البرهان في أصول الفقه فصل:
630- الكلام
بعد هذه المسائل الثلاث في أربعة فنون.
أحدها: في عدد المجمعين وصفتهم.
والثاني: في الزمن لمعتبر في الإجماع.
والثالث: في كيفية الإجماع قولا أو سكوتا
أو فعلا.
والرابع: فيما يثبت بالإجماع وفيما لا
يثبت.
631- فأما الفن الأول: فإنه ينقسم إلى مسائل خلافية وفصول
مذهبية ومجموع القول فيه يقع في نوعين:
أحدهما: في صفة المجمعين, والثاني: في عددهم.
فأما الصفة: فلا شك أن العوام ومن شدا طرفا قريبا من العلم
لم يصر بسبب ما تحلى به من المتصرفين في الشريعة وليسوا من
أهل الإجماع فلا يعتبر خلافهم ولا يؤثر وفاقهم وأما
المفتون المجتهدون فلا شك في اعتبارهم وأما الذين تبحروا
في الأصول وقواعد الشرع وأطراف من الفقه والذين تبحروا في
يجمعه مضمون المسألة التي نرسمها [إن شاء الله تعالى].
مسألة:
632- ذهب القاضي إلى أن الأصولي الماهر المتصرف في
الفقه يعتبر خلافه ووفاقه.
والذي ذهب إليه معظم الأصوليين خلاف ذلك فإن من وصفه
القاضي ليس.
ج / 1 ص -265-
من
المفتين ومن لم يكن منهم ووقعت له واقعة لزمه أن يستفتي
المفتين فيها فهو إذا من المقلدين ولا اعتبار بأقوالهم
فإنهم تابعون غير متبوعين وحملة الشريعة مفتوها والملقدون
فيها.
واحتج القاضي لمذهبه بأن قال: من وصفته من أهل التصرف في
الشرع وهو ممن يستضاء برأيه ويستهدي بنهجه وأنحائه في مجلس
الاشتوار وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي
معتبر وإذا ظهر على اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار
الوفاق وعضد ما قاله بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كانوا في النظر في المشكلات لا ينكرون على ذوي الفطن
والأكياس [من الناس] رأيهم إنكار توبيخ وتقريع وتحذير من
مخالفة الإجماع وأهله فإن ابن عباس كان يفاوض حلة الصحابة
رضي الله عنهم وما كان بلغ بعد مبلغ المجتهدين.
وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر فإنه ما أظهر ابن عباس
الخلاف إلا بعد استجماعه خلال الكمال فمن ادعى أنه وقت
مخالفته ما كان من المجتهدين فقد أحال قوله على عماية لا
تحقق فيها.
وعلى الجملة: إذا أجمع المفتون وسكت المتصرفون فيبعد أن
يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم وأخذ رأيهم فإن الذين
لا يستقلون بأنفهم في جواب مسألة ويتعين عليهم تقليد غيرهم
فوجوب مراجعتهم محال وإن فرض عدم الإنكار عليهم إذا أبدوا
وجها في التصرف إن سلم ذلك فهو محمول على إرشادهم وهدايتهم
إلى سواء السبيل وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يرغم الإجماع
فالإنكار يشتد عليهم.
633- والقول المغنى في ذلك: أنه لا قول لمن لم يبلغ مبلغ
المجتهدين وليس بين من يقلد ويقلد مرتبة ثالثة فإن قيل إذا
أجمع المفتون والمتصرفون الذين لم يبلغوا ذروة الفتوى فهذا
إجماع مقطوع به وإذا أجمع المفتون وخالفهم المتصرفون
فيلتحق هذا بما لا يقطع بكونه إجماعا وإنما يقوم الإجماع
حجة إذا كان النظر مقطوعا به قلنا النظر السديد يتخطى كلام
القاضي وعصره ويترقى إلى العصر المتقدم ويفضي إلى مدرك
الحق قبل ظهور هذا الخلاف.
فأما التحقيق- خالف القاضي أو وافق- أن المجتهدين إذا
أطبقوا لم يعد خلاف المتصرفين مذهبا محتفلا به فإن المذاهب
لأهل الفتوى فإن شبب القاضي بأن المتصرف الذي ذكره من أهل
الفتوى في كلامه تشبيب بهذا فنشرح القول في.
ج / 1 ص -266-
كتاب
الفتوى والكلام الكافي في ذلك أنه إن كان مفتيا اعتبر
خلافه.
مسألة:
634- ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل
الإجماع والفسقة وإن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين
فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم فإنهم بفسقهم خارجون عن الفتوى
والفاسق غير مصدق فيما يقول وافق أو خالف.
635- وهذا فيه نظر عندي فإن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن
يقلد غيره [بل يلزمه أن يتبع في وقائعه ما يؤدي إليه
اجتهاده وليس له أن يقلد غيره] فكيف ينعقد الإجماع عليه في
حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه وإذا بعد انعقاد
الإجماع في حقه استحال انعقاد بعض حكمه حتى يقال انعقد
الإجماع من وجه ولم ينعقد من وجه.
فإن قيل هو عالم في حق نفسه باجتهاده مصدق عليه فيما بينه
وبين ربه وهو مكذب في حق غيره فلا يمتنع انقسام أمره على
هذا الوجه فينقسم حكم الإجماع في حقه قلنا هذا محال فإن
الفاسق لا يقطع بكذبه ولا يقطع بصدقه فهو كعالم في غيبته
فإن تاب كان كما لو آب الغائب فهذا ما تمس الحاجة إلى ذكره
من صفات المجمعين.
636- والقول الضابط في كل ما لم نذكره أن كل ما لا يعتبر
عند المفتين فهو غير معتبر في المجمعين كالحرية والذكورة
وغيرهما والكافر وإن حوى م علوم الشريعة أركان الاجتهاد
فلا معتبر بقوله أصلا وافق أو خالف فإنه ليس من أهل
الإسلام والحجة في إجماع المسلمين والمبتدع إن كفرناه لم
نعتبر خلافه ووفاقه وإن لم نكفره فهو من المعتبرين إذا
استجمع شرائط المجتهدين وقد قبل الشافعي شهادة أهل الأهواء
ولم ينزلهم منزلة الفسقة فهذا أحد طرفي هذا الفن.
637- فأما الكلام في عدد المجمعين فإن كان علماء العصر
بالغين مبلغا لا يتوقع منهم التواطؤ وهم الذين يسمون عدد
التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع بوفاقهم وإن فرض نقصان
عدد علماء العصر عن هذا المبلغ فهذا موضع التردد.
مسألة.
638- ذهب بعض أهل الأصول إلى أنه لا يجوز انحطاط علماء
العصر عن مبلغ.
ج / 1 ص -267-
التواتر فإنهم قومة للملة وحفظة للشريعة وقد ضمن الله
قيامها ودوامها وحفظها إلى قيام الساعة ولو عاد العلماء
إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فلا يتأتي منهم الاستقلال
بالحفظ.
وقال الأستاذ: يجوز بلوغ عددهم إلى مبلغ ينحط عن عدد
التواتر ولو أجمعوا كان إجماعهم حجة ثم طرد قياسه فقال
يجوز ألا يبقى في الدهر إلا مفت واحد ولو اتفق ذلك فقوله
حجة كالإجماع.
639- والذي نرتضيه- وهو الحق- أنه يجوز انحطاط عددهم بل
يجوز شغور الزمان عن العلماء وتعطيل الشريعة وانتهاء الأمر
إلى الفترة وهذا نستقصيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
فأما من قال إن إجماع المنحطين عن مبلغ التواتر حجة فهو
غير مرضى فإن مأخذ الإجماع يستند إلى طرد العادة كما تقدم
ذكره ومن لم يحن إسناد الإجماع إليه لم تستقر له قدم فيه.
فهذا حاصل القول في أوصاف المجمعين وعددهم.
الفن الثاني:
فأما الفن
الثاني: فهو القول في الزمان وتفصيل المذهب في اشتراط
انقراض العصر في انعقاد الإجماع.
مسألة:
640- اختلفت مسالك القائلين بالإجماع في اشتراط انقراض
المجمعين في انعقاد الإجماع.
فذهب أقوام إلى أنه لا يحكم بانعقاد الإجماع ما بقى من
المجمعين أحد.
ثم هؤلاء يقولون: لو أجمع العلماء في عصر ثم لحقهم لاحقون
وبلغوا رتبة المجتهدين فلا يعتبر انقراضهم إذ قد يلحقهم
اخرون وهذا يفضي إلى عسر تصوير الانقراض فالمرعى إذا
انقراض الذين أجمعوا أولا.
ومن مقتضى هذا المذهب أنه لو رجع واحد من المجمعين فهو
سائغ وتعود المسألة نزاعية بعد ما كانت تظن إجماعه وإنما
يمتنع الخلاف إذا استمروا على الوفاق حتى انقرضوا.
ثم قال هؤلاء: لو اتفق اجتماع العلماء ومصيرهم إلى مذهب في
واقعة ثم.
ج / 1 ص -268-
خر
عليهم سقف على القرب أو عمهم وجه من وجوه الهلاك فقد انبرم
إجماعهم في ذلك الحكم وإن كان ذلك في زمن قريب ولو بقوا
زمنا طويلا مصممين على ما قالوه لم ينعقد الإجماع ما لم
ينقرضوا.
وقال القاضي: إذا أجمعوا قامت الحجة من غير استئخار
وانتظار انقراض ولو فرض خلاف بعد الوفاق كان المخالف خارجا
عن حكم الإجماع خارقا ربقة الوفاق.
وقال الأستاذ أبو إسحاق وطائفة من الأصوليين: إن كان
الإجماع قوليا لم يشترط فيه الانقراض وإن كان حصوله بسكوت
جماهير العلماء على قول واحد منهم من غير إبداء نكير عليه
فهذا النوع يشترط في انعقاده ووجوب الحكم به انقراض العصر
خليا عن إظهار الإنكار.
641- والحق المرضى عندنا: أن الإجماع ينقسم إلى مقطوع به
وإن كان في مظنة الظن وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى
الظن بزعمهم فأما ما قطعوا به على خلاف موجب الاعتياد
فتقوم الحجة به على الفور من غير انتظار واستئخار فإنا
أوضحنا أن ذلك إذا اتفق فهو محمل على رجوعهم إلى أصل مقطوع
به عندهم وتقدير خلاف ذلك مخالف موجب طرد العادة والعادة
لا تنخرق لا في لحظة ولا في آماد متطاولة إن اتفقوا على
حكم وأسندوه إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم مع
إسنادهم ما أفتوا به إلى أساليب الظنون ما لم يتطاول الزمن
فإن الإجماع على الحكم مع الاعتراف بالتردد في الأصل لا
يعد إجماعا وإطباقا ولو فرض من [بعضهم] إظهار خلاف ما عن
لهم على البدار لم يعد ذلك المخالف والحالة كما صورناه
عاقا خارقا حجاب الهيبة فإنهم إذا قالوا: قالوا قرنوه بما
يرخى طول الناظر المتفكر وسوغ له طرق التفكير نعم إن
استمروا على حكمهم ولم ينقدح على طول الزمن لواحد منهم
خلاف فهذا الآن يلتحق بقاعدة الإجماع وهذا عسر التصور فإن
المظنون مع فرض طول الزمن فيه يبعد أن يسلم عن خلاف مخالف
من الظانين فإذا تصور فالحكم ما ذكرناه فإن امتداد الأيام
يبين إلحاقهم بالمصرين ويرفعهم عن رتبة المترددين ويتجه إذ
ذاك توبيخ المخالفين ومخاطبتهم بأن ما ذكرتموه لو كان وجها
معتبرا لما أغفله العلماء المفتون.
ج / 1 ص -269-
وشرط
ما ذكرناه أن يغلب عليهم في الزمن الطويل ذكر تلك الواقعة
وترداد الخوض فيها فلو وقعت الواقعة فسبقوا إلى حكم فيها
ثم تناسوها فلا أثر للزمان والحالة هذه.
ثم إذا لاح أن المعتبر ظهور الإصرار بتطاول الزمن فلو
قالوا عن ظن ثم ماتوا على الفور كما تقدم تصوير ذلك فلست
أرى ذلك إجماعا من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن ثم لم يتضح
إصرارهم فهذا هو المغزى.
642- ثم لو روجعنا في ضبك ذلك الزمان فقد أحوجنا إلى كشف
الغطاء فإنا سنقول مجيبين: المعتبر زمن لا يفرض في مثله
استقرار الجم الغفير على رأى إلا عن حامل قاطع أو نازل
منزلة القاطع على الإصرار وهذا إذا يمنع تصوير الإصرار مع
البوح بالظن في جميع الزمان إلا أن يتكلف متكلف فيه وجها
فنقول: وقد يفهم ظهور وجه من الظن فإن الأمر البالغ الجلي
الظني تبتدره العلماء ابتدارهم اليقين ولكن لا يلوح جلاؤه
إلا بالإصرار.
وللفطن أن يقول: من انتهى إلى هذا المنتهى فقد اعتزى إلى
القطع فإن ما بلغ في الوضوح مبلغا يجمع شتات الرأي فهو
مسلك متبوع قطعا فليفهم الناظر ما يلقى إليه.
643- وإما إطلاق القاضي القول بقيام الحجة من غير تفصيل
ففي أطراف كلامنا ما يدرؤه واشتراط الموت مع طول الزمن لا
معنى له والاكتفاء به على قرب لا طائل وراءه.
وما ذكره الأستاذ أبو إسحاق من ربط الإجماع السكوتي
بالانقراض فغير مرضى فإنا سنوضح أن سكوت العلماء على قول
قائل محل الظن لا يكون إجماعا ثم ما ذكره يلزمه اعتبار
الزمان إذا باحوا بصدور حكمهم عن موجب الظن كما قدمناه ثم
لا معول على الانقراض فالذي اخترناه استثمار طرق الحق في
المسالك كلها فهذا منتهى القول في الزمان وما يتعلق به.
الفن الثالث: في وجه انعقاد الإجماع.
فأما الفن
الثالث: فمضمونه تفصيل القول في وجه انعقاد الإجماع.
644- والكلام في ذلك تفصله مسائل خلافية وفي أدراجها فصول
مذهبية.
ج / 1 ص -270-
ونرسم
المسائل أولا ونذكر ما فيها ونجرى في أثنائها ما يتعلق
بحكاية المذاهب ثم إذا نجز الفن ختمناه بضابط يسهل التناول
ويبين صور الخلاف والوفاق.
مسألة:
645- إذا قال واحد في شهود علماء العصر فكان ذلك القول
موافقا لبعض مذاهب العلماء في محل الاجتهاد ومسلك الظن
فسكت العلماء عليه ولم يبدوا نكيرا على القائل فهو يكون
تركهم النكير تقريرا نازلا منزلة إبداء الموافقة قولا.
اختلف الأصوليون في ذلك فظاهر مذهب الشافعي وهو الذي يميل
إليه كلام القاضي أن ذلك لا يكون إجماعا.
والذي مال إليه أصحاب أبي حنيفة أنه إجماع وهو اختيار
الأستاذ أبي إسحاق فنذكر ما تمسك به أصحاب أبي حنيفة
ونتتبعه ثم نذكر المختار عندنا.
فإن قالوا: أهل الإجماع معصومون عن الزلل والعصمة واجبة
لهم كما تجب للبني ثم إذا رأى [النبي] مكلفا يقول قولا
متعلقا بأحكام الشرع فسكت عنه ولم ينهه كان ذلك تقريرا منه
نازلا منزلة التصريح بالتصديق وإبداء الوفاق.
وهذا الذي ذكروه لا حاصل له فإنه أولا محاولة إثبات
الإجماع بطريق القياس وهذا ما لا سبيل إليه فإن الأقيسة
المظنونة لا مساغ لها في القطعيات وغاية هذا الكلام تشبيه
صورة بصورة وقياس حالة من قوم على حالة من الشارع عليه
السلام.
والذي يوضح فساد هذا المسلك: أنه لا يمتنع في مقتضى العقل
ورود التعبد باعتقاد تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم
شرعا مع التعبد بالعلم بأن سكوت العلماء لا ينزل منزلة
تصريحهم بالقول فإذا لم يكن هذا ممتنعا في حكم العقل ولم
يقم دليل قاطع سمعي على تنزيل سكوت العلماء منزلة سكوت
الشارع عليه السلام فقد فسد هذا الاعتبار وال حاصلة إلى
محاولة إثبات مقطوع به بمسلك هو في مجرى مظنون ثم لا عذر
للشارع في السكوت على الباطل فإن الحق عتيد عنده وإن لم
يكن فتلقى وجه الحق من مورد الوحي الذي هو بمر صاده هين
عليه فأما أهل الإجماع إذا سكتوا في محل ظن حيث يرون
للاجتهاد مساغا ومضطربا فسكوتهم محمول على تسويغ ذلك القول
لذلك القائل فلاح الفرق مع الاستغناء عنه فإن القطعي لا
ينتظم فيه جمع فيحوج إلى الفرق.
ج / 1 ص -271-
646- فالمختار إذا مذهب الشافعي فإن من ألفاظه الرشيقة في
المسألة لا ينسب إلى ساكت قول ومراده بذلك أن سكوت
الساكتين له محملان: أحدهما: موافقة القائل كما يدعيه
الخصم والثاني تسويغ ذلك القول الواقع في محل الاجتهاد
لذلك القائل وهذا ممكن بطرد العرف غير ملتحق بالنوادر.
والدليل عليه أنا لو فرضنا اجتماع العلماء في مجلس وقام
سئل إلى رجل حنفي وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو
أجاب المفتى الحنفي بما يوازى مذهب أبي حنيفة فسكت
الحاضرون عليه لابتدرت الأوهام إلى حمل سكوتهم على التسويغ
في محل الاجتهاد وتمهيد عذر المفتي المعرب عن مذهبه المسوغ
وإذا تردد سكوتهم كما ذكرناه والإجماع هو القول الجازم
المبتوت فيستحيل ادعاؤه على صفته وشروطه في محل تقابل
الاحتمالات.
وهذا يتضح بصورة تناقض صورة الخلاف وهي أن واحدا لو ذكر
على رءوس الأشهاد وجمع المفتين قولا خرق به الإجماع وخالف
دين الأمة فالمفتون لا يسكتون عليه بل يثورون مبادرين إلى
الإنكار عليه وتجهيله وتسفيه عقله وذلك لأن الذي جاد به
ليس قولا ينقدح تسويغه لقائل فهذا معنى قول الشافعي لا
ينسب إلى ساكت قول.
647- ونحن نصور هذه المسألة في صورتين ونذكر في كل واحدة
منها ما يليق بها حتى يستبين الناظر وجوه مجاري الكلام في
نظائرهما من مسائل الشرع.
فنقول: قد يدعى أصحاب أبي حنيفة في بعض المسائل انتشار قول
الصحابي في علماء العصر مع سكوتهم وتركهم الإنكار ثم يبنون
عليه أن سكوتهم تقرير نازل منزلة التصديق بالقول ولا يستمر
لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم تقرير نازل منزلة التصديق
بالقول ولا يستمر لهم إثبات الانتشار وذلك كتعلقهم بقضاء
عثمان رضي الله عنه بتوريث المبتوتة في قصة تماضر زوجة عبد
الرحمن بن عوف رضي الله عنه ويتجه في هذه الصورة وأمثالها
أسئلة قبل الانتهاء إلى ابداء الخلاف في المسألة.
منها: أنا نقول: ما ادعيتموه من الانتشار في كافة علماء
الأمصار فأنتم منازعون فيه وليس كل قضاء يقضي به إمام أو
وال من الولاة يشاع ويذاع في كافة العلماء ومن اعتاص عليه
حكم من قضايا مطرد العادة في العصور المنقرضة فليصور مثله
في عصره فإن الأزمنة وأهلها على التداني في أحكام العادات
ونحن نعلم في زمننا أن أقضية القضاة لا تنتشر في كافة
العلماء وهذا السؤال إذا حققنا المباحثة فيه لم يجد الخصم.
ج / 1 ص -272-
عنه
مهربا ولم يبق بيده مستمسك يحاول به إثبات غرضه فهذا نوع
من السؤال متقدم على الخلاف في المسألة التي نحن فيها.
648- والسؤال الثاني أن نقول إن ثبت الانتشار فلعل بعض
العلماء أنكر فدعوى سكوتهم لا اعتضاد له بثبت وتحقيق وغاية
الخصم فيه أن يقول لو جرى إنكار لاشتهر وعنه جوابان واقعان
أحدهما أنه إنما يشتهر كل خطب ذي بال وإنكار واحد من
العلماء على قاض من القضاة ليس من الأمور الجسيمة التي
تتوفر الدواعي على نقلها فهذا وجه والوجه الثاني أن نقول
لعله اشتهر أولا ثم انصرفت الدواعي عن المواظبة على تذكاره
ودرس ما كان متواترا وذلك كثير في العرف وهذه الطلبات لا
محيص عنها ولا يتواصل الخصم معها إلى تصوير صورة المسألة
من الانتشار وعدم الإنكار على قطع استمرار فإن تأتي له
التصوير وهيهات فما قدمناه قاطع من تقابل الاحتمالات في
محامل السكون ولا سبيل إلى القطع مع التردد فهذه إحدى
الصورتين.
649- والصورة الثانية لا يتجه فيها بعض هذه الأسئلة وهي
كتعلق أصحاب أبي حنيفة في ترك انتظار بلوغ الأطفال في
الاقتصاص بحديث قتل الحسن بن علي رضي الله عنهما عبد
الرحمن بن ملجم وفي الورثة صبيان فلا سبيل في هذه القصة
إلى ابداء مراء في الانتشار فإن الأمر عظيم والخطب جسيم
ولكن ينقدح ادعاء نكير من بعض العلماء من غير انتشار
الإنكار وسبيل التقرير ما مضى ثم وراء تسليم ذلك الدليل
القاطع الذي قدمناه وين1م إلى تحقيقه حكم الأب في ترك
الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء قاض
بمذهب مسوغ أن ينكروا عليه مع نفوذ قضائه فهذا إذا وجه في
الاستحثاث على السكوت فهذا منتهى القول في هذه المسألة.
650- وبعد ذلك كله غائلة هي خاتمة المسألة وغاية سرها ونحن
نبديها في معرض سؤال وجواب فإن قيل إن اتجه في حكم العادة
سكوت العلماء على قول مجتهد فيه مظنون في مسألة فاستمرارهم
على السكوت زمنا متطاولا يخالف العادة قطعا إذا كان يتكرر
تذاكر الواقعة والخوض فيها ومن لم يجعل السكوت إجماعا
فإنما يستقيم له مطلوبة في السكوت في الزمان القصير ولهذا
السؤال اشترط بعض المحققين في الأصول في الإجماع السكوتي
انقراض العصر.
ج / 1 ص -273-
651- وأنا أقول لا يتصور دوام السكوت مع تذاكر الواقعة في
حكم العادة قطعا وهذه صورة يحيل العقل وقوعها فإن هؤلاء
سيخوضون فيها إما بوفاق أو خلاف لما [يبدون حكمه] وافقوا
أو خالفوا فإذا لم يتصور استمرار السكوت حتى يبنى عليه
ادعاء القطع ومن عجيب الأمر أن هذا القائل أحال إدامة
السكوت من غير قطع ولم يعلم أنهم لو أضمروا القطع لأبدوه
ولم يسكتوا إذا تطاول الزمان فرجعت صورة المسألة على
الضرورة إلى السكوت في الزمان القصير وفيه الاحتمالات التي
قدمناها ولا قطع من الاحتمال وهذا منتهى المسألة تصويرا
وتقريرا.
مسألة:
652- إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على قولين واستمروا على الخلاف فالذي صار إليه معظم
المحققين أن اختراع قول ثالث خرق [للإجماع].
وذهب شرذمة من طوائف الأصوليين إلى أن ذلك لا يكون مخالفة
الإجماع واستدلوا بأمر تخيلوه على نقيض الصواب فقالوا
اختلافهم يناقض الاتفاق ويفيد الناظر أن المسألة في محل
الظنون والخلاف متطرق إليها ولهذا لا يتضمن المنع من قول
ثالث بل لو قيل: إنه متضمن جواز الخلاف لكان ذلك قريبا
وعضدوا هذا بأن قالوا التنصيص على القولين من غير قطع فريق
بتخطئة الآخر بمثابة تصريحهم بأن الأمر مظنون وكل ذي ظن
على ظنه.
653- وهذا الذي ذكروه ساقط فإن الذي انتهض معتمدا للإجماع
بعد السبر والمباحثة ما تحصل وتنخل من قولنا إن المجتمعين
قد يقطعون بما أجمعوا عليه وقد يسندونه إلى الظن فإن قطعوا
فالأمر فيه متلقى من حكم العادة وهي قاضية لا محالة بإسناد
المجمعين إلى قاطع فإن أسندوا المحكوم به إلى الظن فمعتمد
الإجماع في هذه الصورة قطع العلماء في العصر الماضية
بتبكيت من يخالف وليس ذلك أمرا معقولا فيستند القطع
بالتبكيت إلى قاطع.
654- فإذا تجدد العهد بالمسلك الحق في الصورتين قلنا بعد
ذلك إن ذكر علماء العصر قولين وقطعوا بنفي ثالث سواهما
ورددوا الظن في القولين فنفيهم الثالث قطع في حصر الحق في
القولين فإن فرض من يخترع مذهبا ثالثا فهو مخالف لإجماع
مقطوع به وإن لم يصرحوا بنفي ثالث على قطع فتركهم التعرض
له وحصرهم التردد في القولين في حكم اتفاقهم على حكم مظنون
مع التصريح باستناده.
ج / 1 ص -274-
إلى
الظن والتبكيت يتطرق إلى من قال قولا ثانيا والعلماء
الماضون على خلافه كذلك يتطرق التبكيت إلى من يخترع مذهبا
ثالثا لم يصر إليه صائر من المتقدمين وإن كانوا مختلفين.
وما ذكره الخصم تلبيس لا حاصل له فإن الصائرين إلى القولين
سوغوا الخلاف منحصرا في القولين وهم قاطعون بنفي ما
وراءهما أو ظانون وكلا الوجهين في نفي القول الثالث إجماع
فقطعه ملحق بالقطع بالحكم الواحد وظن نفي القول الثالث
ملحق بالإجماع على مذهب واحد مع الإسناد إلى الظن.
655- فإن رددوا كلاما واستدلوا به شاديا مبتديا فالسبب فيه
والوجه في كشفه ما ننبه عليه فنقول.
وقد ذكرنا أن القول الواحد المظنون إذا فرضنا الاتفاق عليه
لم يكن الاتفاق عليه وهو مظنون إجماعا على القرب حتى
يتمادى الزمن عليه على ما سبق تقريره في مسألة اشتراط
انقراض المجمعين فإذا كان ذلك والقول واحد فهو أولى أن
يعتبر والعلماء على قولين فإن ترديد القولين نهاية في
تطريق الظنون ولو قيل تمادى الزمن المعتبر في هذه الصورة
يبر على تماديه في اتحاد القول لكان حقا مبينا فهذا مغزى
المسألة.
مسألة:
656- إذا اختلف علماء العصر على قولين ثم رجع
المتمسكون بأحد القولين إلى القول الآخر وصاروا مطبقين
عليه فالذي ذهب إليه معظم الأصوليين أن هذا إجماع وذهب
القاضي إلى أن هذا لا يكون إجماعا.
وإذا انقرض العلماء على سجية الاختلاف ثم أجمع علماء العصر
الثاني على أحد القولين فالاختلاف في هذه الصورة أظهر.
قال قائلون: هذا ليس بإجماع ولو تعلق متعلق بالقول المضرب
عنه لم يكن خارقا للإجماع وميل الشافعي رضي الله عنه [في
أثناء ما يجريه] إلى هذا وقال قائلون: هذا إجماع.
وأما القاضي فلا شك أنه لا جعل هذا أجماعا ومن مذهبه أن
المختلفين في العصر الأول لو [رجعوا] إلى قول واحد لم يكن
ذلك إجماعا فإذا كان هذا غور.
ج / 1 ص -275-
مذهبه
فكيف الظن به والإجماع من أهل العصر الثاني ثم إنه يستدل
على تمهيد قاعدته بنكته واحدة فيقول: إذا اختلف علماء عصر
على مذهبين فقد ظهر اختلافهم في التحليل والتحريم مثلا ثم
تضم تقرير كل قوم أصحابهم على مذهبهم إجاعا من كافتهم على
أن الخلاف سائغ فيحصل في ضمن الخلاف مع التقرير الإجماع
على جواز الخلاف فإذا فرض الرجوع إلى قول واحد فهذا غير
منكر عملا ووقعا ولكنه مسبوق بالإجماع على تسويغ الخلاف
وهذا يجري في العصر الواحد فإذا جرى فيه فلأن يجري في
العصرين أولى.
657- وأما الذين جعلوا الاتفاق على قول من القولين
السابقين إجماعا فإن بعضهم يتعلق ويستدل على بعض باجتماع
المختلفين على أحد القولين قبل أن ينقرضوا ويقولون أيضا لو
وقعت واقعة فاتفق علماء العصر على حكم واحد فيها كان
اتفاقهم حجة وإطباقهم على قول واحد يجري هذا المجرى.
ولا يستقر لهؤلاء قدم إلا بتخييل هو نكتتهم وعنها صدر ما
قدمناه وذلك أنهم قالوا المختلفون كأنهم بعد على تردد
النظر وليس التردد مذهبا محققا وإنما يتلقى الإجماع من
استقرار العلماء وليس تردد المترددين حجة على مخالفة قطع
القاطعين.
658- والرأي الحق عندنا ما نبديه الآن: فنقول: إن قرب عهد
المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للاختلاف المتقدم وهو
نازل منزلة تردد ناظر واحد أولا مع استقراره آخرا وإن
تمادى الخلاف في زمن متطاول [على قولين] بحيث يقضي العرف
بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين على طول
المباحثة لظهر ذلك للباحثين فإذا انتهى الأمر إلى هذا
المنتهى فلا حكم للوفاق على أحد القولين وذلك أن ما صورناه
من اختلافهم في الزمان مع مشاورة الذكر وترديد البحث يقتضي
ما ذكره القاضي من حصول وفاق ضمني على أن الخلاف في هذه
المحال سائغ وشفاء الغليل في ذلك أن رجوع قوم وهم جم غفير
إلى قول أصحابهم حتى لا يبقى على ذلك المذهب الثاني أحد
ممن كان ينتحله لا يقع في مستقر العادة فإن الخلاف إذا رسخ
وتناهى وتمادى الباحثون ثم لم يتجدد بلوغ خبر أو آية أو
أثر يجب الحكم بمثله فلا يقع في العرف دروس مذهب طال الذب
عنه فإن فرض فارض ذلك فالإجماع فيه محمول على أنه بلغ
الراجعين أمر سوى ما كانوا يخوضون فيه في مجال الظنون ثم
غاية النظر إن انتهى الأمر إلى هذا أنهم إن قطعوا بذلك.
ج / 1 ص -276-
فوفاقهم إجماع حملا على هذا وعلى هذا انبنى أصل الإجماع
وإن فرض فارض عدم القطع مع الرجوع عن المذهب القديم فهذا
يعيد في التصوير وإن تصور ذلك على تكلف فما أرى ذلك بالغا
مبلغ الإجماع فإنه لا ينقدح فيه دعوى تبكيت من يتعلق
بالقول [المرجوع عنه] حسب انقداح ذلك في مواقع القطع وإذا
ظهر في التردد زال ادعاء الإجماع فإن الإجماع واجب الاتباع
وهو المقطوع به فهذا قولنا مع اتحاد العصر.
659- فأما إذا انقرض علماء العصر مع طول الزمان فإن
المعتمد عندنا طول الزمان على الخلاف ثم [إذا] اجتمع علماء
العصر الثاني على أحد المذاهب فالوجه أن لا يجعل ذلك
إجماعا لما قرره القاضي من استنباط الإجماع على [تسويغ]
الخلاف وما ذكره الأولون من اعتبار هذه الصورة جمع بترديد
ناظر أولا واستقراره آخرا فقول عرى عن التحصيل فإن استمرار
العلماء الغواصين المعتنين بالبحث المتدارك على الخلاف قطع
منهم بأن لا سبيل إلى القطع فإن اجتمع في العصر الثاني قوم
على أحد المذاهب فهو اجتماع وفاقي على مذهب مسبوق بقطع
الأولين بنفى القطع وتسويغ الخلاف وأين يقع هذا ممن يتردد
أولا ثم يتمم نظره؟
والذي يحقق ذلك أن المذاهب التي انتحلها الأولون جرت بها
أقضية وأحكام ونيط بها سفك دماء وتحليل فروج من غير إنكار
فريق على فريق والمتردد في نظره لا ينوط بتردده حكما ومن
العبارات الرشيقة للشافعي أنه قال: المذاهب لا تموت بموت
أصحابها فيقدر كأن المنقرضين أحياء ذابون عن مذاهبهم
وتحقيق هذا ما ذكرناه.
مسألة:
660- إذا اتفق أهل الإجماع على عمل ولم يصدر منهم فيه قول
فقد قال قوم من الأصوليين فعل أصحاب الإجماع كفعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق تفصيل المذاهب في أفعال
رسول الله عليه السلام ومتعلق هؤلاء أن العصمة ثابته لأهل
الإجماع ثبوتها للشارع فكانت أفعالهم كفعل الشارع صلى الله
عليه وسلم.
661- قال القاضي: وهذا غير مرضي عند المحققين من أوجه منها
أن اجتماع أهل الإجماع على فعل يبعد تصويره فإنهم لا
يعصمون عن الخطأ والزلل ولكن وفاقهم على قول حجة على
الترتيب المقدم وإن زعم زاعم أنه يجب.
ج / 1 ص -277-
عصمتهم
عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب لجميعهم فأما أن
تجب لآحادهم عن زلل عن الفعل فمعنى ذلك أن العصمة تجب
لجميعهم فأما أن تجب لآحادهم فلا فلم يمتنع صدر الزلل عن
بعضهم وإذا كان كذلك فكيف يتأتي في العادة تصور عدد لا
يسوغ منهم التواطؤ ثم يطبقون على فعل واحد فإن تكلف متكلف
في تصويره فإنما يمكن فرضه إذا اجتمعا في مجلس واحد ثم إن
تصور فلا احتفال به فإن متعلق الإجماع في الصورتين
المتقدمتين ما قدمناه وليس يتحقق ذلك في الفعل فإنه لا
يمتنع إذا فرض جمعهم أن يفعلوا فعلا ويعترف كل واحد منهم
بأنه عاص به.
662- والذي أراه أنه إن تيسر فرض اجتماعهم في الفعل فهو
حجة وهو خارج على الأصل الذي هو مستند الإجماع فإن أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم لو جمعهم مجلس وقدم إليهم
شيء فتعاطوه وأكلوه فمن حرمه عد خارقا للإجماع وتناهى أهل
العصر في تبكيته فإذا يدل فعلهم على ارتفاع الحرج على حسب
ما قدمناه في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا إلى
الفعل المطلق فإن تقيد بقرينة دالة على وجوب أو استحباب
ثبت ما دلت القرينة عليه.
الفن الرابع: في الأمر الذي ينعقد الإجماع فيه
وفيما ينعقد الإجماع عنه.
663- فأما ما ينعقد الإجماع فيه حجة ودلالة فالسمعيات
[ولا] أثر للوفاق في المعقولات فإن المتبع في العقليات
الأدلة القاطعة فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها
وفاق.
664- وأما ما ينعقد الإجماع عنه فالقول ينقسم فيه كما تقدم
فإن كان المجمعون قاطعين على الحكم في مجال الظنون فلا
يتأتى فرض هذا الإجماع إلا عن قاطع وإن أسندوا إجماعهم إلى
ظن لم يمتنع أيضا ثم مستند الإجماع في كونه حجة قطع أهل
الإجماع بتقريع من يخالف الإجماع.
فهذا مجامع القول في الإجماع تفصيلا وتأصيلا وقد حاولنا
جهدنا في إدراج مسائل الكتاب تحت التقاسيم وقد شذت مسائل
قريبة منها ونحن نرسمها الآن مرسلة إن شاء الله تعالى.
ج / 1 ص -278-
مسائل متفرقة في الإجماع.
مسألة:
665- اختلف
الأصوليون في أن الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة.
فزعم زاعمون أن إثباته حجة من خصائص هذه الأمة فإنها أمة
مفضلة على سائر الأمم مزكاة بتزكية القرآن قال الله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}1 وقال تعالى:
{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}2.
ومنع مانعون هذا الفرق فقالوا لم يزل الإجماع حجة في
الملل.
وقال القاضي لست أدري كيف كان ولا يشهد له موجب عقلي على
وجوب التسوية ولا على وجوب الفرق ولم يثبت عندنا في ذلك
قاطع من طريق النقل فلا وجه إلا التوقف.
666- والذي أراه: أن أهل الإجماع إذا قطعوا فقولهم في كل
مسألة يستند إلى حجة قاطعة فإن تلقى هذا من قضية العادات
والعادات لا تختلف إلا إذا انخرقت فأما إن فرض إجماع من
قبلنا على مظنون من غير قطع فالوجه الآن ما قاله القاضي
فإنا لا ندري أن الماضيين هل كانوا يبكتون من يخالف مثل
هذا الإجماع أم لا وقد تحققنا التبكيت في ملتنا.
مسألة.
667- نقل أصحاب المقالات عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى
اتفاق أهل المدينة يعني علماءها حجة وهذا مشهور عنه ولا
حاجة إلى تكلف رد عليه فإن صح النقل فإن البقاع لا تعصم
ساكنيها ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتي المدينة من
المجاري قضى العجب فلا أثر إذا للبلاد ولو فرض احتواء
المدينة على جميع علماء الإسلام فلا أثر لها فإنه لو اشتمل
عليهم بلدة من بلاد الكفر ثم أجمعوا لاتبعوا والظن بمالك
رحمه الله لعلو درجته أنه لا يقول بما نقل الناقلون عنه
نعم قد يتوقف في الأحاديث التي نقلها علماء المدينة ثم
خالفوها لاعتقاده فيهم أنهم أخبر من غيرهم بمواضع الأخبار
وتواريخها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "110" سورة آل عمران
2 آية "143" سورة البقرة
ج / 1 ص -279-
مسألة:
668- إذا اتفق علماء التابعين على حكم في واقعة عنت في
زمنهم فإجماعهم كإجماع الصحابة رضي الله عنهم وذهب بعض
المنتمين إلى الأصول إلى أن الحجة في إجماع الصحابة.
وهذا تحكم لا أصل له فإن الدال على وجوب الإجماع في
الأعصار واحد كما تقدم وليس للتحكم بتخصيص عصر وجه لا في
عقل ولا في سمع وهو بمثابة قول من يقول لا احتجاج إلا في
قياس الصحابة ولولا إرادتنا الإتيان على جميع المسائل وإلا
كنا نضرب عن أمثال هذا.
مسألة.
669- إذا ذهب معظم العلماء إلى حكم وخال فيه واحد منهم
وكان من المعتبر في الخلاف والإجماع فلا ينعقد الإجماع مع
خلافه.
وقال ابن جرير الطبري لا يعتد بخلافه ويسمى عاقا شاقا حجاب
الهيبة وطرد هذا في الاثنين وسلم أن مخالفة الثلاثة
معتبرة.
وكل ما ذكره مردود عليه فإن الإجماع هو الحجة والذي نحن
فيه ليس بإجماع والثلاثة إذا نسبوا إلا ثلاثة آلاف كالواحد
إذا نسب إلى ألف.
مسألة.
670- من فروع القول في اشتراط انقراض العصر من شرط انقراض
العصر بالمجمعين فالمذهب الظاهر لهؤلاء أن علماء العصر لو
أجمعوا ثم التحق بهم مجتهدون ناشئة في الزمن وخالفوهم
والمجمعون الأولون مصرون وقد انقرضوا فالمسألة إجماعية فإن
التلاحق لو كان يمنع انعقاد الإجماع مع فرض الخلاف من
المتلاحقين لما استقرت ثقة بالإجماع فإن العلماء يتلاحقون
وقال قائلون ممن شرط الانقراض خلاف المتلاحقين في بقاء
المجمعين.
671- وهذا لعمري قياس هذه الطريقة وإن كان يفضى ذلك إلى
عسر في تصوير الإجماع وإنما قلنا: القياس على اشتراط
الانقراض هذا لأن اتفاق الأولين ليس إجماعا بعد بل الأمر
موقوف فإذا خالف مخالفون كان هذا الخلاف واقعا قبل الحكم
بانعقاد الإجماع فأما من لا يشترط الانقراض فلا شك أنه
يجعل المخالفين خارقين للإجماع.
ج / 1 ص -280-
672- ومقصود هذه المسألة سؤال وجواب عنه فإن قال قائل: قد
أحدث ابن عباس رضي الله عنه أقوالا خالف بها اتفاق جملة
الصحابة وما كان ابن عباس في ابتداء العصر من أهل الإجماع
فعلى ماذا يحمل ذلك؟ قلنا: لا محمل لتسويغ هذا إلا شيئان.
أحدهما: أن يقدر الصحابة رضي الله عنهم على تردد إلى أن
استقل ابن عباس وأظهر مذهبه وكذلك كانوا في معظم مسائل
الفرائض فهذا وجه.
والوجه الثاني: أن يفرض وقوع تلك المسائل في زمن بلوغه
مبلغ الاجتهاد وقد كان يجري ابن عباس مذهبه مجرى من يبدى
احتمالا ولا يعتقده وحمل على ذلك مذهبه في المتعة وتخصيص
الربا بالنسيئة وقال عيسى بن أبان خلاف ابن عباس ومن تابعه
من علماء الصحابة غير معتبر أصلا وهذا على الإطلاق باطل
فإن فصل فالوجه ما قدمناه.
مسألة:
673- فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر وهذا باطل
قطعا فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر والقول في التكفير
والتبرؤ ليس بالهين ولنا فيه مجموع فليتأمله طالبه نعم من
اعترف بالإجماع وأقر بصدق المجمعين في النقل ثم أنكر ما
أجمعوا عليه كان هذا التكذيب آيلا إلى الشارع عليه السلام
ومن كذب الشارع كفر.
والقول الضابط فيه: أن من أنكر طريقا في ثبوت الشرع لم
يكفر ومن اعترف بكون الشيء من الشرع ثم أنكره كان منكرا
للشرع وإنكار جزئه كإنكار كله والله أعلم.
نجز النصف الأول من كتاب البرهان بحمد الله المعين
المستعان على يدي حاجبه كاتبه أبي زيد حمد بن جعفر بن بشار
رحمه الله في النصف من شوال سنة إحدى وستمائة هجرية
النبوية صلوات الله عليه بمحروسة دمشق حماها الله تعالى.
[هذه خاتمة الجزء الأول من النسخة "د"]. |