البرهان في أصول الفقه

ج / 1 ص -193-       باب التأويلات.
424- التأويل رد الظاهر إلى ما إليه ماله في دعوى المؤول وإنما يستعمل إذا علق بما يتلقى من الألفاظ منطوقا ومفهوما والألفاظ تنقسم انقساما أولا إلى المجمل والمجمل الذي لا يستقل بإفادة المعنى وإلى ما ليس مجملا.
فأما المجمل فلا يسوغ فرض الاستدلال به حتى يقدر احتياج المستدل عليه إلى تأويله فإذا حسب المستدل المجمل ظاهرا اكتفى المستدل عليه بإبدائه كونه مجملا فإذا اشتغل المستدل عليه بتفسيره كان مجاوزا حد النظر متعديا مسلك الجدال مائلا إلى الانحلال فليكتف ببيان الإجمال وفيه سقوط استدلال المستدل.
فأما ما ليس مجملا فينقسم إلى النص الظاهر وقد قدمنا ما يتميز به أحد البابين عن الثاني ومسائل هذا الكتاب تفصل تلك الضوابط إن شاء الله تعالى.
فالنص ما لا يتطرق إلى فحواه إمكان التأويل وينقسم إلى ما ثبت أصله قطعا كنص الكتاب والخبر المستفيض وإلى ما لم يثبت أصله قطعا كالذي ينقله الآحاد ولا مجال [لتأويل] في النوعين وإنما يتعلق الكلام فيهما بتقديم المراتب عند فرض المعارضات مثل أن يعارض نص متواتر نص الكتاب إن أمكن ذلك أو يعارض خبر ناص مستفيض خبرا مثله أو يعارض خبر نقله الآحاد ما ثبت أصله قطعا أو يعارض مثله والقول في ذلك يأتي مشروحا في آخر كتاب التأويل إن شاء الله تعالى.
425- والقول الوجيز الآن فيه على [ما] تقتضيه التوطئة والتمهيد أن الناظر يقدم ما يقتضي العقل والشرع جميعا تقديمه عند تفاوت المراتب فإن استوت المراتب وتحقق التعارض والألفاظ نصوص فالكلام في ذلك يئول إما إلى الإسقاط وإما إلى الترجيح على ما يأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
426- فأما الظاهر الذي يتطرق إمكان التأويل إليه وإنما ظهوره في جهته مظنون غير مقطوع به فعليه ينبني هذا الكتاب.

 

ج / 1 ص -194-       427- والوجه تصدير هذا الفصل بأمرين:
أحدهما إبانة بطلان الاستدلال بالظاهر فيما المطلوب منه القطع لأن ظهور معناه غير مقطوع به فلا يسوغ وضع الاستدلال به [على ما هذا سبيله] وإن قدر ذلك من مستدل أشعر بجهله بأحد أمرين إما أن يجهل كونه ظاهرا أو يعتقده نصا والأمر على خلاف ما يقدره وإما أن يجهل تمييز مواقع العلوم عن مجال الظنون والجاهل بالوجه الأول أحق بأن يعذر من الجاهل بالرتبة الثانية ثم إذا فرض ذلك في المستدل فليس من حق المستدل عليه أن يشتغل بالتأويل بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن القواطع.
وإذا وضح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم بالمجملات التي لا تستقل بأنفسها.
428- والثاني أن الظاهر حيث لا يطلب العلم معمول به والمكلف محمول على الجريان على ظاهره في عمله وقد قدمنا في [أثناء] الكلام [في ذلك] قولا بالغا وإن حاولنا تجديد العهد به فالمعتمد فيه والأصل والتمسك بإجماع علماء السلف والصحابة ومن بعدهم فإنا نعلم على قطع أنهم كانوا يتعلقون في تفاصيل الشرائع بظواهر الكتاب والسنة وما كانوا يقصرون استدلالاتهم على النصوص ومن استراب في تعلقهم بالقياس لم يسترب في استدلالهم بالظواهر ولم يؤثر منع التعلق بالظواهر عمن بخلافه ووفاقه مبالاة وإن ظهر خلاف فاستدلالنا قاطع بالمسلك الذي ذكرناه ومستنده الإجماع وسبيل نقل الإجماع التواتر.
429- فإن قيل أنتم تعلمون وجوب العمل بالظاهر وربط العلم بالمظنون محال وهذا رددوه مرارا وبان مسلك الحق فيه إذ قلنا: الظاهر بنفسه لا يثبت علما بوجوب العمل وإنما المفيد للعلم الإجماع فهو يقتضي العلم بوجوب العمل وليس يتطرق إليه ظن وهذا نجريه في [خبر] الواحد والأقيسة المظنونة وقد صدرنا الكتاب بذلك لما حاولنا بيان ماهية أصول الفقه فإذا تبين جواز التعلق بالظواهر في المحال التي ذكرناها وتأويل الظواهر على الجملة مسوغ إذا استجمعت الشرائط التي سنصفها إن شاء الله تعالى ولم ينكر أصل التأويل ذو مذهب وإنما الخلاف في التفاصيل وإن قدرنا فيه خلافا فالمعتمد في الرد على المخالف إجماع من سبق فإن المستدلين بالظواهر كانوا يؤولونها في مظان التأويل وهذا معلوم اضطرارا كما علم أصل الاستدلال ثم إذا ثبت جواز التأويل فلا يسوغ التحكم به اقتصارا عليه.

 

ج / 1 ص -195-       من غير عضد له بشيء إذ لو ساغ ذلك لبطل التمسك بالظواهر واكتفى المستدل عليه بذكر تطرق الإمكان إلى الظاهر وهذا إن قيل به يسقط أصل الاستدلال ويلحق جمال الإجمال بما يطلب فيه العلم المحض.
فإذا وضح أن أصل التأويل مقبول وتبين أن [التحكم] به مردود فيفتح بعد ذلك الكلام في تفصيل التأويل وما يعضد كل قسم منه من فنون الدليل.
430- ولجميع مسائل الباب عندنا ضبط في النفي والإثبات هو المتبوع وإليه المرجع والذي أراه في طريقة الإفهام رسم مسائل في التأويلات اضطرب العلماء فيها فقبلها بعضهم وردها آخرون ونحن نطردها على وجوهها ونبين المختار منها حتى إذا نجزت نبهنا بعد نجازها على سر الكتاب.
مسألة.
431- استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط الولي في النكاح بحديث عائشة فإنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال1:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". الحديث.
وتعرض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه لذكر محامل وتأويلات ونحن نشير إلى وجوهها على إيجاز حتى يفضي الكلام إلى مقصود هذه المسألة.
432- قال قائلون: الحديث محمول على الصغيرة فأنكر عليهم وقيل لهم ليست الصغيرة امرأة في حكم اللسان كما ليس الصبي رجلا وألزموا سقوط التأويل على مذهبهم فإن الصغيرة لو زوجت نفسها انعقد النكاح صحيحا موقوف النفاذ على إجازة الولي وقد قال عليه السلام2:
"فنكاحها باطل" ثم أكد البطلان بتكرير الباطل ثلاثا وكان عليه السلام إذا أراد تأكيدا كرر ثلاثا.
فقالوا: وجه تسمية نكاحها باطلا أنه إلى البطلان مصيره عند فرض رد الولي واستشهدوا بقوله تعالى:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}3 قيل: لهم نكاحها يتردد بين النفوذ عند تقدير الإجازة من الولي وبين الرد عند فرض الرد منه ولا يسوغ والحالة هذه التعبير عن إحدى العاقبتين مع تجويز الأخرى وإنما يعبر عما سيكون بالكائن فيما يكون لا محالة كالموت الذي إليه مصير كل ذي روح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
3 آية "30" سورة الزمر.

 

ج / 1 ص -196-       433- ومن تأويلاتهم أنهم يحملون لفظ الرسول على الأمة وزعموا أنه لا يمتنع تسمية [الأمة امرأة كما لا يمتنع تسمية] السيد وليا ورد ذلك عليهم بوجهين أحدهما أنه نكاح صحيح موقوف كما ذكرنا في الصغيرة ومنتهى الكلام فيه كما سبق والثاني: أنه عليه السلام قال: "فإن مسها فلها المهر", ومهر الأمة لمولاها.
434- وزعم من يدعي التحقيق والتحذق من متأخريهم أن الحديث محمول على المكاتبة واستفادوا بالحمل عليها على زعمهم استحقاقها المهر ثم الأمر عند هؤلاء قريب في حمل المرأة على الأمة والولي على المولى ومن هذا المنتهى منشأ مقصود المسألة.
435- ذهب معظم الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إلى أن هذا الصنف من التأويل مقبول.
436- وقال القاضي: هو مردود قطعا وعزا هذا المذهب إلى الشافعي قائلا: إنه على علو قدره كان لا يخفى عليه هذه الجهات في التأويلات وقد رأى الاعتصام بحديث عائشة اعتصاما بنص وقدمه على الأقيسة الجلية وكان ذلك شاهد عدل في أنه رضي الله عنه كان لا يرى التعلق بأمثال هذه المحامل.
ومجموع ما نوضح به هذه المسألة طرق نعددها.
437- الأولى: أنه عليه السلام ذكر أعم الألفاظ إذ أدوات الشرط من أعم الصيغ وأعمها ما و وأي فإذا فرض الجمع بينهما كان بالغا في محاولة التعميم وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة فإذا قال من ظهرت به مخايل الضجر لمرضه أو إلمام مهم به لبوابه لا تدخل على أحدا فلو أدخل البواب كل ثقيل ولم يدخل أقواما مخصوصين زاعما أني حملت لفظك على الذين منعته لم يقبل ذلك منه.
فإذا ابتدأ الرسول عليه السلام حكما ولم يجره جوابا عن سؤال ولم يضفه إلى حكاية حال ولم يصدر منه حلا للإعضال والإشكال في بعض المحال بل قال مبتدئا وإليه ابتداء الشرع بأمر الله وشرح ما أعضل من كتاب الله:
"أيما امرأة" فانتحى أعم الصيغ وظهر من حاله قصده تأسيس الشرع بقرائن بينة فمن ظن والحالة هذه أنه أراد المكاتبة على حيالها دون الحرائر اللواتي هن الغالبات والمقصودات فقد قال محالا ولا يكاد يخفى أن الفصيح إذا أراد بيان خاص شاذ.

 

ج / 1 ص -197-       فإنه ينص عليه ولا يضرب عن ذكره وهو يريده ولا يأتي بعبارة مع قرائن دالة على قصد التعميم وهو يبغى النادر قال الشافعي الشاذ [ينتحى] بالنص [عليه] ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة.
438- الطريقة الثانية أن التعلق بالظاهر يقتضي ظهوره في مقصود المتكلم من جهة وضع اللسان ومن جهة العرف والتأويل الذي يصغى إليه ثم يطالب بالدليل عليه وهو الذي ينساغ من ذي الجد من غير أن يتولج في فن الهزء والهزل واللغز وما يقع كذلك فهو مردود.
وبيان ذلك بالأمثلة أن الرجل إذا قال رأيت أسدا فقد يعني السبع المعروف وقد يعني به رجلا عجوما مقداما فهذا مساغ لا ينافيه الجد ولكنه تأويل فلو قال رأيت أسدا ويعني رجلا دميما أو أبخر لم يكن ذلك وجها منساغا فإن هذا لا يطلقه أرباب اللغات على انتحاء مسالك التأويل ولا على الجريان على الظواهر فإن أراد مريد ذلك كان ملغزا وإن ادعى جاهل تأويل مثل هذا الوجه لم يقبل ذلك منه ومن الأمثلة التي ذكرناها أن من قال رأيت جمعا من العلماء ثم لما روجع فسر بقطيع من البقر ذهابا منه إلى أنها على [علوم] تتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك لو فسره برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء لم يقبل ذلك ولم يعد من المحامل المسوغة وإذا قال القائل لا تمنع فلانا شيئا من مالي ثم فسره بكسرة أو شربة عد جاهلا أو هازلا.
439- ثم اختتم كلامه بطريقة ثالثة تعضد ما تقدم وتستقل بنفسها فقال فقد سلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم المخالف والمؤالف أنه كان على النهاية القصوى من الفصاحة ولا حاجة إلى الإطناب في إثبات هذا ولا يخالف من معه مسكة من العقل أن الحمل على ما ذكره هؤلاء يحط الكلام عن مرتبة الفصاحة والجزالة ويحل المتكلم به محل الحصر العيى الذي يعمم في غير غرض ويبتغي التخصيص من غير إشعار به وكل ما يتضمن إلحاق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمستهجن الغث فهو مردود على قائله.
440- ثم لما استكمل رضي الله عنه الطرق ختم كلامه بأن قال كل ما قدمته توطئة [وتمهيد] وضرب أمثال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله:
"أيما امرأة" المكاتبة دون غيرها.

 

ج / 1 ص -198-       فهذا منتهى القول في هذا ولا مزيد على ما ذكره القاضي.
441- فإن احتج من يسوع هذا الفن بأن [قال:] الإماء والمكاتبات داخلان تحت العموم عند فرض التمسك بظاهر العموم وكل ما يدخل تحت الظاهر في العموم لا يبعد تنزيل العموم عليه تخصيصا وهذا الذي ذكروه فإنه لا يعارض ما نبهنا عليه فليس المعتبر فيما يقبل ويرد أقيسة وتشبيهات وتلفيق عبارات ولكن إنما يسوغ في التأويلات ما يسوغه الفصحاء وقد قدمنا في صدر هذا المجموع انحسام مسلك القياس في اللغات فإن إرادة النوادر مع إرادة الظواهر ليست بدعا وكذلك إرادة بعض ما يظهر باللفظ العام ليس مستنكرا على شرائط ستأتي فأما إرادة الأقل الأخص باللفظ الأعم الأشمل فهو مردود بالوجه الذي قدمناه.
442- فإن قالوا: التخصيص حال في تمييز حكم عموم اللفظ محل الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه استثناء لا ينفى إلا الشاذ الأخص [فليسغ] ذلك في التخصيص أيضا وهذا من الطراز الأول فإنه قياس وتشبيه وتلفيق عبارات مع معاندة القطع.
ثم لا يجوز أن يصدر من الرسول عليه السلام مثل هذا الاستثناء وقد منع القاضي مثله من غير الرسول عليه السلام على ما ذكرناه في مسائل الاستثناء ومن جوز ذلك من غير الرسول عليه السلام فهو في حكم النص المصرح به وإن جيء به في صيغة ركيكة والرسول منزه عن مثل ذلك فقد لاح الغرض من هذه المسألة.
مسألة:
443- استدل الشافعي رضي الله عنه في اشتراط تبييت النية في صوم رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم1:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل", فذكر المخالفون أسئلة تداني ما اشتلمت عليه المسألة الأولى ونحن نعيدها على الإيجاز ونتعداها إلى فن آخر من التأويل المردود.
444- فمما ذكروه حمل الحديث على القضاء والنذر المطلق وهذا مردود بالمسالك المقدمة فإنه عليه السلام قال: ابتداء
"لا صيام" ولا النافية إذا اتصلت على حكم التبرئة باسم منكور وجاء الاسم [بعدها] مبنيا على الفتح كان بالغا في.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 1 ص -199-       اقتضاء العموم فإذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ابتداء لأبناء على سؤال ولا تطبيقا للكلام على حال "لا صيام" فظن ظان أن الصوم الذي هو ركن الإسلام وهو القاعدة في الصيام لم يعنه ولم يرده وإنما أراد ما يقع فرعا للفرائض الشرعية كالمنذورات وفرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد ونأي عن مأخذ الكلام وهلم جرا إلى استتمام الطرق المقدمة في المسألة الأولى.
445- وذكر أصحاب أبي حنيفة مسلكا آخر في التأويل وعزوه إلى الطحاوي1 وذكروا أنه كان يتبجح به وهو أنه قال: أراد صلى الله عليه وسلم نهى الرجل عن الاكتفاء بنية صوم الغد في بياض نهار اليوم فقال: فعليه أن يؤخر النية إلى غيبوبة الشمس حتى يكون بإيقاع النية في الليل مبيتا وزعم هذا المؤول أن مسلكه هذا يجري في جميع أنواع الصيام فرضها ونفلها وهذا كلام غث لا أصل له وهو يحط من مرتبة الطحاوي أن صح النقل عنه.
446- والدليل على بطلانه وجهان قريبان أحدهما أن هذا اللفظ لو سمعه عربي ناشئ من منبع اللغة لم يسبق إلى فهمه النهي عن إيقاع نية صوم الغد في يوم قبله وبالجملة هذه صورة شاذة نادرة تجري في أدراج الكلام للوسواس يضعها المتكلفون وظاهر الخطاب ينزل على ما يفهمه المخاطبون فإن أنكر الخصم أن المفهوم من الخطاب ما ذكرناه سقطت مكالمته ولم يبق إلا أن يرد إلى حكم اللسان وتفاهم أهل التحاور وإن اعترف أن هذا هو الظاهر فحمل كلام الرسول عليه السلام على نادر شاذ باطل بالمسلك الذي ذكرناه.
447- والوجه الثاني: أن هذا الفن إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا من الغفلة واستحثاثا على تقديم التبييت وهذا يجري مجرى الفحوى التي لا ينكرها محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهي عن التقديم على الليل كان ذلك نقيض مقصود الخطاب.
448-  والكلام الوجيز فيه: أن مقصود الخطاب الأمر بتقديم النية, والنهي عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الطحاوي هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك أبو جعفر الأردي المصري الحنفي. الإمام العلامة الحافظ. قال الشيرازي في: الطبقات: انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة بمصر. له مؤلفات كثيرة منها: "شرح معاني الآثار" و "شرح مشكل الحديث". مات سنة "321". له ترجمة في: البداية والنهاية 11/174, وشذرات الذهب 2/288, ووفيات الأعيان 1/53, ومفتاح السعادة 2/275.

 

ج / 1 ص -200-       تأخيرها عن وقت التبييت وموجب ما ذكره النهي عن التقديم والأمر بالتأخير وليس تخيل ما ذكره هذا القائل في اليوم الذي يلي الغد بأولى من تخيله من يوم قبله بسنة.
449- واعلم هديت لرشدك أن هذه الفنون من الكلام ما كانت تجري في عصور العلماء الأولين وإنما أقدم [عليها] المتأخرون لأمرين أحدهما: التعري عن مأخذ الكلام والثاني: الاستجراء على دين الله تعالى والتعرض لخرق حجاب الهيبة نعوذ بالله منه.
450- مما وجه على هذا الحديث من التأويل حمل النفي فيه على نفي الكمال وهذا أقرب قليلا إلى مسالك التأويلات ولكنه مردود من وجهين أحدهما: أن حمل هذا اللفظ على نفي الكمال غير ممكن في القضاء والنذر وهما من متضمنات الحديث وإذا تعين حمل [اللفظة] على حقيقتها في بعض المسميات تعين ذلك في سائرها فإن الإنسان الفصيح ذا الجد لا يرسل لفظه وهو يبغي حقيقتها من وجه ومجازها من وجه.
فإن قالوا: ليس القضاء والنذر مقصودين كما ذكرتم قلنا: نعم ولكن الشاذ لا يعني باللفظ العام تخصيصا واقتصارا عليه وانحصارا عليه ولا يمتنع أن يشمله العموم مع الأصول.
والذي يحقق هذا أنه لو حمل لفظه على نوع من الصوم ثم حمل فيه على نفي الكمال لما كان اللفظ عاما أصلا وكان مختصا بنوع واحد وهو من أعم الصيغ كما تقدم تقريره والدليل عليه أن ما ذكروه من أن الرسول عليه السلام لم يرد القضاء والنذر ليس مذهبا لذي مذهب فإنه إذا امتنع قبول التأويل من غير دليل فلأن يمتنع من غير مذهب أولى.
مسألة:
451- استدل الشافعي رضي الله عنه في نكاح المشركات بالقصص المشهورة في الذين أسلموا على العشر والخمس والأختين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لغيلان] وقد أسلم على عشر نسوة ثم راجع الرسول عليه السلام في مفارقتهم أو إمساكهن فقال عليه السلام:
"أمسك أربعا وفارق سائرهن"1 وقال للذي أسلم على أختين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

 

ج / 1 ص -201-       "أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى"1.
فجرت تلك الأقاصيص نصوصا عند الشافعي في أن الكفار إذا أسلموا على عدد من النساء لا يوافق حصر الإسلام فعليهم أن يمسكوا عدد الإسلام ويفارقوا الباقيات ولا يؤاخذون برعاية الأوائل والأواخر ولا يكلفون الجريان على أحكام التواريخ ووجه التمسك بين فإنه عليه السلام علم أنهم على حداثة العهد بالإسلام ولم يخبروا تفاصيل الأحكام ثم أطلق لهم الخيرة في إمساك من شاءوا على شرط رعاية عدد الإسلام.
452- فوجه المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة سؤالين ركيكين أحدهما يسقطه اللفظ فلتقع البداية به ومقصود المسألة السؤال الثاني فأما ما.
يدفعه اللفظ فدعواهم أنه أمرهم أن يختاروا الأوائل وهذا يدفعه قوله عليه السلام لصاحب الأختين:
"اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى", وقال عليه السلام لبعضهم وقد أسلم على خمس: "اختر أربعا وفارق واحدة", قال صاحب الواقعة فعمدت إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فلا حاجة إلى الإطناب في ذلك وهو على معاندة اللفظ.
453- فأما الثاني وهو المقصود الذي عقدت المسألة له فهو أنهم قالوا إنه عليه السلام أراد بقوله:
"أمسك أربعا" أن يمسكهن ويجدد عليهم الأنكحة على موجب الشرع.
وهذا عند المحققين سرف ومجاوزة حد وقلة احتفال بكلام الشارع فإن الرسول عليه السلام ذكر لفظ الإمساك أولا وموجبه الاستدامة واستصحاب الحال والثاني أن النقلة لم ينقلوا تجديد العقود بل رووا الحكايات رواية من لا يستريب أنهم استمروا في عدد الإسلام على مناكحتهم فيهن وكان المخاطبون على قرب عهد والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخاطبهم إلا بما يقرب من أفهامهم والتعبير عن ابتداء النكاج بالإمساك بعيد جدا ناء عن المحامل الظاهرة وفي القصص أنهم جاءوا سائلين عن الفراق أو الإمساك فانطبق جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤالهم ثم النكاح على الابتداء لا يختص بهن بل جوازه سائغ في نسوة العالم وقوله:
"أمسك", أمر وما ذكروه تخيير فينتظم من جوامع الكلام ما يحل محل قرائن الأحوال التي تفضى إلى العلم بإرادة المتكلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود "2243", والترمذي "1129, 1130" وقال: حسن, وابن ماجه "1950".

 

ج / 1 ص -202-       وهذا وإن كان يستدعي مزيد تقرير في النظر ففي هذا المقدار تأصيل الكلام والمحصل ذو المنة يورده إيرادا مقررا وإن أردنا أن نأتي بكلام قريب جدا يستوي في [نيله و] الإفهام به المتشدق البليغ وذو العي الحصر قلنا:
454- إن جحدا معاند إفضاء ما ذكرناه إلى الغرض نصا لم يجحد ظهور ما ذكرناه وغلبة الظن في صغو قصد الشارع إلى ما قررناه ولا خلاف بين العالمين بالظواهر أن تأويلاتها لا تقبل غير مقترنة بأدلة وغاية المتمسك بهذا المسلك أن يأتي بقياس مظنون ومعنى الظن في أنه يحسبه أنه منصوب الشارع ظنا منه وتقديرا وقد غلب على الظن مقصود الشارع في لفظه [فما يغلب متصلا] بلفظه على الظن أولى مما يغلب على الظن كونه منصوبا للشارع في فنون الأقيسة وهذا يقع من الظن بعيدا بدرجات عن الظن المختص بلفظ المصطفى عليه السلام.
455- فإن قيل: كأنكم تبنون هذا على تقديم الخبر على القياس فتثبتون استواء الظنين ثم تقدمون إحدى المرتبتين وقد لا تساعدون على تقديم الخبر [على القياس] قلنا ما أهون إثبات هذا علينا وسنذكره مستقصى في كتاب الأخبار.
ثم هذه المسألة لا تختص بهذا المأخذ فإن من يرى هذا الفن من التأويل يطرده في تأويل ظواهر القرآن والأخبار المتواترة وإن كان القياس [لا] يقدم على نصوص القرآن والسنة المتواترة.
456- والذي يقطع مادة الإشكال في ذلك أنا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا وجدوا ما يظهر عندهم قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه اكتفوا به ولم يميلوا إلى غيره ورأوا من يركن إلى القياس لإزالة ظاهر ما صح عندهم في حكم [الراد لخبر] رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تتبع المتتبع الأخبار التي رويت لهم فعملوا بها لوجدها ظواهر والجحد في هذا المقام الآن إنكار البديهة ومداره الضرورة ثم معتضد القياس عملهم به لا غير فإن أنصف الخصم علم أنهم كانوا لا يقيسون في هذه الحال وإن ركب رأسه وطرد شماسه لم يمكنه أن يثبت قياسهم في هذه الصورة ولهذا لا يطمع فيه إلا أخرق ولا شك أنهم ما قاسوا في كل محل.
457- فليتخذ الناظر هذا الفصل معتضدة الأقوى في هذه المسألة وأمثالها وهنالك استبان أن كل ما ظهر في قصد الشارع لم يجر مخالفة ظاهر قصده بقياس فلهذا لم يشتغل الأوائل المتقدمون بما أنشاه ناشئة الزمان من التأويلات المزخرفة ولم يكن ذلك لغفلتهم عن أمثالها.

 

ج / 1 ص -203-       مسألة:
458- مما يجريه أبناء الزمان في أدراج الاعتراضات ادعاء أمور من طريق الاحتمال من غير نقل فحاولوا بها مداراة الاستدلال.
وهذا بمثابة قول بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة التي تقدمت في نكاح المشركات حيث قالوا لم يكن في عدد النساء حصر في ابتداء الشرع ولعل الذين أسلموا كانوا نكحوا في الشرك حين لا حصر وكانت تلك الأنكحة على الصحة ولما أسلموا كان الحصر مستقرا في الشرع فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكحتهم السابقة الموافقة في وقت وقوعها موجب الشرع ولم يقرر عليها بالكلية.
459- وسبيل الكلام على هذا الصنف أن نقول لم يثبت ما ذكروه من أحكام الإسلام في ابتداء الأيام ولا مبالاة بما جاءوا به فلفظ الرسول عليه السلام محمول على ما الشرع عليه الآن ومن قدر أمرا على مخالفة ما يصادفه الآن فدعواه من غير حجة مردودة عليه وهذا متفق عليه فإن أمثال هذه الاحتمالات لو طرقت إلى حكايات الأحوال وأقوال الرسول فيها لما انتظم الاستدلال بواحد منها فإن هذه الفنون المدافعة للاستدلال ممكنة في كل أصل.
460- فإن قيل أليس تأويل الظواهر مقبولا بالاحتمال قلنا ليس الاحتمال مقتضيا قبول التأويل ولكنا رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات وكما.
رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثبت فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه.
فإن نقل أصحاب أبي حنيفة من التواريخ [الصحيحة] أن الحصر لم يكن في ابتداء الإسلام فيعسر التمسك بتلك الأقاصيص وعلى المتمسك بها أن يثبت وقوعها بعد الحصر وإلا كان الاستدلال معرضا لإجمال واحتمال ومثل هذا الاحتمال مع ثبوت الأصل في حكايات الأحوال ينزل منزلة الاحتمال في صيغ الأقوال.
461- ولكن لو صح ما ذكروه انقدح وراءه نوعان من الكلام:
أحدهما: أنه إن استقام النقل فيما ادعوه وهيهات فهو مما ادعاه ناشئة الزمان في الحصر في العدد فأما الجمع بين الأختين فلم [يصر] أحد إلى أنه عهد مسوغا.

 

ج / 1 ص -204-       في صدر الشريعة وقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}1 معدود عند المفسرين من باب الاستثناء من غير الجنس والمراد من قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}2 [ما سلف] في الجاهلية قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم والدليل عليه أنه قال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}3 وكان إذا جرى على صيغته فصيفته تتضمن الإخبار عما مضى فهذا وجه.
462- والوجه الآخر أنا نقول لو صح ما ادعوه من صحة مناكح المشركين لكان قياس الشرع يقتضي أن يبطل جميعها عند ورود الحجر والحصر بالتدافع كما إذا نكح [الرجل] رضيعتين جميعا أرضعتهما امرأة وثبتت الأخوة بينهما فاستدامة نكاحهما ممتنعة وتخصيص ارتفاع النكاح بأحدهما لا سبيل إليه فلزم تدافع النكاحين فإذا سلموا أن طريان الحجر لا يوجب التدافع قام عليهم مسلك في القياس [قبل] لهم به كما ذكرناه في مسائل الفقه فليطرد الناظر مقصود هذه المسألة في أمثالها وليحمل الخصم على تصحيح النقل فيما يدعيه ولا يكتفي بمجرد الاحتمال أصلا.
مسألة:
463- إن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله4:
"من ملك ذا رحم محرم فهو حر" فلا يصح تأويل متبعي الشافعي [إذا حاولوا] حمل اللفظ على الذين هم عمود النسب وهم الأصول أو الفصول وهذا الفن مما لا يلفى في الزمان من يجحده وهو باطل قطعا عند ذوي التحقيق وهذه المسألة عبرة لأمثالها فليمعن الناظر النظر فيها مستعينا بالله تعالى.
464- فنقول قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعميم واضح لائح في قوله5:
"من ملك ذا رحم محرم" فإن ذلك مما نقل عنه ابتداء لا في حكاية حال ولا جوابا عن سؤال ولا في قصد حل إعضال وكان يعتاد تأسيس الشرع ابتداء فإذا قال من ملك ذا رحم محرم تبين أنه أراد المحارم من ذوي الرحم أجمعين ولو أراد الآباء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "23" سورة النساء.
2 الآية السابقة.
3 آية "22" سورة النساء.
4 الترمذي "1365, 1865", وأبو داود "3949" وابن ماجه "2524", 2525", وأحمد 5/20, والبيهقي 10/169 وقال: صحيح.
5 سبق تخريجه.

 

ج / 1 ص -205-       والأمهات والبنين وعلم تخصيصهم بهذه القضية لنص عليهم فإذا ذكر الأقارب ثم علم أنهم ينقسمون إلى المحارم وغيرهم فخص الحكم الذي نص عليه بالمحارم من ذوي الأرحام تقرر أنه قصد بذلك الضبط والتشوف إلى ما يسميه أهل الصناعة الحد فكيف يستقيم أن يظن به عليه السلام أنه أراد الذين هم عمود النسب وجرى أيضا كلامه مجرى تعظيم أمر الرحم إذا انضمت إليه المحرمية فانتظم من مجموع ما ذكرناه ظهور قصد التعميم من الرسول فمن رام مخالفة قصده لم يقبل منه وإن عضده بقياس فمستنده ظن المستنبط أنه مراد الشارع وليس له في ألفاظه ذكر فما يظهر من لفظ الرسول عليه السلام كيف يترك بما يظنه القايس على بعد من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم؟
465- والقول الضابط في ذلك: أنه لو تقدم قياس مظنون على ظاهر من لفظ الرسول عليه السلام لاقتضى ذلك تقديم مرتبة القياس على مرتبة الخبر وسنبين أن الخبر مقدم على القياس.
466- والقدر المقنع فيها: أن لو [رددنا] إلى عقولنا لما سفكنا الدماء المحقونة في أهبها ولما حللنا الأبضاع المعظمة بأقيسة مستندها ظنون ولكنا ألفينا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكرمين يقيسون في غير موارد النصوص وثبت عندنا بالقاطع السمعي أن الإجماع حجة فإذا وقع العمل عند القياس بإجماعهم والإجماع مقطوع به ثم كانوا لا يقيسون ما وجدوا خبرا وكان الراوي البدوي الموثوق به إذا روى خبرا وظهر لهم قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعميم حكم لم يعرجوا على التأويلات البعيدة لأقيسة تعن لهم.
فإذا الألفاظ المأثورة على ثلاث مراتب عندنا:
467- المرتبة الأولى أن يلوح للمؤول أن الشارع لم يقصد التعميم [بها] فما كان كذلك فلا يسوغ الاستدلال بحكم العموم فيه ولا حاجة إلى التأويل فيه وهذا نضرب فيه أمثالا منها أن الرسول عليه السلام قال1:
"ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بنضح أو دالية ففيه نصف العشر" فإذا استدل الحنفي بهذا الظاهر في إثبات العشر في كل ما تنبته الأرض كان ذلك مردودا عليهم فإن الرسول استاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري في: الزكاة "55", وأبو داود في: الزكاة "12", والترمذي في: الزكاة "14", والنسائي في: الزكاة "25", وابن ماجه في: الزكاة "17", ومالك في: الزكاة "33".

 

ج / 1 ص -206-       كلامه هذا للفرق بين السيح والنضح لا للتعرض لجنس ما يجب فيه العشر فإذا ظهر أن هذا الفن من العموم لم يقصده الشارع وإن جرى في كلامه اللفظ [الصالح] له وهو "ما سقت السماء"1 فالاستمساك به في قصد التعميم باطل إذ ظهر من كلامه خلافه ومن أمثلة ذلك استدلال من استدل من أصحاب أبي حنيفة بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}2 أن قالوا كل ما يقع به التطهير مندرج تحت مقتضى الأمر. قال الشافعي3: الغرض من الآية التعرض [لأصل] التطهير لا التعرض لأصل التخصيص والتعميم في آلات التطهير والذي يحقق ذلك أن الباحث عن آلة التطهير عند اتصال هذا الخطاب به سائل عن الشيء على وجهه والذي يحقق ذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}4 استاق الآية لبيان كيفية الوضوء ولم يخصص الغسل بآلة مخصوصة مع اختصاصها بالماء وفاقا.
فهذه مرتبة فلتقس على الأمثال التي ذكرناها ما في معناها.
468- والمرتبة الثانية أن يظهر قصد التعميم من الشارع عليه السلام فهذا لا يسوغ تأويله بقياس مظنون كما سبق.
469- والمرتبة الثالثة أن يرد اللفظ ولا يقترن به ما يدل على قصد التعميم ولا ما يدل على نقيضه فهذا ملتطم التأويل وموقف التشاجر بين المستدل باللفظ وبين مدعى التأويل بمعاضدة بالقياس.
والقول في هذه المرتبة عندي هين مدركه والحكم الجملي فيه أن الأمر في ذلك أيضا ليس متروكا سدى بل على الناظر أن يزن حكم ظنه قياسه ومبلغ ظنه في عموم اللفظ وضعا فإن رجحت كفة ظنه في القياس حكم يغالب ظنه وإن غلب الظن في الشق الآخر أتبع الحكم موجب اللفظ وإن استويا فقد قال القاضي يقف الناظر فلا يعمل بهما وأنا أقول يعمل بالخبر فإن الظنين إذا تساويا فالخبر مرجح لعلو المرتبة وهذا مثله قوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات فإذا تمسك الشافعي به في الطهارة كان تمسكه به معرضا للتأويل على القانون المقدم فنتخذ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث السابق.
2 آية ة"" سورة المدثر.
3 سبقت ترجمته.
4 آية "6" سورة التوبة.

 

ج / 1 ص -207-       هذه عبرة في مسائل الشرع.
مسألة:
470- مما رده المحققون من طرق التأويل ما يتضمن حمل كلام الشارع من جهة ركيكة تنأى عن اللغة الفصحى فقد لا يتساهل فيه إلا في مضايق القوافي وأوزان الشعر فإذا حمل حامل آية من كتاب الله أو لفظا من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمثال هذه المحامل وأزال الظاهر الممكن إجراؤه لمذهب اعتقده فهذا لا يقبل.
471- ومن أمثلة ذلك حمل الكسر على الجوار في قوله:
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}1 من غير مشاركة المعطوف عليه في المعنى وهذا في حكم الخروج عن نظم الإعراب بالكلية وإيثار ترك الأصول لإتباع لفظة, لفظة في الحركة وهذا ارتياد الأردأ من غير ضرورة وإذا اضطر الشاعر إليه في مضايق القوافي لم يعد ذلك من [حسن] شعره كما قال امرؤ القيس2:.

كأن ثبيرا في عرانين وبله                      كبير أناس في بجاد مزمل.

فقوله: مزمل خبر عن قوله كبير أناس جار معه مجرى الصفة ووجه الكلام كبير أناس مزمل في بجاد ولكنه أتبع كسرة اللام الكسرات المتقدمة لما كانت القافية على الكسرة.
- 472وقال من أحاط بعلم هذا الباب حمل قراءة من قرأ
[{وَأَرْجُلِكُمْ} بالفتح على المسح في الرجل] والمصير إلى أنه محمول على محل رءوسكم أمثل وأقرب إلى قياس الأصول من حمل قراءة الكسر على الجوار فإن كل مجرور اتصل الفعل به بواسطة الجار فمحله النصب وإنما الكسر فيه في حكم العارض فاتباع المعنى والعطف على المحل من فصيح الكلام ومن كلامهم: يا عمر الجواد فإن المنادى المفرد العلم وإن كان مبنيا على الرفع فأصله النصب فرد الصفة إلى محله وأصله حسن بالغ.
473- فالمختار إذا في قوله: "وأرجُلِكُم" ما ذكره متبوع الجماعة وسيد الصناعة سيبويه إذ قال الكلام الجزل الفصيح يسترسل في الأحايين استرسالا ولا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "6" سورة التوبة.
2 سبقت ترجمته.

 

ج / 1 ص -208-       تختلف مبانيه لأدنى تغيير في معانيه وترى العرب المسح قريبا من الغسل فإن كل واحد منهما إمساس العضو ماء فإذا جرى في الكلام عطف مقتضاه التشريك وتقارب المعنيان لم يبعد إتباع اللفظ, اللفظ وهو كقول قائهم:

ولقد رأيتك في الوغى متلقدا سيفا ورمحا

والرمح يعتقل ويتأبط ولا يتقلد ولكن التقلد والاعتقال حملان قريبان وهو مسكوت عنه في المعطوف فسهل احتماله ومنه قول الآخر1:

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت                       بالجهلتين ظباؤها ونعامها.

قال سيبويه2: وهذا الذي ذكرناه وجه لا يخرج الكلام عن أساليب البلاغة والجزالة وتبسط المتكلم [واسحنفاره] وعدم انصرافه عن [استرساله] في التفاصيل أحسن وأبلغ من خرم اتساق الكلام لدقائق في المعاني لا تحتفل بها العرب ثم عضد ما قاله بأن قال ذكر الرب تعالى فرض الرجلين ذكره فرض اليدين وربط منتهى الغرض في الرجلين بالكعبين ربطه واجب منتهى فرض اليدين بالمرفقين ومن يكتفي بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده وهذا راجع إلى إطباق حملة الشريعة قبل ظهور الاراء على غسل الرجلين ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين الوضوء غسل رجليه فاجتماع هذه الأمور في القرآن والسنة وفعل السلف أظهر من الجريان على ما يقتضيه ظاهر العطف.
474- ومآل الكلام في المسألة راجع إلى أن من حمل كلام الشارع على وجه ركيك من غير ضرورة مخققه ولا قافية مضيقة جره ذلك إلى نسبة الشارع إلى الجهل باختيار فصيح الكلام أو إلى ارتياد الركيك من غير غرض وكلا الوجهين باطل.
475- فإن قيل بناء فعالل و [فعاليل] مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وصرفه معدود من ضرورات الشعر وفي القرآن قراءات عصبة من القراء سلاسلا وأغلالا [وقواريرا] فما وجه صرف ذلك وليس صرفه مسوغا في سعة الكلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الذي طوى المؤلف ذكره "لبيد".
2 سبقت ترجمته.

 

ج / 1 ص -209-       قلنا اختلف أصحاب المعاني في ذلك فقال قائلون الألف في سلاسلا تضاهى إطلاق القوافي ثم قد تبدل العرب الألف نونا فتستروح إلى عينها استرواحها إلى استرسال الألف وفي [الغايات] ومقاطع الآيات بعض أحكام القوافي والصحيح أن الأصل صرف كل اسم متمكن وليس في صرف ما لا ينصرف خروج عن وضع الكلام وإنما منع الصرف في حكم تضييق طارئ على الكلام وأما كسر الجوار فخارج عن القانون كما سبق تقريره.
ولسنا نلتزم الآن تتبع كل مشكلة في القرآن وإنما غرضنا أن نبين أن الاحتكام بتأويل يتضمن صرف الكلام إلى وجه ركيك في محل الظن غير سائغ من غير غرض.
مسألة:
476- مما غلظ الشافعي1 فيه القول على المؤولين كل ما يؤدي التأويل فيه إلى تعطيل اللفظ.
وخرج الشافعي على ذلك مسائل مستفادة ونحن نرى أن نفردها مسألة, مسألة:
477- ونبدأ الآن بالكلام على قوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}2 الآية قال الشافعي أضاف الله تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصناف موصوفين بأوصاف فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبا إلى أن المرعى الحاجة وهذا في التحقيق تأسيس معنى يعطل تقييدات أمر الله تعالى فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومقتضاها الضبط.
فإذا قال المؤول: الغرض التعرض للحاجة في جهة من هذه الجهات كان معطلا مؤولا فإن الحاجة قد لا تستمر في بعض الأصناف كالعاملين عليها وكبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات لتطفئة [لنائرة], والفتن الثائرة فقد بطل التعويل على الحاجة.
وإن كان أبو حنيفة3 يرعى الحاجة في جميع الأصناف فالمصير إلى الكفاية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 آية " سورة التوبة.
3 سبقت ترجمته.

 

ج / 1 ص -210-       ببعض جهات الحاجات تحكم والنص مصرح بذكر جميع الحاجات في معرض التشريك والعطف والتمليك ولو كان المراد ما تخيله المؤول لكان وجه الكلام إنما الصدقات للفقراء والمساكين فاستبان أن ما صار إليه المعترضون تعطيل وليس بتأويل.
478- واحتج الشافعي بالوصية على هؤلاء ولم يظن أن أحدا يجسر أن يقدم فيها على منع وتمام كلامه أنه إذا تعين اعتبار لفظ الموصى واعتقاده نصا فيجب تنزيل لفظ الكتاب على مثل ذلك وقد أحدث بعض المتأخرين منعا في الوصية وزعموا أنها بمثابة الصدقات فيجوز صرفها إلى واحد من ذوي الحاجات وهذا باطل قطعا فإن الوصايا تتلقى من ألفاظ الموصين فإذا صرف واحد طائفة من ماله إلى جهات عددها كان كما لو صرفها إلى أشخاص معينين [فهذا منتهى المراد في هذه المسألة].
مسألة:
479- مما عده الشافعي من القبيل المقدم الكلام على قوله تعالى:
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}1 فقال علق الله الاستحقاق بالقرابة ولم يتعرض لذكر الحاجة فاعتبر أبو حنيفة الحاجة ولم يشترط القرابة والذي ذكره مضادة ومحادة.
وقد ينقدح عندي نوع من الكلام في ذلك وهو أن يقال: حرمت الصدقات على ذوي القربى فكان فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنيمة إيضاح أنه لا يمتنع من صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات وهذا مما لا ينبغي أن [يغتر به] فإن صيغة الآية ناصة على سبب الاستحقاق لهم على حكم التخصيص والتشريف والتنويه والتنبيه على عظم أقدارهم فمن أراد حمل ذلك مع ما ذكرناه على جواز أن يصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز جواز حرمانهم فقد عطل فحوى الآية.
وهذا يعظم وقعه عليهم مع مصيرهم إلى أن اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النص فإن الرقبة مطلقة والقرابة في الآية مطلقة فيلزمهم أن يعتقدوا اشتراط الحاجة معها في حكم الزيادة.
والذي نختتم المسألة به وهو البالغ: أنهم لو حتموا صرف شيء إلى القرابة,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "41" سورة الأنفال.

 

ج / 1 ص -211-       وشرطوا الحاجة لقرب ما ذكروا بعض القرب فأما وأصلهم أن المخصوصين من نسب الرسول والدانين من شجرته كالعجم الطماطم فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه.
مسألة.
480- من فاسد تصرفات أصحاب أبي حنيفة قولهم في قوله تعالى:
{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}1 تقديره فإطعام طعام ستين مسكينا قصدوا بهذا رد العدد إلى الطعام كي ينتظم لهم مذهبهم في جواز صرف الأطعمة إلى مسكين واحد.
وهذا كلام خارج عن الضبط لا يخفى درك فساده على من شدا طرفا من العربية ونحن نذكر في ذلك على الإيجاز قولا بليغا.
فنقول: الإطعام مما يتعدى إلى مفعولين والفعل المتعدى إلى مفعولين ينقسم قسمين قسم يتعدى إلى مفعولين لا ينتظم منها مبتدأ وخبر لو فرض حذف الفعل فتقول أعطيت زيدا درهما وأطعمت عمرا طعاما فلا يتسق من زيد والدرهم وعمرو والطعام مبتدأ وخبر عند تقدير حذف الفعل فلا تقول زيد درهم ولا عمرو طعام.
والقسم الثاني: ما يتعدى إلى مفعولين ينتظم منهما مبتدأ وخبر إذا حذف الفعل كقوله ظننت زيدا عالما فلو حذفت الفعل فقلت زيد عالم لكان كلاما مفيدا فما كان مفعولاه مبتدأ وخبرا تقديرا فإذا ذكر المتكلم أحد المفعولين تعين ذكر الثاني لما بين المفعولين من ارتباط الخبر بالمخبر عنه وما يختلف المفعولان فيه كالقسم المقدم فلا يمنع ذكر أحدهما والسكوت عن الثاني فتقول أعطيت زيدا وتقتصر وتقول أعطيت درهما ولا تذكر الموهوب له وقد تذكرهما والكل فصيح بالغ والسبب فيه أنه لا ارتباط لأحد المفعولين بالثاني من طريق الإخبار وإنما البناء للفعل والمخبر يتخير إن أحب أسنده إليهما وإن أحب أسنده إلى أحدهما فالتعويل على الفعل في باب الإعطاء ولهذا لا يسوغ تعطيل عمله وإن تقدم المفعولان في وجه الكلام فتقول زيدا درهما أعطيت فإذا تقدم مفعولا ظننت لم يقع فعل الظن موقعا فتقول زيد عالم ظننت لا يتجه غيره وإن وسطت الفعل تخيرت بين الإعمال والإلغاء فإن شئت قلت زيد ظننت عالم وإن شئت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "4" سورة المجادلة.

 

ج / 1 ص -212-       قلت: زيدا ظننت عالما وإن قدمت الفعل فوجه الكلام الإعمال لظهور الاعتناء بالفعل إذا قدم.
481- فإذا ثبت ما نبهنا عليه من هذه القاعدة رجع بنا الكلام بعد هذا إلى قوله تعالى:
{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}1 والمساكين معطون والطعام في هذا التقدير المفعول الثاني فقد جرى الكلام على إظهار أحد المفعولين وترك الثاني لما في الكلام من الدليل عليه وقد أوضحنا أن ذلك سائغ غير ممتنع وإذا ظهر أحد المفعولين أشعر ظهوره بقصد المتكلم إلى تصديق الاعتناء به والاكتفاء في الثاني بما في الكلام من الدلالة عليه وطعام المسكين مشعر بقدر سداده وكفايته فلم يجر للقدر المذكور ذكر ووقع الاعتناء بذكر عدد الآخذين.
هذا بيان الكلام فمن عذيرنا ممن يقدر حذف المظهر المعتبر وإظهار المفعول المسكوت عنه وهذا عكس الحق ونقيض الصدق وتغيير قصد الكلام بوجه لا يسيغه ذو عقل وقد أجرينا في "الأساليب" و"العمد" مسائل ومعتمد المذاهب فيها الأخبار وتناهينا في الكلام عليها فمن أرادها فليطلبها في مواضعها كمسألة خيار المجلس وبيع العرايا والمصراة وغيرها.
ومن أعظم ما انبسط الكلام فيه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع البر بالبر في مسألة الحفنة [بالحفنتين] فلم نرسم هذه المسائل واكتفينا بإيرادها في مواضعها.
مسألة:
482- إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ يدل على تعليل حكم فلا يرى الشافعي إزالة ذلك الظاهر بقياس وهذا كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر قال للسائل:
"أينقص الرطب إذا يبس؟", فقال: نعم, قال عليه السلام: "فلا إذا"2 فعلل منع بيع الرطب بالتمر بنقصان الرطب عند الجفاف عن التمر وهذا وإن لم يكن نصا في وضع اللسان في التعليل بحيث لا يقبل إمكان التأويل فهو ظاهر فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان ما يحاوله مردودا عليه والسبب فيه أن أصل قياسه إذا كان القياس قياسا معنويا معلل والقايس مطالب بإثبات العلة وسيتعلق إذا طولب بمسلك من الظنون وظهور كلام الرسول في التعليل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت.
2 سبق تخريجه.

 

ج / 1 ص -213-       مقدم على ما يظهر في ظن المستنبط ويرجع بناء الكلام إلى تقديم مرتبة الخبر على مرتبة ظن القياس وهذا إذا لم يجد المؤول العاضد تأويله بالقياس لأصل قياسه كلاما يظهر للشارع في تعليل أصل القياس فإن وجد ذلك من كلام الشارع استوت المنزلتان والتحق ذلك بالتعارض وسيأتي قول بالغ في التعارض في كتاب الأخبار إن شاء الله تعالى.
مسألة:
483- إذا وردت مناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [في عقود] وظهر من شيم العلماء القائمين بالشرع حملها على الفساد فإذا اتفق التعلق بنهي عن العقد وهو على صيغ سائر المناهي فالشافعي لا يقبل حمله على الكراهية وهذا كنهيه عليه السلام عن نكاح الشغار فمن أراد حمله على الكراهية قيل له قد ثبت من عادات السلف الماضين حمل أمثال[ما ذكرناه] وتمسكنا به على الفساد وهذا الذي تعلقنا به على صورة سائر المناهي ونحن نعلم بما تحقق عندنا من شيم الماضين أن هذا لو نقل إليهم لجروا فيه على ما القوه في أمثاله فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان في حكم المخالف لهم.
484- وهذا عندي لا يبلغ في السقوط مبلغ ما تقدم من التأويلات في المسائل لا سيما والذي مثلنا به نواه في البيع والنكاح في وضعه بعيد الشبه بالبيع فلا يلزم من جريانهم على حمل المناهي في البيع القابل للفساد بالشروط الحكم بمثل ذلك عليهم في النكاح البعيد عن قبول الفساد بالشرط وهذا الذي ذكرناه من المسائل لم نقصد بها حصر ما يفسد ويصح فإن ذلك لا ينحصر ولكن رمنا بإيرادها الإيناس بها [وإجراءها] أمثالا وشواهد في تمهيد الأصول.
485- والضابط المنتحل من مسائل هذا الكتاب أن المؤول يعتبر بما يعضد التأويل به فإن كان ظهور المؤول زائدا على ظهور ما عضد التأويل به فالتأويل مردود وإن كان ما عضد التأويل به أظهر فالتأويل صائغ معمول به وإن استويا وقع ذلك في رتبة التعارض والشرط استواء رتبة المؤول وما عضد التأويل به فإن كان مرتبة المؤول مقدمة فالتأويل مردود وكل ذلك إذا كان التأويل في نفسه محتملا فإن لم يكن محتملا فهو في نفسه باطل والباطل لا يتصور أن يعضد بشيء.
فليتخذ الناظر ما ذكرناه مرجوعة ومعتبره في جميع مسائل الشريعة.

 

ج / 1 ص -214-       عود إلى ترتيب الكتاب.
486- وقد نجز مرادنا في التأويل تفصيلا وتأصيلا ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشتمل على ما مضى من الكتاب وعلى ما سيأتي منه حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية فنقول والله المستعان:.
487- مقصود هذا الفن ذكر أصول الفقه على حقائقها ومراتبها و[مناصبها] وتفاصيلها وجملها فأصول الفقه أدلته كما صدرنا الكتاب به وما يحال عليه أحكام الشرع وتعتقد مرتبطا لها ثلاثة أقسام نطق الشارع والإجماع الحاصل من حملة الشريعة وهم علماؤها ومسالك الاستنباط من مواقع ألفاظ الشارع وهو القياس فأما نطق الشارع فنعني به قول الله تعالى: وقول الرسول عليه السلام وينقسم الصنفان إلى النص والمجمل والظاهر وقد سبقت مفصلة فيقع القول في مقتضيات الألفاظ فنا كبيرا وصنفا عظيما ويحوي العموم والخصوص وصيغة الأمر والنهي وما يلحق بهذه الأبواب وقد مضى جميع ذلك ثم قول الرسول عليه السلام ينقسم إلى متواتر وإلى ما ينقله الاحاد كما سيأتي إن شاء الله تعالى فأما قول الله فهو الذي أجمع المسلمون عليه من السور والآيات في القرآن وألحق بعض المتكلمين القراءات الشاذة بأخبار الآحاد وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى والحق المختار عندنا في كتاب الأخبار.
وقد ذكرنا أحكام الألفاظ وبقى علينا تقاسيم أخبار الرسول عليه السلام ومواقعها والمقطوع به منها والظنون.
ونحن الآن نفتح كتاب الأخبار على أشمل وجه وأوجزه فإذا انتجز عقبناه بالإجماع ثم نذكر بعده كتاب القياس ثم نعقبه بكتاب الترجيح ثم نذكر بعده النسخ ثم إذا انتجز ذكرنا الفتوى وصفات المفتين والاستفتاء وما على المستفتين وأوصاف المجتهدين ونختتم الكتاب بالقول في تصويب المجتهدين وهو غاية الغرض من هذا المجموع فنبتدئ الآن.