البرهان في أصول الفقه ج / 1 ص -189-
باب القول في التعليق بشرائع الماضين.
411- اضطربت
المذاهب في ذلك فصار صائرون إلى أنا إذا وجدنا حكما في شرع
من قبلنا ولم نر في شرعنا ناسخا له لزمنا التعلق به
وللشافعي ميل إلى هذا وبنى عليه أصلا من أصوله في كتاب
الأطعمة وتابعه معظم أصحابه.
412- وذهب ذاهبون من المعتزلة إلى أن التعلق بشرع من قبلنا
غير جائز عقلا وبنوا مذهبهم على أن ذلك لو قدر لأشعر
بحطيطة في شريعتنا ولتضمن ذلك أيضا إثبات حاجة إلى مراجعة
من قلنا وهذا حط من مرتبة الشريعة وغض من منصب المصطفى
عليه السلام.
413- وصار صائرون إلى أن ذلك لا يمتنع عقلا ولكنه ممنوع
شرعا واعتصموا بما روى أن رسول الله صلى الله لعيه وسلم
بلغه أن عمر كان يراجع اليهود في أقاصيص بني إسرائيل فسأله
رسول الله صلى الله ليه وسلم عن ذلك ونهاه عن صنيعه وقال1:
"لو كان ابن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي".
414- والمختار عندنا أن
العقل لا يحيل إيجاب اتباع أحكام شرع من قلنا إذا لم يرد
في شرعنا ناسخ له وما ذكره بعض المعتزلة من أن ذلك غض من
الدين وحط من مرتبة الشريعة [وتنفير من اتباع شرعة الحق]
ساقط لا حاجة إلى إيضاح بطلانه ولكن ثبت عندنا شرعا أنا
لسنا متعبدين بأحكام الشرائع المتقدمة والقاطع الشرعي في
ذلك: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يترددون
في الوقائع بين الكتاب والسنة والاجتهاد إذا لم يجدوا
متعلقا فيهما وكانوا لا يبحثون عن أحكام الكتب المنزلة على
النبيين والمرسلين قبل نبينا عليهم الصلاة والسلام.
415- فإن قيل: امتنع ذلك عليهم من جهة أن أهل الأديان
السابقة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التي نزلت عليها
قلنا هذا باطل من وجوه:.
أحدها: أن ما ذكروه يجر مساقه إلى أنه لا يجب التتبع
للشرائع المتقدمة لمكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد 3/387, ودلائل النبوة 1/8, وابن عساكر 5/162,
والدارمي 1/115, وابن أبي عاصم في السنة 2/5, والإرواء
6/34, وقال: حسن.
ج / 1 ص -190-
التباسها واندراسها فكأن هؤلاء وافقوا المذهب وخالفوا في
العلة.
والوجه الثاني أنه لو كان لنا متعلق في شرع من قبلنا
لنبهنا الشارع على مواقع التلبيس حتى لا يتعطل علينا مرجع
الأحكام والوجه الثالث أنه كان أسلم من الأحبار المطلعين
على مواقع التغيير طائفة منهم عبد الله1 بن سلام وقد
استشهد الله به في نص القرآن وقال:
{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}2
[وقال:
{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ}3] وأسلم كعب4 الأحبار في زمن عمر وكان المنتهى في علوم الأديان
والإحاطة بالكتب وبالجملة لم يثبت قط رجوع إمام في عصر من
الأعصار إلى تتبع الأحكام من الملل السابقة فانتهض ما
ذكرناه قاطعا شرعيا فيما نحاوله.
416- فإن تمسك فقهاؤنا بقوله سبحانه وتعالى:
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
وَهَذَا النَّبِيُّ}5
وقوله:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}6 وقوله:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}7 قيل: المراد بمساق هذه الآي الرد على المشركين وبيان إطباق
النبيين على الدعاء إلى التوحيد وكان إبراهيم صلى الله
عليه وسلم على مسلكه المعروف رادا على عبدة الأوثان فلما
بلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جرت الآى المشتملة
على ذكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تأييد التوحيد
والرد على عبدة الأوثان.
مسألة:
417- مما ذكره الأصوليون متصلا بهذا الفن القول فيما كان
النبي عليه السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبد الله بت سلام بن الحارث أبو يوسف الإسرائيلي نسبا
الأنصاري الخزرجي حلفا. وكان من سادات اليهود وأحبارهم,
ومعظما في الجاهلية والإسلام. مات سنة "43هـ". له ترجمة
في: أسد الغابة 3/264 والإصابة 2/312, وشذرات الذهب 1/53.
2 آية "43" سورة الرعد.
3 آية "10" سورة الأحقاف.
4 كعب الأحبار هو: كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق. يقال
5 سبقت ترجمته.
6 آية "68" سورة آل عمران.
7 آية "78" سورة الحج.
ج / 1 ص -191-
قبل أن
يبعثه الله نبيا وهذا ترجع فائدته وعائدته إلى ما يجرى
مجرى التواريخ ولكن مأخذه الأصول كما سنبين الآن.
418- فذهبت المعتزلة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن
على اتباع نبي ولكن على شريعة العقل في اجتناب القبائح
وإتيان المحاسن العقلية وزعموا أنه لو عهد متبعا قط لكان
في ذلك غميزة فيه لما بعث نبيا.
وهذا كلام مستندة أصلان باطلان أحدهما القول بشريعة العقل
وقد أبطلناه والثاني أن ما ادعوه من إفضاء اتباعه إلى
منقصة في منصبه فهذا قد تكرر منهم مرارا ووضح سقوطه.
419- وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شريعة إبراهيم عليه
السلام كما قدمناه في المسألة السابقة وقد أوضحنا أنها
واردة في التوحيد والتمسك بها في هذه المسألة ليس بشيء
قطعي وغاية ما يسلم لهم ظاهر معرض للتأويل وقد تقرر أن
الظواهر لا يسوغ التمسك بها في محاولة القطعيات ثم يعارضها
قوله تعالى:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً}1.
420- وذهب ذاهبون إلى أنه كان على شرع نوح لهذه الآية فإن
تعلق بها صاحب هذا المذهب فأية إبراهيم تعارضها.
421- وصار طائفة ممن ينتمي إلى التحقيق إلى أنه كان على
شريعة عيسى فإنها آخر الشرائع قبل شريعة المصطفى وكان
الخلق عامة مكلفين بها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من
المكلفين.
وهذا غير سديد من جهة أنه لم يثبت عندنا أن عيسى عليه
السلام كان مبعوثا إلى الناس كافة ولو ثبت ابتعاثه إليه
فقد كانت شريعته دارسة الأعلام مؤذنة بالانصرام والشرائع
إذا درست سقط التكليف بها.
422- وقال القاضي لم يكن عليه السلام على شرع وقطع بهذا
ولكنه لم يأخذه من مأخذ المعتزلة حيث أحالوا ذلك عقلا بل
القاضي قطع بجواز ذلك في العقل ولكن متعلقة فيما صار إليه
أنه عليه السلام لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها
[لما بعث نبيا] ولتحدث بذلك أحد في زمانه وبعده فإن الأمر
ظاهر لا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "13" سورة الشورى.
ج / 1 ص -192-
يكاد
يخفى في مستقر العادات على ما سيأتي ذلك مستقصى في كتاب
الأخبار وما يجب أن يتواتر منها.
423- والمختار عندنا أن الأمر في ذلك ملتبس فلا وجه لجزم
القول في نفي ولا إثبات وما ذكره القاضي من اقتضاء العادة
ظهور دين مثله عليه السلام فهو في مسلكه بين ولكن يعارضه
أنه لو لم يكن على دين أصلا لذكر فإن ذلك أبدع وأبعد من
المعتاد مما ذكره القاضي فقد تعارض الأمران.
والوجه أن يقال: كانت العادة انخرقت برسول الله عليه
السلام في أمور منها انصراف الناس عن أمر دينه والبحث عنه
فهذا منتهى القول في ذلك.
ونحن الآن بتوفيق الله وتأييده نبتدىء [الكلام] في التأويل
مستعينين بالله تعالى وهو خير معين. |