البرهان في أصول الفقه ج / 2 ص -79-
الباب الثالث: في تقاسيم العلل والأصول.
901- هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة ونحن نقسمها خمسة
أقسام.
أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل ويئول
المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه مع تقرير غاية
الإيالة الكلية والسياسية العامية وهذا بمنزلة قضاء الشرع
بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء
المحقونة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط
ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا
المعنى [فيه] وهو الذي يسهل تعليل أصله ويلتحق به تصحيح
البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة
ظاهرة فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع
والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها
فلا نظر إلى [طلب] تحقيق معناها في آحاد النوع وهذا ضرب من
الضروب الخمسة.
902-
والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة
ولا ينتهي إلى حد الضرورة وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها
مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها
وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير
بالغة مبلغ [الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة
الجنس قد تبلغ مبلغ] ضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة
لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال آحاد الجنس ضرار
لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك
في الضرر الراجع إلى الجنس ما ينال الاحاد بالنسبة إلى
الجنس وهذا يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا
الآن.
903-
والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة [حاقة]
ولا [حاجة] عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في
نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث
وأزالة الخبث وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا: ما لاح
ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ربط الرابط أصلا
كليا به تلويحا كان ذلك في الدرجة الأخيرة والمرتبة
الثانية البعيدة في المقايس وجرى وضع التلويح فيه مع
الامتناع.
ج / 2 ص -80-
عن
التصريح وضع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي
الجبلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور
الممثلة.
904- والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل
المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث
في تحصيله خروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب
من الضرب الثالث.
وبيان ذلك بالمثال: أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق وهو
مندوب إليه والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن
أمورا خارجة عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده [و]
كمقابلته ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات السبب وجوبا
إلى إيجاب ما لا تصريح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل
آخر سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها بوضع
الشرع النكاح على تحصين الزوجين.
905- والضرب الخامس من الأصول: ما لا يلوح فيه للمستنبط
معنى أصلا ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على
مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى
جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات
البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية
ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على
حكم الانقياد [وتجديد العهد بذكر] الله تعالى ينهى عن
الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة ثم إذا انتهى الكلام
في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم
يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس
أصله فهذا بيان ضروب الأصول على الجملة.
906- ونحن الآن تعطف عليها ونذكر في كل أصل ما يليق بمذهب
القياسين إن شاء الله تعالى.
فأما الضرب الأول: فهو ما يستند إلى الضرورة فنظر القايس
فيه ينقسم إلى اعتبار أجزاء الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار
غير ذلك الأصل بذلك الأصل إذا اتسق له الجامع فأما اعتبار
الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في
الطبقة العليا من أقيسة المعاني.
ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا
إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية.
ج / 2 ص -81-
وبيان
ذلك بالمثال: إن القصاص معدود من حقوق الآدميين وقياسها
رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق بمقصود الباب
وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده
والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة فإن
استعانة الظلمة في القتل ليس عسيرا وفي درء القصاص عند فرض
الاجتماع خرم أصل الباب.
وحاصل القول في ذلك يئول إلى أن مقابلة الشيء بأكثر منه
ليس يخرم أمرا ضروريا فهذا معنى تسميتنا لهذا جزئيا وإلا
فالتماثل في الحقوق المغربة إلى الآدميين من الأمور الكلية
في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها كلية في هذا الضرب
مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة
إذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعضد فيما
أجريناه مثلا في القصاص بأمر آخر وهو أن مبنى القصاص على
مخالفة [الأعواض جمع] وأن أعواض المتلفات مبناها على جبران
الفائتان كالمثلى إذا تلف وضمن بالمثل وكالقيمة إذا جبرت
متقوما متلفا فالقصاص لا يجبر الفائت ولا يسد مسده والغالب
فيه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل وهذا ميل قليل
بالقياس إلى مأرب الناس في [الأعواض] فلما خرج أصله عن
مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس
التماثل لدى التقابل.
907- وإذا قسنا الأطراف عند فرض الاشتراك في قطعها بالنفوس
كان ذلك واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة في
الصون مع اجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص.
وهذا في نهاية الوضوح لا [يغض] شيء منه إلا فرض [صدور]
القطع من شخصين مع تمييز أحد الفعلين عن الثاني فإنه إذا
جرى ذلك لم يقطع يد واحد منهما فإن منع مانع ذلك وقال يقطع
من يد كل واحد من الجانبين مثل ما قطعه من يد المجني عليه
فهذا انفصال على وجه ولكن يبقى مع ذلك أن يد المجني عليه
مبانة باشتراكهما ولا يبان يد واحد من الجانبين والإبانة
معصومة بالقصاص وإذا كان القطع مما يقبل القسمة فقد يتناوش
المتناظران عند ذلك الكلام [و] يتجاذبان أطراف النظر فهذا
هو اعتبار الجزء بالجزء في الضرب الأعلى من القياس.
908- ولو أراد القايس أن يعتبر قاعدة أخرى بقاعدة والضرورة
الكلية تجمعهما.
ج / 2 ص -82-
فهذا
متقبل معمول به أيضا فإذا اعتبر القايس حدا واجبا بقصاص أو
قصاصا بحد فذلك حسن بالغ وكذلك إذا اعتبر معتبر عقدا تمس
الضرورة إليه بالبيع كان حسنا على شرط السلامة فخرج من
مجموع ذلك جريان القياس من الوجهين في هذا الضرب أحدهما
الجزء بالجزء والضرورة شاملة لهما والثاني اعتبار غير ذلك
الأصل بذلك الأصل والجامع الضرورية الكلية.
909- وأما الضرب الثاني: وهو ما يبنى على الحاجة كالإجارة
فلا خلاف في جريان قياس الجزء منه على الجزء فأما اعتبار
غير ذلك الأصل بذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه
معظم القياسين.
910- ونحن نرى أن ننبه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن
الإجارة [جازت] خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزيئة في
القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود [بالعوض] المعدوم
خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها ألا يتقابل
إلا موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد
ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في [حق]
آحاد الأشخاص والبيع يلتحق بقاعدة الضرورة من جهة مسيس
الحاجة إلى تبادل العروض والعروض لا تعني لأعيانها وإنما
تراد لمنافعها ومتعلق تصرفات الخلق في الأعيان محال
منافعهم منها وإذا أطلق الفقيه ملك العين أراد به
الاستمكان من التصرف الشرعي على حسب الإرادة ما بقيت العين
ثم المنافع إذا قدرت نوعا من العروض وظهر مسيس الحاجة
[إليها] في المساكن والمراكب [وغيرها] التحق هذا بالأصول
الكلية واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح
والحمل على الأرشد والأصلح ولا يظن تعلق هذا الفن بالحاجة
ولهذا يسمى [القياس] الجزئي وليس المراد بكونه جزئيا
جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته
الضرورة.
ثم الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزء
عند النظر في حكم الضوابط الكلية فإذا القياس على الإجارة
إذا استجمع الشرائط لا يدرؤه إلا الاستصلاح الجزئي في
مقابلة الموجود بالموجود وهذا كقياسك النكاح مثلا في وجه
الحاجة إلية على الإجارة.
911- ومن قال: الإجارة [خارجة] عن القياس فليس على بصيرة
في قوله فإنها إن خرجت بخروجها عن الاستصلاح فهي جارية على
مقتضى الحاجة والحاجة هي.
ج / 2 ص -83-
الأصل
والاستصلاح بالإضافة إليها فرع.
912- وأنا أضرب لذلك مثلا تقديرا فأقول من سبق عقده قبل
ورود الشرائع إلى تقدير ورودها بالمصالح فإنه يسبق مع هذا
العقد إلى درء الحاجات والضرورات ويختبط في وجوه
الاستصلاحات فإنه يتعارض فيها الظنون بالإضافة إلى الحالات
والدرجات فيتوقف لا جرم فيها الضبط على ورود الشرائع ثم
إذا تمهد باب من الاستصلاح بالشرع جرى القياس فيه ومستنده
يكاد أن يكون غيبا لا يطلع العقل على حقيقته فيكله إلى
فاطر البرية سبحانه وتعالى.
ثم قد يظهر الاستصلاح وهو مع ذلك جزئي فإن متضمنة حجرة على
مطلق من غير حاجة ولا ضرورة في أمر تطرق المطلق فيه إلى
البدل الكلي من غير منع ولا حجر ولكن ضنة النفوس وازعة مع
وفور عقلها عن السرف والبذل العرى عن العوض وقد يحملها
السرف وفرط الشره على أغرار وأخطار في المعاملات مغباتها
وخيمة وغوائلها عظيمة والله تعالى عليم بها فسيصلح الله
عباده بما علمه من غيبهم ولو تطرق إلى العقل الوازع عن
البدل العرى عن العوض خلل طرد الشارع حجرا ولهذا يطرد
الحجر على الصبيان والسفهاء.
فإذا باب الاستصلاح غايته تقليد وتفويض الأمر إلى مالك
الأمر وهو باب محاسن الشريعة وقد يعيب [كلى] الاستصلاح
[وجزؤه] عن الناظر ومن هذا القبيل عندي تحريم ربا الفضل
والحجر المتمهد في ربا [النسيئة].
913- ومن دقيق ما يجري في هذا الفن وهو العلق النفيس في
هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل [بأبواب]
الرخص من جهة أن [قياس] التقابل في المعاوضات أن يخرج
العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه وإذا
حل أحد العوضين وتأجل الثاني كان ذلك خارجا عن هذا القانون
وكذلك الخيار الطارئ على العقد المبني على اللزوم في حكم
الرخص والتأجيل أثبت فسحة [لمن لا يملك الثمن] [في الحال
ورجاء أن يتمحله] إلى منقرض الآجال والخيار أثبت لتروي من
لا بصيرة له وعدم الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة
بها.
914- والقول في ذلك عندنا أن [أصل] البيع مستندة الضرورة
أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة واللزوم [فيه] بمطلق
البيع قد لا يستند إلى الضرورة نعم لو قيل لا يفضى البيع
قط [إلى لزوم] جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان
بما يتقابضان وكان من الممكن أن يقال إذا تراضى المتعاقدان
على الإلزام لزم وإن.
ج / 2 ص -84-
أطلقاه
فالحكم [بلزومه] من غير تراضيهما [فيه] مصلحي وليس ضروريا
[وكذلك] المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين
مصلحي.
فإذا تمهد ذلك فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا
فليفهم الفاهم ذلك وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام.
915- ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع فقد مهد في
العقود تمهيدا عاما وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة
بالعقول أو حاجة ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على
وظائف العبادات [من] الرخص والتخفيفات وإن كانت العبادات
في أصولها غير مستندة إلى أغراض وإلا فالقاعدة الكلية
اتباع الحاجة [والضرورة] أو أتباع رضا المطلقين فإن [ألحق
ملحق الخيار] والأجل بالرخص من جهة [ندورهما] بالإضافة إلى
[ما] تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود وإلا فاتباع
الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من
الاستصلاحات وأنا أذكر [الآن] مسألة كلية يقضى الفطن العجب
منها فأقول.
[مسألة]:
916- لو درست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها وبقيت أصولها
على [بال] من حملة الدين فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل
بيع استند إلى رضا ولو لم يقل به وتفاصيل الاستصلاحات لا
تطلع عليها العقول ولا يحسم باب البيع ففي انحسامه ضرورة
عظيمة وقد ذكرت طرفا من هذا [في] الكتاب [الغياثي] والغرض
منه الآن أن الكلى ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل
وهذا كاف في هذا الضرب.
917- وأما الضرب الثالث: وهو ما لا ينتسب إلى ضرورة ولا
إلى حاجة وغايته الاستحثاث على مكارم الأخلاق ووضع
الاستصلاح [ينافي] إيجاب ذلك على كافة في عموم الأوقات
[لعسر] الوفاء به والقدر الذي على يقتضيه الاستصلاح لا
ينضبط بقدر أفهام المكلفين [ودرك المتعبدين] فإذا عسر
الضبط وتعذر الإيجاب العام فيثبت الشارع وظائف [تدعو] إلى
مبلغ المقصود الواقع في [علم] الغيب وإن كان لا ينضبط هو
في عينه لنا.
ويعضد هذا [القسم] في غالب الأمر وبأمور جلية حتى كان
الشريعة تتأيد بموجب الجبلة والطبيعة فيكل إليها قدرا
ويثبت للوظائف قدرا وهذا كالوضوء فليس [ينكر] العاقل ما
فيه من إفادة النظافة [والأمر بالنظافة] على استغراق
الأوقات [يعسر] الوفاء به.
ج / 2 ص -85-
فوظف
الشارع [الوضوء] في أوقات وبنى الأمر على [أفادته] المقصود
وعلم الشارع أن أرباب العقول لا يعتمدون نقل الأوساخ
والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فضلا فكان ذلك نهاية في
الاستصلاح ومحاولة الجمع بين [تحصيل] أقصى الإمكان في هذه
المكرمة ورفع [التضييق في التدنس والتوسخ] إذا حاول المرء
ذلك فهذا وضع هذا الفن.
918- ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا الفن من النظافة
الكلية المرتبة على الوضوء فإن النجاسات تتقذر في الجبلات
واجتنابها أهم في المكارم والمروءات من اجتناب [الشعث]
والغبرات.
ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان
التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة والشافعي نص هذا في
الكثير وقد ردد [في] مواضع من [كتبه] تحريم لبس جلد الميتة
قبل الديباغ وحرام على المرء لأن يلبس جلود الكلاب
والخنازير فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة
الكلية المعينة في الوضوء ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية
من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات
[البدنية].
919- ثم هذا الضرب الذي يفضى الكلام إليه يضيق نطاق القياس
فيه فليس للناظر أن يؤسس في هذا الضرب أصلا يتخيل فيه مثل
هذا المعنى الذي تكلفنا نظم العبارة [منه] لمعتبره
بالقاعدة الثانية.
والسبب فيه أن هذا يدق مدرك النظر فلا يستقل بالتطرق إليه
القوى البشرية ولا ينبغي أن يؤتى الإنسان عن خداع فإن مجال
الظنون متسع لما يظهر ويدق فإنا لم نؤمر بربط الحكم لكل
مظنون.
920- فالقول الوجيز فيه أن المعنى الذي ذكرناه في هذه
القاعدة الثانية محال على غيب ينفرد بعلمه الشارع وعليه
ابتني الإيهام الكلى بين التصريح والتلويح المذكورين في
الطهارة [فإنا قلنا] تعميم الأمر بالنظافة عسر ورفعه مناقض
للمكارم والمحاسن والقدر المعين لا تدركه أوهام البشر ولا
عسر في امتثال أمر الشارع في طهارات متعلقة بأوقات [ثم
الفطن] يظن أنها في علم الشارع منطبقة على القدر المقصود
الواقع في الغيب وليس من الممكن ربط الظن به فضلا عن دركه
يقينا.
921- فإذا كان هذا مبنى الأصل الثابت فكيف يطمع الطامع في
تأسيس أصل [وتقعيده قاعدة] تضاهى الطهارة في [وفائها]
بالغرض الغيبي ولهذا نقول في هذا.
ج / 2 ص -86-
الضرب:
لا يجوز قياس غيره عليه وليس كالضرب الأول والثاني
المتعلقين بالضرورة [والحاجة] فإن أمرهما بين ودركهما سهل.
ثم للشرع تصرف في الضروريات به يتم الغرض في القسمين
الأولين وذلك أن الذي لا يستباح إلا بالضرورة لفحشه أو
بعده عن الحل فقد يرعى الشرع فيه تحقق وقوع الضرورة ولا
يكتفى بتصورها في الجنس وهذا كحل الميتة ورب شيء يتناهى
قبحه في مورد الشرع فلا تبيحه الضرورة أيضا بل يوجب الشرع
الانقياد للتهلكة والانكفاف عنه كالقتل والزنا في حق
المجبر عليهما.
922- فإذا
الضرورات على ثلاث أقسام: فقد لا تبيح
الضرورة نوعا يتناهى قبحه كما ذكرناه وقد تبيح الضرورة
الشيء ولكن لا يثبت حكمها كليا في الجنس بل يعتبر تحققها
في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير والقسم الثالث ما يرتبط
في أصله [بالضرورة] ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص
وهذا كالبيع وما في معناه وإنما كان كذلك لأنه لا أثر
للفكر العقلي في تقبيح البيع والتبادل في الأعواض فكفى
تخيل الضرورة في القاعدة ولا التفات إلى الآحاد فإن الأمر
في ذلك مبنى على قاعدة كلية وليس البيع قبيحا في نفسه عرفا
أو شرعا.
923- فأما الطهارات وما يضاهيها فقصاراه تحصيل أمر بوظائف
واجبة من غير تصريح بوجوب المقصود فلا جريان للقياس في هذا
الباب على معنى أن يعتبر غير الباب بالباب.
وعلى هذا ينبني سد باب القياس في الأحداث فإنها مواقيت
الطهارات وثبتها الشرع في أمر مغيب عن دركنا ولم يثبت
الطهارة عامة بل خصصها تخصيصا نقدر نحن بظنوننا أنها تأتى
على تحصيل النظافة فكيف نستجيز إثبات وقت فيما لا نطلع على
إثبات أصله.
924- ثم [قال] القاضي رحمه الله كما لا تثبت الأحداث
بالقياس فلا مجال للقياس أيضا في نفي الأحداث وهذا [علق
مضنة] فليقف الناظر عنده ليقف عليه فإن احتكم محتكم باثبات
حدث من غير ثبت فلا حاجة إلى قياس في درء مذهب الخصم [وإن]
عزاه فيما زعم إلى قياس فالوجه أبطال قياسه وقد ذكرنا
بطلان القياس في إثبات الحدث.
ج / 2 ص -87-
925- وإن تمسك بظاهر يتعرض مثله للتأويل في غير هذا الباب وأراد
المعترض إزالة الظاهر بقياس فقياسه مردود فإن القياس كما
لا يهتدي إلى تأقيت الطهارة لا يهتدي إلى نفي تأقيتها ولو
ظن الظان أن القياس ألا ينتقض الطهر بشيء فهذا قول يصدر عن
قلة البصيرة كما ذكرناه في استبهام الأمر في أوقات الطهر
فإذا استبهم ثبوت الشيء استبهم نفيه وإذا صودف ظاهر لزم
اتباعه ولم يثبت في معارضته قياس ومن ينفي الحدث فليكن
[متمسك المطالبة] بثبت فيه والظاهر معتصم معمول به
[والعبادات] وإن استرسلت في جريانها فتجري في هذه المضايق
مجرى التنبيهات للقرائح الذكية والفطن فإذا حاصل كلام
الراد إلى المطالبة بالإثبات فإذا وجد شيء يعمل بمثله سقط
ما كان يتمسك به وليس معه ثبت في النفي.
926- ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا الفصل أن القياس
الجزئي في الأصل الذي فيه نتكلم لا يتصور أن يجري معنويا.
نعم لا ينحسم فيه قياس الشبه فإن كل ما يتطرق إليه العلم
يتطرق إليه الظن فإذا ينبني على هذا أن إثبات كون الملامسة
حدثا بالقياس على خروج الخارج من السبيلين لا مطمع فيه
فإنه لا يجمعهما معنى ولا شبه.
927- فأما اعتبار أصحاب أبي حنيفة خروج النجاسات من غير
السبيلين بما يخرج من السبيلين ففيه فقه وغايتهم في ذلك
تشبيه نجاسة تنفصل من محل الخلاف بالنجاسة التي تنفصل عن
أحد السبيلين فإذا أحسنوا الإيراد قربوا الشبه واعتبروا
الخارج بالخارج والمخرج بالمخرج.
928- ولأصحاب الشافعي أن يقولوا: لا نسلم فإن خروج النجاسة
من أحد السبيلين لا يقتضي الوضوء لأمر يتعلق بالنجاسة فإن
الذي يبتدر إلى الفهم من أمر النجاسة رفعها عن محلها
وإزالتها عن موردها فأما ربط إيصال الماء إلى غير مورد
النجاسة عند اتصال النجاسة بمحل آخر فلا محمل لذلك إلا
التأقيت.
ثم الذي يليق [بالتأقيت] على ما تمهده القول فيه أن يربط
[سبب نظافة] الأعضاء البارزة فضلا بما يتكرر في الجبلة على
اعتياد لائق به حتى تنتهض الطهارة وظيفة مكررة متعلقة
بأوقات يغلب تكررها فأما الرعاف وما في معناه فليس في حكم
ما يتكرر.
ج / 2 ص -88-
929- وليعلم الناظر أنهم وإن شبهوا على الظاهر فقطع شبههم بما
ذكرناه أقيس للغرض وأقرب إلى الدرك وخاصية النجاسة ساقطة
الاعتبار في الأصل والفرع [المعتبر به] المتفق عليه.
930 - نعم [بحق] ردد الإمام1 [المطلبي] قوله فيه إذا انسد
المسلك المعتاد وانفتح سبيل آخر للنجاسة المعتادة الخارجة
من المحل على ما يفصله الفقيه والسبب فيه أن هذا الآن يشبه
النجاسة المعتادة الخارجة من المحل المعتاد من جهة أن
الطبيعة تقتضى تكرر دفع الفضلات من السبيل المنفتح فهذا
منتهى الغرض في ذلك.
931- وأما الضرب الرابع: فقد مثلناه بالكتابة فهو في الأصل
كالضرب الثالث الذي انتجز الفراغ منه في أن الغرض المخيل
الاستحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل
ورد الأمر بالندب إليها فان العتق في الابتداء محثوث عليه
مندوب إليه.
فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه فإن الشرع
احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده
وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر
مثل ذلك في الضرب الثالث وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب
الطهارة ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء.
932- وذهب مالك رحمه الله2 في طوائف من السلف إلى وجوبها
وإسعاف العبد إذا طلبها ووجد فيها خيرا ومأخذ مذهبه في ذلك
يقرب من إيجاب الطهارات مع العلم بأن النظافة في نفسها لا
تجب بأمر مقصود وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}3.
933- والشافعي رحمه الله رأي الإيتاء واجبا كما أنبا [عنه]
قوله تعالى:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ}4 فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد به: الإمام الشافعي رضي الله عنه.
2 مالك هو: ابن مالك الأصبحي الحمير أبو عبد الله المدني
شيخ الأئمة وإمام دار الهجرة.
قال البخاري: أصح الأسانيد ملك عن نافع عن ابن عمر. مات
سنة 179, له ترجمة في البداية والنهاية 10/174, ومروج
الذهب 3/350, ووفيات الأعيان 1/439.
3 آية 33, سورة النور.
4 الآية السابقة.
ج / 2 ص -89-
على
[اقتضاء] الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب.
934- فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك
[بالطهارات فهو] يصلح لعقد المذهب وإلا فقد مهدنا أن
القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه
وإنما يجري [طرف] من التشبيه في [جزيئات] النوع من غير
خروج عنه.
وأما التعلق بالظاهر فأوجه ولكن الشافعي لم يعتمد في إيجاب
الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة رضي الله
عنهم وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده وضم إليه أن
الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه والإيتاء منه وقد رآه
الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في
الأموال والكتابة تلزم في حق السيد ومن متضمنها الرفق
المنقول وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه
على أن لا أرى مذهب الشافعي مسألة أضيق [مسلكا] من
الإيتاء.
935- ونحن نقول وراء ذلك: أما مالك فسوى بين الكتابة وبين
باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل ولاح على أصله [إجراء]
قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات [باحتمال] أمور
خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها والشافعي لم يوجب الكتابة
وقال للشرع تعبد في الإيجاب متبع وإن لم يكن منقاسا كإيجاب
الطهارة وإن لم تجب النظافة وللشارع أحكام في رفع حجره
وإطلاق حجر القياس اطراده كما جرى في الكتابة فكان احتمال
الشرع لهذا في الكتابة على خلاف القياس [مضاهيا لإيجاب
الشرع الطهارة على خلاف القياس].
ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس
فانتهض إيجاب الطهارة [محصلا] لمكرمة النظافة كما انتهض
رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة.
ثم قال الشافعي: في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي يتعلق
بغرض بين في تحصيل الكسب فإن العبد يحرص إذا [طمع] في
العتاقة [والسيد] يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير
الكتابة بظاهر الظن فخرجت الكتابة عن قبيل القرب لظهور
الغرض منها ولم يكن في الطهارات غرض ناجز [فلاق] بها ترغيب
في الثواب وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات
فهذا تأسيس القول في البابين ونحن الآن.
ج / 2 ص -90-
نرسم
مسألة في قسم الكتابة تمس إليها حاجة الفقيه.
مسألة:
936- قد ثبت أن الكتابة الفاسدة تثبت فيها أحكام
مشابهة لأحكام الكتابة الصحيحة.
فرأى أصحاب أبي حنيفة أن يعتبروا البيع الفاسد بالكتابة
الفاسدة وقضوا بأن البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به
القبض على تفصيلهم المعروف.
وقد امتنع طوائف من أئمتنا من قبول هذا القياس.
ونحن نكشف الغطاء فيه مستعينين بالله تعالى بعد ذكر مسلك
الفريقين اعتراضا وجوابا.
937- قال الشافعي رحمه الله: لا يقبل القياس في الفرعين
فان الكتابة الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات [والفاسدة]
متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين ترتب عليه
امتناع القياس في الفرعين.
فقال أصحاب أبي حنيفة: إذا ثبتت الكتابة والتحقت
بالمعاوضات الصحيحة فلا ننظر بعد ثبوتها إلى خروجها عن
القياس ولكنها يقضي فيها وعليها بقضاء المعاوضات حتى نقول
يشترط في المعاوضات ولا تنحسم الأقيسة في التفاصيل مع
إمكانها بخروج أصل الكتابة عن قياس المعاوضات واعتبار
البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة من النظر في التفاصيل بعد
تسليم الأصل وتنزله على حكم التوقف والفاسد في كل باب حائد
عن موجب التعبد لذلك فسد فإذا لم يمتنع التحاق الفاسد
بالصحيح في الكتابة مع حيد الكتابة الفاسدة عن الصحيحة
فينبغي ألا يمتنع مثل ذلك في البيع وكل أصل مقر على قانونه
منقاسا كان أو غير منقاس والفاسد في كل باب حائد عن مراسم
الشرع.
فهذا منتهى كلام الفريقين مع فضل بيان شاف في الإيراد لا
يستقبل به فقيه ليس له حظوة وافرة من الأصول.
938- ونحن الآن نقول: هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعاني
ولا يستبد في ذلك قياس معنوي من جهة أن شرط المعنى اتجاهه
أو انقداحه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في
الفرع فإذا ذاك يجمع الجامع بالمعنى وليس [معنا] معنى.
ج / 2 ص -91-
فقيه
يتضمن تنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن
الذي [لا] يتمارى فيه الناظر في الدرجات الأول من نظره أن
الفاسد ليس مطلقا للشرع والأحكام تثبت إذا جرت أسبابها
موافقة الشرع ويهون على الرشيد الفطن تقرير خروج الكتابة
الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس
المعنوي والاعتبار الكلي وإذا فعل ذلك انحسم مطمع الخصم في
قياس المعنى وآل النظر إلى التشبيه.
939- فإن تفطن الخصم وسلم انحسام المعنى واجتزأ بالتشبيه
وقال: البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح في تشبيه الكتابة
الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم إبداء معنى في
الأصل وإظهاره في الفرع.
فعلى الناظر في ذلك وقفة وإمعان نظر فيما يدرأ هذا المسلك
وهو النقض الصريح فإن لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح إذ
النكاح الفاسد ليس كالصحيح في إثبات حق لا على جواز ولا
على لزوم وأقرب من ذلك البيع نفسه فإن فاسده من غير قبض لم
ينزل منزلة صحيحة والتشبيه شرطه الطرد وأحق قياس بالبطلان
والنقض قياس الشبه فإن المتمسك بالمعنى قد يعن له طرد
المعنى ما لم يمنعه مانع وأما الشبه فقصاراه ظن على بعد
فإذا عارضه نقض وهى وانحل.
فهذا فن من الكلام واقع يضطرهم إلى النزول عن الشبه
والترقي إلى معنى وعن هذا قالوا: ما اتسع طرقه فالفاسد أحد
طرقه وزعموا أن الاتساع يشعر بإحلال الفاسد محل الصحيح
ومهما اضطروا إلى المعنى وحاولوه افتضحوا واجترءوا ولا
يكاد يخفى إبطال هذا المسلك وما في معناه فإذا بطل الجمع
المعنوي وانتقض الشبه لم يبق لمتمسكهم بالكتابة الفاسدة
وجه.
940- ومما نذكره في ذلك أن الكتابة الفاسدة في وضعها
مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب كتابة
فاسدة يتسلط على أكسابه [بنفس العقد] تسلطا صحيحا وتنفذ
تصرفاته فيها على الصحة نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس
البيع الفاسد كذلك وإن اتصل بالقبض وهذا يستعمل أيضا في
[معرض النقض] المعنوي.
941- ومن دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة بوجود الصفة
مما يجب القضاء بصحته فإن تعليق العتاقة على أداء العوض
الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فقياسه ألا
يرفع وأثر فساد الكتابة في رفع وجوب التعليق وهذا.
ج / 2 ص -92-
خارج
ظاهر الخروج عن قياس بابين أحدهما حكم المعاوضة والثاني
حكم تعليق العتق والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فالوجه
استيلاء حكمه فإن مؤقته يتأبد ومبعضه يتمم فكيف اكتسب ما
ليس يفسد وإن ذكر على صيغة الفساد [قضية] الفساد [من]
معاملته واهية بالفساد والجواز فهذا يمنع من [التشبيه]
ويعارض ما يأتي به [المشبه] وينزل في المظنونات منزلة بعد
الشيء وإن عن التحاق بالمنصوص عليه لكونه في معناه وقياس
الشبه مستند إلى القياس الذي يقال فيه إنه في معنى الأصل
فهذا منتهى كلام الفقهاء.
942- وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول: وقد
مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها
تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما الأقيسة في الأصول إذا لاحت
المعاني وإنما تظهر المعاني في الضرورات والحاجات وأقرب
قطاع الشبه تعدد الأصول فيما لا ينقدح فيه جامع ضروري أو
حاجى.
والذي نختتم به الكلام أن أصلين مستندهما المحاسن والمكارم
لا تشبه فروع أحدهما فروع الثاني من جهة تعلق كل واحد بأمر
[غيبي لا يضبطه الفكر إذ لا يجري كل مقصود في الغيب على
قضية واحدة.
943- فإذا لاح ذلك وتجدد العهد به فالبيع من الضروريات
فكيف ينقدح تشبيه فاسده بفاسد قسم لا ضرورة فيه ولا حاجة؟
وهذا قاطع للشبه بالكلية فإذا انقطع [الشبه] ولم يلح معنى
لم يرتبط الأصل بالفرع.
944- نعم إذا كفى الشافعي احتجاج الخصم [بالكتابة] بقيت
عليه غائلة في انتقاض ما يطرده [من] معناه بالكتابة.
فان قال: المعنى حيد الفاسد عن وضع الشرع والمصير إلى أن
الفاسد غير معتد به ولا تنتقل الأملاك إلا بمسلك شرعي وإذا
نحن اعتمدنا ذلك صدمتنا الكتابة الفاسدة نقضا فلا وجه إلا
مسلكان في دفعه:
أحدهما: أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهة
مقصودها وقد تناهينا في تقريب ذلك في "الأساليب".
والمسلك الثاني: وهو الأصولي ألا يلتزم في
أقيسة المعاني النقض بالمنتزع عنها كما سنمهده في باب
النقض إن شاء الله تعالى.
ج / 2 ص -93-
945- والضرب الخامس: متضمنه العبادات [البدنية] التي لا يلوح فيها
معنى مخصوص لا من مآخذ الضرورات ولا من مسالك الحاجات ولا
من مدارك المحاسن كالتنظيف في الطهارة والتسبب إلى العتاقة
في الكتابة ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة
على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى والغض
من العلو في مطالب الدنيا والاستئناس بالاستعداد للعقبى.
فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في
التعبد بالعبادات البدنية وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن
العظيم في مثل قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}1 ولا يمتنع أيضا أن يتخيل فيها أمر آخر وهو أن الإنسان يبعد منه
الركوب إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة فإن تركت
تحركت في جهات الشهوات وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على
العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات وهذا فن لا يضبطه
القياس ولا يحيط به نظر المستنبط والأمر فيه محال على
أسرار الغيوب والله تعالى المستأثر به فلا يسوغ اعتبار ضرب
إحداها في جهة اختصاصها ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها
الخاصة بغيرها من الضروب فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما
لا يستند إلى ضرورة وحاجة وإن كان يغلب على الظن [تعين]
مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن فلأن يمتنع ذلك من
العبادات التي لا يتعين منها مقصد [أولى وأحرى].
946- فأما اعتبار [البعض من هذا الضرب بالبعض] فقد ينقدح
فيه معان فقهية نحو اعتبار القضاء بالأداء في اشتراط تبييت
النية والجامع أن النية قصد ومرتبطه الحال أو [عزم]
ومتعلقه الاستقبال وقد أمرنا بإيقاع الصوم أداء وقضاء
وعبادة والعبادات إنما تقع على قضية التقرب بالقصد وما مضى
لا على حكم القرب يستحل انعطاف القصد والعزم عليه فهذا من
[أجلى] المعاني المعتمدة وكذلك ما ضاهاها.
947- فأما ما يثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا
يسوغ القياس فيه وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم
والتسليم عند التحليل ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد
السجود فمن اراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى
أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما وزال من القاعدة
الكلية فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 آية "45" سورة العنكبوت.
ج / 2 ص -94-
948- وإذا قال الحنفي: معنى التكبير معقول قيل [له]: اشتراط ما
يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول ولا ينفع الاكتفاء
يكون التكبير معقول المعنى فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان
ومعنى الصيغ وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر.
949- قال الشافعي رضي الله عنه: في مجاري كلامه في رتب
النظر من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي
الاستمرار عليه ولا غرض لصحبة ومن بعدهم من نقله الشرائع
والقائلين بها في التكبير على التخصيص وقد استتب الناس
عليه مع تناسخ العصور واعتقاب الدهور قولا وعملا وتناوله
الخلف عن السلف حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره لعد نكرا وحسب
هجرا [فمن] قال والحالة هذه لا اثر لهذا الاختصاص وإنما هو
أمر [وفاقي] فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة
وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه ولو كان
غير التكبير كالتكبير لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا
عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء أيحرم على الجنب
سورة آل عمران مع القطع بان غيرها من السور بمثابتها ولا
ينطق المبتدئ بها إلا ويبين لغوه على عمد إن لم يكن ساهيا.
950- فإذا ثبت قطعا أن تخصيص التكبير ثابت فإن اعترفوا
بتعيينه [بدءا] ثم طعموا في اعتبار غير التكبير بالتكبير
بجامع التمجيد وهو بعينه جار في الاستحباب فقد طعموا في
غير مطمع فالخصم بين أمرين:
أحدهما: أن ينكر قصد التخصيص من الشارع
فيكون مباهتا قريبا ممن يجحد الضرورات في المعقولات وإن
اعترفوا بالتخصيص في وجه وأرادوا الجمع في وجه آخر ينقضه
ما سلموه من التخصيص فقد تناقض كلامهم.
ويخرج مما ذكرناه أن التكبير مخصوص غير معقول الاختصاص
فرفع الاختصاص مع ثبوته محال.
951- ومن نظر, نظر ذي غرة فقاس غير التكبير على التكبير
أوطأه إذ ذاك تطرق فاحشة لا يبوء بها من وقر الدين في صدره
وهو إقامة عمد الحدث مقام التسليم من جهة أن التسليم يناقض
الصلاة مناقضة الحدث إياها ومن استجاز في محاسن الشريعة أن
يلحق عمد الحدث بما يجيزه الشارع من التسليم في اختتام
الصلاة فهو بين معاند يظهر خلاف ما يضمر وبين من أعمى الله
تعالى بصيرته نسأل.
ج / 2 ص -95-
الله
تعالى التوفيق ونعوذ به من الانهماك في أوضار التقليد.
952- ثم أن أجرى مجر [في] هذا القسم كلاما [ظاهره] التشبيه
مثل أن يقول تعين الركوع كتعين التكبير وامتناع إقامة
السجود مقامه يضاهي امتناع إقامة غير التكبير مقامه فقد
تردد كلام الشافعي في ذلك فتارة يسميه استشهادا والمعنى به
أن ذلك يذكر تقريبا وتحقيقا لمنع القياس ويضرب أمثالا وهو
مشبه بتقرير الضرورات على من يجحدها فإنه لا [يجدي] مع
جاحدها مسلك نظري والوجه في مكالمته إن ريم ذلك تقريب
الأمر بضرب الأمثال فهذا مسلك.
وقد ويقول الشافعي: هذا من مآخذ قياس الشبه فإن الاختصاص
بالتكبير مأخذه مأخذ الاختصاص في الركوع وإذا شبه احدهما
بالثاني كان ذلك من قياس الشبه وإن كان [نتيجته] منع
القياس فإن الاختصاص حكم مطلوب والقياس الشبهي جار فيه.
نعم القياس المعنوي لا يجري إذ الاختصاص معناه [نفي]
المعنى المتعدي من محل التخصيص والتنصيص [فطلب] المعنى حيث
لا معنى بعيد هذا وقد نجز غرضنا من تقاسيم هذه [الضروب]
فان عدنا إلى تقاسيم المعنى بعد ذلك كان ذلك لغرض آخر ونحن
نرى أن نقف حيث انتهينا ونستفتح القول في الاعتراضات. |