البرهان في أصول الفقه ج / 2 ص -97-
الباب الرابع: الاعتراضات وأقسامها.
953- [ونقسمها قسمين:
أحدهما: يشتمل على ما يصح عند المحققين
ولا احتفال بما يشذ من خلاف منقول عمن لا اكتراث به.
والقسم الثاني: يحتوي على ما يفسد من
الاعتراضات عند المحققين].
فصل: القول في
الاعتراضات الصحيحة.
954-
[الأول] منها:
المنع1.
وهو يتوجه على الأصل ويقدر متوجها على الفرع فأما المنع في
الأصل فإنه يجري من وجوه:
أحدها: منع كون الأصل معللا فإن الأحكام
تنقسم باتفاق النظار إلى ما يعلل وإلى مالا يعلل فمن
استمسك بأصل فهم مطالب بتثبيت كونه معللا2 وهو عندي إنما
يتوجه على من لم يذكر تحريرا بعد فأما إذا حرر فإنه قد
ادعى أن ما أبداه من الوصف علة في حكم الأصل فان الفرع في
العلة [المحررة] يرتبط بالأصل بمعنى الأصل وهو الجامع
وسبيل افتتاح النظر من طريق القياس أن يبين الرجل حكما في
الأصل3 ويطلب علته فإذا صحت عنده علة الحكم وألفاها متعدية
أصلها موجودة في غيره فإنه يحكم فيما توجد العلة فيه بحكم
الأصل الذي ثبت عنده تعليله فأما إذا لم تظهر علة [فلم يأت
بديل] فلا وجه [لعد] المنع في هذا المقام اعتراضا فإن
المسئول إذا ذكر الأصل واقتصر عليه فلا ينتهض السائل
للاعتراض بل يرتقب استتمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن السمعاني: الممانعة أرفع سؤال على العلل وقيل:
أساس المناظرة. إرشاد الفحول "ص 230".
2 إرشاد الفحول "ص 230".
3 قال إليكا: هذا الاعتراض باطل لأن المعلل إذا أتى بالعلة
لك بكن لهذا السؤال معنى."إرشاد الفحول "ص 230".
ج / 2 ص -98-
الكلام
وما ذلك إلا لأنه لم يدخل وقت الاعتراض بعد.
وان اقتصر على ذكر الأصل وضم إليه ادعاء كون الفرع بمثابه
عد عريا عن التحصيل من جهة أنه لم يذكر ربطا ولم يأت بصيغة
قياس بعد فسبيل مكالمته إذا تردد وتبلد أن ينبه على
اقتصاره على بعض صيغة القياس فإن ذكر معنى ادعاه علة فإن
استمكن منه ففي ضمنه إثبات القول كونه معللا.
955- ومن لطيف القول في ذلك أن تعيين العلة وإثبات أصل
التعليل مسلك واحد فإن الإنسان يستبين كون الشيء معللا بأن
يتجه فيه معنى يصلح لكونه علة وليس من الممكن أن يعرف
بطريق الاستنباط كون الشيء معللا على الجملة نعم إن انعقد
عليه إجماع أو ورد فيه نص فيستند [الاعتقاد] إليهما وإن
كان التلقي من الاستنباط فتعيين العلة وتثبت الأصل في
التعليل يثبت بمسلك واحد فهذا تحقيق القول في المطالبة
بكون الأصل معللا وبيان محله ومنصبه في الجدل.
956-
والنوع الثاني من المنع:
إنكار وجود ما ادعاه المستنبط علة وهذا
كثير التدوار في المركبات فإن من قاس على انبة خمس عشرة
سنة فقد يدعى بلوغها فينكره الخصم فهذا وما يضاهيه إنكار
وجود العلة وعلى المطالب فيه أن [يثبت] بطريقة على ما
سيأتي [ذلك] في تقاسيم المركبات إن شاء الله تعالى.
957-
والنوع الثالث:
منع الحكم في الأصل1 فإذا توجه ذلك على
المسئول تعين عليه إثباته فإن [أثبته] بطريق إثباته استد
قياسه وكان بانيا والبناء مقبول [من المسئول] ولو رددنا
إلى حكم الدين فليس فيه ما يمنع سائلا من نصب دليل ولكن
مواقف النظار وأهل الجدال على مسلك رأوه اقرب المسالك [إلى
الدرك] وأقصدها فأثبتوا الدليل والبناء والابتداء للمسئول
وأقاموا السائل مقام المعترض حتى ينتظم على القرب غرض
ويلوح في المطلوب مدركه فلو تصدى كل واحد للدليل والاعتراض
لانتشر الكلام وطال المرام ولا ينقضي مجلس [عن] فائدة ثم
المسئول لا يدل في كل موضع بل يدل حيث [يبنى] ولو اعترض
على علة أبداها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 واختلفوا هل هذا الاعتراض يقتضي انقطاع المستدل أم لا؟
فقيل: إنه يقتضي انقطاعه وقيل إنه لا يقتضي ذلك وبه جزم
المؤلف وإليكا الطبري قال ابن برهان إنه المذهب الصحيح
المشهور بين النظار واختار الآمدي وابن الحاجب " إرشاد
الفحول "ص 230".
ج / 2 ص -99-
السائل
معارضا معترضا أو مسندا إليها تأويل ظاهر فإذا أورد
المسئول عليها نقضا فمنعه السائل لم يكن للمسئول إثباته
بالدليل فإنه بإثباته النقض لا يستفيد إثبات مذهبه الذي
سئل عن إثباته وإنما يستفيد إبطال علة السائل وهو في هذا
المقام معترض والاعتراض والبناء إذا اجتمعا انتشر الكلام
ووقع المعنى المحذور الذي لأجله أقام الجدليون بانيا
ومعترضا.
ثم قد يأتي السائل بما يصلح للبناء وهو يبغي به الاعتراض
بطريق المعارضة كما سيأتي ذلك فأما المسئول فيضطر إلى
الاعتراض [بطريق المعارضة] إذا عارض السائل.
958-
والنوع الرابع من المنع: المنع من كون ما أبداه المسئول
علة1
فيقال: ما الدليل على أن ما أظهرته علة فيتمسك المسئول بما
يثبت به العلل وقد مضى القول فيه مفصلا.
959- فوجوه المنع إذا على ما نظمه هؤلاء أربعة: المنع من
أصل التعليل والمطالبة بتعيين 0 التعليل] والمطالبة بتحقيق
[وجود] ما ادعاه المعلل علة ومنع الحكم والمطالبة بإثبات
ما عينه.
960- وزاد بعض المتكلفين منع القياس والمطالبة بإثبات أصل
القياس وهذا ليس بشيء [فإنا] في الاعتراضات على القياس وقد
ثبت أصله على منكريه فهذه وجوه المنع في الأصل.
961- فأما المنع في الوصف2 فلا يتجه فيه إلا منع واحد وهو
منع وجود علة الأصل في الفرع وباقي الوجوه توجه على الأصل
فإن من وجوه المنع في الأصل المطالبة بأن ما أظهره
والمستنبط يصلح لكونه علة وهذا حقه أن يخصص بالأصل إذ منه
الاستنباط وإليه الرد به والاعتبار إذا ثبت صلاح ذلك
المعنى لكونه علة لم يحتج إلى ذلك في الفرع وقد انتجز
الفراغ منه فلا يبقى مع الفراغ من مطالبات الأصل إلا
ممانعة في أن المعنى الذي ثبت علة في الأصل غير موجود في
الفرع وهذا يسمى منع الوصف وقد انتهى غرضنا من القول في
المنع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 231".
2 إرشاد الفحول "ص 231"
ج / 2 ص -100-
و[الثاني] من الأعتراضات الصحيحة: طلب الإخالة.
- 962ذا
وهذا من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية فعلى
المتمسك بما يدعيه معنى أن يوضح [مناسبته] للحكم واقتضاءه
له وإشعاره به فإذا عجز عن ذلك مع ادعائه المعنى كان ذلك
انقطاعا منه بينا.
963- قد وقد قال القاضي رحمه الله في بعض مجاري كلامه: ليس
هذا من الأسئلة والاعتراضات بل حق على كل مسئول أن يبدأ
بإظهار الإخالة قبل أن يطالب بها فإنه لا يكون آتيا بصورة
القياس المعنوي إلا على هذا الوجه ولو سكت عن إظهاره كان
مقتصرا على بعض العلة.
نعم لو ضمن تعليله لفظا ظاهرا أشعر بالإخالة كفى ذلك فإن
وجه السائل طلبا كان منسوبا إلى القصور عن درك لفظ التعليل
هذا إذا كان تمسكه بقياس المعنى.
964- فأما إذا تمسك بقياس الشبه فلا مناسبة ولا إخالة على
الوجه المذكور في المعاني ولكن قد يحتاج المشبه إلى إظهار
الشبه الخصيص المغلب على الظن فيكون الطلب بذلك والجواب
عنه على حسب ذلك كما إذا شبهنا الوضوء بالتيمم فقد التزمنا
أن نذكر شبها أو أشباها تقرب الفرع من الأصل وإن كان لا
يقتضي الحكم اقتضاء الإشعار والإخالة ولا يقع الاكتفاء
بأمور عامة لا تغلب على الظن ولا يتعرض المشبه لأمر عام
إلا وينتقض عليه تشبيهه وإذا تصون عن النقض بارتياد خصوص
الأشباه فقد خصص شبها مغلبا على الظن.
و [الثالث] من الاعتراضات الصحيحة: القول بالموجب1.
965 - ولا شك أنه إذا استد على شرطه أسقط الاستدلال وقطع
المستدل.
ثم الأصوليون تارة يقولون2: القول بالموجب ليس اعتراضا وهو
لعمري كذلك لأنه لا يبطل العلة لأنه إذا جرت العلة وحكمها
متنازع فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى ولكن المتمسك
بها في محل النزاع منقطع فإنه أبداها محتجا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بفتح الجيم أي: القول بما أوجبه دليل المستدل قال في
"المحصول": وحده تسلم ما جعله المستدل موجب العلة مع
استبقاء الخلاف وقال الزركشي في "البحر": وذلك بأن يظن
المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة
المتنازع فيها غير مستلزم قال: وهذا أولى من تعريف الرازي
له بموجب العلة لأنه يختص بالقياس. "إرشاد الفحول" "ص 228"
2 إرشاد الفحول "ص 229",.وعزاه إلى "المنخول" للغزالي.
ج / 2 ص -101-
بها
وهو يروم إثبات المتنازع [فيه] وقد تبين أن الأمر على خلاف
ما قدر وهو بمنزلة ما لو رام إثبات المختلف فيه ونصب علة
في غير محل النزاع.
966- ثم القول بالموجب ينشأ من اعتناء المعلل بموجب الحكم
ولا يتصور قول [بالموجب] ومضمون العلة نفي حكم وإثبات حكم
فإن المعلل يثبت ما ينفيه الخصم من الحكم أو ينفي ما يثبته
فكيف يتصور المطابقة والأمر كذلك؟
نعم، إذا قال الحنفي في مسألة ماء الزعفران: ماء طاهر
خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع صحة الوضوء قال السائل
[الشافعي] المخالطة لا تمنع.
ثم ينقسم في هذا مقام السائل فقد ينقدح له [إبداء مقتضى]
آخر سوى ما ذكره المعلل مع الاستمرار على الخلاف في الحكم
فهذا إن اتفق فهو الغاية في هذا الفن من الاعتراض والغالب
في ذلك أن يكون المعلل ذاكرا لبعض ما هو [علة] عند السائل
فيبين المعترض أنه ليس موجبا على حياله وهو كما ضربناه
مثالا الآن فإن المخالطة لها أثر عند الشافعي ولكنها
بمجردها لا توجب منع الاستعمال.
فإن زاد المسئول فقال: المخالطة المغيرة لا توجب منع
الاستعمال ألزم السائل القول بالموجب أيضا فإن المخالطة
المغيرة لا تمنع التوضؤ فإن زاد وقيد الاعتلال بتفاحش
التغيير وإمكان الاحتراز لم يجد أصلا يقيس عليه فإن حذف
التعرض للموجب فقال: ماء طاهر خالطه طاهر فيجوز التوضؤ به
انتقضت العلة كماء الباقلاء إذا كان مغليا بالنار وهذا
مضيق يدفع فلا يجد المعلل محيصا عن التعرض للنقض أو القول
بالموجب.
- 967 ومما يطرأ في هذا الفن شيء ليس للرد والقبول فيه
مجال وقد ينتهي الأمر بين المعترض والمجيب إلى قريب من
الإلباس ونحن نبين الوجه فيه.
[فإذا] قال الشافعي في مسألة تمكين العاقلة مجنونا: جنون
أحد المتواطئين لا يوجب درء الحد عن الموصوف بالعقل كجنون
الموطوءة.
فقد يقول الحنفي: الجنون ليس دارئا وإنما الدارئ خروج وطء
المجنون عن كونه زنا فليست المرأة ممكنة زانيا.
فيقول المجيب: إن صح ما قلت فالجنون هو الذي أخرج فعله عن
هذه التسمية وغرضي إسقاط أثر الجنون فيقول المعترض: نصبت
الجنون علة وهو عندي علة العلة وإطلاق التعليل [بالجنون]
يشعر بكونه مماسا للحكم من واسطة فيجر التفاوض
ج / 2 ص -102-
لبسا
والذي يختاره المعلل أن [يقي] [علته] مواقع اللبس حتى لا
يكون متمسكا بما يلتحق بمجملات الألفاظ على ما سنعقد في
ذلك فصلا إن شاء الله تعالى.
968- فالوجه إذا أن نقول: لا ينتهض الجنون سببا فإن قيل
بموجب علته أمكن الدفع فإنما يؤثر وإن كان لا يستقل يسمى
سببا وإن كان لا يحسن تسميته موجبا ما لم يستقل وحفر البئر
سبب الهلاك في الشرع وتسمية سببا لا يجحده أحد من حملة
الشريعة وإن كان لا يستقل ما لم ينضم إليه أسباب.
وإذا قال القائل: ثبت هذا الحكم بأسباب كان كلاما منتظما
ومعناه أنه أثبت باجتماع أسباب ولا يحسن أن يقال ثبت هذا
الحكم بعلل إذا كانت كل واحدة لا تستقل بالاقتضاء فإن
العلة المركبة من أوصاف يجوز أن يسمي كل وصف منها سببا في
الحكم من حيث إنه لا بد منه وليس كل وصف علة وإنما العلة
مجموع الأوصاف وإذا قال القائل لا ينتهض كذا سببا وكان لما
ذكره أثر عند الخصم ولا يستقل الحكم دونه فلا يمكنه
والحالة هذه أن يقول بموجب العلة.
و [الرابع] من الاعتراضات: النقض.
969- وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما أدعاه
المعلل [علة] ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة
المستنبطة.
وحكى أصحاب المقالات عن طوائف من أصحاب أبي حنيفة رحمه
الله أنهم قالوا ليس النقض من مبطلات العلل ولكن متى عورضت
علة المعلل بنقض فعليه تعليل تلك المسألة التي ألزمها نقضا
والفصل بينهما وبين [المسائل] التي ادعى اطراد العلة فيها.
ونحن نذكر مسالك الفريقين ولا نتعدى مسلكا حتى نتبعه بما
عندنا فيه ثم نذكر عند نجاز المسألة ما هو الحق المبين
عندنا.
970- فأما الصائرون إلى أن النقض يبطل العلة فقد تمسكوا
بطرق: منها أنهم قالوا: النقض يلحق العلة بعد أن نقضت
بالقول المتكافئ والأقوال المتكافئة ساقطة وبيان ذلك
بالمثال: أن من قال في محاولة إثبات تحليل النبيذ: مائع
فيحل [كالماء] والمعلل غير مبالي بدخول الخمر وغيرها نقضا
والمعترض يقول: مائع فيحرم كالخمر وهو أيضا لا يحتفل بما
يرد عليه من النقض وليس أحد المسلكين بأولى من الثاني
ج / 2 ص -103-
وهذا
فيه نظر عندنا من جهة أن بطلان المسلكين كان لوقوعهما
طردين خارجين عن مسالك المعاني والأشباه المعتبرة فلا يكاد
يقوى التعلق بهذا والمعترض متمكن من إبداء وجه من الإبطال
سوى ما ادعاه المتمسك بالطريقة.
971- ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا: من يدعى علة لا يخلو
إما أن يدعيها عامة أو يدعيها خاصة [فإن ادعاها خاصة]
فلتنحصر على محل النص وإن ادعاها عامة ولم تعم فليست وافية
بحكم العموم فإنها إذا تعدت لم يكن محل في تعديها أولى من
محل.
وهذا على رشاقته لا يستقل دليلا فإن للمعترض أن يقول
أطردها ما لم يمنعني مانع فإن ظهر مانع عللته واستمرت على
الطرد في غيره.
972- ومما تتعلق به هذه الطائفة: أن من يطرد العلة مدع
جريانها متحديا باطرادها مشبه بمدعى النبوة المؤيدة
بالمعجزة فإنه يتحدى بها قائلا لا يأتي أحد بمثلها فلو أتي
آت بها بطل تحديه.
وهذا تخيل لا حاصل له من جهة أن من يعلل النقض لا يتحدى
بعموم العلة والمعجزة لا تدل على الصدق قطعا مع فرض صدورها
من كذاب.
973- وربما يستدل القاضي رحمه الله لهؤلاء بكلام منشؤه
الأصل والقاعدة المعتبرة في الباب وهو أنه قال قد عرفنا
تمسك الأولين بالمعاني الجارية فاتبعناهم ولم يثبت عندنا
أن معانيهم كانت تنقض ولا ينفكون عنها فهذا مما لا يقطع
بثبوته عن الأولين ولا معتصم في إثبات العمل بالقياس إلا
الإجماع والاتباع.
وهذا الكلام وإن كان آثر مما تقدم فقد ينقدح فيه أن يقول
قائل: ما صح عندنا أنهم كانوا يحذرون ويحترزون ويتصونون
تصون المتأخرين ولكنهم يطلقون المعاني ثم إن عن مخالف
عللوه وميزوه عما فيه الكلام [إذ] كان كلامهم تأسيسا
وابتداء ولم يكن كلامهم محررا يدور في النفوس [منضجا] بنار
الفكر متقدا بذكاء السبر فلا وجه لما ذكره القاضي إذا.
974-
وأما من لم يرد النقض مفسدا للعلة: فإنه
يتمسك بوجوه منها أن الصيغ العامة الواردة لا يمتنع
تخصيصها إذا قامت دلالات تقضي التخصيص فإن لم تقم جرت
الصيغة على عمومها ولفظ المعلل لا يزيد منصبه على لفظ
الشارع ثم المتمسك بالصيغة العامة من لفظ [الشارع] يتعلق
بها وهي على تجويز أن يخصص بدلالة.
ج / 2 ص -104-
975- وقد قال القاضي: هذا إنما يلزم من يثبت للعموم صيغة
ولست منهم.
وقال أيضا في إلزام المعتزلة: البيان عندكم لا يتأخر عن
مورد الخطاب ويقتضي ذلك أن تقترن القرائن المخصصة باللفظ
فهو مع قرائنه محمول على الخصوص وهذا يناظر في علة المعلل
ما يتقيد بقرينة مخصصة حذرا مما يفرض نقضا واردا على اللفظ
العام.
وقال أيضا متحكما على من أثبت للعموم صيغة: التخصيص- على
رأي هؤلاء- هو الاطلاع على قرينة ولو فرضت صيغة عامة في
وضعها متجردة عن القرائن اللفظية والحالية لكانت نصا في
اقتضاء العموم.
فإذا ليس للتخصيص معنى إلا ذهاب المخصص عن قرينة مخصصة ثم
اطلاعه عليها.
976- والذي ذكره القاضي في إلزام من منع تأخير البيان عن
وقت مورد الخطاب لازم كما ذكره.
وأما الاحتكام على المعممين بأن الصيغة لو قدر ورودها
مجردة لكانت نصا ففي كلام الشافعي رحمه الله رمز إلى
التزام ذلك.
والذي نراه رأيا على مذهب المعممين أن اللفظة إن كانت
مجردة عن قرائن الحال والمقال فليست نصا في اقتضاء العموم
ولكنها ظاهرة والصيغ منقسمة إلى ما يقع نصا في الوضع وإلى
ما يقع ظاهرا والصيغة المجردة في العموم من الظواهر فإن من
أطلقها في محاوراته ثم زعم أنه لم يرد بها الاستغراق
المحقق لم يكن آتيا منكرا ولكن يقدر مؤولا نعم إن اقترنت
بالصيغة قرينة لفظية أو حالية تحسم مواد التأويل والتخصيص
فالصيغة إذ ذاك نص لاقترانها بما يلحقها بالمنصوص عليه وقد
مضى في ذلك قول شاف في كتاب العموم والخصوص.
977- والجواب إذا عن استمساك هؤلاء بتخصيص العام أن تخصيصه
ليس انحرافا عن موجب اللسان واقتضاؤه العموم ليس نصا قاطعا
ولو رددنا [القياس] لما علمنا بموجب ظاهر مع تعرضه للتأويل
فإن العمل المبتوت لا يرتبط بمشكوك فيه أو مظنون والعمل
بموجب الظاهر معلوم ولا يترتب العلم على الظن والعمل
بالظاهر مستنده إجماع الماضين وهو مقطوع به ثم تبين منهم
التأويل والتخصيص عند قيام الأدلة المعارضة لوجه الظن في
الظاهر كما تقرر في كتاب التأويل قوانين الكلام فيما يقبل
ويرد.
ج / 2 ص -105-
978- وأما المعلل فإنه مستنبط علة مظنونة ومعتمدة في
استنباطها ظنه لصلاحها فإذا طرأت مسألة [قاطعة لها] مانعة
من طردها انبتر ظنه وبطل مستند استنباطه إذ ليست العلة
التي استنبطها معولة في نفسها على ظاهر أو تنصيص فلا معنى
للتعلق بالعموم على أن ما نحاوله في النفي والإثبات محاولة
القطع وتأسيس الأصول والأقيسة لا تجول في مواضع القطع
وإنما تجولها في المظنونات.
979- ومما تعلق به من يجوز تخصيص العلة أن قال: إذا لم
يبعد تخصيص العلة بزمان لم يبعد اختصاصها بمسائل وأراد
بذلك أن الشدة المطربة علة في تحريم الخمر ولم تكن علة قبل
نزول تحريمها وهذا كلام.
ساقط فإن المعاني الظنية في الأقيسة العملية لا تقتضي
الأحكام لأعيانها ولكن تتبع في موارد الشرع بها أو
بأمثالها وكان الشرع متبعا فيها ويجوز تقدير النسخ عليها
والذي نحن فيه من [فن] الاستنباط المظنون بعد قرار الشريعة
والانتقاض يوهي ظن المستنبط على تحقيق فأين يقع هذا من
جواز تبديل الأحكام؟
980- ومما تعلق به هؤلاء جواز تخصيص علة الشارع قالوا:
فإذا لم يمتنع ذلك في علة الشارع والصدق ألزم له فلا يلزم
المستنبط ما لم يلزم الشارع.
وهذا أيضا كلام غث فإن الشارع إذا علق الحكم بعلة لا تناسب
صح وإن كان ذلك طردا لو صدر من المستنبط.
وسيكون لنا كلام في تخصيص علة الشارع في مسألة معقودة إن
شاء الله تعالى فهذه عيون كلام الفريقين.
981- والمسلك الذي نختاره أن المستنبط إذا نصب علة فورد
على مناقضة طردها نقض فإن كان ينقدح من جهة المعنى فرق بين
ما يرد نقضا وبين ما نصبه المعلل علة له فإن علته تبطل
بورود النقض والسبب فيه أنه إذا نظم فرقا بين ما ألزم وبين
محل العلة فيصير ما عكسه في محل العلة قيدا لما أطلقه علة
ويتبين بهذا أنه ذكر في الابتداء بعض العلة وأظهر أنه علة
مستقلة فإذا أراد التقييد وانتظمت له علة [مقيدة] فالعلة
الآن سليمة ولكنه منقطع من جهة ادعائه في أول الأمر
وابتدائه أن ما جاء به دليل مستقل [و] لو لم يصرح بكونه
دليلا تاما فالحالة المعهودة بين النظار قرينة مصرحة
[بذلك] فإنه يسأل أولا عن الحكم فإذا أبان مذهبه [فيه]
طولب بالدليل عليه فإذا ذكر كلاما في إسعاف السائل المطالب
بالدليل وقطعه وسكت على.
ج / 2 ص -106-
منقطعه
كان ذلك مشعرا بادعائه أن ما جاء به كلام تام ولو جلس
الناس يشتورون باحثين فذكر ذاكرا معنى وسبره وخبره فلم
يطرد فقيده تقيدا فقهيا كان كذلك له إذ هو في مهلة النظر
ومحاولة استتمام الاجتهاد فهذا حقيقة القول في ذلك.
982- ولو اعترضت مسألة على العلة نقضا وكان لا ينقدح فرق
بينها وبين محل العلة فإن لم يكن الحكم فيها معللا مجمعا
عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمى غير أن المعلل استثناها
بمذهبه فعلته تبطل فإنه مناقض لها وتارك للوفاء بحق العلة
فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع
قصده؟
983- وإن طرأت مسألة اجتماعية وكان لا ينقدح بينها وبين
العلة فرق فهذا موضع الأناة والاتئاد.
فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا
بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت
العلة الجريان وعارضها بفقه وهي آكد في اقتضاء بطلان علة
المعلل من المعارضة كما سيأتي فإن المعارضة لا تهجم على
الطرد بالقطع بل يستقى حكمها من أصل آخر لا ينقض طرد العلة
بل يصطدم موجب العلة على التناقض في محل البحث فإذا كانت
المعارضة وهي على هذه الصفة ناقضة فالتي ترد مناقضة وقاطعة
للطرد أولى بالإبطال.
984- وإن طرأت المسألة قاطعة للطرد ولم ينقدح فرق وكان لا
يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية [فهذا]
موضع التوقف.
985- وقد ذكر القاضي على الجملة ترددا في أن القول ببطلان
العلة بما يقطع طردها من القطعيات أو من المجتهدات حتى
يقال كل مجتهد فيه مصيب أو مؤاخذ بحكم اجتهاده.
والذي أراه في ذلك أن الصور التي قدمناها قواطع ومبطلات
قطعا وإنما النظر والتوقف في المسألة المانعة من الطرد
التي لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة ولا يتأتى في
تعليل حكمها على المناقضة معنى وكانت تلك المسألة مما يقال
فيها: إنها لا يعقل معناها فإذا تصورت [المسألة بهذه
الصورة انقسم القول فيها عندي أيضا.
فإن كان حل العلة من المسألة اللازمة واقعة [موقع] ما يكون
في معناه علما وقطعا فالعلة تبطل أيضا من جهة أن التحاق ما
في معناها [بها معلوم] وأصل وضع العلة مظنون ولا يعارض ظن
[علما].
ج / 2 ص -107-
وإن لم
يكن محل العلة منها بهذه المثابة وإنما جرت تلك المسألة
شاذة فعند ذلك قد يظن الظان أنها تقطع العلة وتنقضها من
جهة أن المستنبط إذا عثر عليها وهى ظنه في نصب ما ظنه علة
إذا وجد في الأصل الشرع ما يخالف ذلك ويجوز أن ينقدح له ما
عينه علة مناط الحكم إلا أن يمنعه استثناء شرعي لا يعقل
معناه.
986- والقاضي إنما تردد في هذه الصورة وهي لعمري موضع
التردد والذي نراه فيها أن ورودها لا يقطع العلة إذا كانت
العلة [فقهية] مناسبة وإنما يلزم المعلل إجراء المعنى ما
استمكن منه.
والدليل عليه أنا نجد في الشريعة عللا فقهية متفقا عليها
في الصحة وقد طرأ عليها استثناء الشرع في مواقع لا تعلل
وهذا كجريان العلة في اختصاص كل متلف أو متعد أو ملتزم
بالضمان ولا أحد ينكر جريان هذا المعنى في الشرع مع العلم
بأن العاقلة تحمل العقل وحملها له خارج [عن القاعدة] فإذا
وجد أمثال ذلك [في] قاعدة الشريعة بنينا عليه طرد المعنى
الفقهي المناسب ولم نكع عن التمسك به لورود شيء لم يعلل
وأنا فيما ذكرته على قطع فإن معتمدنا فيما نأتي [ونذر]
ونقبل ونرد من طريق العلل الاتباع للإجماع وقد علمنا قطعا
جريان هذه العلل [في الكليات] وإن استثنى الشارع منها ما
استثنى فمنكر هذه المعاني وقد تأيدت بالإجماع كمنكر أصل
القياس.
والسر في ذلك أن مالا يعقل معناه في مستثنى الشارع
والمستثنى لا يقاس عليه وكأنه منقطع عن كثر الشريعة ولا
يعتبر شيء منه ولا يعترض به على شيء فهذا سبيل إجرائها فإن
كان ينقدح فيها معنى على حال فهو ملتحق بالأقسام المبطلة
التي تقدم ذكرها فهذا بيان الأصل ونحن نضرب أمثالا وننزل
عليها تحقيق ما نبغيه نفيا وإثباتا.
987- فنقول: إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة لمختص
بسببها و [مقتضيها] طردناها غير ملتزمين بتحميل العاقلة
على قطع وتحملهم لا يعترض على ما تمهد من المعنى فلو ظن
ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصلح على السبر مأخوذ
في المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه
من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا [من] القتل الواقع
خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة في الشريعة إنما تجب إذا
كان المعان معسرا وعلى هذا نظمت أبواب النفقات [والكفارات]
فالقاتل خطا يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس
لمثل هذه التخييلات اعتبار.
ج / 2 ص -108-
988- وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات
التي تتشابه أجزاؤها فألزمنا عليها إيجاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم
يحتفل بهذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا
أن اللبن [المحتلب] في أيام ابتلاء الغزارة والبكاءة يقع
مجهول القدر.
فرأى الشافعي رضي الله عنه فيما ورد الشارع فيما يقل ويكثر
إثبات مقدر من جنس درءا للنزاع فإن هذا لا جريان له أصلا
ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة
مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم فيه وإن أمثال هذه المعاني
البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم
البلوى على أنها لو كانت كذلك أيضا لكانت من المعاني
الكلية التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين
جنس التمر كيف يهتدى إلى تعليله؟
وإنما المطلوب فيما فرضنا الكلام في الجنس المعدول إليه لا
في المقدار فإن ما ذكر من دوام النزاع يقدر انقطاعه بتقدير
مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير
الأمثال فاطرد إذا ما ذكرناه واستبان أن أمثال هذه
المستثنيات لا تعترض على القياس المعنوي.
989- ومما يضرب مثلا الكتابة الفاسدة فإذا قال الشافعي
الملك لا ينتقل إلا بمسلك شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة
غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقوع له في مقصود
العقد الصحيح كان ذلك كلاما بالغا حسنا.
فإن ألزم [الخصم] عليه الكتابة الفاسدة فإنها في تحصيل
مقصود الكتابة نازلة منزلة الكتابة الصحيحة.
والوجه أن يقال للملزم أتعترف بخروج الكتابة الفاسدة عن
قاعدة المعاني أو تدعي جريان المعنى فيها؟
فان ادعى جريان المعنى [فيها] فلا يفي بإظهاره إذ ليس في
يدي من يتمسك بالكتابة الفاسدة إلا تشبيه محض ولا يستقل
معنى يصحيحه السبر في إحلال الكتابة الفاسدة محل الكتابة
الصحيحة.
فإن قال الملزم: ليس على المناقض أن يبدي جامعا معنويا بين
صورة النقض وبين محل علة الخصم فتكليفكم إيانا إبداء معنى
التكليف شطط فإن النقض يلزم من جهة قطعة طرد العلة لا من
جهة انتظام رابط بينه وبين محل النزاع وهذه مزلة يجب
ج / 2 ص -109-
التثبت
عندها.
فإنا نقول للخصم: ما رأيك في علة يطردها الطارد ومضمونها:
ألا تزر وزارة وزر أخرى فهل تبطل عندك بتحمل العاقلة العقل
فإن سبق إلى مذهب [من] يبطل العلة بورود مثل ذلك عليه بطل
عليها مذهبه بما تقدم ونسب إلى رد باب عظيم من العلل
المتفق على صحتها فإن الأمة قاطبة مجمعون على طرد هذه
العلة [مع اعترافهم بما شذ منها ولا يحكمون على هذه العلة]
في هذه القاعدة الكلية بالفساد لشذوذ مسألة عن القاعدة
ورأى ذوى الأبصار ألا يحكموا بالشاذ على الكل ولكنهم لا
يتركون الشاذ على شذوذه ويعدونها كالخارج عن المنهاج.
990- وإن قال الملزم: أسلم أن ما ذكرتموه لا يبطل بتحمل
العاقلة قلنا لهم والكتابة الفاسدة عندنا بهذه المثابة.
وآية ذلك: أن معناها الجلي يجري في الكتابة الفاسدة وإن
فسد عوضها فليس يفسد معنى تعليق العتق فيها وهذا يشير إلى
فرق.
قلنا: ما ذكرته خارج عن الطريقة فإنه إيماء إلى وجه من
الصحة لو استمر القول فيه والذي نحاوله ألا يثبت للفاسد
حكم أثبت للصحيح لجلب مسألة.
991- وإن قال الخصم: خذوا الكتابة في منزلة المناقضة شبها
فإن الشبة في الأقيسة صحيح مع افتقارها إلى الجوامع فلأن
يلزم مسلك الشبه نقضا أولى وليس على الناقض جمع.
قلنا: هذا أوان كشف الغطاء في هذه المحال.
فنقول: لا مشابهة بين صحيح الكتابة وصحيح البيع فإذا لم
يتشابها في منزلة الصحة فكيف يتشابهان في الفساد؟
وإن [قنع] الملزم بلفظ يجمع البابين ألزم على مقصوده إيراد
تحمل العاقلة على أبواب الغرامات فلاح بما تمهد أنه لا
متمسك للخصم بالكتابة الفاسدة على وجه لا على سبيل التعليل
ولا على سبيل المناقضة.
992- ومن أمثلة هذا الفصل الاكتفاء بالخرص على من يدعونا
إلى التقدير بالكيل أو الوزن الضابطين فالأصل الضبط
بالممكن في كل جنس ولكن الخرص أثبته الشرع لحاجة في قضية
مخصوصة فهو من المستثنيات ولكن قد ينقدح في هذه.
ج / 2 ص -110-
المحال
أن الوزن أضبط من الكيل ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع
أمكان الوزن فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل
[بالإضافة إلى الوزن].
فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب اتضاح خروج
تحمل العاقلة والكتابة الفاسدة.
والسبب في ذلك ما جاء [به] من المعنى من شوائب التعبد في
تعين الكيل مع إمكان الوزن ولكن وإن كان الأمر كذلك فالأصل
الرجوع إلى العرف فيما يعد تقديرا فالخرص معدود من الحدس
والتخمين المجانب لمدارك اليقين وعلى الجملة بين الداعي
إلى التقدير وبين ملزم الخرص تجاذب وتداور من مثل ما
ذكرناه والوجه درء الخرص بالمسلك الذي ذكرناه كما تقدم.
993- فإن علل معلل في قطع الخيار عند ظن [صفة في العبد
المبيع] من غير تصريح والكلام مفروض في ظهور مخايل وأمارات
مشعرة بالصفة المطلوبة فثبوت الخيار عند التصرية إذا قال
به المعلل [ينقض تعليله] فإن إشعار التصرية بإبداء غزارة
اللبن واضح وليس ببعيد عن مسلك المعنى تعليل الخيار فيه
وإذا لم ينقض تعليله ببعد التعليل [على] حال لزم ما يجري
التعليل فيه نقضا.
فآل [مآل] الكلام إلى أن ما يورد نقضا إن كان لا ينقدح فيه
وجه سديد على جلاء أو خفاء في المعنى فقد استمسك المعلل
بالمعنى ولا مبالاة بما وقع مستثنى عن المسلك الذي
ارتضيناه فإن كان يثبت فيه معنى وإن خفي وبلغ خفاؤه مبلغا
لو عورضت علته بعلة في رتبة علة المعلل لكانت رتبة علة
المعلل مرجحة فالالتباس بين الرتبتين لا ينتهض دارئا للنقض
ولا احتفال بتخيل معنى [كلي] يظنه الظان على بعد كالمعاونة
في تحمل العقل وسبيل تداينه من الكتابة الفاسدة فهذه مجامع
الكلام في ذلك.
994- وقد رسم القاضي رحمه الله مسألة في أن الحكم ببطلان
العلة عند ورود النقص وصحتها قطعي أو ظني وقد ظهر ميله إلى
إلحاق ذلك بالظنيات وقد ذكرنا فيما تقدم أن القاضي إنما
وقف إذ كان النقض لا يعلل وقد بينا في التفصيل الذي انتجز
الآن مدرك الحق وهو مقطوع به عندنا فليتبع الناظر تأمله
وليستعن بالله تعالى.
مسألة:
995- اختلفت مذاهب الأصوليين في أن علة الشارع هل يرد
عليها ما يخالف
ج / 2 ص -111-
طردها
فذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع في علة الشارع من جهة
أن قوله متبع في تخصيصه وتعميمه [و] لا معترض عليه إذا خصص
علة بمحل ولم يعملها في غير ما نص عليه والمستنبط معتمدة
ظنه وإذا تقاعد المستنبط عن الجريان ضعف مسلك ظنه وليس له
أن يحتكم بتخصيص العلة.
996- وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن علة الشارع يجب طردها
كما يجب في العلة المستنبطة.
997- وهذه المسألة عندنا قريبة المأخذ نزرة الفائدة ليس
فيها جدوى من طريق المعنى والوجه فيها أن ما نصبه الشارع
على صيغة العلة إن لم يكن نصا في كونه علة بل كان ظاهرا في
هذا الغرض فإذا ورد عليه ما يمنع جريان العلة فيظهر منه أن
الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك منه في مقتضى [لفظه]
وتخصيص الظواهر ليس بدعا.
وأن نص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل تصدى في ذلك
نوع آخر من النظر وهو أن ما نصبه علة إن عم نصبه على صفة
لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرد العلة فيها
[فلا] مطمع في اعتراض ما يخالف طرد العلة وقد ثبت والأمر
على ما صورناه على القطع أمران:
أحدهما: انتصاب المعنى المذكور علة،
والآخر: جريانه على اطراد من غير اعتراض
مخالف ونص الشارع لا يصادم.
وإن نص الشارع على نصب شيء على الجملة ونص على تخصيصه في
كونه علة بمسائل معدودة ومواقع محدودة فليس يمتنع ذلك على
هذا الوجه فإن علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها وأعيانها
وإنما تصير أعلاما عليها إذا نصبت ثم إذا نصبها الشارع في
محال على الخصوص دون غيرها فلا معترض عليه في تنصيصه
وتخصيصه.
ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم
يجر في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول ولا
تنصيص على التخصيص بمواقع مخصوصة فحكم هذا اللفظ الإجراء
على العموم ولكن لا يمنع قيام دليل على تخصيص العلة ببعض
الصور.
998- فأما ما ذكرنا أن للشارع أن يصرح بالتخصيص ولا يكون
في تصريحه.
ج / 2 ص -112-
بالتخصيص تناقض مع التنصيص على التعليل في موقع الخصوص
فإذا كان لا يمتنع التصريح [بهذا وليس في اللفظ ما يأباه
إباء النصوص وليس يمتنع إزالة الظواهر] فيخرج من مجموع ذلك
أنه لا يمتنع تخصيص العلة ببعض المسائل.
999- والأستاذ أبو إسحاق يمنع النص على التعليل على وجه لا
يقبل التأويل مع تجويز التخصيص ويقول: إن تعرض اللفظ لقبول
الخصوص في جريانه لزم أن يكون في وضعه متعرضا للحمل على
غير قصد التعليل ولو كان نصا في قصد التعليل فهو نص في قصد
التعميم إذ لو لم يكن كذلك لكان خروجه عن حكم العلة في بعض
المسائل متضمنا خروجه عن حقيقة العلة في أصل الوضع وذلك
يخالف موجب التنصيص على كونه علة.
وهذا الذي ذكره يعترض عليه التنصيص على النصب مع التنصيص
على التخصيص ببعض المسائل فإن ذلك سائغ في الوضع ولو كان
التخصيص ببعض المحال مخرجا للمنصوب عن كونه علما لكان
الجمع بين التنصيص على النصب والتخصيص متناقضا وفي كلام
الأستاذ تشبيب بمنع هذا وهو في مجاري كلامه جسور هجوم على
منع ما لا سبيل إلى منعه فإن قدر منه القول بهذا رد الكلام
معه إلى ما تقدم ذكره من كون هذا غير ممتنع من جهة أن
أعلام الأحكام لا تقتضيها لأعيانها وإنما معنى كونها عللا
أنها أعلام تنتصب بنصب الشارع.
وإذا كان كذلك [فلا معترض] على من ينصب علما في تعميمه
وتخصيصه ولذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع علما مثله متى طرده
ولم يتضمن إشعارا ولا شبها مقبولا.
1000- فهذا منتهى القول في هذا الفصل.
وعلى الجملة تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع
فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره وإنما له النظر
إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون وإذا لم تجر العلة
عامة فقد وهى ظنه على ما فصلنا القول في ذلك كما نفصل
القول فيه قبل أن بينا المختار فيما يجوز ويمتنع
ج / 2 ص -113-
فصل:
[في] توابع
القول في النقض جدلي يعين على مدرك المقصود المعنوي.
1001- فإذا نصب الناصب علما مستنبطا وذكر لفظا مقتضاه
العموم فطرا نقص فقال: أخصص لفظي بغير المسألة الواردة
نقضا فإن [تقييد] اللفظ إلى فكيف السبيل إلى ذلك؟ والقول
في هذا يتصل الآن بتفسير العلم وما يقبل منه وما لا يقبل.
وأما التخصيص: فيترتب الأمر فيه على ما يسوغ ويمتنع من
طريق المعنى أولا فإن خصص تخصيصا يمنعه فهو غير مقبول منه
وقد [ذكرنا] في تفصيل المعنى المقصود من هذا الفصل ما يبطل
العلة من [النقوض] وإن كان ذكر تخصيصا لو صرح به لم يمتنع
مثل أن تكون المسألة الواردة غير معللة وقد تقرر أن ما لا
يعلل في حكم المستثنى فإذا أطلق المعلل [لفظه] عاما ثم لما
ورد عليه مثل ما وصفناه الآن حاول تخصيص [عموم لفظه فهذا
الآن تعلق بالجدل فإن المسألة الواردة ليست مبطلة من طريق]
المعنى.
فقال قائلون من الجدليين: إطلاقه لفظه إشارة في بناء
الكلام منه فإنه معمم للكلام ملتزم طردا فإذا وردت المسألة
بإزائه لم يف بما التزمه.
1002- ونحن نقول: الأحسن أن يشير إلى ما يرد تصريحا
وتلويحا مثل أن يقول هذه علة ما لم يستثن الشارع فإن لم
يتعرض لهذا فلا معاب فإن العلل إنما يلتزم المستنبط طردها
إذا لم يحتكم الشارع في استخراج بعض المسائل فليس على من
يطرد علة في الغرم على المتلف أو علة في نفي الغرم على من
لم يتلف التعرض للعاقلة وحملها وهذا يظهر في الذي طرأ
استثناؤه والقول في ذلك كله قريب من المعنى واعتقاد كون
الوارد غير خارج.
1003- ومما يتعلق بالتفسير أن المعلل إذا ذكر لفظة مجملة
ثم استفسر السائل ففسرها فقد اختلف الجدليون في ذلك فجوزه
بعضهم وامتنع منه المحققون فإن الغرض من المناظرة التفاوض
بما يعلم ويفهم ومن ذكر لفظا مجملا وسكت عنه فحاله مشعر
بإسعافه على قطع السائل الطالب بالدليل ومن حكم إسعافه
إياه أن [يفهمه] ما طلبه وإذا لم يفهمه فقد أظهر أنه مسعف
والأمر على خلاف ما أظهر.
فإن ذكر لفظا مفهوما في وضعه واستراب السائل فيه واستفسر
فالذي يأتي
ج / 2 ص -114-
به
المجيب من إرشاد وهداية ليس تفسيرا وإنما هو تنبيه للسائل
على قصوره عن درك ما هو مفهوم في وضعه ويخرج من جملة ذلك
أنه ليس على المعلل تفسير فيما ذكرناه.
فإن أتى بمجمل فقد قصر وعد ذلك من سوء الإيراد وإن لم يكن
منقطعا في المعنى فإن أتى بلفظ مستقل مفهوم في وضع اللسان
فلا حاجة إلى التفسير والذي نذكره عند [الاستبهام] على
السائل سبر تقصير لا سبر تفسير وقد [نجز القول] في النقض
وهو في التحقيق تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة ونحن
نبتدىء الآن:
القول في تخلف العلة مع جريان الحكم.
[الخامس من الاعتراضات].
1004- وهو الاعتراض المترجم بعدم التأثير1 ونحن نجري في
رسم هذا الفن على مسالك الأولين وتقسيمهم ثم نذكر بعد نقل
مراسمهم وجه التحقيق إن شاء الله تعالى.
1005- قال أصحاب الجدل: عدم التأثير ينقسم:
إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها.
[فأما] الواقع في [الوصف]2 فهو عدم الانعكاس وقد سبق في
ذلك قول بين بالغ يطلع على الأسرار والنهايات ونحن نذكر
الآن ما يليق بهذا المقام ولا نغادر مضطربا معنويا ولا
جدليا.
فنقول: العلة [المعنوية] إذا اطردت فإنها كما تشعر بالحكم
في اطرادها فقد يشعر عدمها بعدم الحكم [على حال] ولكن لا
يبلغ [إشعار] العدم بانتفاء الحكم [مبلغ] إشعار الوجود
بالوجود.
وسبب ذلك أنه لا يمتنع في وضع المعاني ارتباط حكم بعلل
تجويزا وإن كنا ادعينا فيما تقدم أن ذلك غير واقع وأن ما
ظنه الخائضون في هذا الفن حكما معللا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر جماعة من الأصوليين أن هذا الاعتراض قوي. حتى قال
ابن الصباغ: إنه من أصح ما يعترض به على العلة."أرشاد
الفحول" "ص 227".
2 إرشاد الفحول "ص 227".
ج / 2 ص -115-
بعلل
في التحقيق أحكام وهو كقولهم تحريم المحرمة الصائمة
المعتدة الحائض معلل بهذه العلل المزدحمة وقد ذكرنا أن كل
قضية من هذه القضايا توجب حكما مغايرا لحكم القضية فلا
يعدم الأنيس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات
بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف.
وقد يظن الظان [في هذا المقام] أن المسئول إذا فرض الكلام
في طرف من أطراف المسألة لغرض وإيضاح كلام فصورة الغرض
تختص بعلة وتشبهها مع سائر الأطراف علة عامة وإذا كان كذلك
فقد علل الحكم في هذا الطرف بعلة خاصة هي مقصود الفارض
وعلة عامة وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر.
1006- وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فأقول.
إذا قدم الغاصب الطعام [المغصوب] إلى إنسان مضيفا فأكله
المضاف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في
قول الشافعي على المقدم ومعتمد هذا القول تقدير التغرير
وكون [الغرور] مناطا للضمان.
وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك
الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا [موجرا] كما إذا
كان مختارا في التناول.
فإذا فرض الفارض الكلام في صورة [الإكراه] فهذه الصورة لا
يجرى فيها عموم التعليل بالتغرير إذ الإجبار ينافى
الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض الاختيار في المغرور مع
استناد اختياره إلى اغتراره فأما المجبر المكره فلا يتصور
تصوره مغترا وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى.
فهذا النوع من الفرض غير معنى من جهة أنه يجانب محل السؤال
أولا [والفرض] المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم
سؤال السائل وذلك محمول على استشعاره انتشار الكلام في
جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها
فإذا فرض المجيب فيستفيد بالفرض فيه التعريف على قرب ومهما
تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السائل لم يكن
للكلام وجه إلا البناء إذ له أن يثبت كلاما في غير محل
السؤال ثم يبنى عليه محل السؤال وليس [ذلك] من الفرض وإنما
هو بناء.
ولست أرى في البناء في المسألة التي فرضناها وجها فإنه إذا
ثبت [أن] الضمان
ج / 2 ص -116-
لا
يستقر على المكره فكيف ينبني عليه عدم القرار على المختار
الطاعم ولا معتمد في التقدير على المختار إلا الاغترار؟
وهو مفقود في [الإجبار] وشرط البناء جمع فقيه بين ما عليه
البناء وبين محل السؤال.
نعم أساء أبو حنيفة رحمه الله إذ قرر الضمان على من لا
اختيار له إساءة لا ارتباط لها بمأخذ الكلام في صورة
الغرور.
1007- ونحن نفرض صورة من الفرض المستحسن يتبين بها قصارى
المقصود فنقول: إذا سأل السائل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله
يعم المعتق المعسر والموسر [و] إذا رأى المسئول [فرض
الكلام] في المعسر فمحمل كلامه يندرج تحت سؤال السائل
والفارض يستفيد بالفرض في المعسر أمرين:
أحدهما: دفع أسئلة قد يعتاص الجواب عنها
على [البكي] الذي لا تطاوعه العبارة فإن من أسئلة الخصم
سريان العتق إلى ملك الشريك فإذا كان يسرى سلطانه إلى غير
ملك المعتق فقد يبعد عن محل ملكه مع صحة عبارته فإذا وقع
الفرض في المعسر فلا يلزم في أطراف الكلام سريان العتق فإن
عتق المعسر غير سار على أصل الشافعي فهذه فائدة.
وأعلى منها أن الخصم قد يتمسك في أطراف الكلام في أن قيمة
العبد في فرض المالية نازلة منزلة العبد فليس الراهن
المعتق [مفوتا على المرتهن] غرضه من الاستيثاق بالمالية
فإذا أقام قيمة العبد رهنا مقامه فهو غير معترض على محل حق
المرتهن.
وهذا الفن من الكلام لا حقيقة له إذ ليس هو معنى من ينفذ
عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة
القيمة مقامه بل سبب نفوذه صحة عبارته وثبوت ملكه فيستفيد
الفارض بفرضه دفع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها
[فليكن] قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك.
1008- والآن نذكر في هذا الفن الغرض الذي استفتحنا القول
في الفرض لأجله فنقول: يتجه للفارض في المعسر أن يقول:
استأصل المعتق المعسر لو نفذ عتقه حق المرتهن بكماله مشيرا
إلى أنه لا يجد ما يبذله غارما فيظهر كلامه من جهة
الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق
بالكلية.
وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول: من منع نفوذ
العتق يكتفى بما
ج / 2 ص -117-
يقرره
بأن نفوذ العتق لو قبل منه أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في
عين الرهن فإذا كفى هذا فأي حاجة إلى التعرض لقطع المالية
وحسم الطلب في القيمة يوشك لو تفطن الفارض أنه يقع في
المحذور الذي نبهنا عليه الآن وهو النطق بما لا اعتناء به
ولا وقع له.
فإن قال قائل: ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة
إحداهما قطع المالية بالكلية والثانية قطع حق المرتهن عن
العين المخصوصة فيكون امتناع النفوذ معللا بعلة خاصة وهي
قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق عن عين العبد [فإن]
هذا مما يعم الموسر والمعسر وإنما تتبعنا هذا الكلام مع
فوائد جمة لهذا الغرض.
1009- ونحن نقول: هذا ليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في
حق المرتهن وإنما المعتبر حق استيثاقه بعين يتمسك به إذا
اعترض له توقعات العسر في الذي يقع في الذمم وهو [يأنس]
مستوثقا بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الرهن وإذا لم
يكن الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا
السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الراهن إتلاف الرهن
فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع إثبات
الضمان جبرانا لكل فائت فلا ينبغي أن تعد قضايا الشرع في
مظان الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول.
وهذا يناظر عندي مسلكين في توزيع العوض على مختلفين في أحد
شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف أحد
العوضين.
1010- وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا التوزيع مقصود العقد
كما نبهت عليه في مسألة العجوة في "الأساليب" وهذا زلل في
سوء مدرك فإن العقد ما انبنى على التوزيع وإنما هو أمر
ضروري أحوج إثبات الشفعة إليه وهو إذ ذاك أقرب معتبر.
1011- وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين
الموسر صار إلى أن الراهن إذا كان موسرا نفذ عتقه ويلزمه
إحلال القيمة محل العبد وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه لتعذر
تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه لو قدر نفوذه إلى إبطال اختصاص
المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه [ذلك] بتفصيل مذهبه في
تسرية عتق الشريك إذا كان موسرا ومنع تسريته إذا كان معسرا
فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوف إلى
اعتبار انقطاع علقة المرتهن من غرض الوثيقة بالكلية وليس
لبطلان حق المرتهن من غير الراهن عنده وقع أصلا ولذلك يبعد
عتق الموسر.
ج / 2 ص -118-
الراهن
فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة الفرض.
1012- ومما نجريه مثالا في ذلك أن الشافعي رحمه الله إذا
فرض [من هو على مذهبه] الكلام في مسألة ضمان المنافع في
طرف الإتلاف وطرد ما يرتضيه فيه فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع
في هذا الفرض معنيان.
أحدهما: الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى
أسباب الضمان ولذلك [اختار] الفارض [تعيين هذا] الطرف
وتخصيصه بالكلام المختص به وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف
تحت اليد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين
لحكم واحد.
1013- ونحن نقول فيه: العلة في الضمان الإتلاف في هذه
الصورة فحسب فإن التلف [الحاصل] تحت اليد العادية إنما
يضمن من جهة اعتداء ذي اليد ومنعه الحق مستحقه فصار الضياع
الذي وقع مساويا في أطراد منع المعتدى مشبها بالإتلاف فإذا
تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه
بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع
المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال.
1014- وأنا أشبه هذا المساق من الكلام بمسألة أصولية
ذكرناها في أوائل هذا المجموع وهي قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"1
فقد ذهب ذاهبون إلى أن الصيغة عامة في نفي الكمال والجواز
وهذا زلل فإن العموم إنما يتحقق إذا أمكن اعتقاد اجتماع
المسميات تحت قضية اللفظ المقدر عاما حتى يكون اللفظ شاملا
لها وهذا لا يتحقق فيما فيه الكلام فإن الجواز إذا انتفى
لم يتحقق مع انتفائه تخيل نفى الكمال إذ من ضرورة نفى
الكمال [إجزاء] الشيء وجوازه على حكم النقصان وقد قررنا
ذلك بما فيه أكمل مقنع.
1015- وقد تبين بمجموع ما ذكرناه في تقاسيم الفرض أنه لا
يكاد يجتمع معنيان وقوعا يصلح كل واحد منهما لتعليل الحكم
الواحد ولكن إن لم يقع هذا ولم يتفق فليس في العقل عند
النظر في قواعد الشرع بالتعبد ما يحيل ذلك.
ولو قدرنا وقوع هذا المجوز لما اقتضى انتفاؤه معنى عدم
الحكم إذ الحكم في هذا التقدير مستقل بما بقى من المعاني
فليس إشعار عدم المعنى بانتفاء الحكم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
ج / 2 ص -119-
نحو
إشعار ثبوت المعنى بثبوت الحكم.
1016- وأقرب مثال فيما نحاوله من الفصل بين الإشعارين أن
نقول العلة المفردة المعنوية تناسب الحكم مناسبة الاستقلال
بالاقتضاء ولو فرضت علة مركبة من صفات فقهية فلا يناسب وصف
واحد من الأوصاف الحكم واقتضاءه مناسبة العلة المفردة
المستقلة ولكنه لا يعرى عن مناسبة لائقة بالحكم مستمدة من
قضية فقهية الأوصاف.
فلو قدرنا عللا وقدرنا انتفاء جميعها ولم يرد شرع باطراد
الحكم مع انتفاء جميع العلل فإن الحكم ينتفي عند ارتفاض
العلل جميعا إذ يستحيل [تقدير] بقاء الحكم غير مرتبط بوصف
أو علة وإذا زال بعضها كان لزوال البعض أثر في [النفس]
يضاهي زوال ترجيح وتأكد ونحن لا ننكر اجتماع الترجيحات
وزوال وصف واحد من العلة [المركبة من الأوصاف تتضمن انتفاء
الحكم لاختلال العلة] إذ هي مركبة وشرطها تكامل أوصافها
فكان انتفاء الحكم محالا على [اختلال] العلة أصلا ولم
[نورد] الوصف الواحد مثلا ونحن [نريد أن نشبهه] في كل
الوجوه بآحاد العلل عند [تقدير] اجتماعها وإنما أوردناه
لانحطاط حظه من الإشعار عن حظ العلة المستقلة عند تكامل
الصفات فكل وصف من أوصاف العلة عند توافيها على حظ وكل علة
من العلل التي قدرنا اجتماعها إذا انتفت على حظ من اقتضاء
الانتفاء فشابه خفاء إشعار انتفاء علة من علل بانتفاء
الحكم خفاء إشعار آحاد الصفات عند توافيها بالحكم.
1017- وإذا تقرر ما ذكرناه فنقول بعده إذا طرد المعلل علة
فاطردت له وهو يعتقد اتحاد العلة ولو يقم عنده توقيف في
ثبوت الحكم عند انتفاء العلة فإنه يعتقد لا محالة انتفاء
الحكم عند انتفاء العلة ويلتزم ذلك غير أنه لا يلزمه في
مراسم الجدل أن يبدي توقيفا مقتضيا منع الانعكاس إن كانت
العلة لا تنعكس.
1018- وهذا يستدعي مزيد كشف الآن.
فنقول والله المستعان قد ذكرنا ترددا في أن العلة إذا
امتنع اطرادها بمسألة غير معللة مستندها توقيف فهل يتضمن
[ذلك] بطلان العلة؟ وهل يوهى مسلك ظن المستنبط في روم
الطرد؟ فمن سبق إلى اعتقاد كون هذا قاطعا للطرد لا يقول
إذا قام توقيف مانع من الانعكاس تضمن ذلك بطلان روم الطرد
وذلك الإشعار لا يحط
ج / 2 ص -120-
الإشعار بالعكس عن الإشعار بالطرد.
على أنا ذكرنا أن الطرد لا ينقطع بمواقع الاستثناء أصلا
ومن اعتقد انقطاعه فقوله أقرب من قول من يصير إلى عدم
الانعكاس متضمن بطلان الطرد.
فليفهم الناظر ما يلقى إليه من تفاوت المراتب في مآخذ
النظر إن كانت مستوية في عقده.
ولهذا المعنى نقول: إذا اعترضت مسألة على مناقضة الطرد غير
معللة فعلى المتمسك بالعلة أن يبين خروج المسألة المعترضة
عن المعللات والتحاقها بالمستثنيات في أدب الجدل وليس على
من ألزم عدم الانعكاس أن يبين السبب التوقيفي المانع من
الانعكاس فإن ذلك لو فرض الخوض فيه كان داعية إلى انتشار
الكلام والخروج عن الضبط الجدلي وإن كنا نرى أن العلل غير
مجتمعة وقوعا وعلى المجتهد فيها أن يبحث عن طرق المناظر في
الطرد والعكس وليس كل ما يلتزمه المجتهد في ترددات اجتهاده
يذكره في مفاوضة من يناظره.
1019- فإن قيل: هل يسوغ أن يضع المستدل كلامه مبنيا على
الدعاء إلى العكس؟
قلنا: لا يستقل في هذا كلامه المطلق بل يحتاج إلى أن يقرر
معناه ويبين فساد ما عداه مما انتحله الخصم وادعاه ثم يشير
إلى [انتفاء] التوقيف المانع من الوفاء بالعكس فينتظم من
مجموع ذلك الدعاء إلى العكس لما ذكرناه من الإشعار [الخفي]
به وعليه يخرج التعلق بالعلة القاصرة حيث يصح ويظهر بطلان
ما يقدر متعديا فيدعو المتمسك بالعلة القاصرة خصمه إلى
الوفاء بمقتضى العكس وسيكون لنا إلى ذلك عودة إن شاء الله
تعالى عند الكلام في العلة القاصرة.
فهذا هو الذي أردنا إيراده في حقائق العكس في هذا المقام
وقد يخرج ذلك في الاستدلال أيضا.
وكل ما ذكرناه معدود عند أصحاب الجدل من عدم التأثير في
الوصف.
ج / 2 ص -121-
الكلام عن عدم التأثير في الأصل.
1020- فأما
ما عد من عدم التأثير في الأصل1 فنحن نمثله ونتكلم عليه
فنقول: إذا علل الشافعي منع نكاح الأمة الكتابية وقال: أمة
كافرة فلا يحل لمسلم [نكاحها] كالأمة المجوسية ولا أثر
للفرق في الأصل [فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس يستقل
بإثارة منع النكاح والرق مستغنى عنه وذكر الرق عديم
التأثير في الأصل] والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما
ذكرناه.
وذهب ذاهبون إلى أن التمسك بذلك صحيح من جهة أن للرق أثرا
على الجملة في المنع فذكره مع التمجس ليس عريا عن إشعار
وإن كان لا يحتاج إليه.
وزعم هؤلاء أن هذه الزيادة مع ما فيها من الإشعار بالمنع
على خفاء مشبهة بشهادة شاهد ثالث وقد استقلت الحكومة
بشهادة عدلين.
وهذا غير سديد فإن الرق في الأصل ليس علة ولا وصفا لعلة
فوقع التعرض له لغوا ولا حكم له لما فيه من الإشعار على
بعد إذ كان لا ينتهض علة ولا ركنا لعلة وليس هذا كما
استشهد به من يصحح ذلك في شهادة الشاهد الثالث فإن ذلك
استظهار في الحكومة والشاهد الثالث متهيئ لأن يقدر أحد
الشاهدين الواقعين ركنا ولا يتصور أن يقع الرق المجرد ركنا
في محاولة التحريم على التعميم فقد نأى ما نحن فيه عما
استشهد به من تقدم وتعين القول قطعا من سقوط العلة.
1021- وما ذكرناه فيه إذا كان للوصف أثر على بعد في أصل
الحكم المطلوب وإن كان لا يؤثر في تفصيله.
فأما إذا كان الوصف الزائد غير محتاج إليه ولم يكن معه
إشعار نظر فإن لم يكن في ذكره غرض فهذا لغو لا وقع له ولا
يقضى بأنه يبطل العلة إذا كانت مستقلة مع حذف الزيادة ولكن
ينسب ذاكرها إلى الهذر وذكر ما لا يحتاج إليه وهذا في
مراسم الجدل كترك السنن والهيئات في العبادات.
ولو كانت العلة تنتقض لو قدر حذف الزيادة والزيادة لا
إشعار لها فهي عند المحققين منحذفة غير عاصمة من النقض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إرشاد الفحول "ص 227".
ج / 2 ص -122-
وذهب
القائلون بالطرد إلى قبول هذا ورأوا ذلك أولى من الطرد
المجرد من حيث انطوت العلة على فقه على حال ووجه ولصاحب
هذه الزيادة درء النقض.
1022- ونحن نقول: إن كان النقض ينفصل عن محل العلة فذاكر
العلة غير آت بتمام العلة ولا يقع الانفصال بالزيادة التي
أثبتها والعلة باطلة.
وإن كانت المسألة المعترضة [غير معللة فلا ضير في ذكر
الزيادة فإنها منبهة على كون المسألة المعترضة] ملتحقة
باستثناء الشارع وقد جرى التنبيه على ذلك.
وتقدم فهذا تمام القول فيما أردناه.
1023- وعلينا الآن فضل كلام في فصل الأصحاب بين عدم
التأثير في الوصف [وعدم] التأثير في الأصل.
فنقول: عد الجدليون عدم التأثير في الوصف قولا في العكس
كما تفصل وفسروا عدم التأثير في الأصل بذكر صفة لا تستقل
علة وعلة الأصل تستقل دونها والذي نراه أن القسمين ينشآن
من الأصل فإن فرض الأصل معللا بعلل [فالعلة] الواحدة لا
يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم وهذا منشؤه من تعدد العلة في
الأصل وإن اتحدت العلة جر ذلك الانعكاس والقول في ذلك كما
مضى.
فوضح أن تقسيم الكلام إلى الأصل والوصف لا حاصل له.
1024- ونحن الآن نسرد في بسط المقالات كلاما مجموعا في
الخلاف والوفاق حتى يجدها الناظر مجموعة فقد أطلنا
[التقرير] بعض الإطالة فنقول:
ذهب شرذمة إلى اشتراط الانعكاس جملة وهذا مذهب مهجور وعلى
قلة البصيرة محمول ولست أعدها مقالة معتدا بها فأما التزام
الانعكاس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع منه فلا بد.
منه عندنا وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يلزم لأن إشعار النفي
كالمنفى والمقصود طرد خفي لا استقلال له.
والإنصاف في ذلك أن يقال: إنه لا يلزم في الاجتهاد
والمطالبة به لا تحسن في الجدل والمعلل إذا ألزم فله
الاكتفاء برد الأمر إلى إبهام في المانع من العكس فهذا
بيان المقالات في العكس.
ج / 2 ص -123-
1025- فأما ما به قوة عدم التأثير في الأصل فينقسم إلى
مخيل وإلى ما لا يخيل.
فأما الصفة المشعرة إذا كانت علة الأصل يستقل دونها الحكم
وهي لا تستقل علة فالوجه القطع ببطلانها ومن الجدليين من
لم يبطلها.
وإن لم تكن مناسبة [ولا] حاجة فهي من اللغو كما مضى وإن
رام المعلل بها دفع نقض فهذا على ما تقدم شرحه فمن الناس
من قبله.
والمختار عندنا أن النقض إن كان فقهيا لم تغن هذه الصفة
والوجه ذكر الفقه الفاصل بين ما اعترض به وبين محل العلة
وإن كان الغرض من ذكرها التنبيه على مسألة غير معللة فهذا
مستحسن ولكنه لا يلزم الذكر في الرأي الواضح فهذه مجامع
المذاهب وقد نجز بنجازها القول في عدم التأثير
و [الخامس] من الاعتراضات: فساد الوضع1:
1026 - وهو على أنحاء وأقسام [وحاصل] القول فيه يحصره
نوعان.
أحدهما: أن يبين المعترض أن القياس موضوع
على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة وهذا يشمل فنونا وقد تقدم
القول فيها.
أحدها: أن يكون على مخالفة الكتاب،
والآخر: أن يكون على مخالفة السنة والكتاب
والسنة مقدمان على قياس المستنبط وكذلك القول في الخبر
الذي ينقله الآحاد على الصحة المألوفة في أمثالها فخبر
الواحد مقدم كما تقدم ذكره.
ومن هذا الفن محاولة الجمع بالقياس بين شيئين فرق بينهما
الخبر أو محاولة الفرق بين شيئين اقتضى الخبر الجمع
بينهما.
ولا معنى لتعديد وجوه المخالفات فإنها ترتبط بالتزام عد
مقتضيات الشرع ولا معنى للإسهاب بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بإبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص
بأن يبين المعترض أن الجامع الذي ثبت به الحكم قد ثبت
اعتبار بنص أو إجماع في نقيض الحكم والوصف الواحد لا يثبت
به النقيضان ذلك بأن يكون أحدهما مضيقا والآخر موسعا أو
أحدهما مخففا والآخر مغلظا أو أحدهما إثباتا والآخر نفيا
"إرشاد الفحول" "ص 230".
ج / 2 ص -124-
ويكفى
فيما نرومه أن القياس إذا خالف وضعه موجب متمسك في الشرع
هو مقدم على القياس والقياس مردود فاسد الوضع [فهذا أحد
النوعين].
1027-
والنوع الثاني: أن يقع المعنى الذي ربط
القايس الحكم به مشعرا بنقيض قصد القايس وهذا بالغ في
إفساد القياس وهو زائد على إفساد القياس على الطرد وقد
قدمنا أن الطرد إنما يرد من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا
يشعر به [فالذي لا يشعر به] بل يشعر بخلافه [أولى] أن يرد
وهذا كذكر سبب يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من
ذلك.
مسألة:
1028- إذا اعتبر القايس القصاص بالدية في الثبوت على
الشركاء حيث يبغى ذلك أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط
حين يلتمسه أو قاس الحد على المهر [في طلب الثبوت أو المهر
على الحد] في محاولة السقوط فقد أطلق طوائف من الجدليين
أقوالهم بفساد القياس صائرين إلى أن العقوبات تدرأ
بالشبهات وأروش الجنايات تثبت الشبهات فاعتبار أحد البابين
بالآخر فاسد الوضع.
1029- وسنبين القياس الصحيح باعتبار ما يسقط بالشبهة [بما]
لا يسقط بها أو على العكس وهذا أطلقه حذاق في كتبهم.
وليس الأمر عندي كذلك على الإطلاق فإن المهر وإن كان قد
يجب مع الشبهة فلا يقضى الشرع بثبوته أبدا ولكنه قد يسقط
في بعض الأحوال [وكذلك القصاص] فإن كان يتعرض للسقوط
بالشبهة فلا شك أنه [يجب] في بعض الأحوال.
فإذا تعرض القايس لحالة يقتضى حكم الإخالة فيها اجتماع
القصاص والدية في السقوط واجتماعهما في الثبوت فقد تعرض
جاريا لتبيين الرشاد والسداد وليس يلتزم القايس في التفصيل
قياس باب القصاص على باب الدية فلو حاول ذلك لكان مبطلا.
فتحصل من مجموع ذلك أن المتبع في هذا أن اعتبار الباب
بالباب مع افتراقهما في أصل الوضع محال متناقض لما عليه
وضع الشرع.
وذلك إذا التزم الجامع أن يجب القصاص حيث تجب الدية أو
تسقط الدية حيث يسقط القصاص.
ج / 2 ص -125-
1030- فأما إذا كان القياس جزئيا ناصا على بعض الصور فينظر
في الجامع فإن أخال وصح على الطرد حكم بصحته.
وإن لم يخل أو صادف صورة يقتضى وضع الباب مفارقة أحدهما
الثاني في صورة الجمع فالقياس فاسد في وضعه.
وعلى هذا النسق لا يطلق القول ببطلان قياس الرخص على
الوظائف الثابتة ولا ننكر أيضا عكس ذلك.
1031- والغرض من مضمون هذه المسألة أن افتراق البابين على
الجملة فيما نحن فيه ليس يوجب افتراقهما أبدا بل إن أطلق
ذلك فالمراد به الافتراق في خصوص أحكام في صورة معينة
فليجتنب الجامع في جمعه محل افتراق البابين وليلزم مع هذا
الاجتناب شرائط الأقيسة فهذا الرشد والمسلك القصد.
و
السادس- من الاعتراضات- القلب1:
1032- وهو ينقسم إلى قلب فيه التصريح بالحكم وإلى قلب وضعه
إبهام الغرض.
فأما القلب الصريح: فقد مثله أهل هذا الشأن [بأن] الشافعي
إذا قال عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر الفرض فيه بالربع
قياسا على سائر الأعضاء فيقول الحنفي عضو من أعضاء الطهارة
فلا يكتفي فيه بما ينطلق عليه الاسم قياسا على سائر
الأعضاء وهو مما ظهر فيه الاختلاف.
1033- فذهب ذاهبون إلى رده وتمسكوا بأن ما جاء به القالب
ليس مناقضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلب الآمدي: هو أن يبين القالب أن ما ذكره المستدل عليه
لا له أو يدب عليه وله والأول قلما يتفق في الأقيسة ومثله
في النصوص باستدلال الحنفي في توريث الخال بقوله صلى عليه
وسلم: "الخال وارث من لا وارث له" فأثبت إرثه عند عدم
الوارث فيقول المعترض: هذا توريث الخال بطريق المبالغة كما
يقال: الجوع زاد من لا زاد له والصبر حيلة من لا حيلة له
أي: ليس الجوع زاد ولا الصبر حيلة قال الرازي في
"المحصول": القلب معارضة إلا في الأمرين:
أحدهما: أنه لا يمكن فيه الزيادة في العلة وسائر المعارضات
يمكن.
الثاني: لا يمكن منع وجود العلة في الفرع والأصل لأن أصله
وفرعه أصل المعلل وفرعه ويمكن ذلك في سائر المعارضات أي:
فيما وراء هذين الوجهين فلا فرق بينه وبين المعارضة "إرشاد
الفحول" "ص 227, 228".
ج / 2 ص -126-
لمقصود
المعلل ومقصود المعلل نفى التقدير بالربع وضده أن يتقدر
بالربع فلا يستمكن القالب من ذلك أبدا فإن أصل المعلل
والقالب واحد ولا يتصور أن يشهد أصل واحد على التصريح
بنقيضين وإن فرض إجزاء ذلك فالأصل يشهد لأحد الوجهين دون
الثاني فالقلب إذا حائد عن مقصد المعلل ومحل العلة وهو في
حكم معارضة في غير محل التعليل والمعارضة إذا لم تجر على
المناقضة المحققة بموجب العلة فهي غير قادحة لوقوعها
مجانبة لمقصود العلة.
1034- ومن قال: إن القلب قادح استدل بأن العلة وقلبها في
الصورة التي ذكرناها مشتملان على حكمين لا سبيل إلى الجمع
بينهما فإن من يكتفي بالاسم لا يقدر ومن يقدر لا يكتفي
بالاسم فإذا كان كذلك فقد تحقق اشتمال العلة والقلب على
أمرين لا يتأتى التزام جمعهما على الموافقة فكان ذلك
كالتصريح بالمناقضة.
1035- ثم للقلب عند القائل به مرتبة على المعارضة من جهة
أن العلتين المتعارضتين تعتزى كل واحدة منهما إلى أصل لا
يشهد للعلة الأخرى والأصل متحد في العلة وقلبها [فكان ذلك
أبين] في التناقض.
ومن أسرار هذا أن القالب لا يأتي بالقلب وهو يجوز كونه
متعلقا بما يريده ولو كان رام ذلك لكانت العلة قلبا لما
يبغيه فإن كان القلب قادحا من جهة كونه قلبا فعلة الخصم
قلب القلب فإذا وضع القالب على الإبطال وهو في حكم معارضة
الفاسد بالفاسد وإبانة عدم شهادة الأصل على المراد فالعلة
إذا عورضت بأخرى فلا يمتنع ارتباط الحكم بإحداهما للترجيح
كما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى فهذا مغزى قول
الفريقين.
1036- ونحن نقول: ما وقع الاستشهاد به في حكم مسح الرأس
باطل [لا] من جهة القلب ولكن من جهة جريان الكلام من
الجانبين طردا فإن إطلاق اسم العضو لا يشعر بمقصود المعلل
ولا مقصود القالب فخرج الكلامان عن رتبة الإشعار ووقعا
طردين.
فإن قيل: إن لم [يستد] القياس المعنوي فهلا قدر أحد
الكلامين شبها وهلا قدرا شبهين متعارضين قلنا ما نرى الأمر
كذلك فإن أعضاء الوضوء غير متشابهة لا في أقدار محل الفرض
ولا في كيفية تأدية الفرض إذ بعضها مستوعب وبعضها غير
مستوعب وبعضها مغسول وبعضها ممسوح.
فإذا قال القائل: عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر فرضه
بالربع فليس.
ج / 2 ص -127-
الذي
جاء به من الشبه في شيء إذ ليس في عضو من الأعضاء ما ينافى
تقديرا وإنما لها أوضاع في الشرع وفاقية وهي في وضع الشرع
على التقارب فمن يبغى شبها في التسوية في نفي أو إثبات
فليس كلامه واقعا في مظنة التشبيه.
فإن عاود معاود بأن الأعضاء الثلاثة التي هي أصل القياس
متساوية في عدم التقدير بالربع والمطلوب التشبيه في هذه
الخصلة قيل له: هي وإن لم تتقدر ففرضها مختلف الأقدار في
وضعها فلم يتأصل فيها شبه في ثبوت ولا نفى وما [يتخيله]
القائل على بعد يصادمه ما تقرر من وقوع فرائضها على
التفاوت في الشرع والمتمسك بما لم يقع في جميعها لا حاصل
له إذ لم يقع في الوجه واليدين ما وقع في الرجلين ولم يقع
في الرجلين ما وقع في الوجه واليدين لما ذكرناه من ابتناء
الأصل على التفاوت فلم [يمنع أن] يتفق الربع في الرأس ولا
يقع في سائر الأعضاء.
1037- نعم، لو قال القائل: ورد ذكر الرأس محلا للمسح وثبت
بالسنة المأثورة أن الاستيعاب غير واجب ولم يثبت توقيف في
مقدار والتقدير استنباط واعتبار [والتحكم] به محال فيبقى
اسم المسح مطلقا مع بطلان المصير إلى طرفي الاستيعاب
والتقدير فيتعين والحال هذه حمله على أقل مقتضيات الاسم.
فهذا مسلك حسن بالغ في المسألة ولكنه ليس من القياس بسبيل
وإنما هو متلقى من الكتاب والسنة وإبطال [الاحتكام]
بالتقدير فليس قياسا ولا يستقل في هذا الطريق ظاهر الكتاب
ولا يقتضى ما نقل أن النبي عليه السلام مسح بناصيته وظاهر
عمامته ولا يختص إبطال مذهب الخصم في التقدير بل لا بد من
التعرض لإبطال اشتراط الاستيعاب بالسنة وإبطال التقدير
وإذا بطلا وانحسم جواز فهم كل واحد منهما من ظاهر الخطاب
لم يبق للمسح مصرف إلا التنزيل على أقل مقتضى التسمية.
وأين يقع هذا من القياس؟ وإنما هو مسلك بدع جدا لا يعهد له
نظير.
1038- فإن قيل لو قدر التعليل الذي ذكرتموه مثلا مخيلا
مناسبا وقدر القلب مناسبا في غرضه فماذا كنتم تقولون قلنا
هذا أولا لا يتصور فليثق الفاهم بهذا فإن الأصل الواحد لا
يجوز أن يدل على حكمين نقيضين ويشعر بكل واحد منهما.
وإذا كان لا يتفق وقوع الشيء فلا معنى لتقدير بفرض الكلام
عليه فإن كانت إخالة فإنها تختص بالعلة ويقع القلب طردا
ويختص بالقلب وتقع العلة طردا ثم
ج / 2 ص -128-
يبطل
ما وقع طردا ولا معنى والحالة هذه لابتغاء مسلك في البطلان
وراء ما ذكرناه فإن الطرد ليس على صيغ الأدلة حتى يتوقع
فيه اعتراض وإنما هو دعوى عرية بمثابة دعوى المذاهب.
1039- ولو تكلف متكلف في محال الأشباه استمساك المعلل
والقالب بوجهين من الشبه يطابق في طريق الظن كل وجه من
الشبه مراد صاحبه في الوجه الذي أبداه معللا أو قالبا.
فهذا إن تشبثوا به موضع الكلام وتلتبس به الحظوظ المعينة
بالمراسم الجدلية فلا يشك ذو نظر أن القلب لا يعارض العلة
معارضة المضادة ومناقضة النفي للإثبات بل يقع القلب للعلة
في طرفين فيتجه من طريق الجدل إذا كان المسئول هو المقلوب
عليه أن يقول للسائل: لم تتعرض لمقصود علتي؟ وأنت محمول
على حصر كلامك في الاعتراض على مساق كلامي ممنوع عما يكون
فرضا وتخصيصا للكلام بجانب من جوانب المسألة فهذا وجه لائح
من وجوه الجدل.
1040- وإن قال السائل: اتباع المقاصد أولى من التمسك
بالصيغ والألفاظ فالعلة وقلبها يعسر الجمع بينهما مذهبا
ومعنى والمعارضة المناقضة على التصريح إنما كانت اعترافا
من جهة استحالة الجمع بينها وبين العلة وإذا تحقق عسر
الجمع بين مقتضى العلة وموجب القلب كان القلب في وجه قدح
المعارضة كالمعارضة.
وقد تحقق هذا النوع من الكلام بأن المجتهد إذا استنبط علة
لعمل أو فتوى وعن له وجه من القلب فلا يحل له إمضاء
الاجتهاد بموجب العلة [ما لم] يدفع القلب وإذا كان كذلك
فشرط سلامة العلة السلامة من القلب والمسئول قد التزم
الإتيان بعلة سليمة من الاعتراضات فعليه الوفاء بالملتزم
ويقع القلب على هذا التقدير مطالبة بتسليم العلة عما يقدح
فيها.
وإذا اتجه هذا المسلك المعنوي لم تقف له تلفيقات الجدليين.
1041- ومما يحقق الغرض والمقصد منه أن منصب السائل في وضع
الجدل يمنعه من الدليل ويحصر كلامه في التعرض للاعتراضات
ثم إذا عارض علة المسئول بعلة فهو في مقام المستدلين ولكن
قبل ذلك لوقوع ما أتى به اعتراضا.
1042- فهذا منتهى كلام الجدليين وأصحاب المعاني من
الأصوليين ولى بعد
ج / 2 ص -129-
المسلكين نظر آخر وهو مختاري.
فأقول: إن كان مضمون القلب تعرضا لطرد لا يناسب مضمون
العلة من طريق المعنى ولكن اتفق مذهب الخصم في الطرفين على
مقتضى في نفي أو إثبات ولا يمتنع أن يفرق بينهما فارق
فيثبت أحدهما وينفى الثاني ولكن القائل قائلان أحدهما:
يثبت أمرا والثاني: ينفيه ولو قدر مصير صائر إلى إثبات
أحدهما: ونفى، الثاني: لم يكن ذلك متناقضا فإذا وقع القلب
والعلة على هذا النسق فالقالب فارض وقلبه غير قادح [لا]
جدلا ولا معنى إذ لا تعلق لواحد من الطرفين بالثاني وكأن
المسئول فرض الكلام في طرف وفرض السائل الكلام في طرف آخر
وهذا ممنوع لا شك فيه.
ويمكن أن نمثل [هذا] بما قدمناه في العلة والقلب في مسح
الرأس لو أخذنا بكونهما شبهين فإن المعلل قال في حكم علته:
لا يتقدر الفرض بالربع وقال القالب: لا يكتفى بالاسم [ولا
يمتنع من طريق المعنى ألا يتقدر بالربع ولا يكتفى بالاسم]
وهذا يقوى جدا إذا صح مذهب معتبر غيرهما.
والأمر كذلك في المسح فإن مالكا رضي الله عنه أوجب
الاستيعاب فلا ينتهض اتفاق مذهبي [الخصمين] في الطرفين على
نفي وإثبات سببا في توجه الاعتراض إذا لم يكن الكلام في
وضعه قادحا.
فأما إذا كان في القلب تعرض من طريق المعنى لمناقضة مقتضى
العلة أصلا وسياقا وتفريعا فهذا إذ ذاك قدح من جهة تلاقي
العلة والقلب على قضية التناقض ضمنا وإن لم يتلاقيا صريحا.
وهذا بمثابة قول القائل: مكث في محل مخصوص فلا يكون قربة
لعينه كالوقوف بعرفة وغرض المعلل اشتراط الصوم في الاعتكاف
ولكنه لم يستمكن من اشتراط ذلك صريحا لأنه لو صرح به لم
يجد أصلا.
فإذا قال الشافعي: مكث فلا يشترط في وقوعه قربة صوم
كالوقوف بعرفة فهذا القلب لم يتعرض للعلة تعرضا بينا فكان
قادحا.
1043- والقول الضابط في ذلك أن قول القائل لا يستقل بإثبات
مذهبة من جهة أنه لا يكتفى بانضمام كل عبادة إلى الاعتكاف
ولكن لم يتأت له التصريح فأبهم.
ج / 2 ص -130-
وأثبت
طرفا من المذهب فإذا استمكن القادح تصريحا في مصادمته فيما
[شبب] به تلويحا كان ذلك قدحا معينا.
- 1044وفي القلب شيء يجب التنبه له وهو أن الصوم عبادة
مستقلة فوقوعها شرطا بعيد وهي عبادة معينة في ذاتها والخصم
لا يكتفي بانكفاف المعتكف عن المفطرات حسب اكتفاء المصلي
الصائم بالإمساك والذي وقع القياس عليه لا يشترط فيه قربة
مستقلة بل هو ركن من عبادة فكان لزوم القلب متجها.
- 1045ولو علل الشافعي بما ذكرناه على صيغة القلب فقال:
مكث في مكان مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف
بعرفه.
فقال الحنفي: فلا يقع بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فهذا
معترض لعله الشافعي من جهة أن متضمن القلب [إنكار] وقوع
المكث المحض قربة فعلى الشافعي أن يدرا هذا القلب ودرؤه
ممكن بأن يقول الوقوف جزء في عبادة وليس الاعتكاف من الصوم
ولا الصوم من الاعتكاف إذ ليسا عبادة واحدة واشتراط عبادة
في عبادة بعيد خلا الإيمان فإنه أصل ولا يعقل ملابسة فرع
دونه وليس القلب في صورته [مبطلا إبطالا] لا يستدرك كالنقض
فإنه لا ينفع بعد اتجاهه فرق ولا تعليل فإن القلب وإن اتجه
فهو في معرض المعارضة وإذا عورضت علة المجيب وتمكن من
إبطال ما عورض به وترجيح علته سلمت العلة واندفعت
المعارضة.
فهذا منتهى الكلام في القلب المصرح به.
1046-
فأما القلب المبهم فينقسم قسمين:
أحدهما: إبهام في غير تسوية.
والآخر: إبهام بالتسوية.
فالإبهام من غير تسوية مثل أن يقول الحنفي صلاة شرع فيها
الجماعة فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة قياسا لصلاة
الخسوف على صلاة العيدين فيقول القالب فجاز أن تختص بزيادة
كصلاة العيدين إذ فيها تكبيرات زائدة فهذا قلب مبهم.
1047- والقاضي رحمه الله قضى بإبطال هذا القلب وذكر وجوها
[نسردها] ونتتبعها.
ج / 2 ص -131-
منها:
أنه قال: هذا الذي ذكره القالب ينقلب عليه فإن المعلل
يقول: لا تختص بزيادة وهي ركوع وإذا كان كذلك فالقلب لو
كان فادحا لوجب أن يفسد من حيث يقدح إذا أمكن قلب القالب
وإذا فسد لم ينقدح.
وهذا الذي ذكره غير سديد فإن هذا الذي فرضه قلبا للقلب هو
إعادة العلة وليس أمرا زائدا عليها ولا قلب في عالم الله
تعالى إلا وهو بهذه الصفة وغرض القالب أن يورد ما يقتضي
تعارضا وإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب فهو [مقرر]
لوجه التعارض وهو القادح وهو بمثابة ما لو عورضت علته بعلة
أخرى فأعاد المجيب علته على صيغة المعارضة لما عورض به
فثمرة هذا اعترافه بتعارض العلتين.
1048- ومما تمسك به القاضي أن قال: المصرح مرجح على المبهم
فلو قدر القلب معارضة لوجب سقوطه من جهة [ظهور ترجح
الصريح] عليه.
وهذا غير سديد أيضا فإن ما ذكره إن كان وجها في الترجيح
فقد يعارضه ترجيح أقوى منه فرب مبهم أفقه من صريح فلا
ينبغي أن يحتكم بتقديم كل صريح على كل مبهم ويرد الأمر في
هذا إلى منازل الترجيح وفي المصير إلى هذا قبول القلب
والنظر إلى الترجيح.
1049- ومما تمسك به القاضي أيضا أن قال: المبهم قاصر النظر
والمصرح تام النظر ولا يعارض نظر قاصر نظر تاما فإن النظر
القاصر لا يناط به حكم.
وهذا تلبيس من جهة أن القالب ناط بقلبه ما يجوز أن يكون
معتقدا مستقلا ومذهبا تاما في النفي والإثبات وإنما يقصر
الاجتهاد [مالا] يشعر بمذهب تام مستقل ثم غرضه [مما] أتى
به القدح فإذا ظهر ما أتى به القادح تلاقي القلب والعلة
علي قضية المناقضة فقد ظهر غرض القادح.
1050- فإن قيل: فما المرضي عندكم؟.
قلنا: قدمنا أنه لا يجري في مواقع الظنون علة وقلبها إلا
وهما طرديان أو أحدهما طردي وإن كانا معنويين فلا تلاقي
بينهما بل يقعان في طرفين لا يمنع إثبات أحدهما ونفي
الثاني فإن تلاقيا على قضية متناقضة فلا بد أن يكونا طردين
أو يكون أحدهما فقهيا والثاني خليا عن الفقه.
نعم، قد يفرض الفطن في مجال الأشباه اشتمال كل واحد منهما
على شبه
ج / 2 ص -132-
فإن
اتفق ذلك فالقلب وإن كان مبهما إذا ناقض فقد عارض فتعين
الاعتناء بدفعة بما يندفع به معارضة العلة فهذا قسم من
الإبهام في القلب.
1051- فأما القسم الثاني:- وهو قسم التسوية- فمثاله أن
يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف قاصد إلى لفظ الطلاق
فأشبه المختار.
فإذا قال الشافعي: فيستوي إقراره وإنشاؤه كالمختار فهذا
الفن مختلف فيه وكل ما ذكرناه في القلب المبهم الذي لا
تسويه فيه يعود في ذلك فإن التسوية لا بد فيها من الإبهام
وقد أخذ فصل الإبهام [بحظه].
ولقالب التسوية مزية مزيد يتعرض لها فإن الشيئين اللذين
سوى القالب بينهما لو فصل غرضه فيهما لكان مطلوبه مناقضا
لحكم الأصل فإن الشافعي [يبغي] بالتسوية بين إقراره
وإنشائه ألا يقع الإنشاء ولا ينفذ في الفرع كما لا ينفذ
الإقرار وهما جميعا نافذان في الأصل.
فصار صائرون ممن يقبل القلب المبهم إلى رد التسوية لهذا
المعنى.
1052- والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يختار قبول قلب
التسوية ويقول: غرض القالب التسوية المبهمة وهي على قضية
معقولة معتقدة وإذا ثبتت جرت على المسائل ردا وقبولا.
وبيانه فيما ضربناه مثلا: أن الإقرار والإنشاء يظهر
تساويهما على تعين المثارات ويستفيد بإثباتهما أمرا واقعا
في الإقرار فاتجه مراده [ولا احتفال] بما ذكره الرادون من
مناقضة الأصل إذ لا مناقضة في مقصود التسوية.
والأمر على ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وهو الحق المبين
عندنا ولكن القالب في الصورة التي ذكرناها أراه طاردا فإن
التقييد بالتكليف لا أثر له إذ يستوي من غير المكلف إقراره
وإنشاؤه طاردا ووجه قبول التسوية استرسالها على عموم
الأحوال فلينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد
والإخالة ثم لينظر ثانيا في التلاقي على التناقض وعدم
التلاقي وليحصر إمكان القلب إن كان في ملتطم [الأشباه] ثم
ليعقده مبهما كان أو مصرحا به وليتكلم عليه كلامه على
المعارضات وتندرج التسوية تحت المبهمات وقد نجز القول في
القلب.
ج / 2 ص -133-
و السابع - من الاعتراضات -: المعارضة1.
1053- فإذا نصب المجيب علة التحريم فأتى السائل المعترض
بعلة في التحليل كان ما جاء به اعتراضا صحيحا في نوعه ثم
هو مقبول منه في رسم الجدل.
وذهب بعض الجدليين إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل
لأنه ينتهض مستدلا.
والذي تقتضيه مراسم الجدل أن يحصر السائل كلامه في
الاعتراضات المحضة والعلة التي عارض بها على صيغة الأدلة
والسائل يحتاج في الوفاء بإثباتها إلى تقرير علتها بالأدلة
فان القياس لا يستقل إذ ثبتت علة أصله [بمسلك] من المسالك
المتقدمة في إثبات علل الأصول وإن لم يأت السائل بذلك كان
ما جاء به أمرا غير مثمر وإن أثبت علة الأصل [مصورة] بصورة
[البانين] وخرج عن رتبة السائلين الهادمين.
1054- وهذا مسلك ضري به طوائف من المنتمين إلى الجدل وهو
عرى عن التحصيل عند ذوي التحقيق من وجوه.
منها: أن المعارضة اعتراض من جهة أن العلة التي تمسك بها
المجيب لا تستقل ما لم يسلم عنها وقد حصل الوفاق على تسليم
الاعتراض للسائل وهو لم يبد العلة ثانيا مثبتا لمذهبه
وإنما أبداها معترضا بها والذي حاول منها في الاعتراض محقق
[كائن] فليسغ منه المعارضة اعتراضا.
والذي يكشف الحق في ذلك أن المجيب لما كان بانيا فلو عارضت
علته علة عسر عليه إفسادها وترجيح علته على ما عورض به كان
ذلك مبطلا لغرضه والسائل إذا عارضه لا يلتزم وراء المعارضة
إفسادا ولا ترجيحا لأنه جرد قصده إلى الاعتراض فتبين أن ما
أتى به اعتراضا فهو اعتراض واقع وإنما [الممتع] من السائل
أن يعارض ويضم إلى المعارضة الترجيح أو أفسادا وراء
المعارضة كدأب من يبني ويثبت هذا إن فعله كان مجاوزة
لمراسم الجدل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي إلزام المستدل الجمع بين شيئين و التسوية بينهما في
الحكم إثباتا و نفيا. كذا قال الأستاذ أبو إسحاق. وقد أثبت
هعتراض المعارضة الجمهور من أهل الأصول و الجدل، و زعم قوم
أنها ليست بسؤال صحيح. واختلف القائلون بها في الثابت
منها، فقيل: إنما يثبت منها معارضة الدلالة بالدلالة، و
العلة بالعلة و لا يجوز معارضة الدعوى بالدعوى. "إرشاد
الفحول" "ص 232".
ج / 2 ص -134-
1055- ومن الدليل على قبول [العلة و] المعارضة أن المجيب
التزم إذ نطق بالعلة [تصحيحها] والوفاء بإتمام هذا الغرض
منها [في مسلك الظن] ولن يتم هذا الغرض ما لم تسلم العلة
عن المعارضة ولو قيل أظهر الاعتراضات وأكثرها وقوعا
المعارضات في تقابل الظنون لكان ذلك ترجيحا فالمقصود أنه
لا يتطرق الكلام ما لم يغلب على الظن ثبوت علة المجيب ومن
ضرورة ذلك درء المعارضات عنها والسائل مرتب في مراسم النظر
لإيراد ما يقدح لو ثبت فإذا فعل ما رتب له شيئا تصدى
المجيب لدفعه والجواب عنه فيكونان متعاونين على البحث
اعتراضا وجوابا.
والذي ذكره هؤلاء [من] أن السائل ممنوع من الإتيان بصورة
الدليل لا طائل وراءه فإن صورة الأدلة ما امتنعت من حيث
إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد
الاعتراض آتيا بكلام على الابتداء ليس اعتراضا فهذا يخرم
شرط الجدل من جهة أن السائل إذا كان كذلك مع المسئول لا
يتلاقيان على مباحثة والغرض من المناظرة التعاون على البحث
والفحص.
1056- وبالجملة إذا كان يقبل من السائل اعتراض لا يستقل في
نوعه كلاما فلأن يقبل منه كلام ينقدح ويستقل اعتراضا أولى.
ولم يختلف أرباب النظر قاطبة في أن المجيب إذا تمسك بظاهرة
فللسائل أن يؤوله فإذا كان التأويل مقبولا منه فمن ضرورته
اعتضاده بدليل وإذا جاء بما يعضد التأويل فهو دليل فإن قبل
من جهة كونه عضد التأويل الواقع اعتراضا فليقبل معارضة
القياس بالقياس على قصد الاعتراض وإن تشبث متشبث بمنع قبول
التأويل من صاحب التأويل فقد تصدى لأمرين عظيمين:
أحدهما: أن يقبل التأويل منه من غير دليل
وهذا خرق فإن المستدل معترف بتوجه التأويل [وإمكانه] مقر
بأن متمسكه ظاهر وليس بنص فهذا أحد الأمرين.
والثاني: أن يفسد باب التأويل على السائل
ويتوخى المناظرة بذكر المسئول ظاهرا وهذا اقتحام عظيم وأن
التزم السائل أن يعارض الظاهر بالظاهر فقد يقدمه [في هذا
المقام] ثم في هذا اعتراف بقبول المعارضة فليجر مثله في
الأقيسة.
1057- فإذا تبين أن المعارضة من أقوى الاعتراضات الصحيحة
المفسدة فالجواب عنها ينحصر في مسلكين:
ج / 2 ص -135-
أحدهما: أن يتصدى المجيب لإفساد ما عورض به بمسلك من المسالك المذكورة في
الاعتراضات الصحيحة.
والثاني: أن يرجح علته على ما عورض به على
ما سيأتي شرح قواعد الترجيح وتفاصيلها في كتاب الترجيح إن
شاء الله تعالى.
فإذا لم يتأت أحد المسلكين كان منقطعا.
1058- ومن أسرار المعارضات أنه إذا غلب على الظن استواء
العلتين فسدتا فلو قال قائل: ترجيح السائل غير مقبول
ابتداء وانحسام الترجيح يفسد ما جاء به وليس بين هذين
المسلكين مسلك.
قيل: هذا منتهى غرض السائل ومنه قال المحققون معارضة
الفاسد بالفاسد اعتراض صحيح وعند ذلك يتبين تحقيق المعارضة
الصادرة من السائل إذ غرضه الإفساد المحض لا البناء.
1059- ثم مما يتصل بأحكام المعارضة أن المجيب إذا رجح علته
لم ينحسم على السائل مسلك معارضه الترجيح بالترجيح فليفعل
ذلك وليجرد قصده إلى طلب المساواة فإنها إذا ثبتت فسد بها
كلام المسئول ومن خرق السائل أن يتشوف إلى الزيادة على قصد
المساواة فإنه إذا فعل ذلك كان ذاهبا إلى مضاهاة قول
البانين ولا يبعد أن ينسب فيه إلى الجهل بمراسم الجدل.
فلو ذكر المسئول ترجيحا فعارضه السائل بترجيحين وفي أحدهما
كفاية في طلب المساواة فهو مجاوز لسواء القصد وإن عارض
بترجيح واحد [ولكنه أوقع] من كلام المسئول فهذا يقبل منه
فإنه قد لا [يجد] غيره ومنعه من الإتيان به يمنعه من
معارضة العلة بعلة أجلى منها وأظهر في بوادي الظنون.
والسبب في قبول هذا الفن أن ما في الترجيح من مزية القوة
والظهور لا يمكن قطعه من الكلام وهو إذ جيء به اعتراض
فليقبل اعتراضا إذ لم يقبل بناء وابتداء فهذا منتهى الكلام
في ذلك.
1060- ومما يتعلق بالمعارضة وهو مفتتح القول في الفرق أن
السائل إذا اقتصر على معارضة علة الأصل بعلة أخرى [بحكم
الأصل ولم] يأت بعلة مستقلة ذات فرع وأصل على ما نعهده من
صيغ التعليل فهذا يستند أولا إلى ما سبق تمهيده من أن.
ج / 2 ص -136-
الحكم
الواحد هل يعلل بعلتين؟ وقد مضى في ذلك قول بالغ.
فمن لم يمنع تعليل حكم بعلتين لم يعتد بما جاء به السائل
اعتراضا من جهة أن ثبوت ما أورده السائل [علة] منتهى مراده
ولو سلم له ما يحاوله لم يندفع دليل المسئول وقد ذكرنا ما
نختاره في ذلك وأنهينا الكلام غاية انفصل القول عنها مع
القطع بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فليقع التعويل على
المختار ووراءه عرض الفصل فإنا رأينا امتناع ذلك وقوعا وإن
كان لا يمتنع من ناحية التجويز العقلي فينشأ من ذلك قضية
جدلية لطيفة مشوبة بحقائق الأصول.
مسألة:
1061- إذا قبلنا من السائل معارضة العلة بالعلة المستقلة
فلو عارض علة الأصل التي جعلها المسئول رابطة القياس بعلة
أخرى وزعم أن العلة ما أبداها معترضا لا ما أتى به المعلل
جامعا رابطا فمن الجدليين من يرى ذلك اعترضا واقعا وأوجب
على المجيب الجواب عنه ومنهم من لم يره اعتراضا فالمذهبان
جميعا في المسألة المعقود مبنيان على منع تعليل الحكم
بأكثر من علة واحدة.
1062- فأما من رأى ذلك اعتراضا فوجهه أن من شرط سلامة علة
الخصم عروها عن المعارضة من جهة امتناع [تعدد] العلة فإذا
أبدى المعترض علة أخرى فقد عارض معارضه يمتنع معها لو صحت
تقديرا ثبوت علة المجيب كما يمتنع ذلك في العلتين
المستقلتين الجاريتين على التناقض في التعارض.
وحقيقة هذا المذهب آيل إلى أن المعلل لا يستقل كلامه ما لم
يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا
علل ولم يسبر فعورض في معنى الأصل بعلة فكأنه طولب بالوفاء
بالسبر وتتبع كل ما سوى علته بالنقض.
1063- ومن لم ير ذلك اعتراضا استدل بأن إبداء معنى آخر من
المعارض على صورة دعوى عرية عن الدليل وقد سبق المسئول في
إثبات معنى أصله بالدليل إما معتنيا به بعد طرد العلة
ومضمنا ذلك علته من جهة إشعارها ووفقها وإخالتها والسائل
إذا أبدى معنى غير مقرون بدليل على تهيئة وصلاحه لكونه علة
للحكم فصيغة كلامه معارضة كلام مدلول عليه بدعوى فهذا
القائل لو أبدى المعنى وقرنه بما يعد دليلا على إثبات
المعنى كانت معارضة مقبولة ويتعين إذ ذاك على المسئول
الجواب عنه.
ج / 2 ص -137-
1064- فيرجع مطلب المسألة المبينة على امتناع تعليل الحكم
بعلتين فصاعدا إلى أنا هل نوجب على المعلل بعد إثباته
[علته] التتبع والسبر أم لا؟ وذلك يجري وكلام السائل دعوى
محضة ولو أتى السائل بدليل على ما أبداه من معناه فيتعين
الجواب عنه على هذا الأصل وهذه المسألة التي ذكرناها متصلة
بالمعارضة وتحقيقها [يعود] في الفرق وحقائق القول فيه.
فصل: في الفرق1.
1065- فأما الفرق فقد ظهر خلاف أرباب الجدل [فيه] قديما
وحديثا فذهب ذاهبون إلى أنه ليس باعتراض وسبق إليه طوائف
من الأصوليين وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه من أقوى
الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به فأما من لم يعده اعتراضا
مقبولا فإن متعلقه وجوه.
منها: أن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع للأصل في كل
القضايا وإنما مغزاه ومنتهاه إثبات اجتماع الأصل والفرع في
الوجه الذي يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك وينتحيه
وكان وجها يعترف به الفقيه في قصد الجمع ويرتضيه فالفرق
يقع وراءه وهو قار على حاله وصاحب الجمع معترف بأنه غير
ملتزم اجتماع الفرع والأصل في كل ورد وصدر وكل سؤال استمكن
المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستمرار على مقصده من
العلة فليس قادحا وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا
لمقصود المسألة نعم إن تمكن من [وقف موقف الفارقين] من
إبطال الجمع فذاك السؤال اعتراض مقبول وليس فرقا وإنما
يتحقق هذا بان يخرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخيل
فيتبين أن الذي تعلق به غير مشعر بالحكم ويلتحق كلامه
بالطرد المقضي ببطلانه فإذا تمكن السائل من ذلك فلا حاجة
به إلى الفرق وإنما الفرق هو الواقع بعد سلامة فقه الجمع
فينبغي ألا يلتزم لما سبق من أنه غير مناقض لمقصود المعلل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة أو جزء
علة وهو معدوم في الفرع سواء كان مناسبا أو شبها إن كانت
العلة شبهية بأن يجمع المستدل بين الأصل والفرع بأمر مشترك
بينهما، فيبدي المعترض وصفا فارقه بينه و بين الفرع. قال:
في "المحصول": الكلام فيه مبني على أن تعليل الحكم بعلتين
هل يجوز أم لا؟ "إرشاد الفحول" "ص 229".
ج / 2 ص -138-
1066- وذهب معظم المحققين إلى قبول الفرق وعده من الأسئلة
الواقعة.
واحتج القاضي رحمه الله بأن متبوعنا في الأقيسة والعمل بها
وما درج عليه الأولون قبل ظهور الأهواء واختلاف الآراء
ولقد كانوا يجمعون ويفرقون وثبت اعتناؤهم بالفرق حسب ثبوت
تعلقهم بالجمع وقد ثبت ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم.
منها: القصة الجارية في إرسال عمر بن الخطاب1 رضي الله عنه
رسوله وتحميله إياه تهديد مومسة وإجهاضها بالجنين لما
بلغها الرسالة ثم أنه رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم
في الجنين فقال عبد الرحمن بن عوف2 رضي الله عنه: إنه مؤدب
ولا أرى عليك بأسا، فقال علي3 رضي الله عنه: إن لم يجتهد
فقد غشك وإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة.
قال القاضي رحمه الله: كانوا رضى الله عنهم لا يقيمون
مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على
المقاصد فكأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حاول تشبيه
تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل
ما له أنه يفعله.
فاعترض عليه علي رضي الله عنه وشبب الفرق وأبان أن
المباحات المضبوطة النهايات ليست [كالتعزيرات] التي يجب
الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى إتلافات.
ولو تتبع المتتبع مناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مسائل الجد وغيرها من قواعد الفرائض لألفى معظم
كلامهم في المباحثات جمعا وفرقا ويهون على الموفق تقدير
جريان الجمع والفرق من الأولين مجرى واحدا في طريق النقل
المستفيض.
1067- فهذا كلام القاضي ولا يتبين مدرك الحق إلا بتفصيل
نبديه وفيه تبين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبقت ترجمته.
2 عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف أبو محمد القرشي الزهري
المكي ثم المدني ولد بعد عام الفيل بعشر سنين وأسم في أول
الإسلام وهاجر قبل الفتح وقال ابن الضحاك: كان ممن هاجر
الهجرتين مات سنة 31 له ترجمة في "الرياض المستطابة" "ص
176, 177".
3 علي هو: أمير المؤمنين علي بم أبي طالب بن عبد المطلب
القرشي الهاشمي المكي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم كان
أول من أسلم من الصبيان وأول من هاجر بعد النبي وأبي بكر
ومناقبه كثيرة مات سنة 40 له ترجمة في "أسد الغابة" "4/91"
والإصابة "1/133" والنجوم الزاهرة"1/119".
ج / 2 ص -139-
مدرك
الحق في الفرق.
فنقول: رب فرق يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان
الجمع فقهيا فما كان كذلك فهو مقبول لا محالة غير معدود من
الفروق التي يختلف فيها ومن آية هذا القسم أن الفارق
[يعيد] جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ومثال ذلك
أن الحنفي إذا قال في مسألة البيع الفاسد معاوضة جرت على
تراض فتفيد ملكا كالصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل
أنها معاوضة جرت على وفق الشرع [فنقلت] الملك بالشرع بخلاف
المعاوضة الفاسدة فينتهض هذا الكلام إذا وفي صاحبه بتحقيقه
مبطلا إخاله كلام المعلل وما أدعاه من إشعاره بالحكم فهذا
النوع مقبول ومن خصائصه إمكان البوح منه بالغرض لا على
سبيل الفرق بأن يقول السائل: لا تعويل على التراضي بل
المتبع الشرعي في الطرق الناقلة إلى حد ما يعرفه الفقيه.
1068- ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفي إذا قال طهارة
بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فالفارق يعيد
كلامه ويزيد قائل: المعنى في الأصل أنها طهارة بالماء
عينيه والوضوء طهارة حكمية ومقصودة أن [يخرم] فقه الجامع
ويلحقه بالطرد.
وهذا محطوط عما استشهدنا به أولا من جهة أنا نرى مدار
الكلام في هذه المسألة على الأشباه وقد يظن الحنفي أن
الطهارة بالماء أشبه بالطهارة بالماء والفارق يدعى مسلكا
فقهيا وإنما يبغي تشبيها ومدار الكلام في المسألة الأولى
على اتباع التراضي أو اتباع الشرع فليفهم الفاهم ما يلقى
إليه من حقائق الكلام.
1069- ومما نجريه مثلا أن المالكي إذا قال الهبة عقد تمليك
فيترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك [كالمعاوضة]
فإذا قال الفارق: المعاوضة متضمنها النزول عن المعوض
والرضا بالعوض وذلك يحصل بنفس العقد والتبرع عقد لا يقابله
عوض فيشترط فيه [الإقباض] المشعر بنهاية الرضا [لم يكن هذا
الفرق مبطلا بالكلية فقه الجمع ولكن سره أن الجامع أبدا
يجمع بوصف عام] و الفارق يفرق بوجه خاص فإن لم يبطل ما
أبداه من خصوص الفرق في عموم الجمع فهذا مما تنازع فيه
الأصوليون وإن أبطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا.
ج / 2 ص -140-
1070- ثم الفرق والجمع إذا ازدحما على فرق فاصل في محل
النزاع فالمختار فيه اتباع الإخالة فإن كان الفرق [أخيل]
أبطل الجمع وإن كان الجمع [أخيل] سقط الفرق وإن استوى أمكن
أن يقال: هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتا على صيغة
التساوي وأمكن أن يقال: الجمع مقدم من جهة وقوع الفرق بعده
غير مناقض له والجامع يقول: لم ألتزم انسداد مسالك الفرق
كما ذكره الذين ردوا الفرق فالأوجه اتجاهه ووجوب الجواب
عنه.
1071- فإن قيل: هلا قلتم: الفرق يشتمل على معارضة معنى
الأصل ثم معارضة العلة بعلة مستقلة في جانب الفرع فهو على
التحقيق سؤالان؟ قلنا: قد قال بقبول المعارضة كل معتبر
عليه معول ومضى في معارضة معنى الأصل ما فيه مقنع والكلام
في الفرق وراء ذلك فإنه ينتظم من مجموع كلام الفارق فقه
يناقض قصد الجامع وهو خاصية الفرق وسره ومن رد الفرق لا
يرد المعارضة بل يرد خاصية الفرق.
1072- وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثة مذهب:
أحدها: رد الفرق جملة وإنما يستمر هذا
المذهب مع المصير إلى رد المعارضة في جانبي الأصل والفرع
جميعا وخاصية الفرق مردودة هذا عند القائل بما سبق تقريره
من أن الجامع إذا استمر جمعه لم يحتفل بالافتراق في وجه لم
يقع له التعرض ورد الفرق على الإطلاق يستند إلى إبطال
المعارضة في الأصل والفرع وعدم المبالاة بوقوع الفرق من
وجه بعد استمرار الجمع من الجهة التي أرادها الجامع.
فهذا مذهب وهو عند المحصلين ساقط مردود.
1073-
والمذهب الثاني: وهو معزو إلى ابن سريج
وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله: أن الفرق ليس
سؤالا على حياله واستقلاله وإنما هو معارضة [معنى] الأصل
بمعنى ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة
مستقلة ومعارضة العلة بعلة مقبولة فإن تردد المترددون في
معارضة معنى الأصل فالفرق عند هذا القائل آيل إلى ما ذكره
والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول
المعارضة.
1074-
والمذهب الثالث: وهو المختار عندنا
وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن
الفرق صحيح مقبول وهو وإن اشتمل على معارضة معنى الأصل
ومعارضته علة [الفرع] بعلة فليس المقصود منه المعارضة
وإنما الغرض منه مناقضة الجمع.
ج / 2 ص -141-
ثم
الصحيح المقبول منه ينقسم على الوجه المقدم إلى ما يبطل
فقه الجمع رأسا ويلحقه بالطرد وهذا على التحقيق ليس هو
الفرق المطلوب فإنه أبدى سقوط فقه علة الخصم على صيغة
مخصوصة.
ومنه مالا يحيط فقه الجمع بالكلية ولكنه يشتمل على فقه آخر
مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على
العلة وإلى مساويها كما سبق.
1075- والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع ينتظم بأصل وفرع
ومعنى رابط بينهما على شرائط بينة والفرق معنى يشتمل على
ذكر أصل [وفرع] وهما يفترقان فيه وهذا يقع على نقيض غرض
الجمع ومن ضرورته معارضة معنى الأصل والفرع ولكن الغرض منه
مضادة الجمع بوجه فقه أو بوجه شبه إن كان القياس من فن
الشبه فعلى هذا إذا لو سمى [مسم] الفرق معارضة لم يكن
مبعدا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضة على الطرد
والعكس لاتصال أحدهما بالآخر بل القصد منه فقه ينتظم من
معارضتين يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة الجمع.
فهذا سر الفرق وسنبين أثر ذلك في التفاصيل.
1076- ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته استبيان أن
المعارضة الكبرى التي عليها تناجز الفقهاء وتنافس الكلام
على الفرق والجمع أبدا يأتي بما يخيل اقتضاء الجمع ويكون
ما يأتي به في محل يأتي الفرق صفة عامة بالإضافة إلى الفرق
ويأتي الفارق بأخص منه مع الاعتراف به ويبين أن الفرع
والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافتراقهما
أوقع من الحكم باجتماعهما للوصف العام ثم يتجاذبان أطراف
الكلام.
فهذا قول بالغ في تحقيق المذهب وسر كل رأي وبيان المختار
الذي ينتحيه المحققون وما مهدناه يتهذب بمسائل نذكرها تترى
إن شاء الله تعالى.
مسائل في الفرق.
مسألة:
1077- إذا ذكر الفارق معنى في الأصل مغايرا المعنى
المعلل وعكسه في الفرع وربط [به] الحكم مناقضا لحكم علة
الجامع فهل يشترط رد معنى الفرع إلى الأصل على القول بقبول
الفرق.
ج / 2 ص -142-
ذهب
طوائف من الجدليين إلى أن ذلك لا بد منه وهذا ينبني على
أصلين:
أحدهما: المصير إلى إبطال الاستدلال على
ما سيأتي القول فيه مشروحا بعد نجاز القول في القياس إن
شاء الله تعالى ومن ينفي الاستدلال لا يجوز الاستمساك قط
بمعنى غير مستند إلى أصل وإن كان مناسبا مخيلا فهذا أحد
الأصليين.
و [الأصل] الثاني: أن الغرض من الفرق
المعارضة [والمعارضة] ينبغي أن تشتمل على علة مستقلة.
فهذا مأخذ هذا المذهب.
1078- قال القاضي رحمه الله: رأينا تصحيح الاستدلال على ما
سيأتي ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على
صيغة الفرق فإن الغرض [من الفرق] إبداء فقه يناقض غرض
الجامع وهذا يحصل من غير رد إلى أصل ثم قد يقع الكلام وراء
ذلك في ترجيح العلة على ما أبداه الفارق من حيث إن العلة
مستندة إلى أصل وما أظهره الفارق لا أصل له وفيه كلام يطول
استقصاؤه في الترجيح.
فآل حاصل القول في هذه المسألة إلى أن من يري الفرق معارضة
ينزل منزلة المعارضات ومن يرى خاصية الفرق [في] مضادة جمع
الجامع فلا يشترط فيه ما يشترط في العلة المستقلة.
مسألة:
قريبة المأخذ من التي تقدمت:
1079- ذهب ذاهبون من الذين صاروا إلى أن شرط الفرق استناده
في جانب الفرع إلى أصل [إلى] أن الفارق إذا أبدى في الأصل
معنى مغايرا لمعنى المعلل فينبغي أن يرد ذلك أيضا إلى أصل
فيأتي في كلامه في شقي الفرع والأصل بأصلين ولا شك أن صدر
هذا الكلام عن رأي من ينكر الاستدلال ولا يراه حجة.
وذهب آخرون ممن يشترط استناد الفرع إلى الأصل إلى أن ذلك
غير مشروط في الأصل واحتج كل فريق على مخالفة بما عن له.
1080- فأما من لم يشترط ذلك فتمسك بأن الغرض الأظهر من
الفرق معارضة معنى الأصل والتحاقه في محل النزاع فإذا
[أيد] ذلك بأصل فقد وفى بالمعارضة في محل الخلاف فكفاه ذلك
وأيضا فإنا لو [كلفناه] إلحاق معناه الذي أبداه.
ج / 2 ص -143-
في
جانب الأصل بأصل فقد لا يمتنع في ذلك الأصل الذي نقدره
معارضه معنى آخر ثم قد ينقدح رد ذلك المعنى إلى أصل ثابت.
ويلزم من مساق ذلك أن يقال إذا عورض معنى الأصل فعلى
المسئول وقد عورض معناه بمعنى غيره أن يأتي بمعناه الذي
ادعاه بأصل [آخر] فإنه والمعترض تساويا في ادعاء معنيين
فليس أحدهما [بالاحتياج] إلى إبداء أصل آخر أولى من الثاني
إذ المسألة فيه [إذا] لم يبطل أحدهما معنى صاحبه بل اقتصر
على معارضته ثم لا يزالان كذلك في كل مستند وتتعطل المسألة
عن غرضها وتحوج المعلل والمعترض إلى أصول لا ينتهي القول
فيها إلى ضبط وهذا ظاهر البطلان.
1081- وقد نقل بعض النقلة: أن من صار إلى التزام ذلك يذهب
إلى أن الكلام لا يقف أو ينتهي الكلام إلى أصل يتحد معناه
ولا يتأتي معارضة فيه وهذا تكلف عظيم وأمر معوص.
ومن شرط ذلك يقول: كل كلام لا أصل له فهو استدلال مردود
وإذا تأتي معارضة معنى الأصل بمعنى آخر فقد صار معنى الأصل
متنازعا فيه فلا بد من تأييد الكلام بأصل غيره.
1082- والكل عندنا ضبط وتخليط ومن أحاط بسر الفرق واستبان
أن الغرض منه هذا لم يتخيل كل هذا الانحلال ولم يشترط في
الفرق إلا ما يليق ويطلب منه وهو مضادة قصد الجامع كما سبق
تقريره.
مسألة:
1083- وإذا تمكن الفارق من إبداء معنى في الأصل مغاير
لمعنى الجامع وعكسه في الفرع من غير مزيد فهو الفرق الذي
فيه الكلام.
وإن احتاج إلى إبداء مزيد في جانب الفرع فقد ظهر اختلاف
الجدليين فيه ولا معنى للتطويل فمن اعتقد الفرق معارضة
فمقتضى مذهبه أن الزيادة ممتنعة فإن الفارق معارض
والمعارضة تنقسم إلى ما يذكر على صيغة الفرق وإلى ما يذكر
ابتداء ولا أثر لاختلاف الصيغ عند هذا القائل والغرض
المعارضة المحضة.
1084- ومن طلب من الفرق الخاصية التي ذكرناها وهي مضادة
الجمع فيخرم هذه القضية عند مسيس الحاجة إلى ذكر زيادة
ومزية في جانب الفرع فإنا قد أوضحنا أن الفارق مستمسك بجهة
خاصة مرتبة على الجهة العامة التي جمع بها الجامع
ج / 2 ص -144-
مشعرة
باقتضاء الافتراق.
فإذا كان عكس معنى الأصل على قضية الخصوص غير مشعر بنقيض
ما أشعر به الوصف العام لم يكن الفرق مستقلا بذاته جاريا
على حقيقته وخاصيته فإن كان يتأتى مع مزية في إشعار
بالافتراق فهو على تكلف وبعد فإن صفوة الفرق مأخوذة من
متلقي النفي والإثبات والطرد والعكس من غير احتياج إلى
مزيد ولا شك [أن] المزيد المذكور في جانب الفرع يقع خارجا
عن قضية الفرق إذ ليس لها في جانب الأصل ذكر على الثبوت إذ
لو كان لها ذكر لكان الفرق جاريا على سداده وقد يذكر
الفارق مزيد الدرء قاعدة ولو لم يذكرها لو ردت تلك القاعدة
نقضا فيقع عند ذلك الكلام في أن القواعد هل تنقض الأقيسة
إذا كانت مستقلة؟ وقد قدمنا في ذلك أبلغ قول في فصل النقض
فلا حاجة إلى إعادته.
مسألة:
1085- مما ذكره الذاكرون على صيغة الفرق وليس هو على
التحقيق فرقا وإن كان مبطلا للعلة ما ننص عليه الآن.
فنقول: إذا جمع الجامع [بين] مختلف فيه ومتفق عليه في
تفصيل حكم [وأصل] ذلك الحكم منفي في الأصل مثل أن يقول
الحنفي في منع اشتراط [تعيين] النية ما تعين أصله لم يشترط
فيه تعين النية: كرد الغصوب والودائع.
فنقول: أصل النية ليس مرعيا في الأصل وهو معتبر في محل
النزاع وهذا قد نورده على صيغة الفرق وليس بفرق ولكن الجمع
باطل باتفاق الأصوليين فإن الكلام في تفصيل النية يقع فرعا
لتسليم أصل النية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعي
التعيين مع اشتراط أصل النية صائرا إلى أن أصل النية كاف
مغن عن التفصيل والتعيين فكيف يتأتى الاستمساك بما لا
يشترط أصل النية.
فيه ولا يعد من قبيل القربات فهذا إذا باطل من قصد الجامع
وصيغة الفرق تقرر الجمع ويقع وراءه افتراق في أمر [أخص]
منه كما تمهد ذكره فيما سبق.
ج / 2 ص -145-
فصل: في الاعتراض على الفرع مع قبوله في الأصل.
1086-
والقول الوجيز في ذلك: أن كل ما يعترض به على العلل
المستقلة فقد يذكر فرضه موجها على القول الفارق في جانب
الفرع ونحن وإن كنا لا نرى الفرق معارضة فمستنده إلى صورة
معارضة ثم تلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما سبق
تقريرها فإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق فأما الكلام
المظهر في جانب الأصل فحاصله ادعاه معنى آخر وينتظم عليه
الخلاف القائم في أن الحكم هل يعلل بعلتين؟
فمن لم يمتنع من تعليل الحكم بعلتين فقد يقول: أنا قائل
بهما وإنما يتأتى ذلك إذا استمكن من طرد المعنى الذي أبداه
الفارق في جانب الأصل على وجه يطابق مذهبه.
وأما نحن فلا نرى تعليل حكم بعلتين أمرا واقعا وإن لم
نستبعده في مساق الأقيسة أن لو قدر وقوعه.
والأولون يرون الفرق سؤالين [وقول] المعلل في الأصل
بالمعنيين إذا جرى له ذلك غير كاف فإن الكلام في جانب
الفرع قائم بعد والسؤالان على هذا الرأي لا ارتباط لأحدهما
بالثاني فكأن الفارق وجه سؤالين فتعرض المعلل للجواب على
أحدهما.
1078- ونحن نقدر الآن لأنفسنا مذهبا لا نعتقده ونبني عليه
سرا هو خاتمة الكلام في الفرق.
فنقول: لو كنا من القائلين بتعليل حكم واحد بعلتين لما
رأينا مصير المعلل إلى القول بهما جوابا عن سؤال من جهة أن
الفرق وإن اشتمل على كلامين فهو في حكم سؤال واحد وقد
استقل كلام الفارق وجرى مرامه في الإشعار بالفرق فإذا قال
المعلل بالعلتين في الأصل لم يخرم ذلك غرض الفارق والجواب
الخاص عن الفرق الواقع السالم عما يعترض على المعاني
والمعلل عدم إشعاره بإثارة الفرق أو يتبين ترجيح مسلك
الجامع عن طريق الفقه في اقتضاء الجمع على مسلك الفارق.
مسألة:
1088- إذا لم يذكر الفارق معنى [في] الأصل معكوسا من
الفرع ولكنه
ج / 2 ص -146-
أطلق
في جانب الأصل حكما ونفاه في الفرع فهذا مما طول فيه
القاضي نفسه.
والكلام عندنا فيه قريب وقد ذكرنا وقع ذلك في العلل ابتداء
وسميناه فيما يظن قياس الدلالة أو قريبا من الأشباه.
فإذا قال القائل: من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم فليس ما جاء
به من فن المعاني المختصة المشعرة بالحكم وإن كان مقبولا.
فإذا وقع الفرق على هذه الصفة نظر فإن كانت العلة على
نحوها قبل ذلك في الأصل ووقع الكلام في التلويح والترجيح
وتقريب الأشباه فإن كان القياس معنويا فقهيا وجرى الفرق
على صيغة إلحاق حكم بحكم فهذا من الفارق محاولة معارضة
المعنى المناسب بالأشباه أو ما هو في معناها ولا يقع ذلك
موقع القبول فإن أدنى المعاني المناسبة يتقدم على أعلى
الأشباه المظنونة وهذا يهذبه الترجيح إن شاء الله تعالى.
وقد انتهى غرضنا في القول في الفرق وانتهى بانتهائه الكلام
على الاعتراضات الصحيحة في قواعدها.
فصل: القول في الاعتراضات الفاسدة.
1089- ما
يفسد من الاعتراضات لا ينحصر وفي ضبط ما يصح منها كما تقدم
حكم بفساد ما عداه.
وإنما نعقد هذا الباب للكلام على اعتراضات استعملها بعض من
لابس الجدل وهي باطلة عند المحققين فلا نذكر صيغا منها إلا
وفيها خلاف ونحن نرتبها ونرسمها مسائل أن شاء الله تعالى.
مسألة:
1090- إذا استنبط القايس علة في محل النص وكانت مقتصرة
عليه منحصرة فيه لا تتعداه فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي
الله عنه ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل
في النقدين بالنقدية وهي مختصة بالنقدين لا تعدوهما.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا لم تتعد العلة
محل.
ج / 2 ص -147-
النص
كانت باطلة.
والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة
ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص وهي على
مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا [اقتصارها] وانحصارها على
محل النص وحقيقة هذا يئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة
ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد بصحتها أولى من أن
يشهد على فسادها وليس يمتنع في حكم الله تعالى ووضع شرعه
أن تكون العلة المستثارة هي العلة المرعية [الشرعية] في
القضية التي ثبت حكمها بالنص فإذا لم يمتنع ذلك وقوعا ولم
يوجد إلا موافقة النص ومطابقته لموجب العلة فلا وجه
[للحكم] بفسادها.
1091- ويتوجه وراء ذلك سؤالان: والانفصال عنهما يبين حقيقة
المسألة.
أحدهما: أن قائلا لو قال العلة تستنبط
وتستثار لفوائدها ولا فائدة في العلة القاصرة فإن النص
يغني عنها ولسنا نمنع الظان أن يظن حكمه في مورد النص ومن
اكتفى بهذا التقدير سوعد وليس ذلك محل الخلاف المعنى
بالصحة والفساد فإن الغرض إبانة كون العلة القاصرة مأمورا
بها ومعنى صحتها موافقتها الأمر ومعنى فسادها عدم تعلق
الأمر بها ولا حرج على المفكرين في استنباط حكم إذا لم يكن
استنباطهم مناطا لأمر فيخرج من ذلك أن القائل بالعلة
[القاصرة] إن لم يظهر لها فائدة لزمه الاعتراف بكونها
ساقطة الاعتبار خارجة عن تعلق الأمر الشرعي ولقد أضطرب
أرباب الأصول عند هذا المنتهى.
1092- ونحن نذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق
الاعتراض إليه ثم ننص على ما نراه.
قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم
التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس [إذا جرت
نقودا وهذا خرق من قائله وضبط على الفرع والأصل فإن المذهب
أن الربا لا يجري في الفلوس] إن استعملت نقودا فإن النقدية
الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين والفلوس في حكم
العروض وإن غلب استعمالها.
ثم أن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت
أسم الدراهم فالنص متناول لها والطلبة بالفائدة قائمة وإن
لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذا.
ج / 2 ص -148-
والمسألة مفروضة في العلة القاصرة.
1093- وقال قائلون: العلة القاصرة تفيد بعكسها فإذا ثبتت
النقدية علة في النقدين فالنص مغن عن محل طرد العلة ولكن
عدم النقدية يشعر بانتفاء تحريم الربا والنص على [اللقب]
لا مفهوم له فهذا وجه إفادة العلة.
ويتوجه على هذا وجوه من الكلام واقعة لا استقلال بالجواب
عنها:
منها أن الانعكاس لا يتحتم في علل الأحكام ولا يمتنع ثبوت
علة يناط الحكم بها مع انتفاء العلة المعينة وإذا كان ذلك
لا يمتنع فالعكس يضطر إلى إبطال ما يدعيه الخصم من العلة
في معارضة العكس فإن لم يقدر على ذلك لم يستقل كلامه وإن
تمكن من إفساد ما يبديه الخصم من العلل المتعدية فلا حاجة
أيضا إلى تكلف العكس فإن الأحكام تثبت غير متعلقة بدلالة
وأمارة فليكتف الناظر بالنص في محل إثبات الحكم [ثم يكفيه
في محل العكس عدم الدلالات على ثبوت نقيض الحكم] الذي يشهد
عليه النص في محله ورجع حاصل القول إلى تكلفة طردا وعكسا
من غير فائدة.
ومما يوضح الغرض في ذلك أن العلة إنما تنعكس ويتعين التعلق
بها في إثبات نقيض حكم الطرد وبعكسها بشرطين:
أحدهما: أن تكون مخيلة في الطرد والعكس
يشعر العدم فيها بالعدم كما يشعر الوجود فيها بالوجود.
والآخر: ألا تخلف العلة الزائلة في الثبوت
علة فإن لم تخلف علة وأحال النفي في الانتفاء إحالة الثبوت
في الإثبات فإذ ذاك يتصور محل الطرد.
والعكس بصورة مسألتين مشتملتين على علتين وكل واحدة منهما
سليمة عما يشترط سلامة العلل عنها وإذا كان الأمر كذلك
فلتكن النقدية مخيلة حتى يتخيل فيها الانعكاس وليست
النقدية مخيلة فقهية فقد سقط طلب إفادتها من جهة الانعكاس.
1094- فإن قال قائل: إذا سلمتم أن العلة إذا لم تفد فلا
يحكم عليها بصحة ولا فساد ولا تقدر متعلقا لأمر ولا نهي
وعدت خطرة في مجاري الوسواس وخرجت عن الرتب المعول بها في
الأقيسة فأين تستعمل هذه العلة القاصرة؟
[قلنا]: إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا نرى
للعلة القاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما
ذكرناه في صدر المسألة وإنما [يفيد] إذا كان.
ج / 2 ص -149-
قول
الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير
مثلا دون القليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه عن
التخصيص بعلة أخرى لا تترقى [في] مرتبتها على المستنبطة
القاصرة.
1095- ثم في ذلك سر وهو: أن الظاهر إذا كان يتعرض للتأويل
ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه
فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص متعدية
إلى ما اللفظ ظاهر فيه حيث عصمته عن التخصيص والتأويل فكان
ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا فلا يتجه غير ذلك في
العلة القاصرة فليفهم الفاهم ما يرد [عليه من] ذلك.
1096- فإن قيل: قول الرسول عليه السلام:
"لا تبيعوا الورق بالورق"، الحديث1 نص أو ظاهر؟ فإن زعمتم أنه نص فالتعليل [بالنقدية] باطل
وإن كان ظاهر فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير
فقد صار بقرينة الإجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل؟ فهذا
منتهى القول فيه.
فنقول: أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على
الفروع فإن تخلفت مسألة فلتمتحن بحقيقة الأصول فإن لم تصح
فلتطرح.
1097- فإن قيل: ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية.
قلنا: لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما
نورده ونصدره والصحيح عندنا: أن مسائل الربا شبهية ومن طلب
فيها إخالة اجترا على العرب كما قررناه في مجموعاتنا ثم
الشبه على وجوه فمنها التعلق بالمقصود وقد بينا أن المقصود
من الأشياء الأربعة الطعم والمقصود من النقدين النقدية وهي
مقتصرة لا محالة وليست علة إذ لا شبه لها ولا إخالة فيها
ولكن لما انتظم فيها اتباع المقصود عد من مسالك الأشياء
الأربعة وليس بعد هذا نهاية.
1098-
السؤال الثاني: فإن قال قائل: النص مقطوع
به والعلة مستنبطة مظنونة ومجال الاجتهاد عند انعدام
القواطع فلتبطل العلة القاصرة من حيث إنها مظنونة وهذا
قريب المأخذ من السؤال الأول فإن غايته ترجع إلى أن لا
فائدة فيها ولا أثر لها وما اخترناه يدرأ هذا فإنا بينا أن
العلة إنما تستنبط ولفظ الشارع ظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في "البيوع" "78" والنسائي في"البيوع" "44"
وأحمد "2/437", "3/47, 82".
ج / 2 ص -150-
ثم
نبهنا على التحقيق.
1099- وقد ذكر بعض المنتمين إلى الأصول وهو: الحليمي طريقة
[وأخذ] يتبجح بها وقال: من ينشئ نظره لا يدري أيقع على
قاصرة أم متعدية فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء
النظر فيجب النظر من هذه الجهة.
وقائل هذا قليل [النزل] فإن الخصم لا ينكر هذا وإنما
الخلاف فيما تحقق قصوره فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر
والعلة قاصرة؟ ولا مزيد إذا على ما تقدم.
1100- ثم تكلم القائلون بالعلة القاصرة إذا عارضتها علة
متعدية وثبت بمسلك قاطع من إجماع أو غيره اتحاد العلة في
مورد النص فأي العلتين أقوى؟
فذهبت طوائف من الفقهاء إلى أن المتعدية أقوى من حيث إنها
المفيدة والقاصرة يغنى النص عنها.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق: إلى أن القاصرة أولى فإن النص
شاهد لحكمها.
وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور.
وكل ذلك عندنا خارج عن حقيقة المسألة: ومن أطلع على ما
قدمناه هانت عليه هذه المدارك وآل القول إلى أن القاصرة
والمتعدية إذا سنحتا في مورد ظاهر والظاهر شاهد للقاصرة
وهو أيضا شاهد في مضمونه للمتعدية فإن المتعدية تستوعب محل
الظاهر وتزيد فقد استويا في الشهادة واختصت المتعدية
بالإفادة وهي المعتبرة في تقدير توجه الأمر بالقياس فإذا
جرت المتعدية سليمة لم يقدح فيها غير معارضة القاصرة.
1101- والذي يظهر عندي أن المتعدية أولى وهذا إذا استوتا
في المرتبة جلاء وخفاء.
وسيعود هذا الفصل بعينه في كتاب الترجيح إن شاء الله
تعالى.
وما قدرناه لا يجري في [النقدين] فإن العلة التي عداها
الخصم فيها باطلة من وجوه سوى المعارضة وإنما الذي ذكرناه
كلام مرسل حيث يتصور سلامة القاصرة والمتعدية ولو فرضت كل
واحدة منهما مفردة.
ج / 2 ص -151-
مسألة:
1102-
ومن الاعتراضات الفاسدة: أنه إذا تعلق
المتعلق بما يدل على فساد في الفرع واستشهد به على فساد
الأصل كان ذلك مقبولا عند المحققين وقد يناكد في مدافعه
ذلك بعض الجدليين ويقول التفريع تسليم الأصل وخوض في تسليم
الفرع والتصرف في الفرع اعتراف بصحة الأصل وثبوته فإذا
قلنا: نكاح لا يفيد الحل مع إمكان الاستمتاع وجهوا هذا
السؤال.
وهذا الاعتراض فاسد لا خفاء بسقوطه فإن [صحة] الأصول إذا
كانت تقتضي صحة الفروع [ففساد الفروع] يدل على فساد الأصول
وإنما يستمر هذا الاعتبار إذا قدر المعتبر أن الأصل إذا صح
مقتضاه نقيض ما ثبت في الفرع في محل الاعتلال وإذا ثبت ذلك
كان ذلك باعتبار حكم الفرع في نهاية الظهور وغاية القايسين
الوصول إلى غلبات الظنون ولا مزيد على ما فيه الكلام فإذا
ثبت اقتضاء أصل حكما وتبين أن ذلك الحكم غير ثابت ظهر أن
الأصل لم يثبت على الصحة ولا يبقى مع هذا الإلحاح الجدلي
ولجاجة في عبارة الأصل والفرع معنى.
1103- ومن لطيف الكلام في ذلك أن من لا يقول بالاستدلال
ويزعم أن كل معنى يستدعي الاستناد إلى أصل وإن كان مخيلا
فالذي يقتضيه قياسه أن يستثني هذا الفن ويقول به وإن لم
يجد [أصلا] فإنه إذا سلم اقتضاء العقد حكما ثم لم يثبت
مقتضاه فلا يستريب في اختلال العقد إذا تخلف عن اقتضائه.
ثم من صحح هذا النوع اضطربوا في أنه [هل هو] من قياس
المعنى أو من قياس الشبه فقال قائلون هو من أجلى الأشباه
وقال آخرون: هو من أقيسة المعاني والصحيح عندنا أنه من
أقيسة الدلالة كقول القائل من صح طلاقه صح ظهار بل هذا
الذي نحن فيه أعلى [منه] فإنه تعلق بغير مقتضى الشيء ولا
يجوز المحصل مباينة المقتضى مقتضاه والطلاق والظهار حكمان
متغايران.
مسألة:
1104-
ومن الاعتراضات الفاسدة: أنه إذا طرد طارد
علة في حكم واستمر له فقال المعترض: هلا طردتها في حكم آخر
بعينه؟
ج / 2 ص -152-
فهذا
الاعتراض فاسد مثاله: أنا إذا اعتبرنا كون الشيء مقتاتا
مستنبتا في تعلق العشر فإنا نسلم هذا الاعتبار عن وجوه
الاعتراضات الواقعة فقال المعترض بعد: هلا اعتبرتم [ذلك]
في تحريم ربا الفضل فإذا أبطلتموه في الربا فأبطلوه في
الزكاة.
فنقول: هذا لا وجه له فإن من طرد علة في حكم فلا يلتزم إلا
كونها مشعرة به إن كانت معنوية مع السلامة عن الوجوه
المبطلة ولا سبيل إلى تكليف المعلل طرد علته في جميع
الأحكام فإن زعم المعترض أن تحريم الربا في معنى الزكاة
كان مدعيا مطالبا بإثبات ما يدعيه.
هذا حكم الجدل في المسلك الحق وليس من المدافعات ولكن
الناظر البالغ مبلغ الاجتهاد إذا كان يبغي مدرك مأخذ
الكلام فحق عليه أن يعرف انفصال كل باب عما عداه في سبيله
وليس كل ما يلتزمه المجتهد في نفسه يلزمه البوح به في
النظر.
مسألة:
1105-
ومن الاعتراضات الفاسدة:
التعرض للفرق بين الأصل والفراغ بما هو نتيجة
[افتراقهما] في الاجتماع والخلاف.
ومثاله: إذا قاس القايس النبيذ المشتد على الخمر فقال
المعترض: مستحل الخمر كافر ومستحل النبيذ لا يفسق وهذا
يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متفق عليه ثابت من جهة
الشرع قطعا ومنكر ذلك جاحد للشرع وتحريم النبيذ مختلف فيه.
ومن هذا الجنس قول أصحابنا في طلب الفرق بين المدبرة
والمستولدة: إن القضاء ببيع المستولدة منقوض بخلاف المدبرة
وهذا باطل لصدره عن افتراق الأصل والفرع في ظهور الحكم في
الأصل وكونه مجتهدا فيه في الفرع.
مسألة:
1106-
ومن الاعتراضات الفاسدة: قول القائل:
الحكم يثبت في الأصل متأخرا والمعلول لا يسبق العلة فإذا
قسنا الوضوء في الافتقار إلى النية على التيمم قالوا: ثبوت
التيمم متأخر عن الوضوء.
ج / 2 ص -153-
والجواب عن ذلك لائح ولا يليق بهذا المجموع ذكر أمثال ذلك
إلا رمزا فنقول: إذا ثبت اشتراط النية في التيمم فاعتبار
الوضوء به في الحال متجه وسؤال المعترض مباحثة عن أمر منقض
وحقه ألا يتعرض لما مضى فإن الناظر في تأخر النزاع قد لا
يشك في أن النية في الوضوء كانت عند مثبتيها مدلولة بدلالة
أخرى قبل ثبوت التيمم فإذا ثبت التيمم دل عليها والعلامات
قد تترتب تقدما وتأخرا وذلك غير مستنكر في دلالات العقول
فما الظن بالأمارات؟
ثم لا يمتنع أن يقال: إذا ثبت كون الوضوء في معنى التيمم
ثم ثبتت النية في التيمم أرشد ذلك من طريق السبر والاستناد
إلى أن النية كانت مرعية في الوضوء فيما سبق وهذا تكلف
مستغنى عنه فإن المناظرات لا تدار على الأحكام الماضية
ومنتهى هذا السؤال آيل إلى المطالبة بما دل على [النية
قبل] ثبوت التيمم وهذا لا يلزم الجواب عنه.
[مسألة]:
1107-
ومن الاعتراضات الفاسدة:
جعل المعلول علة والعلة معلولا مثاله: إنا إذا قلنا في
ظهار الذمي: من صح طلاقه صح ظهار كالمسلم فإذا قال
المعترض: جعلتم الظهار معلولا والطلاق علة وأنا أقول في
الأصل المقيس عليه [المسلم]: إنما صح طلاقه لأنه صح ظهار
فأجعل ما جعلتموه علة معلولا وما جعلتموه معلولا علة فإذا
كان لا ينفصل ما ادعيتموه عما ادعيناه ولا يتأتى تميز
العلة عن المعلول لم يصح فإن باب العلة ينبغي أن يتميز
بحقيقته وخاصيته عن باب المعلول وقد يستشهد هذا السائل
بلقب قرع مسامعه من المعقولات ويقول: العلة والمعلول في
الشرعيات على مضاهاة العلل في العقليات ثم العلة العقلية
متميزة عن المعلول فليكن الأمر كذلك في السمعيات.
وهذا عند ذوي التحقيق ركيك من الكلام وإنما يتوجه هذا الفن
من الاعتراض على قياس الدلالة كالطلاق والظهار وما أشبهها
فإن الغرض أن يدل باب على باب بوجه يغلب على الظن ومن يروم
ذلك يتمسك بالمتفق عليه من البابين ويجعله علما ودلالة على
المختلف فيه فإن كان هذا المعترض يتشبث برد قياس الدلالة
ويجعل ما ذكره عبارة عن هذا المقصود فالوجه إثبات هذا
الباب من القياس وقد تقدم ذكر ذلك.
ج / 2 ص -154-
وإن
كان يعترف بقياس الدلالة فالذي ذكره جار فيه ثم لا ننكر أن
يكون الظهار علما دالا على الطلاق حيث تمس الحاجة إلى ذلك
والغرض ألا يختلف البابان إذا غلب على الظن اجتماعهما فقد
تبين سقوط الاعتراض.
1108- وأما مل ذكره من الاستشهاد بالعلة والمعلول في
المعقول فما أبعدهم عن ذلك وهو عمدة صناعة الكلام.
والذي انتهى إليه اختيارنا بعد استيعاب معظم العمر في
المباحثة أن ليس في العقل علة ولا معلول فكون العالم عالما
هو العلم فيه بعينه وإنما صار إلى القول بالعلة والمعلوم
من أثبت الأحوال وزعم أن كون العالم عالما معلول والعلم
علة له وهذا مما لا نرضاه ولا نراه.
ثم العلل الشرعية لا تجري مجرى المعقولات فإن الأحكام
العقلية تستند إلى صفات الأنفس والذوات والعلل الشرعية
مستندها النصب وليست هي مقتضية معلولاتها لأنفسها وإذا كان
انتصابها عللا راجعة إلى نصب ناصب إياها أعلاما فلا يمتنع
تقدير [حكمين] كل واحد منهما علم على الثاني مشعر بوقوعه
عند وقوعه.
[مسألة]:
1109-
ومن الاعتراضات الفاسدة:
أن يقول القائل: هذا الذي نصبته علما هو صورة المسألة
فالعلة حقها أن تكون زائدة على الحكم وهذا لا حاصل له فإن
الذي نصبه [الناصب علما] إن أخال وجرى سليما عن المبطلات
غير معترض على الأصول فلا معنى لقول القائل أنها صورة
المسألة إذ لا علة في عالم الله تعالى إلا وهي كذلك فالوجه
إقامة شرائط العلة واطرح هذا الفن من السؤال.
وحظ هذا الفن من التحقيق أن من نص على صورة المسألة وميزها
بخاص وصفها فلا يتصور أن يجد أصلا متفقا عليه وإن ذكر
عبارة تعم صورة المسألة وأصلا متفق عليه فالوجه الذي به
العموم هو الجمع ولا تتصور العلل إلا كذلك.
فهذا منتهى المراد في هذا وقد نجز بنجازه [الكلام في]
الاعتراضات الصحيحة والفاسدة.
ج / 2 ص -155-
القول في المركبات.
فصل
1110- وهذا يستدعي تجديد العهد بالطرق التي تثبت بها علل
الأصول وقد سبقت فليجدد الناظر عهده بها مما تقدم في هذا
المجموع ولا مطمع والمسألة مختلف فيها في علة تكون في
الأصل متفقا عليها فإنها لو كانت مجمعا عليها وهي م موجودة
في محل النزاع فلا يتصور والحالة هذه الخلاف في الفرع.
ومما تمس الحاجة إلى ذكره أن من ذكر في علة الأصل صفة
مضمونة إلى أخرى وكانت [إحداهما] تستقل بإثبات الحكم
المطلوب في الأصل وهذا النوع من التعليل باطل مثل: أن نقول
في النكاح بلا ولي أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة فكأنه ذكر
الأنوثة والصغير في الأصل فهذه مقدمات لا بد من التنبه
لها.
1111- ثم التركيب يقع في الأصل والوصف.
فأما التركيب في الأصل، فمنه البين
والفاحش ومنه ما لا يتفاحش.
ونحن [نرسم الصور] ونذكر في كل صورة ما يليق بها ثم نذكر
قولا جامعا بعد نجاز الصور والأقوال فيها.
فمن الصور أن يقول المعلل: أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس
عشرة سنة والخصم يعتقد أنها صغيرة ولو كانت كذلك لكان ما
جاء به المعلل قياسا على الصغيرة وقد ذكرنا بطلانه وإن ثبت
أنها كبيرة فسيمنع الحكم ويقضي بأنها تزوج نفسها.
1112- والذي ذهب إليه طوائف من الجدليين القول بصحة
التركيب وحاصل كلامهم يئول إلى أن الحكم متفق عليه والمعلل
يلتزم إثبات الأنوثة علة فإن أثبتها ثبتت العلة وتشعب
المذاهب بعد ذلك لا أصل له وإن لم يتمكن المعلل من إثبات
ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل وإن لم
يكن مركبا فإذا لا أثر للتركيب كان أو لم يكن وإنما المتبع
إثبات علل الأصول.
وهذا باطل عند المحققين فإن المخالف يقول: ظننت ابنة الخمس
عشرة صغيرة
ج / 2 ص -156-
ولو
كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا
بالقياس على ما لو مس وبال وإن ثبت بما يغلب على الظن أن
ابنة الخمس عشرة بالغة فلها أن تزوج نفسها ولا يخلو
التقدير من هذين فالعلة مرددة بين منع الحكم في الأصل على
تقدير وبين سقوط العلة على تقدير.
1113- فإن قيل: أرأيتم لو أثبت المعلل الأنوثة علة.
قلنا: ما نراه يقدر على ذلك فإن فرض إمكان ذلك فالعلة لا
أصل [لها] ويرجع الكلام إلى الاستدلال المحض كما سنذكره
بعد نجاز القول في المركبات فإن قيل: يثبت المعلل أن
الأنوثة علة في ابنة الخمس عشرة قلنا: مع اعتقاد صغرها أو
مع ثبوت بلوغها فإن ثبت بلوغها فالحكم ممنوع وإن ثبت وإن
ثبت صغرها فالصغر مستقل بالمنع.
1114-
صورة أخرى:
إذا قلنا في تزويج الأب البكر: بكر فيزوجها أبوها
مجبرا كبنت الخمس عشرة فهذه الصورة دون الأولى فإنه وإن
ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة غير ممتنع عند
الشافعية إذ مجرد الصغر لا يثبت ولاية الأب فإن الثيب
الصغيرة لا يزوجها أبوها عندهم فتصدى في الأصل تقدير منع
بأن يقول الخصم: ابنة الخمس عشرة صغيرة فإذا أنكر عليه
قال: هذا مظنون فإن ثبت أنها بالغة فلا يجبرها الأب ولا شك
أن من يقول بالتركيب يقبل هذا.
وهذه الصورة تنفصل عن الأولى فإن الأولى تبطل على تقدير
الصغر والبلوغ جميعا [والصورة] الثانية لا تبطل على تقدير
الصغر ولكن يتوجه على تقدير الكبر منع من الخصم [ويضطر
المعلل] إلى رد القياس إلى الصغيرة بالبكر فيلغو تعيين خمس
عشرة.
فصل: التركيب في الوصف.
1115-
وأما التركيب في الوصف: فمنه المتفاحش وهو
أن يقول الشافعي في قتل المسلم بالذمي: من لا يستوجب
القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجب بقتله بالسيف كالأب في
ابنه.
ج / 2 ص -157-
فهذا
يصححه بعض الجدليين بناء على ما تقدم وهو على نهاية الفساد
عندنا فإن المثقل على رأي الخصم ليس آلة القصاص فإن ثبت
أنه ليس آلة القصاص كان القصاص باطلا [آيلا] إلى أن من لا
يستوجب القصاص بقتل شخص خطأ لا يستوجب بقتله عمدا وإن ثبت
أنه آلة القصاص منع الخصم الحكم فالعلة بين منع بطلان.
1116- وقد يجري في الوصف تركيب قريب يضاهي عند المحققين
التمسك بمناقضة الخصم وشرط ذلك أن يكون مشعرا بفقه.
ومثاله: قولنا في الثمرة التي لم تؤبر أنها تتبع الشجرة في
مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت مطلق
تسميتها كالأغصان.
ووجه الفقه أن الشفعة في وضعها لا تختص بالمنقولات فأشعر
أخذ الشفيع الثمرة بكون الثمرة معدودة من إجزاء الشجرة
ملتحقة بها.
فأما إذا قال الخصم: سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى
ولذلك أثبت أخذ الثمار المؤبرة [للشفيع] فالوجه أن يقول
الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما تريدها ظاهرة ومعناكم
ظاهر على السبر فقد جرى هذا فقها وسببه مناقضتكم فليسند
التعلق به وما يتعلق تعلقا ظاهرا فإنه يتضمن إلحاق الثمرة
بأجزاء الشجرة وهو المقصود الأقصى.
والتركيب البعيد لا يناسب غرض المسألة والتعويل فيه على
[زلل] الخصم.
1117- مسألة أخرى ليست من محل النزاع بسبيل.
[كغلط] يتفق في سن البلوغ فلا تعلق له بتزويج المرأة أو
امتناع ذلك عليها فإذا توصل ذو الجدل إلى صورة فيها غلط
للخصم عنده في حد البلوغ فإنا نستجيز طالب المعنى
[استثارة] غرض النكاح من غلطه [في] سن البلوغ.
1118- وإذا اعتبرنا القصاص [في النفس بالقصاص في الطرف] في
صورة نفرضها في قتل المسلم بالذمي وذلك إذا فرضنا في
المسلم والذمية ثم اعتبرنا النفس بالطرف كان الاعتبار
واقعا مناسبا لغرض [المسألة] إما من جهة [تشبيه] أو من جهة
إشارة إلى معنى فقه فإذا ذهبوا يخبطون في الأطراف كان ذلك
من مناقضاتهم وسوء نظرهم وعلى هذا يجري تدرب النظار في
مناقضات الخصوم.
فهذا منتهى القول فيما يصح ويبطل من التركيب في الأصل
والوصف.
ج / 2 ص -158-
مسألة: في التعدية
1119- ثم ضري أهل الزمان بفن من الكلام يسمونه التعدية وهو
عرى عن التحصيل ولكن لا سبيل إلى تعرية هذا المجموع عن
ذكره والتنبه على فساده فنفرض [من صوره] صورة في التركيب
ونرتب عليها صورة التعدية.
فإذا قلنا: أنثى لا تزوج نفسها كبنت الخمس عشرة فيقول
المعترض المعنى فيها أنها صغيرة وعدى ذلك إلى منع
استقلالها بالتصرفات واطراد ولاية الولي عليها.
فإذا قال القائل: دعواك الصغر ممنوعة وكذلك فروعها.
قال المعدي: كذلك الأنوثة ليست علة وقد ادعيتها علة
وعديتها إلى فرعك فادعيت الصغر علة وعديتها إلى فروعي
فاستوى القدمان وآل الأمر إلى التزامك إبطال علتي أو ترجيح
علتك.
وقد ينقدح للمعدي جهتان في التعدية و [ذلك] إذا قال
المعلل: بكر فيجبرها أبوها كبنت الخمس عشرة فينقدح للمعدي
أن [يقول المعنى فيها أنها صغيرة وعدى ذلك إلى اضطراد
الحجر عليها فهذا وجه في التعدية وقد] يقول: المعنى فيها
أنها صغيرة واعديها إلى جواز تزويجها مجبرا وإن كانت ثيبا
وهذا يطرد للمعدي في الصغيرة الثيب التي يتفق على صغرها.
1120- ثم تكلم أصحاب التركيب على التعدية من وجوه لست أرى
ذكر معظمها.
فمنها: أنهم قالوا: معناي مسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما
أنازع في إثباته علة وهذا يجري في [كل] علة مستثارة في محل
الاجتهاد وما ادعيته علة لا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات
وجوده كنت منتقلا إلى مسألة أخرى ليست من مسألتنا بسبيل
والانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوي فيه السائل والمسئول.
فهذا وجه التضييق الذي تخيله المركبون فلو عدى المسئول لم
يقبل منه فإن دليل المسئول إنما يقبل في نفس المسألة أو
فيما تنبني عليه فإنه إذا احتاج إلى إثبات مسألة لا تعلق
لها بمحل النزاع فقد عد متنقلا.
1121- وقد يسلك المركب في إبطال التعدية مسلكا آخر فيقول:
لو ثبت معناك
ج / 2 ص -159-
لقلت
به ضمنا إلى معناي فإن الحكم لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا
قد لا يجري في بعض المركبات فإنا إذا قلنا: بكر فتجبر كما
ذكرناه فذكر المعدي الصغر لم يمكنا أن نجعل الصغر علة في
الإجبار فإن الثيب الصغيرة لا تجبر عندنا.
1122- وقال الأستاذ أبو إسحاق وهو من المركبين: سبيل
المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول: معناي عندكم دعوى غير
مثبتة [بما] تثبت به معاني الأصول أم قد يثبت مدلولا فإن
لم يقم عليه دليل [فلست] معللا بعد ولا مقيما متمسكا في
محل النزاع فابتدارك إلى معارضتي بالتعدية غير متجه وإن
اعترفت بكون معناي ثابتا فمعناك الذي ابتدأته ليس مناقضا
لمعناي وإنما تقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى.
فهذا مضطرب المركبين والمعدين.
وقد بان أصلنا فيما نقبله ونرده في تركيب الأصل والفرع.
1123- ونحن الآن نجمع المقصود والمدرك الحق في تقسيم
فنقول:
الأقيسة [الخلية] عن معنى التركيب في الأوصاف والأصول بينة
وقد قدمنا تقاسيمها وذكرنا مراتبها.
فأما ما يليق بما نحن فيه فينقسم إلى قسمين:
أحدهما: يتلقى انتظامه من مذهب الخصم لا
تعلق له بمحل النزاع ولا يشعر به ولا يقتضيه بطريق التشبيه
وهذا كمصير أبي حنيفة إلى أن بنت الخمس عشرة صغيرة فهذا لا
يناسب تزويج المرأة نفسها ولا امتناع ذلك منها وليس منها
على معنى ولا تشبيه ومذهبه ذكر التركيب فهو إذا [تعقيد]
على الشادين والمبتدئين ومدافعة لهم عن مسلك الرشد وتعميه
عليهم.
وقد أجمع الناظرون في هذا الباب أن هذا القسم لا يجوز أن
يكون مستند الفتوى ولا الحكم وليس هو مناطا لحكم الله
تعالى لا معلوما ولا مظنونا فهذا هو المردود فإن الجدل
الحسن المأمور به هو الذي [يقرب] من مثار الأحكام [فيرشد]
إلى مناطها وهذا القسم هو المردود عندنا.
1124- وأما التركيب المشعر بفقه كما قدمنا تصويره فينقسم
إلى قسمين:
منه ما الحكم فيه مع المعنى الفقيه متفق عليه فما كان كذلك
فهو مقبول.
ج / 2 ص -160-
مستند
للفتوى والحكم ووجوب العمل وهذا كقياسنا القصاص في النفس
على القصاص في الطرف في بعض صور الوفاق وإن وقع القصاص في
الطرف مركبا عند الخصم كان التركيب منه معدودا من خبطه
وتعلق القياس بالإجماع على الحكم والمعنى الفقيه أو وجه
لائح في التشبيه فهذا قسم.
1125- والقسم
الثاني من هذا: أن ينفرد الخصم بتسليم
الحكم ثم يبتدئ منه تركيبا فهذا لا ينتهض مستند الفتوى
والحكم ولكن يجوز التمسك به في المناظرة كما يجوز التمسك
بمناقضة الخصم والسبب فيه أن المناقضات لها تعلق بفقه
المسألة وفي المباحثة عنها التنبيه على مآخذ الكلام
والتدرب في الجدل المفضى إلى مدرك الحق وهذا من فوائد
المناظرات.
1126- فيترتب من مجموع ما ذكرنا مركب مردود حكما ونظرا
ومركب معمول به حكما ومن ضرورته أن يكون مقبولا نظرا ومركب
مقبول نظرا والغرض منه التدرب في المسلك المطلوب في
المناظرات وليس معمولا به في فتوى ولا قضاء.
وقد نجز بهذا تمام القول في المركبات بل وفي تقاسم الأقيسة
وما يصح وما يفسد من الاعتراضات وطرق الانفصال عنها ونحن
الآن نفتتح الكلام في الاستدلال. |