البرهان في أصول الفقه

ج / 2 ص -21-         الباب الثاني: القول في تقاسيم النظر الشرعي.
730- [اعلم أن] النظر العقلي لا يفي [بتراجم] أبوابه وذكر مباديه وأسبابه هذا المجموع فالغرض الآن إذا مردود إلى النظر الشرعي.
ومجامعه إلحاق الشيء [المسكوت] عنه بالمنصوص عليه والمختلف فيه بالمتفق عليه لكونه في معناه أو تعليق حكم بمعنى مخيل به مناسب له في وضع الشرع مع رده إلى أصل ثبت الحكم فيه على وفق نظر وربط حكم كما ذكرناه من غير أن يجد الناظر أصلا متفق الحكم يستشهد عليه وهذا هو المسمى الاستدلال [وتشبيه الشيء بالشيء لأشباه خاصة يشتمل عليها] من غير التزام كونها مخيلة مناسبة وهو المسمى قياس الشبه فهذه وجوه النظر في الشرع.
731- [فأما] إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لكونه في معناه فمن أمثلته أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لايبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل به"1 فجمع البول في إناء وصبه في الماء في معنى البول فيه.
ومنها قوله عليه السلام:
"من أعتق شركا له في عبد قوم عليه"2 فجرى ذكر العبد والأمة في معناه.
ونص الرسول عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت3 على إجراء الربا في البر والشعير والتمر والملح وقال القاضي: الأرز في معنى البر والزبيب في معنى التمر وهذا [القسم] يترتب على ما سيلفى مشروحا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 البخاري "2/111, 118", ومسلم "5/95, 96", وأبو داود "394, 3945", والترمذي "1/252" والنسائي "2/234" ابن ماجه "2528", وأحمد "2/2, 15, 77, 105,112, 142, 156".
3 عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري الخزرجي أبو الوليد قال ابن سعد كان أحد النقباء بالعقبة وشهد المشاهد كلها بعد بدر مات بالرملة سنة "34" له ترجمة في "الإصابة "2/268, 269/4497".

 

ج / 2 ص -22-         732- والقدر اللائق بغرضنا: أن نثبت ما يعلم ثبوته على اضطرار من غير حاجة [إلى نظر] واعتبار وهو كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه وما أنكر هذا الجنس إلا حشوية لا يبالى بقولهم وهم في الشرع كمنكرى البدائه في المعقولات وهؤلاء داود وطائفة من أصحابه وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه وليسوا معدودين من علماء الشريعة.
733- ومن هذا الفن ما يحتاج فيه إلى فكر قريب وهو ينقسم إلى الجلي البالغ وإلى ما ينحط عنه:
فالجلي: كإلحاق الأمة بالعبد في الحديث الذي ذكرناه وسبب الوضوح أن ما منه اشتقاق العبد يتحقق في الأمة فإذا العبودية تجمعها وقد يقال: عبدة للأمة فإذا انضم هذا إلى علم العاقل باستواء أثر العتق في العبد والأمة واعتقاد تماثل السريان فيهما وتشاكل عسر التجزئة ترتب على ذلك القطع بتنزيل الأمة منزلة العبد.
734- وما يتخلف الاشتراك عنه في معنى الاسم فهو دون ما ذكرناه وإن كان معلوما فهو كتنزيل [نبيذ] الزبيب منزلة [نبيذ] التمر لو صح حديث ابن مسعود في الحكاية المروية ليلة الجن ولا يأبى هذا [الإلحاق ذو] حظوة من التحصيل ولسنا نرى إلحاق الأرز بالبر في الربويات من قبيل القطعيات وإلحاق الزبيب بالتمر أقرب وليس مقطوعا به من قبل أن التمر قوت غالب عام فقد يرى الشارع فيه استصلاحا ولم يبلغنا أن أمة من الأمم كانت تجتزئ بالزبيب.
مسألة:
735- ما علم قطعا بهذه الجهات التحاقه بالمنصوص عليه فلا حاجة فيه إلى استنباط معنى من مورد النص وبيان وجود ذلك المعنى في المسكوت عنه بل العقل يسبق إلى القضاء بالإلحاق ويقدره بالمنصوص عليه وإن لم ينظر في كونه معللا بمعنى مناسب مخيل أو غير مخيل ولو قدر معللا فلا يتوقف ما ذكرناه من الإلحاق على تعيين علته المستنبطة وإذا كان كذلك فقد اختلف أرباب الأصول في تسمية ذلك قياسا فقال قائلون إنه ليس من أبواب القياس وهو متلقى من فحوى الخطاب.
وقال آخرون: هو من القياس وهذه مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعد ذلك من القياس أمثل من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان ولو قال رجل: من أعتق نصفا من.

 

ج / 2 ص -23-         عبدي فالنصف الأخير منه حر فلو أعتق معتق النصف من أمة لم [ينفذ] إعتاقه إنشاء ولا سراية لأن لفظه هو المتبع ولم يثبت في حكم اللفظ استرسال أحكام الشرع فتبين أن حكم اللفظ لا يقتضى ذلك وإنما يثبت هذا في لفظ الشارع من حيث تقرر في وضع الشرع أن الأحكام لا تنحصر على الصور بل تسترسل ولو قال الشارع قاطعا لطريق القياس: "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه دون الأمة", كان الكلام متناقضا فوضح أن تلقى ذلك مما تمهد لا من أجل اعتبار المسكوت عنه بالمنطوق به.
736- ثم ينقسم ذلك أقساما ويتنوع أنواعا فمنه الجلي المقطوع به ومنه المظنون الذي لا يثبت فيه العلم فالوجه أن يسمى ذلك قياسا وإن عني من أبي تسمية ذلك قياسا أن لفظ الشارع كاف فيه من غير سبر وفكر فهو صحيح.
فهذا القدر كاف في توطئة الكلام في هذا القسم.
القسم الثاني: قياس العلة.
737- والقسم الثاني من أقسام النظر الشرعي: استنباط المعاني المخيلة المناسبة من الأحكام الثابتة في مواقع النصوص والإجماع ثم إذا وضح ذلك على الشرائط التي سنشرحها [وثبتت تلك] المعاني في غير مواقع النص وسلمت عن المبطلات فهذا القسم يسمى قياس العلة وهو على [التحقيق] بحر الفقه ومجموعه وفيه تنافس النظار وأكثر القول في هذا الكتاب يتعلق ببيان صحيحه وفاسده وذكر الاعتراضات الصحيحة والفاسدة عليه.
وأنا أرى أن أصدر القول فيها بالطرد ومعناه وذكر المذاهب في قبوله ورده واختيار المسلك الحق فيه إن شاء الله تعالى.
مسألة: [في الطرد].
738- الطرد هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولو فرض ربط نقيض الحكم [به] لم يترجح في مسلك الظن قبل البحث عن القوادح النفى على الإثبات ولم يكن من فن الشبه على ما نصفه هذا هو الطرد.
739- وقد ذهب المعتبرون من النظائر إلى أن التمسك به باطل وتناهى القاضي في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به.

 

ج / 2 ص -24-         740- وذهب طوائف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه حجة من حجج الله تعالى إذا سلم من الانتقاض وجرى على الاطراد.
741- وذهب الكرخي إلى أن التعلق به مقبول جدلا ولا يسوغ التعويل عليه عملا ولا فتوى.
742- وقد أكثر المحققون في وجوه الرد على أصحاب الطرد وحاصل ما ذكروه يئول إلى وجوه منها:
أن أقيسة المعاني لم تقتض الأحكام لأنفسها وإنما ظهر لنا من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم التعلق بها إذا عدموا متعلقا من الكتاب والسنة فكان مستند الأقيسة الصحيحة إجماعهم على ما سبق تقريره.
والذي تحقق لنا من مسلكهم النظر إلى المصالح والمراشد والاستحثاث على اعتبار محاسن الشريعة فأما الاحتكام بطرد لا يناسب الحكم لا يثير شبها فما كانوا يرونه أصلا فإذا لم يستند الطرد إلى دليل قاطع سمعي بل يتبين أنهم كانوا يأبونه ولا يرونه ولو كان الطرد مناطا لأحكام الله تعالى لما أهملوه وعطلوه فقد استمرت الطريقة قاطعة من وجهين:
أحدهما: أنا أوضحنا أنه ليس للطرد مستند معلوم ولا مظنون وليس هو في نفسه مقتضيا حكما لعينه.
والآخر: أنا نعلم إضرابهم عن مثله في النظر في أحكام الوقائع كما نعلم إكبابهم على تطبيق الأحكام على المصالح الشرعية وهذه طريقة واقعة.
743- ومن أوضح ما يعتصم [به] أن مناط الأعمال في الشريعة ينقسم إلى معلوم ومظنون وما لا يتطرق إليه علم ولا ظن فذاكره ومعلق الحكم به متحكم وقد أجمع حملة الشريعة على بطلان الاحتكام.
فإن ادعى الطارد ظنا [تبين] خلفه وكذبه فإن للظن في مطرد العرف أسبابا كما أن للعلوم النظرية طرقا مفضية إليها ومن ادعى أنه يظن أن وراء الجبل المظل غزالة من غير أن يبين لظنه مرتبطا أو سببا كان صاحب هذه المقالة كاذبا أو مخيلا فإذا بطل التحكم ولم ينقدح ظن ولا علم والذي ربط به ثبوت الحكم لو نسب إلى نفيه لكان كما لو نسب إلى إثباته فلا يبقى للتعلق به وجه.

 

ج / 2 ص -25-         744- و[قد] انتهى كلام القاضي والأستاذ في هذا إلى ما نرمز إلى مبادئه فإنهما قالا من طرد عن غرة فهو جاهل [غبي] ومن مارس قواعد الشرع واستجاز الطرد فهو هازئ بالشريعة مستهين بضبطها مشير إلى أن الأمر إلى القائل كيف أراد.
745- فإن قيل: سلامته عن النقض تغلب على الظن انتصابه علما قلنا: هذا الطارد مطالب بتصحيح مطرده فهو الذي طرده والصورة التي فيها النزاع عند المعترض على الطرد [نقض للطرد].
746- فإن قال الطارد: فقد اطرد في غير محل النزاع.
قيل له: جريانه في غير محل النزاع لا يوجب القضاء بالطرد في غيره وعلى الطارد أن يثبت كونه علما فيما ادعى جريانه فيه.
فإن تمسك بنفس الجريان قيل: هذا جريان في مسائل معدودة فلا ينتهض علما ولا يجب منها الحكم على جميع الشريعة فإنما يكون ما ذكره مخيلا لو جرى الطرد في جميع المسائل وساوقه الحكم على حسب طرد الطارد.
فآل النزاع إلى [أن] ما جرى على وفاق هل هو علة فإذ ذاك ربما تخيل من لا تحصيل له أن الجاري علة وسنبين أن الأمر ليس كذلك.
747- بعد هذا قلنا: إذا كان الطارد منازعا في طرده فكيف [يصح أن] يستدل بالطرد وحاصل استدلاله أنه يقول الدليل على صحة طردي دعواي اطراده في صور النزاع فلا يبقى بعد هذا الذي عقل تعلق بالطرد المحض في مسائل معدودة.
748- ثم قال القاضي: لو كان التمسك بالطرد سائغا لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق ولما كان في اشتراط [استجماع] أوصاف المجتهدين معنى.
فإن زعم زاعم أن شرط الطرد أن يسلم من العوارض والمبطلات ولا يتهدى إليها إلا العالم.
قيل له: ليطرد العامى ثم يراجع العالم فإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك هزءا بقواعد الدين.
749- ثم نقول: علماء الشريعة صرفوا مباحثتهم في الوقائع العرية عن النصوص والإجماع إلى [ما يرونه] مشعرا بالحكم مشيرا إليه مخيلا به وقد ضرب.

 

ج / 2 ص -26-         الحليمي لذلك مثلا فقال: من رأى دخانا وثار له الظن أن وراءه حريقا كان محوما على الإصابة قريبا من نيلها.
فإن قال: [وقد رأى غبارا] إن وراءه حريقا لم يكن ما جاء به علما على ما أنبأ عنه وأقيسة الشريعة أعلام الأحكام وهذا بمنزلة الطارد.
فإن تنسم نسيما أرجا فقال: إن وراءه حريقا كان ذلك في محل فساد الوضع من حيث إنه استدل بالشيء على نقيضه.
وهذا القدر فيه بلاغ ومقنع في الرد على أصحاب الطرد.
750- فأما من جوز الجدل به ومنع تعليق ربط الحكم به عقدا وعملا وفتوى وحكما [فقد] ناقض فإن المناظرة مباحثة عن مآخذ الشرع والجدل يستاقها على أحسن ترتيب وأقربه إلى المقصود وليس في أبواب الجدل ما يسوغ استعماله في النظر مع الاعتراف بأنه لا يصلح أن يكون مناطا للحكم وغاية المعترض كفى المئونة وعاد الكلام نكدا وعنادا [وأضحى] لجاجا وخرج عن كونه حجاجا.
751- فأما الطاردون فمما تمسكوا به أن قالوا: للشارع أن ينصب الطرد علما وإن لم يكن مناسبا للحكم وإذا لم يمتنع ذلك لم يمتنع من المستنبط تقديره.
وهذا لا حاصل له فإن للشارع تأسيس الحكم وما يذكره من علم يجري مجرى الحد ولو ذكر الشارع الحكم من غير علة لقوبل بالقبول فإذا حده صدق والمستنبط ممنوع من التحكم بالحكم كما سبق فإن ظن شيئا بمسلك شرعي أبداه وعرضه على القواعد وليس للطارد مسلك ظني ولا له منزلة الابتداء بوضع الحكم.
ولو جاز أن يتحكم بنصب الطرد لجاز أن يتحكم بنصب الحكم وهو في التحقيق كذلك فإن الطارد يتحكم بالحكم في صورة يدعيها وهو منازع فيها.
752- وما عدوه مستروحا لهم أن قالوا: المعاني المخيلة المناسبة للحكم لا توجب لعينها كما لا يوجب الطرد الحكم لذاته إذ الشدة التي اعتقدت مخيلة في إثارة التحريم كانت ثابته والخمر حلال فإذا العلل كلها وإن اعتقدت مخيلة إذا كانت لا توجب الأحكام لأعيانها فهي كالطرد.
قلنا: هذا فاسد لا حاصل له فإنا لا نرتضى المخيل من جهة الإخالة ولكن إذا.

 

ج / 2 ص -27-         صادفناه وظنناه موافق لعلل الصحابة ومسالكهم رضي الله عنهم في النظر فهو الدليل على وجوب العمل لا نفس الإخالة ولم يثبت تمسك الصحابة بالطرد فلا يبقى للمستنبط وجه يبنى عليه الظن بأن ما طرده منصوب الشارع فال الأمر إلى التحكم المحض وهو باطل من دين الأمة كما سبق تقريره.
مسألة:
753- إذا ذكر المستنبط علة مخيلة مناسبة ولكنها منتقضة فقيدها بلفظ يدرا النقض فالذين يتمسكون بالطرد المحض لا يمتنعون من التمسك بها والذين ردوا الطرد اختلفوا في ذلك.
فذهب المحقون: إلى أن ذلك الوصف الزائد الذي لاحظ له في الفقه على حياله ولا على تقدير ضمه محذوف غير محتفل به والدليل على ذلك هو الدليل على إبطال الطرد فإن حاصل القول في الرد على القائلين به نسبتهم إلى التحكم ولا فرق بين التحكم بما هو على صيغة علة وبين التحكم بصيغة [تقيدت] العلة بها.
754- وهذه المسألة لا تصفو قبل ذكر النقض وحقيقته ورده وقبوله فإن الخصم قد يقول فائدة هذه الزيادة درء النقض فإذا ظهرت فائدته في الكلام خرج عن كونه متحكما به من حيث نتج فائدة وهي اندفاع النقض وليس كما إذا كان الكلام بجملته طردا غير مناسب لأن صاحبه حرى أن ينسب إلى التحكم.
فالوجه أن يقال: إن كانت المسألة التي ترد نقضا لو حذفت الزيادة تفارق محل العلة بفرق فقهي فالمذكور دونه بعض العلة والاقتصار على بعض العلة لا يجدي فائدة وإن كان لا ينقدح فرق فقهي فالعلة منتقضة لا يعصم فيها لفظ لا يفيد فقها ولا يشعر بفرق معنوي وهو بمثابة تعليل الرجل حكما مع تقييد العلة بنعيق غراب أو ما في معناه مما لا يفيد حتى إذا ألزم شيئا اتخذ ما ذكره مدراه وهذا من الفن الذي يأنف منه المحقق وسنعود إلى تحقيق ذلك في باب النقض إن شاء الله تعالى.
755- فإذا ثبت أن التقييد بما لا فقه له لا يفيد فلو فرض التقييد باسم غير مشعر في وضع اللسان بفقه ولكن مباينة المسمى لما عداه مشهورة عند النظار فهل يكون التقييد بمثل هذا اللفظ محصنا للعلة وهذا كتقييد العلة بالطلاق في قول القائل جزء [حله الحل] فإضافة الطلاق إليه نافذة كالجزء الشائع.

 

ج / 2 ص -28-         فإذا قال الملزم: العلة تنتقض بالنكاح ولفظ الطلاق لا فقه فيه فيكون من جواب المعلل أن الطلاق سلطانه ونفوذه يفارق النكاح إذ تسميته تشير إلى خصائصه فذكره كذكر خاصية تفيد فقها.
وهذا مما تردد فيه أرباب الجدل ولعل الأقرب تصحيحه فإن ذلك جار مجرى اصطلاح النظار على عبارات يتواطئون عليها مشعرة بأغراضهم.
فهذا مقدار غرضنا الآن في الطرد وما يليق به ونحن نذكر بعده تفصيل القول فيما تثبت به علل الأصول.

فصل: القول في تصحيح علة الأصل في أقيسة المعاني.
756- إذا ثبت حكم في أصل متفق عليه وادعى المستنبط أنه معلل بمعنى أبداه فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وادعى بعض الأغبياء أنه لا يسوغ ذلك ولكن على المعترض أن يبطل ذلك برده إن كان عنده مبطل وهذا قول من لا يحيط بمنازل النظر وحقائق الأقيسة.
فإذا ادعى مدعي أن المعنى الذي أبداه علة للحكم فهذه دعوى عرية عن البرهان من جهة أن التحكم ينصب العلل غير سائغ كما سبق في الرد على الطاردين فلا بد من ظهور وجه في ظن المستنبط يوجب تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما وهو مطالب بإبدائه فإذا اقتصر على محض الدعوى كان ادعاؤه المجرد في نصب العلل كادعائه الحكم في محل النزاع وكادعائه كون صورة النزاع كمسألة متفق عليها من غير ذكر جامع ومن أنكر أن ادعاء معنى الأصل في حقيقة الدعوى وصورتها فقد جحد الضرورة وإن اعترف الخصم أنها دعوى وألزم قبولها من غير برهان فقد تناهى في الاحتكام وانحط عن رتبة النظار بالكلية.
757- فإن زعم زاعم: أني نصبت علما كانت الصحابة تنصبه للأحكام علما قيل له كانوا ينصبون كل عام لكل حكم أو كانوا يرون لذلك مسالك تخصيص بعض الأعلام فإن زعم أنهم كانوا ينصبون كل شيء علما فقد ظهر اجتراؤهم وقصارى كلامهم العود إلى الطرد.
وإن سلموا أنهم كانوا يثبتون الأحكام لوجوه هي عللها فيقال لمن ادعى نصب العلم: ما الدليل على أن ما نصبته من جنس منصوب الصحابة فيرجع حاصله.

 

ج / 2 ص -29-         إلى القول بالمطالبة بالدليل فإن [قيل] الدليل على ثبوت المدعى علما عجز المعترض عن الاعتراض عليه فهذا كلام سخيف فإن المعترض واقف موقف المسترشد سائل خصمه إثبات دليل فكيف يحسن رد الدليل إلى عجزه وقدرته ولو اعترف بعجزه عن الاعتراض لم ينتهض عجزه علما على انتصاب ما ادعاه المجيب علما.
وهذا القدر [من التنبيه] كاف إذ هو من الكلام الغث ويكفي التنبيه في مثل هذا المقام.
758- فإذا ثبت ذلك اختتمناه بأمر نجعله فاتحة الغرض وقلنا لا بد أن يكون لذلك العلم وجه عند ناصبه ولأجله يفتي به ويلزم العمل بموجبه والمسئول يريد منه أن يبديه وكل ذلك مبني على أبطال الطرد فإذا لا بد من إثبات معنى في الأصل دينا أو جدلا وقد اضطربت الاراء في السبل التي تتضمن إثبات علة الأصل.
مسالك الباحثين في إثبات علة الأصل.
ونحن نذكر مسالك النظار في ذلك مسلكا, مسلكا ونذكر في كل مكان ما يليق به إن شاء الله تعالى.
759- فمما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول وعبر الأستاذ [عنه] في تصانيفه بالاطراد والجريان ولم يعن الطرد المردود فإنه من أشد الناس على الطاردين ولكنه عرض بالإخالة وقرنه باشتراط الجريان وعني بالجريان السلامة [عن] المبطلات.
760- فإن قيل: إذا أبدى المعلل وجها مرتضى في الإخالة قبل وقيل له ليس كل مخيل علما وليس كل استصلاح وجها مرتضى في الأحكام فمن أين زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتد عليه إذ الإخالات منقسمة ووجوه الاستصلاح منتفية والشرع لا يرى تعلق الحكم بجميعها ولم تضبط الرواة مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم فإذا بطل دعوى التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الأولون فكيف تدل نفس الإخالة.
قلنا: قد يتبين لنا أنهم رضي الله عنهم في الأزمان المتطاولة والآماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة بل كانوا يسترسلون في الاعتبار استرسال.

 

ج / 2 ص -30-         من لا يرى لوجوه الرأي انتهاء ويرون طرق النظر غير محصورة ثم كان اللاحقون يتبعون السابقين ولا يعتنون بذكر وجوه في الحصر لا تتعدى فعلمنا بضرورة العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها فإذا ظنوها ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها واستبان أنهم كانوا لا يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا شيئا علما.
فإذا ظهرا الإخالة وسلم المعنى من المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعا.
761- وأنا أقرب في ذلك قولا [فأقول]: إذا ثبت حكم في أصل وكان يلوح في سبيل الظن [استناد] ذلك إلى أمر ولم يناقض ذلك الأمر شيء فهذا هو الضبط الأقصى الذي لا يفرض عليه مزيد.
فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استنادا إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف وتوقع الخطأ غير قادح ولا مانع من تعليق الحكم كان ذلك كافيا بالغا.
762- ومما يعضد به الغرض أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى ولم [يدرأه] أصل في الشرع فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر فإن الشارع ما أشار إلى جميع العلل واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرته قطعا.
فإن قيل: فالإخالة مع السلامة هي الدالة إذا.
قلنا: لا ولكن إذا ثبتت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم فالدليل إجماعهم إذا كما تقدم في إثبات القياس على منكريه.
763- فإن قيل: قد ثبت من رأيكم أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى ما دامت أصول الشريعة محفوظة وثبت أن النظر ليس مسترسلا في وجوه المصالح كلها ومآخذ الأحكام مضبوطة والوقائع المتوقعة لا ضبط لها فكيف يستند ما لا نهاية له إلى المتناهي؟ وهذا سؤال عسر جدا.
ونحن نقول: أولا: انضباط المآخذ مسلم والحكم بأن حكم الله يجرى في.

 

ج / 2 ص -31-         كل واقعة مسلم مع انتفاء النهاية.
والسبيل فيه أن كل فن من فنون الأحكام يتعارض فيه نفى وإثبات ثم لا محالة لا يلفى أصل يعارضه نقيض له إلا والنهاية تنتفي عن أحد المتقابلين لا محالة.
وبيان ذلك بالمثال: أن الأعيان النجسة [مضبوطة محصورة والذي ليس بنجس لا نهاية له فكل ما ثبتت نجاسته] اتبع النص فيه وكل ما أشكل أمره فإن كان في وجوه النظر ما يقتضي إلحاقه بالأعيان النجسة ألحق بها وإن لم يظهر وجه يقتضى ذلك التحق بما لا نهاية له من الطاهرات فينتظم من هذه الجملة في النفي والإثبات ما لا نهاية له وكذلك القول في جميع [مسالك] الأحكام وهذا من نفائس الكلام وسنقرره على أحسن الوجوه إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد وهذا منتهى الغرض في إثبات علة الأصل بطريق الإخالة.
764- وأما ما اعتمده الشافعي وارتضاه ولا معدل عنه ما وجد إليه سبيل فهو دلالة كلام الشارع في نصبه الأدلة والأعلام فإذا وجدنا ذلك ابتدرناه ورأيناه أولى من كل مسلك [ثم] ذلك يقع على وجوه.
منها ما يقع على صيغة التعليل صريحا كقوله تعالى:
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}1.
ومنها: ما يتضمن التعليل ويشعر به إشعارا ظاهرا وهو يقع على وجوه نضرب أمثلتها.
فمنها: قوله عليه السلام لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر:
"أينقص الرطب إذا [يبس]؟" فقال السائل: نعم, فقال عليه السلام: "فلا إذا"2 فجرى ذلك منه متضمنا تعليلا بنقصان الرطب عن وزن التمر عند الجفاف.
وقد تكلم بعض من لا يعد من أهل البصيرة بالعربية على هذا الحديث فقال معنى الحديث أنه إذا نقص فلا يباع الناقص بالتمر الذي لم ينقص وأكد هذا عند نفسه بأن قال "إذا" يتعلق بالاستقبال والفعل المضارع المتردد بين الحال والاستقبال إذا تقيد "بإذا" تجرد للاستقبال وانقطع عن احتمال الحال وكذلك جملة نواصب الأفعال المضارعة إذا تعلقت بها فإنها تمحضها للاستقبال فقوله: "إذا" تصرف النهي إلى الاستقبال عند فرض النقصان في الرطب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "7" سورة الحشر.
2 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -32-         765- وهذا قول عرى عن التحصيل من وجوه:
منها: أن السائل سأله عن بيع الرطب بالتمر في الحال فيبعد أن يضرب عن محل السؤال ويتعرض للاستقبال وكان قد شاع في الصحابة رضي الله عنهم تحريم ربا الفضل فرد الجواب إليه والإضراب عن محل السؤال غير لائق بمنصب الرسول عليه السلام ثم لم يجر لفعل مستقبل ذكر في الحديث فلما جرى السؤال متعلقا بصيغة المصدر فإنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال عليه السلام بعد مراجعة السائل وأخذ جوابه
"فلا إذا"1 و "إذا" قد تستعمل على أثر جمل ليس فيها لفعل مستقبل ذكر وقد يستعمل متصلا بالفعل غير عامل فيه فإنه يجري عند النحويين مجرى ظننت فإن تقدم واتصل بالفعل عمل كقولك في جواب كلام إذا أكرم زيدا وإن توسط جاز إلغاؤه عن العمل وجاز أعماله كقولك [زيدا إذا أكرمه ويجوز أكرمه بالرفع وإن أخرته لم يجز إعماله كقولك] زيد أكرمه إذا بالرفع لا غير وإذا لم يعمل كان كالتتمة للكلام والصلة الزائدة التي لا احتفال بها ولا وقع لها في تغير معنى وتخصيصه باستقبال عن حال ولكنه إذا اتصل بكلام مصدر بالفاء اقتضى تسبيبا وتعليلا كما قال عليه السلام: "فلا إذا" ثم السر في ذلك أن الرسول عليه السلام استنطق السائل بالعلة وما كان يخفى عليه السلام أن الرطب ينقص إذا يبس فلما نطق السائل وقع تعليل الرسول عليه السلام مرتبا على نطق السائل على [جفاف] الرطب معناه إذا علمت ذلك فلا إذا.
766- ومما يجري تعليلا صيغة تتضمن تعليق الحكم باسم مشتق.
فالذي أطلقه الأصوليون في ذلك أن ما منه اشتقاق الاسم علة للحكم في موجب هذه الصيغة كما قال تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}2 فاقطعوا أيديهما وكما قال: {لزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}3 فتضمن سياق الآيتين تعليل القطع والحد بالسرقة والزنا.
وهذا الذي أطلقوه مفصل عندنا فإنا نقول: إن كان ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم المعلق بالاسم فالصيغة تقتضي التعليل كالقطع الذي شرع مقطعة للسرقة والجلد المثبت مردعة عن فاحشة الزنا وفي الايتين قرائن تؤكد هذا منها قوله تعالى:
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ}4 وقوله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 آية "38" سورة المائدة.
3 آية "2" سورة النور.
4 آية "38" سورة المائدة.

 

ج / 2 ص -33-         تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}1 وإن لم يكن ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم فالاسم المشتق عندي كالاسم العلم.
وتعلق أئمتنا في تعليل ربا الفضل [بالطعم] بقوله عليه السلام:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام"2 فوقف على إثبات كون [الطعم] مشعرا بتحريم التفاضل وإلا فالطعام والبر بمثابة واحدة ولو علق الحكم [بهما].
767- وإذا ثبت بلفظ ظاهر قصد الشارع في تعليل حكم بشيء فهذا أقوى متمسك به في مسالك الظنون فإن المستنبط إذا اعتمد إيضاح الإخالة وإثبات المناسبة وتدرج منه إلى تحصيل الظن فإن صحب الرسول عليه السلام كانوا رضي الله عنهم يعلقون الأحكام بأمثال هذه المعاني.
فالذي يتضمنه ونظنه أبعد في الإشعار بأن ما استنبطه منصوب الشارع من لفظ منقول عن الرسول عليه السلام مقتض للتعليل.
768- والقول الوجيز أن ما يظهر من قول الرسول عليه السلام في نحو وجهة يتقدم على ما يظهر من طريق الرأي لما تقرر من تقديم الخبر على القياس المظنون فإذا تطرق إلى كل واحد منهما الظن وانحسم القطع تقدم الخبر لمنصبه واستأخر الرأي وصيغ التعليل ظاهرة في قصد صاحب اللفظ إلى التعليل.
وقد ذكرت في كتاب التأويل: أنه إذا قصد الشارع تعميم حكم ولاح ذلك وظهر في صيغة كلامه لم يسغ مدافعة مقتضى العموم بقياس مظنون وقد ذكرنا من هذه الجملة في كتاب التأويل ما نحن الآن فيه وأوضحنا أن ما يظهر قصد التعليل فيه وإن لم يكن نصا فلا يجوز إزالة ظاهر التعليل بقياس لا يستند إلى تعليل الشارع ظاهرا فإنا لو فعلنا ذلك كنا مقدمين ظن صاحب الرأي على ما ظهر فيه قصد الشارع وهذا محال.
وإن استند قياس من يحاول إزالة ظاهر التعليل إلى ظاهر آخر في التعليل يخالف ما فيه الكلام فينظر إذ ذاك في الظاهرين نظرنا في المتعارضين كما سيأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
769- فإن قيل: قد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوب الوضوء على المستحاضة بكون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "2" سورة النور.
2 سبق الكلام عليه.

 

ج / 2 ص -34-         الخارج دم عرق فإنه قال عليه السلام: "توضئي فإنه دم عرق"1 فاقتضى ذلك وجوب الوضوء بخروج الدم من كل عرق.
قلنا: قال بعض أصحابنا ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليل في محل مخصوص فإنها سألت عن دم يخرج من مخرج الحدث فجرى جوابه عليه السلام حكما وتعليلا منزلا على محل السؤال وكان السؤال عن خروج الدم من محل الحدث ومعظم ما يجري على صيغ التعليل في ألفاظ الشارع لا يكون فيه تعرض للمحل بل يكون طلب المحل محالا على الطالب الباحث وكذلك تلفى تعليلات القرآن كالسرقة والزنا وغيرهما.
والجواب المرضى عندنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد إيجاب الوضوء والاعتناء بتعليله وإنما غرضه نفى وجوب الغسل [ورفع] حكم الحيض عند اطراد الاستحاضة ولما اشتبه على السائلة أن الخارج حيض أم لا قصدت السؤال عما أشكل عليها فأبان صلى الله عليه وسلم أن الخارج ليس بالحيض الذي يزجيه الرحم وإنما هو عرق وحكمه الوضوء وهذا بين من فحوى كلامه عليه السلام.
770- فإن قيل: لم تركتم تعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم تخيير المعتقة بملكها نفسها حتى تقضوا على حسب ذلك بأنها تخير وإن اعتقت تحت حر فإنه عليه السلام قال لبريرة:
"ملكت نفسك فاختاري", وهذا تعليل الخيار بانطلاق حجر الرق وهو يجري في العتق تحت الحر جريانه في العتق تحت العبد؟
قلنا: قال المحدثون: لا نعرف هذا اللفظ فعلى ناقله التصحيح ثم إن صح فسبيل الكلام عليه أنه لم يرد تعليل الخيار بملكها نفسها فإنه لو أراد أنها ملكت نفسها تحقيقا لما احتاجت إلى الخيار في محل النكاح.
قال القاضي: إن ملكت محل النكاح فليس [للخيار] معنى وإن ملكت غير مورد النكاح لم يشعر ذلك بالخيار في محل النكاح فالمراد إذا ترديد العبارة عن ثبوت الخيار لها كما يقال لمن ثبت له حق فسخ عقد ملكت الفسخ فافسخ فمعنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري في الوضوء 63 والحيض 8 ومسلم في الحيض 62, 63 وأبو داود في الطهارة 107, 110 والترمذي في الطهارة 93, 96 والنسائي في الطهارة 133, 134 وابن ماجة في الطهارة 115, 116 ومالك في الطهارة 104 وأحمد 6/82,187, 194, 494.

 

ج / 2 ص -35-         الحديث إذا ملكت [الخيار] فاختاري وكانت أعتقت تحت عبد فهذا وجه الكلام.
771- ثم إنا نجري ذكر هذه الأمثلة تهذيبا للأصول وتدريبا فيها وإلا فحق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبا مخصوصا في المسائل المظنونة الشرعية فهذا غاية ما أردناه في هذا الفن.
السبر والتقسيم.
772- ومما أجراه القاضي وغيره من الأصوليين في محاولة إثبات علل الأصول السبر والتقسيم1.
ومعناه على الجملة: أن الناظر يبحث عن معان مجتمعة في الأصل ويتتبعها واحدا, واحدا ويبين خروج آحادها عن صلاح التعليل به إلا واحدا يراه ويرضاه وهذا المسلك يجري في المعقولات على نوعين: فإن كان التقسيم العقلي مشتملا على النفي والإثبات حاصرا لهما فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت.
وإن لم يكن التقسيم بين نفى وإثبات ولكنه كان مسترسلا على أقسام يعددها السابر فلا يكاد يفضي القول فيها إلى علم.
وقصارى السابر المقسم أن يقول: سبرت فلم أجد معنى سوى ما ذكرت وقد تتبعت ما وجدته.
فيقول الطالب: ما يؤمنك أنك أغفلت قسما لم تتعرض له فلا يفلح السابر في مطالب العلوم إذا انتهلا الكلام إلى هذا المنتهى.
773- [فأما السبر] في المسائل الشرعية الظنية فإن دار بين النفى والإثبات ولاح المسلك الممكن في سقوط أحد القسمين كان ذلك سبرا مفيدا كما [سنبين] الآن معنى السبر وجدواه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا لم تثبت العلة لا بنص ولا بإجماع تحول المجتهد إلى استنباط العلة بالسبر التقسيم ومعنى السبر الاختيار ومعنى التقسيم هو أن المجتهد يحصر الأوصاف التي يراها صالحة لأن يكون علة للحكم ثم يكر عليها بالفحص والاختيار والتأمل فيبطل منها ما يراه غير صالح للإبقاء ويستبقى منها ما يراه صالحا لأن يكون علة حتى يصل بعد هذا الإلغاء والإبقاء إلى أن هذا الوصف دون العلة "الوجيز" ص 213.

 

ج / 2 ص -36-         وإن كان التقسيم الظني مرسلا بين معان لا يضبطها حصر كما ذكرناه في المعقولات ورددناه فيها فقد قال بعض الأصوليين: إنه مردود في المظنونان أيضا فإن منتهاه إحالة السابر الأمر على وجدانه.
وهذا غير سديد فإن هذا الفن من التقسيم إنما يبطل في القطعيات من حيث لا يفضي إلى العلم والقطع وإذا استعمل في المظنونات فقد يثير غلبة الظن فإن المسألة المعروفة بين النظار إذا كثر بحثهم فيها عن معانيها ثم تعرض السابر لإبطال ما عدا مختاره فقال السائل: لعلك أغفلت معنى عليه التعويل.
قيل: هذا تعنت فإنه لو فرض معنى لتعرض له طلاب المعاني والباحثون عنها والذي تحصل من بحث السابرين ما نصصت عليه والغالب على الظن أنه لو كان للحكم المتفق عليه علة لأبداها المستنبطون المعتنون بالاستثارة فتحصل من مجموع ذلك ظن غالب في مقصود السابر وهو منتهى غرض الناظر في مسائل الظنون.
774- وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى السبر وتنويعه وما يفيد منه وما لا يفيد فنرجع الآن إلى غرضنا في إثبات معنى الأصل فنقول:
قد عد القاضي السبر من أقوى الطرق في إثبات علة الأصل وهذا مشكل جدا فإن من أبطل معاني لم يتضمن إبطاله لها إثبات ما ليس يتعرض له بالبطلان فإنه لا يمتنع أن يبطل ما لم يتعرض له أيضا فإنه لا يتعين تعليل كل حكم فعد السبر والتقسيم مما تثبت به العلل بعيد لا اتجاه له.
والذي يوضح المقصد في ذلك: أنه لو انتصب على معنى ادعاه المستنبط دليل فلا يضر أن يفرض لذلك الحكم علة أخرى وارتباط الحكم بعلل لا امتناع فيه وإنما تتعارض العلل إذا تناقضت موجباتها فيمتنع الجمع بينها فإذا كانت متوافقة متظاهرة لم تتناقض.
فيتبين أن إبطال معان تتبعها السابر لا أثر له في انتصاب ما أبقاه ولو أقام الدليل على كلمة معنى لم يتوقف انتصابه معنى موجبا للحكم على تتبع ما عداه بالإبطال فلا حاصل على هذا التقدير للسبر والتقسيم في إثبات علل الأصول.
775- والآن ينشأ من منتهى هذا الكلام أمور خطيرة في الباب.
منها: أنه لو ثبت اتفاق القايسين على كون حكم في أصل معللا ثم اتجه.

 

ج / 2 ص -37-         للسابر إبطال كل معنى سوى ما رآه وارتضاه فلا يمتنع والحال هذه أن يكون السبر مفيدا غلبة الظن في انتهاض ما لم يبطل علما.
ومستند ثبوته في التحقيق الإجماع على أصل التعليل ولكن [ثبت] الإجماع على الأصل مبهما وأفضى السبر إلى التعيين فحصل منه ومن الإجماع ما أراده المعلل.
فإن قدر مقدر إبطال ما أبقاه السابر وقد استتب له مسلك الإبطال فيما سواه كان مقدرا محالا مؤديا إلى نسبة أهل الإجماع إلى الخلف [والباطل].
776- فإن قيل: كيف يكون إجماع القايسين حجة وقد أنكر القياس طوائف من العلماء قلنا الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه.
وأيضا: فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة فهؤلاء ملتحقون بالعوام وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ فهذا منتهى ما اتصل الكلام به.

فصل: تعليل الحكم بأكثر من علة.
777- ومما يتصل بذلك: القول في اجتماع العلل للحكم الواحد.
وقد اضطرب الأصوليون في هذا: فذهب طوائف إلى أنه لا يعلل حكم بأكثر من علة واحدة.
وذهب الجماهير إلى أنه لا يمتنع تعليل حكم بعلل.
وذهب المقتصدون إلى أن ذلك لا يمتنع [على الجملة] لا عقلا ولا شرعا فإن الدم يجوز أن يعزى استحقاقه إلى جهات ومقتضيات كل مقتض لو انفرد بنفسه لاستقل في إثارة الحكم هذا لا امتناع فيه.
وأما إذا ثبت الحكم مطلقا لأصل وكان أصل تعليله وتعيين علته لو ثبت تعليلا موقوفا على استنباط المستنبط فيمتنع أن تفرض علتان يتوصل إليهما بالاستنباط وللقاضي إلى هذا صغو ظاهر في كتاب "التقريب" [وهو] اختيار الأستاذ أبو بكر بن فورك ونحن نذكر ما يتمسك به كل فريق:

 

ج / 2 ص -38-         778- فأما من جوز وضعا واستنباطا تعليل حكم بعلل فمسلكه واضح وطريقة لائح وإنما الاعتناء بالتنبيه على مسالك الآخرين.
فمما تعلقوا به أن قالوا: أجمع أهل القياس على اتحاد علة الربا واتخذ كل فريق إبطال ما يدعيه الاخرون المخالفون ذريعة إلى إثبات ما يدعيه علة ولو كان يسوغ إثبات حكم بعلل لكان هذا المسلك غير متجه ولا مفيد والذي يحقق ذلك أنهم أجمعوا على التعلق بالترجيح وإنما ترجح العلل إذا تعارضت ولو كان لا يمتنع اجتماعها لكان الترجيح لغوا فيها فإن من ضرورة الترجيح الاعتراف باستجماع كل علة شرائط الصحة لو قدرت منفردة فإذا تناقضت يرجح بعضها على بعض وإذا لم يمتنع اجتماعهما لم يكن للترجيح معنى.
779- ومن جوز تعليل حكم بعلتين لم يبعد أن تكون إحداهما أولى من الأخرى والترجيح لا يفيد إلا تلويحا في ظهور بعض العلل.
والكلام على هذا من أوجه:
أحدها: أن تعليل ربا الفضل ليس مقطوعا به عند المحققين وليس منكر تعليله منتسبا إلى جحد القياس ومن عرف مسالك كلامنا في "الأساليب" تبين ظهور ميلنا إلى اتباع النص وإلى إثباتنا الربا في كل مطعوم بقوله عليه السلام:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام"1 وربا الفضل في النقدين لا يتعداهما ولا ضرورة تحوج إلى ادعاء علة قاصرة وقد أجريت مسألة الربا على التزام اتباع مذهب الشافعي ومحاذرة مخالفته في تعليله تحريم ربا الفضل في الأشياء الأربعة بالطعم المتعدى في محل النص.
780- وأنا الآن أبدى اختياري في منع تعليل ربا الفضل وأبدأ القول في النقدين فأقول: قد وضح إبطال الوزن في النقدين ولم يبق إلا النقدية والعلة القاصرة لا تثمر مزيدا في الحكم ولا تفيد جدوى في التكليف فإن الحكم ثابت بالنص.
ومن قال بالعلة القاصرة أبداها وانتحاها حكمة في حكم الشرع [ولسنا] نبعد ذلك ولكن يتعين في [ادعاء] العلة القاصرة أن يكون المدعى مشعرا بالحكم مناسبا له مفضيا بالطالب إلى التنبيه على محاسن الشريعة والتدرب في مسالك المناسبات وشرط ذلك الإخالة لا محالة وليست النقدية مشعرة بتحريم ربا الفضل على ما قررت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -39-         في "الأساليب" فقد خرجت النقدية عن كونها حكمة [مستثارة] ومسلكا من محاسن الشريعة ولم يتعلق بها حكم زائد على مورد النص وبطل ما ادعى متعديا ولاح سقوط التعليل في النقدين.
وأما الأشياء الأربعة فقد أوضحنا أن الطعم ليس مخيلا بالتحريم وبينا أن قول النبي عليه السلام:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام" الحديث لا يتضمن تعليلا بالطعم ما لم يقرر المستدل بالخبر كون الطعم مخيلا مناسبا وحققنا أن المشتق إذا لم يشعر بإخالة حل محل اللقب والسبر قصاراه إبطال ما يدعيه الخصم علة وليس في إبطال مدعى الخصم إثبات لغيره ولم يثبت بالإجماع كون تحريم ربا الفضل معللا وكيف يستقيم دعوى الإجماع في تعليله وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه تحريم ربا الفضل؟
782- وذهب طوائف من القايسين إلى منع التعليل مع الاعتراف بالحكم والترجيح باطل مع تجويز ارتباط الحكم بعلل.
فلم يبق إلا طريقة تكلفتها في "الأساليب" وهي أن الرسول عليه السلام أباح ربا الفضل في الجنسين وحرمه في الجنس الواحد فدل ذلك على ارتباط حكم التحريم بالمقصود من هذه الأجناس والمقصود منها الطعم لا الكيل والوزن فإن هذه الأجناس لا تقتني لتكال أو توزن وإنما تتخذ لينتفع بها ثم عد رسول الله من كل جنس فذكر البر لأنه يطعم قوتا والشعير يقتات ويدخر وينتفع به من وجوه والتمر قد يقتني والملح يراد لتطييب الأطعمة واصلاحها فكأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الأجناس الغالبة من الأطعمة ونبه بذكرها على ما يجمعها وهو الطعم ثم أبان برفع الحرج عند اختلاف الجنس [التعلق] بالمقاصد وطردت هذا في مسألة النقدين على هذا الوجه.
فهذا وإن صح فهو من فن قياس الدلالة وهو عندي من أبواب الشبه على ما استقصى القول فيه إن شاء الله تعالى.
783- ولكن إنما يستقيم التشوف إلى مثل ذلك لو جرى في الباب سليما وقد رأينا ربا النساء محرما في الجنسين فلو كان التعلق بالمقصود صحيحا للزم طرده في ربا النساء إذ وقوع البر في الذمة ليس ممتنعا إذا لم يكن رأس مال السلم مطعوما فلم امتنع إسلام الشعير في البر مع تفاوت المقاصد؟ وباب ربا النساء فرع ربا الفضل فإذا جرى تعليل في ربا الفضل وجب أن يناسب ربا النساء فيما يليق به.

 

ج / 2 ص -40-         فإذا لا إخالة ولا تنبيه من الشارع ولا شبه بين العقاقير والفواكه وبين الأشياء الأربعة.
فقد بطل قياس الدلالة وفسد التعلق بالترجيح وأغنى ذكر [النقدين] فيما يتعلق بالحكم وأغنى ذكر الطعام عن تكلف استنباط علة فالوجه التعلق بالنهي عن بيع الطعام بالطعام.
وإذا حاول الخصم تخصيصا لم يجد دليلا يعضد به تأويلا فثبت الظاهر وقد امتنع تخصيصه أيضا على الخصم وإذا رووا في حديث عبادة بن الصامت وكذلك ما يكال ويوزن فهو موضوع مختلق باتفاق المحدثين.
784- وإذا قال من لم يزد على الأشياء الستة لو كان تحريم التفاضل في كل مطعوم لكان ذكر الطعام أوجز وأوقع وأعم وأجمع فذكره أصنافا مخصوصة يشعر بقصر الحكم عليها.
فيقال لهؤلاء: لا ينفع ما ذكرتموه مع صحة النهي عن بيع الطعام بالطعام وليس في ذكر بعض الأطعمة ما يتضمن تخصيص اللفظ العام في الطعام إذ الألقاب لا مفهوم لها وقد ذكرنا في أثناء الكلام وجها وأوضحنا أنه لا يمتنع حمل ذكر الشارع لها على إبانة اطراد تحريم الربا في جميع ما يطعم مع انقسامه إلى القوت وغيره.
فتبين قطعا أن الربا يجري في كل مطعوم للخبر الوارد فيه وهو وارد في النقدين للنص فيهما.
وسبيل المسئول في المسألتين أن يذكر الحكم ويتمسك بالخبر ويحوج الخصم إذا حاول إزالة الظاهر إلى دليل فإذا ابتدر إلى ذكر طريقة في القياس نتبعها بالنقض وهذا جرى معترضا في الكلام.
785- وقد عاد بنا الكلام إلى أن ما استشهد به من منع ربط حكم بعلتين من تخاوض العلماء في علة الربا باطل في مسلك الأصول فإنا أوضحنا أن ما استشهدوا به مما لا يعلل عندنا والكلام في التفصيل مع منع أصل التعليل فاسد حايد عن المقصد ثم لا يمتنع لو قيل بتعليل الربا أن يجمع القايسون في أصل معين على اتحاد العلة فيه ثم يتنافسوا في طلبها وهذا الإجماع لو فرض في صورة مخصوصة لا يتضمن القضاء بمنع ارتباط حكم في صورة أخرى بعلتين أو بعلل فلا تعلق إذا فيما استشهدوا به من علة الربا.

 

ج / 2 ص -41-         وبما يتمسك هؤلاء بأن يقولوا المتبع في إثبات القياس والعمل به سيرة الصحابة رضي الله عنهم وقد صح عنهم تعليق الحكم بالمعنى الفرد المستثار من الأصل الواحد فاتبعوا فيه.
وأما ربط الحكم بعلتين مستنبطتين من أصل واحد بحيث يجري كل واحد منهما في مجاري اطرادهما وينفرد بمجاري أحكامهما فلم يثبت في مثل هذا نقل ولو كان مثل هذا سائغا ممكن الوقوع لا تفق في الزمان المتمادي ولنقله المعتنون [بأمر الشريعة] ونقل السبر فإذا لم ينقل ذلك دل على أنه لم يقع [وإذا لم يقع] في الأمد الطويل تبين أن الحكم الواحد لا يعلل إلا بعلة واحدة متلقاة من أصل واحد.
فهذا لا حاصل له فإن أصحاب الرسول عليه السلام ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه وتكلف تحرير على الرسم المعروف المألوف في قبيله وإنما كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها في مجالس الاشتوار بالمصالح الكلية فلو كانوا لا يبدون علة في قضية إلا معتزية إلى أصل معين ثم صح في البحث عن نقل الرواة ما ذكره هذا المعترض لكان كلاما.
786- ومما ارتبك في الخائضون في هذه المسألة أن الذين سوغوا تعليق الأحكام بعلل تعلقوا بتحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض والإحرام للصلاة والصيام وقالوا قد يجب قتل الرجل بأسباب كل واحد منها لو انفرد لثبت علة على الاستقلال.
وقال من يخالف هؤلاء إنما يناط بالمحل تحريمات ولكن لا يظهر أثر تعددها وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتا وهذا بين في القتل فإن من استحق القتل قصاصا وحدا فالمستحق قتلان ولكن المحل يضيق على اجتماعهما ولو فرض سقوط أحدهما لبقى الثاني ولا يكاد يصفو تعليق تحقيق حكم واحد بعلتين تصورا فهذا منتهى المطالب في النفى والإثبات.
787- والذي يتحصل عندنا في ذلك أن الحكم إذا ثبت في أصل ولاح للمستنبط فيه معنى مناسب للحكم فيحكم في مثل ذلك مع سلامة المعنى المظنون منتهضا عن المبطلات بكون الحكم معللا ويتبين له أن ربط الحكم بهذا المعنى الفرد لائح منحصر في مطالب الشريعة ويجوز تعليق الحكم بمثل هذا المعنى فإنه لم يصح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبط المصالح التي تنتهض عللا للأحكام ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأى.
فمسلك الضبط: النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها فإذا لاحت.

 

ج / 2 ص -42-         وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة وليس حايدا عن المآخذ المضبوطة.
فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع ولهذا رد الحذاق [الاستدلال الذي لا يستند] إلى أصل فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها ولو فرض في أصل معنيان فصاعدا لم يترتب عليهما استفادة الضبط ولم يأمن المستنبط وقوع أحدهما خارجا عن حصر الشرع وضبطه وليس واحد من المعنين بهذا التقدير أولى من الثاني فمن هذه الجهة يتعارضان فلا يمتنع ترجيح أحدهما على الثاني.
788- فإن قال قائلون: بم تنفصلون عن الحائض المحرمة الصائمة؟
قلنا: قد قدمنا جوابا عن هذا سديدا عندنا فإنا نقدر اجتماع تحريمات وآية ذلك أنا ألفينا التحريم قد استقل به الحيض المحض والمفروض إذا في حكم أصول تجتمع تعليلها وتزدحم أحكامها.
789- ولباب هذا الفصل سيأتي في الاستدلال فلا يعتقدن المرء [بأن هذا] اختيارنا في هذه المسألة حتى يقف على ما نراه في الاستدلال رأيا وإن أبى الطالب استعجال الصواب في هذه المسألة فليثق بامتناع علتين لحكم واحد.
والدليل القاطع فيه قبل الانتهاء إلى المباحثة عن أسرار الاستدلال أن ذلك لو كان ممكنا وقد طال نظر النظار واختلاف مسالك الاعتبار في المسائل وما اتفقت مسألة إلا والمختلفون فيها يتنازعون في علة الحكم تنازعهم في الحكم ومن تدبر موارد الشريعة ومصادرها اتضح له ما نقول على قرب.
790- فمن أمثلة ذلك مسألة الربا ومن ادعى أنها مختصة من بين سائر المسائل باتفاق الإجماع على اتحاد العلة فيها فقد أحال الأمر على إبهام والمنصف لا يستريب في أن خوض النظار في مسألة الربا كخوضهم في غيرها من المسائل ولما ثبت الخيار للمعتقة تحت الرقيق وكان ذلك مجمعا عليه والإجماع مستند إلى الحديث ثم اختلف العلماء في إثبات الخيار للمعتقة تحت الحر ومنشأ اختلافهم في ذلك من اختلافهم في تعليل الخيار في حق المعتقة تحت الرقيق فاعتل أبو حنيفة رحمه الله بأنها ملكت نفسها وزعم أن ذلك يجري في حق المعتقة تحت الحر وأبطل الشافعي رحمه الله هذا التعليل واعتل بالضرار على ما يحرره أصحابه وكذلك الإفتاء في كل مسألة يبحث الناظر عنها.

 

ج / 2 ص -43-         791- ونحن نقول بعد هذا التنبيه: تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا وآية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور فلو كان هذا ثابتا شرعا [لما كان] يمتنع وقوعه على حكم النادر والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب لاح كفلق الإصباح أن ذلك ممتنع شرعا وليس ممتنعا عقلا ولا بعيدا عن المصالح وهذه نهاية لا تتعدى في هذا الفن وإنما نشأ هذا الكلام كله من قولنا في السبر والتقسيم.
792- والآن كما عاد بنا الكلام إليه فإذا أبطل السابر أشياء نص عليها فأخرجها عن كونها عللا ولم يبق إلا واحد اتجه عند ذلك وجهان من الكلام:
أحدهما: تعين ما بقي للتعليل به.
والثاني: بطلانه أيضا والتحاق الحكم بما لا يعلل كما سنفصل ذلك إن شاء الله تعالى وهذا التردد فيما بقي يدل على أن السبر المجرد إذا انتهى إلى معنى واحد ووقف عنده لم يدل على تعينه [للتعليل] وإن كان ذلك المعنى غير مخيل فهو يبطل أيضا بكونه طردا فلينجر السبر عليه وليتخذ السابر هذا مسلكا في إبطال ما أبقاه وليحكم بأن الحكم غير معلل ولو استمكن الناظر من إبداء الإخالة في معنى من المعاني مع التزام السلامة لبطل التعليل بغيره من المعاني من غير أن يتجشم سبرا.
793- فإن قيل: لو أبدى الخصم معنى آخر مخيلا قلنا هذا لا يكون أبدا وإن صح فيما أبداه أشعرنا بالاختلال للإخالة الأولى إذ لو فرض جريان الإخالة فيهما أدى إلى تعليل حكم بعلتين ولو كان ذلك سائغا لاتفق وقوعه.
794- ويبقى وراء هذا موقف آخر وهو: تجويز تقابل مخيلين مع ترجيح أحدهما على الثاني وهذا من أدق مواقف النظر في الترجيح ولا ينبغي للإنسان أن يتعب نفسه في هذا التقدير فإن أرباب النظر وإن ذكروا في مسألة الربا طرق الترجيح فذلك شعبة من الكلام في المسألة ومعظم الاعتناء بإبطال كل فريق علة من يخالفهم ولكن إجراؤهم الترجيح يدل على اعتقادهم امتناع اجتماع العلل.
795- فقد نجز مرادنا من هذا الفصل وقد ابتدأناه ابتداء من يجوز اجتماع العلتين وأردنا أن نفيد الناظر بهذا المسلك كيفية النظر ووجوه ازورار الطرق حتى يقر الحق في نصابه ويتبين تقرير المختار عندنا والتنصيص على لبابه.

 

ج / 2 ص -44-         فصل: الطرد والعكس.
796- ومما ذكره الجدليون وتردد فيه القاضي الطرد والعكس فذهب كل من يعزي إليه الجدل إلى أنه أقوى ما يثبت به العلل وذكر القاضي1 أبو الطيب الطيري أن هذا المسلك من أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعى إفضاءه إلى القطع وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة واعتلاقه أطرافا من كلامه ومن عداه حثالة وغثاء.
797- واستدل هؤلاء بأن الغرض الأقصى من النظر والمباحثة عن العلل غلبة الظن وهذا المقصود يظهر جدا فيما يطرد من غير انتقاض وينعكس وكأن الحكم يساوقه إذا وجد وينتفي إذا انتفى وإذا غلب على الظن تعليق الحكم المتفق عليه في الأصل المعتبر بمعنى فلم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك فقد حصل الغرض من غلبة الظن وعدم الانتقاض وينزل ذلك منزلة الإخالة السليمة لدى العرض على الأصول وللقاضي صغو ظاهر إلى ذلك.
ثم ظهور الدليل يرتبط بالطرد والعكس وهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدع اطراده وهو منازع فيه لا محالة والدليل يستند ظهوره إلى الاتفاق على الانعكاس.
798- وهذا من غوامض الفصل فإن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعة عند جماهير الأصوليين والطرد شرط ثم الذي هو شرط الصحة وركنها ليس دليلا على الصحة والذي لا يشترط وهو الانعكاس ينتهض دليلا.
799- وذهب بعض الخائضين في هذا الشأن إلى أن الأمر بهما جميعا يتم فإن محل التمسك مساوقة الأمر الذي يقال إنه علة وذلك تقرر بثبوته إذا ثبت وانتفائه إذا انتفى.
800- وقال القاضي في معظم أجوبته لا يجوز التعلق بالطرد والعكس في.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القاضي أبو الطيب الطبري هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الفقيه شيخ الشافعية سمع الحديث بجرحان من أبي أحمد الغطريفي وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي وعليه درس الفقه أيضا وكان ثقة دينا ورعا عالما بأصول الفقه وفروعه حسن الخلق مات سنة 450 عن مائة سنة وسنتين له ترجمة في البداية والنهاية 12/79, 80.

 

ج / 2 ص -45-         محاولة إثبات العلة فإن الطرد لا يعم في صور الخلاف على وفاق إذ لو كان يعم لما ثبت الخلاف في المحل الذي يدعى الطارد الطرد فيه والعكس ليس شرطا في العلة التي تجري دليلا وعلامة فقد صار الطرد واقعا في محل النزاع وبعد اعتبار العكس من جهة أنه غير معتبر كما سنذكره على أثر هذا الفصل ومن التزم نصب شيء علما لم يلتزم نصب نفيه علما في نفي مقصوده كما سيأتي الشرح عليه في مسلك العكس إن شاء الله تعالى فالطرد إذا متنازع فيه والعكس ليس من مقتضيات نصب الإعلام والعلامات.
وقال أيضا: معتمدنا في قاعدة القياس تأصيلا وفيما يرد ويقبل تفصيلا ما يصح عندنا من أمر الصحابة رضي الله عنهم فما تحققنا ردهم إياه رددناه وما تحققنا به عملهم قبلناه وما لم يثبت [لدينا فيه ثبت تعديناه فإنا على قطع نعلم أن جميع وجوه النظر ليست] مقبولة ولا مردودة والعقول لا تحتكم فيها مصححة ولا مفسدة فإنها إنما تحكم على الأنفس وصفاتها وما هي عليه من حقائقها والعلل السمعية لا تدل لذواتها فإذا ثبت هذا فقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينوطون الأحكام بالمصالح على تفصيل لها.
فأما الطرد والعكس فلم يؤثر عنهم التعلق به وليس هو من معنى طلب المصالح [في شيء] حتى يقال استرسالهم في طريق الحكم بالمصالح من غير تخصيص شيء منها يقتضي التعلق بالطرد والعكس.
801- وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر عندي فإن الغاية القصوى في مجال الظنون غلبتها متعلقة بقصد الشارع والمصالح التي تعلق بها صحب الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصادفوا في أعيانهم تنصيصا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصا لها بالذكر ولو صادفوا ذلك لما كانوا متمسكين بالنظر والرأي فإن معاذا جر الأمة لم يذكر الرأي في القصة المشهورة إلا بعد فقدان كل ما يتعلق به من الكتاب والسنة ولا نراهم كانوا يرون التعلق بكل مصلحة فالوجه في تحسين الظن بهم أنهم كانوا يعلقون الأحكام بما يظنونه موافقا لقول الرسول عليه السلام في منهاج شرعه وكانوا يبغون ذلك في مسالكهم ولا يكاد يخفى على ذي بصيرة أن الطرد والعكس يغلب على الظن انتصاب الجاري فيهما علما في وضع الشرع فمن أنكر ذلك في طرق الظنون فقد عاند ومن ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأبون التعلق بطريق يغلب على الظن مراد الشارع وكانوا يخصصون نظرهم بمغلب دون مغلب فقد ادعى بدعا.

 

ج / 2 ص -46-         802- فإن قال قائل: لم ينقل ذلك في عينه فالسبب فيه أنهم كانوا ما أجروا ذكر أصل [واستنباطا] منه وإن كان ذلك هو الطريقة المثلى عند القايسين وما لا يستند إلى أصل فهو استدلال مختلف فيه ولكنهم ما اعتنوا إلا بذكر المعاني فاكتفوا بإطلاقها عن ذكر أصولها وما تكلفوا جمعا وإن كان الجمع معتبرا باتفاق النظار والمسائل لا تشهد بصورها ما لم تربط الفروع بها والذي تحصل منهم التوصل إلى ابتغاء غلبة الظن في بغية الشارع على أقصى الجهد.
803- وأنا أقول: لو ثبت عندهم أو عرض عليهم انتفاء حكم عند انتفاء علم وثبوته عند ثبوته لابتدروه ابتدارهم الأخبار لا طرق النظر فإن ما ثبت من ذلك يعزى إلى الشارع في النفي والإثبات وكانوا يحومون على إشارته وتنبيهاته كما يتعلقون يظاهر ألفاظه وصريح عباراته فليقطع المحصل قوله بما انتهى إليه الكلام من الاستمساك بالطرد والعكس.
804- وما ذكره القاضي من كون الطرد [متنازعا] فيه وكون العكس مستغنى عنه فمن التشدق والتفيهق الذي يستزل به من لا يعد من الراسخين وسبيل الكلام عليه أن نقول مجموعهما هل يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما أم لا فإن زعم أنه لا يغلب انتسب إلى العناد وإن سلم إفادته غلبة الظن وقد تقرر أن القايسين غايتهم أن يظنوا ظهور علم على حكم وهم يعترفون بأن الجهات التي تفضي إلى غلبة الظن ليست منحصرة ومن تأمل مجارى كلامهم لم يسترب في أمرين.
أحدهما: أن الأولين رضي الله عنهم ما كانوا يشيرون إلى أمور محصورة مضبوطة يتبعونها اتباع من يقتفي اثار نصوص وتوقيفات ولو كانوا على ضوابط وحدود يتخذونها مرجعهم لما كانوا ينظرون فيه رأيا وإنما كان رجوعا إلى ضبط الشارع وتوقيفه فهذا أحد الأمرين.
والأمر الثاني: أنهم كانوا لا يرون حمل الخلق على الاستصلاح بكل رأى وإنما كانوا يحومون على قواعد الشريعة ويستثيرون منها ما يظنونه.
فيخرج من هذين الأمرين أن مبتغاهم كان أن يغلب على ظنهم مراد الشارع في علم يرتبط الحكم به.
805- فإن قيل: إذا جعلتم الطرد والعكس مسلكا في إثبات علة الأصل فهل تشترطون العكس وما رأيكم فيه؟ قلنا: نعقد في ذلك مسألة وبها حصول الغرض على التمام فيما سبق وفيما سئلنا عنه.

 

ج / 2 ص -47-         مسألة: [في حكم اشتراط العكس في علة القياس].
806- ذهب بعض المنتمين إلى الأصول إلى أن الانعكاس لا بد منه في العلل وإن كانت مظنونة وذهب الجماهير إلى أن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعية المظنونة ونحن نورد ما لكل فريق ثم نوضح الحق والمقام الذي تشعبت منه الاراء فأما من شرط العكس فقد يأتي بأمر لفظي لا حاصل له ويقول العلل وإن كانت مظنونة فينبعي أن تكون على مضاهاة العلل [العقلية] القطعية حتى لا يفترقا إلا في كون أحداهما مظنونة والآخرى مقطوعا بها ثم العلل العقلية يجب انعكاسها فلتكن السمعية كذلك وهذا ساقط لا أصل له ولولا الوفاء بإيفاء ما ذكر في هذا المجموع وإلا كنا لا نذكر أمثال ذلك.
فنقول لهؤلاء: العلل العقلية لا حقيقة لها ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ثم يقال لهم ما يسمى علة سمعية فهي أمارة في مسلك الظن وحقها أن تقابل بالأدلة العقلية ثم الأدلة العقلية إذا اقتضت في ثبوتها مدلولاتها لم يقتض انتفاؤها انتفاء مدلولاتها كالفعل إذا دل على الفاعل لم يدل عدمه على عدم الفاعل والإحكام إذا دل على علم المحكم له يدل التثبج على الجهل وكذلك الأمارات في سبيل الظنون إذا دلت على ثبوت أمر لم يدل انتقاؤها على انتفائه وهذا مما يستدل به من لم يشترط العكس.
807- وقد تعلق الجمهور بأن العكس لو كان شرطا لوجب ألا يقتل إلا قاتل من حيث كان القتل علة قتل القاتل ولا يقتل المرتد فإذا كان الحكم الثابت لعلة يطرد مع ارتفاعها لثبوت علة أخرى تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك على أن الانعكاس ليس شرطا.
فإن قيل: امتنع الانعكاس لعلة فليقل الطارد وقد نقض عليه طرده إنما تركت حكم الطرد فيما التزمت لعلة فلما كان الطرد شرطا لم يكن بد من الاطراد فلو كان العكس شرطها لتعين ذلك أيضا وكذلك كل حكم يفرض تعلقه بعلل.
ولمن يشترط العكس أن يقول القتل الواجب بالقتل يعدم بعدم القتل وإنما الواجب عند عدم القتل قتل آخر ولكن المحل يضيق عن القتلات ويفوت بإيقاع واحد منها [به].
والدليل على ذلك أنها مختلفة الأحكام على وجه لا يخفى مدرك اختلافه.

 

ج / 2 ص -48-         على الفقيه ويستحيل أن تختلف الأحكام في الشيء الواحد فإن ما يطرده هذا القائل في التحريم بالحيض والإحرام والعدة والردة ويزعم أنها أحكام فإذا زالت علة منها زال حكمها بزوالها وإنما الثابت حكم آخر وإن اتسم بسمة التحريم فدخول المختلفات تحت صفة واحدة عامة لا يوجب اتحادها.
وإذا ألزم هؤلاء الأدلة العقلية قالوا مجيبين: الفعل يدل على الفاعل وعدمه يشعر بانتفاء الفاعلية فإن الفاعلية هي وقوع الفعل على الحقيقة.
وأما الإحكام فلا حقيقة له والمثبج في حال تثبيجه محكم على معنى وقوعه على حسب مراد الموقع وبسط القول في هذا لا يحتمله هذا الفن وإذا خضنا في بيان المختار في ذلك عدنا إلى الأدلة العقلية عودة أخرى إن شاء الله تعالى.
808- ومما يتعلق به من لا يشترط العكس أن يقول: انتفاء التحريم ورفع الحرج من الأحكام فإذا تعلق التحريم بعلم لم يجب أن ينتصب عدمه علما [لحكم] آخر ومن التزم نصب شيء علما لم يلزمه أن ينصب علما في نقيضه.
وهذا وإن كان مخيلا فلا تحصيل له فإن الانعكاس معناه انتفاء الحكم وانتفاء الحكم ليس حكما وقد ذكرنا فيما قدمنا أن الحل في التحقيق إن كان بمعنى رفع الحرج فليس بحكم وإن كان المعنى به أنه مخبر عنه في معنى حكم الحل فهو في هذا الحكم ملحق بالشرع على معنى أنه لم يتصل بالعقلاء قبل ورود الشرع خبر من له الأمر وإلا فالحرج منتف قبل ورود الشرع وقياس التحريم [أن يثبت التحريم ثم أصل] انعكاسه انتفاء التحريم لا ثبوت حكم آخر مناقض للتحريم فقد وهت هذه الطريقة.
809- ومما تمسك بن بعض من نفى اشتراط الانعكاس ما قدمناه في أدراج [الكلام] من الأدلة العقلية فإنها إذا دلت بوجودها على مدلول لم يدل عدمها على عدمه ولا يخطر لم يعد نفسه حبرا في الأصول تفص عن هذا فإن الدليل العقلي مشعر بالمدلول قطعا والأمارة الظنية مشعرة بالمظنون ظنا ولو لم يشعر الدليل القاطع بمدلوله لم يكن دليلا عليه ولا شك أن إشهار القاطع بمتعلقه فوق إشعار الأمارة بالمظنون فإذا قوى الإشعار في الطرد كان اقتضاؤه الانعكاس أظهر ومع ذلك لم ينعكس الدليل فالمظنون بذلك أولى وهذا على وضوحه ساقط فلن يحيط بالانفصال عنه من لم يتلقف من حقائق النظر.
810- والقدر الذي يحتمله هذا الكتاب: أن تعليق الدليل العقلي بمدلوله لا.

 

ج / 2 ص -49-         حقيقة له والعلوم كلها ضرورية والنظر تردد في أنحاء العلوم الضرورية والعلم المسمى ضروريا هو الذي يهجم العقل عليه من غير فكر والنظر الأول الذي يلي [البديهي] الهجمي هو الذي يحوج إلى أدنى فكر وتجريد تفكر العقل نحو المطلوب ثم [ينبني] على الدرجة الأولى ثانية وعلى الثانية ثالثة فالسوابق تلتحق بالضروريات الهجميات.
811- ولا بد من ضرب مثال يستعين به الناظر في هذه المسألة وفي نظائرها إذا انجر الكلام إلى الأدلة القطعية فنقول إذا تغير الجوهر فتغيره مدرك معلوم من غير مسيس الحاجة إلى فكر ثم يربط هذا الناظر فكره بأن هذا التغير جائز هو أم واجب فنعلم على القرب جوازه ولا ينتصب عليه شيء يتعلق بالجواز ولكن الطالب بفكره يدرك وهو ممثل بما يتأتى بناظر البصر بعض التأتي فإنه قد يحدق نحو بصره قليلا ثم إذا أدركه التحق بالمدركات التي تقرب منه ثم إذا علم جوازه فكر في أنه يقع بنفسه أم يستند إلى مقتض فيترتب عليه غير بعيد ويعلم على اضطرار أن الجائز لا يقع من غير مقتض ويلتحق هذا بالمراتب الضرورية ثم يفكر في تعيين المقتضى إلى حيث ينتهي نظره.
812- ومثال ذلك في الهندسيات: أن الأوليات المذكورة في المصادرات أمور تسليمية كقول القائل الكل أكثر من الجزء وكل شيئين يساوي كل واحد منهما [ثالثا] فهما متساويان ثم يبني الأشكال على أمثال هذه المقدمات وإذا أدركه كان العلم بها على نحو العلم بالمقدمات ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري.
وقد يحتاج الناظر إلى قليل فكر وذلك يختلف باختلاف القرائح فقد يجرى الجواد جريانا لا [نحس] في أثنائه وقفاته إن كانت وقد يطول تردد البليد.
ومما يطرق الخلل إلى النظر الحيد عن السنن المفضي إلى مقصده وبيانه بالمثال أن الذي يبغي مقتضيا إذا حاد عن طلب الجواز وأخذ يفكر في الطول والعرض وللون فهذا حائد لا ينتهي إلى مقصده وقد يؤتى الناظر من نسيان المقدمات وإلا فالمشكل انقطاع مدركه كمدرك المقدمات في المقالة الأولى من كتاب الاستقصات.
813- فخرج من هذا التنبيه العظيم أن دليل العقل ليس شيئا متعلقا بمتعلق حتى يفرض فيه إشعار في الطرد ونقيض له في العكس.
والأمارات الشرعية مصالح تقتضى أحكامها وهي على التحقيق متعلقة بها فقد بان افتراق البابين والمطلوب بعد من حقيقة المسألة بين أيدينا.

 

ج / 2 ص -50-         وقد قالوا: إذا كانت العلامات الشرعية لا تقتضي أحكامها لأعيانها وإنا وجه اقتضائها لها نصب الشارع إياها وإن صح في ذلك نقل فهي علل منقولة [وإن لم يثبت نقل وظنها المستنبط كان نصب الشارع إياها] مظنونا فهي إذا كيف فرضت منصوبة تحقيقا أو ظنا.
ومن قال لمن يخاطبه: إذا أومأت إليك فاعلم أني أريد منك أن تقوم فعدم الإيماء لا يدل على عدم إرادة القيام فقد يريد منه القيام بعلامة أخرى وقد ينصب على الشيء الواحد أعلاما وهذا على التحقيق حكم العلل الشرعية وهذا هو التدليس الأخير وإذا نحن أوضحنا مسلك الحق فيه استفتحنا بعده تمام الكشف عن غاية البيان واختتمنا المسألة على وضوح لا مراء بعده.
- 814 فنقول: هذا القبيل الذي ذكره السائل من فن مالا يخيل ولا يناسب المستدعي فإن الإشارة لا تختص باقتضاء القيام لا عن علم ولا عن غلبة ظن وهي بالإضافة إلى القيام كهى بالإضافة إلى القعود فليفهم الناظر ذلك أولا وليتفطن له.
- 815ثم نقول بعد: هذه الصفات إذا نصبت أعلاما فإنها في غالب الأمر تذكر في مساق شرط أو على قضية تعليل فإن ذكرت على مساق لشرط فقد قررت في مسألة المفهوم أن انتفاء الشرط يتضمن انتفاء المشروط ومن خالف في القول بالمفهوم لم يخالف في الشرط واقتضائه نفى المشروط عند انتفاء الشرط.
فإذا لا نسلم أن ما يجري من هذه الصفات في مساق الشرط لا يقتضي [انتفاء عند فرض الانتفاء] وإن لم يجر صيغة الشرط في عينها وجرى في معناها فالأمر يجري هذا المجرى فهو بمثابة أن تقول إذا أومأت إليك فقم "فإذا" وإن لم تكن من أدوات الشرط فمعناه الشرط مع اقتضاء التأقيت على ما سبق الرمز إليه في معاني الحروف وإن جرت على صيغة التعليل فالتعليل أبلغ في اقتضاء النفى عند فرض انتفاء العلة وهذا مما سبق القول فيه أيضا في المفهوم فما ادعاه السائل من أن نصب الأعلام لا يقتضى انتفاء الأحكام عند انتفائها ساقط لا أصل له وهو إذا تأمله المتأمل مردود إلى القول بالمفهوم في الشرط والعلة فهذا صدر الكلام في ذلك.
- 816ولكنا مع ذلك لا نبعد أن تعلق المتعلق مشروط بأفراد شرائط بحيث يستقل ذلك المشروط بكل واحد منها مثل أن يقول: أن أتيتني [أو كاتبتني] أو ذكرتني بخير على ظهر الغيب أكرمتك فالإكرام متعلق بكل شرط من هذه الشرائط.

 

ج / 2 ص -51-         من غير أن يشترط اجتماعها وإذا كان التعلق على هذا الوجه لم يبعد أن ينتفي الإتيان ويثبت الإكرام لمكان المكاتبة أو لشرط آخر يفرض.
817- فإذا لاح هذا انعطفنا على الغرض وبحنا بالمقصود وقلنا: سيأتي في تفصيل الاعتراضات الصحيحة أن النقض مفسد للعلة في بعض الصور قطعا وفي بعضها بضرب من الاجتهاد وطرق القطع منحسمة ولكن النقض على حال ممثل بالخلف في الوفاء بالمشروط عند ثبوت الشرط.
فإذا قال قائل: إن جئتني أكرمتك فإذا جاءه ولم يكرمه كان ذلك في حكم الخلف ولو جرى إكرامه من غير مجيء كان هذا مخالفا لحكم الشرط من طريق التضمن ولم يكن معدودا خلفا صريحا فيفارق الطرد العكس مثل ما يفارق الخلف الوفاء بالمشروط عند وجود الشرط في إثبات مجيء المشروط دون الشرط.
وإذا قال القائل: إن جئتني أكرمتك وإن لم تجئني أكرمتك فالذي جاء به وإن كان على صيغة الشرط فهو خارج عن باب الشرط باتفاق أهل اللسان والتقدير أكرمك إن جئتني أو لم تجئني.
818- ونحن الآن نقول: من حكم كل ما يثبت علة أن ينعكس وأن يكون لوجوده على عدمه مزية ولو لم يكن كذلك لما كان لكون الشيء علة معنى ثم إذا كان الشيء مخيلا [وثبت كونه علة شرعا] فجهة اقتضاءه النفى عند انتفائه من جهة تأثير الإخالة وإن لم يكن مخيلا وثبت كونه علة شرطا فجهة اقتضائه النفى عن انتفائه كونه شرطا كما تقرر في قاعدة المفهوم ومع هذا كله لا يمتنع أن تنتفي العلة ويثبت الحكم بعلة أخرى وكذلك القول في الشرط من حيث أنه يجوز ربط مشروط بآحاد شرائط فإن لم يصح تعليل الحكم الواحد بعلل فيتعين العكس في كل علة ولكنه لو امتنع العكس لخبر أو إجماع فهذا الآن يستدعي مقدمة في النقض.
مقدمة في النقض.
819- فلو اطردت العلة على صور المعاني وتلقتها صورة تخالف حكمها في مقتضى الطرد وكان حكمها غير معلل ففي بطلان العلة بذلك كلام سيأتي مشروحا.
820- فعدم الانعكاس لخبر أو إجماع موضع الخلاف فمن رأى ما قدمته نقضا اضطربوا في مثل هذه الصورة في العكس فذهب الأكثرون إلى أنه غير ضائر.

 

ج / 2 ص -52-         فإن الانعكاس ضمن العلة كالمفهوم والنقض في حكم الوارد على نص الكلام.
وصار صائرون إلى أنا نتبين بتقاعد العلة عن مقتضاها بطلانها في طردها فهذا موضع الخلاف [في المسألة].
821- والمختار إذا انتهى الكلام إلى هذا المجر أن هذا غير مبطل للعلة ولكن ينشأ من هذا الموضع فصل جدلي ممتزج بأمر ديني فنقول.
أولا: دينا حق على كل مجتهد أن يفتى بعكس العلة إذا لم يمنع من ذلك مانع ولم يحجز حاجز فإن اقتضى الانعكاس جهة في الاجتهاد فلا يجوز تعطيله ولكن إذا طولب في النظر فالوجه ألا يلتزم ما لأجله ترك العكس فإنه إذا ثبت جوازه ترك العكس بسب والكلام في محل العكس خارج عن محل الخلاف فمطالبة المعلل بإبداء العذر في ترك الانعكاس خروج عن المسألة إذ محل الطرد هو المعنى.
وسر المسألة قصر الكلام على المقصود وحصره في أوجز الطرق حتى تجدى و تثمر على قرب و كثب.
وكمال البيان فيه: إن من طرد علة فانتقضت علته ولاح الفرق بين صورة النقض ومحل التعليل فالعلة باطلة قطعا فإن ما انتهض فرقا صيغة في التعليل أخل المعلل بذكره فكأنه ذكر بعض العلة ولو تقاعدت العلة عن العكس وظهرت علة تقتضي امتناع العكس لم ينقدح ذلك في العلة بل كان ذلك عذرا عاما في عدم الانعكاس وقد نجز غرضنا من الكلام في الانعكاس الآن.
822- وإنما أجرينا ذكر هذا الطرف وإن كان لائقا بباب الاعتراضات لاتصاله بالقول بالعلتين وبه تم إيضاح الغرض من هذا الفن وتقرر أنا لم نلف حكما متفقا عليه مرتبطا بعلتين مع تحقيق الاتحاد في الحكم.
وإذا كان كذلك فالحكم الثابت مع انتفاء العلة إن لم يستند إلى نص أو إجماع فهو مساو للحكم الأول في الاسم ومخالف له في المأخذ والحقيقة وهو كتعليلنا تحريم المحرمة بإحرامها ثم إذا حلت وكانت حائضا فهي محرمة وإن زال الإحرام ولكن تحريم الحيض مخالف لتحريم الإحرام في وصفه وكيفيته وكذلك إذا علل المعلل إباحة الدم بالقتل الموجب للقصاص ثم لم تنعكس العلة لمكان الردة أو غيرها من مقتضيات القتل فليس هذا من عدم الانعكاس فإن القتل الواجب بالقتل ينتفي بانتفاء القتل.

 

ج / 2 ص -53-         823- فإن قيل: قد أنكرتم وجدان حكم معلل بعلتين فما قولكم في الولاية المطردة على الطفل والمجنون وهي قضية واحدة معللة بالجنون والصبا؟
قلنا: الولاية الثابتة على المجنون ضرورية إذ لا يتوقع من المجنون تصرف وفهم ونظم عبارة والولاية على الصبي المميز لمكان الغبطة وطلب الأصلح فإن الصبي يعقل ما يقول ويفعل ومن كان آنسا بتفاصيل الولايات لم يعدم فرقا بين الولاية على المجنون والولاية على الصبي [المميز] فإن فرض صبي غير مميز فهو المجنون بعينه ولا أثر للصبا ولا يقع به تعليل فإن الولاية الحقيقية بالصبا هي ولاية الاستصلاح.
824- وقد تناهى الشافعي في [الغوص] على ما ذكرناه حتى لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعا إذا كانت إحداهما أقرب من الأخرى وقال القرب الأقرب يعدم أثر القرب الأبعد حتى كأنه ليس قريبا وكذلك الصبا مع سقوط التمييز ليس معتدا به وهذا آخر القول في تأصيل قياس المعنى وما تثبت به علل الأصول وقد حان الآن أن نحوم على قياس الشبه.
القول في قياس الشبه1.
825- ومن أهم ما يجب الاعتناء به تصوير قياس الشبه وتمييزه عن قياس المعنى والطرد و لا يتحرر في ذلك عبارة خدبة مستمرة في صناعة الحدود ولكنا لا نألوا جهدا في الكشف فقياس المعنى مستندة معنى مناسب للحكم مخيل مشعر به كما تقدم والشبه لا يناسب الحكم مناسبة الإخالة وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض لا يعضده معنى ولا شبه.
826- وإنما يتضح القول في ذلك بالأمثلة ثم بالحجاج.
فإذا قلنا طهارة عن حدث أو طهارة حكمية فافتقرت إلى النية كالتيمم لم يكن قولنا طهارة عن حدث مقتضية من طريق الإخالة للنية ولكن فيه شبه مقرب لإحدى الطهارتين من الأخرى وقد عبر الشافعي2 عن تقريب إحداهما من الأخرى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اضطرب الأصوليون في تعريف الشبه والمختار في تعريفه أنه وصف لا يناسب الحكم بذاته وإنما يناسبه لأنه أشبه الوصف المناسب بذاته وبيان ذلك أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم مصلحة مناسبة للحكم وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة لكن يطلع على وصف يظن أنه مظنة تلك المصلحة. قال الغزالي ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إلى قياس الشبه "أصول الفقه" ص 328, 329.
2 سبقت ترجمته.

 

ج / 2 ص -54-         فقال: طهارتان فكيف تفترقان؟ وكذلك إذا, قلنا: غسل حكمي فلا يتعدى الظاهر إلى داخل الفم كغسل الميت فهو تشبيه مقرب وليس بمثابة الطرد الذي لا يخيل ولا يثير شبها مغلبا على الظن.
827- ثم الشبه ينقسم إلى تشبيه حكمي وإلى [تشبيه] حسي.
فالحكمي ما ذكرناه والحسي كقول أحمد1 أحد الجلوسين في الصلاة فكان واجبا كالجلوس الأخير. وكقول أبي حنيفة: تشهد فلا يجب كالتشهد الأول وفي الشرع تعبد بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية كالقول في جزاء الصيد والقيافة مبناها على النظر إلى الأشباه الجلية والشمائل الخفية.
828- ولا ينتهي هذا المقدار إلى تمام البيان في تصوير قياس الشبه ونحن نزيد فنقول إلحاق الشيء بالمنصوص عليه لكونه في معناه متقبل مقطوع به وإن لم يكن الحكم المنصوص عليه معللا أو كان معللا ولم يطلع الناظر بعد [على] ذلك من حاله وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا فما قرب من المنصوص عليه جدا بحيث يحصل العلم بالتحاقه فهو في الرتبة العليا وما بعد قليلا وعارض العلم نقيضه من ظن أو شك فهذا مما يغلب على الظن الالتحاق به من غير معنى وهو الشبه.
ثم تعليلات الظنون في درجات المظنون على مراتب فإذا تناهى البعد وثار بحيث لا يلوح مقتضى ظن ولا موجب علم فهو الطرد المردود.
829- والشبه ذو طرفين أدناه قياس في معنى الأصل مقطوع به.
وأبعده لا يستند إلى علم ولا ظن وكل طارد ذاكر شبها حسيا أو حكميا لا يخيل ولا يغلب على الظن.
ومن أصدق ما تميز به الطرد عن الشبه أن تعليق الحكم بما يعد طردا يضاهى في مسلك الظن تعليق نقيضه به فلا يترجح أحدهما على الثاني إلا من جهة اطراد أحدهما فيما يبغيه الطارد ويدعيه والشبه يتميز عن هذا.
ونحن نبين ذلك بمثال يحوي المقطوع به في الرتبة العليا والشبه الذي نحن في محاولة تصويره والطرد الذي نرده.
فلو ثبت مثلا كون النية شرطا في التيمم لكان الوضوء في معناه قطعا وإلحاق الوضوء بالتيمم تشبيه ولا يليق بقول القائل طهارة حكمية نفى النية [فانماز] الشبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.

 

ج / 2 ص -55-         المقبول به عن نقيضه وإذا قال الحنفي طهارة بالماء فأشبهت إزالة النجاسة كان ذلك طردا.
ولو قيل: طهارة بالماء فافتقرت إلى النية لم يكن في هذا بعد يناقض نفى النية حتى يقال نفي النية أليق اللفظ من إثباتها وإن انتصروا لذلك فغايتهم أن يقولوا ما ذكرناه شبه [خلقي] وقد هذى بعض المتأخرين فقال: الماء طهور بجوهره.
وغرضنا التنبيه على المنازل فإن استقام للخصم وجه من الشبه فالأصولي لا يعرج على مذاهب أصحاب الفروع ثم نزيد الكلام إن ناضل الخصم بشبيه إلى الترجيح [وسننبه] على مسلكه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
830- ومما ذكره القاضي في تمثيل تعارض الأشباه القول في أن العبد المملوك هل يملك؟
فمن زعم أنه يملك شبهه في إمكان صدور التصرف منه بالحر واعتضد بأنه عاقل في جنسه يتأتى منه السياسة والإيالة والضبط والقيام على المملوكات وإنما يملك من يملك لذلك وللعبد فيه شبه بالحر وهذا يعتضد بتصوير ملك النكاح له.
ومن أبى تصوير الملك له تعلق بأنه على شبه المملوكات في استحالة الاستقلال وفي نفوذ تصرف المالك فيه على حسب تقدير النفوذ في المملوكات [جمع فشابه] المملوك الذي يقام عليه ولا يقوم بنفسه.
831- وهذا الذي ذكره ليس من قياس الشبه عندي فإن كل متعلق في المسألة في شقي النفي والإثبات منخرط في سلك المعنى المخيل المناسب ثم الإخالات على رتب ودرجات فمنها الخفي ومنها الجلي ومنها المتوسط بين الخفاء والجلاء.
ولعلنا أن نأتي في ضبك مداركها بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى.
832- ومما أجراه القاضي في ضبط تصوير الشبه أن قال قياس المعنى هو الذي يستند إلى معنى يناسب الحكم المطلوب بنفسه من غير واسطة وقياس الشبه هو الذي يستند إلى معنى [و] ذلك المعنى لا يناسب الحكم المطلوب بنفسه ولكن ذلك المعنى يغلب على الظن أن الأصل والفرع لما اشتركا فيه فهما مشتركان في المعنى المناسب وإن لم يطلع عليه القايس.
833- وهذا الذي ذكرناه على حسنه لا يضبط قياس الشبه فإنا نجري قياس

 

ج / 2 ص -56-         الشبه حيث لا يعقل معناه فيه تقريبا له من الذي يقال فيه إنه [في] معنى الأصل فإذا كان القياس ألشبهي يجري حيث لا معنى فلا توجه لضبطه بالإشعار بالمعنى المناسب.
وقد ينقدح في محل إمكان المعنى فيما ذكره القاضي [فضل] نظر فإن دركه إذا كان ممكنا للمجتهد لم يجز له الاجتزاء بالشبه بل عليه أن يبحث عما لا يشعر به الشبه من المعنى فإذا لاح للناظر الشبه المشعر [بالاجتماع] في المعنى كان ذلك في حكم السابقة المقتضية تتمة النظر.
وسنعود إلى تفصيل ذلك بكلام يشفى الغليل ونأتي على كل تفصيل إن شاء الله تعالى وإنما نحن الآن في تصوير الشبه ثم الكلام يقع وراء ذلك في الرد والقبول وإثبات الحق.
فصل:
834- ومما أرى تقديم رسمه ربط الأحكام بالأحكام وهو كثير الجريان والجولان في أساليب الظنون كقول القائل من نفذ طلاقه نفذ ظهار إلى ما ضاهى ذلك وهذا ينقسم إلى ما يشعر بالمعنى المخيل [المناسب] إشعارا بينا وإلى ما يستعمل شبها محضا فالمشعر بالمعنى كما ضربناه من المثال استدلالا على نفوذ الظهار بنفوذ الطلاق فإنه يجمعهما اقتضاء كل واحد منهما تحريم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من التصرف فيه والتحريم على وجه ينفرد باستدراكه أو على وجه مبين يستدعي رفعه عقدا مجددا والظهار محرم كالطلاق فربط أحدهما بالآخر يلوح منه المعنى الجامع بينهما.
835- وهذا القسم سماه بعض المتأخرين قياس الدلالة من حيث إنه يتضمن شبها دالا على المعنى.
وهؤلاء قسموا الأقيسة إلى قياس المعنى وهو الذي يرتبط الحكم فيه بمعنى مناسب للحكم مخيل مشعر به.
وإلى قياس الدلالة وهو الذي يشتمل على ما لا يناسب بنفسه ولكنه يدل على معنى جامع وإلى قياس الشبه المحض وهو الذي لا يشعر بمعنى مناسب أصلا ولا يكون في نفسه مناسبا.
ثم اختيار النظار قياس الدلالة لإعرابه عن المقصود على القرب فإن المعنى لو

 

ج / 2 ص -57-         أبداه المعلل ونوزع فيه وفي مناسبته وطريق اعتباره وإشعاره لقال: التحريم إلى الزوج والله المحرم كتحريم الطلاق بالإضافة إلى الطلاق فإذا كان عقبى الكلام يستدعي الاستشهاد بالطلاق فذكر الطلاق أول مرة على الابتداء يتضمن المعنى ويصرح بالاستدلال عليه.
836- فأما الحكم الذي هو شبه محض فهو كقول القائل: قربة ينقضها الحدث فيشترط فيها الموالاة قياسا للطهارة على الصلاة فانتقاض القربة بالحدث حكم وربط الموالاة بالحدث من طريق الشبه فليس في بطلانها بهذا الحكم ما يشعر باشتراط المتابعة على التحقيق.
837- وقد يقرب من هذا القسم تشبيه الوضوء بالتيمم وتشبيه غسل الجنابة بغسل الميت.
ومما يلتحق بهذا القسم تصوير الشبه اعتبارنا التكبير في حكم التعيين وامتناع قيام غيره مقامه بالركوع الذي لا تقوم هيئة من الهيئات مقامه وإن تضمن خشوعا واستكانة تامة.
838- والقاضي أحيانا يقول: ليس هذا بقياس فإن تعيين التكبير متناه على انحسام مسلك القياس وتحرير القياس في منع القياس مناقضة والتباس ولكن صاحب هذا المذهب يقرر ابتناء الصلاة على الاتباع ويوضح بعدها عن المعاني.
ونضرب في ذلك الأمثال للإيضاح لا للقياس.
وهذا يضاهي من سبل المعقولات المخاوضة في الضروريات فإن الاستدلال فيها محال ولكن المتمسك بدعوى الضرورة قد يبسط المقال ويضرب فيه الأمثال ويبغي بإيرادها اجتزاء مخالفة خصمه وارعواءه عن جحده وعناده.
وأحيانا يقول هذا قياس الشبه فيما لا يعقل معناه والجوابان متقاربان لا يظهر بينهما اختلاف المعنى.
839- ومن تمام القول في تصوير ما نحن فيه: أن المعنى الذي ادعاه المعلل علة وعلما لم يظهر كونه مخيلا وإنما أثبت [المتمسك] به انتصابه علما من جهة الطرد والعكس ورأيت ذلك مسلكا في انتصاب المعنى علة فهذا في أصح أجوبة القاضي يلتحق بالشبه فإن المعنى هو المناسب وما يغلب على الظن انتصابه من غير إخالة.

 

ج / 2 ص -58-         فمسلكه الشبه فهذا بيان صورة قياس الشبه وما يلتحق به وهذا منتهى غرضنا من هذا التصدير في محاولة التصوير.وقد حان أن ننقل المذاهب في رد قياس الشبه وقبوله ونوضح الحق عندنا.
مسألة:
840- قال القاضي في كثير من مصنفاته: قياس الشبه باطل وإلى هذا صغوه الأظهر وتابعه طوائف من الأصوليين وذهب معظم الفقهاء إلى قبول قياس الشبه والقول به فأما من رده فمتعلقه أن الشبه ليس مناسبا للحكم ولا مشعرا به فشابه الطرد فإن الطرد إنما رد من جهة أنه لا يناسب الحكم. وإن زعم القائل بالشبه أنه مناسب فليس من شرط الأصولي أن يتكلم في تفاصيل الفقه ولكنه يقول إن كان مناسبا على شرط الفقهاء فهو قياس المعنى ونحن لا ننكره وإنما ننكر قسما سميتموه الشبه وزعمتم أنه زائد على المعنى المخيل المناسب فهذا لباب كلام القاضي حيث يرد قياس الشبه وسنرد عليه في خاتمة الكلام.
841- وإنما أخرنا ذلك لأن الغرض لا يلوح دون ذكر معتصم القائلين بقياس الشبه وقد أكثر الفقهاء وما أتوا بكلام يفلح [المتمسك] به والذي نرتضيه متعلقا في الشبه أمران.
أحدهما: أن نقول قد أوضحنا في مواضع أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وعن قضية تكليفية وسنكشف الغطاء فيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى.
وإذا تمهد ذلك قلنا: من مارس مسائل الفقه وترقى عن رتبة الشادين فيها ونظر في مسالك الاعتبار تبين أن المعنى المخيل لا يعم وجوده المسائل بل لو قيل لا يطرد على الإخالة المشعرة عشر المسائل لم يكن مجازفا وهذه الطريقة إنما يدريها من توغل في مسائل الفقه فأمعن النظر فيها وهذا واضح جدا بالغ الموقع.وعضد القاضي في [التقريب] هذه الطريقة بمناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض سيما مسائل الجد وفي هذا نظر فإنها معان بيد أنها تكاد تتعارض وإنما تعب المجتهدون فيها بالترجيح فهذا مسلك مقنع جدا.
842- والمسلك الثاني: أن الغرض من قياس المعنى غلبات الظنون وكل مسلك

 

ج / 2 ص -59-         في قبيله وجنسه ما ستعقب العلم عند قرب النظر فإذا بعد وأثار ظنا كان متقبلا في المظنونات وقد ذكرنا أن إلحاق الشيء على قرب بالمنصوص عليه وهذا الذي يسمى القياس في معنى الأصل معلوم مقطوع به والشبه على فنه ومنهاجه غير أنه لا يتضمن علما ويتقضي ظنا وهذا كأقيسة المعاني فإن الشارع لو نص على تعليل الحكم بعلة على وجه لا يتطرق إلى تنصيصه تأويل فهذا في فنه مقطوع به.
وإن لم يفرض نص ولا إجماع ولاح في الحكم المنصوص عليه معنى مناسب فهذا مظنون الالتحاق بما فرضناه معلوما في هذا الطريق فيترتب مسلك الظن في قياس المعنى على النص على المعنى ترتب الشبه على الذي يقال إنه في معنى الأصل.
ومستند كل فريق في البابين أصل لو ثبت كان مقتضيا علما وليس هذا الذي ذكرناه قياسا في إثبات نوع من القياس فإن هذا ليس بالمرضى عند من يحيط بمأخذ الأصول ولكنا رسمنا القسمين معلوما ومظنونا.
843- ونحن نقول وراء ذلك: إنا لا يمكننا أن ننص على مسلك معين أو مسالك وندعى أن نظر الصحابة ومن بعدهم كان منحصرا فيه والذي يسمى المعنى ليس يقتضي الحكم لعينه وليس كل مخيل عله في الحكم.
والقدر الذي ثبت: أنهم كانوا يلحقون ما لا ذكر له في المنصوصات بالمنصوصات إذا غلب على ظنهم أنه يضاهيها بشبه أو بمعنى وليس من يدعى حصر النظر في المعاني بأسعد حالا ممن يدعى حصر المعاني في الأشباه.
واستتمام الكلام فيه بما ذكرناه مقدما حيث قلنا النظر في الشبه يوقع في مستقر العادة غلبة الظن كما أن النظر في المعنى يوجب ذلك.
ومن أنكر وقوع الظن كان جاحدا للعلم على قطع فإن العلم بوقوع الظن مقطوع به وإذا انتظم ظن في إلحاق الشيء بأصل الشرع ولم يدرأه دارئ وألفى قبيله إذا ظهر مقتضيا علما فليس بعد هذا التقرير كلام مع ما تقدم من أن الرجوع إلى المجمعين حتم ولم يثبت في مآخذهم ضبط.
844- فإن قيل: لسنا نسلم إفضاء الشبه إلى غلبة الظنون.
قلنا هذا الآن عناد [منكم ونكد] فإن من أنكر وقوع الظن بكون الوضوء كالتيمم وكل واحد منهما معنى يراد معين للصلاة والحدث استباحة أو رفعا فقد راغم.

 

ج / 2 ص -60-         وإذا قيل له: قياس المعنى لا يفيد ظنا لم يرجع في تحقيق ذلك إلا إلى مثل ما ذكرناه والسر فيه أن جحد الظن في هذه المسالك مراغمة للعلم بالظن.
845- وما ذكره القاضي في تقسيم القول بأن الشبه مناسب للحكم أو غير مناسب فهذا أوان الجواب عنه.
فنقول: الشبه مع ما ادعيت من انقطاع المناسبة أيغلب على الظن أم لا فإن أبى حصول غلبة الظن فقدره أجل وأعلى من هذا وإن اعترف به راجعناه في المعنى الذي تحصل غلبة الظن لأجله ولا مناسبة.
وعندي أن الأشباه المغلبة على الظن وإن كانت لا تناسب الأحكام فهي تناسب اقتضاء تشابه الفرع والأصل في الحكم فهذا هو السر الأعظم في الباب فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلية والأصل يعني لانحصار المصلحة في أصول الشريعة فإن كل مصلحة لا تنتهض علة والشبه لو جرد لا يقتضي الحكم كما لو لم يفرض إلا الوضوء لم يكن في قول القائل طهارة حكمية أو عن حدث اقتضاء النية لا علما ولا ظنا وإذا ثبت التيمم فذكر الحدث يناسب مشابهة الوضوء للتيمم والشبه من ضرروته مشبه ومشبه به والمعنى مستقل إذا ناسب اقتضاء الحكم لو ثبت الاستدلال والقول به.
846- وهذا منتهى القول في الشبه: تصويرا واحتجاجا واختيارا وقد اشتمل ما ذكرناه على تقسيم الأقيسة المظنونة.
ونحن نذكر بعد ذلك فصلا مما جمعه الأصحاب في تقاسيم الأقيسة ونطرد ما قالوه ونسوقه على وجهه ثم نذكر ترتيبا حسنا [ينبه الناظر على جميع قواعد القياس] ثم نذكر ما يعلل وما لا يعلل ثم نذكر طريق الاعتراضات الصحيحة منها والفاسدة ثم نذكر قولا بالغا في الاستدلال ثم نختتم الكتاب بالمركب وما فيه وينتجز به القياس إن شاء الله تعالى.

فصل: في مراتب الأقيسة.
847- يحوي ما يعد منها وفاقا وما يختلف في عده منها ويتضمن بيان ترتيبها في الجلاء والخفاء. ونحن نذكر أجمع طريقة الأصحاب وأحواها ثم نذكر ما عندنا في معناها ومغزاها.

 

ج / 2 ص -61-         قالوا: أولها: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من طريق الفحوى والتنبيه المعلوم كإلحاق الضرب وأنواع التعنيف بالنهي عن التأفيف فهذا في الدرجة العليا من الوضوح.
وقد صار معظم الأصوليين إلى أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بل هو متلقى من مضمون اللفظ والمستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومبناه ومن سمى ذلك قياسا فمتعلقة أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب.
848- والقسم الثاني: ما نص الشارع على تعليله على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه أصلا وقد ثبت لفظ الشارع قطعا فإذا ثبت الحكم واستند إلى النص القاطع في تعليله فمن ألحق بالعلة المنصوصة المسكوت عنه بالمنطوق به كان قياسا.
قال الأستاذ أبو بكر هذا ليس بقياس وإنما هو استمساك بنص لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل طرق التأويل عم في كل ما تجرى العلة فيه وكان المتعلق به مستدلا بلفظ ناص في العموم.
849- القسم الثالث: إلحاقك الشيء المنصوص عليه لكونه في معناه وإن لم تستنبط علة لمورد النص وهو كإلحاقك الأمة بالعبد في قوله عليه السلام:
"من أعتق شركا له في عبد قوم عليه"1 وهذا القسم مما اختلف في تسميته قياسا أيضا كما تقدم ذكره.
850- والقسم الرابع: قياس المعنى: وهو أن يثبت حكم في أصل فيستنبط له المستنبط معنى ويثبته بمسلك من المسالك التي قدمناها [و] لم يصادفه غير مناقض للأصول فيلحق كل مسكوت عنه وجد فيه ذلك المعنى بالمنصوص عليه وقد تقدم استقصاء القول فيما يثبت به علل الأصول وشرط هذا القسم أن يكون المعنى مناسبا للحكم مخيلا مشعرا به على ما تقدم وهذا القسم هو الباب الأعظم في أقيسة الشرع وفيه نزاع القايسين وتعارض أقوالهم.
851- والقسم الخامس: قياس الشبه ونحن على قرب عهد بوصفه.
852- وألحق ملحقون قياس الدلالة بهذه الأقسام [واعتقدوه] قسما سادسا ولا معنى لعده قسما على حياله وجزءا على استقلاله فإنه يقع تارة منبئا عن معنى وتارة شبها وهو في طوريه لا يخرج عن قياس المعنى أو الشبه فهذه تقاسيم كلية ذكرها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -62-         من حاول ترتيب الأقيسة.
- 853[والرأي] عندنا أن نجري الترتيب على خلاف ذلك فنقول مطلوب الناظر ينقسم إلى معلوم ومظنون.
فأما المعلوم: فلا معنى لذكر الترتيب فيه فإن [العلوم] لا تتفاوت عند وقوعها فإن فرض تفاوت في القرب وبعد المأخذ وطول النظر فهو من مقدمات العلوم وإلا فلا يتصور علم أبين من علم.
- 854 والأقسام الثلاثة المقدمة من المعلومات ومن أنكرها كان جاحدا وقد استجرأ على جحد بعضها أقوام يعرفون بأصحاب الظاهر ثم إنهم تحزبوا أحزابا وتفرقوا فرقا فغلا بعضهم وتناهى في الانحصار على الألفاظ وانتهى به الكلام إلى أن قال: من بال في إناء وصبه في ماء لم يدخل تحت نهى الرسول عليه السلام إذ قال:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم".
وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ولا يستحق منتحله المناظرة كالعناد في بدائه العقول.
ومما يحكى في هذا الباب ما جرى لابن سريج مع أبي بكر بن داود قال له ابن سريج أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}1 فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟
فقال مجيبا: الذرتان ذرة وذرة فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاند.
855- وأما المظنون: فينقسم إلى قياس المعنى والشبه ثم قد يتردد بين القسمين ما يلتحق تارة بالمعنى وتارة بالشبه على ما نفصله.
856- وأما قياس المعنى: فهو الذي يناسب كما سبق وصفه ثم هذا القسم في نفسه يترتب رتبا لا تقبل الضبط فمنها الجلي ومنها الخفي ثم الجلاء والخفاء فيها من ألفاظ النسبة فكل محتوش بطرفين جلي بالإضافة إلى ما دونه خفي بالإضافة إلى ما فوقه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "6" سورة الزلزلة.

 

ج / 2 ص -63-         والسر في ذلك يتبين بفرض تعارض معنيين لو قدر انفراد كل واحد منهما "بالإضافة" مستقلا لاقتضى حكما لاستجماعه عند استقلاله شرائط الصحة فإذا عارضه معنى مقتضاه نقيض مقتضاه كمعنيين يتعارضان في التحليل والتحريم فسيأتي سبيل النظر فيهما.
ويئول الكلام إلى حالتين إحداهما أن يرجح أحد المعيين على الثاني بوجه من وجوه الترجيح على ما سنشرح الترجيحات في كتابها.
857- وتقاسيمها يضبطها في غرضنا شيئان:
أحدهما: أن يكون أصل المعنى في وصفه أوضح وأبين والآخر أبعد فهذا ترجيح من نفس المعنى.
والثاني: أن يعضد أحد المعنيين بما يؤيده ويعضده على ما سيأتي.
فإن اختص أحد المعنيين بالظهور في أسلوب النظر واحتاج مبدي المعنى الآخر إلى تكلف في إبدائه فيقال فيهما إن أحدهما أجلى من الثاني.
وهذا ممثل بالعقليات المفضيات إلى القطع [فالذي] يقرب من العلم البديهي إذا قيس بما يبعد عنه بعض البعد [كان أجلى] فهذان يضربان مثلين للجلي من المظنونان والخفي منها.
فما قرب من الأصول القطعية فهو الجلي بالإضافة إلى ما بعد من العلم فلتكن العلوم السمعية مستند الخفاء والجلاء والإنسان يعلم ثم يتجاوز محل العلم قليلا فيظن ظنا غالبا ثم يزداد بعدا فيزداد الظن ضعفا.
فهذا وجه التفاوت في الظنون.
وهو فيه إذا كان ظهور الترجيح من ظهور المعنى في نفسه ولو كان الترجيح في الاعتضاد فالمعنيان في أنفسهما متقاربان فأسباب العضد في أحدهما إذا رجحته على معارضه أثبت له رتبة الجلاء بالإضافة إليه ورجع حاصل القول إلى أن الجلاء والخفاء راجعان إلى الترجيحات والترجيحات يحصرها القرب من المعلوم والاعتضاد بالمؤيدات ثم لا يتأتى في ذلك ترتيب وحصر حتى يحصره بعد أو حد وإن كانت في الحقيقة مضبوطة معدودة فهذا قولنا في مراتب المظنونات المعنوية.
858- ثم جمله أقيسة المعاني مقدمة على أعلى رتبة تفرض [في] الشبه والسبب فيه أن المقيس على أصل بمعنى مشابه له فيه وزائد عليه بالإخالة على الشبه على وجه.

 

ج / 2 ص -64-         لو صح الاستدلال لا ستقل دليلا دون أصله ثم بعد آخر مرتبة من مراتب المعاني لاستفتاح الأشباه وهي على مراتب ودرجات كما ذكرناه في ترتيب المعنويات.
859- وقد اتخذنا المعاني المعلومة أصولا ورتبنا عليه المعاني المخيلة قربا وبعدا فنتخذ ها هنا كون الشيء في معنى أصله أصلا ونفرض النزول عنه إلى الأشباه فما قرب منه فهو مقدم على ما بعد عنه ثم كما يعتمد قياس المعنى الجلاء والخفاء في الإخالة فالشبه يعتمد أمرين:
أحدهما: وقوعه خصيصا بالحكم المطلوب وهو نظير الجلي الظاهر من نفس المعنى.
والآخر: اعتضاده بكثرة الأشباه وهذا يناظر اعتضاد أحد المعنيين بما يؤازره ويظافره.
وبيان ذلك بالمثال: أن كون الوضوء حكما غير متعلق بغرض يختص باشتراط قصد يصرفه إلى جهة امتثال الأمر إذ لا غرض ومهما لاح اختصاص الشبه فيكاد أن يكون مناسبا و الجافي قسم المعنى ولكن الشبه لو التزمه [معنى] فقد يعسر عليه كرده على شرائط المعاني فيصير الإيماء إلى المعنى مقدما للشبه ومقربا وإن كان مسلك المعنى لا يستقل فيه.
وأما كثرة الأشباه فلا حاجة إلى ضرب مثال فيها وستأتي أبواب الترجيح حاوية لها منطوية عليها إن شاء الله تعالى.
860- وقدم الأصوليون أشباه الأحكام على الأشباه الحسية وليس الأمر على هذا الإطلاق فأن الأمر يختلف بالمطلوب فإن كان المطلوب أمرا محسوسا فالشبه الحسي أخص به وأمس له كطلب المثل في الجزاء وإن كان المطلوب حكما فالشبه الحكمي حينئذ أقرب.
861- وأقصى الإمكان في هذا المجال الضيق [التنبيه] ودرك الحقائق موكول إلى جودة القرائح فإذا قارنها التوفيق بان المعنى والشبه فقياس الدلالة مقدم على الشبه المحض من جهة إشعاره بالمعنى.
وما يثبت الطرد والعكس مقدم على الشبه الذي لا يتصف بذلك فإن الطرد والعكس يجريان في مجال الظنون والحسيات مجرى ظهور لفظ الشارع والشبه يبعد من.

 

ج / 2 ص -65-         هذا فليتخذ الناظر هذه المراسم قدوته وإمامه.
ولو قيس المخيل السديد بالمطرد المنعكس فهو مقدم على المطرد المنعكس لتحققنا كون مثله معتمد الصحابة رضي الله عنهم ولتكلفنا إلحاق المطرد المنعكس به ومنه ثار الخلاف المتقدم في [أن] الطرد والعكس مما يسوغ الاحتجاج بهما أم لا؟
862- وليعلم المنتهى إلى هذا الموضع أن المعنى قد يتناهى في الخفاء ويظهر للمجتهد جريان الطرد والعكس وإن عن للمجتهد في مثل هذا المجال تقديم العكس فلا بأس فإن المعنى إذا تناهى خفاؤه فإنه يكاد يخرج عن حكمنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكمون به والظاهر في الانعكاس ملتحق بظواهر ألفاظ الشارع.
863- ثم لا ينبغي أن يظن ظان أن القول في هذا ينتهي إلى القطع بل هو موكول إلى نظر النظار واجتهاد أصحاب الاعتبار وكيف لا يكون كذلك والتقديم والتأخير مستنده الترجيح ومنشأ الترجيح الظن.
وعلى هذا قد يعرض تقديم الشبه الجلي على المعنى الخفي والعلة فيه أنه إذا انتهى الخفي إلى مبلغ يحول الكلام في إخراجه [على جنس الإخالة والشبه الذي فيه الكلام لا ينقدح في إخراجه] عن قبيل الشبه قول فإذ ذاك ينظر الناظر [ويردد] رأيه في تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر.
مسألة:
864- قال القاضي ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير وإنما الظنون على حسب الاتفاقات.
وهذا بناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو تشوف الطالبين [ومطمع] نظر المجتهدين قال بانيا على هذا إذا لم يكن مطلوب فلا طريق إلى التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق.
وهذه هفوة عظيمة هائلة لو صدرت من غيره [لفوقت] سهام التقريع نحو قائله وحاصله يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدر ومحقق فليت شعري من أين يظن المجتهد؟ فإن الظنون لها أسباب.
فمن أقدم إقدام من لا يعتقد تشوفا ولا تطلبا كيف يظن ثم فيما ذكره خروج.

 

ج / 2 ص -66-         عظيم عن ربقة الوفاق فإنا على اضطرار نعلم من عقولنا أن الأولين كانوا يقدمون مسلكا على مسلك ويرجحون طريقا على طريق وكيف يسنح للمجتهد مسالك فيرى بعضها أقرب من بعض ولو تمكنت بمبلغ جهدي من إخفاء هذا المذهب والسعي في انمحاقه لبذلن فيه كنه جهدي فإنه وصمة في طريق هذا الحبر وهو على الجملة هفوة عظيمة وميل عن الحق واضح.

فصل: فيما يعلل وفيما لا يعلل.
[اختلف أهل الأصول فيما يعلل وفيما لا يعلل].
865- من أحاط بما قدمناه من الطرق التي تتضمن إثبات العلل هان عليه مدرك هذا الفصل واطرد له النفى والإثبات على أقرب وجه وتمام الغرض يحصل بهذا النوع من النظر مع الالتفات إلى تقاسيم الأقيسة.
والذي تمس الحاجة إليه الآن النظر في قياس المعنى وقياس الشبه فمهما أراد الناظر وقد ثبت حكم في الشرع أن يتبين أنه معلل بمعنى بحث على المعاني المناسبة فإن وجد في محل الحكم معنى مناسبا للحكم فطرده ولم يبطل ولم يتناقض أصلا عرف كون الحكم معللا.
ومن لطيف الكلام في ذلك أن يتوصل إلى الكلى والجزئي بهذا النوع من النظر ليتبين بما ذكرناه كون الحكم معللا ويتحقق عنده مع ذلك تعيين العلة وإن اعتضد ذلك بإيماء الشارع كان ذلك بالغا أقصى المراد فيه.
866- فإن نظر الناظر ولم يلح له معنى مناسب للحكم مخيل به فيعلم أن الحكم ليس معللا بمعنى ويرتد نظره إلى قياس الشبه وهذا أوسع الأبواب فإنه يجري عند إمكان المعنى وسيثمر أيضا عند عدم المعنى ولا ينحسم قياس الشبه إلا عند إشارات النصوص إلى قطع الأشباه.
وبيان ذلك بالمثال أن قياس الشبه على منهاج ما يسمى في معنى الأصل غير أنه معلوم والشبه يبعد عنه بعض البعد وإن كان على شبه وقد ضرب بعض المحققين لهما مثلين فقال.
الملتحق بالمنصوص لكونه في معناه يضاهي ارتباط العلم بقرائن الأحوال.
 وإذا ظهرت مخايل خجل أو وجل وأحاط بهما الناظر تبين من المنظور إليه أمرا وإن كانت تلك الأحوال لا تتحرر عبارة عن اقتضائها العلوم فهذا مثال ما يعلم.

 

ج / 2 ص -67-         ومثال الشبه المظنون الذي لا يبلغ مبلغ العلم أحوال تدانى ما ذكرناه. ويتطرق إليه الاحتمال: كمثل الذي يرى رجلا قد احمر وجهه وقد أسمعه مسمع شيئا فقد يغلب على الظن غضبه وقد يجوز الناظر أنه فزع بما سمع وإن رأى في نفسه تغيظا وتكرها فهذا مثال الأشباه.
867- وقد ينحسم الشبه وما يقال إنه في معنى الأصل بقضية لفظية أو أمر متعلق بحكاية حال.
وبيان ذلك بالمثال أن سهل1 بن [أبي حثمة] روى القصة المشهورة في حديث حويصة2 ومحيصة3 وعبد الله بن سهل4 وأن عبد الله قتل بخيبر "القصة"5 وقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين ابتداء على المدعين ثم اتخذ الشافعي6 رضي الله عنه هذا الحديث معتمده ورأى البداية بالمدعين في الدماء عند ظهور اللوث ولم يجر في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في ألفاظ الذين رفعوا القصة إلى مجلسة تعرض [للوث] ولا مطمع في استناد اشتراط البداية بالمدعين باللوث إلى معنى صحيح على السبر مستجمع للشرائط المرعية ولكن الشافعي نظر إلى القصة فراها في اللوث وأن الإحن والذحول كانت عتيدة بين اليهود والمسلمين فلم ير البداية بالمدعى منقاسة في الخصومات وعلم أن هذا المقدار من التلويح في الإشعار بظهور صدق المدعين كاف في منع إلحاق القتل [العرى عن اللوث بالواقع منه] على مظنة اللوث.
ومبنى المسألة على الشبه فقطع بتخييل اللوث إلحاق غيره وأوضح بانحسام مسالك الأشباه في محاولة إلحاق غير اللوث باللوث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سهل بن أبي حثمة وقيل سهل بن عبد الله بن أبي حثمة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن زيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وشهد المشاهد كلها إلا بدرا وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد له ترجمة في تهذيب التهذيب 4/218/436ز
2 حويصة بن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي الأنصاري شهد أحدا والخندق وسائر المشاهد له ترجمة في الإصابة 1/363/1881.
3 محيصة هو ابن مسعود أخو حويصة المذكور له ترجمة في الإصابة 3/388/7825.
4 عبد الله بن سهل له ترجمة في الإصابة 2/322/4733.
5 البخاري 9/94 ومسلم في "القسامة" 1, 6 وأبو داود 4520 والترمذي 1422 والنسائي 8/10, 11 والموطأ 278 وأحمد 4/3.
6 سبقت ترجمته.

 

ج / 2 ص -68-         فمهما ثبت حكم بنص ولم يكن فيه معنى مناسب وظهر للناظر اختصاصه بحالة تمنع تخيل الإلحاق بالمنصوص علما أو تشبيها ظنيا فلا يتحقق الإلحاق في الشبه ويتعين الاقتصار على مورد النص فليتأمل الناظر ذلك فيما يأتي ويذر.
868- وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن الذي لا يعلل أصلا هو الذي لا ينقدح فيه معنى مناسب ولا شبه وقد ذكرنا ما يقطع الشبه والمعلل هو الذي ينقدح فيه معنى مخيل أو شبه على شرط السلامة.
مسألة:
869- نقل [أصحاب] المقالات عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يرون إجراء القياس في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص وكل معدول به عن القياس وتتبع الشافعي مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء من ذلك فنسرد كلام الشافعي على وجهه ثم نعود إلى مراسم الحجاج والخلاف واختيار الحق.
870- قال الشافعي: أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى عديتموها إلى الاستحسان وقد زعمتم في مسألة شهود [الزنا] أن المشهود عليه مرجوم وما يجري الاستحسان فيه فهذا أعوص على مذاهب القائلين به من الأقيسة فلا يمتنع جريان القياس فيه.
871- وأما الكفارات فقد قاسوا فيها الافطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}.
وأما المقدرات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا فيه تقديراتهم بالدلو والبئر من غير ثبت ولا استناد إلى خبر أو أثر.
872- وأما الرخصة فقد قاسوا فيها وتناهوا في العبد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار ومن أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة كانت أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النحو وانتهوا في ذلك إلى نفى استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا هذا التخفيف منه في نجاسة ما يعم به البلوى عملا وعلما وكانوا على تحرزهم في سائر النجاسات على الثياب والأبدان ثم قال الشافعي: من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع الشارع فيها فإنها مبنية تخفيفا وإعانة على ما يعانيه المرء في سفره.

 

ج / 2 ص -69-         من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية مع القطع بأن الشرع لا يرد بإعانة العاصي على المعصية فهذا الذي ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المقيس عليه قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لموضع النص في الرخص بالكلية.
873- وأما المعدول عن القياس فقد ضرب الشافعي في الاستجمار فيه مثلا وهو بين من جهة أن النجاسة إنما يعفى عنها عند فرض تعذر الاحتراز وليس الأمر كذلك في غير نجاسة البلوى فإن استعمال الماء يسير لا عسر فيه.
وقال: زعمتم أن القهقهة تبطل الصلاة واعتقد تم ذلك معدولا عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاة ذات ركوع وسجود ولا تبطل صلاة الجنازة ولم ينقدح لكم فرق معنوي ولكنكم اعتقدتم قضية جرت لو صحت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على مورد النص ثم قلتم القهقهة تبطل صلاة النفل وإن لم تكن القضية في النفل فليت شعري ما الذي عن لكم في التخصيص من وجه والإلحاق من وجه.
874- وقال في مساق هذا الكلام: اعتمدتم في الوضوء بنبيذ التمر الخبر وقد جرى في الوضوء واعتبرتم الغسل به ولم تعتبروا نبيذ الزبيب بنبيذ التمر مع اشتمال كلام الرسول عليه السلام لو صح الحديث على التنبيه لذلك فإنه قال عليه السلام:
"ثمرة طيبة وماء طهور"، فهذه جمل جمعها الشافعي في مساق هذه المسألة عليهم وبالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير وإن أقام واحد منهم لقب مسألة فسننقضها في تفصيل الفروع فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول وإنما أرسلها على ما تأتي له فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع.
875- ونحن نرد الكلام إلى الحجاج فنقول لهم لم منعتم إجراء القياس في هذه الأصول؟ فإن قالوا: الحدود تدرأ بالشبهات والأقيسة مظنونة فلا ينبغي أن نهجم على إثباتها بمظنون والظان معترف ببقاء إمكان وراء ظنه فيحصل بذلك الإمكان الدرء.
876- وهذا الذي ذكروه يعارضه القصاص لأنهم لم يمتنعوا من إجراء القياس فيه وإن كان يندرئ بالشبهات ويبطل ما ذكروه بالعمل بخبر الواحد في الحدود فإنه ليس مقطوعا به ولا خلاف في قبوله والذي ذكروه إنما كان يستمر أن لو كانوا لا يثبتون الحد في مظنون وهذا باطل قطعا.

 

ج / 2 ص -70-         ثم الجواب فيه أن وجوب العمل بالقياس ليس مظنونا وقد تمهد ذلك في مواضع من الكتاب فسقط ما ذكروه ثم إن كانت الحدود تسقط بالشبهات والكفارات تجب معها فلم يمتنع إجراء القياس فيها وهي بمثابة سائر المغارم.
877- وأما المقدرات فقد قالوا فيها لا تتعدى العقول إلى معان تقتضيها فلا يجري القياس فيها.
قلنا: إن كان ينحسم فيها المعاني المخيلة المناسبة فلم ينسد مسلك الأشباه.
878- وأما الرخص فقد قالوا فيها: إنها منح من الله تعالى وعطايا فلا نتعدى بها مواضعها فإن [في] قياس غير المنصوص على المنصوص [في] الأحكام الاحتكام على المعطى في غير محل إرادته وهذا هذيان فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع فهي منح من الله تعالى ولا يختص بها الرخص.
فإن قيل: فما الذي ترون؟
قلنا: قد وضح بما قدمناه ما يعلل وما لا يعلل ونحن نتخذ تلك الأصول معتبرنا في النفي والإثبات فإن جرت مسالك التعليل في النفي والإثبات أجريناها وإن انسدت حكمنا بنفي التعليل ولا يختص ذلك بهذه الأبواب.
879- ومما نختتم القول به: أن التعليل قد يمتنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص أمكن التعليل وهو كقوله تعالى:
{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}1 وقال عليه السلام: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والأرض"2 وقال لأبي بردة3 بن نيار وقد جاء بعناق وكان لا يملك غيرها فأراد التضحية بها رغبة في مساهمة المسلمين "تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك"4.
فمهما منعنا نص من القياس امتنعنا وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية 50 سورة الأحزاب.
2 أحمد 1/253, والطبراني 11/344.
3 سبقت ترجمته.
4 سبق تخريجه.

 

ج / 2 ص -71-         فإذا لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس إمكانه عند الشرائط المضبوطة فيه والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأتيه على ما يشترط فيه.
880- فهذه جملة كافية فيما يعلل وما لا يعلل ونحن نختتمها بكلام نفيس قائلين: رب شيء يمنع فيه جريان القياس وامتناعه في أمرين وأمور ولن يصفو هذا الفصل على ما نحب ونؤثر إلا باستقصاء القول في ذلك.
ومثاله: أن الكتابة فيها أمور لا تنقاس وأمور يتطرق إليها القياس وكذلك القول في النكاح والإجارة والمعاملة المسماة قراضا مع النظر في المساقاة.
وحق الناظر أن يتدبر هذه المواقف ويتبين المواقع التي يجري فيها القياس والمواقف التي يقف عندها ولا يطرد فيها القياس نظرا إلى محل الوقف وكذلك لا يطلق إثباتا نظرا إلى المحل المنقاس وكل كلام مفصل في موضع فإطلاق النفي والإثبات فيه خلف إن كان نصا أو ظاهرا مؤولا.
فالكتابة مع اعتقاد ثبوتها عقد من العقود مستند إلى الإيجاب والقبول والتراضي منطو على عوض من شرطه أن يكون معلوم الوصف والمقدار فهذه الأصول جارية على قياس سائر المعارضات فمن قاس عليها في هذه الأحكام معاوضة أو قاسها على معاوضة فهو قايس في محل القياس.
والذي لا ينقاس من الكتابة أصلها فإنها على الحقيقة معاملة الملك بالملك فمن سوغ معاملة متضمنها ذلك ورام قياسا على الكتابة كان قايسا في محل لا يجري القياس فيه.
881- ثم القول في ذلك ينقسم إلى ما ينقدح فيه مصلحة كلية تصلح لتمهيد الأصول والقواعد وإلى مالا يتجه فيه ذلك على ظهور.
فأما ما يظهر فيه أمر كلي فهو كخواص النكاح فإنها مربوطة بأمر ظاهر في استصلاح العباد فتلك الأمور لا يلفى لها نظير في غير النكاح فإنا إنما نتكلم في خواص النكاح ولو قدرنا وجدان نظير [لها] لما كان ما فيه الكلام خاصا ولما تحقق تميز الأصول بخواصها وتحيزها بمقاصدها ولصارت القواعد كلها في التكليف تحت ربقة واحدة ضابطة في طريق الاستثناء وهذا محال.
فمن اعترف بأصل وأراد أن يعتبر خاصيته بأمر آخر فهو خارج عن الاعتبار.

 

ج / 2 ص -72-         المرضي، والقياس الكلي والجزئي ومن أراد إثبات أصل منازع ذي خاصية فإنه لا يلقى لما بينته نظيرا إن حاوله فإن حاول إثبات ذلك ولم يكن في ثبوته بد من أحد أمرين فإما أن يسنده إلى ثبت من قول الشارع وإما أن يتمسك بالاستدلال إن صح القول به ولو ثبت أصل ذو خاصية فأراد الناظر أن يثبت أصلا مشتملا على قريب من تلك الخاصية فهذا متقبل عند الشافعي في طريق القياس.
882- وبيان ذلك بالمثال: أن القراض مقتطع عن سائر المعاملات بخاصية فيه مقصودة وهو أنه لا يتأتي استنماء المال وتثميره من كل واحد منهما وإنما يعرفه من يعرف التجارات ووجهها ولو أثبت للمنصوب للتجارة أجرا معلوما وهو مستحق ربح أو خسر فقد لا يجد جده إذا كان لا يرقب لنفسه حظا من الربح فيثبت القراض مشتملا على الربح على حسب التشارط والتراضي.
فرأى الشافعي المساقاة في معنى القراض [في خاصية القراض] فاعتبرها به واحترز عن الإجارات في المزارع وغيرها ثم اعتبر ذلك بعد الاستظهار بالحديث الذي رآه نصا في المساقاة.
883- ثم أجرى في المسألة كلاما بدعا فقال: لم يعهد القراض في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول ما جرى هذا الضرب من المعاملة في زمن عمر رضي الله عنه في قضية مشهورة لابنيه رضي الله عنهما فقال الشافعي: لا ينقدح الإجماع من غير ثبت ولو كان في القراض خبر لذكر وعنى بنقله فلا معنى لجواز اعتقاده حقا بسبب أصل واحد من الأصول ولا سيما إذا كانت المعاملة عامة والحاجة فيها مطردة والناس كانوا يعتنون بنقل الأصول العامة على قضية واحدة ثم بعد مساق كلامه قال: لا أدري للقراض أصلا إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساقاة.
884- فإن قيل: هذا منه قلب لمجاري القياس فإن المختلف فيه يعتبر بالمتفق عليه والذي ذكره اعتبار المتفق عليه بالمختلف فيه.
قلنا: الشافعي يرسل تصرفه على قواعد الشريعة غير معرج على موضع الوفاق والخلاف ثم ما ذكره ليس بقياس وإنما هو يتعلق على حصول الغرض بمسلك أصولي لا يهتدي إليه غيره فإنه أثبت أن الإجماع لا يعقد هزلا ثم مزجه بمآخذ العادات وهي من أعظم القواعد في أصول الشريعة وما يتعلق بالنقل وعدم النقل.
885- ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له قبل الكلام في تحرير المسائل وضرب الأمثال:

 

ج / 2 ص -73-         أن خواص الأصول لو اعتبر بعضها ببعض لكانت كل خاصية بدعا بالإضافة إلى الأخرى ولكن لو استد نظر الموفق ورأى كل شيء على ما هو عليه تبين له أن النظر السديد يقتضي تقرير كل خاصية وعدم اعتبارها بغيرها.
وبيان ذلك: أن الإجارة موضوعها يقتضي أعلام المنافع بالمدة أو بالعمل الموصوف فإنها من عقود المعاوضات والمكايسات ولو أثبت المنافع فيها مجهولة لكان إثباتها كذلك خارجا عن مقصود العقد والنكاح أثبت مؤبدا والتأبيد يجر جهالة ولكن هذه الجهالة منطبقة على مقصود النكاح إذ الغرض منه الوصلة والاستمتاع على الائتلاف وهذا ينتقض بالتأقيت وليست منافع البضع متمولة له حتى يدعى لمكان أعواضها تقديرها وليست المناكحات من عقود المغابنات فإذا خاصية كل عقد وإن خالفت خاصية آخر فمعناها في موضوعها كمعنى الأعلام في موضع الأحكام فليس الإعلام موضوعا لعينه وإنما عين لعوض يقتضيه.
فكل كلام يجريه القايس ويسوقه يخالف موضوع المعاملة وإن كان يجد لما [ذكره] شواهد [وأمثلة] في غير الموضع الذي ينظر فيه فذلك الكلام حائد.
886- وإذا تعارض معنيان: وترجح أحدهما بالأمثال واعتضد الآخر بما يشعر به خاصية الأصل فهو أرجح عند الشافعي على ما سيأتي مشروحا [في كتاب] الترجيح إن شاء الله تعالى وهذا كله فيه إذا كان الأصل لا ينقدح فيه توجيه معناه كليا.
وقد ثبت أصل لا يتجه فيه استصلاح عام ظاهر كالكتابة فإنها مائلة جدا عن الأصول وأقصى ما يذكر فيها استحثاث السادة على الإعتاق والعبيد على الكسب في تلك الجهة وهذا في حكم أمر خفى يرد على أمر جلي على حكم المناقشة فإن المالكية لها قضية جلية في منع معاملة العبيد والأمر الخافي في توقع العتق ليس مضاهيا في مراتب المعاني لقضية المالكية فإن مقتضى الملك أجلى وليست الكتابة فيما ذكرناه كالنكاح المختص بخاصية عن البيع فإنهما أصلان كل واحد منهما منقطع عن الثاني وليس واحد منهما واردا على الثاني على حكم المعارضة والمناقضة ورود الكتابة على المالكية فما كان كذلك فهو المنتزع عن القياس من حيث أنا تخلينا لأحكام الملك جريانا ثم الكتابة صرفتها عن جريانها بخلاف الأصول الواقعة أفرادا.
فالآن لو أراد مريد أن يلحق معاملة بالكتابة إلحاق الشافعي المساقاة بالقراض

 

ج / 2 ص -75-         891- منها: أن قائلا لو قال: إن استقام ما ذكرتموه في الوضوء فما وجهه في التيمم وهو تغبير الوجه؟ وذلك يناقض ما استروحتم إليه.
فيقال [له]: إن خرج التيمم عن كونه معقول المعنى لم يلزم من خروجه خروج الوضوء ومن يبدي في الوضوء معنى لا يلزم طرده في التيمم فهذا وجه.
والوجه الآخر: أن التيمم أقيم بدلا غير مقصود في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين أن الغرض من التيمم إدامة الدربة في إقامة وظيفة الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعواز الماء فيها ليس نادرا فلو أقام الرجل الصلاة غير طهارة ولا بدل عنها لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة والنفس ما عودتها تتعود وقد يفضى ذلك إلى ركون النفس إلى هواها وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها فهذا سؤال والجواب عنه.
892- فإن قال قائل: لو توضأ المرء وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فتعفر به أو تطلى بالطين وصلى صحت صلاته فلو كان الوضوء متعينا للتنقي لوجب أن ينتقض بما وصفناه لأنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فبتحققه أولى وهذا واقع على هذه الطائفة وقد تكلفوا جوابا عنه.
فقالوا: الأصول إذا تمهدت على قواعدها واسترسلت على حكم العرف المطرد فيها فلا التفات إلى ما يشذ ويندر وضربوا لذلك أمثلة مبنية على مغمضات من قضايا الأصول.
منها: إن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد والحرة محتاجة إلى التحصين بالمستمتع الحلال كالرجل ثم حق عليها أن تجيب زوجها مهما رام منها استمتاعا ولا يجب على الرجل إجابتها وغرض الشارع في تحصينها على قضية واحدة ولكن لما خص الرجل بالتزام المؤن والمهر والقيام عليها اختص بالاستحقاق ومنه الاستيلاء والملك فاكتفى الشارع في جانبها باقتضاء جبلة الرجل والإقدام على الاستمتاع والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة والمعظمين لها ومن انحصر مطلبه في الحلال واستمكن منه واستحثته الطبيعة عليه وتغلب عليه المغارم فإنه سيعتاض عنها قضاء أربه ومستمتعه وكذلك يقل في الناس من يطلى ويتضمخ بالقاذورات فكان ذلك موكولا إلى ما عليه الجبلات.

 

ج / 2 ص -76-         وإنما الذي قد يتسامح فيه أهل المروءات إقامة الطهارات من غير مصادفة الغبرات تخفيفا فخصص الشارع الأمر بالتنقي بالأحوال التي لا يظهر استحثاث الطبع فيها.
893- ومن الأصول الشاهدة في ذلك: أن البيع إنما جوزه الشرع لمسيس الحاجة إلى التبادل في الأعواض ثم لم ينظر الشارع إلى التفاصيل بعد تمهيد الأصول فلو باع الرجل ما يحتاج إليه واستبدل عنه مالا يحتاج إليه فالبيع مجرى على صحته فإن هذا لا يعم وقوعه وما في النفوس من الدوافع والصوارف [في ذلك] وازع كامل وتكثر نظائر ذلك في قواعد الشرع.
894- فإن قال قائل: ما بال الوضوء يختص وجوبه بوقوع الحدث وأجمع علماء الشرع على أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة أعضاء الوضوء والذي ثبت موجبا وفاقا غير ملطخ ولم يحوج إلى غسل الأعضاء والذي يلطخ الأعضاء لا يوجب الوضوء.
فقالوا مجيبين: غاية هذا السؤال خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون أصله معقولا.
وأما ما أدرجوه في أثناء الكلام من أن تلطيخ الأعضاء لا يوجب تنقيتها وغسلها فهذا هو السؤال الذي انتجز الجواب عنه الآن.
895- وقد تكلف بعض النظار في ذلك كلاما وقال لا تدخل الأحداث تحت الحجر واعتمادها من غير أرب يناقض دأب أهل المروءة فجمع الشارع بين الأمر بالوضوء للغرض الكلي في التنقي وبين تأقيته بالأحداث حتى ينتهض مطهرا طاهرا و مردعة عن الأحداث من غير إرهاق مسيس حاجة ثم هذا النظر يتضمن منعا من غير تحريم وإذا استمر المكلف على هذه المراسم انتظم له منها محاسن الشيم في كل معنى فهذا الباب ما جاء به الفريقان اعتراضا وجوابا في هذا الطرف.
896- فأما ما ذكره أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في أن إزالة النجاسة معقولة المعنى فيتوجه عليهم في هذا الشق سؤال لا ينقدح لهم عنه جواب فإنه يقال لهم إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة فما علة وجوبها للصلاة وهلا صحت الصلاة معها؟ فإن تكلفوا في تعليل وجوب الإزالة كلاما فغايتهم أن المصلى مأمور أن يأخذ للصلاة أنقى زي وأحسن هيئة والأمر بالتطهر مندرج تحت هذه الجملة.

 

ج / 2 ص -77-         فهذا غير مستقيم دليلا وهذا على الحقيقة أعادة للمذهب والسؤال قائم فلم يجب التنقى؟ وهلا احتمل ذلك كما احتمل في غير الصلاة وهذا ينعكس بستر العورة ثم ما بالها لم تؤثر في سائر العبادات فلا يكادون يرجعون إلى حاصل وهو أجلى مما ادعاه الذين عللوا وجوب الوضوء بما ذكرناه فإذا لم ينتظم في وجوب رفع العين معنى ولم يظهر في وجوب إمساس أعضاء الوضوء [بمائع] معنى فهلا قام في الوضوء كل مائع مقام الماء كما قام مقامه في الإزالة.
فإن قالوا: الإزالة متحققة حسا بالخل.
قلنا: فاستيعاب الوجه وغيره من أعضاء الوضوء على حكم الوضاءة حاصل بماء الورد حسا وهذا سيئول إلى تدقيق وهو أنه إن فرض الماء أرق المائعات وأدفعها فقد يعتقد مع ذلك أنه لا يقوم غيره مقامه في حقيقة الرفع فأما حيث لا مرفوع وإنما الغرض إمساس أعضاء وهذا المعنى يحصل بكل مائع إلى غير ذلك من فصول تطول ولم نذكر هذه الطريقة لنعتقدها ولكنا أصيبنا أن نصير هذه المسألة ومسائل يعدها أمثالا لفائدة سنربطها إن شاء الله تعالى [بغرضنا في التحقيق] فلينظر الناظر في هذه المسألة واللواتي بعدها نظر من يعدها أمثالا ويستعدها لما يستعقب المسائل به إن شاء الله تعالى.
مسألة:
897- قال الخائضون في هذا الفن: رب أصل يتطرق إليه التعليل من وجه ويتقاعد عنه التعليل من وجه وضربوا لذلك أمثلة ونحن نذكر منها مثالا أو مثالين ثم يقيس الناظر بما نذكره ما لم نذكره.
فمن أمثلة ذلك اختصاص القطع بالنفيس وهذا على الجملة معلل بأمر ظاهر وهو أن أربا العقول لا يهجمون على التغرير بالأرواح والمخاطرة بالمهج بسبب التافه الوتح وإن غرر مغرر فإنه يربط قصده بمال نفيس.
قالوا: هذا معلوم على الجملة ويشهد له القواعد الزجرية التي تستحث الطبائع على الهجوم على الفواحش فيها فانتصبت الحدود مزحزحة عنها والمحرمات التي لا صغو ولا ميل للطبائع إليها لم يرد الشرع في المنع عنها بحدود بل وقع الاكتفاء بما في جبلات النفوس من الارعواء عنها مع الوعيد بالعذاب الشديد والتعرض للأئمة والخروج عن سمة العدالة في الحالة الراهنة ثم قال هؤلاء: القياس وإن اقتضى.

 

ج / 2 ص -78-         الفصل على الجملة بين التافه والنفيس فليس فيه التنصيص على النفيس ومبلغه فكان ذلك موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه.
898- ومن أمثلة ذلك النصب في أموال الزكاة والأقيسة قد ترشد إلى اختصاص وجوب الإرفاق بالأموال المحتملة له المتهيئة لارتفاق مالكها فيكون الإرفاق في مقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر المرفق لا ينص عليه الرأي فاتبع القايسون فيه مراسم الشريعة وإن عللوا الأصل تعليلا كليا.
899- ثم لما ذكر القاضي ما ذكرناه من مسالك الفقهاء انعطف عليه فقال كيف يطمع الطامع في الميز بين الخسيس والنفيس وذلك يختلف بهمم النفوس والخسة والنفاسة لا يتصف بها مبلغ بعينه بل هما من أحكام النسب والإضافات فقد يستعظم الفقير الفلس ولا تكثر القناطير في حق الملك وهذا ينسحب على النصب فإن القانع بالبلاغ قد يجتزئ بالارتفاق عما ينقص عن النصاب وذو البسطة [والعيلة] والذرية الضعاف لا ترفغه العشرون والمائتان من التبرين.
فإن قال قائل: بنى الشارع الأمر على الوسط وهو شوف الاعتدال في كل شيء فإن طرفي الاعتدال لا ينضبطان بل هما مردودان إلى حكم الوسط فيقال له أوسط الناس لا يكثر في أعينهم الربع ولا الدينار في مقابلة ما يلقون من الأغرار وإن وقع [الفرض] في ذوي الغرامة الذين انتهى بهم الاستجراء إلى اقتحام العظائم فهؤلاء قد يصادمون الأغرار مستقبلين من غير مآرب ظاهرة ولا يكاد ينضبط في ذلك معنى.
900- ثم وجه القاضي [على نفسه] السؤال المعروف في الخمر فإنها لا تغنى عن مرارتها لعينها وإنما تعني لما لا يحصل إلا عند الاستكثار منها وهي النشوة والطرب والسكر ثم يتعلق بتعاطي القليل منها من الحد ما يتعلق بتعاطي الكثير وقد تكلف الفقهاء وجوها من الكلام لا نراها ونقتصر على أقربها متناولا وذلك أنهم قالوا قليل الخمر داع إلى الكثير وليس في الإكثار منها عند الاستمكان من جنسها ركوب خطر واقتحام غرر فلو لم يوضع الحد في القليل لدعا إلى الكثير منه والغرر في المهج مع قلة المال كاف في الورع فهذا منتهى المطلوب في ذلك.
وإذا لاح مسلك الكلام في النفي والإثبات في هذه المسائل فنحن نذكر بعدها كلاما وجيزا يتخذه الناظر معتبره ويرقى به عن تعارض وجوه الكلام في فن يقصد منه بغية القطع فنقول.