البرهان في أصول الفقه ج / 2 ص -161-
الكتاب الرابع: كتاب الاستدلال.
القول في الاستدلال.
1127- اختلف
العلماء المعتبرون والأئمة الخائضون في الاستدلال وهو:
معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من
غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه.
1128- فذهب القاضي وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد
الاستدلال وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل.
1129- وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول
بالاستدلال فرئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة
والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل
وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك
المصالح مستندا إلى أصول ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما
استند نظره وانتقض عن أوضار التهم والأغراض.
1130- وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما
إلى [اعتماد] الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في
أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ
تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا
وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في
الشريعة.
1131- فالمذهب إذا في الاستدلال ثلاثة:
أحدها: نفيه والاقتصار على اتباع كل معنى
له أصل.
والثاني: جواز إتباع وجوه الاستصلاح
والاستصواب قربت من موارد النص أو بعدت إذا لم يصد عنها
أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع.
ج / 2 ص -162-
والمذهب الثالث: هو المعروف من مذهب الشافعي: التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل
على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة.
1132- أما القاضي فإنه احتج بأن قال: الكتاب والسنة
متلقيان بالقبول والإجماع ملتحق بهما والقياس المستند إلى
الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه.
أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة وليس
يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها فانتفاء الدليل
على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به.
وقال أيضا: المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات
كانت منحصرة في ضبط الشارع وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى
الأصول لم تنضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه
الرأي واقتفاء حكمة الحكماء فيصير ذوو الأحلام بمثابة
الأنبياء ولا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذا ذريعة
في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل
ما يراه ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق
وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون.
1133- وأما الشافعي فقال: إنا نعلم قطعا أنه لا تخلو واقعه
عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
على ما سنقرره في كتاب الفتوى.
والذي يقع به الاستقلال هاهنا: أن الأئمة السابقين لم
يخلوا واقعه [على] كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى
عن حكم الله تعالى ولو كان ذلك ممكنا لكانت تقع وذلك مقطوع
به أخذا من مقتضى العادة وعلى هذا علمنا بأنهم رضى الله
عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق [بانبساطها]
على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما
سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم [ما] كانوا يفتون فتوى من
فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم [الله]
وإلى ما لا يعرى عنه.
فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب وقلنا: لو انحصرت مآخذ
الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع
باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع
من متسع الشريعة غرفة من بحر ولو لم يتمسك الماضون بمعان
في.
ج / 2 ص -163-
وقائع
لم يعهدوا أمثالها لكان [وقوفهم عن] الحكم يزيد على
جريانهم وهذا [إذا] صادف تقريرا لم يبق لمنكري الاستدلال
مضطربا.
1134- ثم عضد الشافعي هذا بأن قال: من سبر أحوال الصحابة
رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم ير لواحد
منهم في مجالس الاشتوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء
الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات
إلى الأصول كانت أو لم تكن فإذا ثبت اتساع الاجتهاد
واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات وانضم إليه عدم
احتفال علماء الصحابة تطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى
القول بالاستدلال.
1135- ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول: إذا
استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول
وأحكامها حججا وإنما الحجج في المعنى ثم المعنى لا يدل
بنفسه حتى يثبت بطريق [إثباته] وأعيان المعاني ليست منصوصة
وهي [المتعلق] فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق
النظر والاجتهاد ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة رضي
الله عنهم بأمثالها وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي
فإن كان الاقتداء بهم فالمعاني كافية وإن كان التعلق
بالأصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة.
1136- ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل ولكنه
ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة فإن عدمها التفت إلى الأصول
[مشبها] كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان؟ ولا بد في
التشبيه من الأصل كما سنجري في ذلك فصلا إن شاء الله
تعالى.
1137- وأما ذكره القاضي من المسلك الأول ففي طرد كلام
الشافعي ما يدرؤه ولو قيل: لم يصح في النقل عن واحد طرد
القياس على ما يعتاده بنو الزمان من تمثيل أصل واستثارة
معنى منه وربط فرع به لكان ذلك أقرب مما قال القاضي.
1138- وأما ما ذكره من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى
انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا إنما يلزم
مالكا رضي الله عنه ورهطه إن صح ما روى عنه كما [سنقيم]
الآن واضح الرأي على أبي عبد الله مالك رضي الله عنه أولا
حتى إذا انتجز ضممنا [النشر] وأنهينا النظر وأتينا بمسلك
اليقين والحق المبين مستعينين بالله تعالى وهو خير معين.
ج / 2 ص -164-
1139- فنقول لمالك رحمه الله: [أتجوز] التعلق بكل رأي فإن
أبي لم نجد مرجعا نقر [عنده] إلا التقريب الذي ارتضاه
الشافعي رضي الله عنه كما سنصفه وإن لم يذكر ضبطا وصرح:
بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي المرسل
واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط
ويلزم منه ما ذكره القاضي رحمه الله.
1140- وما نزيده الآن قائلين: لو صح التمسك بكل رأي من غير
قرب ومداناة لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه الإيالات
إذا راجع المفتين في حادثة فأعلموه أنها ليست منصوصة في
كتاب ولا سنة ولا أصل لها يضاهيها لساغ والحالة هذه أن
يعمل العاقل بالأصوب عنده والأليق بطرق الاستصلاح.
وهذا مركب صعب لا يجترئ عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى
عقول العقلاء وإحكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر
بخلاف ذلك.
ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات ولو كان
الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الاستصواب ومسالكه تختلف
للزم أن تختلف الأحكام [باختلاف] الأسباب التي ذكرناها.
ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في
المظنونات ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب فإن
[شوف] الناظرين إلى الأصول الموجودة فإذا رمقوها واتخذوها
معتبرهم لم يتباعد أصلا اختلافهم.
ولو ساغ [ما قاله] مالك رضي الله عنه إن صح عنه لاتخذ
العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة معتبرهم.
وهذا يجر [خبالا لا] استقلال به.
1141- وإن أخذ مالك رحمه الله وأتباعه يقربون وجه الرأي من
القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي
رحمه الله على ما سنصف طريقة.
وإنما وجهنا ما ذكرناه على [من] يتبع الرأي المجرد ولا
يروم ربطة بأصول الشريعة ويكتفي ألا يكون في الشريعة أصل
يدرؤوه من نص كتاب أو سنة أو إجماع.
1142- فإن قيل: فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى
الشافعي؟
قلنا: هذا [محز] الكلام ونحن نقول: قد ثبتت [أصول] معللة
اتفق القايسون.
ج / 2 ص -165-
على
عللها فقال الشافعي أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل
الاستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا
أصول والاستدلال معتبر بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا
أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع فإن متعلق الخصم من
صورة الأصل معناها لا حكمها فإذا قرب معنى المجتهد
والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل كان استدلالا
مقبولا.
وهذا يتبين برسم مسألة واستقصاء القول فيها ونحن نجريها
ونذكر ما فيها حتى تنتج الأصول والمعاني والاستدلالات.
مسألة:
1143- الرجعية محرمة الوطء عند الشافعي وهي مباحة
الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنهما.
ومعتمد الشافعي: أنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج
على شغل رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتبرئة متناقض.
وهذا معقول فإن المرأة لو تربصت قبل الطلاق [واعتزلها]
الزوج لم يعتد بما جاءت به عدة فلو كانت تحل قبل الطلاق
وبعده لما كان لاختصاص الاعتداد بما بعد الطلاق معنى ولم
يطلب الشافعي بهذا المعنى أصلا وما ذكره قريب من القواعد
فإنه كلام منشؤه من فقه العدة ثم عضده بما قبل الطلاق.
1144- وقال بعض أصحابه: نقيس الرجعية على البائنة في
العدة.
ويتسع الآن القول في إثبات الحكم بالعلتين ونفى ذلك والغرض
يتبين بفرض أسئلة وأجوبة عنها.
فإذا قلنا: معتدة فتكون محرمة كالمعتدة البائنة فيقول
[المعترض: المعنى] في تحريمها أنها بائنة وهذا المعنى
يستقل باقتضاء الحكم ولا خلاف أن البينونة علة في اقتضاء
التحريم فليقع الاكتفاء بها.
وربما أكد السائل كلامه بأن قياس الرجعية على البائنة
بمثابة قياس البالغة على الصغيرة بجامع الأنوثة فإذا قال
القائل: أنثى فلتلحق بالصغيرة كان ذلك مردودا فإن الصغر
بمجرده يستقل نافيا للاستقلال فلا أثر للأنوثة وقد قدمنا
ذلك في العلل المركبة وهذا القول يلتحق بقول القائل: مس
فصار كما لو مس وبال.
ج / 2 ص -166-
وقد
أجاب عن ذلك الأولون فقالوا: لسنا ننكر كون البينونة علة
ولكن العدة علة أخرى وليس بين العلتين تعارض إذ ليس بين
حكميهما تناقض ولا يمتنع.
ارتباط الحكم الواحد بعلتين وأما القياس على الأنثى
الصغيرة فهو في صوره كقياس الرجعية على البائنة ولكن
الأنوثة ليست مخيلة والمستدل بتلك الصورة طارد فكان بطلان
العلة لذلك وكذلك سبيل القياس على ما لو مس وبال.
1145- فإن قيل: قد قدمتم أن الحكم لا يعلل بعلتين فلم
سوغتموه الآن؟
قلنا: حاصل كلامنا فيما مضى آيل إلى أن ذلك غير ممتنع من
طريق النظر فإن العلل الشرعية أمارات ولا يمتنع انتصاب
أمارات على حكم واحد كما لا يمتنع ازدحام أدلة عقلية على
مدلول واحد وإنما كان يمتنع تقدير ذلك أن لو كانت الأمارات
موجبات كالعلل العقلية عند مثبتيها فإنها موجبة معلولاتها
فيمتنع على هذا التقدير ثبوت موجبين لموجب واحد مع
الاستقلال بأحدهما وينجر القول إلى سقوط فائدة إحدى
العلتين وهذا لا يتحقق في العلامات ولكنا مع هذا قلنا: هذا
الذي لا يمتنع في مسلك النظر لم يتفق وقوعه ثم أوردنا صورا
يتعلق بها في ظاهر الأمر حكم بعلل وأوردنا أنها أحكام تعلل
بعلل وإنما يتخيلها الناظر حكما واحدا لضيق المحل عن
الوفاء بأعدادها عند ازدحامها.
وقد سبق في هذا قول مقنع تام.
والغرض من تجديد العهد به أن القايس على البائنة [يستدل
بأن] يقول: اجتمع في البائنة المعتدة علتان وتحريمان: أحد
التحريمين تحريم البينونة وانقطاع النكاح وهذا لا يختص
بالعدة فإنها لو [أبينت] قبل الدخول من غير عدة لحرمت
والتحريم الثاني تحريم التربص فهذا هو المطلوب وهو المعلل
بالعدة وليس في هذا التقدير إثبات حكم واحد بعلتين فإن
أنكر [منكر] كون العدة علة فعلى السابر الجامع أن يثبت ذلك
بما يثبت به علل الأصول.
فهذا وجه الكلام.
1146- ونحن نذكر الآن في هذا الفن سرا بديعا يتخذه الناظر
معتبرا في أمثاله فإن قال قائل: إنما يستقيم ما ذكرتموه من
تجريد النظر إلى العدة بأن تقدروا زوال البينونة وتمحض
العدة من غير انقطاع النكاح ولو كان كذلك لكان ما تعتقدونه
أصلا عين مسألة الخلاف فإن المعتدة التي ليست بائنة هي
الرجعية وينقدح في هذا السؤال
ج / 2 ص -167-
الذي
اعتمدناه في رد التركيب إذ قلنا المركب يقول إن كانت ابنه
الخمس عشرة كبيرة فالحكم ممنوع كذلك إن فرض تجريد العدة عن
البينونة فيكون الحكم ممنوعا عند الخصم وهذا الذي نحن فيه
نوع من التركيب في العلل ومهما سلم الجامع ثبوت علة أبداها
المعترض [في الأصل] سوى ما وقع الجمع به فيتوجه تقدير
المنع على هذا الترتيب الذي ذكرناه.
وهذا من لطيف الكلام في هذا الباب فليتنبه الناظر له وهو
يجري في القياس على ما لو مس وبال [لو] كان قوله مس مخيلا
فإن رجع الكلام إلى أنه مس فصار كما لو مس فلا يستبد
التعلق بالعدة في اقتضاء التحريم إلا استدلالا.
1147- فإن قيل: لو قال من يحرم الرجعية معتدة فشابهت
المعتدة عن وطء شبهة طارئ على النكاح فهل يصلح هذا وهل
يستقيم [تقدير عدة الشبهة] أصلا؟.
قلنا: هذا على اطراده من أحسن فنون الطرد فإن المعتدة في
الأصل مشغولة الرحم بماء محترم لغير الزوج وفي إقدام الزوج
على وطئها اختلاط الماءين ولا خلاف أن التحريم في الأصل
معلل بهذا لا غير.
ومن يريد جمعا في متعلق له إلا اسم المعتمدة فكان طاردا
فإن أخذ يبدي [في عدة المعتدة الرجعية] ما ذكرناه استدلالا
من كونها متربصة عن الزوج لم يتحقق هذا في الأصل فالعلة
[الأولى] فيها إخالة ربط حكم أو حكمين متماثلين بعلتين
وهذه العلة إن ردت إلى طالب الإخالة فالأمة مجمعة على أن
الفرع والأصل غير مجتمعين في المعنى المقتضى فلا يبقى
الاجتماع إلا في نعت واسم.
والذي يحقق ذلك أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح لغير
من عنه العدة ولو كانت العدة من الزوج ولم تقع الحرمة
الكبرى لما امتنع على الزوج النكاح فاستبان أن محرم
الرجعية إن عول على العدة لم يجد أصلا.
1148- فإن قيل: فما رأيكم في استعمال ذلك استدلالا؟
قلنا: هو الآن يتعلق بفن من الفقه ولكن إذا انتهى الكلام
إليه نأتي فيه بما يليق بهذه المحال ونقول: إن تمسك المحرم
بمناقضة التربص المستدعي البراءة للوطء الشاغل فلست أرى
هذا المعنى واقعا من جهة أن الوطء عند الخصم لو جرى
لانقطعت العدة وإنما الممتنع [اجتماع] العدة والتشاغل
بالوطء على مذهب من يبيح.
ج / 2 ص -168-
الرجعية بل هو رجعة عنده ثم الرجعة والعدة عنده لا
[يجتمعان] ولكن [طريان] الرجعة يتضمن انقطاع العدة فليكن
الوطء كذلك.
1149- فإن قيل فما الرأي في قول من يتمسك بالاحتساب
بالعدة؟ ويقول: ولو كانت مستحلة كما كانت لما احتسبت
الأقراء [عدة] كما لو وجدت صورة الأقراء قبل الطلاق؟
قلنا: هذا أمثل قليلا وهو في التحقيق تمسك بالعكس وجواب
الخصم عنه [أوضح منه] فإنه يقول الطلاق في غير الممسوسة
ينجز البينونة وهو في الممسوسة يثبت المصير إلى البينونة
وذلك يحصل بالخلو عن العدة والعدة زمان الجريان إلى
البينونة وهذا لا يتحقق قبل الطلاق إذ ليس قبله مرد إلى
البينونة يتوقع المصير إليها فالذي أوجب الفصل بين ما قبل
الطلاق وبعده في الاعتداد ما ذكرناه والتي انقضت عدتها بعد
الطلاق [و] صارت بريئة الرحم تلتحق بالتي لم تمس أصلا فهذا
وجه الكلام.
1150- فإن تعلق المحرم بان الطلاق أوجب المصير إلى
البينونة فليكن هذا محرما لم يستبد هذا أيضا من جهة أن
الزوج إذا علق الطلاق الثلاث بمجيء رأس الشهر لم تحرم
المرأة في الأمد المضروب فإن كانت البينونة هي المحرمة فهي
منتظرة غير واقعة وإن كان الطلاق هو المحرم فلم ينتصب
دليلا عليه بعد.
فإن قيل: لو كانت مستحلة لما احتيج إلى الرجعة فللخصم أن
يقول الرجعة تقطع وقوع البينونة فإنها لو تركت لصارت
إليها.
1151- ولم نذكر هذه المعارضات إلا ليستبين الناظر وجه
التمسك بالمعاني التي لا أصول لها واعتماد المستدل على
الإخالة والمناسبة فالوجه في مسألة الرجعية إذا اعترضت أن
تقع البداية بأن الوطء لا يكون رجعة [وثبت] ذلك سهل كما
سبق منا التدرج إليه في "الأساليب".
وإذا ثبت ذلك بنينا عليه تحريم الوطء قائلين: إذ لم يكن
الوطء رجعة لم تنقطع به العدة فيؤدي إباحة الإقدام عليه
إلى الجمع بين دوام التربص لتفريغ الرحم وبين إباحة شاغلة
وهذا وإن لم يستند إلى أصل فهو معنى قويم ومسلك مستقيم.
ج / 2 ص -169-
فصل: في ضابط ما يجري فيه الاستدلال.
1152- فإن
قيل: قد [أثبتم] الاستدلال ولم تقبلوه على الإرسال وزعمتم
أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها ولم
تأتوا في ذلك بقول ضابط يستبين به المردود من المقبول.
قلنا: الوجه في ذلك أن نقول: إذا ثبت حكم متفق عليه في أصل
ثم رام المستنبط إثارة معنى يعتقده مناطا للحكم [فما
الضبط] فيما يقبل منه وما يرد؟ فليقل المستدل: كل معنى لو
ربط به حكم متفق عليه في أصل لجرى و [استد] فإذا اعتبره
المستدل عليه من غير إسناد إلى أصل كان مقبولا إذ المعنى
الذي يبديه المستنبط لا يشترط فيها أن يسنده إلى معنى الذي
يبديه وفاقي مماثل له ولكن يكفي أن يناسب ويسلم على السبر
ويثبت ببعض الطرق المذكورة في إثبات العلل فكل علة إذا لا
يشترط في ثبوتها أن تعهد ثابته بعينها [قبل أن يرى]
المستنبط مثلها في غير محل الاستنباط فكل معنى في أصل
فمتعلقه معنى وهو في حكم مستدل به وليس التعلق بحكم الأصل
ولا بحصول الوفاق عليه.
1153- وإن قربنا العبارة قلنا: ليعتقد المستدل صورة مختلفا
فيها متفقا على حكمها [ولير] رأيه في استنباط معناه وإن
كان لا يستد فكره إلا بمستند.
وبالجملة لا يحدث الناظر [الموفق] مسلكا إلا وبينه وبين ما
تمهد في الزمن الماضي من السلف الصالح مداناة.
والذي ننكره من مالك رضي الله عنه [تركه] رعاية ذلك
وجريانه على الاستدلال في الاستصواب من غير [اقتصاد].
ونحن نضرب في ذلك مثالا ثم نذكر بحسبه لمالك مذهبا.
1154- فلو قدر وقوع واقعة حسبت نادرة لا عهد بمثلها فلو
رأى ذو نظر جدع الأنف أو اصطلام الشفة وأبدى رأيا لا تنكره
العقول صائرا إلى أن العقوبات مشروعة لحسم الفواحش وهذه
العقوبة لائقة بهذه النادرة فمثل هذا مردود.
ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات
القتل في التهم العظيمة حتى نقل عنه الثقات أنه قال: أنا
أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها.
1155- فإن قيل: فبم تردون ما ذكره؟.
ج / 2 ص -170-
قلنا:
تبين من نظر الصحابة رضي الله عنهم في مائة سنة ومن نظر
أئمة التابعين أن ما قال مالك رضي الله عنه وما استشهدنا
به لا يحكم به.
ونحن نعلم أن الأمد الطويل لا يخلو عن جريان ما يقتضى مثل
ما يعتقده مالك ثم لم يجر.
وشذت واقعة في العقوبات واضطرب فيها رأي الصحابة وهي حد
الشارب فجرى فيه واشتهر ولم يستجيزوا الاستجراء على تقدير
زيادة فيه إلا بعد أن يثبتوا أنه.
لم يكن مقدرا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
كأنهم أجروه مجرى التعزيرات.
قال على رضي الله عنه: أما أنا [لا أقتل] في حد وأجد في
نفسي [شيئا إلا حد الشارب فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم،
فليكن هذا سبيلا قاطعا في الرد على مالك رحمه الله ومن نحا
نحوه وفيه تنبيه على ما نريده.
فصل
1156- فإن قال قائل: ما الاعتراض على الاستدلال؟.
قلنا: الاستدلال معنى مخيل قد يتطرق إليه من الاعتراضات ما
يتطرق إلى معنى يبديه المستنبط مخيلا في أصل غير أن
[للمعنى] المستند إلى أصل تعلقا به فقد يتوجه كلام على
الأصل بفرق أو غيره والاعتراضات على الاستدلال الذي لا
يستند إلى أصل تنتحي نحو المعنى فحسب ويتوجه عليه النقض إن
أمكن والمعارضة وشرط ثبوته ألا يناقض أصول الأدلة.
1157- وأنا أرى الكلام عليه محصورا في أوجه:
أحدها: المناقشة في الإخالة والإشعار.
والآخر: طلب النقض إن كان.
والآخر: تقديم مقتضى أصل علته.
والآخر: معارضته بمعنى آخر [يناقضه].
فهذي مجامع الاعتراضات على الاستدلال ويفسد من الاعتراضات
عليه ما يفسد من الاعتراضات على ما يستند إلى أصل.
ج / 2 ص -171-
وقد
تمهد فيما تقدم مسلك الصحيح من الاعتراضات والفاسد.
ولا شك أنه لا يتصور استقلال التشبيه بنفسه فإن التشبيه
معناه تقريب شيء من شيء بما يغلب على الظن من غير [التزام]
معنى مخيل ومن ضرورة ذلك أصل متفق عليه.
فإن قيل: هل يترجح المعنى المستند إلى أصل على المعنى الذي
لا أصل له؟
قلنا: هذا نستقصيه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى.
فصل: في استصحاب الحال.
1158- قد
قال باستصحاب الحال قائلون ثم اختلفوا.
فذهب بعضهم إلى أنه دليل بنفسه ولكنه مؤخر عن الأقيسة وهو
آخر متمسك الناظر.
وقال قائلون: لا يستقل الاستصحاب دليلا ولكن يسوغ الترجيح
به والوجه أن نصوره ثم نؤثر ما هو المختار عندنا فيه.
1159- فإذا ثبت حكم متعلق بدليل ولم يتبدل مورد الحكم فليس
هذا من مواقع الاستصحاب فإن الحكم معتضد بدليل وهو مستدام
فدام الحكم بدوامه قد يقول بعض من لا يحيط بالحقائق: لا
يمتنع تقدير نسخ ولكنه غير محتفل به والحكم مستصحب إلى نقل
ناسخ على ثبت فيلتحق هذا الفن عند القائل بالاستصحاب.
فهذه مناقشة لفظية فإنه ثبت بالدليل القاطع قيام الدليل
إلى يوم نسخه فإن سمى مسم هذا استصحابا لم يناقش في لفظ
وليس مقصود الفصل منه بسبيل.
1160- فأما إذا ثبت حكم في صورة ثم تغيرت وحالت ورام
الناظر طرد الحكم الثابت في الصورة الأخرى فإن لم [يكن
للصورة] الثانية تعلق بالأولى ولم يكن تغيرها مرتبا على
الصورة الأولى فلا معنى للاستصحاب في مثل ذلك.
كالذي يبغى أن يستصحب حكما في صدقة البقر في صدقة الغنم
ولا يترتب أحد الجنسين على الثاني تصورا ولا تقديرا.
ج / 2 ص -172-
وهذا
بعينه محاولة جمع بدعوى عرية من غير معنى جامع ولا وجه في
الشبه غالبا على الظن وهو احتكام مجرد.
1161- فأما إذا ترتبت صورة على صورة فإن تغيرت عليها
فأثبتت في الخلفة عليها فعند ذلك يقول قائلون نستصحب الحكم
الثابت في الصورة الأولى ونجريه في الثانية.
وهذا باطل عندنا غير صالح للاستدلال ولا للترجيح فإن
الصورتين متغايرتان وإن أثبتت إحداهما على الأخرى تصورا
وكلفة فلا معنى لقول القائل: أستصحب [الحكم] وقد تغير
المورد [وتغاير] المحل فلا يمتنع تغاير الحكمين لذلك وهذا
كقول القائل في استئناف الفريضة عند أبي حنيفة في زكاة
الإبل فقد اطردت فريضة الإبل على نصب معلومة فينبغي أن
يستصحبها وراء المائة والعشرين حتى لا يوجبها إلا على ذلك
القياس.
وقد عورضوا بأن فريضة الإبل إذا ثبتت وجب استصحابها وذلك
[قاض بمنع] العود إلى الشاة.
والقائلان ذاهلان عن الحقيقة فلا معنى للاستصحاب من
الفئتين وما قاله أصحابنا أمثل لاعتضاده بفقه وهو المعتمد
دون الاستصحاب وذلك أن الشاة أثبتت ابتداء اجتنابا لتشقيص
مع [أن] إيجاب بعير مجحف بالخمس من الإبل فالعود إلى الشاة
مع كثرة الإبل بعيد وهذا ليس استصحابا.
1162- فإن قيل: من استيقن الطهارة وشك في الحدث فالحكم
استصحاب الطهارة وكذلك نقيض هذ1 وكذلك من تيقن النكاح وشك
في الطلاق فالجواب كذلك فهل هذا الفن مما يلحق باستصحاب
الحال [أم لا]؟
قلنا: هذا لباب الفصل ونحن نقول فيه قول الفقيه يستصحب
يقين الطهارة فيه تجوز فإن اليقين لا يصحب الشك فليس
المعنى بقولهم لا يترك اليقين بالشك أنهم على يقين مع
التردد في الحدث ولكن المراد به أن ما تقدم من الطهر يقين
فيبقى الحكم ما تيقناه والقول فيه: إذا طرأ الشك لم يخل
المشكوك فيه من ثلاثة أحوال:
1163-
أحدها: أن يرتبط بعلامة بينة في محل
الظنون فما كان كذلك فلاجتهاد هو المتبع ولا التفات إلى ما
تقدم فإنه يتصدى للمرء شك في بقاء ما سبق واجتهاده ظاهر في
زواله والاجتهاد مقدم.
ج / 2 ص -173-
1164 -فإن ثبتت علامة خفية كالعلامات التي يقع التمسك بها
في تمييز النجس من الطاهر في الأواني وفي والثياب فإن عارض
يقين النجاسة يقين الطهارة فعلم صاحب الإناءين أن أحدهما
نجس والآخر طاهر فليس التمسك بيقين الطهارة بأولى من
التمسك بيقين النجاسة فيضطر إلى التمسك بالعلامات وإن
خفيت.
[وإن لم يوجد] يقين النجاسة ولكنا تيقنا طهارة وشككنا في
طريان نجاسة وثبتت علامة خفية ففي التعلق بها قولان:
أحدهما: أنها ضعيفة وإن تناهى المرء في
تصويرها محاولا إظهار ما وقع في النفس فليفهم الناظر ما
يرد عليه فالتعلق بالاستصحاب أولى على قول والتمسك بها
أولى على قول.
1165- وإن تقدم يقين وطرأ شك وليس لما فيه علامة جلية ولا
خفية فعند ذلك تأسيس الشرع على التعلق بحكم ما تقدم وهذا
نوع من الاستصحاب صحيح وسببه ارتفاع العلامات وليس هذا من
فنون الأدلة ولكنه أصل ثابت في الشريعة مدلول عليه
بالإجماع وإن طرأ مثل ذلك في منازل المجادلات فأراد
[المستدل] أن يدعو الخصم إلى موجب الاستصحاب وكانت الصورة
على نحو ما ذكرناها فذلك [سائغ] والدليل عليه اعتباره
بنظائره بتشبيه أو تقريب معنوي فليلحق ذلك بأبواب القياس
إذا.
1166- ولا يستمر هذا إلا بسبر وهو تمام الكلام.
ومعناه أن يدعى أولا انتفاء الدليل عند قيام التردد ثم لا
يتوصل إلى ذلك إلا بتخيل جهات الأدلة وإبانة انتفائها في
محل الكلام ثم يستمر بعد هذا ما يحاوله من اعتبار صورة
بصورة.
وبيان ذلك بالمثال: أن المسئول عن وجوب الأضحية يقول الأصل
براءة الذمة فلا معنى لشغلها إلا بثبت وهذا لو اقتصر عليه
لاستقل كلاما مفيدا مستقيما وحاصله يئول إلى أنه لم يقم
عندي دليل على وجوب الأضحية وإذا قسم وسبر وتتبع مواقع
تعلقات الخصم بالنقض استمر له ما ذكرناه في الاستصحاب.
فهذا منتهى الغرض في ذلك وقد نجز بنجازه القول المقصود في
الاستدلال والحمد لله وحده. |