البرهان في أصول الفقه

ج / 1 ص -111-       باب العموم والخصوص.
227- قال المحققون من أئمتنا لعام والخاص قولان قائمان بالنفس كالأمر والنهي والعبارات [تراجم عنهما] وأثبتوا ذلك في صدر هذا الكتاب إثباتهم الأمر المقتضى النفسي في مفتتح كتاب الأوامر ثم ردوا اهتمامهم إلىالقول في صيغة العموم وهذا الذي صدروا الكتاب به ليس بالهين عندي فإنا وجدنا اقتضاء نفسيا وطلبا مختلجا في الضمير لا يناقض كراهية وجود المقتضى على ما سبق ذلك متضحا فسمينا الطلب النفسي أمرا وأوضحنا من طريق اللسان تسمية العرب إياه كلاما فأما العموم والخصوص فما أراهما كذلك في الوضوح.
ويظهر أن يقال: [عموم] النفس علوم بمعلومات على جهات في الإرادة والكراهية أو غيرهما فأقصى ما يذكره في هذا أن كل ما يثبت العلم به ففي النفس حديث عنه منفصل عن العلم وهو الذي يسمى الفكر والعلم محيط بمعنى الجميع وفي النفس فكرته وحديث عنه فليعلم طالب هذا الشأن أن معظم ما يحسبه من لم يعظم حظه في الحقائق علما فهو فكر وهو المعنى بكلام النفس.
ومن دقيق ما يتعلق بمدارك العقول أن فكر النفس [متعلقة بالمعلومات] والمعتقدات ولا تتعلق النفس بالعلم الحق وهذا الآن [يتعلق] بالقول في النطق النفسي ولا مطمع في مفاتحته فضلا عن استقصائه.
ومهما ظن ذو الفكر أنه ناطق بالعلم فهو [متخيل] العلم معلوما منطوقا به وهذا هو الذي اختلج في عقول المتكلمين وطيش أحلامهم حتى اضطربوا في أن العلم بالشيء هل هو علم بأنه علم به وهذا الذي اختبطوا فيه اضطراب منهم في فكر النفس لا في العلم نفسه.
ونحن في الأحايين نرمز إلى تلويحات في هذا المجموع [لنتشوف] عند نجازه إلى العلوم الإلهية ونستحث على طلبها مسألة.
228- ونعود الان إلى المقصود اللائق بما نحن فيه ونقول: اختلف الأصوليون في صيغة العموم اختلافهم في صيغة الأمر والنهي [فنقل] مصنفو المقالات عن الشيخ.

 

ج / 1 ص -112-       أبي الحسن والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية وهذا النقل على هذا الإطلاق زلل فإن أحدا لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ مشعرة به كقول القائل رأيت القوم واحدا واحدا لم يفتني منهم أحد وإنما كرر هذا اللفظ قطعا لو هم من يحسبه خصوصا إلى غير ذلك وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بلفظ الجمع ووافق الملقب بالبرغوث من متكلمي المعتزلة وابن الراوندي الواقفية فيما نقل عنهم.
وذهبت طائفة يعرفون بأصحاب الخصوص إلى أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في اقل الجمع مجملات فيما عداه إذا لم يثبت قرينة تقتضي تعديتها إلى أعلى الرتب.
[وأما الفقهاء فقد قال جماهيرهم الصيغ الموضوعة للجميع نصوص في الأقل] وظواهر فيما زاد عليه لا يزال اقتضاؤها في الأقل بمسالك التأويل وهي فيما عدا الأقل ظاهرة مؤولة.
229- والذي صح عندي من مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الصيغة العامة لو صح تجردها عن القرائن لكانت نصا في الاستغراق وإنما التردد فيما عدا الأقل من جهة عدم القطع بانتفاء القرائن المخصصة.
230- ومما زل فيه الناقلون أنهم نقلوا عن أبي الحسن ومتبعية أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع بل تبقى على التردد وهذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين فأما ألفاظ صريحة تفرض مقيدة فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها.
ثم نقل عن أبي الحسن مذهبان حسب ما مضى في صيغى الأمر أحدهما الحكم بكون اللفظ مشتركا بين الواحد اقتصارا عليه وبين أقل الجمع وما فوقه ونقل عنه أنه كان يقول لا أحكم بالاشتراك ولا أدرى للصيغ مجملا ولا مفصلا ولا مشتركا.
ومسالك حجاج الواقفية في هذه المسالة وطرق الجواب عنها كما تقدم في مسألة الأوامر فلا معنى لإعادتها.
231- والذي نحن نذكره الآن مسلك الحق وما هو المرتضى عندي فأقول.

 

ج / 1 ص -113-       والله المستعان: الألفاظ التي يتوقع اقتضاء العموم فيها منقسمة فمن أعلاها وأرفعها الأسماء التي تقع أدوات في الشرط وهي تنقسم إلى ظرف زمان [وإلى] ظرف مكان واسم مبهم يختص بمن يعقل كقولك من أتاني أكرمته واسم مبهم يختص [بما لا] يعقل في رأى ولا يختص بمن يعقل في رأى كوقوع ما شرطا.
وكل اسم وقع شرطا عم مقتضاه فإذا قلت من أتاني اقتضى كل آت من العقلاء وإذا قلت متى ما جئتني اقتضى كل زمان وإذا قلت حيثما رأيتني اقتضى كل مكان وما يقع منكرا منفيا فهو كذلك يتعين [أيضا] القطع بوضع العرب إياه للعموم كقولهم: لم أر رجلا.
صيغ الجموع:
232- وأما صيغ الجموع فلو قسمناها على مراسم صناعة النحو لأطلنا أنفاسنا لكنا نذكر مراسم على قدر مسيس الحاجة إليها [فالجمع] ينقسم إلى جمع سلامة وإلى جمع تكسير.
فأما جمع السلامة فهو الذي يسلم فيه بناء الواحد وهو ينقسم إلى جمع الذكور [وإلى] جمع الإناث فأما جمع الذكور فبزيادة واو قبلها ضمة ونون بعدها في محل الرفع وبزيادة ياء قبلها كسرة ونون [بعدها] في محل النصب والجر.
وأما الإناث فالاسم المؤنث ينقسم إلى اسم ليس في اخره عم للتأنيث وإلى اسم في آخره علم للتأنيث فأما ما ليس فيه علم للتأنيث فجمع السلامة فيه بزيادة ألف وتاء في الوصل والوقف بضمها في محل الرفع وبكسرها في محل الجر والنصب تقول جاءني الهندات ورأيت الهندات ومررت بالهندات وأما ما في آخره علم للتأنيث فينقسم إلى ما يكون هاء في الوقف وتاء في الوصل وإلى ما يكون ألفا ما يكون هاء [فإذا] حاولت الجمع فيه حذفت الهاء من الواحدة وزدت ألفا وتاء كما تقدم فتقول في مسلمة مسلمات.
وأما ما يكون علامة التأنيث فيه ألفا فينقسم إلى ألف ممدودة وإلى ألف مقصورة فأما إذا كانت الألف ممدودة كقولك في صحراء وخنفساء فتقلب الهمزة واوا وتزيد ألفا وتاء إذا لم يكن [المذكر منه] أفعل كقولك صحراوات وخنفساوات [تقلب الهمزة واوا].
فأما إذا كان المذكر فيه أفعل فالعرب لا تنطق بجمع السلامة فيه بل تقول في.

 

ج / 1 ص -114-       الحمراء حمر ومن مشكل الحديث قوله صلى الله عليه وسلم1: "ليس في الخضراوات زكاة" والرسول عليه السلام لم يرد جمع الخضراء الذي مذكرها أخضر وإنما أجراها لقبا على نوع من الإتاء والدخل.
وأما ما ألفه مقصورة كالحبلى والسكري فجمع السلامة على الطرد فيها بانقلاب الألف ياء وزيادة الألف والتاء بعدها فتقول في حبلى حبليات وسكريات وغضبيات فهذه تراجم جمع السلامة.
233- فأما جمع التكسير فهو الذي نكسر فيه بناء الواحد ثم قد يكون ذلك بزيادة حرف كثوب وثياب وكلب وكلاب وقد يكون بنقصان حرف كرغيف ورغف قد يكون بتبديل حركة في صدر الكلمة كأسد وأسد.
ثم حظ الأصول منها أن الجمع بنفسه ينقسم انقساما آخر [فمنه] ما هو جمع القلة وهو في وضع اللسان [لما] دون العشرة وله أبنية تحتوي عليها كتب أئمة النحو كالأفعل والأفعال والأفعلة والفعلة مثل الأكلب والأجمال والأغطية والصبية.
ومنها ما هو جمع الكثرة كالفعول والفعال ونحوها.
وإنما نبهنا على هذا المقدار ليتبين للناظر خلو معظم الخائضين في هذا الفن عن التحصيل إذا أطلقوا القول في الصيغة ولم يفصلوها إلى الجمع وغيره ثم لم يفصلوا الجمع إلى جمع القلة وإلى جمع الكثرة.
234- ونحن نقول أما ما ذكرناه قبل تقاسيم الجموع من الشروط والتنكير في النفي فلا شك أنه لاقتضاء العموم ودليلنا عليه كدليلنا على تسمية العرب جارحة مخصوصة رأسا.
وأما المجموع فجمع القلة لم يوضع للأستغراق قطعا وإجماع أهل اللسان على ذلك كاف مغن عن تكلف إيضاح واللغة نقل فليت شعري بم نتعلق إذا عدمناه وأما جمع الكثرة فهو في وضع اللسان للاستغراق فإن العرب استعملته قطعا مسترسلة على آحاد الجنس ووضعته لها ثم إن اتصل بها استثناء بقى مقتضى اللفظ على ما عدا المستثنى وإن كان مطلقا فمقتضاه الاستغراق فإن تقيد بقرينة حالية نزل على حسبها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدار قطني 2/65, 96, والكنز "1852" والترمذي بنحوه في: الزكاة: ب: "13": حديث "638" وقال: إسناد الحديث ليس بصحيح وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.

 

ج / 1 ص -115-       ونحن من هذا المنتهى [نفرع] ذروة في التحقيق لم [يبلغ] حضيضها ونفترع معنى [بكرا] هو على التحقيق منشأ اختباط الناس في عماياتهم والله ولي التوفيق.
235- فأقول: الألفاظ تنقسم في منهاج غرضى أربعة أقسام يقع اثنان منها في طرفين في النفي والإثبات ويتوسطها اثنان فأما الواقع طرفا في ثبوت الاقتضاء المتناهى في الوضوح فهو الذي يسمى نصا على ما سيأتي.

فصل: معقود: في معنى النص والظاهر والمجمل.
236- وضبط هذا القسم في غرضنا أن اللفظ إذا كان في اقتضاء معناه من عموم أو خصوص أو ما عداهما بحيث لا يفترض انصرافه عن مقتضاه بقرائن حالية وفرض سؤال وتقدير مراجعة واستفصال في محاولة تخصيص أو تعميم فهو الذي نعنيه ولا يتطرق إلى هذا القسم إلا إمكان انطلاق اللسان بكلم في غفوة أو غفلة وهو الذي يسمى الهذيان أو إجراء كلمة ناصة في الوضع في معرض حكاية أو محاولة تقويم اللسان على نضد حروفها.
فإذا فرض انتفاء تخيل الهذيان به والتفاف اللسان وقصد الحكاية ومحاولة تقويم نظم الحروف وتحقق قصد مطلق اللفظ إلى استعماله في معناه الموضوع له فلا يتصور وراء ذلك انحراف اللفظ وانصرافه عن معناه الذي وضع له وهذا كذكر عدد في اللفظ معدود فإنه ناص في المسميات المعدودة لا محيد عنها بتخيل قرينة وكذلك ما لا يتطرق إليه تأويل.
فهذا طرف والمقصود منه رمز إلى المرتبة العليا في النص لا استيعاب الأقسام.
237- والطرف الأخير هو المصدر فإنه غير مختص بواحد من الأحداث وليس موضوعا أيضا للعموم واستغراق الجنس.
وقد قال بعض من حوم على التحقيق ولم يرد مشرعه: إن المصدر صالح للجمع وليس موضوعا للإشعار به وهو في حكم اللفظ المشترك بين مسميات فإنه صالح لآحادها على البدل وليس موضوعا لجميعها كالجموع والصيغ العامة وكذلك المصدر صالح للواحد وللجمع غير موضوع لقصد الاحتواء على آحاد الجنس وهذا.

 

ج / 1 ص -116-       زلل وذهول عن مدرك الحق ومسلك العربية.
والقول البين فيه أن المصدر لا يصلح للجمع ولا يتهيأ للإشعار به فلو قصد به [مطلقه] جمعا لم يكن كالذي يقصد [بإطلاق المعين] بعض ما يسمى به فإن المصدر على رأى الكوفيين مرتب على الفعل فرع له وهو أصل الفعل على رأى البصريين والفعل يتفرع عنه وقد يستحيل تخيل الجمع في الفعل فالمصدر في هذا المعنى حال محل الفعل وإن كان اسما ولم يوضع المصدر إلا لتأكيد الفعل فأما أن يكون للإشعار بواحد أو بجمع أو بالتهيؤ للصلاح لهما فلا فإنه ناء عن هذا الغرض ولو فرض اقتران قرينة بذكر المصدر مشعرة بالجمع فلا يصير المصدر مقتضيا جمعا لمكان القرينة بل القرينة قد يفهم منها قصد الجمع وهو كما إذا اقترنت بالفعل.
فحاصل القول في ذلك أنه لا مناسبة بين المصدر وبين الجمع لا من جهة الوضع له ولا من جهة التهيؤ والصلاح.
فإن حاول المتكلم التعرض للعدد رد المصدر عن حكم إطلاقه وزاد هاء فوجد ثنى وجمع فقال ضربته ضربة وضربتين وضربات.
فإن قيل: أليس يحسن أن يقال ضربته ضربا كثيرا فلو لم يكن مشعرا بالعدد لما جاز وصفه بالكثرة وعن هذا صار بعض أهل العربية إلى أن المصدر صالح للجمع وإن لم يكن مشعرا به كما حكيته [قبل هذا] عن بعض الأصوليين.
قال سيبويه: قول القائل كثيرا صفة والموصوف لا يشعر بالصفة ولو أشعر بها لاستغنى بنفسه عنها ولجرت الصفة مجرى التأكيد للموصوف إذا قال القائل رأيت زيدا نفسه وليس الأمر كذلك فقول القائل ضربت زيدا ضربا كثيرا كقوله ضربت.
زيدا ضربا شديدا والسر في ذلك المصدر صالح لأن يوصف بالكثرة كما أن الرجل صالح لأن يوصف بجهات وليس اسم الرجل موضوعا لها ولا مشعرا بشيء منها فلينظر طالب هذا الشأن في ذلك وليتبين الفرق بين صلاح اللفظ للشيء وضعا وبين صلاحه للوصف به فهذا بيان الطرفين.
238- فأما القسمان المتوسطان فعلى مرتبتين نحن [واصفوهما]:.
أحد القسمين: ما وضع في اللسان للعموم فلو لم تثبت قرينة وتبينا انتفاءها.

 

ج / 1 ص -117-       لقطعنا باقتضاء اللفظ للعموم نصا ومن هذا القسم الاسم الواقع شرطا وهو منحط عن النص في المرتبة الأولى من جهة أن النص لا يغير مقتضاه قرينة كما تقدم وإذا اقترن بالشرط ما يقتضي تخصيصا حمل على المخصوص ولم يعد خلفا ولا كلاما مثبجا وبيان ذلك بالمثال أن الرجل إذا أجرى ذكر أقوام معدودين فقال صاحب المجلس من أتاني أعطيته دينارا أمكن أن يحمل على الذين جرى ذكرهم.
239- وأما القسم الثاني من القسمين المتوسطين: فهو الجمع الذي ليس جمع قلة فهو فيما يزيد على أقل الجمع إن انتفت القرائن المخصصة ظاهر وليس بنص فلا يبعد أن مطلق الجمع أراد خصوصا ولا ننكر ذلك في نظم الكلام بخلاف أدوات الشرط وهذا ينحط عن القسم الثاني ومن أحاط بهذه الأقسام اتخذها مرجعه في كل مشكل وأقامها ذريعة في صدر باب التأويلات كما سيأتي إن شاء الله.
وبنجاز الأقسام يتبين اختيارنا في القول في العموم والخصوص وما يقع نصا منهما وظاهرا ونحن بعد ذلك نرسم المسائل في التفاصيل ونذكر في كل مسألة ما يليق بها والله الموفق للصواب.
مسألة:
240- ذكر سيبويه1 وغيره من أئمة النحو أن جمع السلامة من أبنية جمع القلة وهذا مشكل جدا فإن مصادمة الأئمة في الصناعة والخروج عن رأيهم لا سبيل إليه والرجوع في قضايا العربية إليهم والاستشهاد في مشكلات الكتاب والسنة بأقوالهم والأصوليون القائلون بالعموم مطبقون على حمل جمع السلامة إذا تجرد عن القرائن المخصصة على الاستغراق وصائرون إلى تنزيله منزلة جمع الكثرة من أبنية التكسير فأهم مقصود المسألة محاولة الجمع بين مسالك الأئمة.
241- والذي استقر عليه نظري في ذلك ما أنا مبديه الآن قائلا كل اسم علم معرفة إذا ثنى فقد خرج عن كونه معرفة وكذلك إذا جمع فإذا قلت زيد [وأنت] تريد اسم العلم فقد عرفت فإذا قلت زيدان فقد نكرت باتفاق أئمة العربية وكذلك إذا قلت زيدون.
والسبب فيه أن الاسم المفرد العلم إنما يكون معرفة من حيث يعتقد أن المسمى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.

 

ج / 1 ص -118-       منفرد في قصد المسمى حتى كأنه لا يرى حالة إطلاق الاسم العلم مشاركة فيه لغير المسمى [فليس قول] القائل أقبل زيد على تقدير: أقبل زيد من الزيود إذ لو كان كذلك لكان بمثابة قول القائل جاء رجل فالعلم موضوع بين المخاطب والمخاطب على اعتقادهما اتحاد المسمى به فإذا ثنيت أو جمعت فقد ناقضت ما منه تلقى التعريف من اعتقاد الاتحاد وقد بنيت الكلام على تعدد المسمى بزيد فإذا لاح ذلك تبين أنه لا يتعرف المثنى والمجموع إلا بالألف واللام وهما يعرفان كل نكرة فنعود بعد ذلك إلى مال الكلام في المسألة.
242- ونقول: ما نراه أن كل جمع نكرة فإنه لا يتضمن استغرقا ومصداق ذلك قوله تعالى:
{مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ}1 فإذا عرف ولم يكن على بناء التقليل فهو للأستغراق قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}2.
وهذا التفصيل يلتحق بما قدمناه من تفصيل القول في الجموع.
والذي يحصل الغرض في ذلك أنه لا منكر إلا ويليق به المعرفة من مستنده إلى الجمع المعرف فتقول رأيت رجلا من الرجال كما تقول رأيت رجالا من الرجال فالذي قاله سيبويه في جمع السلامة إذا لم يعرف وقد ذكر حمله على القلة إذ ذكر حكم التثنية والجمع على التخصيص.
ولو فرض دخول الألف واللام في الاسم الواحد فقد يقتضي ذلك إشعارا بالجنس كما سيأتي بعد ذلك فتقول الدينار أعز من الدرهم وأنت تبغي تفضيل الجنس على الجنس وقد ينتظم من ذلك أن كل جمع في عالم الله فإنه لا يقتضي الاستغراق بوضعه وإنما يتم اقتضاء الاستغراق بالألف واللام المعرفين فليتأمل الناظر هذا السبر وليعلم أن الجمع من غير تقدير تعريف لأقل الجمع.
فإذا عرف ففيه الخلاف فأصحاب الخصوص يحملون الجمع وإن عرف على أقل الجمع ويأبون ظهوره فيما عداه وهذا زلل فإن خصصوا قولهم بالجمع المنكر فلا خلاف بيننا وبينهم وبهذا يتضح اختيارنا وهو استكمال الكلام.
مسألة:
243- قال أصحاب العموم النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "62" سورة "ص".
2 آية "13" سورة الانفطار.

 

ج / 1 ص -119-       فلا بد من تفصيل القول في الطرفين عندنا.
فأما قولهم: النكرة في الإثبات تخص فغير مطرد فإن النكرة الواقعة في سياق الشرط محمولة على العموم في قول القائل من يأتني بمال أجازه فلا يختص هذا بمال مخصوص والسبب فيه أن النكرة إنما عمت في النفي لأنها في نفسها ليست مختصة [بمعين] في قول القائل ما رأيت رجلا والنفي لا اختصاص له فإنه نقيض الإثبات فإذا انضم النفي إلى التنكير اقتضى اجتماعهما العموم والشرط لا اختصاص له بل مقتضاه العموم فالنكرة الواقعة في مساقه محمول عليه وحكم عموم الشرط [منبسط] عليه إذ لو اختص المال لاختص الشرط المتعلق به والاختصاص نقيض وضع الشرط المطلق فهذا على قولهم النكرة في الإثبات تخص.
فأما قولهم: النكرة في النفي تعم ففيه تفصيل لطيف.
فأقول: إذا قال القائل ما رأيت رجلا فهذا ظاهر في نفي الرؤية عن جنس الرجال والتأويل يتطرق إليه قال سيبويه: يجوز أن يقول القائل: ما رأيت رجلا وإنما رأيت رجالا وإذا كان ينتظم الكلام على هذا الوجه فليس التنكير مع النفي نصا في اقتضاء العموم غير قابل للتأويل ووجه تطرق الاحتمال إليه الذي نبهنا عليه فإذا قال القائل ما جاءني من رجل لم يتجه فيه غير التعميم فإن "من" وإن جرت زائدة فهي مؤكدة للتعميم قاطعة للاحتمال الذي نبهت عليه والنكرة إذا جرت في مساق شرط لم يتطرق إليها التأويل المذكور في النفي ولم يسغ حملها من غير قرينة مخصصة على الخصوص.
مسألة:
244- اللفظ الموضوع للإشعار بالجنس الذي واحده بزيادة هاء كالتمر والتمرة والشجر والشجرة وبابهما مما تردد فيه أصحاب العموم وهذه المسألة نجمع إليها أخرى [ونفصل بينهما].
فإذا قال القائل: الرجل أفضل من المرأة فهذا مما ترددوا فيه أيضا فقال قائلون من المعممين: هو [للاستغراق والاستيعاب للجنس] وأنكر اخرون مقتضى الاستغراق فيه.

 

ج / 1 ص -120-       والرأي الحق عندي والله أعلم البداية بالمسألة الأخيرة أن الرجل يعرف على بناء تنكير سابق فيقول القائل أقبل رجل ثم يقول قرب الرجل والتقدير من ذكرته مقبلا قد قرب فهذا تعريف [مرتب] على تنكير سابق فلا يقتضي هذا ولا ما في معناه استغراقا وانطباقا على الجنس.
وإذا قال القائل الرجل أفضل من المرأة ولم يسبق تنكير ينعطف التعريف عليه فهذا للجنس ومنه قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}1, {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}2 فإن من سبق تنكيره وظهر ترتيب التعريف عليه فهو غير محمول على استغراق الجنس وفاقا فإن لاح في الكلام قصد الجنس في مثل قول القائل الدينار أشرف من الدرهم ولم يسبق تنكير ينعطف عليه التعريف فهو للاستغراق وإن جرى هذا الكلام ولم يدر أنه خرج [تعريفا لمنكر سابق أو إشعارا] بجنس فالذي صار إليه معظم المعممين أنه للجنس.
والذي أراه أنه مجمل فإنه حيث يعم لا يعم لصيغة اللفظ وإنما يثبت عمومه وتناوله الجنس بحالة مقرونة معه مشعرة بالجنس فإذا ورد اللفظ وليس جمعا ولا موضوعا للإبهام المقتضى للاستغراق كما يجري في أدوات الشرط فالأمر متلقى في الخصوص والعموم من القرينة فإذا لم ندرها لم يتجه إلى التوقف.
فإن قيل: أرأيتم لو قطعنا بانتفاء قرينتي العموم والخصوص فماذا ترون قلنا لا ينتظم الكلام من قاصد إلى هذا اللفظ إلا مترتبا على تنكير أو مشعرا بجنس في قصد المتكلم ففرضه من المتكلم على منتظم الكلام عربا عن إحدى قرينتي العموم والخصوص في مقال أو حال محال فهذا قولنا في هذا الطرف.
245- وأما التمر والتمرة فمطلق اللفظ الذي واحده بزيادة الهاء للعموم عند محققي المعممين.
وأنكر بعض أصحاب العموم ذلك من حيث أنه غير مستعمل في سياق وضعه للإبهام كالشرط وليس جمعا أيضا وربما استمسك هؤلاء بأنه يجمع في نفسه فيقال تمور.
وهذا لا حاصل له فإن الإبهام والجمع عند منكري العموم في ألفاظ الجنس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "2" سورة "النور".
2 آية "38" سورة المائدة.

 

ج / 1 ص -121-       ثابته أيضا ووضوح ثبوتها يغنى عن بسط القول فيها وما ذكروه من جمع التمر على تمور مردود من وجهين أقربهما أنه يعارضه امتناع قول القائل: تمر واحد وهذا أظهر من متعلقهم ثم [التمور] جمع من حيث اللفظ وقد قال سيبويه: الناقة تجمع على نوق النوق على نياق وهما جميعا من أبنية الكثرة ثم النياق على أينق وهو مقلوب أنوق أو أينق في أمور تصريفية والأفعل جمع القلة وهذا الجمع مردود إلى ألفاظ أقوام قالوا: نياق.
ومن بديع ما يتفطن له الفطن في ذلك أن التمر المطلق أحرى باستغراق الجنس من التمور فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية والتمور ترده إلى تخيل الوحدان ثم الاستغراق بعده بصيغة بعده بصيغة الجمع وفي صيغة الجمع مضطرب بينهم وسرها يتبين في أقل الجمع.
مسألة:
246- اللفظ المشترك كالقرء واللون والعين وما في معناها إذا ورد مطلقا فقد ذهب ذاهبون من أصحاب العموم إلى أنه محمول على جميع معانيه إذا لم يمنع منه مانع ولم يفرق هؤلاء بين أن يكون اللفظ حقيقة في محامله وبين أن يكون حقيقة في بعضها مجازا في بعضها.
وهذا ظاهر اختيار الشافعي1 فإنه قال في مفاوضة جرت له في قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}2 فقيل له: قد يراد بالملامسة المواقعة قال: هي محمولة على اللمس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا.
وقال قائلون: اللفظ المشترك إذا ورد مطلقا محمول على الحقائق ولا يحمل على الحقيقة والمجاز جميعا.
وعظم [نكير] القاضي على من يرى الحمل على الحقيقة والمجاز جميعا وقال في تحقيق إنكاره اللفظة إنما تكون حقيقة إذا انطبقت على معنى وضعت له في أصل اللسان وإنما تصير مجازا إذا تجوز بها عن مقتضى الوضع وتخيل الجمع بين الحقيقة والمجاز كمحاولة الجمع بين النقيضين.
247-  والذي أراه أن اللفظ المشترك إذا ورد مطلقا لم يحمل في موجب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 آية "43" سورة النساء.

 

ج / 1 ص -122-       الإطلاق على المحامل فإنه صالح لاتخاذ معان على البدل ولم يوضع وضعا مشعرا بالاحتواء عليها فادعاء إشعاره بالجميع بعيد عن التحصيل وهذا القول يجري في الحقائق وجهات المجاز.
فإن قيل: يجوز أن يراد به جميع محامله قلنا: لا يمنع ذلك مع قرينة متصلة مشعرة بذلك مثل أن يذكر الذاكر محامل العين فيذكر بعض الحاضرين لفظ العين ويتبين من حاله أنه يريد تطبيقه على جميع ما جرى.
فإن قيل: فهل ترون حمل اللفظ على وجه في الحقيقة وآخر في المجاز قلنا: نعم لا ننكره مع قرينة.
فإن قيل: بم تنفصلون عما ذكره القاضي؟ قلنا ما ذكره يئول إلى اشتقاق لفظ المجاز والحقيقة فإذا رد الكلام إلى حمل الملامسة على الجس باليد الوقاع فهما معنيان كغيرهما فهذا منتهى القول في ذلك.
مسألة في ألفاظ الشارع في حكايات الأحوال:
248- قال الشافعي: ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال.
ونحن نضرب لذلك مثالا ننزل عليه بيان الغرض روى أن غيلان1 أسلم وتحته عشر نسوة فقال [له] رسول الله صلى الله عليه وسلم2:
"أمسك أربعا وفارق سائرهن" ولم يسائل غيلان عن كيفية عقوده عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاقه القول دالا على أن لا فرق بين أن تتفق العقود عليهن معا أو تجري عقود مرتبة.
249- وهذا فيه نظر عندي من حيث إنه لا يمتنع أن الرسول عليه السلام كان عرف ذلك فنزل جوابه على ما عرف ولم ير أن يبين لرجل حديث العهد بالإسلام علة الحكم ومأخذه وعليه يجري معظم الفتاوي والمفتي يطلق جوابه للمستفتي إذا رأى الجواب منطبقا على وفق الحادثة وإن كان ذلك الحكم لو أرسل لفصل فهذا وجه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 غيلان: هو ابن شرحبيل الثقفي أسلم يوم الطائف وأسلم أولاده له ترجمة في: الإصابة 3/189-190.
2 الترمذي في: النكاح "33" وابن ماجه في: النكاح "40" زمالك في: الطلاق "76" والبيهقي 7/181 وشرح السنة 9/89, والمشكاة "3176".

 

ج / 1 ص -123-       وإن تحقق استبهام الحال على الشارع صلى الله عليه وسلم وصح مع ذلك أنه أرسل جوابه فهذا يقتضي لا محالة جريان الحكم على التفاصيل واسترساله على الأحوال كلها ولكنا لا نتبين في كل حكاية تنقل إلينا أنها كانت مبهمة في حق الرسول وجوابه المطلق كان مرتبا على استبهامها فمن هذه الجهة لا يبقى مستمسك في محاولة التعميم وادعاء قصد ظهوره في حكايات الأحوال المرسلة.
ولكن وجه الدليل مع هذا واضح في قضية غيلان1 فإنه صلى الله عليه وسلم قال له2:
"أمسك أربعا" فأجملهن ولم يخصص الإمساك بالأوائل عن الأواخر وفوض الأمر فيه إلى خيرة من كان أسلم.
وقال لفيروز الديلمى وقد أسلم على أختين,
"اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى".
250- ثم نقل أصحاب المقالات عن أبي حنيفة أنه عمم أمورا لا يصير إلى تعميمها شاد في الأصول فضلا عمن يتشوف إلى التحقيق فمنها أنه قال إذا روى الراوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى في كذا بكذا اقتضى ذلك عموم القضاء في غير المحل المنقول مثل ما روى أنه قضى بالكفارة على من جامع في نهار رمضان وزعم أبو حنيفة أن هذا يعم كل إفطار وهذا إن قاله تلقيا من اللفظ ومقتضى مساق الكلام فهو خرق بين وإن قاله قياسا فمسلك القياس غير مردود على الجملة.
وقد قال الشافعي فيما نقله الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى في الأموال بالشاهد واليمين فهذه الحجة تختص بمحلها كما نقلت واللفظ لا يشعر بعمومه والأقيسة لا جريان لها في مراتب البينات فإنها مستندة إلى التعبدات.
مسألة في أقل الجمع:
251- قد اضطرب رأي العلماء في ذلك فذهب ذاهبون إلى أن أقل الجمع ثلاثة وهذا المذهب يعزى إلى ابن عباس وابن مسعود ولم ينقل عنهما تنصيص على ذلك ولكن تبين مذهب ابن عباس بمصيره إلى أن الأخوين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس لأن المذكور في كتاب الله تعالى الإخوة وظهر للناقلين مذهب ابن مسعود من مصيره إلى أن الثلاثة إذا اقتدوا برجل اصطفوا خلفه وإن اقتدى رجلان برجل وقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ولا يصطفان وراء الإمام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبق تخريجه.

 

ج / 1 ص -124-       وظاهر مذهب الشافعي في مواضع تعرضه للأصول يشير إلى هذا وذهب ذاهبون إلى أن أقل الجمع اثنان والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يمل إلى هذا وقد ذهب إليه جمع من المعتزلة.
252- وحق الناظر في هذه المسألة أن ييئس من العثور على مغزاها ما لم يستكملها فإن المقصود منها يتبين على تدريج والذي أرى استفتاح الكلام به أن الصائرين إلى أن أقل الجمع اثنان ربما يستمسكون بأشياء لا معتصم فيها وأنا [أفيد] الناظر بذكر ما يتمسك به هؤلاء أمرين.
أحدهما بطلان استدلالهم والثاني إيضاح تمييز [مباينة مسلكهم] عن محل النزاع.
فمما ذكروه قوله تعالى في شأن عائشة1 وحفصه2 رضي الله عنهما:
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}3 والمراد بذلك قلباكما.
وهذا قلة معرفة بالعربية فإن مالا يتعدد من شخصين فالتعبير في اللغة الفصيحة عنهما بصيغة الجمع فهذه صورة مستثناة ولها باب وقياس والدليل على سقوط الاستشهاد بها أن ذكر صيغة التثنية غير مستحسن في هذا الفن.
ومما تمسكوا به الضمير الذي يعني به المتكلم نفسه وغيره متصلا ومنفصلا فالضمير المنفصل في ذلك قول القائل نحن والمتصل كقوله فعلنا قالوا أقل معنى هذا الفن وهو جمع اثنان.
وهذا أيضا مستثنى عن محل الخلاف فإنه باتفاق أهل اللسان موضوع لتعبير المرء عن نفسه وغيره سواء كان واحدا أو جمعا واللغات لا تثبت قياسا كما سبق تقريره وإنما معتمدها النقل فمن حاول إثبات شيء من اللغة تلقيا من قياس بعضها على بعض فقد جانب مسلك السداد في مآخذها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عائشة هي: أم المؤمنين بنت أب بكر التيمية تكنى بأم عبد الله بابن أختها عبد الله بن الزبير تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بمكة ومناقبها عديدة روت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث كلها مات سنة "ست وخمسين لها ترجمة في: الإصابة 4/348, وشذرات الذهب 1/61, والنجوم الزاهرة 1/150.
2 حفصة هي: أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث ماتت سنة "45" لها ترجمة في: الرياض المستطابة ص "312".
3 آية "4" سورة التحريم.

 

ج / 1 ص -125-       فإذا آل الخلاف إلى صيغ الجموع التي تترتب في صيغ وضع اللسان مسبوقة بصيغ التثنية سواء كانت للسلامة أو للتكسير فنقول: رجلان ورجال ومسلمان ومسلمون فإذا تعين محل النزاع فليقع الكلام وراء ذلك.
فمن ركيك الكلام وغثه تشبيب من ذكرناه باشتقاق الجمع ومصيرهم إلى أن الواحد إذا جمع إلى مثله فقد تحقق فيهما معنى الجمع فإن الخلاف ليس في معنى لفظ الجمع المنتظم من الجيم والميم والعين وإنما الخلاف في حمل الرجال على رجلين والمسلمين على مسلمين فإن سمى مسم بعض هذه الألفاظ جمعا فلا يحكم بهذه اللغة التي استحدثها المتأخرون على موضوع اللفظ.
253- فإن قيل: فما المرتضى الآن؟ قلنا هذه المسألة موضوعة على رأى المعممين فمطلق اللفظ معناه في مختارنا ما سبق وإن روجعنا في جواز رد اللفظ عند قيام المخصصات على اثنين أو ثلاثة فعند ذلك ننادى ونقول: إن صار صائرون إلى أنه يمتنع رد معنى اللفظ بالتخصيص إلى اثنين فنحن لا نمنع هذا فقد يبدو للرجل رجلان فيقول: أقبل الرجال ونحن لا نسوى مع ذلك بين الثلاثة والاثنين والرد إلى الثلاثة أهون من الرد إلى اثنين ويستدعي الرد إلى اثنين من ظهور مستند التأويل ما لم يستدعه الرد إلى ثلاثة على ما سنوضح ذلك في كتاب التأويلات إن شاء الله تعالى.
والذي أراه أن الرد إلى رجل واحد ليس بدعا أيضا ولكنه أبعد من الرد إلى اثنين بكثير وها أنا أنزل هذه المراتب الثلاث على حقائقها ليتضح مأخذ كل مرتبة.
254-  أما فرض الرد إلى واحد فنضرب مثاله ثم نذكر سبيله ومجاله فإذا برزت المرأة لرجل حسن من بعلها أن يقول في توبيخها أتتبرجين للرجال يالكعاء؟ وإن لم تتبرج إلا لواحد وسبيل ضبط هذا القسم [في غرضنا] أن لا يعتقد أنه من مقتضى اللفظ لا في الأقل ولا فيما يزيد عليه ولكن إذا تبين في مقصود المتكلم استواء الواحد والجمع فلا يبعد إطلاق الجمع عند ظهور الواحد من الجنس من جهة أن الأنفة والحمية إنما سببها التبرج للجنس آحادا وجمعا والذي ينقم منها في الواحد ينقم منها في الجنس.
فإذا لاح الفن الذي أشرنا إليه في صوب قصده كان لفظ الجمع كلفظ الواحد ولعل لفظ الجمع أمثل وأشكل وأوفق للقصد والغرض فإذا لم يكن في.

 

ج / 1 ص -126-       الكلام هذا النوع أو ما يدانيه لم ينقدح حمل صيغة الجمع على الواحد فإن تحققنا عدم هذا الفن فلا وجه للرد للواحد وإذا ترددنا في اقتران مثل ذلك باللفظ [تردد] وقوفنا عن القطع من جهة عدم الإحاطة بوجود القرينة وانتفائها فهذا ما أرضاه في هذه المرتبة.
255- فأما الرد إلى اثنين فيسوغ [بما] يسوغ به الرد إلى الواحد ويسوغ بجنس آخر وهو الإشعار بما يزيد على الثالث والجمع فيه من غرض التناصر فيقول القائل إذا بدا رجلان يخافهما وكان لا يبالي بالواحد منهما أقبل الرجال وإطلاق صيغة التثنية ها هنا أمثل وأوفق للنص على الغرض فإن من يحاذر التجمع يتقى من الثلاثة أكثر مما يحاذره من اثنين فليس أطلاق الرجال بعيدا ولكن الأثر كله للقرينة غير أن القرينة إنما تؤثر مع ما في طباع اللفظ من احتمال أثرها والتقاسيم التي ذكرتها في إيضاح اختياري في صيغة العموم توضح ذلك كله.
256- فأما القول في الرتبة الثالثة وهو الرد إلى ثلاثة فلا يستدعي ذلك قرينة حاقة في جنس مخصوص وبهذا تنفصل المسألة نعم إن لم يقم دليل وهو مستند التأويل [فقد] بان وجوب الجريان على الظاهر فجمع الكثرة للاستغراق وإن ظهر دليل هو أوضح في مسالك الظن من ظهور مقتضى اللفظ في الاستغراق فهذا أوان تأويل كما سيأتي إن شاء الله تعالى مشروحا في كتاب التأويل وإن عد ما ظهر مناقضا اللفظ فهذا أوان الوقوف.
257- وقد ذكر بعض الأصوليين أن من اثار الخلاف في معنى أقل الجمع أن الرجل إذا قال لفلان على دراهم أو أوصى بدراهم فلفظ المقر والموصى محمول على أقل الجمع فإن قيل أقل الجمع اثنان قبل حمل اللفظ عليهما وإن قيل: أقل الجمع ثلاثة لم يقبل التفسير باثنين وما أرى الفقهاء يسمحون بهذا ولا أرى للنزاع في أقل الجمع معنى إلا ما ذكرته فليعلم الناظر أن معظم الخلاف سببه توسط [النظار] النظر من غير استتمام له وقد ظهر في [العقول] تباين الرتب الثلاث وقل من يوفق لدرك سبب التباين فابتدروا إلى الاختلاف في أقل الجمع ولو هدوا للإحاطة بالغايات لما كان لاختلافهم معنى.

 

ج / 1 ص -127-       فصل: في بقية أحكام الصيغة المطلقة.
258- الألفاظ الموضوعة للعموم تنقسم إلى المطلق والمقيد فالمطلق ما يتعرى عن قرينة تنافى مقتضى العموم والذي قدمناه في صدر هذا الكتاب إلى هذا الفصل في بيان أحكام إطلاق الصيغ فإن جرى في أثناء الكلام للقرائن ذكر فإنما جرى القول فيها لتحقيق قضايا الإطلاق ونحن الآن نجري مسائل في أحكام الإطلاق بها استكمال هذا القسم.
فإذا نجزت ملنا إلى تقاسيم القرائن واستفتحنا بعدها قواعد التخصيص ومسائل الاستثناء وميزنا بين التخصيص والاستثناء مستعينين بالله تعالى.
مسألة.
259- إذا ورد في الشرع لفظ يتناول في اللغة الأحرار والعبيد فهو عند المحققين محمول على الجنسين وذهب بعض الضعفاء إلى أن المطلق من الألفاظ يختص بالأحرار.
فنقول: مقتضى اللفظ من طريق اللغة لا نزاع فيه وقد تقرر أنا متعبدون بالجريان على مقتضى الألفاظ اللغوية إذا صدرت من الشارع ولم يثبت مخصص مانع من إجراء مقتضى اللفظ وهذا القدر مقنع فيما نريده.
والذي تخيله هؤلاء أن العبيد مستوعبون بحقوق السادة مستغرقون بتصريفهم إياهم وتصرفهم فيهم فكانوا مستثنين عن مقتضى مطلق الألفاظ بما تقرر به الشرع من أحوالهم في ذلك.
وهذا إيهام لا حاصل وراءه فإنه ثبت تعلق حقوق السادة[بهم] في وجوه وتلك الوجوه لا تمنع اندراجهم تحت مقتضى ألفاظ الشارع صلى الله عليه وسلم في غيرها فإن اجتمع ظاهر في العموم وقضية ثابته من أحكام الرق موجبها خروج الرقيق عن أحكام العموم فإنها تجري مجرى المخصص ويخرج اللفظ إذ ذاك عن حقيقته في الإطلاق.
ومثل ذلك يفرض في طبقات الخلق على تغير طباعهم وتفنن أنحائهم والله الموفق.

 

ج / 1 ص -128-       مسألة:
260- إذا ورد في لفظ الشارع صلى الله عليه وسلم صيغة جمع السلامة كالمسلمين والمؤمنين مما وضع مرتبا على بنية مؤمن في الذكور [عند الإطلاق] ففي تناول هذه الصيغة عند الإطلاق للنساء خلاف.
فذهب ذاهبون إلى أنه يتناول النساء واستدلوا عليه بأن العرب إذا حاولت التعبير عن الذكور والإناث بصيغ جمع السلامة فمن مذهبها المطرد تغليب التذكير وهذا مشهور عنهم مسطور في كتب أئمة العربية.
والرأي الحق عندنا خلاف ذلك والذي تخيله هؤلاء وهم وزلل ولا يخفى على من شدا طرفا من العربية أن قول القائل: مسلمان مبني على قول القائل [في الواحد مسلم وقول القائل مسلمات مبنى على قوله] في الوحدان مسلمة وقول القائل مسلمون مبني على مسلم ومسلمين وهذه التقاسيم أظهر من أن يحتاج في إثباتها إلى تكلف وإطناب ثم ميزت العرب باب الإناث فقالوا مسلمة ومسلمتان ومسلمات وما ذكره هؤلاء من تغليب علامة التذكير عند محاولة التعبير عن [الجنسين] فصحيح على الجملة ولكنهم لم يفهموه على وجهه فإن ما ذكروه سائغ إن أريد فأما أن يقال: وضع اللسان على أن المسلمين مسترسل على الرجال والنساء استرساله على آحاد الرجال فلا والذي ذكروه صالح لو أريد وليس في اللسان القضاء به إلا عند قرينة شاهدة عليه.
ولا شك إن ما ذكرناه مختص بصيغة جمع السلامة وأما الألفاظ التي تشتمل في الوضع على الجنسين فلا شك في تناولها كالناس والقوم وما أشبههما.
مسألة:
261-  من, من الألفاظ المبهمة وهي إحدى صيغ العموم في اقتضاء الاستغراق إذا وقع شرطا ويتناول الذكور والإناث وذهب إلى هذا أهل التحقيق من أرباب اللسان والأصول وذهب شرذمة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه لا يتناول الإناث واستمسكوا بهذا المسلك في مسألة المرتدة فقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه"1 لا يتناول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري في: الجهاد "149" والاعتصام "28" والاستتابة "2" وأبو داود في: الحدود "1" والترمذي في: الحدود "25" والنسائي في: التحريم "14" وابن ماجه في: الحدود "2" وأحمد 1/2, و7, و282,

 

ج / 1 ص -129-       النساء وإنما غرهم ما طرق مسامعهم من قول بعض العرب من ومنه ومنان ومنون ومنات قال الشاعر1:

أتوا ناري فقلت منون2 أنتم؟                     فقالوا: الجن قلت: عموا3 ظلاما.

وهذا قول الأغبياء الذين لم يعقلوا من حقائق اللسان والأصول شيئا.
ولا خلاف أن من إذا أطلق مبهما شرطا لم يختص بذكر أو أنثى جمع أو وحدان وهذا مستمر في الألفاظ الشرعية وألفاظ المتصرفين في الحلول والعقود والأيمان والتعليقات وهو الجاري في تفاهم ذوي العادات متفق عليه في وضع اللغات فإذا قال القائل: من دخل الدار من أرقائي فهو حر لم يتخصص بالعبيد الذكور وكذلك لو أوصى بهذه الصيغة أو ناط بها توكيلا أو إذنا في قضية من القضايا.
262-  ثم للعرب مذهبان شائعان فمنهم من يكني عن معنى من ومنهم من يرد الكناية إلى لفظه وهما جاريان في التنزيل قال الله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}4 وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}5 فكذلك القول في التذكير والتأنيث فهذا مما لا يبدي المراء فيه إلا غبي.
وأما ما اغتر به هؤلاء من قول بعضهم: من ومنان فهذا من شواذ اللغة وليس من ظاهر كلام العرب وإنما أورده سيبويه في باب الحكاية وبناء على محاكاة الخطاب فإذا قال القائل: [جاء] رجل قلت: من؟ وإذا قال: جاء رجلان قلت: منا؟ وإذا قال: أقبل رجال, قلت: منون؟ وإذا قال: أقبلت امرأة قلت: مَنَه؟ وكذلك منتان ومنات ثم ما ذكرناه ليس باللغة الغالبة في باب الحكاية أيضا.
والقول الجامع في هذا أن ما ذكروه وإن ساغ فالأفصح غيره فليس شرطا معتبرا في تمييز الذكور والإناث بل هو مما نطق به الناطقون والقانون المتفق عليه ما ذكرناه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال شيخ شيخنا العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد في "شرح شواهد ابن عقيل" 4/88 شاهد رقم "352": روى هذا البيت أبو زيد في "نوادر" ونسبه إلى شمير بن الحارث الضبي.
2 قال الشيخ محيي الدين في "المصدر السابق": "وذلك شاذ".
3 عموا ظلاما: قال أيضا: دعاء مثل عم صباحا وعم مساء.
4 آية "16" سورة محمد.
5 آية "42" سورة يونس.

 

ج / 1 ص -130-       مسألة:
263- اختلف الأصوليون في دخول المخاطب تحت الخطاب في مثل قول القائل لمأموره من دخل هذه الدار فأعطه درهما فلو دخل هذا المخاطب الدار فهل يعطيه المأمور بحكم اقتضاء اللفظ كما يعطى غيره من الداخلين.
قال قائلون هو بمثابة غيره ممن يدخل الدار وقال اخرون إنه غير داخل في مقتضى قول نفسه.
وتعلق هؤلاء بأمثلة لا تحقيق للتعلق بها كقوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}1 فإنه غير داخل في مقتضى هذا القول وإن كان جل وعلا شيئا من حيث إنه يستحيل أن يكون مخلوقا فثبت أنه لا يدخل المخاطب تحت الخطاب وهذا غير سديد فإنه ينقدح للمعترض أن يقول إنما لم يدخل من حيث إن الخلق اختراع وإيجاد لما لم يكن ولا يعقل ذلك إلا في محدث مفتتح الكون والرب تعالى قديم لم يزل فكان عدم تناول مقتضى الكلام [له] لهذا المعنى لا لامتناع دخول المخاطب تحت الخطاب.
ثم التعلق بالأمثلة والكلام في بناء القواعد والكليات ذهاب عن مسلك التحصيل فإن آحاد الأمثلة يمكن حمل الأمر فيها على جهات من التخصيص لا تنضبط فلا يستمر إذا مثل هذا في محاولة عقد الأصول.
264- والرأي الحق عندي: أنه يدخل المخاطب تحت قوله وخطابه إذا كان اللفظ في الوضع صالحا له ولغيره ولكن القرائن هي المتحكمة وهي غالبة جدا في خروج المخاطب من حكم خطابه فاعتقد بعض الناس خروجه عن مقتضى اللفظ والوضع وذلك من حكم اطراد القرائن وغلبتها فإن من كان يتصدق بدراهم من ماله فقال في تنفيذ مراده لمأموره من دخل الدار فأعطه درهما فلا خفاء أنه لا ينبغي أن يتصدق عليه من ماله فحكمت القرائن وجرت على قضيتها واللفظ صالح ولو قال [لمن يخاطبه] من وعظك فاتعظ ومن نصحك فاقبل نصيحته فلا قرينة تخرج المخاطب فلا جرم إذا نصحه كان مأمورا بقبول نصيحته بحكم قوله الأول وبالله التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "62" سورة الزمر.

 

ج / 1 ص -131-       مسألة:
265- إذا ورد خطاب مطلق في الكتاب العزيز [والسنة] يشمل الأمة بصيغة تصلح في الوضع للرسول عليه السلام وهو كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وما في معناها و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فالذي صار إليه الأصوليون أن الرسول صلى الله عليه وسلم داخل تحت الخطاب وذهب شرذمة لا يؤبه لهم إلى أنه غير داخل تحت الخطاب.
وهذا ساقط من جهة أن اللفظ صالح ووضع اللسان حاكم باقتضاء التعميم والرسول من المتعبدين بقضايا التكليف كالأمة فإن قيل إنه على خصائص فالذي يقتضي مرتبة الخطاب أن يخص بكل ما يكون معينا فيه وهذا هذيان فإن ثبوت خصائص له في بعض القضايا لا يخرجه عن الأحكام العامة التي يشارك فيها الأمة والخصائص بالإضافة إلى أحكام العموم قليل من كثير ثم كل جنس من الناس على تفاوت الطبقات على خصائص فإن النساء مختصات بأحكام عن الرجال فكذلك المسافرون مختصون عن المقيمين إلى غير ذلك من أصناف المكلفين ثم لا يقتضي ذلك خروجهم عن قضايا الصيغ العامة وما ذكرناه تكلف وإلا ففي إشعار وضع اللسان بالعموم ودخول الرسول عليه السلام في حكمه ومصير المحققين إلى وجوبه والعمل بقضايا الظواهر مقنع في ذلك وبالجملة الخصوص في غير محل الخطاب لا يقتضي تخصيصا في محل الخطاب.
266- وذهب بعض أئمة الفقهاء في ذلك إلى تفصيل فقال كان خطاب [لم يصدر] بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه ولكن ورد مسترسلا فالرسول مخاطب به كغيره وكل خطاب صدر على الخصوص بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه فذلك الذي لا يتناوله كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}1 وهذا ذكره الصيرفي2 وارتضاه الحليمي3 وهو عندنا تفصيل فيه تخييل يبتدره من لم يعظم حظه من هذا الفن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وردت في سور كثيرة من القرآن.
2 الصيرفي هو: محمد بن عبد الله البغدادي المعروف بالصيرفي كان إماما في الفقه والأصول تفقه على ابن سيرين وله تصانيف منها "شرح الرسالة" وقال القفال الشاشي: كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي قال الشيخ أبو إسحاق: مات سنة "330" له ترجمة في: وفيات الأعيان 4/199 والعبر 2/221 وطبقات الشيرازي ص "111" وطبقات الشافعية للأسنوي 2/33/719.
3 الحليمي: بحاء مهمة مفتوحة هو أبو عبد الله الحسين بن حسن بن محمد ين حليم قال فيه الحاكم: كان شيخ الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم بعد أستاذية القفال الشاشي ولأودني. مات سنة "403". له ترجمة في: طبقات الشافعية للأسنوي 1/194-195/364.

 

ج / 1 ص -132-       فأما القسم المسلم فلا حاجة إلى مرادة فيه وأما الخطاب المصدر بالأمر بالتبليغ فهو يجري على حكم العموم عندنا فإن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} على اقتضاء العموم في وضعه والقائل هو الله تعالى وحكم قول الله تعالى لا يغيره أمر مختص بالرسول عليه السلام في تبليغه وكأن التحقيق فيه بلغني من أمر ربي كذا فاسمعوه وعوه واتبعوه.
مسألة:
267- إذا وردت صيغة مختصة في وضع اللسان برسول الله عليه السلام فالذي صار إليه أبو حنيفة وأصحابه أن الأمة معه في ذلك الخطاب شرع ولهذا تعلقوا في عقد النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا}1 [فالخطاب مختص به عندهم والأمة] متبعون النبي في موجبه.
268- ونحن نقول إن جرى الكلام في مقتضى اللفظ فلا شك ولا امتراء في خروج الأمة من موجبه ولكن وراء ذلك نظر فإن أصحاب رسول الله عليه السلام كان يحتج بعضهم على بعض بالآيات التي وردت مختصة بخطاب المصطفى صلوات الله عليه وذلك لما تقرر عندهم أن الأمة مشاركون للرسول في التكاليف وليس ذلك مستمرا أيضا.
269- وأنا أقول فيه ما ظهرت فيه خصائص الرسول عليه السلام كالنكاح والغنائم وكان إذا ورد خطاب مختص في حكم اللسان برسول الله صلى الله عليه وسلم فما أراهم كانوا يعتقدون مشاركته فيه لاقتضاء الصيغة التخصيص والعلم بخصائص رسول الله صلى الله ليه وسلم فيما ظهر الخطاب فيه فأما ما لم يظهر فيه خصائصه وورد فيه خطاب مختص به فهذا مجال النظر ولست أتحقق أيضا مسلكا قاطعا من رأيهم في طرد اعتقاد المشاركة.
270- ومما يتعين له التنبيه الآن إلى أن يجيء تقريره في باب التأويلات أن كل ظهور يتلقى من وضع اللسان فهو الذي يثبت عندنا وجوب العمل ما لم يمنع منه مانع فأما غلبات الظنون في تقدير وقائع وعادات فما أراها [مناطا] للأحكام وإن غلب الظن فيه كما غلب في إرادة الشارع عليه السلام بلفظه ما يشعر به ظاهره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "50" سورة الأحزاب.

 

ج / 1 ص -133-       وهذا بمثابة تسويغنا للمؤول اعتماد الاحتمال على شرط عقد التأويل بالدليل ثم لا يلتزم تنزيل الأمر على إمكان النسخ وإن كان محتملا فإن قطعنا بشيء من ذلك حكمنا به وهذا كقطعنا أنهم كانوا يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله ويستبينون منها رفع الحرج عنهم إذا لم يظهر [لهم] اختصاص رسول الله عليه السلام وهذا الفن مقطوع به فلا جرم المرتضى عندنا في حكم فعله صلى الله عليه وسلم المنقول مطلقا استبانة رفع الحرج فيه عن الأمة إذا لم يكن الفعل في محل خصائصه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بعد ذلك أحكام أفعاله فالذي تيقناه في أفعاله لم نتيقنه في الخطاب المختص به صلى الله عليه وسلم.
مسألة:
271- إذا خص رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته بخطاب فهذا مما عده الأصوليون من مسائل الخلاف فقالوا من العلماء من صار إلى أن المكلفين قاطبة يشاركون المخاطب ومنهم من قال لا يشاركونه.
والقول في هذا عندي مردود إلى كلام وجيز فإن وقع النظر في مقتضى اللفظ فلا شك أنه للتخصيص وإن وقع [النظر] فيما استمر الشرع عليه فلا شك أن خطاب رسول الله وإن كان مختصا بآحاد الأمة فإن الكافة يلزمون في مقتضاه ما يلتزمه المخاطب وكذلك القول فيما خص به أهل عصره وكون الناس شرعا في الشرع واستبانة ذلك من عهد الصحابة ومن بعدهم لا شك فيه وكون مقتضى اللفظ مختصا بالمخاطب من جهة اللسان لا شك فيه فلا معنى لعد هذه المسألة من المختلفات والشقان جميعا متفق عليهما.
وهذه المسألة والتي قبلها في الصيغ الخاصة ولكنهما تعلقتا بما تقدم عليهما فرأينا ذكرهما.
وقد نجزت الآن الألفاظ المطلقة في العموم ومقتضاها وحان الآن أن نذكر الصيغ المقيدة المقترنة.

فصل: الصيغ المقيدة بالقرائن.
272- فنقول: القرائن تنقسم إلى قرائن حالية وإلى قرائن لفظيه فأما القرائن الحالية: فكقول القائل: رأيت الناس وأخذت فتوى العلماء ونحن نعلم أن حاله لا يحتمل رؤية الناس أجمعين ومراجعة جميع العلماء فهذه القرينة وما في معناها تتضمن تخصيص الصيغة وستتلوها مسائل حرية بالالتحاق بهذا القسم.

 

ج / 1 ص -134-       مسألة:
273- إذا ورد خطاب الشارع صلوات الله عليه وسلامه على سبب مخصوص وسؤال واقع عن واقعة معينة فقد اختلف الأصوليون في أن الصيغة هل يتعدى سببها في اقتضاء العموم أم يتضمن ورودها على السبب اختصاصها به؟.
فالذي صح عندنا من مذهب الشافعي اختصاصها به.
وعلىهذا يدل قوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}1 الآية قال رضي الله عنه كان الكفار يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وكانوا يتحرجون عن كثير من المباحات في الشرع فكانت سجيتهم تخالف وضع الشرع وتحاده فنزلت هذه الآية مسبوقة الورود بذكر سجيتهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام والموقوذة وأكيلة السبع وكان الغرض منها استبانة كونهم على مضادة الحق ومحادة الصدق حتى كأنه قال تعالى: "لا حرام إلا ما حللتموه". والغرض الرد عليهم ولو لا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك في مصيره إلى حصر المحرمات فيما ذكر الله تعالى في هذه الآيات والذي نقله من يوثق به من مذهب أبي حنيفة أن الصيغة مجراة على العموم وقد زاد على ادعاء العموم أمرا منكرا إن صح عنه سنختم المسألة به.
274- ونحن نقول: إن كان جواب الشارع لا يفرض مستقلا بنفسه لولا تقدم السؤال مثل أن يسأله رجل عن شيء معين قائلا: أيحل هذا؟ فيقول: نعم أو لا فلا سبيل في ادعاء العموم فإن العموم فرع استقلال الكلام بنفسه بحيث يفرض الإبتداء به من غير تقدم سؤال فإذ ذاك يستمسك المستمسكون باللفظ كما سنذكره ويتعلق آخرون بالسبب.
فأما إذا كان الكلام لا يثبت له الاستقلال دون تقدم السؤال والسؤال خاص والجواب تتمة له وفي حكم الجزء منه [فليس بموضع خلاف].
وأما إذا كان كلام الشارع مستقلا بحيث لو قدر نطقه به ابتداء لكان ذلك شرعا منه وافتتاح تأسيس فهذا موضع الكلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "145" سورة الأنعام.

 

ج / 1 ص -135-       275- والذي نرى القطع به التعلق بمقتضى الصيغة في أصل اللسان فإنا إن نظرنا إلى معناها فهو عام وإن نظرنا إلى السبب فليس بدعا أن يسأل الرسول عليه السلام عن شيء فيذكر في مقابلته تأسيس شرع يأخذ منه السائل خطه ويسترسل مقتضى اللفظ على غيره.
فالقول البالغ فيه أن قصد التخصيص بالسبب الخاص يعارضه قصد ابتداء تمهيد الشرع فإن لم يظهر قصد تأسيس الشرع لم يترجح قصد التخصيص بالسبب فإذا تعارضا لم يحكم أحدهما على الثاني وتعين التمسك باللفظ ومقتضاه العموم ولهذا اعتقد صحبه الأكرمون عدم اختصاص ألفاظه بالمكان والزمان والمخاطبين وسبقوا إلى أن الناس الذين لم يخاطبوا مع المخاطبين شرع في الشرع ولا حاجة إلى ذلك مع ما قررناه.
وما ذكره الشافعي من الكلام على الآية فهو في غاية الحسن ولكن ما ذكر لا يفيد الحكم على الآية بل يفيد تطرق التأويل إليها ولولا ما مهدنا لكانت الآية نصا وهي من آخر ما نزل على رسول الله صلى الله ليه وسلم ولم يدع أحد من حملة علوم القرآن النسخ فيها.
276- وأنا أقول وراء ذلك: مقتضى هذا السياق الذي هو [مستمسك] إمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه يقتضي تحليل الحشرات والقاذورات والعذرات وغيرها من النجاسات فلا يستمر إجراء الآية على العموم مع اعتقاد هذا الذي ادعيناه [و] قطع السلف بالتحريم فيه فإن أنكر منكر هذا واندفع في تحليل هذه الأشياء علم قطعا انسلاله عن ضبط المسألة واستيطاؤه مركب العقوق فرب شيء نتحققه بعد انقراض العصور وإن لم نشهد أهلها وإن سلم مسلم تحريم ما ذكرناه ولم يقابل الحقوق بالعقوق وهاب حجاب الإنصاف فيبطل بذلك ادعاء النص في العموم.
ثم نحن وإن كنا لا نرى تطرق التخصيص إلى اللفظ مقتضيا مصير اللفظ مجملا كما سنذكره في مسائل الخصوص فإنا نعتقد أن ذلك إن جرى يخرج اللفظ عن مراتب النصوص في العموم ويلحقه بقبيل الظواهر وهذا كاف في مسلك الكلام على هذه الآية.
277- وقد حان الآن أن نذكر ما نقل من سرف أبي حنيفة في عدم الالتفات إلى السبب فنقول أولا إذا حكمنا بتعميم اللفظ الوارد في السبب الخاص فلا شك أنا.

 

ج / 1 ص -136-       لا تشترط في تجويز تخصيصه [ما] يجوز به تخصيص [الألفاظ] المطلقة بل نقول تخصيص اللفظ [بسبب] يقوى جانب المؤول ويخفف عليه مؤنة طلب دليل بالغ في الوضوح على ما سيأتي بيان ذلك وأمثاله في باب التأويلات ولكنا نقول: لا يجوز إخراج سبب اللفظ بطريق التخصيص عن مقتضى اللفظ فهو إذا صريح في سببه ظاهر في غيره على ما ارتضيناه.
278- ونقل ناقلون عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج سبب اللفظ بالتخصيص وإنما ادعى النقلة عليه ذلك من خبرين أحدهما حديث العجلاني في اللعان فإنه لاعن امرأته وهي حامل ونفى حملها فانتفى ومنع أبو حنيفة1 نفى الحمل باللعان وإن لم يرد في بيان اللعان عن المصطفى صلى الله عليه وسلم غير قصة العجلاني والحديث الآخر حديث عبد بن زمعة2 وكان سأل عن ولد أمته في ملك يمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الولد للفراش"3 فغلا أبو حنيفة في اللفظ حتى ألحق الولد بالأب في النكاح وإن تيقنا استحالة العلوق من الزوج ولم يلحق ولد المملوكة بمولدها [وإن] أقر بالوطء والافتراش [فالذي] عندي أنه لا يجوز أن ينسب إلى [متعاقل] تجويز استخراج السبب تخصيصا وما نقل عنه محمول على أن الحديثين لم يبلغاه بكمالهما وكان ضعيف القيام بجمع الأحاديث صارفا جمام طلبه إلى الرأي مع القطع بأن الذين مضوا كانوا لا يتعلقون بالرأي ما لم يتعجزوا عن تتبع ألفاظ الشارع.
فهذا ما أردنا ذكره في القرائن الحالية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 عبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر القرشي العامري أخو سودة أم المؤمنين. قال ابن عبد البر: كان من سادات الصحابة. له ترجمة في: الإصابة 2/433/5272.
3 روى هذا اللفظ: البخاري 3/70 و 106 و 161 و4/40, ومسلم في: الرضاع "36, 37", وأبو داود "2273" والترمذي "1157", والنسائي في: "49, 50" وابن ماجه "2006, 2007", والدارمي 2/152, وأحمد 2/25 و 2/207 و 280 و 475.