المتأخرين وشبب2 بتحسين الكذب في الصورة المفروضة فقيل له فجوز أن يخلق الله تعالى عن قول المبطلين كذبا نافعا يكون كاذبا به والكذب عندهم من صفات الفعل إذ هو من أقسام الكلام فتبلد ولم يحر جوابا.
12- والمسلك الحق عندي في ذلك الجامع لمحاسن المذاهب الناقض لمساويها أن نقول لسنا ننكر أن العقول تقتضي من أربابها اجتناب المهالك وابتدار المنافع الممكنة على تفاصيل فيها وجحد3 هذا خروج عن المعقول [ولكن ذلك في حق الآدميين]. [والكلام في مسألتنا مداره] على ما يقبح ويحسن في حكم الله تعالى وإن كان لا ينالنا منه ضرر ولا يفوتنا بسببه نفع لا يرخص العقل في تركه وما كان كذلك فمدرك قبحه وحسنه من عقاب الله تعالى إيانا وإحسان إلينا عند أفعالنا وذلك غيب والرب سبحانه وتعالى: لا يتأثر بضررنا ونفعنا فاستحال والأمر كذلك الحكم بقبح الشيء في حكم الله تعالى وحسنه ولم يمتنع إجراء هذين الوصفين فينا إذا تنجز ضرر أو أمكن نفع بشرط أن لا يعزى إلى الله ولا يوجب عليه أن يعاقب أو يثيب.
وتتمة القول فيه أنه لو فرض ورود الأمر الجازم من الله سبحانه وتعالى: من غير وعيد على تركه لما كان للحكم بالوجوب معنى معقول في حقوقنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذريعة: وسيلة وسببا. "المعجم الوجيز" ص 244333".
2 شيب: تعزل. "المعجم الوجيز" ص "333".
3 جحد: إنكار. "المعجم الوجيز" ص "93".

 

ج / 1 ص -11-         فليتأمل الناظر في هذا فهو من لطيف الكلام ولا يغمض معه في النفي والإثبات شيء على المتأمل في هذا الباب.
شبه المعتزلة1:.
13- قال أبو هاشم2: من تصدى له أمر مرغوب فيه وهو يناله بالصدق ويناله بالكذب على حد سواء فالعقل يتقاضاه الصدق فدل ذلك على أن الكذب قبيح لعينه قلنا له كيف يستويان والكاذب ملوم شرعا فإن قال أفرض ذلك في حق من لم يبلغه الشرع قلنا قد يكون في قوم يعتقدون اعتقادكم فإن انتهى الأمر في التصوير إلى حقيقة الاستواء لم يسلم له قضاء العقل بتعيين الصدق.
شبهة أخرى:.
14- فإن قالوا البراهمة مع إنكارهم الشرائع قبحت وحسنت قلنا جهلوا كجهلكم فلا استرواح3 إلى مذهبهم هذا إن عزوا التقبيح والتحسين إلى حكم الله تعالى وليس الأمر كذلك فإنهم يردون ما يحسنون ويقبحون إلى حقوقنا الناجزة وقد اشتمل كلامنا على تسليم ذلك.
مسألة.
15- ترسم بشكر المنعم لا يدرك وجوب شكر المنعم بالعقل عندنا وهذا يندرج تحت الأصل الذي سبق عقده وقال من خالف في الجملة المتقدمة وجوب شكر المنعم مدرك بالعقل وليس ذلك عند المخالفين واقعا في قسم الضروريات وإنما هو مدرك بالنظر منوط بمسلك لهم نوضحه في شبههم.
16- والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه أن الشكر تعب للشاكر ناجزا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعتزلة: ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله – تعالى – واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه...إلخ, "الملل والنحل" للشهرستاني "1/43-45".
2 أبو هاشم: هو عبد السلام بن عبد الوهاب الجبائي. له تصانيف و"تفسير وكان من رءوس المعتزلة هو وأبوه. وكان موته هو وابن دريد في يوم واحد سنة "321" ببغداد. له ترجمة في: البداية والنهاية "12/150" وتذكرة الحفاظ "4/1208" والنجوم الزاهرة "5/156".
3 استرواح: اطمئنان. "المعجم الوجيز" ص "281".

 

ج / 1 ص -12-         ولا يفيد المشكور شيئا فكيف يقضي العقل بوجوبه فإن قيل إنه يفيد الشاكر الثواب الجزيل في الآجل والعقل قاض باحتمال التعب العاجل لارتقاب النفع الآجل المربى على التعب المحتمل قلنا: كيف يدرك ذلك بالعقل ومن أين يعرف العقل هذا؟ والمشكور يقول: لا يجب على نفعك ابتداء وما نفعتني فأعوضك فإن قيل يدرأ الشاكر بالشكر العقاب المرتقب على ترك الشكر قلنا كيف يعلم ذلك؟ والكفر والشكر سيان في حق المشكور فإن قيل إن لم يقطع بالعقاب لم يأمنه قلنا إذا تحقق استواء الأمرين فارتقاب العقاب على ترك الشكر كارتقابه على فعله ولا يبقى بعد ذلك مضطرب.
17- ومما ذكره الأستاذ أبو إسحاق1 - رحمه الله عليه - في مفاوضة له إذ قال الشاكر متعب نفسه وهو ملك خالقه فقد يتوقع على تنقيص ملك المالك من غير إذنه فيما لا ينفع به المالك عقابا.
18-  وللخصوم مسلكان: أحدهما: التعلق [بتعاقل] العقلاء شاهدا فيزعمون أن الشكر واجب شاهدا ثم يقضون بذلك على الغائب وهذا ظاهر السقوط فإن ما ذكروه إن سلم لهم فهو من جهة انتفاع المشكور والرب تعالى متعال عن قبول النفع والضر كما سبق.
والمسلك الثاني: في توقع العقاب وقد اندرج تحت ما سبق سؤالا وجوابا.
19- ومما يعد من غوامض الأسئلة كلام للخصوم في وجوب النظر والمسألة وإن كانت مرسومة في الشكر فكل ما يدعى الخصم وجوبه عقلا فمأخذ الكلام فيه واحد.
فإن قالوا: لو لم نقض بوجوب النظر عقلا لانحسمت دعوة الأنبياء عليهم السلام وخصموا إذا دعوا فلم يجابوا فإن المدعوين يقولون لا ننظر فيما جئتم به فإن الوجوب مستدرك بالشرع ولم يتقرر عندنا شرع يتضمن وجوب النظر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو إسحاق هو: الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن مهران الإمام العلامة ركن الدين الفقيه الشافعي المتكلم صاحب التصانيف في الأصلين جامع الحلى في مجلدات والتعليقة النافعة في "أصول الفقه". سمع الكثير من الحديث وأخذ عته البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري والحاكم والنيسابوري وأثنى عليه. مات سنة "418". له ترجمة في: البداية والنهاية "12/24".

 

ج / 1 ص -13-         وهذا أولا ليس برهانا في إثبات وجوب النظر فيقع الدور في لزوم الدعوى ولا يستمر هذا برهانا في إثبات وجوب النظر وإنما هي غائلة أبدوها في دعوة الأنبياء وحقها أن تذكر في مشكلات الدعوة والإجابة.
20- ثم نفس العقل لا يدرك به وجوب النظر [البتة] ولا بد من فكر مفض على زعمهم إليه فامتناع المدعوين عن الفكر المرشد إلى وجوب النظر العقلي كامتناعهم عن النظر المرشد إلى الواجب السمعي فإن تعسف غبي وزعم أن نفس العقل يدرك به وجوب النظر كان مباهتا ملتزما ألا يخلو عاقل في مضطرب أحواله عن العلم بوجوب النظر وكيف يستقيم ادعاء ذلك مع مخالفتنا لهم أم كيف ينقدح ما قالوه مع قيام البرهان القاطع الذي أقمناه على مخالفتهم؟
21- فإن قالوا يبعث الله إلى كل مدعو ملكا ينفث في روعه ويردده بين إمكان العقاب لو ترك النظر واستحقاق الثواب لو نظر ثم العقل يستحثه على اجتناب العقاب قلنا هذا يوجب أن [لا] يخلو مدعو عن تقابل خاطرين ونحن نعلم معظم المدعوين مضربين عن هذه الفنون ولو سلم ما قالوه من معنى فكيف يدرك المدعو كلام الملك والكلام عند الخصوم أصوات وإن أدركه فلا يبالي به وأي حاجة إلى ذلك وفي دعوى النبي مقنع عما هذوا به؟
22- ثم التحقيق فيه أن النظر ممكن وإنما يمتنع إيجاب مالا يمكن إيقاعه فإن امتنع ممتنع تعرض للوعيد الذي بلغه النبي ولا يشترط في وجوب الشيء علم المخاطب بوجوبه عليه بل يشترط تمكنه من العلم والسر في ذلك أن النظر الأول لا يتصور إلا كذلك سواء فرض أخذه من السمع المنقول أو من مدارك العقول وعن هذا قيل إن القربة التي لا يتصور التقرب بها إلى الله تعالى هي النظر الأول.
مسألة.
23- لا حكم على العقلاء قبل ورود الشرع بناء على أن [الأحكام] هي الشرائع بأعيانها وليست الأحكام صفات للأفعال وهذه المسألة تفرض فيما لا يقضى الخصوم فيه بتقبيح عقلي أو تحسين.
وقد افترقت المعتزلة فذهب بعضهم إلى أن مالا يعين العقل فيه قبحا ولا حسنا فهو على الحظر قبل ورود الشرع وذهب آخرون إلى أنه على الإباحة.
فأما أصحاب الحظر فيلزمون الأضداد التي لا انفكاك عن جميعها وليس يتحقق العرو عن جملتها فإن حظروا جميعها كان ذلك تكليف مالا يستطاع وإن خصصوا.

 

ج / 1 ص -14-         بالحظر شيئا عن شيء من غير تقبيح العقل وتحسينه لم يخف سقوط هذا المذهب وإن خصصوا الحظر بما يعتقدون جواز الخلو عنه أصلا فمرجعهم إلى أن التصرف في ملك الغير من غير إذنه قبيح وقد مضى من الكلام ما يدرأ هذا الفن.
24- ثم قال الأستاذ رحمه الله من ملك بحرا لا ينزف واتصف بالجود واستغنى عن وجود الملك ومملوكه عطشان لاهث والجرعة تروية والنفية من الماء تكفيه ومالكه ناظر إلى عطشه فلا يدرك بالعقل تحريم القدر النزر من البحر الذي لا ينقصه ما يؤخذ منه نقصا محسوسا ولا حاجة إلى هذا الفن مع وضوح مسالك البرهان.
وأما أصحاب الإباحة فلا خلاف على الحقيقة بيننا وبينهم فإنهم لم يعنوا بالإباحة ورود خبر عنها وإنما أرادوا استواء الأمر في الفعل والترك والأمر على ما ذكروه.
نعم لو قالوا حق على المالك أن يبيح فهذا ينعكس [عليهم] الآن بالتحكم في تفاصيل النفع والضر على من لا ينتفع ولا يتضرر.
فصل
يجمع التكليف ومعناه ومن يكلف وما يجوز التكليف به.
25- فأما التكليف فقد قال القاضي أبو بكر1 - رحمه الله - إنه الأمر بما فيه كلفة والنهي عما في الامتناع عنه كلفه وإن جمعتهما قلت الدعاء إلى ما فيه كلفة وعد الأمر على الندب والنهي على الكراهية من التكليف.
26- والأوجه عندنا في معناه أنه إلزام ما فيه كلفة فإن التكليف يشعر بتطويق المخاطب الكلفة من غير خيرة من المكلف والندب والكراهية يفترقان [بتخيير] المخاطب والقول في ذلك قريب فإن الخلاف فيه آيل إلى المناقشة في عبارة الشرع نعم الشرع يجمع الواجب والحظر والندب والكراهية فأما الإباحة فلا ينطوي عليها معنى التكليف.
وقد قال الأستاذ2 - رحمه الله -: إنها من التكليف وهي هفوة ظاهرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبقت ترجمته.

 

ج / 1 ص -15-         ثم فسر قوله بأنه يجب اعتقاد الإباحة والذي ذكره رد الكلام إلى الواجب وهو معدود من التكليف فإن قيل هل تعدون الإباحة من الشرع قلنا هي معدودة منه على تأويل أن الشرع ورد بها.
27- ونحن نذكر بعد ذلك من يكلف وما يكلف به وذلك يستدعي قولا مقنعا في تكليف مالا يطاق.
فقد نقل الرواة عن [الشيخ] أبي الحسن1 الأشعري رضي الله عنه أنه كان يجوز تكليف مالا يطاق ثم نقلوا اختلافا عنه في وقوع ما جوزه من ذلك وهذا سوء معرفة بمذهب الرجل فإن مقتضى مذهبه أن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة وهذا يتقرر من وجهين:.
أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل والأمر بالفعل يتوجه على المكلف قبل وقوعه وهو إذ ذاك غير مستطيع ولا يدفع ذلك قول القائل إن الأمر بالفعل نهى عن أضداده والمأمور بالفعل قبل الفعل إن لم يكن قادرا على الفعل فهو قادر على ضد من أضداده ملابس له فإنا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن أضداده وأيضا فإن القدرة إذا قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل والفعل مقصود مأمور به وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه فهذا أحد الوجهين.
والثاني أن فعل العبد عنده واقع بقدرة الله تعالى والعبد مطالب بما هو من فعل ربه ولا ينجى من ذلك تمويه المموه بذكره الكسب [فإنا سنذكر سر ما نعتقده في خلق الأعمال], [إذ لا يحتمله هذا الموضع].
28- فإن قيل فما الصحيح [عندكم] في تكليف مالا يطاق قلنا إن أريد بالتكليف طلب الفعل فهو فيما لا يطاق محال من العالم باستحالة وقوع المطلوب وإن أريد به ورود الصيغة وليس المراد بها طلبا كقوله سبحانه وتعالى:
{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}2 فهذا غير ممتنع فإن المراد بذلك كوناهم قردة خاسئين.
فكانوا كما أردناهم وأما سر ما نعتقده في خلق الأعمال فلا يحتمله هذا الموضع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الحسن الأشعري هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان مالكيا صنف لأهل التصانيف وأقام الحجج على إثبات السنن وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه وله مؤلفات مفيدة جدا ككتاب "الحث على البحث" و" البرهان" و "أدب الجدل" مات سنة "334" له ترجمة في: البداية والنهاية "11/187" وتذكرة الحفاظ "3/821".ووفيات الأعيان "2/446".
2 آية [65] سورة البقرة.

 

ج / 1 ص -16-         فإن قيل قد كلف الله تعالى أبا جهل أن يصدقه فيما يخبر به وكان سبحانه وتعالى: أخبر بأنه لا يصدقه فكان هذا تكليفا منه أن يصدقه بأنه لا يصدقه وهذا طلب جمع النقيضين قلنا لا يصح تكليف التصديق على هذا الوجه على معنى تحقيق الطلب ولكن كلفه الإيمان به وتصديق رسله والتزام شرائعه فأما تكليفة الجمع بين نقيضين في التصديق فلا.
فإن قيل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر على وفق علمه بأنه لا يكون فلا يكون والتكليف بخلاف المعلوم جائز قلنا إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه وليس امتناعة للعلم بأنه لا يقع ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه فالعلم يتعلق به على ما هو عليه وتعلق العلم بالمعلوم لا يغيره ولا يوجبه بل يتبعه في النفي والإثبات ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم [سبحانه وتعالى:] وتقرير ذلك في [فن] الكلام.
فهذا منتهى الغرض في منع تكليف مالا يطاق فنعود بعده إلى المقصود بالفصل في ذكر من يكلف وما يقع التكليف به.
29- فالقول الوجيز أنه يكلف المتمكن ويقع التكليف بالممكن ولا نظر إلى الاستصلاح ونقيضه.
مسألة.
30- السكران يمتنع تكليفه خلافا لطوائف من الفقهاء والدليل على امتناع تكليفه استحالة فهم الخطاب والامتثال قصدا إليه غير ممكن دون فهم الخطاب فإن تمسك الفقهاء بما يصح من أقوال للسكران وما ينزل فيه من أحواله منزلة الصاحي فحكم الشرع بالصحة والفساد متبع [ولا] استحالة فيه وإنما الاستحالة في توجيه الخطاب على من لا يفهم الخطاب.
31- فإن قيل هل يجوز تكليف الناسي في استمرار نسيانه قلنا القول فيه كالقول في السكران.
مسألة.
32- المكره لا يمتنع تكليفه لإمكان الفهم والامتثال وإن كان على الكره.
وذهبت المعتزلة إلى أن المكره على العبادة لا يجوز أن يكون مكلفا بها وبنوا ذلك على.

 

ج / 1 ص -17-         أصلهم في وجوب إثابة المكلف والمحمول على الشيء لا يثاب عليه وهذا الأصل باطل عندنا فلا يمتنع التكليف من غير إثابة وقاعدة القول في الثواب والعقاب تستقصي في غير هذا الفن.
وقد ألزمهم القاضي رحمه الله [إثم] المكره على القتل فإنه منهي عنه آثم به لو أقدم عليه وهذه هفوة عظيمة فإنهم لا يمنعون النهى عن الشيء مع الحمل عليه فإن ذلك أشد في المحنة واقتضاء الثواب وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى فعل مع الأمر به.
مسألة:
33- ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة1 إلى أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة وظاهر مذهب الشافعي2 رحمه الله أنهم مخاطبون بها.
وفصل فاصلون من العلماء بين المأمورات والمنهيات وقالوا هم معاقبون على ارتكاب المنهيات غير معاقبين على ترك المأمورات.
34- والقول في هذه المسألة يتعلق بطرفين أحدهما في جواز المخاطبة عقلا وإمكان ذلك والثاني في وقوع ذلك إن ثبت جوازه فأما الجواز فالذي حمل الصائرين إلى منع ذلك والقضاء باستحالته أنه لو فرض الخطاب بإقامة الفروع لكان ذلك خطابا بتصحيح الفروع وذلك مستحيل مع الإصرار على الكفر وفي تجويز مخاطبتهم بإقامة الشرائع مع تقدير استمرارهم على الكفر تجويز تكليف ما لا يطاق وقد سبق بطلانه وهذا منقوض أولا باعتقاد النبوات واعتقاد صدق الأنبياء عليهم السلام فإن ذلك غير ممكن فيمن لا يعتقد الصانع المختار ولا خلاف أن الكفار أجمعين مخاطبون بتصديق الأنبياء عليهم السلام وإن اقتضى وقوع ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو حنيفة: هو النعمان بن ثابت التميمي الكوفي فقيه أهل العراق وإمام أصحاب الرأي قال ابن معين: كان ثقة لا يحدث من الحديث إلا بما يحفظه ولا يحدث بما لا يحفظه وقال ابن المبارك: ما رأيت في الفقه مثله مات سنة "150" له ترجمة في البداية والنهاية "10/107" وتاريخ بغداد "13/323" ووفيات الأعيان "2/163".
2 الشافعي: هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي المطلي المكي. نزيل مصر وإمام الأئمة وقدوة المة قال ابن مهدي: ما أصلي صلاة إل وأنا أدعو للشافعي فيها مات سنة "211" له ترجمة في البداية والنهاية "10/251" وتاريخ بغداد "2/56" وتذكرة الحفاظ "1/361" ووفيات الأعيان "1/447".

 

ج / 1 ص -18-         تقديم قواعد العقائد في الإلهيات وكذلك المحدث مأمور بالصلاة عند دخول وقتها وإن كان لا يتأتي منه إقامتها ما لم يقدم رفع الحدث عليها.
ثم التحقيق في ذلك كله عندي أن الكافر في حال كفره يستحيل أن يخاطب بإنشاء فروع على الصحة وكذلك القول فيما يقع آخرا من العقائد في حق من لم يصح عقده في الأوائل وكذلك المحدث مستحيل أن يخاطب بإنشاء الصلاة الصحيحة مع بقاء الحدث ولكن هؤلاء مخاطبون بالتوصل إلى ما يقع آخرا ولا يتنجز الأمر عليهم بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط ولكن إذا مضى من الزمان ما يسع الشرط والمشروط والأوائل والأواخر فلا يمتنع أن يعاقب الممتنع على حكم التكليف.
معاقبة من خالف أمرا توجه عليه ناجزا فمن أبي ذلك قضى عليه قاطع العقل بالفساد ومن جوز تنجيز الخطاب بإيقاع المشروط قبل وقوع الشرط فقد سوغ تكليف ما لا يطاق ومن أراد أن يفرق بين الفروع وبين أواخر العقائد وبين صلاة المحدث فهو مبطل قطعا.
وقد نقل عن أبي هاشم الجبائي أنه قال ليس المحدث مخاطبا بالصلوات [ولو استمر حدثه دهره لقي الله تعالى غير مخاطب بصلاة في عمره].
فإن أراد الرجل ما ذكرناه فهو الحق الذي لا خفاء به وإن أراد أنه لا يعاقب على ترك الصلاة لتركه التوصل إليها فقد خرق إجماع الأمة فهذا هو الكلام في طرف الجواز.
35- فإن قيل إن ثبت لكم الجواز على تأويل التوصل وفرض العقاب فكيف الواقع من ذلك قلنا ذكر القاضي رحمه الله أن ذلك من [مجال] الفقهاء وهو مظنون مطلوب من مسالك الظنون.
والذي نراه أن الكفار مأمورون بالتزام الشرع جملة والقيام بمعالمة تفصيلا فمن أنكر وقوع وجوب التوصل إليه فقد جحد أمرا معلوما وهذا على التقدير مترق عن مرتبة الظنون.
فإن قيل أتقطعون بأنهم معاقبون في الآخرة على ترك فروع الشرع قلنا أجل والموصل إليه أنه قد ثبت قطعا وجوب التوصل وثبت أن تارك الواجب.
متوعد بالعقاب إلا أن يعفو الله تبارك وتعالى وتقرر في أصل الدين ومستفيض الأخبار أن الله لا يعفو عن الكفار.