البرهان في أصول الفقه ج / 1 ص -39-
الكتاب الأول: القول في البيان.
الكلام في
هذا الفصل يتعلق بثلاثة فنون أحدها في ماهية البيان
والاختلاف فيه والثاني في مراتب البيان والثالث في تأخير
البيان عن مورد اللفظ إلى وقت الحاجة.
مسألة:
اختلفت عبارات الخائضين في هذا الفن في معنى البيان.
70- فذهب بعض من ينسب إلى الأصوليين إلى أن البيان إخراج
الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح وهذه العبارة
وإن كانت محمومة على المقصود فليست مرضية فإنها مشتملة على
ألفاظ مستعارة كالحيز والتجلي وذوو البصائر لا يودعون
مقاصد الحدود إلا في عبارات هي قوالب لها تبلغ الغرض من
غير قصور ولا ازدياد يفهمها المبتدئون ويحسنها المنتهون.
وقال قائلون البيان هو العلم وهو غير مرضى فإن الإنسان
ينهي الكلام إلى حد البيان ويحسن منه أن يقول ثم البيان
وإن لم يفهم المخاطب وقد يقول بينت فلم يتبين.
71- والقول المرضى في البيان ما ذكره القاضي أبو بكر حيث
قال البيان هو الدليل ثم الدليل ينقسم إلى العقلي والسمعي
كما نفصل القول فيه والله سبحانه وتعالى: مبين الأمور
المعقولة بنصب الأدلة العقلية عليها والمسمع المخاطب مبين
للمخاطب ما يبغيه إذا استقل كلامه بالإبانة والإشعار
بالغرض فهذا منتهى المقصود في هذا الفن.
مسألة في مراتب البيان:
فأما الكلام في مراتب البيان فلا نجد بدا من نقل المقالات
فيه ليكون الناظر.
ج / 1 ص -40-
خبيرا
بها ثم نذكر عند نجازها المختار عندنا إن شاء الله تعالى.
72- قال الشافعي رضي الله عنه في باب البيان في كتاب
الرسالة1:
المرتبة الأولى: في البيان لفظ ناص منبه
على المقصود من غير تردد وقد يكون مؤكدا واستشهد في هذه
المرتبة بقوله سبحانه وتعالى:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}2 فهذا
في أعلى مراتب البيان.
والمرتبة الثانية: كلام بين واضح في
المقصود الذي سيق الكلام له ولكن يختص بدرك معانيه وما فيه
المستقلون وذوو البصائر واستشهد بآية الوضوء فإنها واضحة
ولكن في أثنائها حروف لا يحيط بها إلا بصير بالعربية.
والمرتبة الثالثة: ما جرى له ذكر في
الكتاب وبيان تفصيله محال على المصطفى صلى الله عليه وسلم
وهو كقوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}3
فتفصيله قدرا وذكر مستحقه محال على رسول الله عليه الصلاة
والسلام ولكن الأمر به ثابت في الكتاب.
والمرتبة الرابعة: الأخبار الصحيحة التي
لا ذكر لمقتضياتها في كتاب الله تعالى وإنما متعلقها من
الكتاب قوله تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}4.
والمرتبة الخامسة: القياس المستنبط مما
ثبت في الكتاب والسنة.
فهذه مراتب تقاسيم البيان عنده فكأنه رضي الله عنه آثر
ارتباط البيان بكتاب الله تعالى من كل وجه ولهذا قال في
صفة المفتى من عرف كتاب الله تعالى نصا واستنباطا استحق
الإمامة في الدين فهذا مسلك الشافعي في ترتيب مراتب
البيان.
73- وقال أبو بكر بن داود الأصفهاني أغفل الشافعي رحمه
الله في المراتب الإجماع وهو من أصول أدلة الشريعة فإن
تكلف متكلف وزعم أن الإجماع يدل من حيث استند إلى الخبر
فاكتفى بذكر الأخبار فهلا ذكر الإجماع أولا واكتفى بذكره
عن القياس لاستناده إليه فالقياس مستند إلى الإجماع وهو
مستند إلى الخبر وقد عده الشافعي ولو ذكر الإجماع لكان
أقرب إذ هو أعلى من القياس ثم كان يندرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ص "26-34".
2 آية "96" سورة البقرة.
3 آية "141" سورة الأنعام.
4 آية "7" سورة الحشر.
ج / 1 ص -41-
القياس
تحت متضمنات الإجماع ولا دفع للسؤال.
74- وذكر بعض الأصوليين صنفا آخر من الترتيب فقال:
الرتبة الأولى النص والثانية الظاهر المحتمل التأويل
والثالثة اللفظ المتردد بين احتمالين من غير ترجيح وظهور
في أحدهما كالقرء ونحوه.
وهذا ساقط فإن ما ذكره هذا القائل آخرا من المجملات هو
نقيض البيان والظاهر ليس بيانا أيضا مع تطرق الاحتمال إليه
ولولا ما قام من القاطع على وجوب العمل به لما اقتضى بنفسه
عملا.
75- وقال قائلون: المرتبة الأولى فيها لفظ الشارع صلى الله
عليه وسلم.
والثانية فحوى فعل الشارع صلى الله عليه وسلم الواقع
بينانا كصلاته مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلى1.
والمرتبة الثالثة في إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم كما
صح في الحديث2 أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"الشهر
هكذا وهكذا, وهكذا" فأشار
بأصابعه العشر وحبس واحدة في الثالثة.
والمرتبة الرابعة الكتابة وهي دون الفعل والإشارة لما
يتطرق إليها من الإيهام والتحريف لا سيما مع الغيبة.
والمرتبة الخامسة في المفهوم وهو ينقسم إلى مفهوم الموافقة
والمخالفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسادسة: في القياس وهو ينقسم إلى ما في
لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم إشارة إليه كقوله3:
"أينقص الرطب إذا يبس؟" [فقالوا: نعم يا رسول الله, فقال:
"فلا إذا"
فكان"] ذلك إيماء إلى تعليل فساد البيع بما يتوقع من
النقصان عند الجفاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري 1/162, 8/11 و 9/107, و البيهقي 2/173 و
الدارقطني 1/273 و 346.
2 البخاري 3/34 و 35, 7/68, ومسلم في: الصيام: ب 3: حديث
4, 10, 13, 16, و ب "4": حديث 26, 27, والنسائي في: الصيام
ب 15, 16, وابن ماجه 1656 و 1657 و وأحمد 1/284 و2/28 و43
و 125 و 5/42, و البيهقي 4/205 و250.
3 أبو داود: في البيوع "18" والترمذي في: البيوع "14"
والنسائي في البيوع "36" وابن ماجه في: التجارات "53"
ومالك في: البيوع "22", و الدارقطني "3/49", وشرح السنة
"8/78", و البيهقي "5/294".
ج / 1 ص -42-
وإلى
ما ليس في لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم له ذكر ثم له
مراتب لسنا لها الآن.
76- والقول الحق عندي أن البيان هو الدليل وهو ينقسم إلى
العقلي والسمعي.
فأما العقلي فلا ترتيب فيه على التحقيق في الجلاء والخفاء
وإنما يتباين من الوجهين المقدمين في التعدد [وفي]
الاحتياج إلى مزيد فكر وترو.
فأما السمعيات فالمستند فيها المعجزة وثبوت العلم بالكلام
الصدق الحق لله سبحانه وتعالى: فكل ما كان أقرب إلى
المعجزة فهو أولى بأن يقدم وما بعد في الرتبة أخر.
وبيان ذلك [أن كل] ما يتلقاه من لفظ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من رآه فهو مدلول المعجزة من غير واسطة والإجماع
من حيث يشعر بخبر مقطوع به يقع ثانيا والمدلولات المتلقاة
من الإجماع [و] منها خبر الواحد والقياس يقع ثالثا ثم لها
مراتب في الظنون ولا تنضبط وإنما غرضنا ترتيب البيان ومن
ضرورة البيان تقدير العلم.
فإن قيل: لم, لم تعدوا كتاب الله تعالى؟ قلنا: هو مما تلقى
من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ما يقوله الرسول فمن
الله تعالى فلم يكن لذكر الفصل بين الكتاب والسنة معنى
فهذا منتهى الغرض في تقسيم البيان والله المستعان.
مسألة في تأخير البيان:
77- اعلم أن البيان لا يسوغ تأخيره عن وقت الحاجة والمعنى
به توجه الطلب التكليفي فإذا فرض ذلك استحال أن يؤخر بيان
المطلوب ولو فرض ذلك لكان مقتضيا تكليف مالا يطاق وقد سبق
القول في استحالته.
وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة عند ورود الخطاب فجائز
عند أهل الحق.
78- ومنع المعتزلة ذلك وأوجبوا اقتران البيان بمورد الخطاب
والكلام عليهم يحصره ثلاثة أقسام.
أحدها: البرهان الحق فنقول لا يمتنع ما
منعتموه وقوعا وتصورا وليس كامتناع المستحيلات وفرض اجتماع
المتضادات فلئن فرض استحالته فهو متلقى على زعمكم من فن
الاستصلاح والقول بالصلاح والأصلح فرع من فروع مذهبهم في
التقبيح والتحسين العقليين وقد استأصلنا قاعدتهم فيما
يدعونه من ذلك على أن.
ج / 1 ص -43-
معتضدهم فيما يدعونه من ذلك الرجوع إلى [معاقلات] العقلاء
وليس ببدع أن يقول القائل ربما يعلم الله تعالى صلاح عباده
في أن يبهم عليهم الخطاب حتى يعتقدوه مبهما ثم إذا استمروا
بين لهم التفصيل عند الحاجة ولو بين لهم أولا لفسدوا فيبطل
ما ذكروه من كل وجه فهذا مسلك.
والمسلك الثاني: يتعلق بمناقضتهم مذهبهم
هاهنا بأصلهم في النسخ فإن النسخ عندهم بيان مدة التكليف
[ولم يكن] هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول وليس لهم
عن هذا جواب.
والمسلك الثالث: يتعلق بمطالبتهم [بما]
رأينا الشرع عليه فنقول قد ورد الأمر بالحج ولم يقترب به
تفاصيله جملة واحدة وكذلك القول في الصلاة وغيرها من قواعد
الشريعة فلم يبق لمذهبهم متعلق.
فإن قالوا: مخاطبة المكلف بما لا يفهم لا فائدة فيه, قلنا:
هذا عين المذهب وفيما ذكرناه ما يبطله.
فإن قالوا: مخاطبة العربي بلفظ محتمل في اللغة كمخاطبة
الأعجمي بالعربية, قلنا: ونحن لا نمنع من ذلك إذا فهم
[العجمي] على الجملة أنه مأمور والعجم مأمورون بأوامر الله
تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ثم [يفسر] لهم في
وقت الحاجة. |