البرهان في أصول الفقه القول في اللغات ومأخذها وذكر ألفاظ جرى رسم
الأصوليين بالكلام عليها.
79- اعلم أن
معظم الكلام في الأصول يتعلق بالألفاظ والمعاني أما
المعاني فستأتي في كتاب القياس إن شاء الله تعالى وأما
الألفاظ فلا بد من الاعتناء بها فإن الشريعة عربية ولن
يستكمل المرء خلال الاستقلال بالنظر في الشرع ما لم يكن
ريانا من النحو واللغة ولكن لما كان هذا النوع فنا مجموعا
ينتحى ويقصد لم يكثر منه الأصوليون مع مسيس الحاجة إليه
وأحالوا مظان الحاجة على ذلك الفن واعتنوا في فنهم بما
أغفله أئمة العربية واشتد اعتناؤهم بذكر ما اجتمع فيه
إغفال أئمة اللسان وظهور مقصد الشرع وهذا كالكلام على
الأوامر والنواهي والعموم والخصوص وقضايا الاستثناء وما
يتصل بهذه الأبواب ولا يذكرون ما ينصه أهل اللسان إلا على.
ج / 1 ص -44-
قدر
الحاجة الماسة التي لا عدول عنها.
ونحن نذكر الآن مسائل على شرط هذه الترجمة إن شاء الله.
مسألة:
80- اختلف أرباب الأصول في مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى
أنها توقيف من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبت
اصطلاحا وتواطؤا وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائييني رحمه
الله في طائفة من الأصحاب إلى أن القدر الذي يفهم منه قصد
التواطؤ لا بد أن يفرض فيه التوقيف.
والمختار عندنا أن العقل يجوز ذلك كله فأما تجويز التوقيف
فلا حاجة إلى تكلف دليل فيه ومعناه أن يثبت الله سبحانه
وتعالى: في الصدور علوما بديهية بصيغ مخصوصة بمعان فيتبين
العقلاء الصيغ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع
الصيغ على حكم الإرادة والاختيار.
وأما الدليل على جواز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن
يحرك الله تعالى نفوس العقلاء لذلك ويعلم بعضهم مراد بعض
ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال لهم
وإشارات إلى مسميات وهذا غير مستنكر وبهذا المسلك ينطق
الطفل على طول ترديد المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه.
فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيله الأستاذ رحمه
الله وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت
في النفوس فإذا لم يمتنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف
والاصطلاح بعدها معنى ولا أحد يمنع جواز ثبوت العلوم
الضرورية على النحو المبين.
فهذا خط الأصول من هذه المسألة.
81- فإن قيل فإذا أثبتم الجواز في الوجهين عموما فما الذي
اتفق عندكم وقوعه قلنا ليس هذا الآن مما يتطرق إليه بمسالك
العقول فإن وقوع الجائز لا يستدرك إلا بالسمع المحض ولم
يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله سبحانه
وتعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1 دليل على أحد الجائزين فإنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "31" سورة البقرة.
ج / 1 ص -45-
لا
يمتنع أن اللغات لم يكن يعلمها فعلمه الله تعالى إياها ولا
يمتنع أن الله تعالى أثبتها ابتداء وعلمه إياها.
مسألة:
82- ذهب بعض من ينتمي إلى أصحابنا في طوائف من الفرق
إلى أن اللغات لا يمتنع إثباتها قياسا وإنما قالوا ذلك في
الأسماء المشتقة كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال
هؤلاء إن خصصت العرب في الوضع اسم الخمر بالخمر النية
العنبية فيجوز تسمية النبيذ المشتد خمرا لمشاركته الخمر
النية فيما منه اشتقاق الاسم.
83- والذي نرتضيه: أن ذلك باطل لعلمنا أن العرب لا تلتزم
طرد الاشتقاق وأقرب مثال إلينا أن الخمر ليس في معناها
الإطراب وإنما هي من المخامرة أو التخمير فلو ساغ
الاستمساك بالاشتقاق لكان كل ما يخمر العقل أو يخامره ولا
يطرب خمرا وليس الأمر كذلك.
والقول الضابط فيه: أن الذي يدعى ذلك إن كان يزعم أن العرب
أرادته ولم تبح به فهو متحكم من غير ثبت ولا توقيف فإن
اللغات على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادعاء نقل وإن كان يزعم
أن العرب لم تعن ذلك فإلحاق الشيء بلسانها وهي لم ترده
محال والقايس في حكم من يبتدئ وضع صيغة.
فإن قيل الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم قلنا أجل
ولكن ثبت قاطع سمعي على أنها متعلق الأحكام فإن نقلتم
قاطعا من أهل اللسان اتبعناه.
ثم السر فيه أن الإجماع انعقد علة وجوب العمل عند قيام
ظنون القايسين فلم تكن الظنون موجبة علما ولا عملا وليس في
اللغات عمل فإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن
لا يسوغ الحكم بالظن المجرد فإن تعلق هؤلاء بالأسماء
المشتقة من حيث الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي
تجري على قضية واحدة فقد ثبت في هذه من طريق النقل اطراد
القياس فاتبعناه ولا يجرى هذا في محل النزاع قطعا.
84- في ألفاظ استعملتها العرب فجرت في ألفاظ الشارع صلى
الله عليه وسلم على أنحاء لم تعهد في اللغة المحضة كالصلاة
والزكاة والحجج والعمرة وما في معناها.
فالصلاة في اللسان: الدعاء وقيل: هي ملازمة الشيء من قولهم
صلى النار.
ج / 1 ص -46-
واصطلى
بها ومنه المصلى في السباق.
والزكاة هي: النمو والحج والعمرة القصد ثم الشارع سمى
عبادة مخصوصة صلاة وكذلك القول في أخوات هذه اللفظة فما
وجه ذلك؟.
قال قائلون: نقل الشرع الألفاظ اللغوية عن حكم وضع اللسان
إلى مقاصد الشرع.
وقال آخرون: هي مقرة على حقائق اللغات لم تنقل ولم يزد في
معناها وهو اختيار القاضي أبي بكر رحمه الله.
وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنها أقرب وزيد في معناها في
الشرع.
وقالت المعتزلة: الألفاظ تنقسم ثلاثة أقسام أحدها الألفاظ
الدينية وهي الإيمان والكفر والفسق: فهي عندهم منقولة إلى
قضايا في الدين فالإيمان في اللسان التصديق والكفر من
الكفر وهو الستر والفسق الخروج وهذا الذي ذكروه على
قواعدهم في أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا دينا وليس كافرا
أيضا وإنما هو فاسق.
والقسم الثاني: الألفاظ اللغوية وهي
القارة على قوانين اللسان.
والقسم الثالث: الألفاظ الشرعية وهي
الصلاة والصوم وأخواتها فهي مستعملة في فروع الشرع.
وسر مذهبهم في الدينية والشرعية يئول إلى ما حكيناه عن
الفقهاء من أنها مقرة زيد في معناها.
أما القاضي رحمة الله عليه فإنه استمر على لجاج ظاهر فقال
الصلاة الدعاء والمسمى بها في الشرع دعاء عند وقوع أقوال
وأفعال ثم الشرع لا يزجر عن تسمية الدعاء المحض صلاة وطرد
ذلك في الألفاظ التي فيها الكلام.
وهذا غير سديد فإن حملة الشريعة مجمعون على أن الركوع
والسجود من الصلاة ومساق ما ذكره [أن] المسمى بالصلاة
الدعاء فحسب وليس الأمر كذلك.
85- وأما المختار عندنا فيقتضي بيانه تقديم أصل هو مقصود
في نفسه وبه يتم غرض المسألة فنقول:
ج / 1 ص -47-
قد ذكر
الأصوليون أن في الألفاظ ما هو عرفي وللعرف احتكام فيه
ووجه احتكام العرف فيه يحصره شيئان أحدهما أن تعم استعارته
عموما يستنكر معها استعمال الحقيقة وهذا كقول القائل:
الخمر محرمة وهذا مستعار متجوز فإن الخمر لا تكون مرتبط
التكليف وإنما يتعلق التكليف بأحكام أفعال المكلفين
فالمحرم إذا شرب الخمر وتعاطيها ولو قال قائل: ليست الخمر
محرمة لكان قائلا هجرا ويكثر تطاير ذلك في اللسان والشرع
فهذا أحد الوجهين.
والثاني: يخصص العرف أسماء ببعض المسميات ووضع الاسم يقتضي
ألا يختص وهذا كالدابة فإنها مأخوذة من دب يدب وهو مبني
بناء فاعل على قياس مطرد في أسماء الفاعلين ثم يقال فلان
دب ولا يسمى دابة إلا بعض البهائم والحشرات كالحيات
ونحوها.
فإذا تبين هذا بنينا عليه غرضنا وقلنا الدعاء التماس
وأفعال المصلي أحوال يخضع فيها لربه عز وجل ويبغى بها
التماسا فعمم الشرع عرفا في تسمية تلك الأفعال دعاء تجوزا
واستعارة وخصص اسم الصلاة بدعاء مخصوص فلا تخلو الألفاظ
الشرعية عن هذين الوجهين وهما متلقيان من عرف الشرع فمن
قال إن الشرع زاد في مقتضاها وأراد هذا فقد أصاب الحق وإن
أراد غيره فالحق ما ذكرناه ومن قال إنها نقلت نقلا كليا
فقد زل فإن في الألفاظ الشرعية اعتبار معاني اللغة في
الدعاء والقصد والإمساك في الصلاة والصوم والحج فهذا حاصل
هذه المسألة.
فصل: [في ألفاظ] جرى رسم الأصوليين بالخوض فيها
فلا وجه لإخلاء هذا المجموع عنها.
86- منها:
اللغة من لغي يلغى إذا لهج بالكلام وقيل لغي يلغا والكلام
هو المفيد والمفيد جملة معقودة من مبتدأ وخبر وفعل أو فاعل
والكلم جمع كلمة كالنبق والنبقة واللبن واللبنة وهي تنطلق
على ما يفيد وعلى مالا يفيد والكلم الذي ينتظم الكلام
[منه] اسم وفعل وحرف جاء لمعنى.
87- فالاسم كقولك: رجل ودابة وكل مادل على معنى سمى به ثم.
ج / 1 ص -48-
الأسماء تنقسم إلى متمكن وإلى غير متمكن فأما غير المتمكن
فهو الذي يحتاج الناظر إلى فكر في إلحاقه بقبيل الأسماء
كقولك أين وكيف ومتى وما في معناها وهي كلها مبنيات لا
يدخلها الإعراب لمشابهتها الحروف1 والمتمكن مالا يستراب في
كونه اسما وهو ينقسم إلى ما يسمى الأمكن وهو ما ينصرف
ويجر2 ومعنى الانصراف قبول الجر والتنوين3 وما لا ينصرف
يسمى متمكنا ولا يجر4 ولا ينون.
88- والأفعال صيغ دالة على أحداث أسماء مشعرة بالأزمان
والأحداث هي المصادر وهي أسماء ولكنها لصيغ الأفعال كالتبر
للصور المصوغة.
ثم الأفعال5 مبنية خلا المضارع والمضارع ما يلحق أوله إحدى
الزوائد الأربع.
الهمزة والياء والتاء والنون في قولك أفعل تفعل يفعل نفعل.
89- والحروف صلات بين الأسماء والأفعال وهي كلها مبنية ثم
إنها تنقسم أربعة أقسام:.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ينقسم هذا الشبه أقسام:
الأول: شبهه له في الوضع كأن يكون الاسم موضوعه على حرف
واحد كالتاء في"ضربت" أو حرفين كـ "أنا" في "أكرمنا".
فالتاء في"ضربت" اسم لأنه فاعل وهو مبني لأنه أشبه حرف في
الوضع في كونه على حرف واحد وكذا "نا" اسم لأنه مفعول وهو
مبني لشبهه بالحرف في الوضع في كونه على حرفين.
الثاني: شبه الاسم له في المعنى وهو قسمان: أحدهما ما أشبه
حرفا موجودا والثاني ما أشبه حرفا غير موجود. فمثال الأول:
متى فإنها مبنية لشبهها الحرف في المعنى فإنها تستعمل
للاستفهام نحو: "متى تقوم؟" وللشرط نحو: "متى تقم أقم" وفي
الحالتين هي مشبهة لحرف موجود لأنها في الاستفهام كالهمزة
وفي الشرط كـ"أن".ومثال الثاني "هنا" فإنها مبنية لشبهها
حرفا كان ينبغي أن يوضع فلم يوضع وذلك لأن الإشارة معنى من
المعاني فحقها أن يوضع لها حرف يدل عليها كما وضعوا للنفي
"ما" وللنهي "لا" وللتمني "ليت" وللترجي "لعل", ونحو ذلك
فبنيت أسماء الإشارة لشبهها في المعنى حرفا مقدرا.
الثالث: شبهه له بالحرف في النيابة عن الفعل وعدم التأثر
بالعامل وذلك كأسماء الأفعال تحو "دراك زيدا".فدراك مبني
لشبه بالحرف في كونه يعمل فيه غيره كما أن الحرف كذلك.
الربع: شبه الحرف في الافتقار اللازم وذلك كالأسماء
الموصولة نحو "الذي" فإنها مفتقرة في سائر أحوالها إلى
الصلة فأشبهت الحرف في ملازمة الافتقار فبنيت: "شرح ابن
عقيل" 1/30-34.
2 ويجر: يعني بالكسرة على الأصل في الأسماء أن تجر من
بالكسرة.
3 التنوين: عبارة عن نزن ساكنة تلحق آخر الاسم لفظا
وتفارقه خطأ للاستغناء عنها عند الضبط بالقلم.
4 ولا يجره: يعني بالكسوة على الأصل وإنما يجر بالفتحة
نيابة عنها.
5 الأفعال مبنية: يقصد بها الماضي والأمر لآن الأفعال
ثلاثة: ماض ومضارع وأمر.
ج / 1 ص -49-
أحدهما: ما لا يغير اللفظ والإعراب ويغير المعنى كقولك زيد منطلق ثم تقول
هل زيد فالإعراب على ما كان وقد تغير المعنى من التحقيق
إلى الاستفهام.
والثاني: ما يغير اللفظ والإعراب ولا يغير
المعنى تقول زيد في الدار ثم تقول إن زيدا في الدار فقد
تغير الإعراب والمعنى بحاله.
والثالث: ما يغير اللفظ والمعنى تقول زيد
خارج ثم تقول لعل زيدا خارج فالإعراب قد تغير وتغير المعنى
من التحقيق إلى الترجي.
والرابع: مالا يغير اللفظ ولا المعنى وهي
الزوائد قال الله سبحانه وتعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ}1 معناه فبرحمة من الله.
ثم تكلموا في أمور هي محض العربية ولست أرى ذكرها ولكن
أذكر منها ما تكلم فيه أهل النظر من الفقهاء والأصوليين ثم
لا أجد بدا من ذكر معاني حروف كثيرة الدوران في الكتاب
والسنة وبالله التوفيق.
مسألة:
90- ذهب بعض فقهائنا إلى أن الباء إذا اتصل بالكلام مع
الاستغناء عنه اقتضى تبعيضا وزعموا أنه في قوله سبحانه
وتعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}2 يتضمن ذلك وهذا خلف من الكلام لا حاصل له وقد اشتد نكير ابن جنى
في سر الصناعة على من قال ذلك فلا فرق بين أن يقول مسحت
رأسي وبين أن يقول مسحت برأسي والتبعيض يتلقى من غير الباء
كما ذكرته في الأساليب.
وقال الشافعي رحمه الله تدخل الباء بمعنى "على" قال الله
تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}3 أي على دينار.
وقال سيبويه4 رحمه الله وترد بمعنى أجل قال الله سبحانه
وتعالى:
{وَلَمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "159" سورة آل عمرا.
2 آية "76 سورة المائدة.
3 آية "75" سورة آل عمران.
4 سيبويه هو: أبو بشر عمرو بن عثمان مولى بني الحارث بن
كعب. وسيبويه بالفارسية معناه: رائحة التفاح. أخذ النحو عن
الخليل ويونس وعيسى بن عمر حتى برع فيه. مات سنة "183" له
ترجمة في: أخبار النحويين ص "48" وأنبا الرواة 2/346,
ومرآة الجنان 1/348.
ج / 1 ص -50-
أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}1
أي ولم أكن لأجل دعائك شقيا وقال غيره هي بمعنى "في" أي في
دعائك.
وقد يكون زائدا لا معنى له تقول رضيت به ورضيته ومعناه
الظاهر الإلصاق في مثل قولك مررت بزيد ومن أحكامه تعدية
الفعل اللازم تقول قمت وقمت به وذهبت به وهذا قياس جار
[مطرد].
مسألة:
91- خاض الفقهاء في الواو العاطفة وأنها هل تقتضي ترتيبا2
أو جمعا3 فاشتهر من مذهب الشافعي رحمه الله المصير إلى
أنها للترتيب.
وذهب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إلى أنها للجمع.
92- وقد زل الفريقان فأما من قال: إنها للترتيب فقد احتكم
في لسان العرب فإنا باضطرار نعلم من لغتها ولسنها أن من
قال رأيت زيدا وعمرا لم يقتض ذلك تقديم رؤية زيد وقد يعلم
الناطق والمخاطب أن رؤية عمرو كانت متقدمة ويحسن نظم
الكلام كذلك.
ومن أصدق الشواهد في إبطال ادعاء الترتيب أن العرب استعملت
الواو في باب التفاعل فقالت تقاتل زيد وعمرو ولو قالت
تقاتل زيد ثم عمرو لكان خلفا.
فإن قيل إذا قال الزوج للتي لم يدخل بها أنت طالق وطالق
طلقت واحدة ولم تلحقها الثانية ولو كانت الواو تقتضي جمعا
للحقتها الثانية كما تطلق تطليقتين إذا قال لها أنت طالق
طلقتين وهذا تلبيس لا يتلقى من مثله مأخذ اللسان والسبب في
أن الثانية لا تلحقها أن الطلاق الثاني ليس تفسيرا لصدر
الكلام والكلام الأول تام فبانت به وإذا قال أنت طالق
طلقتين فالقول الأخير بعد استكمال الكلام الأول في حكم
البيان له فكأن الكلام بآخره فهذا وجه الرد على من يرى
الواو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "4" سورة مريم.
2 ترتيبا: يعني الأول قبل الثاني فإذا قلت: حضر زيد وعمرو
يكون مجيء زيد قبل عمرو
3 أو جمعا: يعني فيعطف بها المتقارنان نحو: "جاء محمد
وعلي" إذا كان مجيئهما معا ويعطف بها السابق على المتأخر
نحو: "جاء علي ومحمود" إذا كان مجيء محمود سابقا على مجيء
علي ويعطف على بها المتأخر على السابق نحو: "جاء علي
ومحمد" إذا كان مجيء محمد متأخر عن مجيء علي.
ج / 1 ص -51-
مرتبة
وأما من زعم أنها للجمع فهو أيضا متحكم فإنا على قطع نعلم
أن من قال رأيت زيدا وعمرا لم يقتض ذلك أنه رآهما معا.
فإذا مقتضى الواو العطف والإشتراك وليس فيه إشعار بجمع ولا
ترتيب.
نعم قد ترد في غير غرض المسألة بمعنى الجمع إذا قلت لا
تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما ومنه قول
الشاعر1:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم.
فلا تكون الواو عاطفة في
ذلك فإن أردت العطف قلت لا تأكل السمك وتشرب اللبن وأنت
تعني النهي عن كل واحدة منهما والمعنى لا تأكل السمك ولا
تشرب اللبن وترد الواو في باب المفعول معه بمعنى "مع" تقول
استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة قال سيبويه رحمه
الله قد ترد [الواو] بمعنى إذ وهي التي تسمى واو الحال قال
الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً
يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 2 أي إذ
طائفة
[{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ].
93- فأما الفاء فإن مقتضاها التعقيب3 والتسبيب4 والترتيب5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا البيت من كلمة لأبي الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه
وضع علم النحو وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
وقد استشهد به جماعة منهم: سيبويه "1/414" ونسبه للأخطل
وابن هشام في: "أوضح المسالك" 2/170 وفي "شذور الذهب" ص
"212 و 277" و "القطر" ص "79" وابن عقيل 2/262.
2 آية "154" سورة آل عمران.
3 التعقب: يعني أن الثاني بعد الأول بلا مرحلة فإذا قلت
حضر عمرو فزيد. فقد عنيت أن زيدا جاء بعد عمرو ولم يكن
بينهما مهلة.
4 ويشترط في "الفاء" إذا كانت للسببية أن تسبق بنفي محض
كقوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} وقولك: "ما تأتينا فتحدثنا, أو طلب, وهو على ثمانية أقسام: الأول:
الأمر, كقوله:
يا ناق سيري عنقا فسيحا
إلى سلمان فنستريحا
الثاني: النهي نحو قوله
تعالى:
{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}. الثالث: التخصيص نحو: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}. والرابع: التمني نحو:
{لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ}. الخامس: الترجي نحو:
{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ
فَأَطَّلِعَ}.
السادس: والدعاء كقوله:
رب وفقني فلا أعدل عن
سنن الساعين في خير سنن
السابع: الاستفهام
كقوله:
هل تعرفون لباناتي فأرجو أن
تقضى فيرتد بعض الروح للجسد
الثامن: العرض كقوله:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما
قد حدثوك فما راء كمن سمع
"قطر الندى" ص "71 -
76".
5 الترتيب: يعني إن الثاني بعد الأول.
ج / 1 ص -52-
ولذلك
تستعمل جزاء تقول إن تأتني فأنا أكرمك وإذا جرى جزاء فهو
الذي عنيناه بالتسبيب ثم من ضرورة التسبيب الترتيب
والتعقيب.
وقد ترد الفاء مورد الواو للعطف والتشريك وأكثر ما يلفى
كذلك في أسماء البقاع كقول1 امرىء القيس2:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
فأما "ثم" فمن العواطف
ولكن للترتيب مع التراخي وبالله التوفيق.
مسألة تحوى مراسم الأصوليين في معاني الحروف:
ونحن نذكر فيها لمعا مفيدة يستقل بها من لم يحط بالعربية.
94- فمنها "ما" وقد تكون حرفا وقد تكون اسما.
فأما ما يقع حرفا فينقسم إلى "ما" له معنى وإلى ما ليس له
معنى.
فأما ما له معنى فهو "ما" النافية وهي تدخل على الاسم
والفعل تقول ما قام زيد [وما زيد قائم].
وإن اتصلت "ما" بالإبتداء أو الخبر فأهل الحجاز يرون
إحلالها محل ليس فيرفعون بها الاسم وينصبون الخبر وهي لغة
القرآن قال الله عز وجل:
{مَا هَذَا بَشَراً}3 وبنو تميم لا تعمل ما النافية لأنها تدخل على الاسم والفعل وقياس
"ما" يدخل على البابين أعني الاسم والفعل ألا يعمل في واحد
منهما.
وأما ما ليس له معنى فما الكافة لعمل ما يعمل دونها تقول
أن زيدا منطلق.
وإنما زيد منطلق وما الزائدة في مثل قوله تعالى:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}4.
وأما ما وقع اسما فينقسم إلى منكوروموصول أما المنكور ففي
الاستفهام والشرط والتعجب تقول: ما تفعل؟ وأنت مستفهم
معناه أي شيء تصنع؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعلقات بشرح الزورني ص "3".
2 امرؤ القيس بن حجر أشهر شعراء الجاهلية وأشرفهم أصلا
وأرفعهم منزلة. تاريخ آداب اللغة 1/93-98.
3 آية "31" سورة يوسف
4.آية "159" سورة آل عمران
ج / 1 ص -53-
وأما
الشرط فتقول ما تفعل أفعل والتعجب كقولك ما أحسن زيدا قال
سيبويه تقديره شيء حسن زيدا.
وأما ما ليس بمنكور فهو الموصول الذي لا يقوم بنفسه دون
صلته وصلته جملة من مبتدأ وخبر1 [أو فعل وفاعل]2 وهو بمعنى
الذي تقول أعجبني الذي تصنع وأعجبني ما تصنع.
وقد تقع "ما" ظرفا زمنيا في مثل قولك آتيك ما أكرمتني أي
مدة إكرامك أياي.
وقد تقع مصدرا قال الله عز وجل:
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}3 معناه وبنائها فيقع الفعل معه بتأويل المصدر.
95- وأما "أو" فهي للتردد والتشكك تقول رأيت زيدا أو عمرا.
96- و "أم" في معناه إلا أنه قد يقع في وضع الكلام مقرونا
بالإستفهام تقول أزيدا رأيت أم عمرا ولا تقول رأيت زيدا أم
عمرا ولا أرأيت زيدا أو عمرا.
وتحقيق الفصل بينهما أن "أم" إذا استعلمت في قضية
الاستفهام فمطلقها قاطع بوقوع أحد الشيئين اللذين ردد
السؤال فيهما وإنما يسأل عن عين الواقع.
والكلام في الباب يمثل بأي فإذا قلت أزيدا رأيت أم عمرا
كان معناه أيهما رأيت وأما "أو" فليس ذلك من حكمه ويجوز أن
يعتقد من يقول أرأيت زيدا أو عمرا أنه لم ير واحدا منهما
واستقصاء ذلك يتعلق بفن العربية.
وقد تكون "أو" بمعنى التخيير في الجنس كما تقول جالس الحسن
أو ابن سيرين معناه جالس هذه الطبقة من أهل الخير.
وذهب بعض الحشوية4 من نحوية الكوفة إلى أن "أو" قد ترد
بمعنى الواو العاطفة واستشهدوا بقوله سبحانه وتعالى:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}5,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي التي يقال لها: الجملة الاسمية.
2 وهي التي يقال لها: الجملة الفعلية وهذه الجملة لا محل
لها من الإعراب.
3 آية "5" سورة الشمس.
4 سبق التعريف بهذه الفرقة.
5 آية "147" سورة الصف
ج / 1 ص -54-
وقوله:
{عُذْراً أَوْ نُذْراً}1 وقوله:
{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}2 وهذا "زلل" عظيم عند المحققين فلا تكون "أو" بمعنى الواو قط وقوله
جل وعلا أو يزيدون عند أصحاب المعاني كالزجاج3 والفراء4
وغيرهما محمول على تنزيل الخطاب على قدر فهم المخاطب
والتقدير وأرسلناه إلى عصبة لو رأيتموهم لقلتم مائة ألف أو
يزيدون.
وعليه خروج قوله تعالي:
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}5
والرب عز وجل لا يتعاظمه أمر ولكن المعنى إن الإعادة أهون
في ظنونكم فإذا اعترفتم بالإقتدار على الإبتداء والإعادة
أهون عندكم فلم منعتموها؟.
وفي هذا المعنى قوله تعالى: في خطاب موسى وهارون عليهما
السلام إذ بعثهما إلى فرعون:
{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}6
والترجي لا يليق بحكم علام الغيوب ولكن المعنى كونا على
رجائكما في تذكيره إذ لو أطلعهما على الغيب في إبائه لما
شمرا في الدعوة.
وقوله تعالى:
{عُذْراً أَوْ نُذْراً}7 تقرب "أو" فيه من التخيير في قول القائل جالس الحسن8 أو ابن
سيرين9 وقوله تعالى:
{آثِماً أَوْ كَفُوراً}10
يتجه فيه ما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "6" سورة المرسلات.
2.آية "24" سورة الإنسان.
3 الزجاج هو: إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج سمي بذلك
لأنه كان يخرط الزجاج تلقى العلم على المبرد وكان يدفع له
الأجر بمشقة لقلة ذات يده مات سنة "311" له ترجمة في طبقات
الأدباء "308" و "الفهرست" "60" ومعجم الأدباء.
4 الفراء هو: يحيى بن زياد الفراء الديلمي من موالي بني
أسد في الكوفة أخذ عن الكسائي وكان إماما ثقة له شأن عظيم
في اللغة قال أبو العباس: لولا الفراء لما كانت اللغة مات
سنة "207" له ترجمة في: وفيات الأعيان 2/228 وطبقات
الأدباء "126" والفهرست "66" ومعجم الأدباء 20/9.
5 آية "27"سورة الروم.
6 آية "44" سورة طه.
7 آية "6" سورة المرسلات.
8 الحسن هو: ابن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد مولى زيد
بن ثابت وقيل جابر بن عبد الله وقيل: أبو اليسر قال سليمان
التميمي: الحسن شيخ أهل البصرة مات سنة "110" له ترجمة في:
وفيات الأعيان 1/128 والعبر 1/136 وشذرات الذهب 1/136.
9 ابن سيرين هو: محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر بن أبي
عمرة البصري مولى أنس بن مالك قال ابن سعد: ثقة مأمون عال
رفيع فقيه إمام كثير العلم والورع مات سنة "110" له ترجمة
في: وفيات الأعيان 1/453 وشذرات الذهب 1/128 والعبر 1/135
وحلية الأولياء 2/263.
10 آية "24" سورة الإنسان.
ج / 1 ص -55-
وقال
الزجاج1 هو على مذهب التكريرالمؤكد والآثم هو الكفور بعينه
وقد تكون "أو" بمعنى إلى في قولك لا أفارقك أو تقضيني حقي
معناه إلى أن تقضيني حقي.
97 - وأما "هل" فمعناه الإستفهام و"هل" تدخل على الاسم
والفعل تقول هل قمت هل زيد في الدار وقد تكون هل بمعنى قد
قال المفسرون في قوله سبحانه وتعالى:
{هَلْ
أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}2
معناه قد أتى على الإنسان وقد تكون بمعنى التقرير قال الله
تعالى:
{هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلَّا الإحسان}3 وإذا اتصل به "لا" كان بمعنى الحث والتحريض تقول هلا جئتنا وأنت
تبغي الحث على المجىء.
98- وأما "لا" فمقتضاه النهي ثم قد تكون للتبرئة فتتصل إذا
باسم منكور مبني على الفتح ولا ينون ويدل إذ ذاك على نفى
الجنس تقول لا ريب في الأمر ولا رجل في الدار.
وتقع في جواب القسم تقول والله لا أدخل الدار وقد تكون
زائدة يستقل الكلام دونها والغرض تقرير نفي اشتمل الكلام
عليه قال الله تعالى:
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} 4 معناه ما
منعك أن تسجد ولكن لما اشتمل الكلام على المنع ومقتضاه
النفي فكان في حكم التأكيد للمنع حتى كأنه تكرير له ولا
تزاد "لا" إلا لهذه الشريطة.
فإن قيل "لا" زائدة في قوله تعالى:
{لا أُقْسِمُ}5
وليس في الكلام نفى تؤكده لا قيل هو رد لقول الكفار
ودعاويهم وقوله:
{أُقْسِمُ}
افتتاح القسم وفي الشاذ لأقسم.
99- وأما "لو" فتدل على امتناع الشيء لامتناع غيره تقول لو
جئتني جئتك أي امتناع مجيئى لامتناع مجيئك.
وقد تكون بمعنى "إن" قال الله سبحانه وتعالى:
{وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ
أَعْجَبَتْكُمْ}
6 معناه وإن أعجبتكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 آية "1" سورة الإنسان.
3 آية "60" سور الرحمن.
4 آية "12" سورة الأعراف.
5 آية "1" سورة القيامة.
6 آية "221" سورة البقرة.
ج / 1 ص -56-
وقد
تفيد معنى التقليل كقوله صلى الله عليه وسلم:1
"اتقوا النار ولو بشق تمرة"
وقوله صلى الله عليه وسلم لخاطب الواهبة نفسها2
"التمس ولو خاتما من حديد".
100- وأما "لولا" فهي لامتناع الشيء بسبب وجود غيره تقول:
لولا زيد لأكرمتك أي امتنع إكرامي إياك لوجود زيد عندك.
وقد تكون بمعنى "هلا" قال الله تعالى:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}3 معناه هلا نفر.
101- وأما "من" فحرف جار خافض لا يدخل إلا على اسم ومعناه
التخصيص والتبعيض تقول أخذت الدراهم من الكيس.
وقد يرد مؤكدا للتعميم واستغراق الجنس قال سيبويه4 رحمه
الله إذا قلت ما جاءني رجل فاللفظ عام ولكن يحتمل أن يؤول
فيقال ما جاءني رجل بل رجلان أو رجال فإذا قلت ما جاءني من
رجل اقتضى نفى جنس الرجال على العموم من غير تأويل.
وقد تكون بمعنى "على" قال الله سبحانه وتعالى:
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}5 أي على القوم.
102- و"عن" بمعنى من إلا في خصائص "ثلاثة" منها أن من
للانفصال والتبعيض وعن لا تقتضى الفصل تقول أخذت من مال
زيد لأنك فصلته "عنه" وأخذت عن علمه ولهذا اختصت الأسانيد
بالعنعنة.
و"من" لاتكون إلا حرفا و"عن" قد تكون اسما تدخل "من" عليه
تقول أخذت من عن الفرس جله.
103- وأما "إلى" فحرف جار وهو للغاية قال سيبويه رحمه الله
إن اقترن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري 2/126 و4/24 8/8 140 144 9/181 ومسلم في الزكاة
"68" والنسائي 5/75 والدارمي 1/190 وأحمد 4/256 و258 و259
و377.
2 البخاري 7/22 وأبو داود "2111" والترمذي "1114" والنسائي
6/336 ومالك "526".
3 آية "122" سورة التوبة.
4 سبقت ترجمته.
5 آية "77" سورة الأنبياء
ج / 1 ص -57-
"بمن" اقتضى تحديدا ولم يدخل الحد في المحدود فتقول بعتك من هذه
الشجرة إلى تلك الشجرة فلا يدخلان في البيع.
وإذا لم تقترن "بمن" فيجوز أن يكون تحديدا ونجوز أن تكون
بمعنى مع قال الله تعالى:
{لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}1 إِنَّهُ معناه مع أموالكم وقال جل وعز:
{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}2 أي مع الله ومنه قوله سبحانه وتعالى:
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}3 [معناه: مع المفراق].
و "من" تدخل على الزمان والمكان تقول من مكة إلى المدينة
ومن الجمعة إلى الجمعة.
104- وأما "مذ ومنذ" فيختصان بالزمان ولا يدخلان على
المكان واستعمالهما في الزمان أفصح من استعمال "من" تقول
منذ أسبوع أنتظره وهو أحسن من قولك من أسبوع4.
وإذا استعملت "من" قرينة "إلى" لم تقم "عن" مقامها أصلا
فإن قيل زيد أفضل من عمر من أي قبيل قلنا هو لاقتضاء
الغاية والمعنى ساوى.
زيد عمرا في فضله وابتدأ زيد زيادة عليه في الفضل كما تقول
سرت من البصرة إلى بغداد ولهذا لا تستعمل "عن" في الباب.
105- وأما "على" فلفظه تقع اسما وفعلا وحرفا فأما الفعل
فمن علا يعلو وأما الاسم فتقول أخذته من على الفرس وأما
الحرف فتقول دخلت على فلان ودخل علي.
106- وأما "حتى" فعلى أوجه قد تكون بمعنى الغاية5 تقول
أكلت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "2" سورة النساء.
2 آية "52" سورة آل عمران.
3 آية "6" سورة المائدة.
4 أعلم أن "مذ, ومنذ" يدلان على معنى "من" إن كان ماضيا
نحو: "ما رأيته مذ يوم الخميس" و "ما كلمته منذ شهر".
ويكونان بمعنى "في" إن كان ما بعدهما حاضرا نحو: "لا أكلمه
مذ يومان". "لا ألقاه منذ يومنا".
فإن وقع بعد "مذ" أو "منذ" فعل أو كان الاسم الذي بعده
مرفوعا فهما اسمان. "التحفة السنية" ص "126".
5 وهو غالب.
ج / 1 ص -58-
السمكة
حتى رأسها تعني إلى رأسها فقد أنبأت أنك لم تأكل رأسها.
وتكون بمعنى العطف: تقول: أكلت السمكة حتى رأسها معناه
ورأسها.
وتكون بمعنى الاستئناف تقول: أكلت السمكة حتى رأسها أي
ورأسها مأكول وقد أنشسد البيت المشهور على الوجوه الثلاثة
وهو قول القائل1:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
والزاد حتى نعله ألقاها.
وقد تكون بمعنى إلى: مثل
أن تقول: لا أفارقك حتى تقضيني حقي أي إلى أن تقضيني حقي.
107- وأما "إي" فمعناه أجل قال الله عز وجل:
{قُلْ إِي وَرَبِّي}2.
108- وأما بل فللاستدراك واستئناف الكلام تقول ما رأيت
زيدا بل عمرا.
109- وأما "نعم وبلى" فمعناهما قريب إلا أن بلى لا تستعمل
إلا في جواب كلام يشتمل على نفى كقوله سبحانه وتعالى:
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}3 قال سيبويه لو قالوا نعم لكان نفيا للربوبية.
وأما "نعم" فللإثبات فإذا قال قائل: أرأيت زيدا فليكن
جوابك إذا كنت رأيته: نعم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ محيي الدين شيخ شيخنا البن في تعليقه على
"قطرة الندى" ص 342-343: "حكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن
هذا البيت من كلام أبي مروان النحوي" وقال ابن هشام في
"القطر" ص "342- 343": "حتى للغاية والتدريج ومعنى الغاية:
آخر الشيء ومعنى التدريج: أن ما قبلها ينقضي شيئا فشيئا
إلى أن يبلغ الغاية وهو الاسم المعطوف ولذلك وجب أن يكون
المعطوف بها جزءا من المعطوف عليه إما تحقيقا كقولك: "أكلي
السمكة حتى رأسها" أو تقديرا كقولك:
"ألقى
الصحيفة....................
إلخ البيت".
قال: فعطف نعله بحتى
وليست جزءا مما قبلها تحقيقا لكنها جزء تقديرا لأن معنى
الكلام ألقى ما يثقله حتى نعله".أ هـ.
2 آية "53" سورة يونس.
3 آية "172" سورة الأعراف.
ج / 1 ص -59-
110- وأما "من" فلا تكون إلا اسما "بخلاف" ما فإنه قد يكون اسما وقد
يكون حرفا كما سبق ثم "من" قد يكون موصولا وقد يكون
منكورا.
أما المنكور فيكون استفهاما في قولك من في الدار ويكون
شرطا في قولك من جاءني أكرمته وأما الموصول فمثل قولك:
رأيت من عندك معناه الذي عندك.
111- فأما إذا فهو للجزاء كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم1:
"أينقص الرطب إذا يبس؟", قالوا: نعم, قال:
"فلا إذا".
112- وأما "أي" فيكون
جزءا مما يضاف إليه فإذا قلت أي الثياب عندك فأي من الثياب
وهو اسم معرب يعمل فيه ما بعده إلا حروف الجر فإنها لا
تعمل فيه تقول أيهم أكرمت وعرفت أيهم جاءك قال الله جل
وعز:
{لِنَعْلَمَ
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى}2.
فهذه جمل اعتاد الأصوليون الكلام عليها فحرصنا على التنبيه
على مقاصد قويمة عند أهل العربية مع اعترافنا بأن حقائقها
تتلقى من فن النحو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 آية "12" سورة الكهف.
تقسيم الأصوليين للكلام.
113- ثم لما قسم أهل العربية الكلام إلى الاسم والفعل
والحرف قسم الأصوليون الكلام على غرضهم تقسيما آخر فقالوا:
أقسام الكلام: الأمر والنهي والخبر والاستخبار وهذا قول
القدماء.
واعترض المتأخرون فزادوا بزعمهم أقساما زائدة على هذه
الأقسام الأربعة وحاولوا بزيادتها القدح في حصر الأولين
الكلام في الأقسام الأربعة والذي زادوه.
التعجب والتلهف والتمني والترجي والقسم والنداء والدعاء
قال الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله النداء ليس كلاما مستقلا
وإنما هو طرف مستفتح والمنادى بعده يرتقب قسما من أقسام
الكلام وذلك القسم يدخل تحت الأقسام وهذا فاسد لأن قول
القائل: "يا زيد" كلام تام باتفاق اهل اللسان يجوز فرض
السكوت عليه.
ج / 1 ص -60-
وقال
الأستاذ رحمه الله أيضا التلهف والتمني والترجي من أقسام
الخبر وهي تتضمن إخبار المرء عن نفسه بأحوال وضعت الألفاظ
لها.
وهذا أيضا غير سديد لأنه لا كلام إلا ويمكن أن يدخل بهذا
التأويل تحت الخبر فيقال الأمر مخبر عن اقتضاء إيجاد الفعل
بالأمر وكذلك القول في النهي.
فالوجه أن تقول: أما التعجب فلا شك في كونه من قسم الخبر
والقسم لا يستقل دون مقسم به ومقسم عليه وإذ ذاك يلتحق
بالخبر فأما بقية الأقسام التي اعترض بها فهي قادحه.
114- والوجه عندي أن يقال الكلام طلب وخبر واستخبار وتنبيه
فالطلب [يحوي]: الأمر والنهي والدعاء.
والخبر يتناول أقساما واضحة ومنها التعجب والقسم.
والاستخبار يشتمل على الاستفهام والعرض.
والتنبيه يدخل تحته التلهف والتمني والترجي والنداء إلا
أنه ينقسم إلى تنبيه الغير وهو النداء وإلى إعراب عما في
النفس وهو على صيغة تنبيه النفس وهذه الفنون جعلت كالأصوات
الدالة مثل قولك: آه وإيه وإيها وما في معناها.
ونحن الآن نستعين بالله سبحانه وتعالى: ونذكر الأوامر ثم
النواهي وما يتعلق بهما ثم نذكر الألفاظ العامة والخاصة
والاستثناء ونذكر النص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه
إن شاء الله عز وجل تمت مقدمة البرهان ويتلوها على نسقه
أوله. |