البرهان في أصول الفقه ج / 1 ص -19-
القول في العلوم ومداركها وأدلتها.
36- الوجه تصدير الباب بقول مقنع في العقل فإنا سنسند
حقائق العلوم إلى مدارك العقل ولا بد من الإحاطة بحقيقته
على حسب ما يليق بهذا المختصر.
قال القاضي [أبو بكر1 رحمه الله] العقل من العلوم إذ لا
يتصف بالعقل خال عن العلوم كلها وليس من العلوم النظرية
فإن النظر لا يقع ابتداؤه إلا مسبوقا بالعقل فانحصر في
العلوم الضرورية وليس كلها فإنه قد يخلو عن العلوم
بالمحسوسات من اختلت عليه حواسه وإن كان على كمال من عقله
ثم لم يزل يبحث حتى قال العقل علوم ضرورية لا يخلو عنها
المتصف بالعقل ولا يتصف بها من لا يتصف بالعقل ثم سبر على
ما زعم واستبان أن العقل علوم ضرورية بجواز الجائزات
واستحالة المستحيلات ولا يتصف بهذه الفنون إلا عاقل كما لا
يتصف بها من ليس بعاقل فهذا لباب كلامه بعد تطويل وإطناب.
والذي ذكره رحمه الله فيه نظر فإنه بنى كلامه على أن العقل
من العلوم الضرورية لأنه لا يتصف بالعقل عار من العلوم
كلها وهذا يرد عليه أنه لا يمتنع كون العقل مشروطا بعلوم
وإن لم يكن منها وهذا سبيل كل شرط ومشروط.
فإن قيل ما الذي يبطل ما ذكره القاضي رحمه الله في معنى
العقل قلنا نرى العاقل يذهل عن الفكر في الجواز والاستحالة
وهو عاقل.
37- فإن قيل فما العقل [عندكم] قلنا ليس الكلام فيه بالهين
وما حوم عليه أحد من علمائنا غير الحارث2 [بن أسد]
المحاسبي رحمه الله فإنه قال العقل غريزة يتأتى بها درك
العلوم وليست منها فالقدر الذي يحتمل هذا المجموع ذكره أنه
صفة إذا ثبتت تأتي بها التوصل إلى العلوم النظرية
ومقدماتها من الضروريات التي هي مستند النظريات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد الله البصري المولد
البغدادي المنزل والوفاة قال الهيتمي هو إمام المسلمين في
"الفقه" و "التصوف" و "الحديث" و "الكلام" وقال الغزالي:
"المحاسبي جبر الأمة في علم المعاملة" مات سنة "243" له
ترجمة في: حلية الأولياء "10/73-110" وشذرات الذهب "2/17".
ج / 1 ص -20-
ولا
ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الكتاب أن هذا مبلغ علمنا في
[حقيقة العقل] ولكن هذا الموضع لا يحتمل أكثر من هذا فإذا
ثبت ما حاولناه في العقل فنتكلم بعده في إثبات العلوم وذكر
تفاصيلها وحدها ومداركها والأدلة عليها إن شاء الله تعالى.
فصل
38- لم ينكر من يبالي به من العقلاء أصل العلوم ونقل
أصحاب المقالات عن السوفسطائية إنكار العلوم وهم أربع فرق.
قال فريق منهم وهم غلاتهم نعلم ألا علم أصلا وعمموا الجحد
في الضروري والنظري.
وقال فريق [منهم] لم يثبت عندنا علم بمعلوم فلم يعلم
انتفاء العلوم.
وقال فريق لا ننكر العلوم ولكن ليس في القوة البشرية
الاحتواء عليها لأن الذين يحاولونها سيالون لا يستقرون في
حال وإنما تحصل الثقة لمستقر ينتظم آخر عثوره على المطلوب
بإنشاء الطلب.
وذهبت فرقة إلى أن العقود المصممة كلها علوم فمعتقد قدم
العالم على علم ومعتقد حدثه على علم ومثلوا ذلك باختلاف
أحوال ذوي الحواس فالصحيح يدرك الماء الفرات عذبا ويدركه
من هاجت عليه المرة الصفراء ممقرا [مرا].
39- وقد اختلف المحققون في مكالمتهم فذهب الأكثرون إلى
الانكفاف عنهم فإن غاية المناظر اضطرار خصمه إلى الضروريات
فإذا كان مذهبهم جحدها والتمادي فيها فكيف الإنتفاع
بمكالمتهم؟ ومن النظار من كلمهم بالتقريبات وضرب الأمثال
وإلزام التناقض فقال للأولين أنكرتم العلوم وادعيتم العلم
بانتفائها [كلها] وهذا تناقض لا ينكره عاقل.
والذي أراه أنه لا يتصور أن يجتمع على عقدهم فرقة من
العقلاء من غير فرض تواطوء على الكذب.
ج / 1 ص -21-
فصل في حد العلم وحقيقته.
40- قال
قائلون منا العلم تبين المعلوم على ما هو به وهذا مدخول من
جهة أن التبين مشعر بوضوح الشيء عن إشكال وهذا يخرج العلم
القديم عن الحد.
وقال [الشيخ] أبو الحسن رحمه الله العلم ما يوجب لمن قام
به كونه عالما.
وهذا وإن كان يطرد وينعكس فهو مدخول فإن من جهل العلم
وحمله جهله به [على] السؤال عنه فهو جاهل بكل اسم مشتق منه
ووضوح ذلك يغنى عن بسطه وأصدق شاهد في فساده جريانه في كل
صفة يفرض السؤال عنها وهو بمثابة قول القائل العلم ما علمه
الله تعالى علما.
وقال الأستاذ أبو بكر1 [بن فورك] رحمه الله العلم ما يصح
من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه.
وليس من المقولات في حد العلم أظهر فسادا من هذا فإنه أولا
حد العلم بكيفية العمل وخلى معظم العلوم على أن العلم لا
يتأتى به الإحكام دون القدرة فيلزم من ذلك إدراج القدرة في
حد العلم وإخراجها عن الرأي الذي رآه.
وقالت المعتزلة2: حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع
طمأنينة النفس.
وهذا بعد تطويل لا يليق بهذا المجموع باطل باعتقاد المقلد
المصمم على عقده فإنه ليس علما عندهم وإن أنكروا الطمأنينة
فيه كانوا مباهتين فإنا نرى الحشوي3 من الحنابلة مصمما على
عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع إنكاره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو بكر بن فورك هو: أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني
الحافظ الكبير الثبت العلامة روى عن أبي سهل بن زياد
القطان وآخرين وعنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وآخرون
كان قيما بعلم الحديث بصير بالرجال طويل الباع مات سنة
"410" له ترجمة في: تاريخ أصبهان "1/168" والعبر "3/102"
والنجوم الزاهرة "4/245".
2 تقدم التعريف بهذه الفرقة.
3 الحشوي: قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا إلى التجسيم وغيره
وسموا بذلك لأنهم كانوا في الحلقة الحسن البصري فوجدهم
يتكلمون كلاما غير كلامه فقال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة.
"كشاف اصطلاحات الفنون" ص "394".
ج / 1 ص -22-
النظر
ولو نشر بالمنشار لم يكع ولم يرجع وكيف يتجه إنكار
الطمأنينة والكفار مطمئنون إلى كفرهم ومن أنكر ذلك منهم مع
اتفاقهم على الإخبار عن طمأنينتهم وهم الجم الغفير والعدد
الكثير الذي لا يحويهم بلد ولا يحصيهم عدد فقد خرق حجاب
الهيبة واستأصل قاعدة العرف فقد بطل حدهم.
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: العلم معرفة المعلوم على
ما هو به فإذا قيل له المعرفة هي العلم قال مجيبا الحد هو
المحدود بعينه ولو كان غيره لم يكن حده وإنما على الحاد أن
يأتي بعبارة يظن السائل عالما بها إن جهل ما سأل عنه فإن
جهل العبارات كلها فسحقا سحقا.
ولست أرى ما قاله القاضي سديدا فإن الغرض من الحد الإشعار
بالحقيقة التي بها قيام المسئول عن حده وبه تميزه الذاتي
عما عداه وهذا لا يرشد إليه تغاير العبارات فإن قيل قد
تتبعتم عيون كلام المحققين بالنقض فما المرتضى عندكم في
حقيقة العلم وهل العلم مما تحويه صناعة الحد أم لا فليس كل
شيء محدودا.
41- قلنا: الرأي السديد عندنا أن نتوصل إلى درك حقيقة
العلم بماحثة نبغي بها ميز مطلوبنا مما ليس منه فإذا
انتفضت الحواشي وضاق موضع النظر حاولنا مصادفة المقصد
جهدنا.
42- فنقول: الجهل عقد يتعلق بالمعتقد على خلاف ما هو به
والعلم خالفه في ذلك ويتميز عنه والشك والظن يترددان بين
معتقدين وهو بخلافهما في ذلك فلا يبقى إلا النظر في عقد
يتعلق بالمعتقد على ما هو به من مقلد في ذلك مع التصميم
والاستقرار مع القطع بأنه ليس علما والنظر في العلم الحق
وما يتميز به عن عقد المقلد فليجرد الناظر فكره لمحاولة
المميز بينهما فإن استتب له ذلك فقد أحاط بحقيقة العلم فإن
ساعدت عبارة سديدة في الحد حد بها وإن لم تساعد اكتفى بدرك
الحقيقة ولم يضر تقاعد العبارة فليس كل من يدرك حقيقة شيء
تنتظم له عبارة عن حده ولو فرضنا رفض اللغات ودروس
العبارات لاستقلت العقول بدرك المعقولات وإيضاح ذلك
بالمثال أن ذا العقل يدرك [حقيقة] رائحة المسك ولو رام أن
يصوغ عبارة عنها لم يجدها.
فنقول: عقد المقلد إذا لم يكن له مستند عقلي فهو على القطع
من جنس الجهل وبيان ذلك بالمثال أن من سبق إلى عقده أن
زيدا في الدار ولم يكن فيها.
ج / 1 ص -23-
ثم
استمر العقد فدخلها زيد فحال المعتقد لا يختلف وإن اختلف
المعتقد وعن ذلك نقل النقلة عن عبد السلام بن الجبائي وهو
أبو هاشم أنه كان يقول العلم بالشيء والجهل به مثلان وأطال
المحققون ألسنتهم فيه وهذا عندي غلط عظيم في النقل فالذي
نص عليه الرجل في كتاب الأبواب أن العقد الصحيح مماثل
للجهل وعنى بالعقد اعتقاد المقلد وقد سبق أن الوجه القطع
بمساواة عقد المقلد الجهل فإذا ظهر ذلك قدمنا أمرا آخر
وقلنا الشاك يرتبط عقده بأن زيدا في الدار أم لا والمقلد
سابق إلى أحد المعتقدين من غير ثقة مستمر عليه إما عن وفاق
أو عن سبب يقتضيه اتباع الأولين وحذار مخالفة الماضين.
ومن أحكام عقد المقلد أنه لو أصغى إلى جهة في التشكيك ولم
يضرب عن حقيقة الإصغاء لتشكك لا محالة كالذي يتنبه وهو
يأرق في وقفته.
43- ومن عجيب الأمر ظن من ظن أن العلم [عقد من العقود أو
نوع منها] وهو عندي نقيض جميعها فإن معنى العقد ربطك الفكر
بمعتقد والاعتقاد افتعال منه والعلم يشعر بانحلال العقود
وهو الانشراح والثلج والثقة.
وحق ذي العلم ألا يتصور تشككه وإن تناهى في الإصغاء إلى
جهة التشكيك فإن أورد متحذق مسلكا في التشكيك على واثق
بالعلم الحق كان العالم على حالات إحداها أن يتبين له سقوط
جهة التشكيك والأخرى ألا يفهمها ولا يتخالجه ريب في معلومة
لعدم علمه بما أورد عليه والأخرى أن ينقدح له اندفاع الشك
ولا يتحرر له عبارة في دفعه ويرى معارضة جدلا محجاجا.
44- وقد يقرأ على العالم المحقق في أمر سؤال صادر عن عقد
له تقليدي والسؤال يلزم لزوما لا دفع له لو كان ذلك العقد
علما فإذا كان الأول علما والثاني نقيضه فلا يستريب ذو
التحصيل في بطلان عقده ولا يستطيع لو أنصف مراء وقد يكيع
عن تغير عقده حذارا من أمر فتثور منه ثوائر في عقد التقليد
والعلم السابق [يجاذبه] وليس ذلك شكا أرشدتم فيما تقدم
وإنما هو إيثار ذهول عن الأول ليستمر ما يحاوله من
الاستقرار على العقد التقليدي [و] لن يبالي بذلك إلا من
ضعف غريزة عقله وهذا أوان الوقوف على هذا المنتهى فإن
مجاوزته تزيد على قدر هذا المجموع وسأتحفك إن ساعدت
الأقدار بلباب هذه الفنون مستعينا بالله وهو خير معين.
ج / 1 ص -24-
فصل
يحوي
الأقاويل في مدارك العلوم.
45- حكى أصحاب المقالات عن بعض الأوائل حصرهم مدارك العلوم
في الحواس ومصيرهم إلى أن لا معلوم إلا المحسوسات.
ونقلوا عن طائفة يعرفون بالسمنية أنهم ضموا إلى الحواس
أخبار التواتر ونفوا ما عداها.
وحكى عن بعض الأوائل أنهم قالوا لا معلوم إلا مادل عليه
النظر العقلي وهذا في ظاهره مناقض للقول الأول ومتضمنة أن
المحسوسات غير معلومة.
والذي أراه أن الناقلين غلطوا في نقل هذا عن القوم وأنا
أنبه على وجه الغلط.
قال الأوائل العلوم كل ما تشكل في الحواس وما يفضي إليه
نظر العقل مما لا يتشكل فهو معقول فنظر الناقلون إلى ذلك
ولم يحيطوا باصطلاح القوم وقال المطلعون من مذاهبهم على أن
لا معلوم إلا المحسوس من أصلهم أن المدارك تنحصر في الحواس
وقال من رآهم يسمون النظريات معقولات من أصل هؤلاء أن
المدارك منحصرة في سبل النظر وهذا ظن ولا أرى خلافا في
المعنى وقال قائلون مدارك العلوم الإلهام.
وقال آخرون من الحشوية المشبهة لا مدارك للعلوم إلا الكتاب
والسنة والإجماع وقال المحققون مدارك العلوم الضروريات
التي تهجم مبادئ فكر العقلاء عليها والنظريات العقليات
والسمعيات على ما سيأتي تفصيلها فأما الضروريات فإنها تقع
بقدرة الله تعالى غير مقدورة للعباد والنظريات في رأى معظم
الأصحاب مقدورة بالقدرة الحادثة.
46- والمرتضى المقطوع به عندنا أن العلوم كلها ضرورية
والدليل القاطع على ذلك أن من استد نظره وانتهى نهايته ولم
يستعقب النظر ضد من أضداد العلم بالمنظور فيه فالعلم يحصل
لا محالة من غير تقدير فرض خيرة فيه ولن يبلغ المرء مبلغ
التحقيق في ذلك حتى يعرف مذهبنا في حقيقة النظر وسنبدي أنه
تردد في أنحاء الضروريات ومراتبها على ما سيأتي شرحنا عليه
في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
ج / 1 ص -25-
47- فأما المعتزلة فإنهم فهموا أن العلوم ليست مباشرة بالقدرة
وعلموا أن النظر يستعقبها استعقابا لا دفع له فزعموا أن
النظر يولدها توليد الأسباب مسبباتها.
والمقدور الذي هو مرتبط التكليف والثواب هو النظر عندي.
48- ثم رتب أئمتنا أدلة العقل ترتيبا ننقله ثم نبين فساده
ونوضح مختارنا فنكون جامعين بين نقل تراجم المذاهب
والتنبيه على الصواب منها.
قالوا أدلة العقول تنقسم أربعة أقسام أحدها بناء الغائب
على الشاهد والثاني إنتاج المقدمات النتائج والثالث السبر
والتقسيم والرابع الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه.
ثم قالوا أما بناء الغائب على الشاهد فلا يجوز التحكم به
من غير جامع عقلي ومن التحكم به شبهت المشبهة وعطلت
المعطلة وعميت بصائر الزنادقة.
فقالت المشبهة: لم نر فاعلا ليس متصورا وقالت المعطلة:
الموجود الذي لا يناسب موجودا غير معقول ثم حصروا الجوامع
في أربع جهات أحدها الجمع بالعلة والثاني الجمع بالحقيقة
والثالث الجمع بالشرط والرابع الجمع بالدليل فأما الجمع
بالعلة فكقول [مثبتي] الصفات إذا كان كون العالم عالما
شاهدا [معللا] بالعلم لزم طرد ذلك غائبا.
والجمع بالحقيقة كقول القائل حقيقة العالم شاهدا من له علم
فيجب طرد ذلك غائبا.
والجمع بالشرط كقولنا العلم مشروط بالحياة شاهدا فيجب
الحكم بذلك على الغائب.
[والجمع] بالدليل كقولنا الحدوث والتخصيص والإحكام يدل على
القدرة والإرادة والعلم شاهدا فيجب طرد ذلك غائبا.
وأما بناء النتائج على المقدمات فهو كقولنا الجواهر لا
تخلو عن حوادث مستندة إلى أولية فهذه هي المقدمة والنتيجة
أن مالا يخلو عن الحوادث لا يسبقها.
والاستدلال بالمتفق على المختلف كقياسنا الألوان على
الأكوان [في] استحالة تعري الجواهر عنها.
فهذا سياق كلام الأصحاب في ذلك.
ج / 1 ص -26-
ثم
قالوا قد تكون المقدمة ضرورية والنتيجة نظرية وهذا هو
الأكثر كقولنا تحرك الجوهر ولم يكن متحركا فهذه مقدمة
ضرورية نتيجتها أنه لا بد والحالة هذه من فرض زائد على
الذات.
وقد تكون المقدمة نظرية والنتيجة ضرورية كقولنا الجوهر لا
يخلو عن الحوادث التي لها أول وهذه مقدمة نظرية لا يتوصل
إليها إلا بدقيق النظر والنتيجة أن ما لا يخلو عن الحوادث
التي لها أول حادث وهذا ضروري.
49- فأما نحن فلا نرتضى شيئا من ذلك فأما بناء الغائب على
الشاهد فلا أصل له فإن التحكم به باطل وفاقا والجمع بالعلة
لا أصل له إذ لا علة ولا معلول عندنا وكون العالم عالما هو
العلم بعينه.
والجمع بالحقيقة ليس بشيء فإن العلم الحادث مخالف للعلم
القديم فكيف يجتمعان في الحقيقة مع اختلافهما فإن قيل
جمعتهما العلمية فهو باطل مبنى على القول بالأحوال وسنوضح
بطلانها على قدر مسيس الحاجة.
والقول الجامع في ذلك أنه إن قام دليل على المطلوب في
الغائب فهو المقصود ولا أثر لذكر الشاهد وإن لم يقم دليل
على المطلوب في الغائب فذكر الشاهد لا معنى له وليس في
المعقول قياس وهذا يجري في الشرط والدليل.
وأما المقدمة والنتيجة فلست أرى في عد ذلك صنفا من أدلة
العقول معنى ولا حاصل للفصل بين النظري والضروري والعلوم
كلها ضرورية كما سبق تقريره.
والاستدلال بالمتفق على المختلف لا أصل له فإن المطلوب في
المعقولات العلم ولا أثر للخلاف والوفاق فيها.
وأما السبر والتقسيم فمعظم ما يستعمل منه باطل فإنه لا
ينحصر في نفى وإثبات كقول من يقول لو كان الإله مرئيا
لرأيناه الآن فإن المانع من الرؤية القرب المفرط أو البعد
[المفرط] أو الحجب إلى غير ذلك مما يعدونه وهذا الفن لا
يفيد علما قط ويكفى في رده قول المعترض بم تنكرون على من
يثبت مانعا غير ما ذكرتموه فلا يجد السابر المقسم من ذلك
محيصا.
فأما التقسيم الدائر بين النفي والإثبات فقد ينتهض ركنا في
النظر الصحيح كما ذكرناه في كتاب النظر في الكلام.
ج / 1 ص -27-
فصل
يجمع قول
الأصحاب في مراتب العلوم وما نختار من ذلك.
50- قال الأئمة رحمهم الله مراتب العلوم في التقسيم الكلي
عشر.
الأولى: علم الإنسان بنفسه ويلتحق بذلك علمه بما يجده
ضروريا من صفاته كألمه ولذاته.
والدرجة الثانية: تحوي العلوم الضرورية كالعلم باستحالة
المستحيلات وهذا دون الدرجة الأولى من حيث إنه يستند العلم
فيه إلى فكر في ذوات المتضادات وتضادها.
والثالثة: تجمع العلوم بالمحسوسات وهذه الرتبة دون الثانية
لأن الحواس عرضة الآفات والتخييلات.
والمرتبة الرابعة تحوي العلم بصدق المخبرين تواترا وهذا
دون العلم بالمحسوسات ولما يتطرق إلى إخبار المخبرين من
[إمكان] التواطؤ وإن كثر الجمع فلا بد من نوع من الفكر
ولذلك ألحق الكعبي هذا القسم بالنظريات.
والمرتبة الخامسة: العلم بالحرف والصناعات وهي محطوطة عما
تقدم لما فيها من المعاناة والمقاساة وتوقع الغلطات.
والمرتبة السادسة: في العلوم المستندة إلى قرائن الأحوال
كالعلم بخجل الخجل ووجل الوجل وغضب الغضبان وإنما استأخرت
هذه المرتبة لتعارض الاحتمالات في محامل الأحوال وخروجها
عن الضبط.
والمرتبة السابعة: العلوم الحاصلة بأدلة العقول وهي
مستأخرة لا محالة عن الضروريات المذكورة في المراتب
السابقة.
والثامنة: العلم بجواز النبوات وابتعاث الرسل وجواز ورود
الشرائع.
والتاسعة: في العلم بالمعجزات إذا وقعت.
والعاشرة: في العلم بوقوع السمعيات الكلية ومستندها الكتاب
والسنة والإجماع.
ج / 1 ص -28-
51- ثم في بعض الأقسام التي ذكروها مواقع خلاف على ما نشير إليها.
فمن الجملة التي اختلف فيها الخائضون في التقسيم المحسوسات
فقال قائلون كلها في درجة واحدة وقال آخرون السمع والبصر
مقدمان على ما سواهما ثم من هؤلاء من قدم البصر على السمع
لتعلقه بجميع الموجودات بزعمه ومنهم من سوى بينهما.
52 - وذهب بعض أصحاب الأقاويل إلى تقديم السمع على البصر
لوجهين أحدهما أن السمع لا يحتاج إلى الأشعة المتعرضة
للحركات والتعريجات والأخر أن السمع لا يختص في دركه بجهة
بخلاف البصر وذكر القتبي1 هذا واختاره وذكر أن الباري
سبحانه وتعالى: قدم السمع على البصر فقال:
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا
يَعْقِلُونَ}2 ثم قال تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ
وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ}3 وجمع من هذا كثيرا وهو ولاج هجوم على مالا يحسنه ومما قاله: إن
الله لم يبتعث أصم وفي الأنبياء عليهم السلام عميان.
ومما خاض فيه الخائضون أنا قدمنا ما يدرك بالحواس على ما
يدرك بالعقل وهو اختيار شيخنا أبي الحسن الأشعري4 رحمة
الله عليه وقدم القلانسي المعقولات بالأدلة النظرية على
المحسوسات من حيث إن العقل مرجع المعقولات ومحلها ومرجع
المحسوسات إلى الحواس وهي عرضة الآفات فهذه جمل من
المقالات.
53- والحق عندنا بعيد نازح عن هذه المسالك وما أرى
المقسمين بنوا تقاسيمهم إلا على الرضا والقناعة لعقود
ظاهره لا تبلغ الثلج ومسلك اليقين ومن أحاط بحقيقة العلم
واعتقد العلوم كلها ضرورية لم يتخيل فيها تقديما [ولا]
تأخيرا.
نعم الطرق إليها قد يتخيل أن فيها ترتيبا في تعرضها للزلل
فأما العلوم في نفسها إذا حصلت على حقيقتها فيستحيل اعتقاد
ترتيبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القبتي: هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الكاتب
نزيل بغداد قال الخطيب: كان رأسا في العربية واللغة
والأخبار وأيام الناس ثقة دينا فاضلا صنف "إعراب القرآن" و
"معاني القرآن" و "مختلف الحديث" و "غريب الحديث". مات سنة
"267" له ترجمة في البداية والنهاية "11/48" وتاريخ بغداد
"10/170" وشذرات الذهب "2/169" ووفيات الأعيان "2/246".
2 آية "42" سورة يونس.
3 آية "43" سورة يونس.
4 سبقت ترجمته
ج / 1 ص -29-
فصل
فيما يدرك بالعقل لا غير وفيما يدرك بالسمع لا غير وفيما
يجوز فرض إدراكه بهما جميعا.
54- فأما مالا يدرك إلا بالعقل فحقائق الأشياء ودرك
[استحالة] المستحيلات وجواز الجائزات ووجوب الواجبات
العقلية لا التكليفية الضرورية منها والنظرية.
وأما ما لا يدرك إلا بالسمع فوقوع الجائزات وانتفاؤها وأما
ما يشترك فيه السمع والعقل وبذكره ينضبط ما تقدم من
القسمين فنقول فيه كل مدرك يتقدم على ثبوت كلام صدق
فيستحيل دركه من سمع فإن مستند السمعيات كلها الكلام الحق
الصدق.
وبيان ذلك بالمثال: أن وجود الباري سبحانه وتعالى: وحياته
وأن له كلاما صدقا لا يثبته سمع فأما من أحاط بكلام صدق
ونظر بعده في جواز الرؤية وفي خلق الأفعال وأحكام القدرة
فما يقع من هذا الفن بعد ثبوت مستند السمعيات لا يمتنع
اشتراك السمع والعقل فيه.
فصل
يشتمل على مقدار من مدارك العقول تمس الحاجة إليه في
مسائل الأصول.
55- فنقول لا يجول العقل في كل شيء بل يقف في أشياء وينفذ
في أشياء ولا يحصل مقدار غرضنا في هذا المجموع من مضمون
هذا الفصل العظيم القدر إلا بتقديم قاعدة موضع استقصائها
كتاب النظر من الكلام.
فالنظر عندنا مباحثة في أنحاء الضروريات وأساليبها ثم
العلوم الحاصلة على أثرها كلها ضرورية كما سبق تقرير ذلك
وتلك الأنحاء يئول حاصل القول فيها إلى تقاسيم منضبطة
بالنفي والإثبات منحصرة بينهما يعرضها العاقل على الفكر
العقلي ويحكم فيها بالنفي والإثبات فإن كان ينقدح فيها نفى
أو إثبات قطع به وليس للدليل تحصيل إلا تجريد الفكر من ذي
نحيزة صحيحة إلى جهة يتطرق إلى مثلها العقل فإذا استد
النظر وامتد إلى اليقين والدرك فهو الذي يسمى نظرا ودليلا.
وبيان ذلك بالأمثلة الهندسية والأرتماطيقية والكلامية فمن
المقدمات الهندسية ما تهجم العقول عليها من غير احتجاج إلى
فكر كالعلم بأن الجزء أقل من الكل والكل.
ج / 1 ص -30-
أكثر
من الجزء والخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى
محيطها متساوية إلى غير ذلك من الأمثلة إلى تسمى
المصادرات.
فإذا بنى المهندس على هذه المقدمات شكلا وركب عليها دعاوي
وبرهنها بما يستند إلى تلك المقدمات فقد يحتاج في ترتيب
الاستخراج إلى فكر طويل وإذا أحاط بما يبغيه فعلمه به على
حسب علمه بالمقدمات وكذلك القول في العدديات.
ويقول المتكلم في الجسم الساكن إذا تحرك [قد] تجدد أمر لم
يكن وهذا مهجوم عليه من غير نظر ثم إن استد فكره في جهة
إثبات [الأعراض] [قال] هذا التجدد جائز أم لا فيفرض
التقسيم بين النفى والإثبات ثم يفكر فيطيل فكره أو يقصره
على التفاوت في احتداد القرائح وكلالها فيعلم من غير وسيلة
ما يسمى دليلا أن الحكم بوجوب التحرك محال فيعلم الجواز ثم
يعن له تقسيم آخر في أن ما علم جوازه يثبت لنفسه أم لا
فيفكر كما تقدم فيتعين له أحد القسمين تعيينا ضروريا.
فهذا هو التردد في أنحاء الضروريات ولكنها لما انقسمت إلى
مهجوم عليه وإلى ما يحتاج فيه إلى تقسيم وفكر سمى أحد
القسمين نظريا والثاني ضروريا.
فإذا تقرر ذلك فالقول الضابط في مقصود الفصل أن كل ما يتجه
فيه تقسيم مضبوط وينقدح تعيين أحدهما فهو الذي يتطرق العقل
إليه وما لا ينضبط فيه التقسيم أو ينضبط ولا يهتدي العقل
مع الفكر الطويل إلى تعيين أحدهما فهو من [محارات] العقل.
وبيان ذلك بمثالين: أحدهما: أن من أخذ يبغي جواز رؤية
الباري سبحانه وتعالى: من النظر في أن مصحح الرؤية ماذا
فهذا وقبيله لا يحصره النفي والإثبات فلا ينتهي النظر فيه
قط إلى العلم.
وأما المثال الثاني: فهو أن من نظر وقد عن له تقسيم بين
نفى وإثبات في أن الجوهر هل يجوز أن يخلو عن الألوان أم لا
فهذا تقسيم منضبط ولكن العقل لا يعين أحد القسمين وإن
تمادى فيه فكر العاقل أبد الآباد ومن أراد أن يأخذ ذلك من
القياس على الأكوان فقد نأى عن مسلك العقل فليس في العقل
قياس.
والتحقيق فيه: أن النظر الذي اقتضى استحالة العرو عن
الأكوان إن قام في الألوان أغناك عن الاستشهاد بالأكوان
فإذا لم يقم في الألوان فالعقل لا يحكم على الأكوان بحكم
الألوان من غير بصيرة.
ج / 1 ص -31-
56- ومما يتعين على الطالب الاهتمام به في مضايق هذه الحقائق أن
يفصل بين موقف العقل وبين تبلده وقصوره لفرض عوائق تعوق.
57- ومما يجب الاعتناء به الميز بين الجواز الذي هو حكم
مدرك [بالعقل] وبين الجواز الذي معناه التردد.
ونحن نذكر لمساق كل مقصد مسلكا مؤيدا بمثال على قدر ما
يليق بهذا المجموع إن شاء الله تعالى.
فأما الموقف الذي يحكم به ويحيل تعديه فهو الإحاطة بأحكام
الإلهيات على حقائقها وخواصها فأقصى إفضاء العقل إلى أمور
[جملية] منها والدليل القاطع في ذلك رأى الإسلاميين أن ما
يتصف به حادث موسوم بحكم النهاية يستحيل أن يدرك حقيقة
مالا يتناهى وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا تصرف الإنسان
في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه ويستحيل أن
يدرك الجزء الكل ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء
عالم الطبائع وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام
فهي محومة على الحقائق ولكن لا يعدم العاقل العلم بكلى ما
وراء [عالم] الطبائع فأما الاحتواء على الحقيقة فهو حكم
سلطنة الكل على الجزء.
وأما [ما يحمل] على تبلد العقل فهو ما يقتضيه طارئ من
الاعتلال أو الاختلال ولا يكاد ينكر ذلك العاقل من نفسه ثم
يتصدى له طوران أحدهما أن يعلم قصوره والمطلوب مضطرب العقل
والثاني أن يتمارى أنه مضطرب العقل أم لا وبالجملة لا يحكم
لمن هذا حاله بتوقف العقل كحكمنا الأول فيما تقدم.
58- وقد صار معظم الأوائل إلى أن درك خواص الأجسام
[وحقائقها] من مواقف العقول [فليس] من الممكن أن يدرك
بالعقل الخاصية الجاذبة للحديد في المغناطيس وهذا عندي فيه
نظر فإنها وإن دقت فهي من عالم الطبائع فالجزئي من العقل
مسيطر على كل الطبائع ولكن ينقدح [عندي] في ذلك أمر يحمل
التعذر عليه وهو إن تهيأ مفيض العقل من الإنسان للفيض
الطبيعي فلا يكاد يبلغ هذا التركيب والتهيؤ مبلغا يفيض من
العقل عليه ما يحيط بالخواص وأيضا فليست الخاصية قضية
طبيعية محضة وإنما هي سلطنة النفس في المحل المختص ولا بعد
في قصور [جزئي] العقل عن سلطان النفس.
وبالجملة لا يقوم برهان على التحاق هذا [القسم] بالمواقف
إلا أن يعتمد المعتمد.
ج / 1 ص -32-
الاستقراء ويعلم أن هذا لو كان ممكنا لجرى الإمكان في زمان
ما مع تكرر المقتضيات والله المستعان.
59- وأما الميز بين الجواز المحكوم به وبين الجواز بمعنى
التردد والشك فلائح [واضح] ومثاله أن العقل يقضي بجواز
تحرك جسم ساكن وهذا الجواز حكم مبتوت للعقل وهو نقيض
الاستحالة وأما الجواز بمعنى التردد والشك فكثير ونحن
نكتفي فيه بمثال واحد فنقول تردد المتكلمون في انحصار
الأجناس كالألوان فقطع قاطعون بأنها غير متناهية في
الإمكان كآحاد كل جنس وزعم آخرون أنها منحصرة وقال
المقتصدون لا ندري أنها منحصرة أم لا ولم يثبتوا مذهبهم
على بصيرة وتحقيق.
والذي أراه قطعا أنها منحصرة فإنها لو كانت غير منحصرة
لتعلق العلم منها بأجناس لا تتناهى على التفصيل وذلك
مستحيل فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا
الباري سبحانه عالم بما لا يتناهى على التفصيل سفهنا
عقولهم وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات [في
الكلام] وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا
تتناهى فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير فرض تفصيل
الاحاد مع نفى النهاية فإن ما يحيل دخول مالا يتناهى في
الوجود يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم والأجناس
المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال العلم عليها
فإنها متباينة بالخواص وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفى
النهاية محال وإذا لاحت الحقائق فليقل الأخرق بعدها ما
شاء.
فصل
مدارك العلوم في الدين ثلاثة في التقسيم الكلي.
60- أحدها: العقول والمطلوب منها درك الجواز في كل جائز
ودرك المخصص له بالوجه الذي وقع عليه ودرك وجوب مخالفة
المخصص للجائزات في أحكام الجواز ودرك وجوب صفات المخصص
[التي] لا يصح كونه مخصصا دونها فهذا حظ العقل المحض في
الديانات.
61- والمدرك الثاني: هو المرشد إلى ثبوت كلام صدق وهذا لا
يتمحض العقل فيه فإن مسلكه المعجزات وارتباطها بالعادات
انخراقا واستمرارا والقول في ذلك يطول.
ج / 1 ص -33-
62- والمدرك الثالث أدلة السمعيات المحضة وهي إذا فصلت على مراسم
العلماء [ثلاثة] الكتاب والسنة والإجماع وعد عادون خبر
الواحد والقياس والتحقيق في ذلك يستدعي تقديم أصلين ثم
بعدهما نعد السمعيات.
63 - فأحد الأصلين: في ذكر ما يقع الاستقلال به في إثبات
العلم بكلام الله سبحانه وتعالى: الصدق ولا مطمع في
استقصاء القول في ذلك ولكن القدر الذي يتفطن له العاقل أن
العالم لا يخلو عن نطق النفس ثم النطق النفسي لا يكون إلا
على حسب تعلق العلم وإذا كان كذلك لم يكن إلا صدقا وإن فرض
فارض إجراء شيء في النفس على خلاف العلم فهو وسواس
وتقديرات لا يتصور فرضها [إلا حادثة] وهذا القدر على
إيجازه مقنع في غرض هذا الفصل.
64- والأصل الثاني: في إثبات اقتضاء المعجزة صدق من ظهرت
على يديه ولا سبيل إلى الخوض في شرائطها وأحكامها كملا
ولكن قدر غرضنا من ذلك أن المعجزة تكون فعلا لله سبحانه
وتعالى: خارقا للعادة ظاهرا على حسب سؤال مدعى النبوة مع
تحقيق امتناع وقوعه في الاعتياد من غيره إذا كان يبغي
معارضة ووجه دلالتها يقرب من إشعار قرائن الأحوال بالعلوم
البديهية فإذا قال من يدعى النبوة قد علمتم ربا مقتدرا على
ما يشاء وتحققتم أن إحياء الموتى ليس مما يدخل تحت مسالك
الحيل ومدارك القوى البشرية وإنما ينفرد بالقدرة عليه إله
الخلق تعالى ثم يقول أي رب إن كنت صادقا في دعواي فأحي هذه
العظام الرميم فإذا ائتلفت وتمثلت شخصا ينطق فلا يستريب ذو
لب في أن ذلك جرى قصدا إلى تصديقه.
وهذا يناظر ما ضربه القاضي أبو بكر رحمة الله عليه في كتبه
مثلا حيث قال إذا تصدى ملك للداخلين عليه في مهم سنح وأخذ
الناس مجالسهم وتأزر المجلس بأهله ثم قام قائم بمرأى من
الملك ومسمع فقال أنا رسول الملك إليكم وآية رسالتي أن
ألتمس من الملك أن يقوم ويقعد خارقا عادته المألوفة فيفعل
ثم يقول أيها الملك إن كنت رسولك فصدقني بقيامك وقعودك
فإذا طابقه الملك قطع الحاضرون بتصديقه إياه من غير فكر
وروية وانصرفوا واثقين على ثلج من الصدور وهذا ليس قياسا
وإنما أثبتناه مثلا وإيناسا وإلا فإظهار المعجزة على شرطها
بهذه المثابة يفيد العلم بصدقة ضرورة من غير احتياج إلى
[نظر].
فإن قيل: أيتصف الرب سبحانه وتعالى: بالاقتدار على أن يظهر
على يد كذاب مع ما يعتقد في العقيدة من أن الله يضل من
يشاء ويهدي من يشاء؟ قلت:.
ج / 1 ص -34-
معتقدي
وجوب وصف الرب سبحانه بهذا لا محالة.
فإن قيل فما المانع من وقوع ذلك وكل مقدور ممكن [الوقوع]
وإنما لا يقع خلاف المعلوم من حيث علمناه معلوما؟ فبأي
مسلك يتوصل إلى أن من يعتقد صادقا هو كذلك؟ وما يؤمن كونه
كذابا ومراد الباري - سبحانه وتعالى - يعضده بخوارق
العادات إظهارا للضلالات وإغواء للخلق؟ وهذا لا يليق بقدر
هذا الكتاب ولكن إذا انتهى الكلام إليه نثبت بديعة شافية.
ونقول قد أجرينا في أدراج الكلام أن المعجزات تجرى مجرى
قرائن الأحوال والرب سبحانه وتعالى: قادر على ألا يخلق لنا
العلم الضروري بخجل الخجل عند ظهور قرائن الأحوال بل هو
قادر على أن يخلق عندها الجهل ولكن تجويز ذلك لا يغض من
يقيننا بالعلم الحاصل ولو فرض خرق هذه العادة لعدم العاقل
مذاق هذا العلم.
وكذلك لو فرضنا ظهور المعجزة على حقها لحصل العلم ضروريا
عندها مع سبق العلم بالصانع واعتقاد أنه المقتدر [بقدرته]
على هذا الفن [كقدرته على كل شيء] وما أتى منكر لصدق نبي
حق إلا من جهات منها التردد في إثبات صانع مختار ومنها
اعتقاد الواقع تخييلا ومنها اعتقاده موصولا إليه بالغوص
على العلوم والإحاطة بالخواص فأما من لم تخطر له هذه
الفنون وهدى للحق الواضح واعتقد أن المعجزة فعل الله ولا
يتوصل إلى مثلها محتال وقد وقعت على موافقة الدعوى فإنه لا
يستريب مع ذلك في صدق من ظهرت عليه المعجزة ولو خرق الله
سبحانه وتعالى: العادة في إظهارها على أيدي الكذابين
لانسلت العلوم عن الصدور كما سبق تمثيله في قرائن الأحوال.
65- ونقول بعد هذين الأصلين الأصل في السمعيات كلام الله
تعالى وهو مستند قول النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لا
يثبت عندنا كلام الله تعالى إلا [من] جهة من يثبت صدقه
بالمعجزة إذا أخبر عن كلام الله تعالى فمال السمع إلى كلام
الله تعالى وهو متلقى من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومستند الثقة بالتلقي منه ثبوت صدقه والدال على صدقة
المعجزة والمعجزة تدل من جهة نزولها منزلة التصديق بالقول
وذلك مستند إلى اطراد العرف في إعقاب القرائن للعلم وثبوت
العلم بأصل الكلام لله تعالى يدل عليه وجوب اتصاف العالم
بالشيء بالنطق الحق.
ج / 1 ص -35-
الصدق
عما هو عالم به فإذا ذكرنا في مراتب السمعيات الكتاب فهو
الأصل وإذا ذكرنا السنة فمنها تلقى الكتاب والأصل الكتاب
فأما الإجماع فقد أسنده معظم العلماء إلى نص الكتاب وذكروا
قول الله تعالى:
{وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرسول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}1
[الآية] وهذا عندنا ليس على رتبة الظاهر فضلا عن ادعاء
منصب النص [فيها] وإنما يتلقى الإجماع من أمر متعلق
بالعادة أولا فإن علماء الدهر إذا قطعوا أقوالهم جزما في
مظنون وعلم استحالة التواطؤ منهم فالعرف يقضى باستناد
اعتقادهم واتفاقهم إلى خبر مقطوع به عندهم وسيأتي ذلك
مفردا في كتاب الإجماع إن شاء الله تعالى فإذا ليس الإجماع
في نفسه دليلا بل العرف قاض باستناده إلى خبر والخبر مقبول
من أمر الله تعالى بقبوله وأمر الله من كلامه وكلامه متلقى
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق رسوله من مدلول
تصديق الله تعالى إياه بالمعجزة وما ذكرناه من [الخبر] في
أثناء الكلام عنينا به الخبر المتواتر النص الذي ثبت أصله
وفحواه قطعا.
فأما خبر الواحد إن عد من مراتب السمعيات فلا نعني بذكره
أنه يستقل بنفسه ولكن العمل عنده يستند إلى خبر متواتر
وإلى إجماع مستند إلى الخبر المتواتر وكذلك القول في
القياس.
وبالجملة أصل السمعيات كلام الله تعالى وما عداه طريق نقله
أو مستند إليه فهذا بيان العقلي المحض والسمعي المحض
والمتوسط بينهما.
66- فإن قيل قد أثبتم النطق لله تعالى بالعقل المحض وقد
عددتموه فيما تقدم من الرتبة المتوسطة قلنا الرتبة
المتوسطة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلق بالمعجزة
والذي ذكرناه قبل من ثبوت الصدق متوسطا فإياه عنينا إذ لا
يثبت حكم إلهي سمعي إلا بعد تقدم العلم بوجوب الصدق لله
تعالى فلو كان الصدق لله تعالى في نفسه ثبت بالسمع ومستند
كل سمع كلام الله تعالى لأدى [ذلك] إلى إثبات الكلام
بالكلام وهذا لا سبيل إليه ولا ينتظم العقد فيه وصدق
الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتبط بالسمع أيضا وإنما
يتردد بين حكم العرف وقضايا العقل.
67- قال الأصوليون الأدلة العقلية هي التي [يقتضي] النظر
التام فيها العلم بالمدلولات وهي تدل لأنفسها وما هي عليه
من صفاتها ولا يجوز تقديرها غير دالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النساء: آية 115.
ج / 1 ص -36-
[كالفعل] الدال على القادر والتخصيص الدال على المريد والإحكام
الدال على العالم فإذا وقعت هذه الأدلة دلت لأعيانها من
غير حاجة إلى قصد قاصد إلى نصبها أدلة.
وأما السمعيات فإنها تدل بنصب ناصب إياها أدلة وهي ممثلة
باللغات والعبارات الدالة على المعاني عن توقيف من الله
تعالى فيها أو اصطلاح صدر عن الاختيار.
68- وتمام الغرض في ذلك أن المعقولات تنقسم إلى البدائه
وهي التي يهجم العقل عليها من غير احتياج إلى تدبر وإلى ما
لا بد فيه من فرط تأمل فإذا تقرر على سداده أعقب العلم
الضروري إن لم يطرأ آفة ثم ليس في العقليات على الحقيقة
انقسام إلى جلي وخفي فإن قصاراها كلها العلم الضروري ولكن
يتطرق إليها نوعان من الفرق أحدهما أن الشيء قد يحوج إلى
مزيد تدبر لبعد القريحة عن معاناة الفكر في أمثاله ولا شيء
ينال طال الفكر فيه أو قصر إلا بتجريد الفكر في جهة الطلب
فهذا نوع من الفرق بين النظرين.
والنوع الثاني: أن الناظر قد يبغي شيئا نازحا بعيدا يقع
بعد عشر رتب مثلا من النظر ويطول الزمان في استيعاب معناها
وقد يطرأ على الناظر في الأواخر نسيان الأوساط والأوائل
فيتخبط النظر وقد يكون المطلوب في الرتبة الثالثة مثلا
فيقرب المدرك ولا يتوعر المسلك ولا يطرأ من الذهول في ذلك
ما يطرأ على من يتعدد عليه رتب النظر ويطول الزمان في
استيعاب جميعها على الطالب قبل مطلوبه فهذا هو تفاوت النظر
والناظر وإلا فليس في حقيقة النظر العقلي المفضي إلى العلم
تفاوت.
69- ثم البرهان ينقسم إلى البرهان [المستد] وإلى البرهان
الخلف.
فأما البرهان المستد فهو النظر المفضى بالناظر إلى عين
مطلوبه وبرهان الخلف هو الذي لا يهجم بنفسه على تعيين
المقصود ولكن يدير الناظر المقصود بين قسمى نفى وإثبات ثم
يقوم البرهان على استحالة النفي فيحكم الناظر بالثبوت أو
يقوم على استحالة الثبوت فيحكم الناظر بالنفي.
والأحكام الإلهية كلها تستند إلى البرهان الخلف وبيان ذلك
بالمثال أن من اعتقد على الثقة صانعا ثم ردد النظر بين
كونه في جهة وبين استحالة ذلك عليه فلا يهجم النظر على
موجود لا في جهة ولكن يقوم البرهان القاطع على استحالة
قديم في جهة فيترتب عليه لزوم القضاء بموجود لا في جهة.
ج / 1 ص -37-
وإذا
تكلمنا في مسالك العقول من غير فرض الكلام في الإله سبحانه
وصفاته فالنظر المستد يجرى في جميع مطالب العقل إلا في
شيئين:.
أحدهما: ما يتعلق بأحكام الأزل ونفى
الأولية.
والثاني: ما يتعلق بنفى الإنقسام عن
الجوهر الفرد.
فهذا القدر كاف في التنبيه على مسالك العقول والسمع
واستكمال ذلك يستدعي طرفا من الكلام صالحا في البيان
ومعناه فقد رسمه الأصوليون وطولوا أنفاسهم فيه ونحن الآن
نبتدىء به بعون الله وتوفيقه. |