البرهان في أصول الفقه القرائن التي ليست حالية.
فأما
القرائن التي ليست حالية فهي تنقسم إلى الاستثناء والتخصيص
ونحن نبدأ بالاستثناء.
ج / 1 ص -137-
مسائل الاستثناء:
279-
الاستثناء استفعال من الثني يقال: ثنيت الشيء إذا صرفته
وثنى الثوب إذا كف وغطف عن أطراف الأذيال والأكمام ثم
للاستثناء أدوات في اللسان يطول استقصاء القول فيها ونحن
نذكر أمها وأصلها ونضبط تراجم الاستثناء مبنية على القواعد
ثم ننعطف على المسائل الأصولية في قضايا الاستثناء فنقول:
280- أصل أدوات الاستثناء "إلا" ثم لا يخلو إما أن يتصل
بكلام متضمنه إيجاب1 وإثبات2 وإما أن يتصل بكلام مبني على
النفي فإن كان في واجب ثابت فوضع اللسان فيه اقتضاء النصب
تقول جاء القوم إلا زيدا والتقدير أستثنى زيدا فهو حرف دال
على فعل ناصب قال الله تعالى:
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ}3 وقد يرد ما بعد إلا مرفوعا وهو فصيح منطوق به تقول جاءني القوم
إلا زيد وعليه حمل قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}4 وأنشد فيه:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان.
وإنما يسوغ ذلك لأمر نحن
ننبه عليه فنقول من قولهم في اللغة الفصيحة: جاء القوم غير
زيد فينصبون "غير" على الاستثناء ويأخذون نصب "غير" مما
ينتصب بإلا5 في قولهم جاء القوم إلا زيدا فغير يدخل على ما
يعمل فيه "إلا" ويجوز أن يقال جاء القوم "غير" زيد أجروا
غير نعتا للقوم والتقدير جاء القوم المغايرون لزيد ثم لما
أدخلوا "غير" على حكم إلا أدخلوا ما بعد إلا في لغة على
"غير" في مذهب الصفة فقالوا: جاء القوم إلا زيد.
281- وإذا اتصل بكلام مبني على النفي فلا يخلو إما أن يتم
الكلام دونه أو لا يتم فإن لم يتم الكلام دونه فاعتماد
الكلام على النفي تعمل إلا وجرى الكلام بوجوه [الإعراب كما
يجري فرضه] لو فرض حذف إلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إيجاب: وذلك بأن يذكر في الكلام المستثنى منه.
2 إثبات: وذلك بألا يتقدمه نفي.
3 آية "249" سورة البقرة.
4 آية "22" سورة الأنبياء.
5 وللمنتصب بـ"إلا" ثلاثة أحوال: الأولى: وجوب النصب على
الاستثناء وذلك إذا كان الكلام موجبا. الثانية: جواز
اتباعه لما قبل "إلا" على أنه بدل منه مع جواز نصبه على
الاستثناء وذلك إذا كان الكلام تاما منفيا. الثالثة: وجوب
إجرائه على حسب ما يقتضيه العامل المذكور قبل إلا وذلك إذا
كان الكلام ناقصا ولا يكون حينئذ إلا منفيا.
ج / 1 ص -138-
فتقول
ما جاءني إلا زيد وما رأيت إلا زيدا وما مررت إلا بزيد كما
تقول ما جاءني زيد وما رأيت زيدا وما مررت بزيد.
282- وإن كان الكلام المبني على النفي يتم دون "إلا"
فللعرب مذهبان في إعماله منهم من يجريه مجرى استثناء ومنهم
من لا يرى إعماله ويقول ما رأيت أحدا إلا زيدا وما جاءني
أحد إلا زيدا على الإعمال والاستثناء وإلا زيد على ترك
الإعمال وهو في تقدير النحاة بدل عن أحد واختلف القراء في
قوله تعالى:
{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}1 فقراءة العامة على ترك الإعمال وقرأ ابن عامر إلا قليلا منهم على
الاستثناء وهذا إذا قدمت قولك أحدا فأما إذا قدمت قولك:
إلا على قولك أحد لم يتجه إلا الإعمال والحمل على
الاستثناء تقول: ما جاءني إلا زيدا أحد والسبب فيه أن سقوط
العمل على البدل والبدل لا يتقدم على المبدل قال زهير2:
القوم ألب علينا فيك ليس لنا
إلا الرماح وأطراف القنا وزر.
وقال الكميت3:
فمالي إلا آل أحمد شيعة
ومالي إلا مشعب الحق مشعب.
نصب آل لما أخر قوله:
شيعة ونصب [المشعب] الأول على هذا المذهب وكل ما ذكرناه في
الاستثناء من الجنس.
283- فأما الاستثناء من غير الجنس والكلام مبني على النفي
حيث انتهى الترتيب إليه فمذهب الاستثناء شائع فيه وفاقا
فتقول: ما جاء أحد إلا حمارا والتقدير: أستثنى حما فأما
إذا أتيت بما بعد إلا على تقدير البدل فقد اختلف فيه أهل
اللسان فمنع الحجازيون البدل وعينوا الاستثناء ولم يروا
وقوع الحمار بدلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "66" سورة النساء.
2 زهير: هو ابن أبي سلمى وهو أحد الثلاثة المتقدمين على
سائر الشعراء وكان يمتاز بما في نظمه من الحكمة البالغة
وكثرة الأمثال مع القدر على المدح. مات سنة "615". له
ترجمة في: خزانة الدب 1/375, والشعر والشعراء "57".
3 الكميت: هو ابن زيد الأسدي شاعر مقدم عالم بلغات العرب
خبير بأيامها من شعراء مضر وألسنتها وكان مشهورا بالتشنيع
لبني هاشم وهو من أصحاب الملحمات. مات سنة "216". له ترجمة
في: خزانة الدب 1/69, والشعر والشعراء "368", ومروج الذهب
6/36.
ج / 1 ص -139-
عن أحد
وقالوا إنما يبدل من أحد عاقل قال النابغة1:
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها
أعيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا أوارى لأياما أبينها
والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد.
فنصب الأواري على
الاستثناء ولم ير إجراءها بدلا عن أحد وهذه لغة القرآن
وبنو تميم جوزوا مذهب البدل فقالوا: ما جاءني أحد إلا حمار
واعتلوا بأن التعبير بالأحد عن غير من يعقل ليس بدعا في
مثل قولك أقبل أحد الحمارين في كلام يطول تتبعه.
فهذه التراجم لم نجد بدا من تصدير الباب بها ونحن الآن
نعود إلى المسائل [الأصولية] ونرسمها مسألة.
مسألة:
284- صيغة الاستثناء إذا انقطعت لم تعمل وألغيت وشرطها
في الصحة أن تتصل بالمستثنى عنه وتجري جزءا من الكلام
والمرعى في الاتصال أن يعد الكلام واحدا غير منقطع.
285- ورأى أصحاب المقالات أن ابن عباس كان يجوز فصل
الاستثناء ويعمله وإن طال الفصل بينه وبين المستثنى عنه
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يجوز ذلك في كتاب الله تعالى دون
غيره.
والرد على من يجوز فصل الاستثناء مدرك بالبديهة يغني وضوحه
عن الإطناب في شرحه ولو عملت الاستثناءات المنفصلة لم يثبت
ثقة بالعهود والمواثيق ولما أفضى عقد إلى اللزوم ولما علم
صدق صادق وكذب كاذب مع ارتقاب الاستثناء فكل ما نذكره تكلف
بعد حصول القطع بأن العرب وغيرها من أرباب اللغات لا يرون
إمكان [تغيير] الألفاظ الناصة على معانيها وإلحاق
الاستثناء بعدها بعد تمادى الآباد وتطاول الأزمان والكلام
المسكوت عليه في رفع اللسان غير مستدرك بعد الفصل
بالاستثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النابغة: هو زياد بن معاوية الذبياني, وهو من الأشراف
الذين غض الشعر منهم كما غض من امرئ القيس. توفى سنة
"604"م له ترجمة في: الأغاني 9/162, والشعر والشعراء "70 و
126", والجمهرة "52".
ج / 1 ص -140-
والغامض في هذه المسألة أن ابن عباس وهو حبر هذه الأمة
ومرجوعها في مشكلات القرآن كيف يستجيز انتحال مثل هذا
المذهب على ظهور بطلانه؟ والوجه اتهام الناقل وحمل النقل
على أنه خطأ أو مختلق مخترع والكذب أكثر ما يسمع ويمكن أن
يحمل مذهبه على إضمار الاستثناء متصلا ثم يقع البوح بادعاء
إضماره مستأخرا فإذا ادعى مدع أن صاحب الكلام مصدق فهذا
مذهب على كل حال وإن كان مزيفا وقد صار إليه بعض أصحاب
مالك.
286- وأما من قال من الفقهاء بتجويز تأخير الاستثناء في
كلام الله تعالى دون غيره فإنما حمله عليه خيال من مبادئ
كلام المتكلمين الصائرين إلى أن الكلام الأزلي واحد وإنما
الترتيب في جهات الوصول إلى المخاطبين وإن كان كل تأخر قد
تأخر من الاستثناء به فذلك من سماع السامعين وفهم
المخاطبين لا في كلام رب العالمين.
وهذا من هؤلاء اقتحام العمايات والارتباك في غمرات
الجهالات فإن استقر هذا العقد في اتحاد كلام [الله تعالى]
والحكم عليه ظاهر بما هو الاختلاف حقا والواحد لا يختلف
فثبت أن الواحد الذي حقه ألا ينقسم مستثنى عنه واستثناء
المستثنى عنه منفى والاستثناء نفي وهيهات أن يشتمل على ذلك
فكر عاقل غير مصروف عن درك الحقائق بعرف التقاليد ثم ليس
الكلام مع هذا كله في الكلام الأزلي وإنما الكلام في
العبارات التي تبلغنا وهي محمولة على معاني كلام العرب
نظما ووصلا وفصلا ولا شك أنه لا ينتظم في وضع العربية فصل
صيغة الاستثناء عن العبارة التي تشعر بمستثنى عنه فهذا
منتهى القول في ذلك.
مسألة:
287- إذا اشتمل الكلام على جمل واستعقب الجملة الآخرة
استثناء فالمنقول عن الشافعي1 رضي الله عنه: أن الاستثناء
ينعطف على الجمل كلها ولا يختص بالجملة الآخرة منها.
وقال أبو حنيفة2: هو مختص بالجملة الآخرة معينا.
288- وينبني على المذهبين مسألة في الوصايا والحبس وهي أن
القائل إذا قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 سبقت ترجمته.
ج / 1 ص -141-
وقفت
داري هذه على بني فلان ثم على بني فلان وعدد طوائف وميز
بعضهم من بعض ذكرا ثم قال عند ذكر الطائفة الأخيرة إلا أن
يفسق منهم فاسق فلا يستحق من المسمى شيئا فهذا يتضمن على
رأى الشافعي اشتراط العدالة في جميع البطون قبله وأبو
حنيفة رضي الله عنه ومتبعوه يزعمون أن الاستثناء المتصل
بالجملة الأخيرة يتضمن اشتراط العدالة في المسمين آخرا
والمذكورون قبلهم يستحقون فسقوا أو اتقوا وذكر الأصوليون
آية القذف مثالا مفروضا لإيضاح المذهبين وترجيح أحدهما على
الثاني وهوقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}1 رأى
الشافعي صرف "إلا" في قوله:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}2
إلى ما أمكن من الجمل المتقدمة ومنها قوله تعالى:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}3 وخصص أبو حنيفة معنى هذا الاستثناء بنبذ الفسق والتسمية به
فالقذفة فسقة إلا من تاب فسقط عنه بظهور التوبة اسم الفسق
وأما حكم الرد المستفاد من قوله تعالى:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}4
فلا ينعطف الاستثناء عليه وهو مستدام على التأييد كما أشعر
به قوله تعالى: {أَبَداً}.
ونحن نذكر
الآن ما قاله الأصوليون لكل فريق ثم نذكر ما هو المختار
كدأبنا في المسائل.
289- فمما ذكره [أصحاب] الشافعي أن الجمل إذا عطف بعضها
على بعض فالواو ناسقة عاطفة مشركة مصيرة جميع ما للعطف بها
في حكم جملة مجموعة لا انعطاف ولا ترتيب فيها فإذا قال
القائل رأيت زيدا وعمرا اقتضى ذلك اشتراك المذكورين في
الرؤية وحاصل ذلك يتضمن المصير إلى جعل الجمل وإن ترتبت
ذكرا جملة واحدة ويقتضي ذلك استرسال الاستثناء عليها.
وهذا عندي خلى عن التحصيل مشعر بجهل مورده بالعربية
والتشريك الذي ادعى هؤلاء إنما يجري في الأفراد التي لا
تستقل بأنفسها وليست جملا معقودة بانفرادها كقول القائل
رأيت زيدا وعمرا فأما إذا اشتمل الكلام على جمل وكل جملة
لو قدر السكوت عليها لاستقلت بالإفادة فكيف يتخيل اقتضاء
الواو التشريك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "4, 5" سورة النور.
2 سبقت.
3 سبقت.
4 سبقت.
ج / 1 ص -142-
فيها؟
ولكل جملة معناها الخاص بها وقد يكون بعضها نفيا وبعضها
إثباتا في مثل قول القائل: أقبل بنو تميم وارفضت قريش
وتألبت عقيل فكيف يتحقق الاشتراك في هذه المعاني المختلفة
التي لا يتصور الإشتراك فيها؟ فالواو لا تكسب الجمل إعرابا
فكيف تشركها في المعنى؟ والإطناب في ذلك لا معنى له نعم
تستعمل العرب الواو في تضاعيف ذكر الجمل لتحسين نظم الكلام
لا للعطف المحقق والتشريك.
290- وادعى بعض أصحاب الشافعي أن بعض أصحاب أبي حنيفة
يقولون إن الرجل إذا قال: نسوتي طالق وعبيدي أحرار ودوري
محبسة إن شاء الله تعالى فهذا الاستثناء راجع إلى [جميع]
ما تقدم وما أراهم يسلمون ذلك إن عقلوا وإن سلموا فمطالب
القطع لا يغنى فيها التعلق بمناقضات الخصم وهفواته فليبعد
طالب التحقيق عن مثل هذا.
291- ونحن نقول: إذا اختلفت المعاني وتباينت جهاتها وارتبط
كل معنى بجملة ثم استعقبت الجملة الأخيرة مثنوية فالرأي
الحق الحكم باختصاصه بالجملة الأخيرة فإن الجمل وإن انتظمت
تحت سياق واحد فليس لبعضها تعلق بالبعض كما قدمنا تقريره
وإنما ينعطف الاستثناء على كلام مجتمع في غرض واحد.
وإن اختلفت المقاصد في الجمل فكل جملة متعلقة بمعناها لا
تعلق لها بما بعدها والواو ليست لتغيير المعنى وإنما هي
لاسترسال الكلام وحسن نظمه والجملة الأخيرة تفصل الاستثناء
عن الجملة المتقدمة من حيث إن الخائض في ذكرها آخذ في معنى
يخالف معنى الجملة المتقدمة مضرب عنه فيظهر والحالة هذه
اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة وبيان ذلك بالمثال: أن
الرجل إذا قال [أكرموا من يزورنا] وقد حبست على أقاربي
داري هذه وبعت عقاري الذي تعرفونه من فلان وإذا مت فأعتقوا
عبيدي إلا الفاسق منهم فيبعد انصراف حكم الاستثناء إلى
الحبس أو إلى الأمر بالإكرام ثم ليس يبعد قصد العطف على
الجميع إذا أمكن [ولكن] يس يشعر ظاهر الكلام به فإذا قال
[القائل] وقفت على بني فلان داري وحبست على أقاربي ضيعتي
وسبلت على خدمي وموالى غنمي إلا أن يفسق منهم فاسق فلا
يظهر اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة ولا يظهر انعطافه
على الجمل كلها والأمر في ذلك موقوف على المراجعة والبيان.
والسبب فيه أن مساق الخطاب في الجمل كلها واحد ولكن الجمل
منفصلة في الذكر فجر اتحاد المقصود وفصل الجمل إجمالا
ووقفا.
ج / 1 ص -143-
292- وأما آية القذفة فإنها خارجة عن القسمين جميعا على ما
سنوضحه الان قائلين قوله تعالى:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}1 حكم في جملة وقوله تعالى:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}2في حكم التعليل لحكم الجملة المتقدمة فإن الشهادة في أمثال هذه
المحال بالفسق ترد فإذا تاب رفعت التوبة علة الرد وانعطف
أثرها على الرد لا محالة فكأنه تعالى قال:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}3 لأنهم فاسقون إلا الذين تابوا وهذا يدرأ عنا سؤال من سأل فقال هلا
حططتم الحد بالتوبة فإنا نقول الحد في حكم المنقطع عن الرد
فإنه موجب جريرة ارتكبها والغرض من الحد الزجر عن أمثالها
ولو سقط الحد بإظهار التوبة لاستجرأ الفسقة على الأعراض
فلم نر للحد ارتباطا بالرد والفسق وإنما ارتباطه بالزجر
الذي وضعه الشارع فكأنا عطفنا التوبة على جملة واحدة مؤذنة
بالتعليل فلم يلزم عطف أثرها على حكم جملة منقطعة عنها
فإذا جرت مسألة قبول شهادة القذفة لائحة مع استمساكنا
بالحق المبين في مأخذ الأصول.
293- فإن قيل إذا حبس على فرق وطوائف وعقب على الجملة
الأخيرة استثناء فبم تفتون في موجب ذلك الاستثناء في الجمل
السالفة قلنا أما من يعتقد ظهور انعطاف الاستثناء في الجمل
المتقدمة فلا يكاد يخفى قوله وأما أنا فعندي الوقف فإن
وجدت قرينة حاكمة اتبعتها فإن لم أجدها لم أحكم بالاستحقاق
في الجمل الماضية في محل الاستئناف فإني لم أتحقق
استحقاقهم فيها ولا يثبت الاستحقاق إلا بثبت فإن الأصل
عدمه وهذا تقرب فائدته من فائدة مذهب من يعتقد ظهور انعطاف
الاستثناء على جميع المذكورين.
مسألة:
294- إذا استغرق الاستثناء الجميع كان باطلا لغوا
واستقر الكلام المتقدم عليه في جميع مقتضاه كما يستقر كلام
لا يستعقبه استثناء وإن أبقى الاستثناء شيئا وإن قل نفذ
وبقى ما أبقاه الاستثناء.
295- وذكر القاضي أن شرط صحة الاستثناء أن يكون مضمونه أقل
من نصف المستثنى عنه ولم يتمسك إلا باستبعاد لا يليق
بمنصبه التعلق بمثله فقال: إذا قال القائل لفلان: عندي
عشرة إلا تسعة وخمسة أسداس وخمسة حبات عد ذلك من.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت.
2 سبقت.
3 سبقت.
ج / 1 ص -144-
الهزء
وعد صاحبه ملغزا فالاستثناء لاستدراك قليل بالإضافة إلى
المذكور أولا وهذا الذي ذكره دعوى عرية وتهاويل لا تحصيل
لها ومساقها يبطل الاستثناء كرة إذ يقال للمستثنى كان من
حقك ألا تعترف إلا بالفاضل بعد استثنائك فإذا قلت: عشرة لم
يقبل منك نفي شيء منها والذي ذكره من أن الاستثناء في وجه
حسن الكلام يقل مضمونه عن المبقى بعده فلسنا ننكر أن
الأحسن ما ذكره وأما رد غيره فلا سبيل إليه ولو قال
القائل: لفلان على تسعة وخمسة أسداس وخمس حبات كان ذلك
تطويلا والأحسن أن يقول: لفلان على عشرة إلا حبة فليس كل
ما يوضح الأحسن يرد غيره.
مسألة:
296- ذكر الفقهاء اختلاف الشافعي وأبي حنيفة رضي الله
عنهما في الرجل إذا قال لفلان على ألف درهم إلا ثوبا ثم
ذكر ثوبا لا يستغرق قيمة الألف المذكورة وذكر وجها
[معقولا] في استثناء قيمة الثوب عن الألف وجعل ذكر الثوب
عبارة عن قيمته فهذا مقبول عند الشافعي مردود عند أبي
حنيفة وسوغ أبو حنيفة استثناء الكيل بعضه من بعض وإن
اختلفت الأجناس ردا إلى التأويل الذي ذكره الشافعي في
الثوب وكذلك جوز استثناء المكيل من الموزون والموزون من
المكيل في مرادات وفرق وجمع بين الفقهاء.
297- وحظ الأصول من هذه المسألة أن الجنس إذا اختلف فلا
يجري الاستثناء فيه على حقيقته ومن ضرورة الاستثناء
الحقيقي مجانسة المستثنى للمستثنى منه فإن صح في مسالك
الظنون التعبير بالثوب عن قيمته فالمستثنى القيمة إذ هي
مجانسة للمستثنى منه لا الثوب بعينه [فالأصح بعد وضوح ذلك
ألا يعتقد ثبوت الاستثناء من غير الجنس فإن جرى لفظ] "إلا"
في كلام فصيح لم يكن استثناء وكان ذلك بمعنى لكن مع
استفتاح كلام بعده] وهو كثير في القرآن الكريم وألفاظ
الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى:
{لا
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً
سَلاماً,سَلاماً}1 [وليس السلام] من فن اللغو والتأثيم ومن ضرورة الاستثناء الحقيقي
أن تستخرج شيئا كان يدخل تحت لفظك لو أطلقته مجردا عن
الاستثناء فإن ذلك يكون صارفا لمقتضى اللفظ فأما مالا يفرض
دخوله إذا أطلق اللفظ كيف يتخيل خروجه وهذا واضح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "25, 26" سورة الواقعة.
ج / 1 ص -145-
فإن
قيل: فما الذي حسن صيغة الاستثناء في ذلك مع خروجه عن
حقيقة الباب؟ قلنا: تقدير
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً}1 أي لا يسمعون فيها إلا قليلا وجرى ما قبله في حكم التأكيد لنفي ما
سوى السلامة وعلى هذا جرى ما يضاهي ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت.
فصل: الفرق بين الاستثناء والتخصيص.
298- قد
ذكرنا ما يتعلق بالأصول من أحكام الاستثناء وقد كنا قسمنا
قبل القرائن إلى الاستثناء والتخصيص ونحن نذكر الآن بعد
نجاز مسائل الاستثناء حقيقة التخصيص والفرق بينه وبين
الاستثناء ثم نندفع بعد هذا في قواعد التخصيص وتقاسيم
القول فيها.
299- [فنقول]: التخصيص إفراد الشيء بالذكر في اصطلاح
الأصوليين تقول خصص فلان الشيء بالذكر إذا أفرده واللفظ
الخاص هو الذي ينبئ عن أمر يجوز إدراجه مع غيره تحت لفظ
آخر والخاص الذي لا يتصف بالعموم هو الذي يتناول واحدا
فحسب والعام هو الذي لا يثبت فيه مقتضى الخصوص كالمعلوم
والمذكور والمخبر عنه ورب لفظ هو خاص بالإضافة إلى عام
فوقه وهو عام بالإضافة إلى خاص دونه فالزيدان عام بالإضافة
إلى زيد خاص بالإضافة إلى الزيدين وأمثلة ذلك تكثر.
ثم ذكر أرباب الأصول طرفا في الفرق بين التخصيص والاستثناء
ونحن نذكر حقيقة الفرق بينهما ثم نورد ما أوردوه تحقيقا
لما نمهده.
300- فالاستثناء مع المستثنى عنه في حكم الكلام الواحد
المسوق لما يبقى من الاستثناء فإن قلت: عشرة إلا خمسة كان
مجموع الكلام عبارة عن خمسة ولا تقول: تبين بالاستثناء أن
العشرة الواقعة في صدر الكلام عبارة عن الخمسة وهذا محال
لا يعتقده لبيب بل ذكر العشرة مع ذكر مطلقها إلا خمسة
مجموعها ينص على الخمسة الباقية ولو فرض مجرد العشرة لكان
نصا في العدد المعنى به ولو فرض استئخار إخراج الخمسة للغا
الاستثناء وعد نسخا وقطعا لبعض العشرة بعد اعتقاد الثبوت.
ج / 1 ص -146-
301- والتخصيص تبيين المراد باللفظ الموضوع ظاهره للعموم
فلا يقع التخصيص جزءا من الكلام الوارد عاما بل ذلك اللفظ
ظاهره للاستغراق ولا يمنع أن يعنى به فإذا بان أن مطلقه
عنى به خصوصا أو ظن ذلك به على ما سنذكر مسالك الظنون في
التأويلات إن شاء الله تعالى فهذا هو الذي يسمى تخصيصا ولا
يكون المخصص إذا نصا في العموم ولو كان نصا لما تبين أن
المراد به غير ما هو نص فيه أو بعضه فهذا حقيقة الفرق.
ثم يقتضي ما ذكرناه أمورا يفترق فيها الاستثناء والتخصيص
منها.
302- أن التخصيص قد يتبين بقرائن الأحوال ولا يفرض ذلك في
وضع الاستثناء فإذا قال القائل: رأيت الناس فالقرينة شاهدة
بأنه لم ير جميعهم وإذا قال رأيت عشرة فلا قرينة تدل على
حمل العشرة على خمسة والاستثناء يتصل فإنه يعد جزءا من
الكلام كما تمهد والتخصيص لا يمتنع انفصاله [في وضع الكلام
فإنه تبيين] ولا يمتنع استئخار البيان عن اللفظ في وضع
اللسان كالاستثناء فإن الانفصال يخرجه عن كونه استثناء كما
سبق ومن منع تأخير البيان عن مورد الخطاب فلا يأخذ منعه من
وضع اللسان وإنما يتلقاه مما يعتقده من القول بالاستصلاح
على ما سيأتي طرف منه بعد ذلك في حكم الخصوص والعموم.
وهذا القدر مقنع في محاولة الفرق بين البابين فإن الغرض في
كل فن بيان مقصوده والازدياد بعد البيان لا يفيد.
303- وليعلم الناظر أن ما نذكره في العموم والخصوص إنما
يختص بالأسماء دون الأفعال والحروف فإن الحروف لا تستقل
بمعان حتى تقدر خاصة أو عامة والأفعال لا يلحقها الجمع
والتثنية كما سبق الرمز إليه وكل ما لا يتطرق إليه معنى
التعميم لا يلحقه معنى التخصيص فإنهما معنيان متعاقبان على
التناقض لا يثبت أحدهما إلا حيث يتصور ثبوت الثاني فانحصر
طلب التعميم والتخصيص في الأسماء.
304- ثم نحن نذكر الآن ما يقبل التخصيص وحكم اللفظ إذا خصص
ثم نذكر ما يقع به التخصيص ونصل مختتم الكلام بالقول في
التأويلات فلا أرى في علم الشريعة بابا أنفع منه لطالب
الأصول والفروع وهذا الترتيب يقتضي ذكر حقيقة النص والظاهر
والمجمل والمفسر والمتشابه والمحكم وما في كل فن من الوفاق
والخلاف إن شاء الله تعالى.
ج / 1 ص -147-
مسألة:
305- لا
يمتنع ورود اللفظ العام [مع] استئخار المخصص عنه إلى وقت
الحاجة وذهب جماهير المعتزلة إلى منع ذلك وهذا من فروع
القول في تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة
ولكنا أقمنا رسمها لتجرى المسألة منتظمة في الكلام للعموم
والخصوص ولزيادة نوردها.
أما وجه التحاقها بما تقدم في أحام البيان فهو أن المخصص
ليس جزءا من الكلام المصدر بالصيغة العامة بخلاف الاستثناء
وإنما هو بيان المراد باللفظ تأويلا فلا يجب اتصاله كما
يجب [في] الاستثناء والمستثنى عنه وليس تأخير البيان
مستحيل الوقوع عقلا فإن رد الخصم استحالة ذلك إلى
الاستصلاح والقول بموجب رعاية صلاح العباد فهو أصل لا
يساعدون عليه ولا يمتنع أن يقع في المعلوم أن استصلاح
العباد في تأخير البيان إلى وقت الحاجة فلم يبق لما منعوه
وجه وقد ذكرنا هذا المسلك فيما سبق.
306- والذي [نزيده] أن الخطاب الذي يخصصه مقتضى العقل يجوز
فرض وروده وإن كان يستأخر عن [مورده] الإحاطة بإرادة
الخصوص منه أخذا من أساليب العقول وهذا متفق عليه ولا ينجى
الخصوم منه قولهم إن العقل عتيد والنظر ممكن فإن ذلك
يستدعي تمادى أمد وتطاول زمن ولو اتصل التخصيص لفظا ونطقا
لأغنى عن النظر وليس لهم عما ألزموه جواب ولا حاجة إلى
التزامهم ذلك مع ما مهدناه.
307- ونختتم المسألة بإلزامهم ورود عمومات الكتاب مع
استئخار تبين خصوصها عن موردها فإنا على اضطرار من عقولنا
نعلم أن الأحكام التي اقتضتها الصيغ مطلقة ثم فصلتها سنن
الرسول صلى الله عليه وسلم على ممر الزمان عند اعتقاب
الوقائع كثيرة ومن أنكر ذلك وادعى أنه لم يرد خطاب مقتضاه
عموم في الكتاب إلا فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أثر مورده فقد ادعى [أمرا] منكرا وقال بهتانا وزورا ومما
نضربه مثالا آية السرقة فإنها [إذ وردت] لم يبتدر رسول
الله صلى الله عليه وسلم تفصيل أحكامها في الأقدار
والأحراز [ونصاب المسروق] في مجلس واحد بل كان لا يعتني
بالإكباب على البيان اعتناءه بوظائف النقل فضلا عن
المفترضات وكان إذا وقعت واقعة روجع فيها فيبين قدر الغرض
ويقتصد وجاحد ذلك مباهت معاند.
ج / 1 ص -148-
مسألة:
308- إذا وردت الصيغة الظاهرة في اقتضاء العموم ولم يدخل
وقت العمل بموجبها فقد قال أبو بكر1 الصيرفي من أئمة
الأصول: يجب على المتعبدين اعتقاد العموم فيها على جزم ثم
إن كان الأمر على ما اعتقدوه فذلك وإن تبين الخصوص [تغير]
العقد.
وهذا غير معدود عندنا من مباحث العقلاء ومضطرب العلماء
وإنما هو قول صدر عن غباوة واستمرار في عناد ونحن نقول لمن
ينتحل هذا المذهب: أيجوز أن يبين الخصوص بالآخرة فإن قال:
"لا" فتقدير ورود الخصوص متأخرا محال إذا ويتصل القول في
ذلك بالرد على الذين أوجبوا اتصال البيان بمورد الخطاب
وأبو بكر هذا من الرادين على هؤلاء في تصانيفه وإن زعم
صاحب هذا المذهب أن تبين الخصوص ممكن فكيف يتصور جزم العقد
مع اشتماله على تجويز أن يتبين الأمر على خلاف ما جزم
العقد به والتردد والجزم متناقضان.
309- والذي يكشف الغطاء في هذه المسألة أن المتعبد قبل أن
[يحين] العمل يتردد وقد يغلب على ظنه العموم لظهور اللفظ
في اقتضائه ثم إذا لم يرد مخصص ودخل وقت تكليف العمل فيقع
ذلك على وجهين أحدهما القطع بالتعميم فينهض اللفظ العام مع
ما يبدو من القرائن نصا وقد يقع ذلك نصا في مسالك الظنون
فإن العمل لا ينحصر في مدارك القطع فالمقطوع [به] وجوب
العمل بالعموم فأما أن يعتقد إرادة العموم فلا وهذا يطرد
في كل مالا يكون قاطعا كأخبار الاحاد والأقيسة الظنية
فالمقطوع به في جميع هذه الأبواب وجوب العمل به والاعتقاد
جازم في وجوب العمل وهذا يستند إلى دليل قاطع مغاير لما
يجري في مجاري الظنون فأما جزم العقد في أن مطلق اللفظ
أراد التعميم فلا وجه له.
310- وإن قال الصيرفي: هذا المذهب من شعب الوقف وقد ظهر
بطلانه قلنا الباطل من مذهب الواقفية إنكارهم ظهور الألفاظ
في مقاصدها ونحن لا نلتزم من حيث أبطلنا مذهبهم جعل
الظواهر نصوصا فكيف يستقيم هذا الكلام ومورده يجوز تبين
خصومه كما ذكرنا في أثناء الكلام؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
ج / 1 ص -149-
مسألة:
311- اللفظ الظاهر في العموم إذا اقتضى العقل خصوصه فهو
مخصص بدليل العقل وأنكر بعض الناشئة ذلك وأبوا أن يسموا
هذا الفن تخصيصا وهذه المسألة قليلة الفائدة نزرة الجدوى
والعائدة فإن تلقى الخصوص من مأخذ العقل غير منكر وكون
اللفظ موضوعا للعموم في أصل اللسان لا خلاف فيه مع من
يعترف ببطلان مذهب الواقفية وإن امتنع ممتنع من تسمية ذلك
تخصيصا فليس في إطلاقه مخالفة عقل ولا شرع فلا أثر لهذا
الامتناع ولست أرى هذه المسألة خلافية في التحقيق.
فإن قالوا: التخصيص في حكم البيان وكتاب الله تعالى لا
يبينه إلا كلام الله وكلام الرسول عليه السلام يخبر عن
الله تعالى ومرجع تبيينه إلى كلام الله تعالى قلنا: ليس
التخصيص جزءا من الكلام المتصل المشتمل على الصيغة العامة
كما سبق تقريره وإنما هو تبين فإذا ورد الظاهر مخالفا
للمعقول فيعلم أن المراد به الخصوص الموافق له والمعنى
بكون العقل مخصصا أنه مرشد إلى المراد منه فهذا تمام ما
أردناه.
مسألة:
312- الصيغة الظاهرة في العموم إذا تطرق إليها التخصيص فقد
صار جماهير المعتزلة وطوائف من أصحاب الرأي أنها صارت
مجملة في بقية المسميات لا يسوغ التمسك بها إلا أن يرد
خطاب بتنزيلها على بقية المسميات تعبدا بالعمل بموجبها
وتمسك هؤلاء بأن اللفظ إذا خصص وهو في أصل الوضع للعموم
فقد عسر إجراؤه على موجب أصل الوضع ولم يحصل على ثبت فيما
بقى من المسميات فلا اللفظ وضع له خصوصا ولا نحن تمكنا من
إعماله على حكم اللغة فيتضمن ذلك إجمالا وإبهاما. وقال
معظم الفقهاء: وقد تعبدنا بالعمل بالظاهر إذا لم يمنع مانع
فإذا لاح مخصص ولم يتعلق بما بقى ولا مانع من إجراء اللفظ
على مقتضاه في الباقي فيتعين.
313- وقال القاضي أبو بكر: إذا خص اللفظ صار مجازا على
خلاف ما صار إليه جماهير الفقهاء فإن تجوز به عما وضع له
في اقتضاء العموم ولكنه مجاز يجب العمل به فإنا أخذنا
العمل بالظواهر التي ليست نصوصا من عادة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما سنقرر ذلك عند ذكرنا حقائق
المجملات والظواهر والنصوص.
ج / 1 ص -150-
ثم
علمنا قطعا أن جميع الألفاظ المتعلقة بالأحكام من الكتاب
والسنة يتطرق إليها الخصوص وإن استوعب الطالب عمره مكبا
على الطلب الحثيث فلا يطلع على عام شرعي لا يتطرق إليه
الخصوص ونحن نعلم ضرورة أنهم ما كانوا يقفون عن العمل إذا
لاحت لهم مثنوية أو ظهر مخصص فالدال على عملهم بالظواهر
على هذا الوجه مقرر فاقتضى عموم هذا القول أن يوجب إعمال
الظواهر في بقية المسميات مع الحكم بكون اللفظ مجازا من
حيث جاز موجب الوضع.
والذي أراه في ذلك أنه اشترك في اللفظ موجب الحقيقة
والمجاز جميعا أما العمل فكما قرره القاضي ووجه اشتراك
الحقيقة والمجاز أن تناول اللفظ لبقية المسيمات لا تجوز
فيه فهو من هذا الوجه حقيقة في التناول واختصاصه بها
وقصوره عما عداها جهة في التجوز فالقول الكامل أن العمل
واجب واللفظ حقيقة في تناول البقية مجاز في الاختصاص.
فصل: في معنى النص والظاهر والمجمل والمتشابه
والمحكم.
قد ذكرنا أن الأولى تقديم كلام يحوى حقيقة النص والظاهر
والمجمل والمتشابه والمحكم حتى إذا نجز الغرض فيه أعقبناه
بما يقع التخصيص به ثم أوردنا الكلام في رتب التأويلات
والمقبول منها والمردود.
معنى النص
314- فلتقع البداية بالنص وقد اختلفت عبارات الأصحاب
في حقيقته فقال بعضهم هو لفظ مفيد لا يتطرق إليه تأويل
وقال بعض المتأخرين هو لفظ مفيد استوى ظاهره وباطنه واعترض
بعض المتكلمين على ذكر اللفظ في محاولة تحقيق النص فقال
الفحوى تقع نصا وإن لم يكن معناها مصرحا به لفظا.
وهذا السؤال ساقط لأن الفحوى لا استقلال لها وإنما هي
مقتضى لفظ على نظم ونضد مخصوص قال تعالى في سياق الأمر
بالبر والنهي عن العقوق والاستحثاث على رعاية حقوق
الوالدين:
{فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}1
فكان سياق الكلام على هذا الوجه مفيدا تحريم الضرب العنيف
ناصا وهو متلقى من نظم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "23" سورة الإسراء.
ج / 1 ص -151-
مخصوص
فالفحوى إذا آيلة إلى معنى الألفاظ.
315 - ثم اعتقد كثير من الخائضين في الأول [عزة] النصوص
حتى قالوا [إن] النص في الكتاب قوله عز وجل:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}1 وقوله:
{مُحَمَّدٌ رسول الله}2 وما
يظهر ظهورهما ولا يكاد هؤلاء يسمحون بالاعتراف بنص في كتاب
الله تعالى وهو مرتبط حكم شرعي وقضوا بندور النصوص في
السنة حتى عدوا أمثلة معدودة محدودة منها: قوله صلى الله
عليه وسلم لأبي بردة بن نيار3 الأسلمي في الأضحية لما ضحى
ولم يكن على النعت المشروع:
"تجزئك ولا تجزىء4
أحدا بعدك",
وقوله عليه السلام:
"واغد يا أنيس5 إلى امرأة
هذا فإن اعترفت فارجمها"6 وهذا قول
من لا يحيط بالغرض من ذلك والمقصود من النصوص الاستقلال
بإفادة المعاني على قطع مع انحسام جهات التأويلات وانقطاع
مسالك الاحتمالات وهذا وإن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ ردا
إلى اللغة فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية
والمقالية وإذا [نحن] خضنا في باب التأويلات وإبانة بطلان
معظم مسالك المؤولين استبان للطالب الفطن أن جل ما يحسبه
الناس ظواهر معرضة للتأويلات فهي نصوص وقد تكون القرينة
إجماعا واقتضاء عقل أو ما في معناهما ولو رددنا إلى تتبع
اللفظ فليست جهات الإمكان منحسمة على ما استشهد به هؤلاء
في ابتغاء التنصيص وإنما استد التأويل في الآية التي
متضمنها التوحيد لاعتضادها بمقتضى العقل وكم للحشوية
المشبهة من خبط يناقض حقيقة التوحيد وشفاء الغليل في ذلك
يظهر في باب التأويلات إن شاء الله عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "1" سورة الإخلاص.
2 آية "29" سورة الفتح.
3 أبو بردة بن نيار البلوي الأنصاري خالد البراء بن عازب
اسمه هانئ وقيل: اسمه مالك بن هبيرة وقيل: الحارث بن عمرو.
مات سنة "41" وقيل: "42" وقيل: "45". له ترجمة في: الإصابة
3/596/8926 و 4/18/117, والاستيعاب بهامش الإصابة 4/17-18
وتهذيب التهذيب 12/22/96.
4 البخاري 2/18, ومسلم في: الأضاحي: ب "1", والنسائي
7/223, وأحمد 4/303 و 282 و 298.
5 أنيس: قال ابن السكن: يقال: هو أنيس بن الضحاك. له ترجمة
في: الإصابة 1/77/296.
6 البخاري في: الحدود "30, 32, 34, 38" ومسلم في: الحدود
"25", وأبو داود في: الحدود "25", والترمذي في: الحدود
"8", والنسائي في: القضاة "22", وابن ماجه في: الحدود "7",
والدارمي في: الحدود "12", ومالك في: الحدود "6", وأحمد
4/115 و 116.
ج / 1 ص -152-
316- فأما الشافعي فإنه يسمى الظواهر نصوصا في مجاري كلامه
وكذلك القاضي أبو بكر وهو صحيح في أصل وضع اللغة فإن النص
معناه الظهور يقال نصت الظبية إذا عنت وظهرت ومنه المنصة
لكرسي العروس التي تظهر عليه وهي تجلى ونص الرجل في السير
إذا أسرع فيه وفي الحديث "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسير العنق في إفاضته من عرفة في طريق المأزمين فكلما
وجد فجوة نص".
وهذا الآن كاف في معنى النص.
معنى الظاهر.
317- فأما الظاهر قال القاضي هو لفظة معقولة المعنى لها
حقيقة ومجاز فإن أجريت عى حقيقتها كانت ظاهرا وإذا عدلت
إلى جهة المجاز كانت مؤولة والذي ذكره صحيح في بعض الظواهر
وتبقى من الظواهر أقسام لا تحويها العبارة التي ذكرها فإنه
ذكر تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعل وجه الظهور
الجريان على الحقيقة.
ويخرج مما ذكره المجازات الشائعة المستفيضة في الناس
المنتهية في جريانها حائدة عن الحقيقة إلى منتهى لا يفهم
منها حقيقة موضوعها كالدابة فإنها من دب يدب قطعا وهي على
بناء فاعل مترتب على قياس مطرد في الفعل المتصرف وحملها
على الدبيب المحض حيد عن الظاهر فإنها مختصة بأشياء تدب
فهذا في ظاهره جهة المجاز وتأويله جهة الحقيقة وكذلك
الألفاظ الشرعية كالصلاة وغيرها فحقيقتها في ألفاظ الشرع
من أبعد التأويلات إذا طلب الطالب الحمل عليها.
318- قال الأستاذ أبو إسحاق:1 الظاهر لفظ معقول يبتدر إلى
فهم البصير بجهة الفهم منه معنى وله عنده وجه في التأويل
مسوغ لا يبتدره الظن والفهم ويخرج على هذا ما يظهر في جهة
الحقيقة ويؤول في جهة المجاز وما يجري على الضد منه.
فمن الظواهر إذن مطلق صيغة الأمر فالصيغة ظاهرة في الوجوب
مؤولة في الندب والإباحة كما سبق في القول في محامل الصيغ.
ومنها صيغة النهي المطلقة فهي ظاهرة في التحريم مؤولة إذا
حملت على التنزيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
ج / 1 ص -153-
ومنها
النفي الشرعي المطلق في قوله صلى الله عليه وسلم1:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"
فهي ظاهرة في نفي الجواز مؤولة في نفي الكمال.
ومنها حمل الصيغ المطلقة الموضوعة في اللغة للعموم على وجه
العموم ظاهر مؤول حمله على وجه في الخصوص.
ومنها تلقى المفهوم من التخصيص على الشرط الذي سيأتي
والاستمساك به تعلق بالظاهر وتركه في حكم التأويل.
319- ثم الظهور قد يقع في الأسماء وقد يقع في الأفعال وقد
يقع في الحروف فوقوعه في الأسماء والأفعال بين ووقوعه في
الحروف مثل: "إلى" فإنه ظاهر في التحديد والغاية مؤول في
الحمل على الجمع وهذه معاقد تفصلها التأويلات إن شاء الله
تعالى.
معنى المجمل.
320- فأما المجملات فقد يطلق المجمل على العموم في قولك
أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وأدرجته تحت صيغة جامعة لها.
ولكن المجمل في اصطلاح الأصوليين هو المبهم والمبهم هو
الذي لا يعقل معناه ولا يدرك مقصود اللافظ ومبتغاه من
قولهم أبهمت البئر إذا سددته وردمته ومنه سمى الكمي:
البهمة وهو المقنع المبرقع الذي لا يدري من هو.
321- ثم المجمل على أقسام فقد يكون اللفظ مجمل الحكم
والمحل كقولك لفلان في بعض مالي حق فالحكم وهو الحق مجهول
والمحل وهو بعض المال مجهول.
ومنها أن يكون الحكم مجهولا والمحل معلوما كقوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}2 فالمحل الذي هو مورد الحق معلوم وهو الزرع والحكم الذي وقع
التعبير عنه بالحق مجهول القدر والصفة والجنس.
ومنها ما يكون الحكم منه معلوما والمحل مجهولا: كقول
القائل لنسائه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 آية "141" سورة الأنعام.
ج / 1 ص -154-
إحداكن
طالق أو لعبيده أحدكم حر فالحكم الطلاق والعتاق وهو معلوم
ومحلهما مجهول.
ومنها ما يكون [المحكوم] فيه معلوما والمحكوم له وبه
مجهولين ومنه قوله تعالى:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}1 فالمحكوم فيه القتيل والمحكوم له الولى وهو مجهول وكذلك المحكوم
به مجهول لأن السلطان مجهول في وصفه.
ومن وجوه الإجمال أن يكون اللفظ موضوعا لمعنيين أو أكثر
وعلمنا أن المراد به أحد معانيه وهو مثل العين والقرء
وسائر الألفاظ المشتركة.
ومن وجوه الإجمال أن يكون اللفظ بحيث لو فرض الاقتصار عليه
لظهر معناه ولكنه وصله باستثناء مجهول فانسحب حكم الجهالة
على اللفظ كقوله تعالى:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}2 وهذا لو قدر الاقتصار عليه لكان مفهوما عند من يدريه ثم قال:
{إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}3 فانعكس الإجمال على أول المقال.
ومن وجوه الإجمال أن يرد لفظ موضوعه في اللسان العموم
ولكنا نعلم أن العقل ينافى جريانه على حكم العموم فمقتضى
اللفظ على الإجمال إلى أن ينهى العاقل نظره العقلى.
322- وأما قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}4 فقد تردد جواب الشافعي في أن قوله وأحل الله البيع من المجملات
وسبب تردده أن لفظ الربا مجمل وهو مذكور في حكم الاستثناء
عن البيع والمجهول إذا استثنى من المعلوم انسحب على الكلام
كله إجمال.
والمرضى عندنا أن البيع الذي لا مفاضلة فيه بوجه من الوجوه
مستفاد من قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}5 بلا إجمال وكل صفة اشتملت على جهة من جهات الزيادات فالأمر فيها
على الإجمال فإن الأمر يشعر بالزيادة ولا يحرم كل زيادة.
فهذا كاف في ذكر المجملات وهذا موضوع توطئة وترجمة
والتفصيل محال على باب التأويلات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "33" سورة الإسراء.
2 آية "1" سورة المائدة.
3 الآية السابقة.
4 آية "275" سورة البقرة
5. الآية السابقة
ج / 1 ص -155-
معنى المحكم والمتشابه.
323- فأما
المحكم والمتشابه فقد ذهب عمرو بن عبيد1 وواصل بن عطاء2
إلى أن المحكم الوعيد بالفسقة من مرتكبي الكبائر [بناء على
أصله].
والمتشابه: الوعيد الملتحق بأصحاب الصغائر.
وقال الأصم:3 المحكم ما احتج به البارئ سبحانه وتعالى: من
نعوت الرسول صلى الله عليه وسلم في كبت المنكرين والمتشابه
ما ذكر من نعوته في القرآن وقال بعضهم: المحكم أي القرآن
كلها والمتشابه: الحروف المتقطعه وقيل: المحكم: الناسخ
والمتشابه: المنسوخ وقال أبو إسحاق الزجاج المتشابه أمر
الساعة ووقت وقوعها وما عداه محكم.
وكان المنكرون يحفون في السؤال عنه قال الله تعالى:
{يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}4 وقال:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}5 وكان يقول عليه السلام:6
"ما المسئول عنها بأعلم من السائل" وحمل قوله تعالى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}7 فقال معناه وما يعلم مآله وآخره إلا الله قال ومصداق ذلك قوله في
سورة الأعراف:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}8 يعني القيامة وما فيها.
324- والمختار عندنا أن المحكم كل ما علم معناه وأدرك
فحواه.
والمتشابه هو المجمل وقد سبق معناه.
325- فإن قيل هل بقى في كتاب الله تعالى وقد استأثر الله
تعالى برسوله محمد صلى الله عليه وسلم مجمل قلنا اضطراب
العلماء فيه فمنع مانعون هذا واستروحوا إلى قوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}9
وقال أيضا لو سوغ اشتمال القرآن على مجملات لتطرق إلى
القرآن وجوه من المطاعن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 له ترجمة في: وفيات الأعيان 3/130-133.
2 واصل بن عطاء أبو حذيفة الغزال الألثغ كان تلميذا للحسن
البصري يقرأ عليه العلوم والأخبار. وأتباعه يقال لهم:
الواصلية. الكامل للمبرد 3/921, والملل والنحل 1/46.
3 له ترجمة في: تاريخ بغداد 2/192.
4 آية "187" سورة الأعراف.
5 آية "42" سورة النازعات.
6 البخاري 1/20, و6/144, ومسلم في: الإيمان "1, 5, 7",
وأبو داود في السنة "17" والترمذي "2610", والنسائي في:
الإيمان "5, 6", وابن ماجه "63, 64, 4044", وابن خزيمة
"2244".
7 آية "7" سورة آل عمران.
8 آية "53" سورة الأعراف.
9 آية "3" سورة المائدة.
ج / 1 ص -156-
وقال
قائلون: لا يمتنع اشتمال القرآن على مجملات لا يعلم معناها
إلا الله.
326- والمختار عندنا أن كل ما يثبت التكليف في [العمل به
يستحيل] استمرار الإجمال فيه فإن ذلك يجر إلى تكليف المحال
ومالا يتعلق بأحكام التكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه
واستئثار الله تعالى بسر فيه وليس في العقل ما يحيل ذلك
ولم يرد الشرع بما يناقضه.
وقد نجز ما نحاوله في بيان النص والظاهر والمجمل والمحكم
والمتشابه.
ونحن نفتتح القول فيما يجوز به تخصيص عموم الكتاب والسنة
ونرسم في ذلك مسائل تأتي على تمام الغرض في ذلك إن شاء
الله تعالى.
ما يخصص به عموم الكتاب والسنة.
مسألة:
327- عموم
الكتاب هل يخصص بالخبر الناص الذي نقله الآحاد اختلف في
ذلك الخائضون في هذا الفن فذهب ذاهبون إلى منع ذلك
ومتعلقهم فيه أن الكتاب أصله ثابت قطعا والخبر الذي فيه
الكلام ناقلوه متعرضون للزلل فلا يجوز أن يحكم على الثابت
قطعا بما أصله مشكوك فيه وذهب الفقهاء ال إلى تخصيص عموم
الكتاب بخبر الواحد.
ورأى القاضي الوقف في المحل الذي يتعارض فيه الخبر ومقتضى
لفظ الكتاب فإن أصل الخبر يتطرق إليه سبيل الظنون المراد
بالعموم في الكتاب في مظنة الظنون فضاهى معنى الكتاب في
التعرض [للتردد] أصل الخبر الناص فمن ذلك وجب التوقف في
قدر التعارض وإجراء اللفظ العام من الكتاب في بقية
المسميات.
328- والذي نختاره القطع بتخصيص الكتاب بخبر الواحد فإن
قدوتنا في وجوب العمل بالظاهر المحتمل والخبر المعرض
لإمكان الزلل [سنة] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولولا أنا عثرنا على ذلك من سيرتهم لما كنا نقطع بوجوب عمل
مستند إلى الظنون ونحن نعلم أنهم كانوا يرجعون إلى الخبر
الناص الذي ينقله كل موثوق به في تفسير مجملات الكتاب
وتخصيص الظواهر ويجرون ذلك مجرى التفسير ومن أبدى في ذلك
ريبا كان غير واثق بوجوب العمل بأخبار الآحاد.
ج / 1 ص -157-
وما
ذكره القاضي وإن كان متجها في مسلك العقل فالمتبع في وجوب
العمل ما ذكرناه ومن شك في أن الصديق رضي الله عنه لو روى
خبرا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في تخصيص عموم الكتاب
لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول فليس على دراية في قاعدة
الأخبار على ما سيأتي إن شاء الله.
مسألة:
329- اضطرب الناس في تخصيص عموم الكتاب بالقياس على
النحو المتقدم ومذهب القاضي الوقف كما سبق.
330- والمختار عندنا في هذه المسألة الوقف فإنا وجدنا
[فيما سلف] معتصما مقطوعا به في مصير أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الخبر الذي ينقله النقلة في معارضة
اللفظ العام من الكتاب ولسنا نجد مثل هذا في القياس ولا
يستتب لنا دعوى القطع في تقديم أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم القياس على عموم الكتاب وإذا تعارض الأمر في
مسالك الظنون كما ذكره القاضي ولم نجد أمرا مثبوتا سمعيا
فيتعين الوقف ثم يحصل من الوقف ما يحاوله الفقيه إذا قدر
التعارض فيه وإذا وقف فيه فقد سقط الاعتصام به من لفظ
الكتاب ومقصود الفقيه بما يستمسك به من التخصيص شيئان:
أحدهما: إسقاط الاحتجاج بما يعارضه القياس من الظاهر وهذا
يستوي فيه المخصص والواقف.
والثاني: الدعاء إلى العمل بالقياس الذي عارضه الظاهر وهذا
ينكره الواقف وفيه يختلف المسلكان.
مسألة:
331- تخصيص الخبر العام المتواتر بالقياس أو الخبر
الناص الذي نقله الآحاد كتخصيص عموم الكتاب بهما وقد مضى
القول فيه.
فأما تخصيص خبر الواحد العام بالقياس ففيه الخلاف المقدم
ورأينا الوقف.
ولا وقع لسبق الناظر إلى اجتماع جهتين من الظن في أصل
الخبر وفحواه فإنهما جميعا ينقدحان في القياس ولو لم يظهر
إلا وجه واحد في الظن كفى ذلك في اقتضاء الظن الوقف ولسنا
نجد أمرا مقطوعا به سمعيا [في أصل الخبر وفحواه] ثم ما
أطلقناه من العموم وما ذكرناه من إطلاق القياس كلام مجمل
وتفصيله في.
ج / 1 ص -158-
كتاب
التأويل. وكم من لفظ يراه كثير من الناس عاما ولا عموم له
عند ذوي التحقيق وكم من لفظ يعتقده الفقهاء ظاهرا وهو عند
[ذوي] التحقيق نص.
فهذه الجمل ذكرناها مبهمة وتحقيقها على التفصيل محال على
باب التأويلات.
332- وذكر الأصوليون في انتظام هذا الفن من الكلام التردد
في التخصيص بمذهب الصحابي وهذا سنذكره في كتاب الاجتهاد
عند ذكرنا أن أقوال الصحابة إذا لم يستمر الاجتماع فيها هل
[تكون] حجة أم لا ونذكر تفاصيل الخلاف والوفاق في هذا
النوع.
مسألة في حمل المطلق على المقيد:
333- الوجه تنزيل هذه المسألة على مثال أولا حتى إذا
جرت المسألة في صورة ذكرنا اختلاف المذاهب في العبارات عن
ضبط صور الخلاف والوفاق ثم نذكر معتمد كل مذهب ونتتبع
بالنقض كل ما لا يصح ونجرى على دأبنا في إثبات الصحيح بعد
البحث عن المسالك الفاسدة فنقول ذكر الله تعالى الرقبة في
كفارة القتل وقيدها بالإيمان فقال:
{فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}1 وذكر
الرقبة في كفارة الظهار مطلقة ولم يقيدها بالإيمان فقال:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}2 فاضطربت الاراء.
فرأى الشافعي تنزيل الرقبة المطلقة في كفارة الظهار على
التقييد بالإيمان في كفارة القتل ثم اضطربت أصحابه في
تأويل مذهبه فذهب ذاهبون إلى أن المطلق محمول على المقيد
بحكم اللفظ ومقتضى اللسان ولا حاجة إلى استنباط قياس
وإبداء تأويل للمطلق مقيد وهؤلاء يزعمون أن نفس المقيد
يوجب تقييد المطلق.
وصار صائرون إلى أن المطلق يحمل على المقيد بقياس مستجمع
لشرائط الصحة يقتضي الجمع بين المطلق والمقيد.
334- ثم فصل نقلة المذاهب القول وجعلوه ثلاثة أقسام وعبروا
عن التقاسيم بعبارتين فقال قائلون إذا اجتمع المطلق
والمقيد في واقعة واحدة فالمطلق محمول على المقيد وفاقا
وإن وقعا في واقعتين متباعدتين فلا حمل ومثلوا هذا بتقييد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "92" سورة النساء.
2 آية "3" سورة المجادلة.
ج / 1 ص -159-
الشهادة بالعدالة وجريان ذكر الرقبة في الكفارة مطلقا معرى
عن ذكر العدالة والأصلان متباعدان لا يجمعهما مأخذ فلا
يحمل المطلق [في أحدهما] على المقيد في الثاني فإن قربت
الواقعتان بعض القرب ولم يبعد في مأخذ الظنون تلاقيهما
ككفارة الظهار وكفارة القتل فهذا موضع الخلاف فالذي يراه
الشافعي حمل المطلق على المقيد في مسألة الخلاف المقدم بين
أصحابه.
وهذه العبارة عن الأقسام المشتملة على صور الوفاق والخلاف.
335- وذكر آخرون عبارة أقرب من هذه فقالوا: إذا جرى إطلاق
وتقييد واتحد قبيل الموجب والموجب فليس إلا حمل المطلق على
المقيد مثل أن تطلق الرقبة في كفارة القتل وتفرض مقيدة في
مواضع أخر فإذا اختلف الموجب والموجب فلا حمل كالشهادة
والكفارة.
وإذا اختلف الموجب واتفق صنف الموجب مثل كفارة القتل
وكفارة الظهار فهذا موضع التردد.
336- وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا حمل الرقبة
المطلقة في كفارة الظهار على الرقبة المقيدة بالإيمان في
كفارة القتل وبنوا حقيقة أصلهم في ذلك على قاعدة لهم في
النسخ.
والمسألة حرية بأن تذكر في مسائل النسخ وهي مناسبة لأحكام
العموم والخصوص فابتدرناها في كتاب العموم والخصوص ونحن
الآن ننبه على ما تخيلوه أخذا من النسخ.
قالوا: قوله في كفارة الظهار:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}1 مقتضى الآية إجزاء الرقبة المطلقة فمن قيدها بالإيمان كان زائدا
على النص والزيادة على النص نسخ ووجه ادعائهم كونها نسخا
أن مقتضى الخطاب يتضمن الإجزاء مع الإطلاق والزائد يرفع
الإجزاء في الإطلاق وهو متضمن الآية فاقتضت الزيادة رفع ما
تضمنه الإطلاق من الإجزاء فكان ذلك نسخا من هذه الجهة ولا
يدعى محقق أن الزيادة اقتضت نسخا على الإطلاق إذا لم تكن
مرتبطة بالمزيد عليه بعض الارتباط ووجه الارتباط ما أشرنا
إليه من أن اقتضاء الإطلاق الإجزاء دون رعاية صفة في
الرقبة فمن زاد صفة كان مدعيا نسخا في الإجزاء المتلقى من
مطلق الخطاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "3" سورة المجادلة.
ج / 1 ص -160-
ولا
امتناع في نسخ القرآن على الجملة ولكنه لا يثبت نسخ القرآن
بأخبار الاحاد والمقاييس المظنونه وليس مع من شرط الإيمان
في رقبة الظهار ما يجوز نسخ القرآن به فهذا منتهى كلام
القوم.
337- ومن ادعى من أصحاب الشافعي وجوب حمل المطلق على
المقيد من طريق اللفظ لم يذكر كلاما به اكتراث وأقرب طريق
لهؤلاء أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد وحق الخطاب
الواحد أن يترتب المطلق فيه على المقيد وهذا من فنون
الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله تعالى مختلفة
متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم
الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم
كلام واحد مع العلم بأن في كتاب الله تعالى النفي والإثبات
والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمرا عظيما ولا
يغني في مثل ذلك الإشارة إلى اتحاد الكلام الأزلي ومضطرب
المتكلمين على الألفاظ وقضايا الصيغ وهي مختلفة لا مراء
فيها فسقط هذا الفن ولم يبق بعد سقوطه إلا مسلكان.
أحدهما ما ادعاه أصحاب أبي حنيفة من أن الزيادة على النص
نسخ واستقصاء القول في ذلك يأتي في كتاب النسخ.
338- ولكنا نذكر الآن [حظ] حكم العموم والخصوص من هذه
المسألة وفيه مقنع وبلاغ ونحصر ما نحاوله في ثلاثة أوجه من
الكلام أحدهما يحوي مناقضات الخصوم بحيث لا يجدون عنها
محيصا وإذا وجهت عليهم سكتوا لها مقرين بالحق أو نطقوا
بالصدق فمما يلزمهم اشتراطهم سلامة الرقبة عن كثير من
العيوب وهذا تقييد منهم للمطلق وليقع الإلزام في صفات لم
يرجعوا في اشتراطها إلى قاطع كمصيرهم إلى اشتراط نطق
الرقبة وامتناع إجزاء الأخرس مع تجويزهم إعتاق الأقطع الذي
بقيت له يد فإن هذي هاذون [منهم] وزعموا أن الرقبة يقتضي
إطلاقها كمال الخلقة والسلامة مستفادة من إطلاق الرقبة قيل
هذا مما لا يرضاه منتسب إلى التحقيق فإنا على اضطرار نعلم
أن اسم الرقبة ينطلق على المعيبة انطلاقه على السليمة ولو
كانت تسمية الرقبة المعيبة رقبة مجازا لكان تسميتها إنسانا
وآدميا مجازا ولا ينتمي إلى التزام هذا المذهب ذو مسكة في
عقله ولو أردنا أن نضرب الأيمان في البر والحنث ومجاري
إطلاق الألفاظ وجدنا مقالا ومجالا ثم نقول لم أجزأ الأقطع
والرقبة مطلقة؟ ولم امتنع إجزاء الأخرس والخلقة كاملة؟
وكيف يرجو الخلاص من مثل هذا الخبط ذو فهم؟ وقد قيد هؤلاء
[ذوي] القربى.
ج / 1 ص -161-
بالفقر
والاستحقاق في قوله تعالى:
{وَلِذِي
الْقُرْبَى}1 ولم يعتصموا في هذا التقييد بقاطع يجوز نسخ القرآن بمثله فهذا أحد
الوجوه الثلاثة.
339- والوجه الثاني أن نقول أتدعون أن ذكر الرقبة على
الإطلاق نص في إجزاء كل رقبة حتى لو تخيل متخيل اختصاص
الإجزاء ببعض الرقاب كان خارما لمقتضى النص خارجا عن
الفحوى المقطوع بها؟ أم ترون فهم الإجزاء مظنونا متلقى من
الظاهر فإن ادعوا كونه قاطعا بحيث لا يتطرق إليه التأويل
كان ذلك بهتانا ومعاندة في مسلك العقول فإن الرب تعالى ذكر
الرقبة مطلقة وذكر الطعام والكسوة على الإطلاق ولم يتعرض
لتفصيلها وإنما استاقها استياقا لا يشتمل على التزام
البيان والتفصيل كما جرى ذلك في قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}2 وقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}3
وقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}4
فهذه الآي لتأصيل الأصول ولا يمتنع أن يقع البيان في
التفاصيل بعد استفادة التأصيل ووضوح احتمال ما ذكرناه يغنى
اللبيب عن البسط في ذلك.
وإن اعترفوا بأن الإجزاء ظاهر فقد كفونا المؤنة وأقروا
بالحق فإن إزالة الظاهر ليس في حكم النسخ وهذا هو الوجه
الثاني من الكلام.
340- والوجه الثالث أن الرقبة المطلقة تعم كل رقبة فحملها
على خصوص من الرقاب عين التخصيص وقد قسم المحصلون التخصيص
قسمين أحدهما قصر على بعض المسيمات من غير فرض تمييز ما
وقع القصر عليه من غيره بصفات كحمل قوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}5 على ثلاثة منهم والقسم الثاني تخصيص تمييز وهو حمل المطلق
المتناول في الإطلاق للمختلفات على مسميات متيزة بصفات عن
أغيارها كحمل المشركين على أهل الحرب دون المهادين وأهل
الذمة وكحمل السرقة على إخراج مخصوص من محل مخصوص في مقدار
مخصوص وعلى الجملة المطلق يتناول المختلفات تناول عموم على
ظهور لا على [تنصيص لا] يتطرق إليه إمكان تأويل.
341- وإذا لاح ما ذكرناه بنينا عليه ما نختاره ونقول لا
يحمل المطلق عندنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "7" سورة الحشر.
2 آية "38" سورة المائدة.
3 آية "2" سورة النور.
4 آية "5" سورة التوبة.
5 آية "60" سورة التوبة.
ج / 1 ص -162-
على
المقيد لا في حكم الإطلاق ولا في حكم التقييد ولكن المطلق
عام يتصرف فيه بما يتصرف بمثله في العمومات فإن لاح تأويل
واعتضد بدليل وترتب على الشرط الذي سنذكره في باب التأويل
وأثر ظهور الدليل العاضد للتأويل على ظهور العام حكم به
كان المقيد أو لم يكن فليس في تقييد الحكم بمجرده ما يوجب
حمل المطلق على المقيد نعم إن انقدح قياس على المقيد يتسلط
مثله على التخصيص إما على حكم المعارضة كما ارتضيناه إذ
صرنا إلى الوقف أو على حكم القضاء بالتخصيص كما صار إليه
الجمهور [كان] ذلك [أحد] ما يتمسك به ولا معنى لاشتراطه
واقعا في ألفاظ الشرع فكم من عموم خص وليس على وفق ذلك
التخصيص حكم مقيد في لفظ الشرع فإن التخصيص مستند إلى خبر
الواحد على قطع كما سبق ذلك في اختيارنا ويستند عند معظم
الفقهاء إلى القياس الجلي ولا يطيب التصرف في تفصيل ذلك
إلا في أبواب التأويل.
342- فإن قيل فما معتمدكم في اشتراط ذكر الإيمان في الرقبة
في كفارة الظهار فهل ترون القياس على كفارة القتل قلنا هذا
الآن ليس من شرط هذا الفن فإن غاية مقصودنا أن نلحق الكلام
على المطلق بتخصيص العموم وندرجه في مسالك الظنون وقد ثبت
ذلك قطعا وانتفى المراء عنه وليس من شرطنا وراء ذلك تفصيل
مسالك الظنون فإنه محض الفقه.
وقد نجز غرضنا في هذه المسألة بذلك وفيها طرفان يستقصى
أحدهما في كتاب النسخ عند ذكرنا وراء ذلك تفصيل القول في
الزيادة على النص والثاني في باب التأويلات وقد توضح فيها
أن الرقبة في الاية التي فيها الكلام ليس لها حكم العموم
أيضا وما سيقت قصدا إلى تعميم كل رقبة وإنما أثبتت مع سائر
خلال الكفارات ذكرا لتراجم الأصناف مع إحالة البيان على
صاحب الشرع وهذا يأتي على أحسن وجه إن شاء الله.
مسألة:
343- الصحابي إذا روى خبرا وعمل بخلافه فالذي ذهب إليه
الشافعي أن الاعتبار بروايته لا بعمله.
344- وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز الاحتجاج بما رواه إذا
كان عمله مخالفا له.
ج / 1 ص -163-
345- والذي نرضاه أن نفصل القول فيما أتاه ورواه فنقول إن
تحققنا نسيانه لما رواه فلا يتخيل عاقل في ذلك خلافا ولا
شك أن العمل بروايته وإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج والحجر
فيما كان يظن فيه التحريم والحظر ثم رأيناه يتحرج
فالاستمساك بروايته أيضا وعمله محمول على الورع والتعلق
بالأفضل وإن ناقض عمله روايته مع ذكره لها ولم يحتمل محملا
في الجمع فالذي أراه امتناع التعلق بروايته فإنه لا يظن
بمن هو من أهل الرواية أن يعتمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت
يوجب المخالفة.
واللفظ الوجيز فيه: أنه إن فعل ماله فعله فالاحتجاج بما
رواه وإن فعل ما ليس له أن يفعله أخرجه ذلك عن رتبة الثقة
وأدنى المنازل فيه أن يجر إلى مرويه ظنونا متعارضة في
الدين يقتضي الوقف بعضها.
346- وكل ما ذكرناه غير مختص بالصحابي فلو روى بعض الأئمة
حديثا وعمله مخالف له فالأمر على ما فصلناه.
347- وقد اعترض للأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة
لروايتهم وهذه كرواية أبي حنيفة خبر خيار المجلس مع مصيره
إلى نفى خيار المجلس فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية
من جهة أنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر فمخالفته
محمولة على انتحاله هذا الرأي الفاسد وهو بين من فحوى
كلامه.
ومن رواة الحديث مالك بن أنس وهو لا يقول بخيار المجلس
ولكن الصحيح عنه أن الذي حمله على هذا تقديمه عمل أهل
المدينة على الأخبار الصحيحة والنصوص الصريحة فمهما جرى
شيء من قبيل ما ذكرناه فالتعويل على الحديث المروي فإن روى
الراوي خبرا وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه ورب حامل فقه
غير فقيه فمخالفته لا أثر لها في الرواية.
والضابط للنفي والإثبات ما أجريناه في درج الكلام حيث قلنا
إن وجدنا محملا للفعل غير احتمال للمخالفة فالتعلق
بالرواية وإن لم نجد محملا إلا المخالفة فيمتنع التعلق
بالحديث.
348- فإن قالوا: رتبتم الكلام قبولا وردا على تحقيق
النسيان والذكر فما تقولون إذا لم يتحقق واحد منها؟ قلنا:
الوجه والحالة هذه التعلق بالمروى فإنه من أصول الشريعة
ونحن على تردد فيما يدفع التعلق به فلا يندفع الأصل بسبب
هذا.
ج / 1 ص -164-
التردد
نعم إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم نتحققه فهذا
يعضد التأويل ويؤيده ويحقق معتضده من الدليل ويحط مرتبة
الظاهر كما سيأتي.
349- ولو روى الصحابي خبرا وأوله وذكر محمله فتأويله مقبول
عند الشافعي1 ولذلك تعلق بتأويل عمر بن الخطاب2 رضي الله
عنه في قوله عليه السلام:3
"لا تبيعوا الورق بالورق إلا هاء وهاء" فذكر الشافعي أربعة أوجه في معنى اللفظ وقدم فيها التقابض في
المجلس لحمل عمر رضي الله عنه "راوي الحديث" اللفظ عليه
وهذا يتعلق به كلام من أحكام التأويل سيأتي مشروحا.
350- ولو روى راو وكان إذ روى عدلا ثم فسق بعد روايته
وتخلل زمن لا يغلب على الظن انعطاف غوائل الفسق على حال
الرواية ثم إنه في زمن فسقه خالف ما رواه فلا أثر لمخالفته
فإنه محمول على تجريه لا على محمل عنده في الحديث فهذا
منتهى الغرض في ذلك.
مسألة:
351- إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان
ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في
بعض المسميات:.
فالذي رآه الشافعي: أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ
الشارع.
وقال أبو حنيفة: العرف من المخصصات وهو مغن عن التأويل
والمطالبة بالدليل.
وضرب العلماء لذلك مثالا وهو: نهيه عليه السلام عن بيع
الطعام بالطعام فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة: أن الطعام في
العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ما جرى العرف فيه.
352- وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه
ولو قدر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 عمر بن الخطاب القرشي العدوي أمير المؤمنين. كان من
قديمي الإسلام والهجرة, وممن صلى إلى القبلتين وشهد
المشاهد كلها وأول من تسمى بأمير المؤمنين, وأخباره في
الحلم والعلم والفهم كثيرة. قتل سنة "23". له ترجمة في:
الإصابة 2/511, وأسد الغابة 4/145, وشذرات الذهب 1/33.
3 البخاري 3/97, ومسلم في: المساقاة ب "74", رقم "75",
والترمذي "1241", والنسائي 7/287, والبيهقي 5/276 و 277 و
10/157.
ج / 1 ص -165-
ذلك
مسلما لهم بمجرد العرف فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصا فإن
القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير
وضع اللغات ومقتضى العبارات.
فإن قالوا: الناس مخاطبون على أفهامهم قلنا فليفهموا من
اللفظ مقتضاه لاما تواضعوا عليه ولو تواضع قوم على تخصيص
أو تعميم ثم طرقهم اخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا
يلتزمون أحكام تواطئهم فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع
المتعاملين وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على
اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ
التي خوطبوا بها والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول
صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة
أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على
موجب اللسان وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع
وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا
يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه.
وقد انتجز الكلام في قضية الألفاظ العامة والخاصة وما
يقتضي التخصيص ومالا يقتضيه على الجملة والتفصيل محال على
باب التأويل ونحن نرى الآن أن نذكر قولا بالغا في مفهوم
الخطاب ليكون جامعا بين المنطوق به وبين المسكوت عنه ثم
إذا انتهى القول فيه استفتحنا باب التأويل مستعينين بالله
تعالى.
فصل: القول في المفهوم.
353- ما
يستفاد من اللفظ نوعان أحدهما متلقى من المنطوق به المصرح
بذكره والثاني ما يستفاد من اللفظ وهو مسكوت عنه لا ذكر له
على قضية التصريح.
فأما المنطوق به فينقسم إلى النص والظاهر وقد قدمنا فيهما
تأصيلا وتفصيلا ما يقنع الناظر ولم يندرج المجمل في هذا
التفسير لأنا حاولنا تقسيم ما يفيد وأما ما ليس منطوقا به
ولكن المنطوق به مشعر به فهو الذي سماه الأصوليون المفهوم
والشافعي قائل به وقد فصله في الرسالة أحسن تفصيل ونحن
نسرد معاني كلامه.
354- فمما ذكره أن قال: المفهوم قسمان: مفهوم موافقة,
ومفهوم مخالفة.
ج / 1 ص -166-
أما
مفهوم الموافقة: فهو ما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه
موافق للحكم في المنطوق به من جهة الأولى وهذا كتنصيص الرب
تعالى في سياق الأمر ببر الوالدين على النهي عن التأفيف
فإنه مشعر بالزجر عن سائر جهات التعنيف.
وأما مفهوم المخالفة فهو ما يدل من جهة كونه مخصصا بالذكر
على وجه سيأتي الشرح عليه على أن المسكوت عنه مخالف للمخصص
بالذكر كقوله عليه السلام:
"في سائمة الغنم الزكاة" هذا التخصيص يشعر بأن المعلوفة لا زكاة فيها.
وذكر الأستاذ أبو بكر بن فورك في مجموعاته فصلا لفظيا بين
قسمى المفهوم فقال ما دل على الموافقة فهو الذي يسمى مفهوم
الخطاب وما دل على المخالفة فهو الذي يسمى دليل الخطاب
وهذا راجع إلى تلقيب قريب.
وذهب أبو حنيفة إلى نفي القول بالمفهوم ووافقه جمع من
الأصوليين.
355- وأما منكرو صيغ العموم ولما يتطرق إليها من تقابل
الظنون فلا شك أنهم ينكرون المفهوم فإن تقابل الظنون فيه
أوضح وهو بالتوقف أولى.
وشيخنا أبو الحسن مقدم الواقفية وقد نقل النقلة عند رد
الصيغة والمفهوم وفي كلامه ما يدل على القول بالمفهوم فإنه
تعلق في مسألة الرؤية بقوله سبحانه:
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}1 وقال [لما] ذكر الحجاب على إذلال الأشقياء أشعر ذلك بنقيضه في
السعداء وقد تحققت على طول بحثي عن كلام أبي الحسن أنه ليس
من منكري الصيغ على ما اعتقده معظم النقلة ولكنه قال في
مفاوضة مع أصحاب الوعيد بإنكار الصيغ وال مذهبه إلى إنكار
التعلق بالظواهر فيما ينبغي القطع فيه ولا نرى له المنع من
العمل بقضايا الظواهر في مظان الظنون.
نعم باح القاضي بجحد الصيغ في المواضع التي تقدم ذكرها في
العقليات والعلميات وصرح بنفي المفهوم.
356- ثم من أنكر المفهوم لم يجحد ما يسمى الفحوى في مثل
قوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}2 ثم اضطربوا فيه فقال قائلون كل ما دل من جهة الموافقة من حيث أشعر
الأدنى بالأعلى فهو معترف به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "7" سورة المطففين.
2 آية "23" سورة الإسراء.
ج / 1 ص -167-
وذهب
المنتمون إلى التحقيق من هؤلاء إلى أن الفحوى الواقعة نصا
مقبولة قطعا وليس ثبوتها من جهة إشعار الأدنى بالأعلى ولكن
مساق قوله تعالى:
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}1 إلى
مختتم الآية مشتمل على قرائن في الأمر بالتناهي في البر
يدل مجموعها إلى تحريم ضروب التعنيف وليس يتلقى ذلك من محض
التنصيص على النهي عن التأفيف إذ لا يمتنع في العرف أن
يؤمر بقتل شخص وينهى عن التغليظ عليه بالقول والمواجهة
بالقبيح وضابط مذهب هؤلاء أن المقطوع به يستند إلى قرائن
مجتمعة ولا سبيل إلى نفى القطع وما يتطرق إليه الظنون فهو
من المفهوم المردود عندهم وإن كان مقتضيا للموافقة عند
القائلين بالمفهوم.
357- ومما تردد فيه من رد المفهوم الشرط وأبوابه فذهب
الأكثرون إلى الاعتراف باقتضاء الشرط وتخصيص الجزاء به
وغلا غالون بطرد مذهبهم في رد اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء
به وهذا سرف عظيم.
358- ومن قال بالمفهوم حصر مفهوم الموافقة في إشعار الأدنى
في قصد المتكلم بالأعلى ثم ينقسم ذلك إلى ما يقع نصا وإلى
ما يقع ظاهرا فالواقع نصا كالمتلقى من قوله:
{فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ}2 وما يقع ظاهرا كقوله:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}3 فقال الشافعي تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل على أن
إيجابها في قتل العمد أولى وهذا الذي ذكره ظاهر غير مقطوع
به إذ يتطرق إليه إمكان اخر سوى ما ذكره الشافعي من إشعار
الأدنى بالأعلى.
359- فأما مفهوم المخالفة فقد حصره الشافعي في وجوه من
التخصيص منها التخصيص بالصفة كقوله4:
"في سائمة
الغنم زكاة"5 وكقوله
عليه السلام6:
"ليّ الواجد7 ظلم"
ومنها التخصيص بالعدد والتقدير والتخصيص بالحد والتخصيص
بالمكان والزمان وظاهر هذه التخصيصات في هذه الجهات يتضمن
نفى المسكوت عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "83" سورة البقرة, و"36" سورة النساء, و"151" سورة
الأنعام, و"23" سورة الإسراء.
2 سبقت.
3 آية "92" سورة النساء.
4 سبق تخريجه.
5 سائمة الغنم:
6 أبو داود "3628", والنسائي 7/316, 317 رقم "4689, 4690",
وابن ماجه "2427", وأحمد "4/222, 316, 317, 388, 389",
وابن حبان "7/223/5066", والحاكم "4/102" وقال: صحيح
الإسناد, والبيهقي 6/51.
7 لي الواجد: مطله, والواجد: القادر على الأداء.
ج / 1 ص -168-
في
الأمر المقصود في المخصص المنطوق به ونص رضي الله عنه على
أن تخصيص المسميات بألقابها يتضمن نفى ما عداها.
وذهب أبو بكر1 الدقاق من أئمة الأصول إلى أن التخصيص
بالألقاب ظاهر في نفي ما عدا النصوص عليه وقد صار إلى ذلك
طوائف من أصحابنا.
وما ذكره الشافعي2 من حصر القول بالمفهوم في الجهات التي
عدها من التخصيصات حق متقبل عند الجماهير ولكن لو عبر معبر
عن جميعها بالصفة لكان ذلك منقدحا فإن المعدود والمحدود
موصوفان بعدهما وحدهما والمخصوص بالكون في مكان وزمان
موصوف بالاستقرار فيهما فإذا قال القائل زيد في الدار
فإنما يقع خبرا ما يصلح أن يكون مشعرا عن صفة متصلة بظرف
زمان أو بظرف مكان والتقدير مستقر في الدار أو كائن فيها
والقتال واقع يوم الجمعة فالصفة تجمع جميع الجهات التي
ذكرها ومن ينكر المفهوم فإنه يأبى القول في جميع هذه
الوجوه.
ونحن الآن نعقد مسألتين تشتمل إحداهما على تعارض القائلين
بالمفهوم ومنكريه [وتحتوي] على ما نختاره فيه وتشتمل
الثانية على مكالمة الدقاق3 وإبداء السر في التخصيص
بالألقاب فلتقع البداية بالمسألة الأولى:.
مسألة.
360- يذكر وجوه احتجاج القائلين بالمفهوم ونتتبع ما لا
نرضى منها بالإفساد ثم نعقبها بوجه الحق.
فمن طرقهم أنه صار إلى القول بالمفهوم أئمة العربية منهم
أبو عبيدة4 معمر بن المثنى وهو إمام غير مدافع ولئن ساغ
الاحتجاج بقول أعرابي جلف من.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو بكر الدقاق هو: محمد بن محمد بن جعفر البغدادي
المعروف بـ"الدقاق" ويلقب بـ"خباط". قال الشيخ أبو إسحاق:
كان فقيها أصوليا. وقال الخطيب" كان فاضلا عالما بعلوم
كثيرة وله كتاب في "الأصول" في مذهب الشافعي. توفى سنة
"392", له ترجمة في: تاريخ بغداد 3/229, وطبقات الشيرازي ص
"118", وطبقات الشافعية 1/253/475.
2 سبقت ترجمته.
3 سبقت ترجمته.
4 أبو عبيدة معمر بن المثنى اللغوي البصري مولاهم. كان
أعلم من الأصمعي وأبي زيد بالأنساب والأيام. قال ابن
قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العرب وأخبارها. مات
سنة"112". له ترجمة في: تاريخ بغداد 13/252, وشذرات الذهب
2/24, والعبر 1/359, ووفيات الأعيان 4/323.
ج / 1 ص -169-
الأقحاح فالاحتجاج بقول أبي عبيدة أولى وقد قال في قول
الرسول صلى الله عليه وسلم1:
"مطل الغنى ظلم"
يدل على أنه لا ملام على المقتر وقد قال في قوله عليه
السلام2:
"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا" وهذا يدل على توبيخ من لا يعتني بغير الشعر فأما من جمع إلى علومه
علم الشعر فلا يلام عليه والشافعي من القائلين بالمفهوم
وقد احتج [بقوله] الأصمعي3 وصحح عليه دواوين الهذليين.
وهذا المسلك فيه نظر فإن الأئمة قد يحكمون على اللسان عن
نظر واستنباط وهم في مسالكهم في محل النزاع مطالبون
بالدليل والأعرابي ينطقه طبعه فيقع التمسك بمنظومه ومنثوره
ولا يعدم من يتمسك بهذه الطريقة المعارضة وقصارى الكلام
تجاذب ونزاع واعتصام بنفس المذهب.
361- طريقة أخرى لمثبتي المفهوم قالوا وردت أخبار نقلها
آحاد وهي لو جمعت لالتحق معناها بالمستفيض4 الذي لا يستراب
فيه وسبيله سبيل الحكم بجود حاتم5 وشجاعة علي والأقاصيص
المأثورة عنهما أفراد ثم نقل هؤلاء جملا من أخبار الآحاد
وزعموا أنها تشعر بإثبات القول بالمفهوم فمما ذكروه ما روى
عن يعلى6 بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب7 ما بالنا نقصر
وقد أمنا وأشار إلى قوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري 2/123 و155, ومسلم في: المساقاة "33" وأبو داود
في: البيوع "10", والترمذي "1308 و1309", والنسائي 7/317,
وابن ماجه "2404", وأحمد 2/71 و 260 و 380 و 463 و 465.
2 البخاري 8/45, ومسلم في: الشعر "7, 8, 9, 10", وأبو داود
"5009", والترمذي "2851, 2852", وابن ماجه "3759, 3760",
وأحمد 1/175, 177, 2/39, والبيهقي 10/244.
3 الأصمعي هو: عبد الملك بن قريب, وفد اشتهر بلقبه, وكان
أتقن القوم وأعلمهم بالشعر, وأحضرهم حفظا. له ترجمة في:
وفيات الأعيان 1/288, والفهرست "55", وإنباه الرواة 2/197,
وشذرات الذهب 2/36.
4 المستفيض: سمي بذلك لانتشاره, من فاض الماء يفيض فيضا.
"أصول الحديث" ص "364".
5 حاتم هو: ابن عبد الله من قبيلة طيء, ويكنى أبو سفانة
وهو من أجود العرب, وله أخبار في السخاء مشهورة حتى جرى
ذكره مجرى الأمثال, فيقال: أجود من حاتم طي. مات سنة
"506م". له ترجمة في: خزانة الأدب 1/494, والشعر والشعراء
"123", ومروج الذهب 3/327.
6 يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي الحنظلي حليف
قريش, وهو الذي يقال له: يعلى بن منية – بضم الميم, وسكون
النون -, وهي أمه وقيل: أم أبيه جزم بذلك الدارقطني. قال
ابن سعد: شهد حنينا والطائف وتبوك. وقال أبو أحمد الحاكم:
كان عامل عمر على نجران. له ترجمة في: الإصابة 3/668-669.
7 سبقت ترجمته.
ج / 1 ص -170-
تعالى:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ}1 فقال
لقد تعجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال:
"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"2.
362- ونحن لا نتجاوز خبرا من متمسكاتهم حتى نورد من طريق
التفصيل عليهم ما يسقط معتصمهم فنقول على هذا الحديث قد
كان ثبت وجوب الصلاة أربعا في غير حالة الخوف [واستقر
الشرع عليه وورد القصر مخصوصا بحالة الخوف] فاعتقدوا وجوب
الإتمام في غير حالة الخوف على ما تمهد الشرع عليه فلم يكن
[ذلك] قولا بالمفهوم والذي يحقق ذلك أنه لو فرض مع ما تقدم
تخصيص بلقب لكان ما عدا المخصوص مقرا على ما استمر الشرع
عليه قبل ذلك وإن لم يكن للألقاب مفهوم على أن الآية اقتضت
التخصيص على صيغة الشرط فإنه تعالى قال:
{إِنْ خِفْتُمْ} وقد
قال بتخصيص الشرط معظم من أنكر المفهوم.
363- ومما تعلقوا به قوله تعالى:
{سْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}3 قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لأزيدن على السبعين"4 قلنا هذا لم يصححه أهل الحديث أولا5 وقد قال القاضي رضي الله عنه:
من شدا طرفا من العربية لم يخف عليه أن قول الله تعالى لم
يجر تحديدا بعدد على تقدير أن الزائد عليه يخالفه وإنما
جرى ذلك مويسا من مغفرة المذكورين وإن استغفر لهم [ما يزيد
على السبعين] فكيف يخفى مدرك هذا وهو مقطوع به عمن هو أفصح
من نطق بالضاد؟.
364- وما يطلقونه من هذا الفن ما روى أن ابن عباس6 كان لا
يرى حجب الأم من الثلث إلى السدس باثنين من الإخوة
والأخوات ويحتج بقوله تعالى:
{فَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "10" سورة النساء.
2 مسلم في: صلاة المسافرين: ب "1": حديث "4" وأبو داود
"119 و 1209", والترمذي "3034" وابن ماجه "1065", والنسائي
3/117, وأحمد 1/25 و 36.
3 آية "80" سورة التوبة.
4 البخاري 6/85 و 86, ومسلم في: فضائل الصحابة "25" وصفات
المنافين: المقدمة "3".
5 هذا القول مدفوع برواية الشيخين له.
6 ابن عباس هو: عبد تالله بن عبد المطلب ابن عم الرسول صلى
الله عليه وسلم, وحبر الأمة, وترجمان القرآن, وسمي البحر
لسعة علمه. مات بالطائف سنة "سبعين". له ترجمة في: الإصابة
1/322, وأسد الغابة 3/290, والنجوم الزاهرة 1/182.
ج / 1 ص -171-
كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}1
وكان يرى أن الأمر في الاثنين بخلاف الإخوة وقال لعثمان2
رضي الله عنه محتجا عليه: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك,
قلنا: أولا انفراده بهذا المذهب ومخالفته جملة الصحابة
يعارض احتجاجه وقد قيل إنه لما قال لعثمان ليس الأخوان
إخوة في لسان قومك قال له عثمان ردا عليه إن قومك حجبوها
باثنين يا صبي ثم قد تمهد للأم الثلث بالنص ثم استبان ردها
إلى السدس في حالة مخصوصة فرأى ابن عباس3 تقرير ما عدا تيك
الحالة على ما تمهد مطلقا قبل الحجب والرد.
365- وربما يستدلون بأن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم اعتقدوا أنه لا غسل على من يواقع ويكسل ولا ينزل
واعتصموا بقوله عليه السلام4:
"الماء من الماء"
ومعناه وجوب استعمال الماء من نزول الماء قلنا قد كان
الشرع على ذلك في ابتداء الإسلام وقد نقل الرواة فيه
أخبارا.
منها ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بدار رجل
من الأنصار فناداه فتريث قليلا ثم برز ورأسه تقطر ماء
فاستبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان مخالطا أهله
وقد اغتسل فقال صلى الله عليه وسلم:
"لعلنا أعجلناك لعلنا أقحطناك إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك"5 ثم تبين
نسخ هذا الأصل بما روى عن عائشة6 رضي الله عنها أنها قالت:
"إذا التقى7
الختانان فقد وجب الغسل", فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا"8 فلم يصح
الاحتجاج بقوله عليه السلام:
"الماء من الماء"9 وإنما نقل
مذهب أقوام على الإطلاق وله محمل كما ذكرناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "11" سورة النساء.
2 عثمان هو: ابن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي
المكي. وقد لقب "ذا النورين" لجمعه بين ابنتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم.,. وكان من السابقين الأولين, وممن صلى
إلى القبلتين, ومناقبه كثيرة. مات سنة "35هـ". له ترجمة
في: الإصابة 2/455, وأسد الغابة 3/584, وتاريخ الخلفاء
"147".
3 سبقت ترجمته.
4 أبو داود "217", والترمذي "112", والنسائي 1/115, وابن
ماجه "607", وأحمد 3/29 و 36 و 4/143 و 342.
5 البخاري في الوضوء "34", ومسلم في الحيض"83" وابن ماجه
في الطهارة "110", وأحمد 3/21, 26.
6 سبقت ترجمته.
7 إذا التقى...إلخ: موقوف على عائشة, وقد روي مرفوعا.
8 الترمذي في: الطهارة: ب "80": حديث "108" قال: حسن صحيح,
ولفظه: "إذا جاوز الختان..إلخ", وابن ماجه 1/109, وأحمد
6/161.
9 سبق تخريجه.
ج / 1 ص -172-
وبالجملة ليس يخلو المتمسك لهولاء من وجه أو وجوه [توهى]
ما يحولونه ويتخذونه معولهم فكيف يسوغ التعلق بالمحتملات
في محاولة القطع والبتات؟.
366- ثم قال القاضي هذه الأخبار وإن زادت أضعافا مضاعفة
فلا [تبلغ] مبلغ الاستفاضة فإن رواة هذه الأقاصيص لو
اجتمعوا على نقل قصة واحدة لم تتواتر بنقلهم والمعتبر في
ذلك أنا مضطرون إلى العلم بجود حاتم وشجاعة على ولا نجد في
أنفسنا العلم الضروري باعتقاد الأولين اقتضاء التخصيص نفى
ما عدا المخصص.
367- طريقة أخرى لأصحاب المفهوم ضعيفة: وهي أنهم قالوا:
إذا قال الرجل لمن يخاطبه: اشتر لي عبدا هنديا اقتضى ذلك
نهيه عن شراء من ليس هنديا قالوا هذا ومثله مما لا يتمارى
فيه أهل اللسان.
فنقول: لا حاصل لهذا الفن فإن المأمور كان محجورا عليه
مقبوضا على يديه في حق من [وكله] قبل أن وكله واستنابه ثم
ثبت التوكيل على الخصوص واستمر ما كان ثبت قبل في غير
المحل المخصوص بالصفات والذي يقطع الشغب عنا أن فرض
التخصيص باللقب في هذا بمثابة فرض التخصيص بالصفات.
368- فأما الإمام الشافعي فإنه احتج في إثبات القول
بالمفهوم بأن قال إذا خصص الشارع موصوفا بالذكر فلا شك أنه
لا يحمل تخصيصه على وفاق من غير انتحاء قصد التخصيص وإجراء
الكلام من غير فرض تجريد القصد إليه يزري بأوساط الناس
فكيف يظن ذلك بسيد الخليقة صلى الله عليه وسلم؟ فإذا تبين
أنه إذا خصص فقد قصد إلى التخصيص فينبني على ذلك أن قصد
الرسول عليه السلام في بيان الشرع يجب أن يكون محمولا على
غرض صحيح إذ المقصود العرى عن الأغراض الصحيحة لا يليق
بمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ثبت القصد
واستدعاؤه غرضا فليكن ذلك الغرض آيلا إلى مقتضى الشرع وإذا
كان كذلك وقد انحسمت جهات الاحتمالات في إفادة التخصيص
انحصر القول في أن تخصيص الشيء الموصوف بالذكر يدل على أن
العاري عنها حكمه بخلاف حكم المتصف بها والذي يعضد ذلك من
طريق التمثيل أن الرجل إذا قال السودان إذا عطشوا لم يروهم
إلا الماء عد ذلك من ركيك الكلام وهجره وقيل لقائله لا
معنى لذكرك السودان وتخصيصهم مع العلم بأن من عداهم في
معناهم.
ج / 1 ص -173-
369- وهذا تحرير كلام الشافعي وهو على مساقه بالغ حسن ولكن
يرد عليه على انطباق تخصيص للأشياء بألقابها ويلزم من
مضمون طلب الفائدة من التخصيص المصير إلى أن الشارع إذا
خصص شيئا باسمه [الذي ليس مشتقا] اقتضى ذلك نفى الحكم فيما
عداه ولو لم يكن كذلك لكان تخصيصه من غير قصد أو قصده من
غير غرض أو غرضه غير محمول على مقاصد الشرع وكل ذلك محظور
لا سبيل إلى التزامه وإن كان ما ذكرناه في اللقب مسوغا لزم
تسويغ مثله في الموصوف فإذا لا يستقل الكلام متعلقا
بالتخصيص إلا بأحد وجهين إما أن [يطرد] في الألقاب كما ذهب
إليه الدقاق وإما أن يوضح مع التمسك بالتخصيص أمرا يوجب ما
ذكرناه في الموصوف دون غيره وليس في كلام الشافعي التزام
ذلك على ما ينبغي من اختصاص أثر التخصيص بالموصوفات.
370- وقد حان الآن أن نبدأ مسلك الحق على وجه يشتمل بيان
المختار ونبين تدريج الكلام على مراتبه ونوضح [القاصد في
الأطراف] فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا باستفتاح
التفصيل في آحاد الصور حتى إذا نجزت نرد الكلام إلى الضابط
لها فنقول لا يتبين المقصد من المسألة إلا بذكر صور فمن
الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم اقتضاء
الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه المرتبة وإن استقر على
النزاع اكتفينا معه بنسبته إلى الجهل باللسان أو إلى
المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت
باب الشرط لتحصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني
أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه [بمن يكرمه] ومن جوز أن
يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا
فقد نأى وبعد فآل الكلام معه إلى التسفيه والجهل والإحالة
على تعلم مذاهب العرب ولسنها [وحوارها] ولنعد إلى خصلة
أخرى وهي التتمة وهي أنا نكتفي فيما ندعى بظهور الاختصاص
ولا نحاول قطعا ناصا لا يتطرق إليه إمكان فإذا أنكر منكر
ظهور ما ذكرناه ظهر فساد قوله وانحطت رتبته عن استحقاق
المفاوضات فهذا منتهى المراد في هذا الطرف.
371- ومما نذكره التحديد بالزمان والمكان أو العدد ونقول
مما ظهر في الكلام ظهورا لا يستجاز المراء فيه أن الحدود
تتضمن حصر المحدودات ولذلك تساق ولهذا الغرض تصاغ فإذا كان
الحكم وراء المحدود كالحكم فيما يحويه الحد فلا غرض في
الحد وظهور ذلك لا يجحد وهو من صور مسألة المفهوم ومن
الصور.
ج / 1 ص -174-
تخصيص
الموصوفات بالذكر كقوله عليه السلام:
"في سائمة
الغنم زكاة"1 وقوله:
"لي الواجد ظلم"2
وهذا الفن عمدة المسألة وملتطم الكلام فليقع به فضل اعتناء
والله المستعان.
372- فأقول إذا كانت الصفات مناسبة للأحكام المنوطة
بالموصوف بها مناسبة العلل معلولاتها فذكرها يتضمن انتفاء
الأحكام عند انتفائها كقوله صلى الله عليه وسلم:
"في سائمة الغنم زكاة"3 فالسوم يشعر بخفة المؤن ودرور المنافع واستمرار صحة المواشي في
صفو هواء الصحاري وطيب مياه المشارع وهذه المعاني تشير إلى
سهولة احتمال مؤنة الإرفاق بالمحاويج عند اجتماع أسباب
الارتفاق بالمواشي وقد انبنى الشرع على رعاية ذلك من حيث
خصص وجوب الزكاة بمقدار كثير وأثبت فيه مهلا يتوقع في مثله
حصول المرافق فإذا لاحت المناسبة جرى ذلك على صيغة
التعليل.
وكذلك النهي عن لي الواجد فإن الموسر المقتدر ذا الوفاء
والملاء إذا طلب بما عليه لم يعذر بتأخير الحق للمستحق
وهذا في حكم التعليل لانتسابه إلى الظلم إذا سوف وماطل.
فإن طولبنا بإثبات القول بالمفهوم فيما نصننا عليه فالقول
الواضح فيه أن ما أشعر وضع الكلام بكونه تعليلا فهو أظهر
عندي في اقتضاء التخصيص الذي من حكمه انتفاء الحكم عند
انتفاء الصفة من الشرط والجزاء فإن العلة إذا اقتضت حكما
تضمنت ارتباطه بها وانتفاءه عند انتفائها وإذا قال القائل:
إنما أكرم الرجل لاختلافه إلى كان ذلك أوضح في تضمن اختصاص
إكرامه بمن يختلف إليه من قوله من اختلف إلى أكرمته.
373- فإن قيل [إن] العلل الشرعية ليس من شرطها أن تنعكس
والمفهوم تعلق بادعاء العكس قلنا هذا الآن كلام من لم يحط
بما أوردناه والقول في العلل المستنبطة وشرائطها وقوادحها
ليس مما نحن فيه بسبيل فإن غرضنا التعلق بما يقتضيه اللفظ
في وضع اللسان اقتضاء ظاهرا ولا شك إن صيغة التعليل يظهر
منها للفاهم ما أدرناه والقول في مآخذ العلل المستثارة لا
[يؤخذ] من مقتضى العبارات والألفاظ فهذا ما أردناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
3 سبق تخريجه.
ج / 1 ص -175-
374- فإن قيل خصصتم بالذكر [الصفات] المناسبة للأحكام وقد
أطلق القائلون بالمفهوم أقوالهم بإثبات المفهوم بكل موصوف
فأثبتوا في ذلك ما هو الحق قلنا الحق الذي نراه أن كل صفة
لا يفهم منها مناسبة للحكم فالموصوف بها كالملقب بلقبه
والقول في تخصيصه بالذكر كالقول في تخصيص المسميات
بألقابها فقول القائل زيد يشبع إذا أكل كقله الأبيض يشبع
إذ لا أثر للبياض فيما ذكر كما لا أثر للتسمية بزيد فيه
ولنا كلام طويل على قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل"1 تقصيناه في "الأساليب" فليطلبه [مريده] من ذلك الكتاب ومن سر هذا
الفصل أن شرط العلة المخيلة المستنبطة السلامة عن جمل من
الاعتراضات والقوادح ولا يشترط شيء من ذلك في القول بمفهوم
كلام الشارع إذا اشتمل على ذكر موصوف وفهم من الصفة مناسبة
فإن الكلام في ذلك يدار على فهم الخطاب لا على شرائط العلل
ولا يتضح الغرض [في ذلك] مع كل هذا التقرير إلا بذكر
المسألة المعقودة على الدقائق.
مسألة:
375- قد سفه علماء الأصول هذا الرجل في مصيره إلى أن
الألقاب إذا خصصت بالذكر تضمن تخصيصها نفي ما عداها
وقالوا: هذا خروج عن حكم اللسان وانسلال عن تفاوض أرباب
وتفاهمهم فإن من قال رأيت زيدا لم يقتض ذلك إنه لم ير غيره
قطعا.
376- وعندي أن المبالغة في الرد عليه سرف ونحن نوضح الحق
الذي هو ختام الكلام قائلين لا يظن بذي العقل الذي لا
ينحرف عن سنن الصواب أن يخصص بالذكر ملقبا من غير غرض وإذا
رأى الرائي طائفة والخبر عن رؤية جميعهم عنده مستو لاتفاوت
فيه وهو في سماع من يسمع كذلك فلا يحسن أن يقول والحالة
هذه رأيت فلانا فينص على واحد من المرئيين نعم إن ظهر غرض
في أن المذكور في جملة من راه فقد ظهر عند المتكلم فائدة
خاصة يفيدها السامع فإذ ذاك يحسن تخصيصه بالذكر ولا خفاء
بذلك.
فإن قيل: [هذا] الذي ذكرتموه ميل إلى مذهب الدقاق قلنا:
الذي نراه أن التخصيص باللقب يتضمن غرضا مبهما كما أشرنا
إليه ولا يتضمن انتفاء ما عدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدارمي في: البيوع"40".
ج / 1 ص -176-
المذكور واللفظ في نفسه ليس متضمنا نفى ما عدا المذكور بل
وضع الكلام إذا رد الأمر إلى المقصود يقتضي اختصاص المذكور
بغرض ما للمتكلم والصفة المناسبة في وضعها تقتضي نفي الحكم
عند انتفاء الصفة فظهر القول بمفهوم الصفة وظهر اقتضاء
التخصيص باللقب غرضا مبهما فإنا نقول وراء ذلك لا يجوز أن
يكون من غرض المتكلم في التخصيص نفى ما عدا المسمى يلقبه
فإن الإنسان لا يقول رأيت زيدا وهو يريد الإشعار بأنه لم
ير غيره فإن هو أراد ذاك قال إنما رأيت زيدا وما رأيت إلا
زيدا فاستبان بمجموع ذلك أن تخصيص الملقب بالذكر ليس يخلو
عن فائدة هي غرض للمتكلم منها حكاية الحال وإن بلغنا
الكلام مرسلا اعتقدنا غرضا مبهما ولم نر انتفاء غير المسمى
من فوائد التخصيص.
377- ومن تمام الكلام فيه أن متكلفا لو فرض عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: في عفر الغنم الزكاة فهذا
عندنا لا مفهوم له وهو كالمخصوص بلقبه ولكن يبعد من الرسول
صلى الله عليه وسلم النطق بمثله وليس من الحزم أن يفرض من
الشارع كلام لغو ويتعب في طلب فائدته فقد بان الآن مراتب
العلماء.
فقد صار قوم إلى إبطال المفهوم وهذا ذهول عن فائدة الكلام
وصار قوم إلى أن لكل تخصيص مفهوما كالدقاق وهذا الرجل
ابتدر أمرا لا ينكر وهو أن العاقل لا يخصص مذكورا هزلا
وليس كل الغرض موقوفا على نفي ما عدا المسى واعتبر الشافعي
الصفة ولم يفصلها واستقر رأيي على تقسيمها وإلحاق ما لا
يناسب منها باللقب وحصر المفهوم فيما يناسب وهذا منتهى
الكلام.
مسألة.
378- فقد ذكرنا أن المفهوم ينقسم إلى ما يقع نصا غير قابل
للتأويل ويغلب ذلك في مفهوم الموافقة إذا انتهى إلى
المرتبة العليا وإذ ذاك يسمى عند أرباب الأصول الفحوى
والغالب على مفهوم المخالفة الظهور والانحطاط عن رتبة
النصوص فما يقع ظاهرا من تقاسيم المفهوم فالقول الضابط
فيه: أنه نازل منزلة اللفظ الموضوع للعموم وضعا ظاهرا
فيجوز ترك المفهوم بما يسوغ به تخصيص العموم وهذا نفصله في
باب التأويل إن شاء الله تعالى.
379- وغرضنا الآن بعد إلحاق المفهوم باللفظ الموضوع للعموم
أمران:
ج / 1 ص -177-
أحدهما: أن ترك جميع المفهوم بدليل يقوم بمثابة تخصيص
العموم وليس كرفع جميع مقتضى اللفظ.
والقول المقنع فيه: أن المفهوم ليس مستقلا بنفسه وليس جزءا
من الخطاب بذاته ولكنه من مقتضيات اللفظ فإن اقتضى ظهور
أمر تركه فاللفظ بمقتضياته باق وفي تقدير رفع جميع متعلقات
المنطوق رفع جميع مقتضى اللفظ وتعطيله ومعناه فكان المفهوم
كبعض مسميات العموم.
وإيضاح ذلك أنا ألفينا اللفظ الموضوع للعموم يستعمل تارة
للاستغراق وتارة لبعض المسميات فلما استمر الأمران لم يكن
في التخصيص خروج عن مقتضى اللسان [وإن] كان الظاهر الجريان
على العموم وكذلك نرى العرب تخصص الشيء بصفة وهي تبغي نفي
المخبر عنه عند انتفاء الصفة وقد لا تريد ذلك فليس قصد نفي
ما عدا المخصص أمرا مقطوعا به فكان ترك المفهوم ورفع أصل
التخصيص من السائغ الذي لا يستنكر مثله وشفاء غليل الطالب
موقوف على وقوفه على حقائق التأويلات وهذا أحد الأمرين.
380- والثاني: أن التخصيص إذا جرى موافقا لما يصادف ويلقى
في مستقر العرف فالشافعي لا يرى الاستمساك بالمفهوم فيه
ويصير إلى حمل الاختصاص على محاولة تطبيق الكلام على ما
يلقى جاريا في العرف وقد ذكر الشافعي في الرسالة كلاما
بالغا في الحسن في هذا وذلك أنه قال إذا تردد التخصيص بين
تقدير نفى ما عدا التخصيص وبين قصد أخراج الكلام على مجرى
العرف فيصير تردد التخصيص بين هاتين الجهتين كتردد اللفظ
بين جهتين في الاحتمال واللفظ إذا تعارض فيه محتملات التحق
بالمجملات كذلك التخصيص مع التردد يلتحق بالمجملات ثم ضرب
لذلك أمثلة من الكتاب منها قوله تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}1 فاستشهاد النساء مع التمكن من استشهاد الرجل مما لا يجري العرف به
للعلم بما في ذلك من الشهرة وهتك الستر وعسر الأمر عند
إقامة الشهادة فيقتضي التقييد إجراء للكلام على موجب العرف
ومنها قوله تعالى:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ}2
وقوله عليه السلام:
"المسافر وماله على قَلَتٍ إلا ما وقى الله"3 فجرى ذلك على الأعم الأغلب في أحوال المسافرين فلم يكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "282" سورة البقرة.
2 آية "101" سورة النساء.
3 كشف الخفاء 2/285.
ج / 1 ص -178-
للتخصيص بالخوف مفهوم ومنها قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}1
فظاهر الآية اختصاص [المفاداة] بحالة الشقاق وقد رأى
الشافعي حمل ذلك على العرف الجاري في مثله في أن الزوجين
لا يتخالعان ولا يتقامطان على الحب والمقة والتصافي وإنما
تسمح المرأة ببذل المال المحبوب ويستبدل الزوج عنها مالا
إذا أظهرا تقاليا وشقاقا فكان جريان التخصيص على حكم العرف
وعلى هذا حمل الشافعي حديث عائشة2 رضي الله عنها إذ روت أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال3:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" فمقتضى التخصيص لو اتسق القول بالفهوم أن يصح النكاح بلفظها إذا
أذن وليها ولكن الشافعي قال إنما تزوج المرأة نفسها إذا
كانت متبرجة كاشفة جلباب الحياء عن وجهها مؤثرة لنفسها
الخروج عن دأب الخفرات فإذ ذاك تستبد بنفسها وإن بقي فيها
ملتفت إلى الأولياء فإنها تفوض أمرها إليهم فإن عضلوها
حملت خاطبها على رفع الأمر إلى القاضي فجرى التخصيص على
حكم العرف أيضا ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة فهذا
مساق كلام الشافعي.
381 - والذي أراه في ذلك أن اتجاه ما ذكره من حمل الأمر
على خروج الكلام على مجرى العرف لا يسقط التعلق بالمفهوم
نعم يظهر مسالك التأويل ويخفف الأمر على المؤول في مرتبة
الدليل العاضد للتأويل والدليل عليه أن عين التخصيص لا
يتضمن نفي ما عدا المخصص ولو صير إلى ذلك ففيه تطرق إلى
مذهب الدقاق وإنما ظهر نفي ما عدا المخصوص في إشعار
المنطوق به شرطا أو تحديدا أو تعليلا ومقتضى اللفظ لا يسقط
باحتمال يئول إلى العرف والذي يحقق ذلك أنه لما قال يعلى4
بن أمية لعمر5 بن الخطاب رضي الله عنهما في قوله تعالى:
{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ}6 أنقصر وقد أمنا قال عمر تعجبت مما تعجبت منه7 ولم ينكر عليه
اعتقاد المفهوم من طريق اللسان وقد صار محمد8 بن الحسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "229" سورة البقرة.
2 سبقت ترجمتها.
3 أبو داود "2083", والترمذي 1/204, وابن ماجه "1879",
وأحمد 6/47 و 165, والدارمي 2/137, وابن أبي شيبة 7/2/1,
والدارقطني "381" والحاكم 2/168, والإرواء 6/243 وقال:
صحيح.
4 سبقت ترجمته.
5 سبقت ترجمته.
6 سبقت.
7 سبق تخريجه.
8 محمد بن الحسن الشيباني مولاهم أبو عبد الله الكوفي,
صاحب الإمام أبو حنيفة, سمع منه, ومن أبي يوسف, ومسعر بن
كدام, والثوري, آخرين. ولى قضاء الرقة أيام الرشيد, ثم
عزله, ومات بالري سنة "189". له ترجمة في: وفيات الأعيان
"3/325" وتاريخ بغداد 2/172.
ج / 1 ص -179-
إلى
تنزيل مذهبه على مفهوم حديث عائشة ومنطوقه في النكاح بغير
ولي فلست أرى المفهوم في هذا الفن متروكا من غير فرض دليل
ومن حاسيك الصدور ترك المفهوم في مسألة النكاح بلا ولي وما
ذكر في هذا الفصل فأنا أوفيه حظه إذا ذكرت طرق تأويلات
المفهومات إن شاء الله تعالى.
مسألة:
382- ما صار إليه المحققون أن قوله صلى الله عليه وسلم:1
"تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم" يتضمن حصرها بين القضيتين في التكبير والتسليم وذهب طوائف من أصحاب
أبي حنيفة إلى تنزيل هذا على المفهوم وقضوا بأنهم من حيث
لم يروا القول به لا يلزمون نفي ما عدا التكبير والتسليم
وتمسكوا بهذا المسلك في قوله صلى الله عليه وسلم2:
"الشفعة فيما
لم يقسم".
383- وهذان فنان عندنا
ونحن نخصص المثال الأول والثاني بما يليق بكل واحد منهما
فأما قوله عليه السلام:
"وتحريمها التكبير"3 فمقتضاه الحصر لا محالة وليس هذا من فن المفهوم المتلقى من تخصيص
الشيء بالذكر كما سبق مفصلا وهذا يقرر من وجهين:
أحدهما: النقل والاحتكام إلى ذوي الحجا والأحكام في كل
لسان ولغة فإذا قال القائل: زيد صديقي لم يتضمن هذا نفي
الصداقة عن غيره والقول بالمفهوم لا يتضمن في سياق هذا
الكلام حصرا للصداقة ولا قصرا لها على زيد المذكور صدرا
ومبتدأ ولو قال القائل: صديقي زيد اقتضى هذا أنه لا صديق
له غيره وهذا مما لا يبعد ادعاء إجماع أهل اللسان فيه ومن
أبدى في ذلك مراء كان مباهتا محكوما عليه بالعناد فهذا
وجه.
والوجه الآخر: أن ترتيب الكلام أن تقول زيد صديقي فإن وضع
المبتدأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود في: الطهارة "31" والصلاة "73", والترمذي في:
الطهارة "3" والصلاة "62", وابن ماجه "3", والدارمي في:
الوضوء "22", وأحمد 1/123 و 129.
2 البخاري في: الشركة "8, 9" والحيل "14", والدارمي في:
البيوع "83".
3 سبق تخريجه.
ج / 1 ص -180-
ذكر
معرف تبتدره الأفهام حتى إذا فهم أسند إليه خبر لا يستقل
معلوما في نفسه فينتظم من ارتباط الخبر به في إفادة السامع
ما [يقدر] المتكلم أنه ليس عالما به فإذا قلب الكلام وقال
صديقي زيد لم يصلح قوله صديقي صدرا مبدوءا به فإنه يترقب
بعد البداية به خبره فحملت العرب تقديمه وصرف الاهتمام به
على حصر معناه في زيد المذكور بعده ولولا ذلك لما انتظم
الكلام وهذا معنى لا يفضي إلى القطع بنفسه والمعتمد القاطع
النقل كما ذكرناه فهذا في أحد الفنين وقد تحصل منه أنه ليس
من المفهوم في شيء وإنما مأخذه ما ذكرناه.
384- وأما الفن الثاني وهو
"الشفعة فيما لم يقسم"1 فوجه
التمسك به لا يتلقى من البناء على المفهوم وإنما مأخذه أن
اللام في قوله الشفعة لتعريف الجنس فكأنه عليه السلام حصر
جنس الشفعة فيما لم يقسم.
385- وقد نجز مقدار غرضنا من الكلام عن النص والظاهر
والأمر والنهي والعموم والخصوص والمنطوق والمفهوم والمجمل
والمفسر فهذه هي المراتب المقصودة في هذا الفن ولا يبقى
بعد نجازها إلا ذكر مراتب التأويلات وما يقبل منها وما يرد
وبيان مستنداتها ولكني أرى أن أخلل بين نجاز هذه المراتب
وبين التأويلات القول في أفعال رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنها من متعلقات الشرع والتأويلات والمحامل في
حكايات الأحوال تتعلق بها.
فنبتدئ مستعينين بالله تعالى بذكر أفعال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثم نعقب نجازها بكتاب التأويلات إن شاء
الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه. |